حوارات عامة

المثقف في حوار مفتوح مع ا. د. انعام الهاشمي (3)

 

 

الاميرة فواغي القاسمي / شاعرة اماراتية: غالبا ما تسقط الحوارات الجدران الوهمية التي تحول بين القارئ والمحاوَر، وتتجلى أهميتها حين يكون الحوار مع شخصية ثقافية مبدعة فتتضافر المتعة والاستفادة في آن، د. إنعام الهاشمي شخصية مرموقة في الوسط الثقافي العربي والغربي ومعها يحلو الحوار والنقاش، لذا اغتنمت فرصة هذا الحوار لطرح بعض التساؤلات التي لا تزال تبحث عن إجابات تائهة، فأتمنى أن لا أثقل عليها بهذه الأسئلة وسأقتصر على ثلاثة أسئلة فقط لأفسح المجال للآخرين باقتناص فرصة القرب من هذه الشخصية اللامعة .

 

س23: فواغي القاسمي: غالبا ما تكون المعاناة جزء من التكوين الإبداعي في شخصية المبدع، فقد عاش الأمريكي المولد والانجليزي الجنسية الشاعر " تي إس إليوت " حياة من المعاناة الحقيقية صنعت منه شاعرا خالدا وكاتبا مسرحيا من الطراز الأول، كذلك لا تخلو حياة لوركا وبودلير وكافكا الذي يعتبر رائد الكتابة الكابوسية وآخرين لا مجال لذكرهم هنا حياة لا تخلو من المعاناة والاحباط واليأس صقلت نتاجهم الأدبي ليخرج من الصورة الباهتة إلى فضاءات العمق والفلسفة والإبداع، بل ذهب الفيلسوف الفرنسي إيميل سيوران في تعريقه للمعانة حين قال : " نعيش في الخطأ ما دمنا لا نعاني، وعندما نكتشف المعاناة، نعانق الحقيقة فقط للاعتذار عن الخطأ" فاعتبر المعاناة هي الحقيقة . وفي أدبنا العربي العديد من الشخصيات الأدبية التي رسمت المعاناة معالمها كمحمود درويش وأحمد فؤاد نجم ومحمد الماغوط وغيرهم، كيف تقيم د. إنعام الهاشمي درجة معاناتها التي أبرزت تجربتها الإبداعية ؟

ج23: الشاعرة القديرة والانسانة الكبيرة والأميرة بخلقها قبل نسبها فواغي القاسمي...

وأشكر لك مقدمتك الكريمة وشعورك الطيب، و يسعدني جداً أن أرى اسمك بين الأسماء التي دخلت الحوار وأنت تضيفين من معرفتك وفكرك ما يضيء ويثري الحوار، فشكراً لك المشاركة.

الإنسان بطبعه يبحث عن السعادة ويبحث عما ينسيه أو يخفف من معاناته. حين تكون معاناتي شخصية أجد من السهل التعامل معها ولكن معاناتي الكبرى هي معاناة الآخرين. عند هجرتي لم أعرف ولم أعترف بالغربة فإن الإنغماس في الحياة ومشاغل الدراسة والمشاغل المهنية كانت تملأ وقتي. وهذا هو الحال لدى الشباب.  وبين الحين والحين كنت أزور العراق وأنهل من الحنان والمحبة لأعود بعدها بشوق وجرح إسمه الفراق، كلما اندمل عاد وانفتح. ولكن أول اصطدامي بالمعاناة الحقة كان بعد حرب الخليج المسماة بعاصفة الصحراء حين كنت أشاهد اندلاع الحرب والجحيم الذي كان ينهمر على رؤوس الجنود العراقيين وهم ينسحبون كانت النار تشب بي كما رأيتها تشب بهم. وما اتعس ما رأيت حينما شاهدت الجندي المصري والجندي السوري والكويتي يرفع سلاحه ضد اخوته العراقيين ويسميهم العدو جراء تصرفات قائد أحمق كان يظن أنه يلعب لعبة القط والفأر مع الغرب ويراهن على لعبة شطرنج خاسرة كان الرهان فيها على الشرق بأكمله وليس العراق فحسب، وها نحن نعيش نتائجها اليوم بما تبعها من نتائج.

