حوارات عامة

المثقف في حوار مفتوح مع ا. د. انعام الهاشمي (11)

 

 

س85: حمودب الكناني: قاص وكاتب عراقي: الدكتورة الهاشمي نشأت وترعرعت في البصرة ثغر العراق في فترة شهدت بها هذه المدينة العريقة فترة اتسمت بالازدهار الاقتصادي والتلاحم الاجتماعي....على أديم هذه المدينة الطيبة مشت أقدام الطفلة إنعام الهاشمي إلى المدرسة الابتدائية والمتوسطة، فهل تصف لنا الهاشمي تلك الفترة بكل جوانبها وماذا تحمل ذاكرتها عن شط العرب؟

ج 85: أرحب مرة ثالثة بالأديب حمودي الكناني وأسئلته التي تثير في نفسي كل مايشجيها وكل مايطربها عن البصرة التي عرفتها وذكرياتي فيها وعن أناسها الذين خلفوا في نفسي أثراً طيبأ والذين هم جزء لا يتجزأ من تراثها ومن طيب أرضها التي يسري ويتهادى في قلبها شط العرب والخليج والذهب الأسود الذي جلب لها الويلات.

هناك الكثير والكثير مما أستطيع قوله وسوف أحاول أن اقتطع منها بعض ما يتسابق الى ذاكرتي وساحاول التقليل من الإطالة ولكني لا أعد بذلك، ففيها الكثير مما يستحق الذكر.

أبدأ ببدايتي مع الحرف فيها.. مدرسة حداد الأهلية والروضة والتمهيدي ووالدتي فيها .. وفيها تعلمت اول حرف إنجليزي وأول ثلاث كلمات :

Cat .. Mat … Rat..

 وأول أغنية انجليزية :

Pussy Cat .. Pussy cat,  where have you been?

I have been to London to look at the queen!

وفيها تعلمت أول حرف عربي وأول ثلاث كلمات:

دار .. داران ... دور...

وفيها تعلمت أول نشيد :

موطني... موطني .. الجلال والجمال. . والسناء والبهاء في رباك... في رباك..

والحـياةُ والنـجاةُ... والهـناءُ والرجـاءُ ...فــي هـــواكْ .. فــي هـــواكْ

 هل أراك .. هل أراك ..سالماً منعما ... وغانماً مكرماً ... في علاك .. في علاك ..

هل أراك .. هل أراك ... تبلغ السِّماك .. تبلغ السِّماك .. موطني .. موطني

وبعدها كانت مسيرتي في المدارس الحكومية فقد ارتأت والدتي أنها تحقق الأستقلالية وإن بقائي معها في نفس المدرسة قد يعطيني الشعور بالأفضلية، فكانت الخطوة الثانية في مدرسة "حليمة السعدية" .. وكان موقعها في بيت قديم من بيوت الشناشيل البصرية على جانب شط البصرة الذي يتفرع من شط العرب. وكنا نعبر الى المدرسة عبر جسر خشبي يمتد بين ضفتي شط البصرة. كانت الصفوف الأولي في الطابق الأسفل والصفوف العليا في الطابق العلوى الذي يطل على الباحة التي تتوسط البيت وتطل شناشيله على الشط. كنت أجد نفسي في الشناشيل مراقبة على الصفوف العليا حين تزيد الضوضاء فيها وتحاول مديرة المدرسة تنبيه التلميذات الى حقيقة كونهن كبيرات ــ نسبياً ــ بأن تبعث لهم مراقبة من الصف الأول.، وفي ذلك الوقت كانت لي أول تجربة في المقايضة وهو الهدوء مقابل أن أسمعهن أغنية "بوسي كات"..

