الرئيسية

(تشهّي الخراب... العظـيم !).. تحليل رواية (التشهي) للمبدعة (عالية ممدوح) (ق3)

وحين تتحدث الكاتبة عن أبي مكسيم تقفز إلى أذهاننا نماذج فعلية سمعنا عن سلوكها في بعض العواصم والمنافي خصوصا في الثمانينات وفي بيروت تحديدا. المهم أننا دائما نحاول إحالة المتخيل الروائي إلى الواقع الذي نعيشه، وهو ديدن النفس البشرية. كان أبو مكسيم يتاجر بكل شيء يخطر على البال، من الثياب والورق والأدوية إلى الأسلحة. بدأ ينظر للرأسمالية نظرة جديدة حتى بدأوا بتسميته " الشيوعي المتأمرك "، ولا يتردد في إعلان إعجابه بالنمرة " تاتشر " الداعية إلى " الرأسمالية المتوحشة " وعودة الاستعمار القديم. بدأ ينظِّر عن توصيف جديد لمعنى العدو يختلف عما كان الشيوعيون يرفعونه. الشيوعيون هم الذين علموا العالم مصطلح " الأمريكي القبيح " وهاهم – جناح منهم – يشارك في جهد محتلي بلدهم الأمريكان الغزاة !، ويعلن أحد القياديين بفخر أنه اختير لمجلس الحكم كشيعي وليس كشيوعي. وفي إحدى المسرحيات التي كتبها المبدع " محمد سعيد الصكار " جدال بليغ بين الشخصيتين الرئيسيتين حيث يسأل الأول الثاني وهو شيوعي عن إحساسه وهو يكتسب جنسية الدولة الإمبريالية الأولى ويعيش فيها ومن مواردها !! – راجع دراستنا " محمد سعيد الصكار مسرحياً " في جريدة الزمان -.

وأبو مكسيم – من زاوية نظر أخرى - هو الأنموذج الحقيقي الذي يجسد الفرضية التي تقول أن المناضلين الذين يتركون عقائدهم وينسحبون من دروب نضالهم بعد الخيبات المريرة المتطاولة خصوصا، ويعملون في التجارة يصبحون من أبشع التجار عهرا وقذارة. لقد ترك التنظيم الشيوعي وتحوّل إلى العمل في التجارة، تجارة بكل شيء كما تقول الروائية، وضحية هذه التجارة الأولى كانوا أهل بلاده وشعبه، العراقيين المحاصرين. كانت " كيتا " الشيوعية الألمانية الشرقية تشعر أن لديه عيني سمسار.. أما أمينة البيضاوية فكانت تحس أن فيه سفالة وشرّ. وفي بيت صديقه بهاء الشيوعي، كان ينصب الفخاخ لزوجة الأخير ولصديقاتها القادمات من أوربا الشرقية.

ولم يوفّر أبو مكسيم بروحه الأنانية المقيتة وسلوكه الغادر المزمن حتى الشركة التي يتعامل معها، فقد قام بفضيحة كبرى معها وسرق صفقات مهولة من الأدوية وباعها بأسعار فلكية لشمال بلده - العراق -وجنوبه (ثم - كما تقول أمينة البيضاوية - فراره من الدخول إلى أراضي المملكة المتحدة بعدما رفعت الشكاوى وكبرت الإضبارة ضدّه، فترك عقاره الفخم في قرية مارلو المطلة على النهر والتي كان يقدر ثمنها بنصف مليون جنيه إسترليني خصوصا أنها كانت تتمتع بحقوق المرسى النهري - ص 8.).

 

- يوسف:

