حوارات عامة

نابي بوعلي يحاور نبيل ياسين حول: مكانة الأخلاق في عالمنا اليوم

2365 نبيل ياسين 2هذه الأسئلة يوجهها الأستاذ الدكتور نابي بوعلي (استاذ فلسفة جامعة مصطفى اسطمبولي، معسكر،الجزائر) الى د. نبيل ياسين

س - ماهي الأسباب التي دفعتكم للأهمام بفلسفة الأخلاق؟ ومن هي المذاهب والنظريات الأخلاقية التي أثرت في تفكيركم سواء الاتفاق معها او نقدها، اقصد مثل مذهب المنفعة، أخلاق الواجب، مذهب التطورية الأخلاقية، مذهب النسبية في الأخلاق، المذهب البرغماتية، وهكذا...؟

ج- فلسفة الأخلاق موضوع تم اغفاله في عالمنا العربي. وحتى لو عدنا الى تراثنا العربي والإسلامي سنجد ان موضوع الاخلاق قد توقف باغلاق باب الفلسفة بحجج دينية منذ عصر الوزير السلجوقي نظام الملك. وحتى على المستوى الديني فان الاخلاق والعدالة والحق لم تبحث بالمستوى المطلوب. وما تفضلت به من ذكر المذاهب والنظريات الأخلاقية هي جهود غربية ماتزال معزولة عن واقعنا العربي والإسلامي. فمن يبحث اليوم، من الباحثين الإسلاميين، أخلاق الواجب، باعتبارها جزء من نظرية الأوامر الإلهية على الأقل.

الاهتمام بفلسفة الأخلاق يقتصر على الأقسام الفلسفية في الجامعات باعتبارها درساً. ونادرا ما قدم لنا هذا الدرس تيارا مهتما بفلسفة الاخلاق، او انتج تطويرا لفلسفة الاخلاق بعيدا عن شرحها وشرح ما قدمه الفلاسفة الغربيون. ولكن لا يمكن الاهتمام بفلسفة الأخلاق بمعزل عن الفلسفة نفسها، الفلسفة التي يفتقر اليها عالمنا العربي والإسلامي على صعيد ترابطها مع شبكة منظمة ومتواصلة مع التطور الإنساني سواء في النظام السياسي الحديث او في المبادئ الليبرالية او في القوانين الأخلاقية التي تحقق المساواة والعدالة والتسامح الديني والتعايش الاثني بعيدا عن (الفرضيات) الدينية والايديولوجية التي تروج لمثل هذه المبادئ دون ان تحققها.

لا استطع ان انتمي لمذهب محدد او نظرية بذاتها لسبب بسيط جدا وهي انني باحث في فلسفة الأخلاق. كما انني لا أحبذ الإنتقائية والميل الى أفكار محددة او نظريات، وانما أسعى لمعرفة ظواهر الوجود بما في ذلك الوجود الغيبي الذي اوجدته الفلسفة في تاريخها لما اسمته الميتافيزيقا. ان الاخلاق الميتافيزيقية ليست نقيضا للأخلاق الطبيعية من حيث كونهما افتراضا، وانما تتحدد الفروق بما بعد هذا التصنيف قدر تعلق كل من الاخلاق الميتافيزيقية والأخلاق الطبيعية بالحقوق وموقع الفرد في كل منها، إما باعتباره فردا مستقلا يملك الارادة او فردا يتطوع في سياق الأيمان بواجب الخضوع لإرادة خارجية.

هذا يتعلق أيضا بالدين باعتباره ملزما لفرض الأوامر الإلهية التي يعطي ضرورة بسطها لسلطة مشتركة من السلطة السياسية وسلطة رجال الدين، لنصل الى مفهوم للدولة مرتبط بهذه الأوامر بغض النظر عن جوهر الفضيلة والخير.

ينطلق ارسطو من مفهوم الخير ويعتبر الدولة اجتماعا خيـرا او اجتماعا من اجل الخير

(كل دولة هي بالبديهة اجتماع، وكل اجتماع لا يتألف الا لخير مادام الناس، أيا كانوا، لايعملون ابدا شيئا الا وهم يقصدون الى ما يظهر انه خير، فبين إذن ان كل الاجتماعات ترمي الى خير من نوع ما) (ارسطو، السياسة، ترجمة احمد لطفي السيد، المركز العربي للابحاث، الطبعة الاولى للمركز ٢٠١٦ صفحةً١٣٥).

في هذه الحالة تنطلق الدولة من الفضيلة، وهذا افتراض لأن الخير في الدولة، على الصيد الواقعي. قليل او معدوم. هكذا نتوصل الى إن الاخلاق افتراض يسعى الى الخير ويفترض الالتزام بهذا الافتراض من اجل ان يعم الخير وبالتالي ان تتقلص الى اقصى حد الشرور والآثام.

س ـ هل تنكرون أم تؤيدون أن هناك معرفة أخلاقية موضوعية، وإذا كان الأمر هكذا ما هو تبرير ذلك أوما هو ردكم على من ينكرها أو يؤيدها؟

ج- الأخلاق فعل. ولكن هذا الفعل ليس إلزاميا. انه سلوك طوعي طبيعي للفرد يتناسب مع العرف الاجتماعي السائد عن الأخلاق باعتبارها خيرا وفضيلة لصالح ضمان تفوق الخير على الشر. لكن ذلك الفعل يحثنا على التساؤل المشروع عن ميزان قوى الخير مقابل ميزان قوى الشر. إذ يبدو، من خلال تأثير الأخلاق على الواقع البشري إن الأخلاق كانت وماتزال حالة دفاع ضد قوة الشر السائدة في الحياة. سواء في مؤسسات الدولة أو في مؤسسات المجتمع.هذا، ربما يجعلنا نعتقد ان هناك معرفة أخلاقية موضوعية بما في ذلك تقييم اخلاق المنفعة.

الوظيفة الأساسية للأخلاق هي فعل الخير كذلك؟ أي ان تكون الدولة أخلاقية، لا تنتج القيم الأخلاقية، وإنما تلتزم بها وتحرص على ان تكون سياستها ضمن الخير الأخلاقي. لكن ما هو الخير بحد ذاته أيضا؟ هل هو كل مظهر او فعل مقبول من اغلبية الناس، باعتباره يعود عليهم بالفائدة؟ فهل تكتسب الأخلاق مشروعيتها من إجماع إجتماعي، يشبه ما نطلق عليه العقد الإجتماعي المختلف عن عقد روسو؟

لماذا نبدأ بالدولة ونحن نتحدث عن الاخلاق؟ لأن الدولة نتاج تجمع بشري، وهذا التجمع او الاجتماع يكشف لنا طبيعة التوظيف الأخلاقي بشكل أوضح. فالمجتمع، في هذه الحالة، هو الذي يعطي الأوامر الأخلاقية. ولذلك فان العقد الاجتماعي هو عقد أخلاقي ملزم. وروسو حين يصف التحول من دولة الطبيعة الى الدولة المدنية بانه علامة بارزة على التحول في الانسان (jean -Jacques Rousseau. On The Social Contract.Dover Thrift editions.2003.p12) فإنه يفترض ان الخروج من حالة الطبيعة هو خروج الى أخلاق مرتبطة بالعقد، أي مرتبطة بالتاريخ الملازم لتحول الانسان. لكن التاريخ اذا كان ثابتا ويسير على هيئته المستقرة فان الاخلاق تصبح خارج التاريخ، وبالتالي لا يمكن ان ترتبط بالدولة لان الدولة، باعتبارها تجربة تاريخية ثابتة لم ترتبط بالأخلاق، فالتاريخ باعتباره محركا للحاضر لا يتطلب حضور الأخلاق، لأنه كان لا يملك فلسفة أخلاقية.