وفي المدرسة تلك تعلمت أول درس في المطالبة بالحقوق، ففي السنة الأولى وفي امتحان نصف السنة ذهبت الى المدرسة، وكان حينها الدوام لمدرستين تشتركان في البناية تتناوبان الدوام واحدة في الصباح والأخرى بعد الظهر، ثلاثة أيام صباحية وثلاثة مسائية، فرّاش المدرسة لم يسمح لي بالدخول وقال إن دوام مدرستي بعد الظهر ولم أفلح في إقناعه فعدت الى البيت لأعلم بعد ذلك أنني قد تغيبت عن الامتحان من إحدى رفيقاتي. لم أخبر والدتي ولكني كتبت رسالة الى مديرة المدرسة، وكنت قد أكملت كتاب القراءة الخلدونية وسبقت في قراءة كتاب الصف الثاني مما مكنني من كتابة الرسالة ـ والله أعلم كيف كان الأسلوب فيها ـ ولكن الرسالة تشرح سبب تغيبي ورجائي إليها أن تطلب من معلمتي المسؤولة أن تعطيني الامتحان. لم أعطِ الرسالة لأحد ولكن المعلمة في اليوم التالى لمحت طرف الرسالة في دفتري فأخذتها وقرأتها وأسرعت الى المديرة التي تأكدت أن لا أحد يعرف بالرسالة وأنني أنا التي كتبتها، أخذت المديرة الرسالة لوالدتي، وكانت صديقة لها، لم تكن والدتي تعلم بتغيبي عن الامتحان. في بدء الأمر أنكر الفرّاش ماقاله لي ولكني حين جابهته اعترف، وكانت النتيجة أن أعطي لي الامتحان ونجحت واحتفظت المديرة بالرسالة لسنوات بعد ذلك. هذه المديرة إسمها الست بدرية حسن كما اعتقد، وهي التي كلفت بتأسيس أول مدرسة نموذجية مختلطة في البصرة وهي "مدرسة الفيحاء النموذجية" وكانت تحتوي في البداية على أربعة صفوف فقط ــ الأول الأبتدائي الى الرابع.ــ نقل اليها عدد من التلاميذ من مدارس البنات والصبيان وكنت من ضمنهم.. هذه المدرسة كانت متميزة ببرامجها. وحين اكتملت السنوات فيها الى الصف السادس الابتدائي كانت تحقق المركز الأول بنسبة النجاح والمعدل العام بين المدارس في معظم السنوات في امتحان البكالوريا. ويعود الفضل في ذلك الى هذه المديرة والكادر التدريسي الذي اختارته. من برامج المدرسة كان الإنتاج المسرحي سنوياً والمشاركة في الأستعراض الرياضي للمدارس الذي يشمل مختلف النشاطات الرياضية والرقصات التشكيلية ثم عرض الالعاب السويدية الكبير. وكان حظي في المشاركة كبيراً لأن الاختيار لم يعتمد على البروز في ذلك الحقل وإنما على امكانية التلميذ تعويض الحصص التى يتغيب فيها بسبب التدريب ثم موافقة الأهل على المشاركة. لم أفز في الركض على أكثر من المركز الثاني لأن من كانت تحصل على المركز الأول لها سيقان غزال أفريقي!

تنقلت ــ لحسن حظي ــ في عدة مدارس، بعد الفيحاء ، قضيت سنتين في سوريا، وبعد عودتي التحقت بمدرسة الموانئ في المعقل ـ الابتدائية ثم المتوسطة، وعلى رأس إدارة كل منهما مديرة متميزة، السيدة زكية كرابيت في الأبتدائية، والسيدة سهاد تحسين قدري في المتوسطة. ثم انتقلت الى بغداد وقضيت نصف سنة في مدرسة متوسطة لا أذكر الكثير من الحياة المدرسية فيها إلا أنني أذكر أنني كنت أحضر اجتماعات رابطة المرأة العراقية التي كانت ترأسها السيدة بشرى برتو وكنت صغيرة على هذه الاجتماعات إلا أنها كانت حجر الأساس في اعتناقي مسألة حقوق المرأة. وبعد العودة الى البصرة كانت عودتي الى متوسطة العشار وأذكر فيها مديرتها السيدة أنيسة المفتي و السيدة سهام حمدي مدرّسة اللغة العربية وهي من أفضل من درس العربية. وكانت أن قررت لنا أن نكتب عن شاعر أو أديب قرأنا له، فكتبت عن أدباء المهجر وكان تشجيعها عاملاً إضافياً لتعلقي بأدب المهجر كما كان له الأثر في تطور كتابتي بعد ذلك. و أذكر بالخير السيدة هند التميمي التي أصبحت هي وزوجها من أعز اصدقائنا أنا وزوجي منذ بدء حياتنا في الولايات المتحدة. وثانوية البصرة للبنات كانت محطة لي أكثر من مرة. ومن الشخصيات التي أذكرها السيدة سعاد بركات المديرة، ومن المدرسات الست صفية حافظ، والست خولة المطير التي تميزت بجمالها اللافت للنظر واناقتها وذكائها وطيب خلقها وقد اختطفها الموت وهي في عز الشباب.