ويوسف يعيش مفارقة حقيقية مريرة، فهو الطبيب النفسي لم يكن يدرك أنه في حاجة إلى طبيب نفسي يعالجه. وهنا إحالة بالغة الدلالة والثراء من الكاتبة إلى موضوعة صلة الذاتي بالموضوعي. فأنا لا أعتقد أن اختياراتنا المهنية – كما قلت – بعيدة عن مكبوتاتنا اللاشعورية. لا يتم اختيار أعمالنا ومهننا ولا نمط منجزاتنا الإبداعية، العلمية والفنية، وفق تقييم واع " فولاذي " لا يختلط بالدوافع اللاواعية اللائبة. ولم يكن ممكنا أن يكتشف فرويد أهمية العقدة الأوديبية لولا موقفه الكاره غير المعلن تجاه أبيه والمختلط بحفزاته المحارمية تجاه أمه ثم نحو أخت زوجته.. وأخيرا تجاه ابنته أنا فرويد من خلال موافقته على الخضوع ل "التحليل النفسي الفردي " على يديها.. إلخ. ويوسف عانى الأمرّين في شبابه المبكر، فقد تعرض للإغتصاب من قبل مهند وهو في الكلية. كان يواقعه في الحمام الرجالي تاركا لباسه ممتلئا بالدم كما يقول حتى اضطر إلى الانتقال من جامعة بغداد إلى جامعة الموصل هربا منه. والآن هو طبيب نفسي في باريس. محنته كما هي محنة سرمد تتمثل في " الإختفاء "، فيوسف محاصر باختباءات تورط بما يُسمّى بالعلاقة المعذبة الفاشلة والمهدّدة بالمرأة. لم يخطو نحو امرأة لعقود.. كان " مختفيا " عن العلاقة السوية المكملة مع الأنثى. وبسبب تركيبته المعصوبة وبحثه عن الأمومة فقد تزوّج امرأة فرنسية – روزالين - تكبره كثيرا. ومعها تتكشف جوانب مسكوت عنها من حفزاته المثلية التي تغربت عن انتباهتنا لأننا تعاطفنا معه حين سرد لنا معاناته من اغتصابات مهند له. لقد أرسل إلى سرمد رسالة فيها بطاقة تصوّر المرأة بصورة بشعة ومكتوب فوقها بالفحم: هنّ وليس غيرهن لهن روائح مقرفة، حليب فاسد، وطبيخ بايت وبراز يابس. سرمد سوف أضع عضوي في صندوق زجاجي وأسلمه إلى متحف العصور الغابرة – ص 17.).

ورغم أنه يشكو من أن روزالين لا تمهله يوما واحدا بدون نكاح مشوِّشا، في الظاهر، توقعاتنا التحليلية من خلال انغماسه – ولو مكرها في الفعل الجنسي – إلا أن الشواهد تتراكم على أن الميول المثلية راسخة في أعماقه وهي التي شكلت " تواطؤه " مع مهند أولا ثم " اختفاءه " عن النساء ثانيا. فحين جاء سرمد إلى باريس للعلاج في المعهد الذي أشار عليه به يوسف قام الأخير بفحصه و" عالج " قضيب سرمد بأصابعه لمدة قال عنها سرمد نفسه أنها أكثر من اللازم !!:

(تراءى لي أن يوسف داعب صاحبي أكثر مما يجب. كانت يده وأصابعه تحمل شارات كثيرة حمّلتها أنا من جانبي احتمالات شتّى من الجاذبية والقوة. هل كان يوسف مثليا وطوال تلك السنين وأنا لا أعلم؟ كالمولد الكهربائي كانت يده تريد أن تحيي الميت – ص 183)

وهنا تتشابك أفعال يوسف الموحية مع حفزات عميقة مشابهة لدى سرمد.. حفزات تنوعت التعبيرات المراوغة عنها في الرواية.. تعبيرات مراوغة ليس أقلها فعل اختفاء ذَكّرّه، وسمنته المفرطة التي " أخفت " ملامحه الجسدية الذكورية وكأنها تعيده إلى مرحلة اللاتميّز الجنسي الرحمي.. وليس أشدها إيحاء تلك العناية المركزة بالملابس والمظهر الجمالي.. وقد يبدو أقلها التواطؤ – بالنوايا – الذي وصف فيه رد فعله على " فحص " يوسف لقضيبه:

(لا.. أنا، لم تزعجني حركاته ولا شعرت أنها غير أليفة على بدني. حاولت طرد هذه الأفكار واستدعاء غيرها منذ بدئها في بغداد وهو يعيش في القسم الداخلي الكائن في باب المعظم. قمت بتوبيخ حالي وأنا أشط بأفكاري. أي، وماذا في الأمر؟ ماذا لو شطّ جسمي وجسم يوسف؟ فهذا الجسد تملأه الشهوة والغضب والجشع والوهم والخوف واليأس والحسد، والنفور مما ينبغي الرغبة فيه، والإقبال على ما يجب النفور منه. الجوع والظمأ والعقم والموت والمرض والحزن وما إليها " – ص 183و184)

وتذكّرني ردة سرمد لتوبيخ ذاته على شطط أفكاره الآثمة بالمثل الذي ضربه معلم فيينا عن ذاك المعلم الماكر الذي كان يدور على صفوف طلبة المدرسة محذرا إياهم من أن الذي يقول أن السيّد مدير المدرسة سيء ومرتشٍ وقامع سوف يعرض نفسه للعقاب !!. ولعل العبارة الدقيقة التي تلخص الكيفية التي يكون فيها الاختيار المهني دفاعا نفسيا هو ما قاله سرمد ليوسف:

(لقد اخترت الطب النفسي لك – ص 257)

