حوارات عامة

حوار حول: التعليم والاستقلالية والفضيلة المدنية

علي رسول الربيعيهذا حوار هو نتيجة نقاش مع مجموعة من الأساتذة (الزملاء) عن قضية التعليم والاستقلالية والفضيلة المدنية. وقد وجهت لي هذه الأسئلة في سياق النقاش وكانت إجاباتي بعد تحريها وإعادة الصوغ لبعضها كالآتي:


س/ ماهي التربية في علاقتها بالتعليم من وجهة نظرك؟

ج// التعليم هو أن تكون هناك طريقة واضحة لمحاولة تنمية ميول مثل الإيثار المشروط. فالتعليم يعني القيادة أو الاستنتاج، وينطوي على تطوير الإمكانات داخل الشخص. ويمكن أن يتكون هذا من نشاط استخلاص قدرة معينة، مثل القدرة على أداء بعض المهارات أو الحرف. ومما له أهمية جدا هو ترسيخ الفضيلة المدنية الاستقلالية.

فكثيرًا ما جادل المنظرون بضروري ترسيخ الفضيلة المدنية في "تعليم وتربية الرغبة". يعني هذا أننا يجب أن "نسعى لتأمين أولويًة الخير العام على الخاص ولكن ليس من خلال إخماد أو تبعية الرغبات الشخصية وتشكيلها بدقة. إذا كان الإيثار المشروط مكونًا رئيسيًا فيبدو الدفاع عن "تربية الرغبة" مهما ايضًا. طبعا ليس من الممكن ولا من المرغوب فيه أن نأخذ تفضيلات الناس كما هي معطاة، لكن هذا لا يعني تشكيل الرغبات والعواطف بدقة وضبط.

س/ ما هو هدف التربية والتعليم؟

ج// بالنسبة لي، إن جزءًا من هدف التربية والتعليم هو مساعدة الناس على العيش بشكل مستقل. فالتعليم كما أرى تمكين الناس من التحكم في رغباتهم وشغفهم حتى يتمكنوا من العيش كأفراد مستقلين في مجتمع مع أفراد مستقلين آخرين.

س/ ماذا يعني تنمية الاستقلالية في التربية والتعليم؟

ج// الاستقلالية، هي القدرة على عيش حياة ذاتية الحكم، وتشمل قدرة المرء على التفكير في معتقداته ورغباته وظروفه؛ ولقيادة الطلاب إلى مثل هذا التفكير يكون من خلال اطلاعهم وتعليمهم، في الوقت المناسب وبطرق مناسبة، لمعتقدات وممارسات مختلفة، وهذا يعني تنمية الذات ايضًا.

س/ ماذا تعني الفضيلة المدنية في التربية والتعليم؟

ج// الفضيلة المدنية هي النزعة للعمل لصالح المجتمع ككل؛ لا يمكن لمثل هذا التصرف أن يتطور في مجتمع متنوع ثقافيًا إلا إذا اكتسب الطلاب إحساسًا واقعيًا بكيفية اختلاف أعضاء مجتمعهم عن بعضهم البعض.

س/ إذا كان ادعاءاتك تقدم تفسير مقنع لأهداف التعليم وهي كما تقول: تعزيز الاستقلالية والفضيلة المدنية. ألا يفترض هذا الادعاء أنه يجب أن يكون هناك غرض أو مجموعة من الأغراض التي تحدد التعليم؟

ج// يبدو أن المدارس مثل المؤسسات الأخرى بحاجة إلى أدراك الهدف والاهتمام بفكرة عما يفترض أن تفعله والذي يوجه أنشطتها ويضع معايير لتقييمها. أن المدارس العامة، مُوجَّهة لمتابعة التميز الأكاديمي. وكذلك فيما يتعلق بمهمتها التربوية، ولكن دون إصدار أي أحكام قيمية؛ ودون اتخاذ موقف بشأن القضايا الجدالية في كل مجتمع.

س/ كيف يكون الحل الواضح لهذه المشكلة؟

ج// يكون الحل الواضح لهذه المشكلة في إيجاد أو صياغة إجماع على الغرض أو الأغراض المناسبة للتعليم. هذا هو المسار الذي أراه مناسبا.

س/ ولكن ألاً ترى أن هناك طريقة أخرى لحل المشكلة متمثل في التوجه نحو السوق من قبل أولئك الذين يتصورون المواطنين كمستهلكين؟

ج// نعم هذا نهج معروف وشائع التعليم ويسمى بنهج او مقاربة الاختيار وهو يتألف من ثلاث خطوات: (1) التخلي عن الأمل في التوصل إلى توافق في الآراء بشأن غرض (أوضاع) التعليم؛ (2) السماح لكل مدرسة بتحديد غرضها (أغراضها)؛ و(3) تشجيع المنافسة بين مجموعة متنوعة من المدارس التي تسعى إلى مجموعة متنوعة من الأهداف.

فكما يرى ممثليه: ليس للمدارس هدف ثابت. يعتمد ما يفترض أن تقوم به المدارس على من يتحكم فيها وما يريد هؤلاء المتحكمون منها القيام به. وبالتالي، فإن الحل الأساسي للمشكلات التعليمية هو اعطاء الحرية للمدارس لمتابعة أي أهداف تراها مناسبة، وبالتالي منح الحرية للآباء والطلاب من اختيار المدارس التي تناسب تفضيلاتهم. بعبارة أخرى، يجب أن تتنافس المدارس على العملاء في السوق، وستجد المدارس الناجحة مكانها المناسب.

س/ بما أنك شرحت هذا النهج في التعليم، فهل يمكنك ان تشير ولو الى بعض مزاياه؟

من المؤكد أن هذا النهج في التعليم له مزاياه، إنه فقط في أكثر أشكاله تطرفاً، فإن "الاختيار" التعليمي يفلت حقاً من الحاجة إلى التوصل إلى نوع من الاتفاق حول أغراض التعليم.

س/ وإذا كنا لا نرغب في اتباع عقلية السوق إلى هذا الحد ماذا علينا أن نفعل؟

ج// يتعين علينا مواجهة مهمة إبرام اتفاق بشأن أغراض التعليم، أو بشكل أكثر تحديدًا، ما نريد أن تقوم به المدارس. ليست هذه مهمة سهلة في مجتمع حديث تعددي لكنها ليست مشكلة مستعصية أيضًا. هناك أهداف تعليمية، وإن كانت عامة، تحظى بدعم واسع النطاق. يتضح هذا في التمييز الضمني الذي يتم رسمه بشكل فردي بين مختلف المدارس المتخصصة - مثل كليات إدارة الأعمال، وما إلى ذلك. بالطبع الغرض من هذا الأخير ليس إعداد الناس لمهنة أو نشاط معين فقط ولكن بطريقة ما إعدادهم للحياة. بعبارة أخرى، هناك فرق بين التدريب، وهو عمل المدرسة المتخصصة، والتعليم، وهو عمل المدرسة على هذا النحو.

س/ ألا تشير هذه الفروق إلى أن مهمة التوصل إلى إجماع حول أهداف مدارسنا ليست ميؤوس منها؟

ج// نعم ولكن حتى لو أضفنا أن الغرض من التعليم هو بطريقة ما إعداد الناس للحياة، فلا يزال يتعين علينا التوصل إلى اتفاق بشأن ما يستتبعه "إعداد الناس للحياة". نظرًا لتنوع الآراء حول كيفية عيش الحياة، فليس من السهل رؤية كيف يمكن القيام بذلك. اقتراحي هو على الإجابة أن تكون بدون تحديد طريقة معينة للحياة بوصفها الطريقة التي يجب على الجميع اتباعها. المهم أن يكون الناس مستعدين لممارسة الاستقلال الذاتي ولعب دور المواطن النشط. لذلك يجب أن نفكر في أغراض التعليم، أو الإعداد للحياة، على أنها تعزيز الاستقلالية والفضيلة المدنية.

نعم أتفهم قد يتفق الناس على أن المدارس يجب أن تعزز كلاً من الاستقلالية والفضيلة المدنية، ولكن قد يقعون في خلافات مريرة تتعلق بالضبط في كيفية محاولة المدارس تحقيق هذين الهدفين.

س// هل يمكن التمييز بين التعليم والتدريب، على أساس يهتم التعليم في حد ذاته بتنمية الفرد بأكمله، وبالتالي تطوير تلك السمات البشرية التي تجعل الحياة ذات القيمة ممكنة؟

ج// نعم. إنه من الواضح يتوافق هذا المفهوم للتعليم مع الرأي القائل بأن الاستقلالية هي القدرة على عيش حياة ذاتية الحكم. تبدأ الاستقلالية، مثل القدرات الأخرى، كإمكانات يجب تحقيقها، قبل أن يصبح الشخص مستقلاً. لكن هذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا تم استخلاص الإمكانات من خلال التعليم من نوع ما. ليس من المستغرب إذن أن تجد بعض المعلمين والفلاسفة يصرون على أن الغرض من التعليم - أو على الأقل أحد أهم أغراضه- هو تعزيز الاستقلالية.

س/هل يمكن قول الشيء نفسه عن العلاقة بين الفضيلة المدنية والتعليم؟

ج// إن الفضيلة المدنية مثل الفضائل الأخرى، هي سمة شخصية أو نزعة لا يرجح أن تزدهر بدون تشجيع وتنشئة. يمكن أن تحدث هذه التنشئة بعدة طرق، ولكن هناك توقعًا واسع النطاق، بأن ستكون المدارس مسؤولة عن الكثير من التعليم المدني الذي يتلقاه الشخص. لذلك ليس من غير المألوف بالنسبة للمعلمين وغيرهم أن يعتبروا الاستقلالية الشخصية أو الفضيلة المدنية بمثابة قدرات أو تصرفات تقع على المدارس مهمة تطويرها.

أدعو الى تشكيل "جمعية التربية الوطنية" للنظر في: إعادة تنظيم التعليم الثانوي ( في عديد بلدان عربية) تحت عنوان: المبادئ الأساسية للتعليم الثانوي، تدعو إلى التركيز على أهداف التخصص، حيث يمكن للأفراد أن يصبحوا فاعلين في مختلف المهن والمجالات الأخرى من المسعى البشري، "والاتحاد،" لتحقيق تلك الأفكار المشتركة، والمثل المشتركة، والأنماط المشتركة للفكر والشعور والعمل التي تجعل من التعاون والتماسك الاجتماعي والتكافل الاجتماعي. وعلى الرغم من أن" التخصص لا يتصل الاستقلالية تمامًا، ألا أن الفكرتين متقاربتان بدرجة كافية لمحاولة تأسيس الاستقلالية والفضيلة المدنية كأهداف للتعليم ليست بعيدة المنال.

س/ كيف يمكن للمرء أيضًا أن يفسر أو يبرر الكثير مما ذكرت أن يحدث، أو يفترض أن يحدث، في المدارس العامة من حيث الاستقلالية والفضيلة المدنية؟

ج// يبدأ المنهج من المدرسة الابتدائية بشكل عام من خلال التأكيد على المهارات الأساسية، ثم ينتقل لتقديم المزيد من الخيارات والاختيار الفردي في المدرسة الثانوية، ثم يقدم المزيد من الخيارات في الكليات والجامعات. تمكن المهارات الأساسية الأطفال من "العمل"؛ ليكون لدى الطفل فرصة أن يصبح مستقلاً، فمن شبه المؤكد أن أي شخص يفشل في الحصول عليها سيظل معتمداً بشكل كبير على الآخرين. تساعد هذه المهارات الطفل، من خلال تعزيز القدرة على التعبير عن الذات، وعلى التغلب على الإحباط وتقوية تقدير الذات. وكما توحي كلمة "أساسي"، توفر هذه المهارات أيضًا قاعدة يمكن للطلاب من خلالها المضي قدمًا لتقدير الخيارات المتاحة لهم وما تنطوي عليه اختياراتهم.

س/ هل المطلوب تعزيز الاستقلالية الفضيلة المدنية، أو المواطنة (بالمعنى الأخلاقي) ودمجها أيضًا في مناهج العلوم؟

ج//المفروض أن يُطلب من الطلاب دخول في دورات في الدراسات الاجتماعية و"التربية المدنية، ودراسة التاريخ، واجتياز الاختبارات في الدساتير الوطنية، ويمكن ان يساهم في الفضيلة المدنية حتى الوقت المخصص للمهارات الأساسية للقراءة والكتابة والحساب. إن أولئك الذين يفتقرون إلى هذه المهارات من المرجح أن يظلوا معتمدين على الآخرين للحصول على المعلومات والتوجيه السياسي وكذلك للحصول على سبل العيش وأشكال أخرى من المساعدة. تعزز المدرسة كل من الاستقلالية والفضيلة المدنية بالمعنى المناسب من خلال مساعدة الطلاب على اكتساب هذه المهارات وتطويرها.

قد تظهر الرغبة في تعزيز الاستقلالية الشخصية والفضيلة المدنية أيضًا في "المنهج الدراسي غير المباشر". هذا، بالإضافة إلى المنهج الدراسي المباشر، حيث يمكن أن تقوم المدار بالتدريس بالقدوة، ولاسيما مثل تنظيم وإدارة المدرسة والفصول الدراسية؛ وعلى سبيل المثال، من المفترض أن يمثل سلوك المعلمين بعضًا من الفضائل، مثل "التعاطف والثقة والإحسان والإنصاف" التي تجعل التعاون بشكل عام والديمقراطية على وجه الخصوص ممكنة. يساعد المعلمون الذين يشجعون الطلاب على طرح الأسئلة والتفكير بأنفسهم لتطوير استقلاليتهم.

س/ ولكن ومع ذلك، هناك جانب آخر لهذه القصة. أليس بسبب التركيز داخل معظم المدارس على النظام والتنظيم - عادة، التنظيم الهرمي- غالبًا ما يثبط المنهج غير المباشر التفكير النقدي ويعلم المفهوم السلبي للمواطنة فقط؟

ج// نعم يمكن أن يكون وجود منهج غير مباشر في المدارس الثانوية يعطل بشدة التعليم السياسي للديمقراطيين المستقبليين. وأضيف أيضا يمكن إلا يعزز "الجو الاستبدادي" للنظام والانضباط فقط مواقف السلبية، والتبعية غير الصحية، والخضوع، وعدم المساواة التي يمكن نقلها إلى النظام السياسي، ولكنه يمنع أيضًا التدريس الفعلي للقيم الأساسية للسلوك السياسي الديمقراطي إذا ترك هكذا بذاته دون الوعي بهذه المخاطر دون معالجتها من خلال قيًم بالاستقلالية والفضيلة المدنية، يبدو أن هناك مساحة كبيرة للتحسين. من المهم أن يدرك مديري المدارس والمعلمين أن الترويج للاستقلالية الشخصية والفضيلة المدنية من بين مسؤولياتهم الرئيسية. إن قيامهم بهذا بالفعل يدعم ادعائي بأن تعزيز الاستقلالية والفضيلة المدنية يجب أن يكون، ويمكن أن يكون، الأهداف المعترف بها للمدارس العامة. كما أنه يعطينا سببًا وجيهًا لمحاولة تحسين المدارس في هذه النواحي.

س/ في زمن صعود فكرة الجمهورية الليبرالية كيف يمكن للاستقلالية والفضيلة المدنية تقديم نقاط توجيه مهمة في التعامل مع المسائل التربوية؟

ج// يرغب أولئك الذين يأخذون اتجاهاتهم من الجمهورية الليبرالية في البحث عن طرق لتعزيز الاستقلالية والفضيلة المدنية دائما من خلال برامج المجتمع أو الخدمة العامة التي من المفترض أن تدرجها بعض الكليات والجامعات والمدارس الثانوية في مناهجها.

أن هدف الجمهورية الليبرالية الأكثر عصرية هو تعزيز الاستقلالية والفضيلة المدنية. تحاول الليبرالية الجمهورية من خلال التأكيد على هذه الأهداف تحقيق التوازن بين الحقوق والمسؤوليات. وهذا يعني، من بين أمور أخرى، تعليم المواطنين، أولاً، حقهم في الإصرار على أن تحافظ حكومتهم على مستوى أساسي من الأمن والازدهار للفرد والمجتمع، وثانيًا، مسؤوليتهم في الدفاع عن هذه المصالح إذا فشلت الحكومة توفيرها لهم. مثل هذا التعليم ليس مسألة "تشكيل" المواطنين؛ ولكنها طريقة لربط الحقوق الفردية بالمسؤوليات العامة.

أسأل ما الذي يجب أن تقوله الجمهورية الليبرالية حول المشكلات التي تطرحها التعددية الثقافية للتعليم؟ وأسأل هو ما إذا كان من الممكن ابتكار نظام تعليمي يحترم التقاليد والتنوع مع تعزيز الاستقلالية والفضيلة المدنية؟

ج// هذه المشاكل صعبة لأن تبدو روابط التقاليد الثقافية المتنوعة متعارضة مع كل من الاستقلالية الشخصية والفضيلة المدنية. ويبدو أن هناك شيئًا ذا قيمة في كل تقليد وشيء ذي قيمة في التنوع أيضًا.

تعتمد الإجابة على ما يرغب المرء في اعتباره "احترامًا" للتقاليد والتنوع. إذا كان هذا يعني أن أعضاء كل مجموعة لغوية أو قومية أو ثقافية أو دينية أو غير متدينة يجب أن يكونوا قادرين على تربية أطفالهم كما يحلو لهم تمامًا، دون التعرض للأفكار والمعتقدات التي يعتبرونها مهددة في المدارس، إذن تكون الإجابة لا. وإذا كان "احترام" التقاليد والتنوع يعني أن الأطفال يجب أن يتعلموا طرق الحياة وأنظمة المعتقدات المختلفة عن تلك الخاصة بهم، فإن الإجابة هي نعم.

قد يعتقد المرء أن الغرض من التعليم هو تعزيز الاستقلالية والفضيلة المدنية، وكذلك الاعتقاد بأن المصالح أو الاهتمامات أو الحقوق الأخرى لها الأسبقية. ومن مهام المدرسة هي تنمية هذه الصفات. لكن تكمن المشكلة في أن بعض الناس لا يعتقدون أن الاستقلالية أو الفضيلة المدنية تستحق العناء. وتتعارض ادعاءات الاستقلال والمواطنة مع ادعاءات الأشخاص الذين يتمثل التزامهم الأساس في حياة تقوم على التكريس الديني، حياة لا تتطلب السعي وراء الحقيقة، بل الالتزام الصارم بما يقبله دينهم على أنه الحقيقة.

 

 

في المثقف اليوم