ولكن الجدير بالذكر أن الشاعرة سعاد الصباح قد شاركتني الرحلة المدرسية في السنة الثانية المتوسطة. وهنا أجد من المناسب ذكر الحقيقة عن الشاعرة سعاد الصباح والوقوف دفاعاً عنها تجاه الهجوم الذي تتعرض له بسبب قصائدها عن العراق وحضورها المميز في مهرجان المربد. لعل الكثيرين لا يعرفون أن سعاد الصباح بصراوية أكثر من كونها كويتية. نشأت سعاد الصباح في بيت جدها في البصرة. ودرست في مدارس البصرة كأي فتاة بصرية لأن العوائل البصرية القديمة اختلطت نسباً مع الخليجية والسعودية. ولم تنتمِ سعاد الى الكويت إلا بعد زواجها من الشيخ المبارك الصباح وكان قائد القوات المسلحة الكويتية في ذلك الحين، وكانت هي في الثانوية في سنتها الأخيرة. هذا يفسرسر تعلقها بالنخلة العراقية وبالتربة العراقية ذلك لأنها بصرية القلب والمنشأ. وحتى بعد زواجها، بنى لها زوجها بيتاً على شط العرب في البصرة كانت تقضي وقتاً فيه حين يفيض بها الحنين للبصرة. لم تكن سعاد حينها نابغة في الشعر ولكنها كانت لاعبة كرة طائرة درجة أولى حققت لفريق ثانوية البصرة التفوق بكبساتها الشهيرة. وكنت أسميها السمكة لما في حركتها من رشاقة. فهل في حبها للبصرة ما تعاب عليه؟ ولعل حنينها للبصرة هو سر شاعريتها. لا أذكر أنها شاركت في المسبقات الأدبية والخطابية التي تبنتها مديرية المعارف وشارك فيها طلاب وطالبات المدارس في البصرة وقد شاركت فيها عن مدرستي، وكان الكاتب محمد الجزائري من المشرفين عليها.

ما علق في ذهني من الأيام الدراسية الأولى من مواقف لا تنسى.. يوم الخميس ورفع العلم ونشيد موطني ثم "مليكنا مليكنا نفديك بالأرواح" .. ويوم أن جاء الملك فيصل الثاني للبصرة وكنت من ضمن الفتيات الصغيرات اللواتي وقع الاختيار عليهن لنثر الزهور عليه، وكان علينا أن نفرط الورد الجوري وننثر عليه ورق الورد .. حدث أن بقيت في سلتي وردة لم أفرطها ورميتها عليه دون قصد فأثار ذلك ضجة ولكنه ابتسم وانتهى الأمر!

وحادثة أخري طريفة، في الصف الأول الابتدائي علمونا الصلاة. وكان علينا أن نحضر سجادة وفوطة وقبقاب للوضوء. وقد فرحت بالقبقاب، حيث لم تسمح والدتي لي بلبسه بسبب الصوت المزعج الذي يحدثه. أثناء عودتي للبيت، وضعت حذائي في السجادة ولففتها عليه ووضعتها تحت ابطي ومضيت الى البيت اطقطق بقبقابي فرحة وكانت فرصتي للأستمتاع بالنغمات التى كانت تطلقها الطقطقة على الاسفلت .. وحين وصلت البيت فتحت السجادة لألبس الحذاء وأدخل به البيت.. لم أجد للحذاء أثراً، عدت راكضة دون قبقاب بحثا عنه ولكن دون فائدة .. وعليك أن تتخيل الباقي. وهذه القصة يذكرونني بها كلما عدت لزيارة العراق.