والذكور في رواية " التشهي " - كما قلنا وكما سنذكر أكثر من مرة - هم عبارة عن كائنات شبحية سمتها " الإختفاء ".. وبروزها شبحي.. هي شخصيات متنفجة وهلامية.. عصابيتها تتبدى في ساحة العلاقة مع الطرف الأنثوي بأجلى صورة.. هؤلاء الذكور يفتقدون حتى المهارات البسيطة في التعامل الإنساني.. فيوسف الذي يحب روناك شقيقة فارس الكردي الذي كان أول من أطلعه وسرمد على البيان الشيوعي، بطريقة صبيانية ينتظرها على الرصيف المقابل للكلية.. يعجز عن تقديم باقة ورد لها.. بل يخجل من أن يراه أساتذته أو زملاؤه وهو يحملها !!. إنهم " يتشهّون " بقوة هائلة لكنهم عاجزون عن " ترجمة " مشاعر التشهي هذه بصورة صحيحة. هم في الواقع كائنات تعاني من " الإختفاء " المعنوي رغم أنها حاضرة ماديا كأجساد.

 

- فيونا لنتون:

لقد كانت التجربة الجنسية الأولى لسرمد مع الاسكتلندية (فيونا لنتون) الموظفة في المعهد الثقافي البريطاني.. لقد علمته الفعل الجنسي الحقيقي الذي يتطلب " البروز " الكامل والصحي، و " ترجمة " مشاعر التشهي في الفراش بصورة دقيقة، ويستلزم عادة الجسارة والمعرفة العالية بالقيمة الجنسية لكل عضو من أعضاء الجسد المشاركة في الفعل حتى الأعضاء التي تبدو " محايدة " وغير مشحونة بالطاقة الجنسية الكامنة أحيانا، وترك التابوات والمقدسات عند باب غرفة النوم بطريقة تذكرنا بعبارة "بيكاسو " الشهيرة: أخلع جسدي عند باب المرسم مثلما يخلع المسلمون أحذيتهم قبل دخول الجامع.. ولكن مع فيونا (وكذلك مع " ألف ") عانى سرمد من القذف المبكر – premature ejaculation الذي يذكّرنا بواقعة بطل " الحي اللاتيني " مع رفيقته الفرنسية، لكننا هنا نقف أمام ردّ فعل مختلف، هناك ترفس العشيقة الفرنسية صاحبها اللبناني ساخطة ناقمة، وهنا تتكشف المعالجة الصبور والتعليمية " الأمومية ".. كانت " تترجمه " كما يقول وعلى مهل.. كانت تقول له وهي تحمحم كالفرس:

(سأدرّبك وأعلمك. سأطبخك على نار جسمي حتى تتصاعد رائحتك من داخلي، من جوفي ولساني، فأنا خليط من كل شيء، منك ومني. وأنت بكر – ص 4.)

ومعها تنسرب حفزات الثأر الأوديبي بوجهها المزدوج: الثأر من الأنموذج الأبوي من جانب، والاستئثار بموضوع الحب الأثير / الأم من جانب آخر. ولا أدري مدى دقة النظرة التي ترى أن مواقعة أنثى من البلد الذي يحتل بلدا آخر من قبل فرد من الشعب المقهور يمثل في جانب منه ثأرا أوديبيا من خلال كون السلطة المحتلة هي تمظهر للسلطة الأبوية الخاصية. هنا تتضخم الصورة الرمزية للسلطة القامعة التي ستحمل إيحاءات دلالية عن الأبوة الدخيلة التي امتهنت الجسد الأصل / الأرض الأم / بمعناها الواسع. يتجسد الشق الأول في وصف سرمد لمشاعره وهو يقذف على جسم فيونا بصورة متكررة ويغرقها بمنيّه:

(.. تقترب من الموت ولكنها لا تموت، يغادرها فيحضر إليّ فأعود وأقذف ثانية وثالثة بطريقة لم أشعر بها من قبل وكأنني أقذف في وجوه الآلهة والأساتذة والآباء البكّائين. ترفعني إلى أعلى وترفع ذكري أعلى، أعلى كثيرا، أعلى من الأعوام والبلدان واللوردات وملكات وملوك بريطانيا العظمى... تدلك وتمسّد كل شيء بيدها بقدميها بظهرها وبطنها وفخذيها ويتم الانفجار فأشعر أنني بللت وجهها وشعرها ورقبتها ونهديها – ص 4.).