لكن ما هو معيار التمييز بين الخير والشر في الأخلاق؟ هل هو العقل أم الأوامر الإلهية التي توجه نحو الخير؟ هل الاخلاق (عدوى) على حد تعبير نيتشه (نيتشه. جينالوجيا الاخلاق. ص ٨٤) وان هناك (فعل) لبث عدوى الاخلاق؟ بمعنى أن هذه العدوى هي فعل توافقي مشترك لعقد بين الناس لفعل ما هو خير قدر ارتباط الأخلاق بالخير. ان (العيب) هو نقيض الأخلاق

في هجائية نيتشه المسماة (جينالوجيا الأخلاق) لا يصف الأخلاق الا بكونها (كل ما احتفي به على الأرض بوصفه أخلاقا)(ص٣٣). ورغم تهكم نيتشه فالأخلاق هي الاحتفاء بالخير باعتباره عقدا مشتركا بين الناس وبين مجتمعهم.وهو يميز بين حكمين مسبقين: الحكم المسبق اللاهوتي، والحكم المسبق الأخلاقي (ص٣٤). وبمان الحكمين سابقين للإطلاق على السلوك الإنساني المرتبط بقيم مسبقة فانهما حكمان افتراضيان، نبعا من اتفاق افتراضي عن (منظومة) معيارية.

س ـ هل تعتقد أن مشكلة المعيارية ستُحل إذا تمكنا من إيجاد مبادئ تفسر حقيقة وحال أحكامنا التي تعبرعن أفكار مهمة من الناحية الأخلاقية. ولكن ماذا لو فشلت المبادئ التي تفسر بشكل أفضل حقيقة وحال أحكامنا في تجسيد الأفكار المهمة من الناحية الأخلاقية؟

ج- بما ان المعيارية ليست مطلقة، وفي بعض الأحيان فإن المعيارية اذا ما تعلقت بأخلاق المنفعة، فإنها لا يمكن ان تقيس لنا مدى الشرعية الاخلاقية التي ترافق الحرب والغزو والاحتلال. والمعيارية هنا هي قاعدة تبريرية، وهذه القاعدة تقوم عليها (مبادئ العنف) اذا جاز لنا هذا الاستخدام. ليست الأديان وحدها ما تتحمل المنطقية المعيارية، فالأنسان يشن الحرب ثم يقوم بالسبي والقتل والاغتصاب واباحة ما نعتبره اخلاقا خيرة وعامة، اي الاخلاق التي احتفينا بها كأخلاق بتعبير نيتشة او كأخلاق باعتبارها امرا إلهيا. وفكرة نيتشة واقعية وهي تحيل الى أنساب الاخلاق، باعتبارها صناعة انسانية، او عقد بين افراد المجتمع للإتفاق على منظومة معيارية. ومن هذا الاتفاق تنشأ مشكلة المعيارية. اما الأخلاق في الدين فتحصل على معيارية مزدوجة، فما هو احتفاء دنيوي بالأخلاق يتحول الى احتفاء ديني. وتتحول الأخلاق من معيارية خيرية فضائلية الى معيارية تجارية.وموضوع الاستعباد او الاسترقاق وبيع الانسان الحر كعبد لقاء المال لا يجد استهجانا او تحريما دينيا تبريرا لهذه المعيارية.

تنطوي العدالة في المنظومة الاخلاقية باعتبارها خيرا يحقق المساواة ويحفظ الحقوق. وبذلك تدخل الاخلاق، من هذا الجانب، في مقاصد الشريعة. لكن ما نراه هو العكس، فما هو موقع المعيارية في هذا الشأن؟ فالشريعة في هذه الحالة تتحول الى معيار فضفاض. فالمقاصد موجودة بمعيار الشريعة ولكنها ليست موجودة كمبادئ قادرة على حل شرعية واخلاقية احكامنا.

يحفظ لنا تاريخ الاسلام ورقتين مهمتين سميتا محنة القضاء في الإسلام. الأولى في العهد الاموي حين رفض كثير من المثقفين المسلمين تولي القضاء للأمويين باعتبارهم يمثلون سلطة غاشمة لا تحترم استقلال القضاء وتتدخل فيه، منهم سفيان الثوري والحسن البصري وإياس بن معاوية وعامر الشعبي وغيرهم. والثانية في زمن مزدهر هو العهد العباسي حين تعرض القضاة، بسبب الفكر الإعتزالي، الى ان يقبلوا شرط المعتزلة، الذين تبنى المأمون افكارهم، بالإيمان بخلق القرآن. فأين دور المبادئ القادرة على تحسين أفعالنا او دور المعيارية في تحسين العدالة واستقلال القضاء؟

فحين نقول عن فعل ما انه عمل انساني فنعني انه عمل أخلاقي. وحين نقول لا انساني نعني انه لا أخلاقي. وبذلك نحيل الاخلاق الى الطبيعة الإنسانية. فالإنسان مصدر الاخلاق الطبيعية.

هنا نعثر على (معيار). فالأخلاق معيارية (ثابتة عند الغزالي). فلا يمكن ان يرتبط الشرف بالطغيان، ولا يمكن ان يرتبط الانسان النبيل بالسرقة والاستيلاء على حقوق الاخرين ولا بالتمييز والعنصرية وممارسة عدم المساواة بأي شكل. فمن الاخلاق ومن العدالة معا احترام الهويات رغم أهمية اندماج المهاجرين مثلا في المجتمعات التي هاجروا اليها. وهناك انشغال بهذا الشأن من قبل المفكرين المعنيين بسياسات الاختلاف

(Brian Barry. Culture &Equality.. Polity.Cambridge-Oxford 1998.P77)

ليس هناك تجزئة بين عناصر المنظومة الأخلاقية في الفكر الليبرالي المعاصر. انها منظومة مترابطة إلزامية للنظام السياسي بالدرجة الأولى، باعتباره مسؤولا عن الالتزام بالعقد الاجتماعي. وفي الوقت الذي ماتزال (الاحكام) الدينية تمارس التمييز في المجتمعات الدينية الإسلامية، مثل حكم (الذمي) و(الردة) وزواج القاصر، فان الاخلاق الدينية نزلت الى الحضيض تجاه الكرامة والحرية والاعتبار الإنساني وانعدام العدالة والمساواة وممارسة التمييز والاحتفاظ بأشكال مختلفة من العبودية والقهر وتعظيم وتمجيد الاستبداد والدكتاتورية بمختلف مصادرها العائلية والعشائرية والعصبوية المدنية والعسكرية والحزبية وتصرف الزمر بمختلف أنواعها بالقانون وفق مصالحها اطماعها وأهوائها..

س ـ كيف يبدو لكم سؤال الأخلاق في عالمنا اليوم؟

ج- اعتقد ان سؤال الأخلاق سؤال أنطولوجي اذا صح التعبير. لنأخذ ورطة آدم في السردية الدينية ودلالتها الأخلاقية.. اراد آدم ان يصنع بشرية وأن يواصل النمو البشري فوقع في المحظور الأخلاقي. فقد كانت البشرية مكونة من آدم وحواء وابنائهما، ذكورا وإناثا. يخبرنا الفقهاء، وليس القرآن، انه زوّج ابناءه وبناته من بُطُون مختلفة. بمعنى انه زوج الإبن من البطن الأولى للبنت من البطن الثانية، وهكذا. اي انه جعل فارقا زمنيا لا غير. ويكون الزمن بهذا التسلسل قد حل الورطة الأخلاقية بسبب الضرورة. ومعيارية آدم هذا انتفت الحاجة لها فيما بعد. لكننا لا نعرف على وجه الدقة، وفق نظريات الأنثربولوجيا، ما اذا كان زواج الاخوة قائما قبل التاريخ الأمومي؟ فاذا كانت البشرية بحاجة الى أخلاق فان المزاج النفسي في هذه الحالة قد لعب الدور الحاسم، اي الشعور النفسي بانه ليس هناك انتهاك، أو فعل لا أخلاقي. اي ان الأخلاق الآدمية هي للتخلص من الشعور بالذنب الناتج عن الدنس. اي فعل الفضيلة. ومن جهة اخرى، نعلم، من السردية الدينية ذاتها، إن آدم قام بانتهاك الوصية الإلهة، او الأمر الإلهي، وارتكب معصية. اي انه لم يلتزم بالأوامر الالهية ونواهيها، انه انتهك الجانب الأخلاقي. وبموجب هذا الانتهاك استحق العقوبة. فالأخلاق من ناحية، شعور بالراحة النفسية لعدم الشعور بالذنب، ومن الناحية الأخرى فان العقوبة هي تكريس الشعور بالذنب.

يبدو اننا نعيش ورطة آدم اليوم. وعلينا ان نجتهد لخلق معيارية من نوع ما. فنحن ورثنا معيارية الاستبداد باعتباره أساس الحكم، وباعتباره الذي يحقق مقاصد الشريعة. فكيف نجمع معيارية الاستبداد ومعيارية الاخلاق ونحن نتحدث عن ضرورة الدخول في الحداثة التي وضعت الاخلاق في وظيفة ضميرية وقانونية. أي ان الحداثة جمعت بين الطوعية الاخلاقية والالزامية الاخلاقية. وفي الحالين تربط الحداثة بين الأخلاق والقانون. سواء كان القانون الطبيعي او القانون الوضعي.اذ يذهب عدد من فقهاء القانون الى ان القانون مجموعة من النصوص المتعلقة بسلوك الانسان والتي يفرضها الله او الطبيعة، وان الهيئات البشرية التي تضع القواعد المعينة وتنفذها ينبغي ان تقترب من الأسس الأزلية والثابتة عن الخير والشر (اوستن رني. سياسة الحكم. ترجمة د. حسن علي الذنون. المكتبة الاهلة. بغداد ١٩٦٦. ج٢ ص٢٠٧).

ولذلك تضمن الدستور الأمريكي في ديباجته الحرية باعتبارها هبة إلهية. أي معطى أخلاقي لا يجوز انتهاكه دنيويا. الحرية جوهر أخلاقي. وبهذا يكون انتهاكها فعلا لا أخلاقيا. يدفعنا هذا التفكير الى أهمية الأخلاق ومكانتها الجوهرية في عصرنا باعتبارها (معيارا) لحقوق الإنسان السياسية والاجتماعية والإقتصادية. فصكوك فيينا الخاصة بهذا الشأن والصادرة عام ١٩٦٦ ملزمة أخلاقيا للجميع. لكن هذا الإلزام كان في ذهن المشرع وفي فكره وتفكيره، ولكننا لم نشهد مرحلة، خاصة خارج حداثة الغرب، قد التزمت بالمسؤولية الأخلاقية، بما في ذلك توفير المستلزمات الأساسية للعيش مثل الطعام، وللطفال، بشكل خاص، في زمن السلم فكيف بتوفيرها في زمن الحرب؟

ان مكانة الأخلاق في عصرنا متدهورة. هي موجودة في النصوص ولكن ليست هناك ضمانات متوفرة لتحقيقها وتطبيقها. فلا يكفي النص في القانون (والقانون هنا بمثابة الأخلاق) على الحق دون ان تتوفر الضمانات اللازمة لتحقيق القانون، مثل سيادة القانون واستقلال وعدالة القضاء، والأيمان بالتعددية والتسامح وقوة الرأي العام وسلطته وقوة المجتمع المدني بدون هيمنة المجتمع السياسي على نشاطاته كما يحدث في عدد من تجاربنا العربية. فمجال المجتمع المدني ضرورة قصوى لجعل المجتمع السياسي ملتزما بالقانون والأخلاق.

أليست صفات الاخلاق هي صفات القانون أيضا؟ ولكن ماذا يعني ذلك؟ ان علينا دراسة الاخلاق والتخصص بها مثل دراسة القانون والتخصص به. فنحن مازلنا، على كثرة من درسوا القانون وتخصصوا به نفتقر الى العدالة. مثلما نفتقر الى الأخلاق.

2365 نبيل ياسين

س - لماذا لا يزال الإنسان يعاني من المآسي بالرغم من كل هذا الإرث الأخلاقي الذي خلفه التاريخالبشري؟

ج- في دراسة سابقة لي عن التاريخ والفرد تبحث في هيمنة التاريخ، بما يمكن ان اسميه The Hegemony of History بمفهوم الهيمنة الغرامشي والذي تبناه فوكو حول الهيمنة الأيديولوجية في اجهزة الدولة الأيديولوجية، فأننا، في المنطقة التي تعيش خارج الحداثة، مازلنا نعيش في التاريخ. ونعاني من القدسية التي يتمتع بها التاريخ. فالتاريخ لا يتركنا ويهيمن على وجودنا، بحيث يتم محاكمتنا وتصنيفنا وفق منطق التاريخ. ان احد اهم أسباب رفض الحداثة، بما فيها النظام السياسي، الديمقراطي والعلماني، هو التاريخ. وخاصة تاريخ الخلافة الذي كرس نفسه في النظام السياسي العربي الحديث من خلال شخصية الخليفة المتسلطة والاستبدادية والمتفردة والذي يملك، دينيا وسياسيا، حق السلطة التنفيذية وحق السلطة التشريعية معا. وهذا مجسد في نظام الطغمة الحزبية والعشائرية والعائلية والعسكرية، وهذا، بذوره، كرس ما اسميه (الأخلاق الطغيانية) في الحكم وامتدت الى العائلة والمجتمع الذي يملك سلطة الاخلاق الطغيانية في فرض الاخلاق.

ان موضوعية الأخلاق او ذاتيتها موضوع نسبي. لنأخذ امثلة واقعية وتاريخية. في اثينا كما يذكرمونتسكيو هناك اخلاق ذاتية فرضتها الأرستقراطية اليونانية. وفي عالمنا المعاصر، وبعد الحرب العالمية الاولى والثانية ظهرت مباديء القانون الدولي، وهو يعتبر قواعد أخلاقية بين الأمم والدول. في اتفاقيات جنيف لعام ١٩٤٩ وضعت قواعد أخلاقية، لنأخذ واحدة منها وهي اتفاقية الحق في مشاركة المصادر الطبيعية بين المتحاربين، ومنها حق الحصول على مياه الشرب. هذه الاتفاقية تنتمي للأخلاق الذاتية التي تطورت لتكون أخلاقا موضوعية. وقد ظهرت في معركة صفين حين استولى معاوية وجيشه على مصادر المياه في نهرالفرات لاستخدام التعطيش كسلاح إبادة جماعية ضد جيش الخليفة علي بن أبي طالب. وحين علم الخليفة بذلك طلب من أحد قواده، وهو مالك الأشتر، ان يقود خمسمائة من المقاتلين لإجلاء جيش معاوية عن مشرعة الفرات. وقد نجح الأشتر في اجلاء جيش معاوية وقرر حرمان الجيش الأموي من الماء، مستخدما سلاح الإبادة الجماعية نفسه الذي استخدمته الأخلاق الذاتية. ولكن الخليفة علي بن أبي طالب استخدم الأخلاق الذاتية كأخلاق موضوعية فقرر حق جيش معاوية في الحصول على المياه.