والقصة الأخرى التي لاحقتني حتى كبرت هي قصة زجاجة الشربت التي كسرتها والتي لاحقني أبو غازي بسببها حتى كبرت مهددا بقطع اذني عقاباً. كان أبو غازي له دكان يبيع فيه العصير والسكريات والمكسرات. وكنت أتوقف في طريق عودتي من المدرسة لأشتري "حامض حلو" منه. وكنت أتعلق بحنفية زجاجة العصير لكي أسلمه النقود وأستلم ما اشتريته. وفي معظم الأحيان كانت الزجاجات هذه، التي كان حجمها بقدر حجمي، مليئة بانواع وألوان عديدة من العصير "الشربت" و تغري بالوقوف والتشعلق ايضاً. قال لي أبو غازي إذا نجحت الأولى على الصف أعطيك الحلويات مجاناً. ويوم استلمت النتيجة ركضت فرحة لأخبره.. ومن بين كل الزجاجات المليئة تعلقت بواحدة شبه فارغة ... وكانت الكارثة .. وركض ورائي ابو غازي وهددني بقطع أذنى إن رآني مرة أخرى .. وبعد ذلك لسنوات كنت أغير طريقي إن رأيته حتى كبرت وذهبت أليه وقلت له خذ ثمن الزجاجة ودع أذني لي..

أما شط العرب .. فماذا اقول عنه؟ لعله علم البصريين الليونة والإنسيابية وسلاسة الحديث، و لعله علمهم سعة الخاطر وطيب المعشر، كما علمهم حب الطبيعة والتعايش معها..

في الربيع، وفي نوروز كان البصريون يخرجون الى "الخورة" ــ وهي جزء مائي متفرع من شط العرب ــ فيما يسمى "الكسلة" اي النزهة ولا اعرف أصل الكلمة. الكسلة بالقوارب النهرية او بالجلوس على شاطئ الخورة يأكلون الخس، لأنه موسمه، مع سندويتشات البيض والبطاطا المسلوقة او ما يسمى "لفة أبيض وبيض" المتبلة بـ "العمبة" وهي مخلل المانجو مع الطماطة. وعادة ينطلق من القوارب صوت الغناء مع دق الطبل "الدنبك" .. فأهالي البصرة معروف عنهم حبهم للكيف أي الطرب ويقال عن اهل البصرة أنهم رقصّوا المقام !

كذلك في الربيع ينطلق أهالي البصرة الى "الأثل" وهي أرض صحراوية ممتدة في جنوب البصرة قريبة الى الزبير، وفيها تكثر شجيرات الأثل التي هي من فصيلة الصنوبريات. أول منطلق للحرية هو في الأثل، فيه تعلمنا ركوب الدراجة الهوائية "البايسكل" وفيه تعلمت السياقة، وفيه لبسنا البنطلون، وفيه تتزاور العوائل وتتبادل الأطعمة والشراب. وفيه كنا ننطلق للبحث عن الكمأة ــ لم أوفق ولا مرة في العثور عليها ــ، المدارس ايضا كانت تأخذ الطلاب في سفرات مدرسية للأثل في الربيع. او إلى سفرة نهرية في شط العرب الى بساتين النخيل في أبي الخصيب. كنا نطلب من سائق "الماطور" اي القارب الذي يعمل بالمحرك الزيتي "الموتور" أن يسرع ونحن نجلس في مقدمة القارب مما يثير فزع الكبار ليتعالى صراخهم . حينما كنت صغيرة كنت أنظر الى الجانب الآخر من شط العرب فأظنه نهاية العالم وكنت أراه كبيراً .. ولكنه صغر كلما كبرت كما صغر العالم. كان الكورنيش يعج بزواره. وأحلى ما أذكره هو كيف كنا نركض ونحن صعار أمام والدي ووالدتي وانا ألبس سترة والدي التي يصل طولها الى كاحلي وأكمامها تتدلى وانا ألوح بيدي وكأنها أذني كلب يركض.

وماذا أقول لك عن "الطبكة" وجامعة البصرة في التنومة ؟ كانت الطبكة "العبارة" هي وسيلة العبور، وكانت هذه بحد ذاتها نزهة يومية ولعل من درس أو عمل في جامعة البصرة يذكر ذلك .. وماذا أقول عن مشهد مقتل رئيس الجامعة أمام عيني على يد أحد الطلاب المخبولين، وماذا أقول عن مشهد إعدام الطالب بعد أيام..،ماذا أقول عما شهدته البصرة من إعدام مجموعة من البصريين بتهمة التجسس والتآمر وأختيار هذه الشخصيات لتطابق أدوار في مسرحية لا أساس لها من الصحة؟ لم يصدقها أحد في البصرة حينها. فكل من أعدم في تلك المسرحية لم يطابق البروفايل الذي رسم له. هذا ليس في صلب الموضوع هنا ولكني ذكرتها لمعرفتي الشخصية بكل أفرادها. وهم معروفون لكل بصري آنذاك.