أما الشق الثاني فيأتي عادة سريعا وموجزا – بفعل الشعور المعذّب بالذنب – وتحت أغطية المقارنات العابرة، مقارنات تأخذ طابعا فكها في كثير من الأحيان، لأن الطابع الفكه يغيّب انتباهة الرقيب / الأنا الأعلى الراصدة - لعل هذا أصل القناعة في أن شرّ البلية ما يضحك، وإجماع الديانات على التحذير حتى من المزاح البرىء -. يقول سرمد وهو يواقع فيونا ويسمع منها للمرة الأولى مفردة " الإيروسية ":

(قلت لها في أحد الأيام ذلك كما لو كانت أمّي وهي تنود بين فخذي:

" هذا صحن اليوم "

هكذا أجابت. فلماذا فكرت أن الإيروسية، عندما سمعتها أول مرة من بين شفتيها، هي شيء مموّه ما بين الفراق والاتحاد، وأنها سوف تنقذني من أشياء لا أعرف ما هي لكنها موجودة وتلح علي، ربما، هي الطاقة الهائلة التي لدي ولا أدري كيفية الاحتفاظ بها أو ماذا أفعل لكي أحسن تصريفها كما أفعل وفعلت مع فيونا. قالت بصوت مليء بمائي ومغطّى به:

" ماؤك غزير، ماؤك معطّر به رائحة ليمون وصابون ويود وزلال " – ص 41)

بهذه المعاني كانت فيونا " تترجمه " نفسيا فعلا.. وليس مستغربا أن اتجاه سرمد نحو تعلم لغة أخرى - اللغة الانكليزية هنا، لغة المحتل – ثم نحو الترجمة كمهنة حياتية يمثل – في جانب مستتر منه – محاولة لترجمة المشاعر المحارمية المكبوتة: " قلت لها كما لو كانت أمّي وهي تنود بين فخذي ! "، فكونه " ينقل " انفعالات وأفكار " آخر " من لغة أم إلى لغة أم أخرى، يعكس ممارسة دور " خياني " – ألهذا تعدّ الترجمة خيانة؟؟ - يوازي تداول موضوع الحب الأصلي الذي يسمه اللاشعور – الطفلي خصوصا – بـ " الخيانة " والسقوط تحت سطوة السلطة الأبوية وغزواتها واحتلالاتها الكتكررة !!.

ووسط التحامه المدوي بفيونا التي كانت تشرب طاقته وإمكاناته وتستنزف قدراته تأتي إلى ذاكرته وصية " الشيخ " في " أن الرجل عندما يضاجع دون إضاعة منيّه يصير أقوى، فإذا نام مرّتين بدون إضاعة المني يصبح بصره وسمعه أكثر حدّة، وإذا نام ثلاث مرات... إلخ – ص 38 ". وهو رأي شيخ معصوب فوق أنه لا علمي – لاحظ أيها القاريء أن بعض الروايات عن تفسير خلق آدم في القرآن الكريم أن الله خلق آدم من طين لازب مخلوط بالمني !! -.. هي وصية مخاتلة تعيق " التشهي " الطبيعي والتلقائي الذي علمت فيونا سرمدا أصوله وسياقاته الباهرة. كان البرهان العملي لدى سرمد تلك السلوكيات المعبرة التي عاشها في القسم الداخلي، حيث تصادم الرغبات المكبوتة والإستمناءات السريعة والعلاقات المثلية وهياج الطاقات الحبيسة.

 

- كيتا:

وهنا تظهر عطية باذخة من العطايا العظيمة لهذه الرواية، فهي تبصّرنا وبحدة - من خلال شخصية كيتا عشيقة سرمد البلغارية التي جاءت إلى لندن بعد سقوط جدار برلين وانهيار التجربة الشيوعية - بالتأثيرات النفسية السلبية للتعلق المتطرف بالآيديولوجيا. كيف يصبح الإنسان مثل خيول العربات التي لا تستطيع سوى النظر إلى الأمام. وكيف يوضع العقل البشري لـ " المناضل " في حالة من الحرمان الحسّي – sensory deprivation حتى أن من النكات التي كانت متداولة في الأنظمة الشمولية السابقة هو أن التلميذ الصغير حين يسأله معلمه عن ناتج جمع اثنين زائدا اثنين يردّ بأنه يعرف أن الناتج أربعة ولكنه لا يستطيع القول قبل أن يسأل مسئوله الحزبي !!. هذا ما يعبر عنه نسيم عندما يقول لعشيقته " كيتا " الألمانية الشرقية:

(إن النضال صار وصيّا على الذكاء والإبداع والنبوغ، نبوغك ونبوغي. تماما، أشعر بكل هذا التشاؤم يا كيتا وأردّد، حذار، ما عليك أن تتأخري في إعلان كل هذا وتدوينه بصورة من الصور. أعرف أن أسباب النضال وفي جميع مراحل التاريخ المكتوب وغيره تتعرج قليلا، لكن أسباب الخلق والإبداع ومنذ نشوء الحضارات واحدة لم تتغيّر – ص 6.).

