اخترنا لكم

فهد سليمان الشقيران: السؤال الفلسفي ومحاولة التوافق

منذ 12 مليار عام تقريباً أعاد الإنسان موقعه الكوني والوجودي، فذهب يبحث عن أسس تتوافق مع توسع إدراكه للمكان، وتوازي رحابة تصوراته للزمان، وعلى طول تلك الرحلة لم يكن البحث سوى وسيلة لقهر جمرة السؤال والتفكّر.

ننشد فكرة الصيرورة واللا انتهاء في فلسفة هيراقليطس المبثوثة في شذراته التي أعيد بعثها من جديد في المنعرج الفلسفي الحديث، فهو بثّ «الغموض، والصيرورة» ومنه استفاد نيتشه كثيراً، خاصةً في نظرية «العود الأبدي» ورجوع نار هيراقليطس، ونهره الذي يجري دائماً بلا توقف، والزمان الذي لا يمكن أن ندركه مرتين.

ربما كان مُشعل الحداثة رينيه ديكارت بوصفه العالِم من جهة، والفيلسوف من جهة أخرى، هو واضع «المنهج» الأبرز في تاريخ العلم الحديث، لقد ألّف مقالته «مقالة في المنهج» سرد فيها رؤيته عن ضرورة تدوين العلوم النظرية وفق هندسة «إقليدس»، فهو رأى أن على علم كالفيزياء - مثلاً - أن يتأسس على مبادئ مماثلة لأصول هندسة «إقليدس»، بتلك المقالة عرّج على ملامح ثورة سماها بعض المؤرخين «الضربة الكبرى»، فهو سكن الجزء الأكبر من عمره، وجامل رجال الدين في ذلك العصر، حتى رسم منهجه الذي افتتحه بـ«الشك» ورمى الكوجيتو (أنا أفكر إذن أنا موجود) في مرمى ذلك القرن، وبقيت الفلسفة لقرونٍ تالية تدور حول الأسئلة أو البحوث أو المناهج التي وضعها وبوبها ورسمها رينيه ديكارت.

هذا مع دورٍ أساسيّ قام به فرانسيس بيكون، الذي نادى في كتابه (الأورجانون الجديد) بأهمية تخلص العلماء من التصوّر المسبق! قبل الشروع في أي عملية بحث، وكان تأثير «بيكون» له نفحه «تاريخية»، فهو دوّن الكثير من التشكيلات النظرية، لكن نظرياته لم تفرز أيّ بعد يمكن أن يوصف في سيرورة العلم بالجهد القطيعي، الذي يعتمد على الفصل في النتائج، والوصل في التساؤل، وهي القطيعة التي لم تنجح كل الثقافات الشرقية في انتهاجها، وربما لا يوجد غير الثقافة الأوروبية من أوجدت هذه القطيعة الجامحة التي تنفصل من جهة وتتصل من جهة أخرى، ذلك أن تاريخ العلم تاريخ «قطائع» و«أخطاء» حسب إبستمولوجيا «باشلار»، كل ذلك الجهد الذي بذله بيكون لم يتجاوز التأثير المرحلي، وسيرته الذاتية تنضح بمراداته من تأسيساته تلك.

مجيء كانط سيهدّئ من ذلك الاختلاف، بين بيكون، وديكارت، ذلك أن نظريته تقوم على تحويل ذات الباحث إلى مبدأ متعال يجمع وقائع التجربة، ويجمع توزّع الأحداث، لتدبيجها في توليفات عقلية وأنساق منطقية وفق مقولات تستمد أسسها من صلب أسس علوم العصر وأهمها الزمان والمكان. واستمرّ الجهد البشري في سعي حثيث لإزالة غشاوة امتدت طويلاً، حتى جاء العلم بما لم تستعد له الفلسفة، فلا يمكن تخيّل الصدمة التي أحدثتْها نظرية النسبية، ونظرية الكم على سير الفلسفة، وبلغ من شدّة الصدمة، إعلان البعض «نهاية الفلسفة»! لكن جيل دلوز رأى أن هذه المقولة التي روّجت في القرن العشرين، مجرّد موضة انتشرت في فرنسا، لكن سيبقى دور الفلسفة كممارسة، وإن كان سيتنوّع من جهة المحمول والموضوع.

كل تلك الأحداث تبرهن على ضرورة المحافظة على الحسّ السؤالي لدى الكائن، ومحاربة السؤال بالأجوبة أو بالخوف تعتبر من أشدّ الأخطار التي تهدد إمكانية قيام روح علمي يطمح إليه كل إنسان.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية في يوم: 16 مايو 2023

في المثقف اليوم