حوارات عامة

المثقف في حوار مفتوح مع ا. د. انعام الهاشمي (ما قبل الاخيرة)

 

محمد الصالح الغريسي: شاعر ومترجم تونسي: هي ذات عارفة، جريئة في قول ما تراه الحقّ، تدافع عنه بجرأة الواثق لا بإصرار المعاند.لا أدّعي أنّي أعرف عنها كلّ شيء، ولا أنّني من المثابرين على قراءة كلّ ما تكتبه.و لكنّني من خلال ما أتيح لي قراءته من نصوص إبداعيّة، وأخرى مترجمة، ومن خلال تعاليقها وردودها على القرّاء، يمكنني القول بأنّنا أمام حالة إبداعيّة لا تشبه إلاّ ذاتها، لأنّها تصدر في ما تكتب، عمّا تعرفه لا عن رغبة في التّخمين والتّأويل، والاستقراء المجّانيّ، وهذا ما قصدته من وصفها بالذّات العارفة.و لا غرابة في ذلك وهي الأكادميّة الّتي تدرّس في الجامعة، تعلّم طلبتها البحث المنهجيّ عن المعارف والعلوم، لا الاقتصار على تسجيل ما قد يطرح عليهم من معلومات جاهزة.و إن كانت لا تشبه إلاّ ذاتها، فلأنّها معتدّة برأيها وبفكرها، وبقراءتها الموضوعيّة للواقع، ولكلّ ما يطرح أمامها من أفكار، وليست منتهجة ما انتهجه غيرها، متبنّية آراءهم بسلبيّاتها وإيجابيّاتها، مردّدة لما يزعمون أنّه الصّواب.و هي لا تتخلّف عند اللّزوم، عن الإشادة بالرأي الصّائب دون إغراق في الإطراء والمجاملة المجّانيّة، كما أنّها لا تتخلّف عن نقد الرّأي الّذي تراه قد جانب الصّواب، دونما وجل ولا مداراة، ودون مغالاة في تصيّد العيوب والنّقائص.

و الملفت للنّظر أنّك، وأنت تقرأ لها أو تقرأ ردودها وتعاليقها، تنسى تماما مسألة الجندرgender، الّتي غالبا ما سيطرت على ثقافتنا العربيّة رجالا ونساء على حدّ سواء .فأنت أمام إنسان ذي عقل مستنير متشبّع بالقيم، غنيّ بالأفكار تحترمه، ليس لأنّه رجل أو امرأة، وإنّما لأنّه يستحقّ الاحترام.

و لقد لمست في ردودها على أسئلة الإخوة كتّاب "المثقّف" رصانة في الردّ وعمقا في فهم أبعاد هذه الأسئلة، وثراء في طرح أفكارها .و قد تردّدت في البداية، في الانخراط في هذا الحوار، لحداثة عهدي بــ"المثقّف"، ولكنّي أدركت فيما بعد، أنّها فرصة تتيح لنا تكسير تلك الحواجز النّفسيّة الّتي تختفي وراء كلّ واحد منّا، والّتي قد تجعل الواحد منّا يتمترس وراء ما يعتنقه من أفكار، وما قد يعتقد أنّه الحقيقة المطلقة الّتي لا تقبل النّقاش، الأمر الّذي قد يحول دون التّواصل بين الكتّاب على اختلاف آرائهم وتنوّع توجّهاتهم، أو يحدّ منه.

إنّها الأديبة الدّكتورة إنعام الهاشمي، أو كما يحلو لها أن تسمّي نفسها - حرير وذهب- وهو اسم على مسمّى.هذه صورتها كما أراها بلا مجاملة، ولا رمي ورود.و إنّها لتستحقّ أن ترمى بالورد والياسمين، فهي أهل لذلك.

 

س 88: محمد الصالح الغريسي: الدّكتورة المحترمة إنعام الهاشمي:و أنت العربيّة المهاجرة، والأمريكيّة المواطنة، والنّموذج المشرّف للشّرق والغرب معا. .بم أنت معنيّة ؟بالغرب النّاهض أم بالشّرق المتخبّط ؟كيف تطرحين مسألة الهويّة؟

ج 88: الأستاذ الأديب محمد الصالح الغريسي، وأنا أجيب على أسئلتك لابد لي أولاً التنويه ألى حقيقة ان هذه الحلقة تأتي الآن كحلقة قبل الأخيرة.

بعد إرسالي الحلقة الأخيرة للنشر وختامي لها على أنها الحلقة الأخيرة ذهبت في نومة عميقة وهو ما افعله عند نهاية أي مشروع . وعندما استيقظت وفتحت بريدي وجدت رسالة من المحرر مرفق بها اسئلتك .

فتذكرت تقليداً سورياً هو أن يكون آخر ما يقدم للضيوف، إعلاناً عن قرب نهاية الزيارة، هو فنجان القهوة والشوكولاتة. وتذكرت إننا لم نقدم فنجان القهوة ولا الشوكولاتة، فقلت من حق الزائر أن يشرب القهوة قبل أن نغلق بابنا.. ولهذا عدت لتقديم فنجان القهوة وبذا اصبحت هذه الحلقة ما قبل الأخيرة.

مضافاً ألى ذلك، كدافع للعودة، ماجاء من الكرم في كلماتك التي تقدمت رسالتك. ألف شكر لك على حسن ظنك وكرم انطباعاتك، وعسى ان يكون في إجاباتي بعض الضوء ليضيء الزوايا التي لم اتطرق لها في الحلقات السابقة.

 

 وبدءاً للإجابة على سؤالك الأول أقول:

You can take the woman out of Arabia, but you cannot take Arabia out of the woman!

 

 أقول كما قلت في المقدمة أنا أمريكية بقلب عربي. أمريكية بحكم جنسيتي التي اخترتها وبحكم القسم الذي اقسمته حين اخترت مواطنتي الأمريكية. والمواطنة لا تؤخذ على أنها حركة انتهازية .فكما للمواطن حقوق، عليه واجبات ومنها حب الوطن. والقلب يتحكم بالعاطفة ولايمكن للفرد إلا يستجيب لحكم قلبه ولكن مهمة العاقل هو الموازنة بين القلب والعقل. وهذه هي المهمة الصعبة التي تتنازع المواطن الذي ولد في ارض أخرى غير التي يحمل جنسيتها.

كمواطنة أمريكية عشت في اميركا سنوات اطول من معيشتى خارجها، أجد نفسي أكتر طمأنينة وراحة فيها. خاصة وأنها تتيح لي أن أكون ما أود أن أكون. فأنا هنا أمريكية بكل معنى الكلمة ولكني في الوقت ذاته لا أنسى أنني انتمي أيضاً إلى أثنية ضمن الأثنيات المتعددة. أميركا لا تنكر علي امريكيتي ولا تنكر علي اثنيتي ولا تطلب مني التجرد منها ولهذا أجدها مصدر فخر لي ولا اتنكر لها، بل العكس أجد أنها تعطيني تميزاً كما تضع واجباً على عاتقي لأمثل أثنيتي على أجمل وجه. لا أحد ينكر أن الغرب قد قطع اشواطاً في التقدم الحضاري وسبق الشرق في الكثير من الميادين، ومن اتيحت له الفرصة ان يكون جزءاً من هذه الحضارة هو من المحظوظين دون شك، على أن يستفيد من الحضارة ويأخذ منها ما يضيف ألى قيمته كإنسان. ومن ولد في أرض أخرى فإن له من الحظ مالم يتوفر لمن ولد على أرض اميركا، وذلك بماهيأته له حضارته الأولى، فهذا الفرد هو شخص نهل من حضارتين، وما يأخذه من كل منهما هو مايحدد معالم شخصيته. أنا أفخر بكلتا الحضارتين اللتين اضفتا عليَّ مميزات شخصيتي.

كل منهما لها مزاياها ولها عيوبها. ما يجري في الشرق من تمزق لا يعكس حضارة الشرق التي اعرفها، الصور التي تعرضها الميديا لا تمثل جوهر الحضارة العربية. وكم يؤلمني أن أسمع عربياً ينتقد العرب وكأنه ليس واحداً منهم. النقد والانتباه للعيوب لإصلاحها شيئ والأنتقاد اليائس شيئ آخر. لنأخذ العراق مثلاً، إنه يمر بحالة استثنائية، حالة تمزق، كل فئة فيه ترمي اللوم على الفئة الأخرى والسفينة تغرق.

 انه كالغابة التي تحترق، ولكن حين تحترق الغابة فإن هناك أملاً في أنها ستجدد نفسها وهذا ما آمله. مايؤلمني في حالة الشرق والعراق خاصة أن المثقفين قد نسوا ثقافتهم، ولو نظر المثقف إلى نفسه وترفع عن السلوكيات التي يعيبها على غيره، ولو أخذ الشرق من الغرب الكِتاب كما أخذ التلفون النقال، ولو أخذ الشرق من الدين روحه بدلاً من شكلياته لقطع اشواطاً نحو الرقي والتقدم.

أنا غير معنية بالهوية فأنا أعرف من أنا .. أنا قبل كل شيء إنسانة ومعنية بالإنسانية.. أخترت أن أكون أمريكية المواطنة وولدت عربية الأثنية .. وهذه صفات ثانوية لا تتقدم الصفة الإنسانية، وكل الحضارات الإنسانية حضارتي، وليس هناك ما يمنعني من أن أنهل منها. وليتقدم العالم، اي جزء منه لي حصة فيه. إن عم السلام العالم لي حصة فيه وإن عم الخراب أي جزء منه عم علينا أجمعين، فالعالم أصبح قرية صغيرة ما يحدث في جزء منها يعمها كلها.

وأخيراً:

كما كان أول نشيد تعلمته واحببته هو نشيد موطني .. فأنني أحببت أغنية أميركا الجميلة، واليك مقاطعاً منها:

 

O beautiful for spacious skies,

For amber waves of grain,

For purple mountain majesties

Above the fruited plain!

America! America!

God shed his grace on thee

And crown thy good with brotherhood

From sea to shining sea!

 

O beautiful for pilgrim feet

Whose stern impassioned stress

A thoroughfare of freedom beat

Across the wilderness!

America! America!

God mend thine every flaw,

Confirm thy soul in self-control,

Thy liberty in law!

 

 

 

س 89: محمد الصالح الغريسي: في ما يسمّيه البعض بحوار الثّقافات، وما يسمّيه البعض الآخر بصراع الحضارات.كيف ترين الأنا والآخر، من خلال تجربتك الشّخصيّة في معايشتك للعقليّتين الشّرقيّة (المشرق العربي) والغربيّة (الولايات المتّحدة الأمريكيّة)؟

ج 89: لو سلمنا بأن حضارة الإنسان هي حضارة واحدة مرت بعصور مختلفة ساهمت في تكوين الناتج النهائي للحضارة مبتدئأ بعصر الامبراطوريات الزراعية المتصارعة بينها، ومروراً بالأمبراطوريات التجارية والاستكشاف وانتهاءً بالأمبراطوريات الصناعية لقلنا أن لا وجود هناك للصراع الحضاري. قد يكون حواراً بين مرحلة متقدمة من الحضارة الواحدة ومراحل متأخرة منها. ولكن النقطة الأساسية هي ليست الحضارة بحد ذاتها، وإنما المصادر الاقتصادية التي تتمحور حولها هذه المراحل الحضارية. فالدول التي قطعت أشواطاً في مراحل استحالة الحضارة، والتي اصبحت تملك الوسائل الصناعية المتقدمة ما زالت بحاجة الى المصادر الطبيعية المتوفرة في المناطق الأخرى كالزراعية التي أغنتها عن السير السريع للوصول للمرحلة المتقدمة من الحضارة، أي الصناعة وبضمنها آخر التطورات وهي الذرة والتكنولوجي ، هذه التطورات في الدول الصناعية الكبرى تمكنها من الوصول الى المصادر الطبيعية المتوفرة في المناطق الأخرى التي لم تبلغ ما بلغته هي من التقدم . إذاً الموضوع ليس موضوع صراع حضارات وإنما هو صراع على مصادر الثروة التي تغذي التقدم والتي لا يمكن للتقدم أن يستمر دونها.

والنقطة الثانية أساسها الصراع من أجل البقاء. لو نظرت ألى المناطق التي تعرضت الى الغزو على مر العصور، تجدها الأراضي الخصبة، التي تحتوي على مصادر مائية وممرات ستراتيجية الى مناطق أخرى فيها من المصادر ما تحتاجه المرحلة المتقدمة من الحضارة لتستمر في تقدمها.

المحرك الآخر هو الخوف، الخوف من الإنقراض، فالحضارات والامبراطوريات السابقة سادت ثم بادت، فمهما وصلت من الصعود لا بد لهذه المرحلة الحضارية من أن تنتقل الى مابعدها. الدول الصناعية العظمى تعاني من التلوث البيئي. المياه فيها تتحول تدريجيا الى سموم، والهواء ايضاً يتشبع بالسموم، وما دام العقل لم يتوصل الى تخيل المرحلة القادمة فإنه ينظر الى مراحله السابقة كحل وسيط، ومن هنا تأتي محاولة السيطرة على مناطق أخرى لم تصل المرحلة الصناعية التي وصلتها كمكان آمن محتمل، ومن هنا يأتي التحرك للغزو، وقبل الغزو أو أثناءه، أو بعده مباشرة، يلجأ الغازي الى تحويل المكان لما يلائم ويتفق وطريقة معيشته كأن يزرع فيه مبادئ الديمقراطية، وكذلك تغيير طرق التعامل فيه بما يتناسب والمراحل المتقدمة من الحضارة التي ألفها كأن يدخل طرق تجارية وطرق استثمار جديدة. وإن لم يستطع التغيير لجأ إلى الإبادة. ومن الطبيعي أن تظهر مقاومة للطرق الدخيلة وهذه المقاومة نابعة عن الخوف من الإنقراض أو الإبادة المحتملة، إما عمداً أو بسبب شحة الموارد نتيجة للغزو. إذن أعود للقول هو صراع على المصادر من أجل البقاء يحركه الخوف من الإنقراض وليس صراع حضارات.

بقي على البشرية أن تسرع للوصول الى المرحلة القادمة من الحضارة بأيجاد مصادر جديدة تحد من حدة الصراع من أجل البقاء.

هذه هي فكرتي عن صراع الحضارات الذي ينم عن العنف او حوار الثقافات الذي يشير الى تكاتف وتعاون الفكر الانساني لتجنب عواقب الصراع.

هذا على النطاق العام ونطاق الدول. أما تجربتي الشخصية فأقول أن البشر كأفراد هم متشابهون جداً وسلوكياتهم لو جردتهم عن المجموعة التي ينتمون اليها واللغة التي يتواصلون معك عبرها لرأيت الكريم والبخيل واللطيف والعدائي والمتعجرف والمتعالي والشرير والطيب، ولا يمكن التعميم . غير ان الفرد يتغير سلوكه حين يكون بين مجموعته فترى السلوك الجماعي يطغي على الفردي ومن لا ينتمي الى المجموعة كليا قد يشعر بالغربة أن هو ركز على الاختلاف بدلاً من التشابه.. وكذلك إن نظر على الإختلاف على أنه معيب بدلاً من أن يجعله ميزة. وهنا يأتي دور الحوار الثقافي. أي انني اعلم ان هناك اختلافات بيني وبينك ولكن لا أجدها حواجز تفصل بيني وبينك. إن الإنسان يتخوف مما يجهله. وكلما ارتفع مستوى ثقافة الفرد كلما تغاضى عن الفروقات.

 هناك جماعات ممن يتعالون على كل من يتكلم بلكنة وهناك من يستمع للكنة الأجنبية ويعتبرها شيئا جميلاً. "فرناندو لاماس"، الممثل الامريكي من أصل أسباني، له مقولة جديرة بالذكر، في مقابلة تلفزيونية قال له الاعلامي: " رغم طلاقتك باللغة الإنجليزية ورغم السنوات الطويلة التي عشتها في الولايات المتحدة أراك مازلت تتكلم بلكنة اسبانية"

رد عليه بقوله: "حينما تسمع شخصاً يتكلم بلكنة فاعلم أنه يتكلم لغة أخرى لاتتكلمها أنت!"

 

س 90: محمد الصالح الغريسي: وأنت المدرّسة الجامعيّة النّاجحة، ماذا تعيبين على نظم التّعليم العربيّة دون تحديد، وما هو المطلوب منها - في تصوّرك - كي تنهض؟

 ج 90 : اولاً ليس لي إطلاع على طرق التدريس الحديثة في المدارس العربية ولكني إن قست على الطرق القديمة فتخميناً أنها لم تتغير كثيراً . تلك الطرق التي اتحدث عنها هي التي تعتمد على الحفظ والإستذكاربدلاً من الإبتكار. فالحفظ لا يساعد على تنمية الكفاءات الفردية لدى الطالب وبناء قدرته على التفكير الخلاق، بل يعلمه كيف يتبع الطريق الذي رسمه المعلم له، فإن تغيرت الخارطة تاه الطالب.

الأستاذ أيضاً يتبع الخطة المرسومة له ولا توجد حرية أكاديمية حتى في الجامعات. كما أن الطالب لا يتمتع بالحرية والمرونة في اختيار بعض المواد التي تدخل في برنامجه الدراسي مما يوفر له اتساع الأفق ويتيح له الحصول على الثقافة العامة خارج نطاق اختصاصه، كل الطلاب يتلقون نفس المواد وهي مفصلة لهم على قياس واحد دون الالتفات إلى ما قد يكون بينهم من فروق في الاهتمامات. ومن الناحية الأخرى قد لا تتوفر مؤلفات متنوعة تصلح لأن تكون كتب مقررة في الدراسات الجامعية بالتنوع الذي يتيح للأستاذ تعدد الخيارات. كما قد يعتمد الطالب أساساً على ما يدونه من ملاحظات أثناء المحاضرة. لتكون مصدره الرئيسئ في المذاكرة. تقييد الأستاذ بمنهج مرسوم جامد يقتل لديه القوى الخلاقة والموهبة الفردية، وبالتالي ينعكس ذلك على الطالب انعكاساً مباشراً حيث يحد من قابلياته الأبداعية ويجعل منه صوتاً وصدى يردد ما جاء على لسان المدرّس.

وهناك ملاحظة واردة ولا تقتصر على قطر دون آخر في الشرق، ألا وهو " التأليه" الذي يجعل من الخروج على ماقاله الأولون كفراً لا يغتفر. والتأليه قد يكون للإسم دون وعي لمضمون القول المنسوب له، فضلاً عن تحليله والاختلاف معه. وهذه الظاهرة، في نظري، هي من أخطر العلل التي تصيب الثقافة وتقف في سبيل قيام المؤسسات العلمية بدورها التثقيفي. كل فكر يظهر للوجود هو قائم في أساسه على فكر آخر سبقه، ومهما كان له من سند فليس من المنطق او المقبول ان يسمح له بمصادرة حق القارئ أو الباحث في الاختلاف معه، الفكر لا يخضع الى مسلّمات، ودور المؤسسات الثقافية أن تخلق المحفزات التي تؤدي للتساؤل حول ماهية الأفكار التي سبقت والأسس المنطقية التي قامت عليها، ومن ثم الإضافة اليها أو نقضها والوصول الى مايتفق والحقائق الجديدة التي كشف عنها التساؤل والتشكيك بما كان. وهذا لا يتحقق مع انتفاء الحرية الأكاديمية ودون التخلص من التسليم بالموروث الجامد.

أقترح اهتمام المؤسسات العلمية في الوطن العربي بالتقييم الذاتي ودراسة المعايير العالمية في طرق التقييم وقياس الجودة، وعقد الندوات بين المتخصصين للبحث في تطوير طرق التدريس واستحداث طرق حديثة من شأنها أن تثير لدى الطالب الرغبة في البحث والتقصي وتشجعه على التميز. كذلك تهيئة ايفادات ضمن تبادل ثقافي مع مؤسسات تعليمية في بلدان أخرى متطورة لدراسة محتويات البرامج التدريسية، او لحضور مؤتمرات أكاديمية وورشات عمل تبحث في تطور طرق التدريس، ومن ضمنها تهيئة التكنولوجي للطالب وإدخالها الى قاعة الدرس في سن مبكرة. ليس كبيراً على الدول التي تسبح في الذهب الأسود أن تهيئ مثل هذا المصدر في مدارسها. ولكن في البداية يجب إعداد المدرس وتأهيله لاستعمال مثل هذه الوسائل في الصف. والبحث العلمي لا يمكن تشجيعه ما لم توجد مكتبات عامرة بمصادر البحث المتجددة. ومن الجوانب التي يغفل عنها التعليم هو أهمية التعاون التطبيقي بين الجامعات والمؤسسات الأخرى، أي مد جسور بين المؤسسة التعليمية والمؤسسات الأخرى التي تستخدم الخريجين لمعرفة ما تبتغيه هذه المؤسسات في خريجي المؤسسات التعليمية.

ما أقوله هنا هو عموميات محدودة بطبيعة الحوار هدفها لفت النظر لبعض النقاط، ولكن الموضوع يحتاج إلى دراسة جدية وبحث شامل من قبل المهتمين بأمور التعليم.

 

س 91: محمد الصالح الغريسي: نرى مسألة المرأة، في الشّرق كما في الغرب، تطرح في كثير من الأحيان للابتزاز السّياسيّ، أو من قبيل البذخ الثّقافيّ.كيف تقيّمين ما حقّقته المرأة لتقديم نفسها بين الشّرق والغرب؟

مع أجمل تحيّات: محمد الصالح الغريسي

ج 91: المرأة الغربية تؤمن بقضيتها ولا تنتظر من الرجل أن يحمل راية حقوق المرأة في حين في الشرق ينبري الرجل ليحمل راية المرأة، ولكن حتى في الغرب لا زالت أمور المرأة بيد الرجل بحكم الأكثرية وذلك لدخول المرأة متأخرة الى عالم صنع القرارات.، فلم تحصل المرأة الغربية عى حق التصويت حى عام 1920 وذلك بجهود إمرأة هي سوزان بي انثوني التي حوكمت لمشاركتها بالأنتخابات قبل صدور القانون الذي اعطى للمرأة حق التصويت، وكانت حجتها أن القانون لا يحدد الجنس الذي يحق له التصويت. ولم يشرع حق المرأة في التصويت إلا بعد اربعة عشر عاما من وفاتها.

المرأة في الشرق لا تقيدها القوانين فحسب وإنما يقيدها العرف والعائلة والعشيرة في حين ان المرأة الغربية قد تخلصت من قيد العشيرة والعائلة المباشر وحققت المكاسب القانونية التي أعطتها الحق في العمل والمشاركة في الحياة السياسية ولكنها ما زالت تصارع قيد الأكثرية وقيد السقف الزجاجي، كما أنها لم تتخلص من العنف الذكوري المتمثل بالإغتصاب الذي تبقى المرأة اسيرته في الشرق والغرب. رغم أن القانون في الغرب يحدد عقوبات صارمة على المعتدي، تبقى المرأة المغتصبة تعامل كأنها المذنبة وليست الضحية مما يدفع الكثير منهن الى عدم التقدم بشكواهن خوف الفضيحة ومعاملة رجال القانون لها بالتحقيق في كل ماضيها للتشكيك بصحة شكواها.. وكما في أي مجتمع، قد تعاني المرأة من التحرش والضغط من قبل الرئيس الذكر على المرؤوسة الأنثى، وقد شددت العقوبات القانونية على هذا النوع من التحرش ولكن تبقى مشكلة الإثبات قائمة خاصة إذا كان الرئيس ذا نفوذ سياسي واجتماعي، ولكن هذه الحالات ليست منتشرة وأصبح الرجل في العمل أكثر حذراً في تعامله مع المرأة خاصة وأن هذا القانون قد استغلّ من قبل بعض النساء في بعض الأحيان حتى أصبحت المجاملة البريئة أو الحركة العفوية سببا لمقاضاة القائم بها إذا كان في مركز قوة كأن يكون رئيساً مقابل مرؤوسة أو أستاذا مقابل طالبة أنثى.

في البيت حققت المرأة الغربية المساواة إلى حد كبير ولكن ذلك يعتمد على مدى ثقافة الرجل ومازالت هناك مشكلة العنف المنزلي الذي تعاني منه الكثيرات من النساء والذي تحاول الجمعيات النسائية محاربته بتهيئة منازل للنساء اللواتي يتعرضن لهذا النوع من العنف يهيئ لهن الاستقلالية لتخليص أنفسهن من ظروف العنف المنزلي وكذلك الإرشاد والتثقيف لرفض العنف.

في حالات العنف المنزلي يسيطر الرجل العنيف حتى يضعف إرادة المرأة في التخلص من هيمنته، كما هو الحال في خضوع الفرد للحكم الدكتاتوري حيث يشل الدكتاتور إرادة المحكوم حتى يخضع ويسلم بعدم قدرته على التحرك. وهناك قصة قد يجدر ذكرها في هذا المجال وهي قصة الفيل.

مر سائح غربي على راعي فيلة فرأى أن الفيلة لا يربطها سوى خيط رفيع يشد رجلها الى جذع شجرة والفيلة واقفة في مكانها لا تتحرك. استغرب السائح وتساءل كيف أن الفيلة بضخامتها تلك لم تحاول قطع الخيط وتحرير أنفسها. أجاب الراعي أن الفيلة هذه ربطت بالخيط منذ مولدها ولهذا بقيت تظن انها لا تقوى على قطعه.

هذا هو الجانب المظلم من حياة المرأة الغربية ولكن الجوانب المضيئة تفوق الجوانب المظلمة. كحقها في العمل والتحصيل العلمي ومؤخراً ازدادت نسبة الإناث الى الذكور على مقاعد الدراسة وخاصة العائدات الى الدراسة ممن لم تتهيأ لهم فرصة الدراسة الجامعية في مقتبل العمر. الرجل الغربي أكثر تقبلاً للمشاركة بالأعباء المنزلية خاصة إذا كانت المرأة عاملة كما أن الكثير من الرجال أصبحوا يتقبلون دور البقاء في البيت لرعاية الأطفال إن كانت فرص الزوجة اكثر في الحصول على عمل.

وفي مجال السياسة والعلم، أذكر أمثلة على تحقيقات المرأة قي أوائل النساء::

• أول طبيبة تخرجت في كلية الطب كانت سنة 1849 هي Elizabeth Blackwell وهي أمريكية.

 

• اول رائدة فضاء ارسلت الى الفضاء كانت سنة 1962 هي Valentina Vladimirovna Tereshkova وهي روسية

• أول فضائية أمريكية ارسلت للفضاء اكانت 1983 وهي Sally Ride

• أول إمرأة تدلي بصوتها في الإنتخابات الفيدرالية الأمريكية هSusan B. Anthony سوزان بي أنثوني وحوكمت وأدينت حيث لم يكن يسمح بمشاركة النساء قبل صدور القانون الذي منحها حق التصويت سنة 1920

• أول إمرأة أمريكية في الكونجرس الأمريكي كان سنة 1916 وهي Jeannette Rankin وهي الوحيدة التي صوتت ضد اشتراك االولايات المتحدة في كلتي الحرب العالمية الأولى والثانية، وهي صاحبة القول:

I may be the first woman in the Congress, But I will not be the last!”

• أول إمرأة ترشح نفسها لرئاسة الولايات المتحدة كان في سنة 1872 وهي Victoria Claflin Woodhull

• أول إمرأة امريكية من اصل افريقي تدخل سباق رئاسة الولايات المتحدة كان في سنة 1972 وهي Shirley Chisholm

• أول مرشحة لمنصب نائب رئيس الولايات المتحدة عن الحزب الديمقراطي كان في سنة 1980 وهي Geraldine Ferraro

• أول مرشحة لمنصب نائب رئيس الولايات المتحدة عن الحزب الجمهوري كان في سنة 2008 وهي Sara Palinولعل ماحدث مع ترشيح سارا بيلن من ملابسات وخلافات تظهر موضوع ال جندر gender على اشده حين افتضح أمر المبلغ 150000 $ الذي انفقه الحزب الجمهوري على الملابس والمكياج وتصفيف الشعر لسارا بيلن لإظهارها بشكل جذاب حين اتضح  خواؤها المعرفي من خلال المقابلات التى أجرتها معها الإعلامية كاتي كوريك وكذلك الإعلامي تشارلي روز . هنا يظهر كيف لعب الجندر دوره كورقة لعب اساسية في التنافس بين الأحزاب في الإنتخابات الرئاسية الأمريكية، وكيف استخدمت المرأة كأداة للإبتزاز السياسي.

 

• أول رئيسة وزراء لبريطانيا سنة 1979 الى 1990 والوحيدة التي تبوأت هذا المنصب هي Margaret Hilda Thatcher

• أول وزيرة خارجية أمريكية عينها بيل كلينتون في 1997 وهي

Madeleine Korbel Albright

• وهيلارى كلنتون رغم أنها لم تكن أول وزيرة خارجية للولايات المتحدة، فهي ظاهرة نسائية ليس فقط في الولايات المتحدة بل أجازف وأقول في العالم. فهي الوحيدة من بين زوجات الرؤساء Firt Ladies اللواتي تبوأن منصب منتخب كسيناتور في الكونجرس الأمريكي، ومن ثم منصب وزيرة خارجية للولايات المتحدة بتعيين من الرئيس أوباما الذي نافسته على الرئاسة حتى فاز عليها بترشيح الحزب الديمقراطي والرئاسة بعد ذلك. ولا أستبعد أن تكون هيلاري اول رئيسة للولايات المتحدة.

 

أما في العراق، فقد حصلت المرأة على حقوقها المتساوية في التحصيل العلمي والتعيين والإنتخاب إبان حكم عبد الكريم قاسم بعد ثورة 14 تموز، 1958، ولكن بقي حقها في الانتخاب معلقاً لعدم تحقق الاستقرار السياسي ولذا لم يطبق حقها في الانتخاب فعلياً حتى مارست هذا الحق بعد الاحتلال وشاركت في التمثيل النيابي. أما القيود التي فرضت عليها فهي اجتماعية وعائلية.

• أول وزيرة عراقية كانت سنة 1958 في أول حكومة شكلت في زمن عبد الكريم قاسم وكانت الدكتورة نزيهة الدليمي وزيرة البلديات.

 أول وزيرة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي التي استحدثت اواخر الستينات. كانت الدكتورة سعاد خليل اسماعيل البستاني.

• عام اول فتاة عراقية دخلت كلية الطب في بغداد وتخرجت فيها سنة 1939 هي أنا ستيان.

• أول من تخرجت في كلية الحقوق 1941 الحقوقية الأولى صبيحة الشيخ داوود ومن ثم عينت قاضية "رئيسة" لمحكمة الأحداث. والتي أسست "أول الطريق" للدور الريادي للمرأة العراقية والعربية بصورة عامة.

ولا أنسى دور النساء الأخريات اللواتي ساهمن في تحريك دور المرأة على هذا الطريق من كاتبات وأديبات ومساهمات في تأسيس الحركات والجمعيات النسائية التي أرست الأسس لتقدم المرأة العربية اللواتي لا تسع هذه السطور ذكر كل أسمائهن.

 

الأستاذ الأديب محمد الصالح الغريسي، أتوقف عند هذا الحد وأتقدم لك بشكري مرة أخرى على مشاركتك الكريمة في هذا الحوار المفتوح .

دمت بخير.

 

...............................

حوار مفتوح خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1448 الاثنين 05/07/2010)

 

في المثقف اليوم