كانت هذه الروح التشاؤمية حول مستقبل الأنظمة الشيوعية تنطلق من الأعماق المخلصة لشيوعي مثقف، مؤرخ ورسّام، ترك الولاء الأعمى للمذهب العقائدي - ولعل "مرسيا إيلاد" هو القائل إن الشيوعية ديانة جديدة، فيها " منتظر " وحياة آخرة !! - واتجه نحو فحص الأفكار والمسلمات. عرف معنى أن ترتجف في أعماقنا المختنقة بأتربة الأيديولوجيا رعشة الروح الإنسانية العظيمة - وخصوصا في جانبها النفسجنسي، الحبي، التلقائي العذب - التي تميتها المذهبية العقائدية المتعصبة. ولعل أفضل المناسبات التي تعبر عن نظرته الإنسانية الأصيلة هذه هي رد فعله على فشل كيتا في انتخابات اللجنة الفرعية للحزب. كان الألم يعتصر روح كيتا، والإحباط يمزق وجودها، فقد خُذلت من قبل رفاقها الرجال: (أجل الماركسية اللينينية لها دخل بسقوطي في الانتخابات. هو شيء من ذكورة لينين وماركس وليس من أنوثة باسترناك ونسيم (...) كنت عرفت بصورة حدسية أنني سأفوز بمقعد الأكثرية المرتاحة. كنت شابة لطيفة ومشتهاة أيضا، والذي غدر بي يا نسيم هم رفاقي، رفاق الطريق المتعرج، هؤلاء الذين كانوا الأعز في حياتي على الصعيد الشخصي والحزبي والنضالي. صوتوا لغيري، صوتوا للبهلوانية، للانتحال، لرجل ما وليس لأنثى – ص 62و63).

فما هو العلاج الذي طرحه نسيم العراقي على كيتا الألمانية لمداراة جراح خيبتها النازفة؟

إنه الالتحام الجنسي الملتهب.. " النوم والمضاجعة خارج جميع النصوص ".. كان يقول لها: " موتي من اللذة أفضل من الموت بالانتخابات ". كان يرى محقا " أن الشهوانية السياسية لا تصل إلى الشهوانية الجنسية – ص 63 ".

 

وقفة:

لا أستطيع تحديد درجة المقارنة بين الأنوثة والذكورة لكنني أشعر أن الأنوثة ضرورية للحياة أكثر من الذكورة. ويصف بعض علماء النفس الأنوثة بأنها الإنسان ضمن الطبيعة – humanbeing among nature، كائن متسق النوازع والأفعال مع الطبيعة وملتحم بها، يغنيها وتغنيه بفعلهما الإخصابي ودورهما النمائي. فالأنوثة هي الخصب والأمومة والحب والرحم الفردوسي المعطاء، أما الذكورة فهي، في جانب كبير منها، الإنسان ضدّ الطبيعة – humanbeing against nature، كائن يحارب الطبيعة وقد يعطّل عطاياها الإخصابية ويدمّرها. وليس أدل على حيرتي والتباس الموقف التقييمي من المعاناة المريرة التي عاشتها زوجة أحد الفلاسفة الغربيين المعروفين التي تحملت الآلام الرهيبة لسرطان المعدة أكثر من عشرين عاما، صامدة صابرة كي ينجز زوجها مشروعه الفكري !!

 

عودة:

لقد اسقط الرفاق الذكور رفيقتهم الكفوءة والمستحقة في الانتخابات. ولا يعكس هذا الموقف – وبخلاف ما يقوله فرويد عن " حسد القضيب - penis envoy " الذي تضمره الأنثى مغتاظة تجاه الذكر وشاعرة بالنقص بسبب عدم امتلاكها له، فإن ما تصرّح به الرواية قليلا وما تلمح به كثيرا - والتلميح لا التصريح هو سر تفرّدهها - هو أن الذكور هم الذين يحسدون الأنثى بسبب قدرتها الإخصابية الضرورية للحياة وتطورها الدائب. ويبدو أن إسقاط الأنوثة كان منذرا - في جانب منه - بسقوط التجربة بأكملها.

وهذا ما قالته كيتا في السهرة التي أقامتها صديقتها هنكا البلغارية زوجة " صفاء " أحد الشيوعيين العراقيين وحضرها سرمد وأبو مكسيم ومجموعة من الرفيقات معلقة على المصير الذي آلت إليه تجربة بلادها – وهي تجربتها – الماركسية اللينينية:

(إن التاريخ قد كفّ عن أن يكون مسجّلا في برنامج على اليمين أن يحاربه وعلى اليسار أن ينجزه. إن اليمين قد فقد في الشيوعية عدوّه الوراثي وفقد الثاني نظرة كانت له بمثابة هويّة. لا أدري إن صحوتم تماما واعترفتم أن: " أولا، إن الشيوعية ماتت وعلى نحو لا عودة فيه ونتيجة انفجار داخلي. إنها دمرت نفسها بقدرٍ ما وأكثر مما نظن وبدون أن تطلق طلقة واحدة – ص 5.).