عوائل البصرة القديمة التي هجرت البصرة تدريجياً منها من هاجر الى دول الخليج ومنها للسعودية ومنها من شردتها الحروب الى بغداد ولم يبق منها إلا القليل. كانت العوائل متماسكة ومتقاربة وتسند بعضها البعض الآخرماديا إن مال بها الزمن لتبقى على مستوى اجتماعي مناسب الى حد ما. البصرة التي أتحدث عنها ليست البصرة اليوم فالتغير الديموغرافي بسبب الهجرة منها واليها لا يحتاج دليلا اكثر من الدهشة التي تصيب أهلها القدماء الذين يعودون اليها بعد غيبة ليجدوا أنفسهم أغراب بين غرباء. ولولا تمثال السياب على الكورنيش لأنكروا بصرتهم.

هل أطلت عليك في أجابتي؟ عذراً فإن من شرب ماء البصرة المالح لا يمل الحديث عن ذكرياته فيها.

س 86 : حمودي الكناني: الحب سمة من سمات الإنسان وإذا ما استحكمت حلقاته في نفس مؤمنة به ووفية لمبادئه يبقى في حالة تصاعدية حتى وان رحل الحبيب، فهل تتفضل الدكتورة الهاشمي أن تأخذنا برحلة نمخر بها عباب هذه الحالة الإنسانية الراقية؟

ج 86: من الذي يعلم الطير الحب؟ ومن يعلم الكلب الوفاء لصاحبه؟ ومن يعلم القطة الحنو على صغارها؟ ومن يعلم الطفل حب والديه؟

قد يتعلم الكبير الحب من بيئته" وقد يلقَّن الطفل تكرار كلمة "أحبك" ولكن الطفل لا يعانق بشدة إلا إذا أحس بشعور الحب. فكيف يأتي هذا الشعور؟

وكيف نصفه؟ كتب الكثير عنه ووصفه الشعراء وحلله الفلاسفة .. ولكن لا يمكن لأحد أن يدرك كنهه ويعرف سره. وحتى من يحسه لا يستطيع تفسيره .. إنه شعور إنساني يفوق كل شعور في سموه.

كتبت عن الحب ولكني كتبت عن مثاليته في "محاورة مع طيف – قمة الحب"  ولا أجد ما اقوله فوق ما قلته في ذلك النص.. إليك مقتطف من تلك المحاورة وأنا أجيب الطيف حينما يسأني عن قمة الحب:

** المقتطف **

قلت: هي حينما يدَغدِغُ شعورٌ غريبٌ طارِفَ إبهامِ قَدَمِك ويرسل ذبذبات نغمية تتردَّدُ في قِمَّةِ رأسِكَ حتى تصابَ بدُوارٍ لذيذ ..فترى برقاً وتسمعُ رعداً والسماءُ ملؤها النجوم ولا غيمَ فيها ولا مطر...

قال .. أها .. قِمَّة ُالرأس وقِمَّةُ الحب والنَغمُ والرعدُ والبرقُ : ولكن ماذا عن طرف إبهام القدم، ماعلاقته بالقِمَّةِ؟

 

قلت: هذا هو سرُّ القِمَّةِ .. فهي تمتلكُ البدايةَ والنهاية، إنَّها تمتلكُ الحواسَّ من أخمص القدمِ الى قِمَّةِ الرأس .. إنها كلُّ الكل..

قال: سأدَّعي أنني فهمتُ، وماذا بعد؟

 

قلت: هي حينما تتراقصُ نغمةٌ وترنيمةٌ على شفتيكَ وأنتَ تحنو على طيفِ الحبيب وهو غافٍ بين جوانحَك ..

·        هي حينما تبتسم ُ ولا تدري من أين جاءت البسمةُ لشفتيك وكلُّ ماحولَكَ ظلامٌ في ظلام..

·        هي حينما لا تطلبُ أكثرَ من أن تكونَ أنتَ كما أنتَ، وحبيبك هو كما هو لاشيءَ َأكثر ..،

·        هي حينما تختفي كلمةُ "لماذا" من تساؤلاتك حول الحبيب...،

·   هي أن تضعَ قُبلةً على جبينِ حبيبِك وتدعو أن يكونَ سالماً إن رأيتَه في الصباح، وأن يكونَ سعيداً إن اختارَ سواكَ ورَحَلَ عنك..،

·        هي حينما تستيقظ صباحاً وتقبِّل شعاعَ الشمسِ لأنه يشرقُ على جبينِ الحبيب ...،

·        هي حينما تزولُ كلُّ الموازينِ التي يحدِّدُها الغيرُ ولا تحلُّ محلَّها موازينُ أخرى بينك وبين من تحب...،

·        هي حينما يخفِقُ قلبك وَلَهاً حتى يعتصره الألم ُ لأنه عاجز عن الأتساع اكئر ليحتوي ذلك الفيض من الحب ...،

·        هي حينما تنحدِرُ دمعةٌ على وجنتِك لرؤيةِ الحبيبِ دون أن يغيبَ عن ناظريك سوى لحظات...،

·        هي أن تتمتمَ بدعاءٍ للحبيب وتبقى التمتماتُ تتردَّدُ بهمسٍ بين الخافِقَينِ والضلوع...،

·        هي حينما تحِبّ نفسك لا لنفسِك بل لأنَّها تحِبُّ حبيبَك ...،

·        هي حينما تدعو أن يطيلَ اللهُ في عمرِك لا لشيءٍ إلا لتبقى بقربِ الحبيب...،

·   هي حينما تختفي كلمةُ "أنا من كل الأحاديث بينك وبين الحبيب " إلا في قولك "أنا أحبك" النابعةِ من الأعماقِِ ودون تفكير...،

·        هي أن لا تحتاج لقول "أنا آسف" ...،

 

قاطعني قائلاً: أو ليس الاعتذارُ دليلاً للحب .... أو ليس التراجعُ عما سبب الألم للحبيب من واجبِ المحب؟

 

قلت: ولكن في قِمَّةِ الحُب لايسبِّبُ المحبُّ أذىً لمن يُحِب، وبذا تنتفي الحاجةُ للاعتذار...،

 

قال: ولكن عندَ الغضبِ يتسرَّعُ المرء ُ وقد يخطأ في التعبيرِ مما قد يسبِّب الأذى حتى لمن يُحِب..،

 قلت: في قِمَّةِ الحُبِّ لا يوجدُ غضب!،

 قال : وماذا بعد ؟ ماذا لديكِ عن قِمَّةِ الحُب؟

 قلت:

 

·  هي أن تأوي الى مرقَدِكَ تحتَ جناحِ الحبيبِ وأن تضمَّه تحت جناحِك إن رامَ الدفءَ دون أن يسأل.. وأن ترخي جناحَك عنه إن تمَلمَل...،

·          هي أن تطلقَ سراحَهُ إن ضاقَ ذرعاً بالقرب، وأن تفردَ جناحك له ليضُمَّهُ إن عاد، وبغبطة تتقبلَ رحيلَه إن لم يعد...،

 

 والحكمة تقول: إن كان في يدِك طائرٌ ابسط يدَكَ ودَعْهُ يحَلِّق، فإن عادَ لك فهو لكَ أبدا، وإن لم يعدْ فإنَّه لم يكن لك قط...،

 قال: وكأني بكِ ترتضينَ الفداءَ للحبيب، وتبتغينَ الشهادةَ في سبيلِ الحُبّ...،

 قلت : وهل ترى في كسرِ القيودِ التي تُدمي معصميّ الحُبِّ استشهاداً؟

 قال: وهل لكِ الاستعدادُ أن تكوني طَرَفاً في مثلِِ هذا الحُب؟

 قلت: ومن قال لك أنّي مؤهلةٌ للإرتقاء الى قِمَّةِ الحُب؟

 قال: فَدَيتُكِ، كنتِ قد أوصلتِني للقِمَّةِ في حلمي، وها أنتِ الآن ترسلينني للسفحِ مُتَدَحْرِجاً!،

 قلت: أحلامُكَ مِلكٌ لك، فلا نهيٌ لديَّ عليها ولا أمرُ!

أما أنا، فقد علََّمتني أمِّي أنَّ المسيرَ الى النبعِ قد يكونُ سهلاً، أما الشُربَ منهُ فهذا بحثٌ آخر..

 

ابتسم محدثي وسكت عن السؤال!

 ** انتهى المقتطف **

واقتطف لك مما قاله جبران خليل جبران عن الحب في كتاب النبي،

وأعطيك المقتطفات باللغة الإنجليزية لأن جبران، على العكس من مؤلفاته الأخرى، كتب هذا الكتاب باللغة الإنجليزية ثم ترجمه للغة العربية، ولا أريد أن أضع ترجمتي له:

** المقتطفات **

From: The Prophe

On Love:

Gibran Khalil Gibran

“When love beckons to you، follow him،
Though his ways are hard and steep.
And when his wings enfold you yield to him،
Though the sword hidden among his pinions may wound you.
And when he speaks to you believe in him،
Though his voice may shatter your dreams
as the north wind lays waste the garden.

………………….

………………….

.

When you love you should not say، "God is in my heart،" but rather، "I am in the heart of God."
And think not you can direct the course of love، for love، if it finds you worthy، directs your course

 ………….

…………

………..

But if you love and must needs have desires، let these be your desires:
To melt and be like a running brook that sings its melody to the night.
To know the pain of too much tenderness.
To be wounded by your own understanding of love;
And to bleed willingly and joyfully.
To wake at dawn with a winged heart and give thanks for another day of loving;
To rest at the noon hour and meditate love's ecstasy;
To return home at eventide with gratitude;
And then to sleep with a prayer for the beloved in your heart and a song of praise upon your lips.”

** نهاية المقتطفات **

فماذا نقول عن الحب بعد هذه البلاغة؟

 

87 : حمودي الكناني: من خلال متابعتي لما تكتبه وكتبته الهاشمي لمدة ليست بالقصيرة، أرى البحر يشكل حضورا كبيرا في أدبيات الهاشمي، فما سر هذا الحضور وهل للبحر لغة يتكلم بها؟ٍ

 ج 87 : البحر هو الحياة او منشؤها

البحر هو الجمال أو منشؤه ففيه ولدت فينوس ربة الجمال

البحر فيه الثراء... اللؤلؤ والمرجان

وفيه الكرم والجود

البحر فيه السحر وفي أعماقه كل الأسرار

البحر فيه السكون وفيه الغضب وفيه الأمان وفيه الثورة

البحر فيه السؤال : أين يبدأ العالم وأين ينتهي ... وفيه الجواب

البحر فيه المنطلق وفيه الحدود

البحر جبار في غضبه وحنون في لمسته

والبحر يتكلم لمن يفهم لغته وينصت اليه..

هل سمعت البحر وهو يغازل حبات الرمل بموجاته الحنون؟

لو استمعت اليه لعشقته كما أعشقه.. ولو سبرت أغواره وعرفت أسراره كما عرفتها أنا لوقعت أسير طلاسمه وتعويذاته وقد أعطاني بعضاً منها يوم عقدت ميثاق صداقتي معه فأصبحت جزءاً منه..

لو انك جربت الغوص فيه ورأيت جمال ما فيه لتمنيت ما تمنيته أنا ...

أن تكون نهايتي فيه!

الأخ الصديق القاص حمودي الكناني .. أشكر لك عودتك بالأسئلة التي سبرت فيها اغوار ذكرياتي .. وجعلت قلمي يبوح بما لا يبوح به كل يوم.

 

للاطلاع:

المثقف في حوار مفتوح مع ا. د. انعام الهاشمي (10)

 المثقف في حوار مفتوح مع ا. د. انعام الهاشمي (12)

 

...............................

ملاحظة: يمكنكم توجيه الاسئلة للمحاور عن طريق اميل المثقف

[email protected]

...............................

حوار مفتوح خاص بالمثقف

 

 

 

 

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1444 الخميس 01/07/2010)

في المثقف اليوم