لكن هذا لا ينفي الموضوعية عن الأخلاق. فموضوعية الاخلاق قاعدة، وذاتية الاخلاق استثناء يحدث في مراحل معينة ولدوافع معينة لا تتصل بدوافع نيتشه عن القيمة الاخلاقية.

ولكن لا توجد في الحروب قيمة أخلاقية رغم التمجيد بالأبطال والمآثر العسكرية. فالحرب هي (بؤس)، وهذا البؤس ينتج عن انعدام الاخلاق وفقدان وظيفتها كرادع للشر.

إن هيجل مثلا، لم يكن يملك الشجاعة دائما مثل معظم رجالات عصره. لقد ارتضى أحيانا بالأوضاع القائمة آنذاك، ومثال ذلك الموضوع المتعلق باقطاعيات البكر Majorads والذي كان يرفضه مبدأيا، لكنه كان يقبله لأسباب ترتبط بالسياسة العليا، ولم يركز دائما على النقاط التي كانت تسبب له المضايقات والمشاكل من قبل وزارة العبادات (هيجل والدولة. آريك وايلي. المكتبة الهيجلية ١٣٣. ترجمة نخلة فريفر. ار التنوير. بيروت. الطبعة الثالثة ٢٠٠٧ ص١٩)

يقول توماس بين في كتابه (Rights of Man)، وهو من كلاسيكيات الحقوق المدنية وفلسفة حقوق الانسان منذ القرن الثامن عشر، وبين اشترك في الثورة الامريكية وفي حركة الاستقلال وفي تقديم المساعدات الامريكية للثورة الفرنسية (لقد رأيت في الحرب ما يكفي من البؤس بحيث صرت ارغب بان لا تجد الحرب اية امكانية للحدوث في العالم، وان يكون هناك اسلوب اخر لتسوية الاختلافات التي لابد ان تحدث بين مدة واخرى بين الامم).

يعتقد ارسطو ان الدولة هيبتها، وبذلك كون الدولة اخلاقا، ولكن متى كانت الدولة، على مر التاريخ، دولة اخلاقية؟ فتاريخ الاستبداد، وهو طابع غير اخلاقي، كان الممارسة الأكثر شيوعا للدولة في التاريخ،

دعنا نأخذ مصير اثنين من الفلاسفة فيما يتعلق بالأخلاق، ديكارت ونيتشه.

هل يتناسب الطغيان، بأساليبه المختلفة ومنها التخطيط للإغتيال مع الاخلاق باعتبارها السعي لوصول الإنسان الى الخير لتحقيق سعادته كما يعتقد اوغسطينوس مع كثير من فلاسفة الاخلاق، وبضمنهم المروجون لنظرية الأوامر الالهية؟

هل التقبيح والتحسين الأخلاقي من فعل البشر وإرادتهم وهم يقومون بها مع ايمانهم بالله وأوامره؟ رأينا كيف قام الفقهاء ورجال الدين المحيطون بالملكة كرستينا، ملكة السويد، بتدبير عدد من المكائد، وآخرها كانت خطة لقتل ديكارت بفعل الطبيعة،لا بفعل الإنسان المباشر. فقد طلبت الملكة من ديكارت ان يعطيها دروسا في الفلسفة. فدبر له الفقهاء، الذين يطلبون من المؤمنين اتباع الأوامر الإلهية والإبتعاد عن غوايات الدنيا،، مكيدة فحواها ان تكون الدروس في الساعة الخامسة صباحا وفي شتاء جليدي قاس جدا وفي قصر بعيد جدا عن مكان اقامته. فأصيب بذات الرئة ومات بعد تسعة أيام. (معجم الفلاسفة.. إعداد جورج طرابيشي. دار الطليعة. بيروت. الطبعة الأولى ١٩٨٧ص٢٧٥).

س - لقد دعا المفكر المغربي في كتابه "سؤال الأخلاق مساهمة في نقد الحداثة الغربية" إلى تخليق الحداثة، بمعنى البحث عن أخلاق تتجاوز سطحية الحداثة الغربية لتمتد إلى أعماق الإنسان، فكيف يتسنى ذلك؟ وهل ذلك ممكن في ظل هيمنة الحضارة الغربية؟

ج- كان الفيلسوف طه عبد الرحمن قد طرح شرطا دينيا لنقد الحداثة بينما كانت الحداثة طرحت آفاقا لنقد الدين. ان النقد الديني الحداثة محدود ومقيد بينما النقد الحداثي جدلي وله خصوصية الاختلاف Argument. لاشك ان طه عبد الرحمن فيلسوف عقلاني وينطلق من اسلاميته، وهذه الإسلامية تتميز بعيب كبير هي انها تعتقد ان الحل للمشكلات الانطولوجية يكمن في هذه الإسلامية وحدها. ولذلك نجد دائما مفردة (نقد) في اغلب ما ينتجه المفكرون العرب عن الغرب. نعم يجوز نقد العلمانية بالإسلام. كما جاز نقد الإسلام بالعلمانية. لكن الأمر يتجاوز الشعور بالحق في النقد الى محتوى هذا الحق وراهنيته.

ان الحق في (نقد) الغرب لم ينقطع منذ ظهور حركة الإصلاح الديني. وهذا النقد موجه من خير الدين التونسي الى محمد عبده مرورا بالأفغاني وليس انتهاء بمحمد رشيد رضا. ان هذا الحق في النقد حق متعسف. فنقد الغرب لا يزيل عن تراثنا القروسطي جماده وعدم راهنيته وانعدام فعاليته في مجتمعاتنا العربي والاسلاية. وقد اشرت في دراستي عن (تألق وتدهور حركة الإصلاح الديني) الى عجز لغة الإصلاحيين عن تقديم محتوى عقلاني وواقعي في التجديد الديني. فقد اجمع الإصلاحيون تقريبا على استبدال لغة الحداثة الغربية بلغة سلفية فقدت محتواها منذ زمن بعيد. فاستبدلوا الديمقراطية بالشورى، والبرلمان باهل الحل والعقد والانتخابات بالبيعة. وفي الوقت الذي كانت وماتزال المفاهيم الغربية في الحداثة السياسية فاعلة ومقررة لطبيعة النظام السياسي وعلاقته بالمواطنة وحقوقها دستوريا وقانونيا وثقافيا فان مفاهيم الخلافة لم تعد حية وقد ماتت خلال عهود الخلافة منذ الأمويين مرورا بالعباسيين وانتهاء بالسلاطين العثمانيين، وهم الأقرب لظهور حركة الإصلاح. لقد اختصرت (الحداثة) لدى خير الدين التونسي وغيره بتحديث الأسلحة ونظام الجيش فحسب.

لقد ارتبت حركة الإصلاح إثما قاد الى تدهورها وانتهائها على يد رشيد رضا الى ان تكون مشاريع الإصلاح فردية لم تشكل تيارا او جبهة منذ علي عبد الرازق، لذلك يأتي مشروع طه عبد الرحمن فرديا هو الآخر رغم بهاء أفكاره.

ان شغب العرب والمسلمين بمفردة نقد قادت ان توضع قبل عنوان هيغل (فلسفة الحق) فاصبح العنوان (نقد فلسفة الحق) وكأننا لانريد من فلاسفة الغرب سوى انتقاد انفسهم. ومن ذلك نقد مفاهيم الحق والعدالة والأخلاق.

الأخلاق هي عقد قانوني بين الدولة والمجتمع. في كتابه (Philosophy of right) يستعرض هيغل بعد الفقرة الرابعة والسبعين من الفصل الثاني المعنون (Contract) فكرة العقد قائلا: عام 1821، (انها رؤية شائعة في الازمنة الحديثة ان الدولة هي عقد الجميع مع الجميع، الجميع يعقد ويتفق , وبعد هذا تنطلق منظومة التعاليم للعمل). اطلق روسو مصطلح العقد الاجتماعي على مثل هذا العقد. لكنه في الواقع عقد أخلاقي ملزم قانونيا. ينطلق من المسؤولية الأخلاقية التي تتحملها الدولة تجاه الطرف الأول من العقد. هذه المسؤولية هي ضمان وحماية حقوق الطرف ا لأول من العقد وهو الشعب الملزمة للطرف الثاني وهو الدولة.

يغيب هذا الالتزام في العقد الديني. ان المدونات الفقهية الإسلامية تستنتج بنفسها من نفسها. انها تعيش في دائرة مغلقة من التراكم الزمني خارج الزمن الذي تعيش فيه. وصلت هذه المدونات الى طريق مسدود ومغلق بفقه (الاحكام السلطانية) الذي يوجب حقوق السلطان بدلا عن حقوق البشر. وقد تراكمت هذه المدونات المغلقة، والتي استمرت منذ القرون الوسطى، فأخذت طابع التشريع المقدس. وهي مدونات ادعت اخذ احكامها من الشريعة بحيث أصبحت هي الشريعة. وهذه الشريعة تعيش خارج النص رغم انها تدعيه.

ليس لدينا، في التاريخ الإسلامي، مدونات عن الحقوق. الحقوق الوحيدة هي الواجبات. وحين كانت اوروبا تقدم لوائح الحقوق منذ القرن الثالث عشر، على شكل اتفاقات ومساومات بين السلطة والطبقات، كان العالم الإسلامي يقدم مزيدا من القيود عازيا كل ازمة الى ضعف التمسك بالشريعة دون إعادة النظر أصلا بتعريف الشريعة. كان التدهور قد تكرس قبل سقوط بغداد بيد المغول عام ١٢٥٨ فقد كان هذا السقوط الفاجع نتيجة لتدهور استمر ثلاثة قرون بدأت منذ خلافة المتوكل وتغلب الطابع العسكري على السلطة واهمال الجوانب العلمية السابقة منذ منتصف القرن التاسع وتغلب القادة الاتراك على السلطة، هذا التغلب الذي اضعفها وجعلها مسرحا للغزوات والاحتلالات البويهية والسلجوقية وفروعهما المختلفة فيما بعد.

س -هل يمكن الحديث عن أخلاق شاملة ذات قيًم كونية أو عالمية من باب احترام البشر دون استثناء سواء يتعلق بالعرق او الدين وغيره...؟

ج- كانت العولمة مشروعا يقدم نفسه أخلاقيا في البداية. بدأت العولة مبشرة بأخلاق عالمية معززة بالإعلان العالمي لحقوق الانسان.

الواضح ان الأديان سعت الى تحويل الحقوق الطبيعية الى أوامر فأحالتها الى مصدر إلهي. لكن توما الأكويني أعاد إحياء فلسفة الحقوق الطبيعية التي أخذت تظهر، في قراءات دينية على ضوء الفلسفة اليونانية، وهو ما فعله الفلاسفة العرب بشأن اتباع خطى أرسطو.

وضع اتحاد أوتريخت أساسا لانطلاق حقوق الانسان من جديد بالتأكيد على الحرية الدينية. في عام ١٥٧٩ تم الإعلان عن (إن كل مواطن سيكون حرا في أن يقيم على دينه)، وكان والد سبينوزا اليهودي البرتغالي الذي تعرض للاضطهاد قد احتمى بهذا الإعلان حين انتقاله الى هولندا. وحرية المعتقد هذه أصبحت المادة ١٨ من الإعلان العالمي لحقوق الانسان(لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته او عقيدته، وحرية الاعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء كان ذلك سرا ام مع الجماعة).(موقع الأمم المتحدة. إدارة شؤون الاعلام ٢٠٠٣)

هل جاء الإعلان العالمي لإلغاء الاستلاب عن البشر؟ اعتبر فويرباخ الاستلاب فاعلا لتأسيس الظاهرة الدينية. أما جورج لوكاج (يلفظ باللغة المجرية لوكاج، بجيم فارسية ويلفظ بالعربية لوكاتش) فقد اطلق على الاستلاب مفردة (تشييء)، وفي كلا الحالين فان الاستلاب شعور سلبي يقود الى فعل سلبي. انه الشعور بعدم القدرة على اتخاذ قرار واضح وحر وإرادي. والاستلاب، سواء كان دينيا او اجتماعيا- اقتصاديا أو سياسيا هو ظاهرة يمكن ان تنشأ عن مختلف الأسباب ومنها الخضوع لاحتلال او سجن او تعذيب أ عجز من مختلف الأنواع. بمعنى نزع القدرة على التصرف الحر والارادي، وبهذا المعنى تكون نظرية الأوامر الإلهية تكريسا للاستلاب وفاعلا لجعل الانسان مأسورا من قوة غيبية. وبهذا الشكل يتشيأ الانسان ويتصرف كأسير لأوامر عليا بدون إرادة وتفكير عقلي.لأن الفاعل الأخلاقي أمر إلهي يصدر لائحة إلزامية غامضة الأصل والمنشأ ولكنها مقررة بالقوة العليا التي كشف عن جبروتها أنبياء ورسل زعموا انها هي من أمر بهذه اللائحة التي تحتاج الى حراس للآلهة كي يتم تطبيقها، وانيطت مهمة حراسة هذه الأوامر لتنظيمات متعسفة بصفة دينية.

يقود الاستلاب الى التعصب لتعويض حالة الاستلاب بفعل عنيف متى ما شعر الفرد بان الدين هو قوته الوحيدة. فالتفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء هو أمر إلهي كما ورد في القرآن مختصرا هذا التفاوت بانه إرادة الهية، كما ورد في الآية ٧٠ من سورة النحل (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق، فما الذين فُضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيها سواء أفبنعمة الله يجحدون). فالفقر الطبيعي هو استلاب فكيف اذا اصبح قرارا يلغي إرادة وطموح الفرد بأمر الهي؟

يأتي الإعلان العالمي لحقوق الانسان تتويجا لأخلاق العالم الحديث، ويبشر بأخلاق جديدة تكاد تكون ملزمة حالها حال الأوامر الإلهية. وقد وقعت الدول كافة تقريبا، ومنها دول عربية وإسلامية على الالتزام ببنود وفقرات الإعلان العالمي، ولكن لم يتحقق هذا الالتزام. فقد مارست الدول الديكتاتورية طغيانها المطلق على الرغم من توقيعها على الإعلان.

والاعلان العالمي لم يظهر فجأة، فقد كان عمل ثلاثة قرون تقريبا منذ الثورة الفرنسية التي أصدرت حقوق الإنسان والمواطن، التي عاد اليها الحقوقي الفرنسي رينيه كاسان لاختصار مسودة الإعلان الطويلة التي اعدها الكندي جون همفري. ومواد (العهد الأعظم) الماكنا كارتا الذي أصدره نبلاء بريطانيا مع الملك وليم عام ١٢١٥والثورة الامريكية ولوائح الحقوق البريطانية اللاحقة، وساهم في الصياغة الإنجليزية اللبناني شارل مالك الذي كان مقرر لجنة إعداد الإعلان وكان وقتها يشغل وظيفة رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة. والإعلان هو نتاج العلمانية والليبرالية في تجلياتها الحقوقية.

الإعلان العالمي لحقوق الانسان عمل غربي. أوروبي وامريكي. انه عقل غربي أيضا. انه نتاج المستوى العقلاني لليبرالية. لم يأت من فراغ، وانما كان نتيجة لتطور فلسفي وسياسي كان متجانسا مع التطور في البنى الاجتماعية -الاقتصادية التي انتجت الرأسمالية. لذلك يبدو عملا غربيا، خاصة وانه يقف من الدين موقفا حياديا لضمان الحريات الدينية. ان الاعلان العالمي هو اعلان الحداثة التي تسعى لأن تكون عالمية.

يتكون الإعلان من ثلاثين مادة سنرى انها الحقوق الطبيعية قبل التدخل التعسفي للسلطة والدين.

وهذا سيكون عائقا إمام تبني الدول الإسلامية للإعلان العالمي خاصة في ما يتعلق بحق حرية العقيدة، وحرية الرأي، كما أقرته المادة ١٨ المذكورة آنفا والمادة ١٦ الفقرة (١) التي تلغي أي قيود دينية او جنسية على الزواج. والفقرة (٢) التي تنص على عدم ابرام الزواج الا برضى الطرفين. والمادة الثانية التي تنص على (حق كل إنسان التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان دون تمييز، كالتمييز بسبب العنصر او اللون او الجنس او اللغة او الدين او الرأي السياسي، أو أي رأي آخر.أو الأصل الوطني أو الاجتماعي او الثروة او الميلاد او أي وضع اخر، دون اية تفرقة بين الرجال والنساء، وفضلا عن ذلك فلن يكون هناك تمييز أساسه الوضع السياسي او القانوني او الدولي لبلد او البقعة التي ينتمي اليها الفرد سواء كان هذا البلد او تلك البقعة مستقلا او تحت الوصاية او غير متمتع بالحكم الذاتي او كانت سيادته خاضعة لأي قيد من القيود)

صوت لصالح الإعلان ثماني واربعون دولة وامتنعت ثماني دول هي الاتحاد السوفياتي وجمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية وجمهورية بيلاروسيا الاشتراكية السوفياتية وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا وبولندا وجنوب افريقيا والمملكة السعودية.

هذا الامتناع يعني شيئا واحدا وهو سيادة النظام الشمولي في تلك الدول. وبذلك تضل موضوعة الاخلاق الكونية امرا مشكوكا به وربما متعذر التحقيق. فكم دولة إسلامية او قومية ستعارض اخلاقا كونية ينتقل فيها الانسان وفق حريته من دين لآخر وفق رؤيته واختياره؟

هل يتطلب الحديث عن أخلاق شاملة ذات قيًم كونية أو عالمية من باب احترام البشر دون استثناء سواء يتعلق بالعرق او الدين وغيره المضي بفصل الدين عن الدولة في اغلب دول العالم؟ قد يكون ذلك أمرا مستبعدا بعد فشل أوروبا وامريكا في فرض نظام عالمي يقوم على احترام حقوق الانسان من جهة، ومن جهة أخرى، ماتزال معظم الدول العربية والإسلامية تضع الرسلام في مواجهة العولمة وتعتبر الدين حارسا للدولة، والدولة ضامنة لتطبيق الشريعة.

كرس الإعلان العالمي لحقوق الانسان علمانية الدولة وحياديتها تجاه الحرية الدينية.كما كرس حيادية الدولة تجاه الأعراق والثقافات. كان هذا الامر قد تحقق فعليا قبل الإعلان العالمي. وهو أمر واجه حركة الإصلاح الديني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. كانت الحريات السياسية والاجتماعية والدينية قد أمام أعين الإصلاحيين خاصة الذين زاروا وتعلموا في باريس مثل رفاعة. الطهطاوي وخيرالدين التونسي، اللذين رأيا عيانا اختلاط الجنسين ووجود الملاهي الراقصة وشرب الخمر، هي رفض الشريعة الإسلامية لهذه الممارسات غير الأخلاقية، وكانت النتيجة هي رفض الشكل الحداثي للدولة والمجتمع والإبقاء على الاستبداد والعودة للسلفية التي كان عمرها آنذاك ثلاثة عشر قرنا واعتبار الخلافة الشكل الوحيد المرتبط بالأخلاق.

سعت لين هانت في كتابها المؤثر Inventing Human Rights الى العثور على تاريخ العمل الفلسفي والثقافي لحقوق الانسان. انها تتابع مبدأ المساواة في رواية، تعتقد، هي لين، إنها مهدت للعقد الاجتماعي لروسو. وهي رواية روسو نفسه التي تعيد قصة حب من القرن الثاني عشر بعنوان (جوليا)، فصل بعنوان جمالي هو (سيول العاطفة: قراءة روايات وتصور مساواة) يتابع موقف النقاد في القرن الثامن عشر من الرواية ومن القيم الانسانية الكبرى التي اسهمت في تحول القيم الثقافية الانسانية إلى قيم حقوقية وقانونية. فالرواية ارست مبدأ المساواة كحق اساس من حقوق الانسان.

2365 نبيل ياسين 2

س - ما وظيفة الأخلاق أمام التحديات مثل الحروب وخطاب الكراهية والتعصب والطائفية الدينية والمذهبية؟ وهل هناك فهم متطابق وموحد لوظيفة الأخلاق؟

ج- في الحياة الواقعية فان الاخلاق معزولة عن القرارات السياسية، وهي ضحية لها. لذلك لا تملك الاخلاق وظيفة مادية قادرة على مواجهة التحديات. فالحروب تتكاثر رغم كثرة منصات الحديث عن الأخلاق. فالدول الديمقراطية، التي تقوم على أسس أخلاقية، تنتهك هذه الأسس خارج حدودها القومية. بدءا من فرنسا التي عبرت حدودها الى الجزائر على سبيل المثال، الى بلجيكا التي عبرت حدودها الى الكونغو، مرورا ببريطانيا التي عبرت حدودها البحرية متجهة الى الهند وامريكا التي اجتازت حدودها على المحيط الأطلسي لتتجه الى قارات العالم الأخرى.

فالعولمة، الكولونيالية التقليدية سابقا، والأمبريالية الألكترونية الحديثة، تؤديان دورا موحدا في نفي الاخلاق عن العالم. فالأخلاق النفعية هي اخلاق مصالح متغيرة، وهي السائدة الآن في حقل الاخلاق.

طبيعي ان لايكون هناك فهم متطابق لوظيفة الأخلاق. ويظهر ذلك في تكييف الأخلاق لنظرية الأوامر الإلهية من جهة ونظرية الأخلاق الطبيعية من جهة أخرى.

لنتساءل، ايهما كان في أولويات إنسان الكهف، التنظيم العائلي ام اكتشاف الأخلاق؟، من المرجح جدا ان التنظيم العائلي وتوفير الطعام للأسرة عن طريق الصيد كان يتفوق على الاهتمام الأخلاقي، الا اذا اعتبرنا ان توفير الطعام للأسرة هو مسؤولية أخلاقية دون ان يتم اظهارها كمسؤولية أخلاقية.

قبل ان تظهر الحروب وتظهر الكراهية والتمييز الديني والمذهبي والعرقي كانت الأولوية هي العيش بسلام، سوى شن الحرب على الطرائد الحيوانية من أجل توفير لقمة العيش. قد يكون اكتشاف الزراعة بداية للخلاف البشري (هناك تفسير للصراع بين قابيل وهابيل بانه صراع بين الرعي والزراعة) وظهور الحرب والكراهية والتمييز بين الآلهة التي ظهرت بداية من أجل توفير الحماية لممتلكات الإنسان. لذلك فإن ارتباط الأخلاق بالأوامر الإلهية يقوم بفعل سلبي وليس إيجابيا. لنلقي نظرة على وظائف الآلهة في بلاد الرافدين فقد كان للسومريين آلهة مختلفة من أجل الحماية. فهناك إله الصيد وإله الرعد(الإله أدد) وإله المطر وإله الرعي (سموقان) وإله المياه(أنوناكي) وغيرها من ثلاثة آلاف إله تم ذكرها في الحوليات الرافدينية. وقد كانت هذه الآلهة تشن الحروب بعضها ضد بعض مقلدة أفعال البشر.

إن تأويل الدين يعتبر مصدرا من مصادر الحرب وبث الكراهية بين الأديان والمذاهب والقوميات. وبدل ان تقوم الاخلاق الدينية بنشر السلام ومنع الحروب ونبذ الكراهية، فإننا نعثر على احد مصادر العنف الشائعة اليوم في الاخلاق الدينية نفسها الناتجة عن التأويل. ان تاريخ الأديان والعنف الذي رافقه يجعلنا نشكك بأصل نظرية الأوامر الإلهية باعتبارها من اختراع الفقهاء ورجال الدين في كل الأديان. فاذا كانت هذه الأوامر مشتركة،وهي من الله، فلماذا تتعطل بين الأديان المؤمنة بهذه الأوامر وأصلها الإلهي واعتبارها دافعا لفعل الخير؟ بينما تمارس الأديان فعل القتل، وهو فعل غير أخلاقي ورد النهي عنه في الوصايا العشر. ان القتل هو عنف ينتهك الاخلاق. وتكسب التأويلات الأخلاقية اعمال العنف بطابع عقلاني وحيد مفتعل على الرغم من انه ينافي العقلانية. ذلك ان المنطق الأخلاقي مختلف عن المنطق الديني، وإن المنطق العقلاني ينفصل عن المنطق العقلي.

يحاول الفيلسوف الأخلاقي بيرنارد جيرت  Bernard Gert الذي قضى خمسين عاما في فحص احدى النظريات الأخلاقية المرتكزة على المفهوم المعتدل للحيادية وتوضيحها وتطويرها، الإجابة على سؤالين محددين: ماهي اعمال العنف وكيف يتم تبريرها؟. وفي تعريفه لأعمال العنف يصفها بانها الانتهاك المتعمد لخمس قواعد أخلاقية أساسية تجاه الأشخاص الذين ليست لديهم رغبة عقلانية لخرق القوانين لصالح نفسه او نفسه وتنحصر تلك القواعد في : لا تقتل. لا تتسبب في إحداث ألم. لا تحدث إعاقة. لا تحرم شخصا من حرية اغتنام الفرصة. لا تحرم شخصا من السعادة (فيتوريو بوفيتشي. العنف. مختارات فلسفية. ترجمة ياسر قنصوه.المركز القومي للترجمة. ٢٠١٧ ص١٣١)

لكن التبرير، يرتكز على مفهوم السبب (ولهذا فأن التبرير في صورته الأساسية – تبرير أحد الأعمال -هو إيضاح ان ذلك العنف يعد عقلانيا (نفس المصدر والصفحة). لكن هذه العقلانية لا تكمن في جوهر الفعل وانما في تسويغه وتبريره.

 

س -هل تعتقد أن الأخلاق تلعب دورا في الفضاء العمومي من أجل التأسيس لديمقراطية حقيقة في العالم العربي، وتعمل على إعادة ترميم انهيار منظومة القيم الاخلاقية في الممارسة السياسية؟

ج- خلال سنوات طويلة، وبدافع من اهتمامي بالعدالة لم اجد مؤلفا عربيا إسلاميا بهذا الموضوع في تراث الفكر الإسلامي. واذا كانت الفلسفة المعاصرة تتحدث عن العدالة بتفاصيل جديدة وتسوية عقلانية من أجل الإنصاف مثلما يشير رولز في كتابه نظرية العدالة (A Theory Of Justice.الصادر عن The Belknap Press Of Harvard University Press. Cambridge. Massachusetts. 1999)، والصادر بالعربية بعنوان نظرية في العدالة) حين يؤكد في التفاتة مهمة وكأنها شرط قائلا: من احدى خصائص العدالة إنصافا ان نفكر بالأطراف في الوضع المبدئي على انهم عقلانيون ولا توجد مصالح متبادلة بينهم (جون رولز. نظرية في العدالة. ترجمة ليلى الطويل. الهيئة العامة السورية للكتاب. دمشق ٢٠١١)، فإننا نفتقر تماما الى نظرية في العدالة وبالتالي نفتقر الى دور الأخلاق في انشاء مثل هذه النظرية. فتاريخنا لا يفكر بأطراف وانما بطرف واحد ونتيجة لذلك نفتقر الى العقلانية. لان العقلانية وفق رولز بحاجة الى عقد او تعاقد.

إن ما وردنا عن الأخلاق في الفلسفة الإسلامية يشكل فهما عميقا، ولكن مشكلتنا اننا توقفنا عن انتاج الفلسفة، واعتبر الفقهاء، عموما، ان انتاج الفلسفة لا يتوافق مع الشريعة، ونحن نعرف النكبات التي تعرض لها الفلاسفة المسلمون، ففي زمن المعتضد على سبيل المثال، تم تحليف الوراقين على عدم استنساخ كتب الفلسفة في اسواقهم. فقد كان الفلاسفة المسلمون يؤكدون على العلاقة بين الفلسفة والشريعة للوصول الى الحقيقة، وهو ما رفضه الفقهاء.

س - من الشائع أن يتقاطع القانون والأخلاق ويتداخلان في جميع مجالات صنع القرار القانوني؛ فيجبمن أجل فهم مسائل الدستور أو التشريع أو القانون العام، على القضاة وغيرهم من صانعي القرارالقانوني أولاً حل بعض القضايا الفلسفية التي تشمل الأحكام الأخلاقية للصواب والخطأ. يتضح هذا بشكلخاص فيما يتعلق بالتفسير الدستوري، ولاسيما عندما تعطي الدساتير تفويضًا لحماية المعاير أو القواعدوالقيم الموضوعية - الجوهرية كحقوق دستورية في هذه المواقف، كما لاحظ ذلك رونالد دوركينالفيلسوف القانوني المعاصر الرائد في كتابه " أخذ الحقوق على محمل الجد"، يدمج الدستور القضاياالقانونية والأخلاقية، من خلال القضايا أو المشاكل. بالطبع لا تقتصر الحاجة إلى توضيح القيًمالموضوعية الجوهرية على التفسير الدستوري بموجب وثائق أو مشاريع قوانين الحقوق فقط. يثير هذافورًا معضلة متأتية من التنوع الأخلاقي والتعددية في المجتمعات الحديثة. كيف يمكن أن يظل القانون حساسًا لهذه التعددية ومع ذلك يقدم إجابات واضحة للمشكلات التي تتطلب حلًا قانونيًا؟

ج- يدين مونتسكيو الترف باعتباره ينتهك الاخلاق في الجمهورية. (فحين فسد الرومان اتسعت شهواتهم ويمكن تقدير ذلك مما وضعوه ثمنا للاشياء ٠ومن ذلك ان دن خمر فالرن كان يباع بمئة دينار روماني،.. وان ثمن الطاهي الماهر أربعة تلنتات، ولا ثمن للخدم.واذا ما اقبل جميع الناس على الملاذ بصولة شاملة فماذا تصبح الفضيلة؟(مونتسكيو. المجلد الأول. الباب السابع. الفصل الثاني. ص١٤٧). وهو الاعتقاد الذي سبق اليه ابن خلدون بقوله ان الاخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد، لان الانسان انما هو انسان باقتداره على جلب منافعه ودفع مضاره واستقامة خلقه للسعي في ذلك، والحضري لايقدر علـي مباشرته حاجاته، اما عجزا لما حصل له من الدعة، او ترفعا لما حصل له من المربـي في النعيم والترف، وكلا الامرين ذميم. ابن خلدون. المقدمة. ج ٣ ص ٨٨٠-.نقلا عن جوامع الاخلاق والسياسة والحكمة. ج ١. منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة.١٩٩٣ ص٦٨.