ويعلق الأستاذ " محمد حسنين هيكل " على سقوط الاتحاد السوفييتي، بأن التجربة كانت قد " سقطت " منذ عام 1953 حينما أصيب الرئيس السوفيتي " جوزيف ستالين " بالجلطة الدماغية وظهر الناطق الرسمي للكرملين يدعو رجال الدين من كافة الأديان - مسيحيين ومسلمين ويهود - أن يدعو الله كي يشفي القائد الشيوعي !.

ولعل واحدا من أهم عوامل سقوط التجربة الشيوعية المدوي هو إغفال العامل الروحي، والبنية النفسية اللاشعورية التي يُجبل عليها الإنسان وفق ثقافته التي يترعرع على محدّداتها. هذه البنية جعلت الشيوعيين العراقيين - حسب وجهة نظر الكاتبة - يعيشون مفارقة عجيبة مؤلمة. مفارقة لم أجد اشد قسوة وجرأة في تصويرها مثل الموقف الذي صاغته عالية ممدوح في روايتها هذه وهي تتحدث عن " البازبند " الذي يضعه " أبو مكسيم " الشيوعي المعروف – وكذلك بهاء الشيوعي السابق - في مكان ما من جسمه وذلك كي تتعزز قوته الجنسية.. ويبدو أن ما يختزن في أعماق اللاشعور، وما ينقش على صخرته في الصغر لا يمكن أن تمحوه أصابع الأيديولوجيات مهما كانت قوتها بل قسوتها. يتكشف هذا المبدأ في نكوص هؤلاء - وحسب وجهة نظر الكاتبة مرة أخرى - عندما تواجههم تهديدات العجز في ساحة المنازلة الجنسية، وهي منازلة وفق مرتكزات البنية النفسية الآيديولوجية، تمثل اختبارا حقيقيا للذكورة المتنفجة، التي تواجه معضلة صعوبة الانتصاب، ذكورة ستجد دفاعها النفسي التعويضي في " انتصاب " بديل وفخم، انتصاب آيديولوجي مهيب ولا أحد يتساءل عن حيثياته " الموضوعية " حيث لا موضوعية في الانتصاب الآيديولوجي، ولا حيثيات موجبة يتم البحث عنها وتفسيرها لأن كل الحيثيات سوف تنستر بالأغطية النظرية البراقة والمغيبة التي سوف تحيل البصيرة الناقدة نحو اتجاه مموّه ومخادع:

(النساء يرددن، أنهم وضعوا كل ذلك من أجل انتصاب يسير، وربما نادر الحدوث، يوافقون أن لا يكون على الدوام ولكن على الأقل للتمتع بظفر يشبه قلامة أظفر، وما أن تبدأ المضاجعة حتى يصرخوا بأسماء الله الحسنى والأولياء الغائبين وأصحاب الكرامات. يستعجلون ماءهم أن يحضر لكن للأمانة كما تقول هذه وتلك، كان بياض عيونهم يصفر ويزرق ثم يخمدون بدون التفوّه بكلمة – ص 7.). وهذا ينطبق على السلوك العصابي لمناضلي أغلب الحركات السياسية في العالم الثالث الذي حاول الجنرال " ديغول " مشكورا تلطيف التسمية بوصفه بـ " ثلث العالم ".

و" كيتا "، والتي تعتقد أن أساتذة المضاجعة هم العراقيون. تقول معلقة على تجربة علاقتها الملتهبة بنسيم الشيوعي العراقي المطارد:

(لا فتاة أو سيدة بمقدورها النجاة من غرام العراقيين، هذا الرأي ينطوي على مبالغة لكني لم أعد أهتم بآراء الآخرين، صرت على الهامش، اخترت هذا الموقف والسكوت واتجهت إلى تحليل معايب الشيوعيين الألمان والعرب الشائنة ؛ أما العراقيون، بالفعل، لم أعثر على نعت إيجابي يحرك همتي لكي أدونه بجوارهم، وبصوت عال صرخت ؛ لا، لا يجوز أن يكون نسيم شيوعيا عراقيا، على الأقل، في ذلك المتعلق بموضوعة الجمال والخفر الداخلي في روحه ودرجة التشاؤم التي كان بمقدوره إنتاجها أمامي كالشهيق والزفير.. أورثني ما لم أتمكن قطّ من الإطاحة به فصرت أخشى ملاقاة أي رجل عراقي أو الوقوع في غرامه - ص 57).