بكيت مرتين، وأنا عصية الدمع، ومازالت حرقة الدموع في عيني وفي قلبي. الأولى حينما رأيت جندياً عراقياً أنهكته الحرب والجوع ورؤية رفاقه القتلى ينحني ليقبل قدمي الجندي الأمريكي . قبل اندلاع الحرب كنت من ضمن الحملة التي نظمتها المؤسسات الثقافية والكنائس وبعص السياسيين لمنع وقوع الحرب من خلال المحاضرات والندوات والمطالبة بحل النزاع بين البلدين بالوساطات العربية والعالمية والطرق السلمية، وكنا نأمل ان ينسحب صدام حسين من الكويت قبل نهاية الموعد الأخير للإنذار، وجاء الموعد ولم أنم تلك الليلة في انتظار الكارثة. وسكتت كل الأصوات إلا من وجيب القلوب وما تبعها من معاناة.

والمرة الثانية حين زرت العراق لأول مرة بعد الحرب وكانت قبل ذلك قد انقطعت أخبار الأهل عني لأكثر من سنة لانقطاع الاتصالات وعزلة العراق، عدت حين طلبت والدتي من ابنائها الحضور لمرضها الشديد، وكان ربيع 93 في منتصف السنة الدراسية وحينها كان الحصار قد فرض على العراق ولكننا لم نكن على علم بآثاره. السفر عن طريق الأردن يقتضي البقاء ليومين في عمان للحصول على الفيزا الى أخره من ترتيبات السفر بالباص ... رحلة عسيرة ولكن فرحة رؤية والدتي وإخوتي كانت تطغي على كل شعور آخر. توقف الباص في الطريق و نزل الرجال مسرعين واللهفة واضحة على وجوههم وكانوا يعودون وفي أيديهم يحملون أكياسا لم أتبين مافيها فقد كان مساء والدخان يملأ جو الباص، رأيت الفرحة والأبتسامة تحلان محل اللهفة التي على كانت على وجوهم. سألت السيدة التي كانت تجلس بجانبي ماذا يحملون في أيديهم؟ قالت خبز! قلت وكأنني ماري انطوانيت : خبز؟ كل هذه الفرحة لأنهم اشتروا خبز؟ قالت هذه أحسن هدية تأخذينها للعراق.. احسست حينها بالبؤس .. يا الله خبز؟ العراق أم الخيرتحتاج الى خبز؟ بكيت.. ولا زلت أبكي كلما تذكرتها. حينها تبرع أحدهم ليجلب لي الخبز وأعطيته كل ما تبقى لدي من الدنانير الأردنية وجلب لي عدة دزينات من الخبز. وزعت على الأصدقاء والأقارب والجيران . وفهمت قيمة رغيف الخبز ذاك حين رأيت سواد الرغيف العراقي والطحين الممزوج بنشارة الخشب. ثم بعد ذلك جاء اشتداد الحصار وسنواته العسيرة وما تخللها من الشعور بالذنب كلما دخلت السوبر ماركت ووجدت ما اشتهي .. كل من عاش في الغرب عانى من الحصار، فالحصار لم يكن على العراقيين في العراق فقط بل أن كل عراقي في الخارج كان يقتطع من قوته ما استطاع كما غيّر طريقة إنفاقه ليوصل ما يستطيعه من المساعدة لمن هم في الداخل رغم صعوبة إيصالها.

هذه كانت معاناتي وقد خلفت جرحا لا يندمل. من الصعب أن ترى عزيز قومٍ ذل وتقف عاجزا عن رفع المذلة عنه وقد ذلّ كل عزيز أنذاك. ولن اتحدث عما يمر به العراق الآن والتمزق الذي حل به. ليس من العدالة ان يتمزق شعب ويؤخذ بجريرة حماقة قائده. ولعلي كالكثيرين أقف حائرة إزاء النزاع الأمريكي العراقي، فانا كمن يرى والديه يتقاتلان ولا يملك الا ان يحبهما الاثنين.

 

س24: فواغي القاسمي: في العصر الحديث برزت ظاهرة ما يسمى قصيدة النثر، وهي نتيجة الانفتاح الحضاري على الثقافة الغربية، ويعتبر الشاعر الفرنسي " بودلير " عراب هذا النسيج الأدبي الحديث حين أقدم إبان الثورة الفرنسية على إعادة صياغة أشعاره الموزونة بأسلوب نثري في ديوانه " أزهار الشر " . إلا أن ركوب الكتاب العرب هذه الموجة الحداثوية لم يكن بالصورة التي ابتدعها بودلير، فنحن حين نقرأ نصا من " أزهار الشر " لا يغيب عنا فهم النص برغم حداثته ولكننا لا نستطيع أن نقف على مفاصل المعنى في معظم النصوص العربية. في رأيك، ما أسباب هذا الغموض الذي يكتنف النصوص النثرية في الأدب العربي، وهل وفق العرب في تجربتهم هذه؟

ج24: الشعر الغربي بصورة عامة الموزون منه والمنثور يتسم بالوضوح.

 في القرن التاسع عشر وما قبله كان الشعر يلتزم بالبحور والايقاعات المختلفة .. وفي التجديد الذي بنى عليه أدغار ألن بو قصيدة الغراب The Raven اعتمد ايضا الايقاع الداخلي مثل : rappin rapping ; tapping tapping

القارئ العربي حين يقرأ القصيدة مترجمة لا يجد هذا الإيقاع الداخلي ولا القافية الخارجية، والكلمات المترجمة قد لا تحمل نفس الموسيقية التي تحملها الكلمة الاصلية مع مايحيطها من الكلمات الأخرى. مهمة المترجم مهمة صعبة بل هي مسؤولية تعتمد الأمانة في النقل للمعاني والموسيقية.. الكثير من المترجمين يسيئون للنص الاصلي بعدم اختيار الكلمات المناسبة أو الصحيحة وقد لاتكون لهم الأذن الموسيقية لتتذوق النغم والمعني الذي في الأصل، لهذا يظهر النص المترجم غامضا في حين أنه واضح وضوح الشمس بلغته الأصلية ولكن القارئ العربي حين يقرأ القصيدة المترجمة يظنها أسلوبا غربيا فيقلده. وهناك فرق بين استعمال الترميز والاستعارة مما يستفز التفكير والخيال بشكل محبب وبين الإغراق في الرمزية التي تنتج صوراً ماهي الا لخبطة في الألوان. وأحمِّل الناقدين جريرة تشجيع اللخبطة هذة بالتصفيق لما لا يفهمونه على أنه "إعجاز" يستحق الدراسة، وما يفهمونه على أنه "مباشر" لا يستحق الأهتمام. وهذه القراءات للقصائد التي انتشرت مؤخراً التي لا تحمل في طياتها إلا نسخ مقاطع النص غير المفهومة للقارئ وتفسيراته لها وكأننا في درس لغة اجنبية. كثر العدد لهذا النوع من الناقدين الذين يتنافسون في لعبة الحزورة ويظهرون شطارتهم في حل الغازها التي، أوشك أن أقسم أنهم، لم يفهموها! أحيانا أسأل الشاعر أن يفسر لي معنى شطر جاء في نصه، والمفروض أن الشاعر هو الذي يعرف المعنى الذي وراء الكلمات المتقاطعة ولكني لا احصل على جواب من أي منهم لأنه/لانها تفترض في ذلك إهانة للنص ولهذا علينا أن نتفرج على الناقدين في لعبتهم "يللا نحل الحزورة!"

القصيدة نثرية ام تفعيلة ام عمودية إن لم يسترسل معها القارى ويحلق بخياله اصبحت مجرد كلام، ولا بأس أن تكون مجرد  كلام ولكنه إن لم يكن مفهوما لا يصح تسميته كلام بل ثرثرة وهذيانات .. وأرىاليوم  الكثير من الهذيانات التي تقدم لها الجوائز والتكريمات.

أذكر زيارة الأديب الروائي السوري وليد اخلاصي إلى جامعتنا بدعوة من خلال تبادل فلبرايت الثقافي، قلت له زرت العراق وقرأت قصيدة منشورة في إحدي الصحف ولم افهم منها شيئاً أتظن اني نسيت اللغة العربية؟ أجابني: لم تنسي اللغة العربية وإنما هم الذين لم يتعلموها

 لاني نفسي لا افهم مايكتب اليوم!

هناك قصائد حداثوية وكلاسيكية فيها غموض محبب، وهذا هو السهل الممتنع الذي يظهر بسيطا في مظهرة ولكنه ملئ بالتوريات التي يمكن للقارئ الحاذق المتذوق أن يرى الصور وراءها ويحلق معها بخياله.

 

س25: فواغي القاسمي: الأدب الإيروسي ليس بالجديد في تاريخ الأدب العربي، فقصص ألف ليلة وليلة وتحفة العروس والعديد من المؤلفات القديمة اشتملت على هذا التوصيف الإيروسي، إن صح التعبير، إلا أننا لا نشعر بالابتذال في أسلوبها حين نقرأها، وفي العصر الحديث نستطيع أن نضع أشعار نزار قباني ضمن هذا الوصف، ومع ذلك لا نشعر أننا نقرأ أدبا إيروسيا متعمد إقحامه في القصيدة بينما نقرأ الكثير من نصوص هذا العصر فلا نستسيغ ما يورده الكاتب فيها، وربما يكون كافكا من أشهر الأدباء الذين حفلت نصوصهم بهذا النوع من الفن الأدبي وإن كانت الصورة السائدة عنه هي صورة القديس، إلا أن الباحث الأكاديمي في أسطورة كافكا " جيم هيوز" نفى عنه هذه القداسة وسوف يصدر دراسة حول إباحية كافكا بعنوان " التنقيب عن كافكا" والسؤال : ترى هل الإباحية التي نقرأها في الأدب الغربي المعاصر تتشابه مع تلك التي نقرأها حول الكتاب العرب المحدثين ؟

 ج25: في كل العصور، الكتابات التي تخرج عن المألوف هي نوع من التحدي للسلطة سواء كانت اجتماعبة أو عائلية أو كنائسية؛ واالتحديات في الكثير من الاحيان هي من قبل أبناء المجتمع الأرستقراطي لمعتقدات وتقاليد طبقتهم التي تقيد سلوكهم، وأيضا كانت كمظهر من مظاهر المعارضة لسلطة الكنيسة المتزمتة والتي ظهرت بأشكال عديدة مما أدى الى انشقاقات في الكنيسة . ما نراه اليوم مقبولا من ذاك الأدب كان ينظر له كأدب شنيع وقد تعرض بعضهم لمعاداة واستهجان المجتمع المحافظ  آنذاك وحتى أن بعضهم تعرض للسجن ومن ضمنهم بودلير. وفي وقت ما في فرنسا مثلاً يكفي أن يحصل أحد النبلاء على سند موقع من الملك يعطيه الحق بالأمر باحتجاز شخص ما دون محاكمة وإرساله للسجن لأنه أهانه أو أهان معتقداته. هناك من تجاوز في استهانته بالأعراف الموجودة ليس فقط في كتاباته وإنما في تصرفاته التي في روحها التمرد ومظهرها الإباحية والمجون. وكل سلوكيات هؤلاء المتمردين أدت الى الثورة على الكنيسة والثورة الفرنسية. وأسوق اليك مثلاً متطرفاً ذلك هو الشاعر الروائي الفرنسي ماركي دي ساد Marquis de Sade الذي جاءت تسمية السادية من اسمه. فقد تمرد ليس فقط في كتاباته وإنما في سلوكه وهو من النبلاء.

وحتى بودلير في القرن التاسع عشر لم يسلم من حكم المجتمع والقضاء لاحتواء مجموعة "أزهار الشر" على قصائد اعتبرت مخلة بالأخلاق وذلك قبل التعديل، وقد أدين هو وناشره ولم ينقض الحكم حتي القرن العشرين بعد مرور مئة سنة على نفاذه . وبعد الإدانة أعاد بودليركتابة قصائده وحذف ماهو غير مقبول. بودلير أيضا كان متمردا على العادات حينها وعلى السلطة من ضمنها العائلية ليس في كتاباته فحسب وإنما في سلوكه الشخصي فقد كان من ناحية مولعا بمعاشرة المومسات مما سبب له القطيعة مع عائله، ومن الناحية الأخرى شارك في الثورة الفرنسية عام 1848 كما كان من قبله المتمردون من الكتاب في القرن الذي سبق.

أقول هذا لأشير ان الكتابات الأيروسية التي انتشرت ماهي إلا تمرد على اوضاع أخرى وليست بالضرورة ثورة جنسية. والثورة الجنسية قد تكون وراءها ثورة وتمرد على نظام سياسي او اجتماعي كما حدث في الستينات واوائل السبعينات في الولايات المتحدة بسبب الاحتجاج على حرب فيتنام.

نعم الأيروسية قد لا تستساغ من قبل القارئ الذي يتوخى الفن في الأدب. فلا شاعرية في تعبير مباشر يصف وضعاً جنسياً بطريقة جرافيكية مقارنة بمقطوعة تصف الحميمية العاطفية دون مباشرة وتدع للقارئ الحرية في رسم صوره بألوانه التي يستسيغها؛ الخط الفاصل بين الأيروسية والابتذال شعرة، على الكاتب الأديب أن يتحسسها وبذوقه يتجنب عبورها. وكما ذكرت في موضوع الكتابة الآيروسية لدي المرأة، الطبق ذاته يمكن تقديمه بطرق عدة لكي يلائم الذوق والذوق الآخر، ولكني أحترم حرية الفرد في الكتابة والتعبير وحرية القارئ في الاختيار، وما لا يجد القارئ لا يجد السوق، والكتاب الذي يجد السوق يعنى أن هناك من يرغب فيه و في هذا النوع من القراءة اما بسبب حب الاستطلاع أو لسبب آخر. الخطورة ليست في كتابة هذا النوع من الكتابات، الخطورة في أن يتجه الناشرون إلى نبذ الكتابات الرصينة لأن الكتابات الرخيصة تجد سوقاً أكبر.

وملاحظة حول كافكا، بما أن أعماله مترجمة عن الألمانية، يقول المحللون إنه كان يكثر من استعمال التعابير التي تقبل العديد من التفسيرات وبعضها قد تتحمل تعبيراً جنسياً مبطناً. مثلاً في قصة The Metamorphosis له تعبير عن مجرى السير فوق الجسر، كما اعترف لأحد أصدقائه المقربين، وهو القائم على تنفيذ وصيته والذي تكفل بنشر مالم ينشر لكافكا في حياته مما يحتفظ به خلافاً لوصية كافكا أن يقوم بحرقها، أسرَّ كافكا له أنه حين كتب ذلك المقطع كان يفكر بدفق جنسي عنيف! و"جيمس هاوز" في نشره لتفاصيل حياة كافكا أثار كتابه ضجة في ألمانيا خاصة، وهو مازال يبحث عن مجموعة من الرسائل التي كتبها كافكا الى عشيقته التي احتفظت بها حتى استولى عليها الجستابو وضاع أثرها. وليس مستبعدا أن يظهر فيها ما يبحث عنه الباحثون.

شكراً لك على محاورتك الشيقة وحضورك البهي.

 

س26: د. عبلة الفاري / روائية فلسطينية / ايطاليا: يقولون ان الادب مأساة او لا يكون، ويقولون ان الادب المطعم بالمر لا بد ان يخلد وانا كصاحبة تجربة روائية متواضعة كتبتها ما بين منافي الغربة ووطن يقتات بالظلم والمرار ارى ان الادب يولد من عمق الماساة فما هي رؤياك لهذه الفكرة؟

ج 26: اشكر الأستاذة د. عبلة الفاري على مشاركتنا الحوار وإئرائه بأسئلتها التي اتمنى أن اوفق في الرد عليها...

الشعوب التي توارثت المرّ جيلاً بعد جيل أما بسبب الحروب أو التشرد او الفقر تجد راحة في إحساسها أن هناك من يشاركها الأحساس .. كما تفهم المعاناة من تجربة وليس من السماع وتتعاطف مع من أحس إحساسها، ففي تفهم آلام الآخرين تخفيف من آلامها هي، لهذا فإن الأدب الذي يصور الألم والحزن والمعاناة ليس غريبا عليها .. تكتبه.. تقرأه.. تتآخى معه..وتحتضنه فيصبح جزء منها. وحين تتألم النفس تصرخ، والكتابة هي صرخة الروح ولهذا يولد الأدب من المعاناة وتتلقفه القلوب بلهفة لأنه وليد احساسها .

الأدب الذي لا يصور المعاناة الجماعية والذي يصور مأساة فردية كالموت وفقدان الأبناء وفقدان انسان عزيز والحرمان يشق طريقه الى قلوب عانت من هذه المآسي فحتى بين الشعوب التي تنعم بالخيرات ولم تعرف مأسي الحرب والفقر والتشريد والحرمان لابد وأن عانت او شاركت قريبا عانى من المآسي الفردية هذه. الإنسان بطبعه يتعاطف مع الأسى ويشارك أخاه الإنسان الألم في محاولة للتخفيف عنه وإلا لما كان إنسانا. اما الفرح والبهجة فتمر عابرة .. الفرح كالنسمة يمر ونشعر به ولكننا لا نفكر به أو نتذكره بعد حين .. الحزن والأسى كالعاصفة الهوجاء تكسر وتهدم وتمضي وتبقى آثارها وذكراها بعدها.. فأيهما يحظى بالذكر؟ بالتأكيد هو مايهز العواطف كالعاصفة.

 من الناحية الأخرى الأدب الرومانسي يحرك العواطف وليس ضروريا أن ينبع من مأساة أو معاناة، ولكنه يحتاج الى مهارة أكثر في التصوير لكي يحمل القارئ على جناح الخيال ويحلق به الى عوالم أخرى بعيدا عن أرض المآسي. كل أدب له قراؤه. هناك من يغذي الأسى في روحه لانه اعتاده وهناك من يحاول الهرب منه. ومن هنا تأتي خيارات الكاتب والقارئ.

 

س27: د. عبلة الفاري: هل ما زال الاديب العربي يولد ميتا؟ اي يعرف وينال الشهرة بعد وفاته؟

ج 24: يقال مغنية الحي لا تُطرِب، ويقال الاعتياد على الشيئ يجعله مبتذلا. هكذا الشاعر والكاتب والفنان وغيرهم من المبدعين، من الصعب أن نرى مافيه من الميزات حتى تأتي أجيال أخرى ترى فيه مالم نره وحينها يلتفت العالم له. ومن الناحية الأخرى الأجيال التالية تغفر لهؤلاء الأشخاص زلاتهم ونواقصهم لأنها لم تعد ظاهرة للعيان، وهذه من حسنات الموت، إنه يغسل العيوب ولا يبقى إلا الذكر الحسن. البشر تنظر للإنسان بعين في حياته وتنظر له بالعين الأخرى بعد مماته. العين الأولي ترى الزلة والعين الثانية مصابة بعمى الزلل.

من الناحية الأخرى في حياة الإسان لا يسرع الآخرون لتبيان حسناته ظناً منهم أن لديهم مهلة طويلة من الزمن وحين يرحل يغرقون في الأسى وينسون أن يقوموا بما كان عليهم القيام به في حياته. كما نرى في القصائد التي تكتب في رثاء الشعراء (ولا أعني الأصدقاء للأصدقاء) تجدين الكل يكتب وكأنهم عرفوا الشاعر وأكلوا وشربوا معه في حين أنه لم يكن يعرف حتى اسمهم ومن أين أتوا! وهم لديهم الأمان أنه لن يستيقظ ليخبر معشر القوم أنه لا معرفة له بهذا الذي يدعي معرفته.

لو أن هؤلاء الأشخاص كتبوا عنه في حياته كما كتبوا عنه بعد مماته؟ ألن يكون ذلك محرجا له ولهم إن لم يكن يعرفهم؟ وهل سيكون مديناً لهم إن كان يعرفهم؟ هل عليه أن يرد المعروف بالمعروف؟

إن الاعتراف بالأديب بعد مماته هو هديته لأبنائه واحفاده.. فلا بأس من الأعتراف به حينذاك.

أشكرك مرة أخرى.. ومرحباً بك.

 

س 28: جوزية حلو / شاعرة لبنانية / فرنسا: من هي المرأة العربية في الشرق الأوسط في رأيكِ ومن هي في / USA؟

ج 28 : أشكر الشاعرة جوزيه حلو على مشاركتها في الحوار .. وكذلك على تعليقها الرقيق على الحلقة الأولى من الحوار...

سؤالك يثير الشجون وخاصة حين نأتي للمقارنة.

المرأة العربية في الشرق الأوسط تولد فتستقبل بدمعة ، مالم يسبقها عدد من الصبيان، وتنشأ أما مدللة إن كانت "نبعة واخوانها سبعة" أو في الزاوية وما وجودها الا لتلبية طلبات إخوتها الصبيان، وفي شبابها تعاني من أنوثتها من قبل من يشتهيها ومن قبل من يحاول الحفاظ عيها، وحين تصبح زوجة تعاني الأمرّين من حماتها التي تنتقم لنفسها مما عانته في مراحل تطورها بأن تخضع زوجة ابنها لما مرّت به لان هذا هو المتعارف عليه وهي لا تعرف طريقة أخرى تتبعها وليس لها مثل تحتذي به في دورها كحماة إلا حماتها وتنسى أن بإمكانها أن تتخذ من والدتها مثالاً وتجعل من زوجة ابنها إبنة لها وبذا تغير الدور التقليدي للحماة. بتطور المجتمع وتطور العلاقات تغيرت العلاقة بين الحماة وزوجة الأبن، والشرق كالعادة يتأخر عن العالم ولكنه دائما في الطريق وأملنا في المرأة المثقفة للإنتباه الى أنها هي المسؤولة عن التغيير وبذلك تسعى لإعطاء الجيل الذي بعدها ما كانت تتمناه لنقسها.

ابدأ بالأنثى الطفلة، تعامل البنت بشكل مختلف عن الإبن وهي طفلة، في اغلب الأحيان تكون المدللة والتي يُسمح لها بالدلع ولا يسمح بذلك للإبن وخاصة إن كانت الصغرى. تعامل كاللعبة تتقافز في الأحضان بضفائرها وشرائطها الملونة وأثوابها الزاهية وفجأة يتغير كل شيء بين يوم وليلة لأن جسدها ظهرت عليه بعض االتغيرات والنتوءات التي تشبه ما لدى أمها والنساء الأخريات.. فترتبك ويزيد من ارتباكها تغير معاملة الأخرين لها والتناقضات في اقوالهم .. من ناحية يقولون لها " أنت إمرأة" ومن الناحية الأخرى لا تعامل معاملة الكبار بل يزداد نهرها على كل ما تفعله لأن ما كان يصح أمس لا يصح اليوم خاصة وأن الأم لم تهيئها لهذا التغير المفاجي والكارثة التي حلت بها كما تعتقدها حتى لتظن أنها قد أذنبت وتلازمها عقدة الذنب بعد ذلك. في حين أن التغير هذا الذي يهيء الفتاة للمساهمة بالحفاظ على ديمومة البشرية يستحق الإحتفال وهكذا تفعل بعض الشعوب حين تحتفل ببلوغ البنت وتشبهها بالزهرة التي تفتحت، وبذا تجعل هذا التغير مناسبة مفرحة بدلا من التجهم الذي تراه العربية على الوجوه واللذي هو تكرار لما قوبلت به يوم مولدها. ولكن كما يقال هناك بطانة فضية لكل شيء.. حين تصبح أما لعدد من الأبناء ويكبر أبناؤها ويبيضّ شعرها فجأة تصبح آلهة مقدسة! ويا ويلها إن لم تنجب فلها أن تتحمل تهديد حياتها الزوجية بالطلاق أو وجود زوجة أخرى أو على الأقل فقدانها حق الإلوهية و لقب "أم فلان" الذي لا يعوض عنه اللقب البديل "أم غايب" الذي يمنحه لها بعض المحبين. لعل هذه الصورة ترينها في الكثير من كتابات الأديبات في الشرق.

 تغيير الصورة هذه هو في يد المرأة المثقفة وجهودها لتغيير نظرة الجيل الجديد للمرأة وذلك بتنشئة أبناءها على احترام أخواتهم وإفهامهم أن لا فضل لذكورتهم على أخواتهم حتى وإن كان المجتمع حاليا ينظر نظرة دونية للمرأة. لو أن الأم حاولت تصحيح هذه النظرة لدى أبنائها لما ترسخت جيلاً بعد جيل ولما بقيت المرأة تشكو وتطالب بحقوقها جيلاً بعد جيل..

أرى المرأة المثقفة المعاصرة قد قطعت أشواطا في اكتساب الاحترام ولكن أمامها أشواط وأشواط، وأراها تتقدم بسرعة رغم كل العوائق التي وضعت في طريقها بسبب تردي الأوضاع في الشرق نتيجة الحروب والتعصب المستورد تحت مسميات عديدة منها التعلل بالدين وكأن الدين أصبح لايعني إلا ما يخص المرأة. لنأخذ على سبيل المثال المرأة العراقية التي وصلت للبرلمان. قد يكون الرجل وراء وصولها ولكنها لها صوت معادل لصوت الرجل، إن وعت هذه الحقيقة واستعملت حقها بالتعبير عما تعتقد به لا ما يمليه الآخرون لها تكون قد حققت خطوة مهمة في سبيل هذا التقدم. أما وإن لم تمارس دورها في تمثيل المرأة عموماً اعترافاً منها بفضل الرجل الذي أوصلها أو خوفا على منصبها فإنها بذلك تساعد على تقهقر المرأة بدلاً من تقدمها.

 

أما المرأة العربية في الولايات المتحدة.. لا يمكننا أن نضع صورة واحدة لها. أول المهاجرين العرب إلى أميركا كانوا من لبنان. لم تكن المرأة متعلمة أنذاك وكان دورها أن تقف وراء زوجها وابنائها ليشقوا طريقهم في الموطن الجديد. مارس الرجل ما مارسه في القرية اللبنانية وهو بيع المواد الغذائية على عربة متجولة، وكان للعرب فضل دخول مهنة الباعة المتجولون الى نيويورك. المرأة تحضر الطعام والرجل يأخذه ويسري به على عربة متنقلة. كانت المرأة وراء الرجل حتى أصبحت الجالية اللبنانية متمرسة في التجارة. كنت في السبعينات قد تعرفت على إمرأة أنيقة جداً من الجيل الثاني اللبناني الأصل وكانت تملك واحدا من أرقى البوتيكات. كانت تتكلم بعض العربية. فحدثتني عن جدها وجدتها ووالديها وكيف كانت تساعدهم في محلهم التجاري الصغير وكيف كانت تحمل اللحم على كتفها، فضحكت، قالت لا تضحكي كلنا كنا هكذا. وقد تغير المزيج في السنوات الأخيرة عما كان عليه في العقود السابقة ولكن النساء العربيات من الجيل الثاني والثالث اللواتي وصلن الى مراكز عليا في الدولة معظمهن من أصل لبناني وهن بارزات في مناصبهن. مثال ذلك هيلن توماس الصحفية الشهيرة التي تحتل مقعداً في الصف الأمامي في قاعة االاجتماعات الصحفية في البيت الأبيض منذ عقود وتعتبر عميدة الصحفيين وتحظى باحترام كبير حتى ادلت بتصريحها الأخيرة حول اسرائيل. ومنهم دونا شالايلا التي خدمت كوزيرة للصحة والخدمات الأنسانية في التسعينات وهناك نائبات في الكونجرس عديدات. هناك الكثير الذي يمكن قوله هنا ولكني أكتفي بهذا القدر.

 شكرا لك مرة أخرى وأتمنى أن أكون قد أجبت على سؤالك بما يفي السؤال حقه من الإجابة.

 

للاطلاع :

المثقف في حوار مفتوح مع ا. د. انعام الهاشمي (4)

 

المثقف في حوار مفتوح مع ا. د. انعام الهاشمي (2)

 

...............................

ملاحظة: يمكنكم توجيه الاسئلة للمحاور عن طريق اميل المثقف

[email protected]

...............................

حوار مفتوح خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1428 الثلاثاء 15/06/2010)

 

في المثقف اليوم