لدى شرائع مونتسكيو نعثر على مفهوم للأخلاق يرتبط بالقانون الوضعي. ومن ذلك كيف تدير قوانين المصالح الأخلاق ادارة متعسفة لصالح افراد او مجموعات.

فالربا، على سبيل المثال، انتقل من فعل لا أخلاقي الى فعل أخلاقي عن طريق تشريعه ضمن قوانين المصارف. فالربا لم يعد، أخلاقيا، خرقا او تصرفا مذموما.فقد تحول الى خرق أخلاقي مشروع.

لقد تطورت أوروبا الى الديمقراطية بصعود البرجوازية. وكان الربا شائعا، ولكنه كان يواجه معارضة أخلاقية. وكانت البرجوازية التي تسعى الى السيطرة بحاجة الى تشريع الربا وجعلة مقبولا أخلاقيا، وتم هذا عن طريق تأسيس البنوك وجعل الربا مشروعا، وتحول الربا الى (فائدة) قانونيا.

ان المرابين الذين كانوا يُنظر اليهم نظرة لا أخلاقية اصبحوا يحكمون عن طريق الربا القانوني، وتحول حكم النهي عن الربا في سفر التثنية (لا تقرض أخاك بربا. ربا فضة. أو ربا ذهب، أو ربا طعام. أو ربا شيء مما يقرض بربا. لأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا، لكي يباركك الرب إلهك)(التثنية.٢٠:١٩:٢٣). وورد مثل ذلك في سفر المزامير،(السالك بالكمال، والعالم بالحق والمتكلم بالصدق في قلبه، فضته لا يعطيها بالربا ولا يأخذ الرشوة في البري)(مزمور ٥:٢:١٥) وكذلك في سفر حزقيال ونحميا.

وحرم القرآن الربا في ثلاث مواضع في السور الطوال الجامعة لكثير من الاحكام، هي البقرة وآل عمران، والروم. (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، ذلك بانهم قالوا انما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره الى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)(البقرة ٢٧٥، ثم تتبعها الآيات ٢٧٦و ٢٧٧و٢٧٨).

قامت فكرة البنوك اذن على خلق تسويغ مقبول لتحويل فعل لا أخلاقي الى فعل أخلاقي يرعاه القانون.

يقوم المؤمنون من اتباع الأديان الثلاثة، بالطقوس الجسمانية كالصلاة والدعاء اكثر بكثير من الالتزامات الروحية الأخرى ومنها السلوكيات الأخلاقية. لقد عبر الغرب والمجتمعات المسيحية التي كانت تشهد نمو عمليات الربا عبر مرابين يهود في الغالب، الذين يؤمنون، حسب التثنية، بإقراض الأجنبي بالربا، هذه المشكلة بأن حولتها الى عملية شرعية وقانونية، فيما لاتزال المجتمعات الإسلامية تناقش حتى الآن الطريقة التي يمكن فيها تشريع الربا عبر ما يطلق عليه البنوك اللاربوية. ويحضر في هذا الشأن محاولة الفقيه الإسلامي محمد باقر الصدر (البنك اللاربوي في الإسلام: أطروحة للتعويض عن الربا ودراسة لكافة أوجه نشاط البنوك في ضوء الفقه الإسلامي).

لقد أصبحت البنوك إدارة أساسية من مستلزمات الاقتصاد العالمي، الذي يقوم على الإقراض والفائدة ولذلك لم تعد مشكلة الربا في العالم غير الإسلامي مشكلة معوقة للنمو الاقتصادي. فما هو الدور الأخلاقي الذي انهى التحريم بتحويل الربا الى مؤسسات بنكية كبرى تدير اقتصاديات العالم؟ هل هي الأخلاق الجديدة أم ان الوصايا الإلهية يمكن تكييفها وتسويغها بتغيير شكلها والإبقاء على اسلوبها؟

ما يشير الى طبيعية الاخلاق قبل ان يأتي دور الفقهاء والمفسرين. وقبل ان يقدم لنا الفقهاء اوامرهم باعتبارها أوامر الهية يشددون فيها على العفة للمرأة باعتبارها (لقلق الخلاص) على حد تعبير ماكس فيبر حين بث الكالفينيون المذاهب الطهرية من اجل النجاة من الهلاك.

تخضع المرأة في الأديان الى سلسلة طويلة من الأوامر والنواهي تنبع من منطلقات متعددة ومتناقضة. فالعفة لا تخص الرجل في الأديان بقدر ما تخص المرأة. وتسربت هذ الإشكالية الى المجتمعات المختلفة، ليس بالضرورة كالتزام ديني وانما كترسبات اجتماعية تقوم بتأويل الفضيلة ونقلها من الدين الى الفرد والمجتمع. فالأخلاق، في جوهرها اجتماعية.. يقول جون ستيورات ميل في كتابه The Subjection of Women)) الى ان كثيرا من القطاعات الاجتماعية والدينية نالت حقوقها عدا المرأة التي لم تنل حقوقها بسبب الدين والإخضاع الاجتماعي في المؤسسات الحديثة وبقيت تعاني من الحرمان والعزلة حتى لو تم انتهاك ما اصبح قانونا أساسيا (Penguin Classic 2006. p153) فهل هذا الإخضاع إخضاع اجتماعي آم إخضاع ديني؟ في كلا الحالين يعتبر هذا الإخضاع خرقا وانتهاكا مشتركا بسبب الترسبات الدينية والاجتماعية المنافية للحق الطبيعي التي كرستها الأديان.

 

............................

د. نبيل ياسين

* دكتوراه فلسفة من أكاديمية العلوم الهنغارية عام ١٩٨٦ عن اطروحته (التشكيلات الاجتماعية -الاقتصادية وتأثيرها على الدولة والمجتمع في العالم العربي ١٨٠٠-١٩٨٠

* عمل باحثا في معهد العلوم الاجتماعية في اكاديمية العلوم الهنغارية ١٩٨٦-١٩٨٩

* عمل أستاذا لدراسات الديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الانسان في العراق ٢٠٠٨-٢٠١١

* كاتب وشاعر نشر العديد من الدراسات حول الدولة والدستور والعولمة في صحف مثل (الحياة) اللندنية خلال أعوام ١٩٩٢-٢٠١٨ وفي صحف ومجلات أخرى

* مؤلف كتاب (الأصول الاجتماعية والفكرية للتيارات الإسلامية المعاصرة). لندن ١٩٩٤

* مؤلف كتاب (التاريخ المحرم) دراسة في الفكر السياسي. العراق نموذجا. لندن ١٩٩٨

* صدرت اعماله الشعرية في مجلد عام ٢٠١٧ عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت.

* له مؤلفات أخرى في الشعر والسيرة والتاريخ.

 

 

في المثقف اليوم