 

وقفة مع حادثة عشتها فعليا:

في إحدى العواصم العربية الرقيقة، جلست منزويا خلف شجرة وأنا في غاية الإكتئاب الذي لم أجد له تفسيرا.. جاء شاب وشابة في مقتبل العمر.. الشاب عراقي والشابة من العاصمة العربية.. جلست الشابة خلف ظهر الشجرة الضخمة التي أخفتني فلم ينتبها لوجودي.. ظل الشاب العراقي واقفا وهو منفعل جدا.. قال للشابة بصوت متهدج كأنه يخاطب الله أو يودع الحياة: أنتِ لا تعرفين كم أحبك؟ أنا أحبك بگد (بقدر) الله ومحمد وعلي.. الشابة ضحكت وقالت له بهدوء: لكن أنا لا أستطيع أن أحبك بقدر الله ومحمد وعلي !! كدت أقفز وأصفع البنت ثم أقع على رأس الشاب أقبله !! لكن هذا هم تطرف.. ماذا فعلت بنا عاليه ممدوح لخاطر الله ومحمد وعلي ؟؟.

ولا أعلم مقدار دقة المقالة التي نشرتها جريدة (الزمان) هذا الشهر، والتي قال كاتبها فيها إن البريطانيين يقولون للعراقيين اللاجئين والمهاجرين إلى لندن أنهم – أي العراقيين - يتحدثون بنفس طريقة ملكة بريطانيا حيث الهدوء والبطء في النطق والتركيز على مخارج الكلمات. وإلا ما سرّ هذا الإنشغال الجنسي لدى شخصيات الرواية النسوية بأفضل العراقيين سرمد، على قدر انشغالها بأسوئهم وهو أبو مكسيم على سبيل المثال الذي ترصد البيضاوية بقعة مني على بنطاله كما أشرنا !. إن المعضلة المركزية التي تشخصها كيتا في سلوك هؤلاء الضائعين المحبطين هو أنهم فقدوا – أو أُفقدوا !! – قدرتهم على الحب. وهذا ما تعيد نصابه الضروري لنماء الحياة " ألف " وهي تخاطب سرمد بشمولية معاني اسمها وحضورها الرمزية، وبعد أن احتل " الشقر " كما تصفهم مدينتهما الأثيرة، واختفى مهند الطاغية الذي دمر حياتهما:

(من يبالي بغرامنا غيرنا نحن الاثنين بالرغم من انفصالنا وغيابنا الطويلين، وكأن هناك دائما عشر سنوات بانتظارنا، عشرين أو ثلاثين، بالرغم من القروح والكرب فما عليك إلا البقاء حيا، فهذا وحده يفقأ عين مهند من قبل وعيون الشقر من بعد – ص 265).

وتظهر عصابية هؤلاء المؤدلجين في استخدامهم العمل السياسي لستر مشاعرهم المؤرقة بالإنخصاء، حيث يمكن كما قلنا أن تتحول الآيديولوجيا إلى سبيل دفاعي يجعلها " قضيبا " ضخما يعزّز الذكورة المهدّدة. هم " يتخفون " خلف أستارها فتعطل انكشافهم وتعيق قدرة الآخر على " ترجمة " حقيقتهم الشخصية بصورة دقيقة. وليس غريبا الاستنتاج أن القسوة الرهيبة التي يتعامل بها أعضاء الحركات السياسية العربية مع خصومهم هي تعويض مفرط عن الإحساس بالإنخصاء. ولعل تحليل خطاب هؤلاء السياسي سيكشف التعبيرات الرمزية الحادة التي تحاول ترتيق الذكورة الهشّة، فلغة خطاباتهم مزحومة بعبارات الهجوم والهجوم المقابل والاختراق والتهشيم والتمزيق... إلخ، وكلها - كما رأينا - متضمنة في المعاني المعجمية لمفردة القضيب ومرادفاته (وأرجو من القاريء أن يراجع معاني " العضو " المرادف لمفردة القضيب أيضا في لسان العرب مثلا). هؤلاء عقولهم مزحومة بالشؤون العقائدية، فتجد انجازهم الجنسي ضعيفا، لأن الانتصاب يبدأ في الدماغ كما ثبت علميا، ولذلك تجد الفلاح البسيط " مفلحماً " وأكثر قدرة في أداء واجباته الجنسية من المثقفين " النازكين " الذين يبحثون عن الرومانسية. وهذا ما كشفته كيتا وهي تقول لسرمد:

(عليك أن تضحك مما سأتفوه به... أنت فعلا عشيق بديع تجامع في جميع الأوقات.. أمّا عشاقي الشيوعيون فقد كان الجنس معهم مضنيا حتى تصورت، وقلت ذلك لأحدهم فعلا، أنهم يضاجعون بطريقة سيئة جدا، كأن الشيوعية طلبت ذلك منهم. كأنهم يعيدون إطلاق الأوامر وكتابة التقارير. إن الذين كانوا خارج الشيوعية هم أكثر صدقا، هم الذين ارتبطت معهم بعلاقات حميمة لم تتزحزح حتى لو أخذت مسارات أخرى – ص 246).

 

- كيتا وحادثة حذاء بوريس باسترناك:

قلت مرارا: إن القصة القصيرة فن ولكن الرواية علم، القصة القصيرة بإيجازها وتركيزها وتكثيفها تتطلب فنا، لكن الرواية بامتداداتها وإحاطاتها التاريخية الواسعة تسير على قواعد وأسس ومباديء تجعلها قريبة من مشروع علمي. ومن الضروري هنا الإشارة إلى خصيصة نفسية ضرورية للإبداع الروائي وتتمثل في الصبر، فمن وجهة نظري أن سمة الصبر حاسمة في استعداد المبدع لخوض المنازلة الروائية. والمواطن العراقي عموما والمبدع العراقي خصوصا غير صبور، لا يستطيع الجلوس إلى منضدة الكتابة ساعات طويلة. هناك استثناءات بطبيعة الحال، ولكنني أتحدث عن حالة عامة. ولعل من سمات عالية ممدوح الصبر والإرادة الحديدية في المطاولة. يتجسد ذلك في تحولها بعد مجموعتين قصصيتين إلى الكتابة الروائية التي أنجزت في حقلها ست روايات حتى الآن وأعتقد أنه أكبر عدد من الروايات كتبته مبدعة عراقية في تاريخ السردية العراقية. وحين أقول أن الصبر ضروري للروائي فلأنه سمة مشتركة بين العالم والروائي. لا يمكن أن نتصور عالما نزقا، مثلما لا يجوز أن نتخيل روائيا سريع الاستثارة ومهتاجا ومعكّر التركيز. كيف سيربط حلقات روايته التي قد تتطاول الفسح والمسافات فيما بينها؟؟ كيف سيصمم لكل حدث دورا ولكل ذكرى وظيفة؟؟ كيف سيجلس عشر ساعات إلى منضدة الكتابة؟؟ كيف سيمزق ما يكتب ويعيد الكتابة من جديد؟؟ الروائي " يتشهى " عذابات المطاولة وعناءاتها في صراع مديد ضد ضغوط الإختفاء، والقاص " يتشهى " متعة ذروة البروز السريع، همّ الروائي هو في اللذة التمهيدية، في حين أن عين القاص على الرعشة النهائية إذا سلّمنا أن من جوانب الفعل الإبداعي (السردي هنا) مشابهة مع العملية الجنسية كما توهمنا بذلك تيارات ما بعد الحداثة الغربية. وأتساءل هنا: هل كان ذكر الكاتبة لحادثة بوريس باسترناك الشاعر الروسي الشهير الذي رفض جائزة نوبل، والذي كانت كيتا تحبه جدا وتعتقد أن نسيم يشبهه لأن طعامه قليل وجسمه نحيل وسراويله من النوع العادي جدا جدا وملابسه الداخلية عتيقة بالرغم من نظافتها (وكلها مناقضة لبنية وطعام وملابس ورخاء "مناضلي" الرواية وشخوصها)، أقول هل كان ذكر حادثة باسترناك مع خادمته عبثا؟ وهي الحادثة التي وجد فيها بوريس باسترناك حذاء جديدا - هو الذي لا يبدل حذاءه - تحت سريره فسأل متفاجئا: من أين أتى؟ وبعد بضعة أيام ظهر حذاء آخر.. عندها قال باسترناك: ماروسيا، أنا لست أم أربعة وأربعين، كان بوسعي أن أشتريهما بنفسي.. أجابت: ولماذا إذن لا تشتريها؟ أنظر إلى الكتاب الآخرين كم هم أنيقون؟ تأثر باسترناك بعمق باهتمامها وبدأ يشرح لها أن الملابس ليست إلا مظهرا بسيطا إنما يجب أن نهتم بالضروري جدا وأن نساعد الآخرين. وهذا ما كان يفعله بكل دقة – ص 62).

واجب الروائي هو الإيحاء.. تمرير صحوة الفكرة خلف أستار غيبوبة السكرة المترعة بخمرة السرد الباذخ..

 

 تابع القسم الرابع من الدراسة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم