حوارات عامة

الأدب في المهجر.. لقاء مع قصي الشيخ عسكر

لا يمكن أن تذكر أدب المنفى أو الشتات أو المهجر، من دون أن تتذكر اسم الشاعر والروائي العراقي قصي الشيخ عسكر. فلو نظرنا إلى قائمة أعماله التي تربو على 30 عملا موزعة على الشعر والقصة والرواية والنقد الأدبي تجد أنه بدأ النشر في دمشق عام 1990. وهذا يعني أنه من جيل المنفى بموجته الثانية، التي عانى أفرادها من مرارة الاغتراب والتشرد في وقت مبكر.

لقد حملت أعمال الشيخ عسكر هذه الأوجاع ولا توجد لديه رواية تخلو من موضوعين: الماضي المؤسف بما ينطوي عليه من استبداد وعذاب وحرمان. والحاضر الذي يعني بالنسبة له الرحيل دون توقف من عاصمة إلى غيرها بحثا عن الاستقرار والأمان.

قصي الشيخ عسكر من مواليد البصرة عام 1951. يحمل الجنسية الدانماركية. ويقيم حاليا في إنكلترا حيث يعمل ويكتب. نشرت قصائده وقصصه في مجلة العربي (الكويت)، الثقافة (دمشق)، الشرق الأوسط (لندن)، وغيرها.

من أهم رواياته: المكتب، نهر جاسم، المقصف الملكي. وصدرت له منذ أسابيع رواية (علاء الدين) في دمشق عن دار أمل الجديدة. هذا بالإضافة إلى كتابه "أساطير العرب قبل الإسلام وعلاقتها بالديانات القديمة". وهو يحمل شهادة الماجستير في الأدب العربي من جامعة دمشق. وشهادة الدكتوراة بالاختصاص نفسه من إحدى المؤسسات الأكاديمية في لندن.

لاستجلاء الخطوط العريضة لخلاصة أرائه في فن الرواية، جرى معه هذا اللقاء بواسطة الفايبير والبريد الإلكتروني.

* ما هي أهم الروايات التي تأثرت بها؟.

جواب: في بدايتي سحرتني الواقعية الروسية ولا سيما رواية (الأم) لغوركي. و(آنا كارنينا) لتولستوي. لذلك ستجد أن أول ثلاث روايات كتبتها وهي (المكتب) و(المعبر) و(المختار) تندرج في الأساليب الواقعية.

* يُلاحظ أنك تعتمد على سيرتك الذاتية في أعمالك الأخيرة. وأفكر بجنان جاسم حلاوي. فهو يستفيد أيضا من سيرة حياته المقسومة بين الوطن والمنفى. ألا توجد علاقة بينكما؟.

جواب: جنان صديق. وقرأت له (يا كوكتي). لكن لا أكتمك سرا لست مرتاحا للرواية الحالية في العراق. وأخبرته أن الرواية العراقية تشهد نكسة ملحوظة وهي ضعيفة. وصارحته أن أعمالنا في المشهد العام حاليا تعاني من التراجع.

* ولكن تحصد الرواية العراقية اعترافا ملحوظا. و"فرنكشتاين في بغداد" لأحمد السعداوي فازت بجائزة الرواية العربية ورشحت لبوكر الدولية؟.

جواب: أنا سبقته لهذا الموضوع في روايتي "شيء ما في المستنقع". وفكرتها تدور حول تجميع أجزاء ميت. ولدي رواية قصيرة بعنوان "آدم الجديد" عن جندي متضرر يزرع له دماغ ميت. ولاحقا يكتسب سلوك ومعارف صاحب الدماغ وينسى ذاكرته وشخصيته. ألا ترى معي أن رواية السعداوي ليست جديدة وإنما أحاط بها حسن حظ؟.3676 قصي الشيخ عسكر

* لا أستطيع أن أقبل هذه الحجة. لأن فرانكشتاين جزء من التراث الإنساني. والسعداوي وظفه بطريقته. بينما وظفته جانيت ونترسون البريطانية بطريقة مختلفة برواية حملت عنوان "فرنكستاين". استفادت الرواية والسينما من دون كيشوت. وكتب عن هذا الفارس المضحك كل من غراهام غرين قبيل وفاته. وكذلك الأعرج واسيني في روايته "حارسة الظلال". لكن فكرة غرين معرفية بينما الأعرج وظفه لتصوير الفساد السياسي والإداري وصعود الإسلاميين. ولا يمكن أن أجد علاقة بين التجربتين.

جواب: لكن الرواية العراقية مريضة. والأسماء اللامعة في هذه الأيام بارعة بالقصة وليس الرواية. كما أنه لدينا حالة شعرية أفضل.

* نعود إلى (يا كوكتي). تطرقت مع صديقي الناقد الأدبي د. حمزة عليوي لرواية (يا كوكتي). واتفقنا أنها عمل متميز ويستحق التنويه. يعتمد هذا الروائي مثلك على تجاربه الشخصية ويعيد صياغتها. وهذا واضح أيضا في مجموعة قصص صدرت له في دمشق عن وزارة الثقافة بعنوان (ظلال الطيور الهاربة). وقد تركت في نفسي أثرا طيبا. إنما لا زلت أتهيب من (أهل النخيل) بسبب حجمها والشهرة التي رافقتها. هل ترى أن خصوصيات رواياتك قريبة من خصوصيات جنان حلاوي. بتعبير آخر: هل تعتقد أن هناك شيئا مشتركا بينكما غير أنه يعيش في السويد وأنت بجواره في الدانمارك ثم إنكلترا؟.

جواب: لا توجد علاقة ملحوظة. أصدر جنان قصصا قصيرة جميلة جدا خلال حكومة البكر أو صدام لست متأكدا. وتبنتها وزارة الثقافة في بغداد. ولكن لا أذكر أنه أضاف شيئا بعد ذلك، فأنا لم أقرأ له الكثير بعدها. باختصار إنه يكتب القصص بأناقة، ولا يمكننا أن ننكر ذلك. أما رواياته ففكرتي عنها محدودة.

* لست في موضع الكلام عن كاتب أنت أقرب لتجربته. لكن (يا كوكتي) تشبه برأيي ما فعله يحيى يخلف في (نشيد الحياة) و(تفاح المجانين). يختلط الواقع بالخيال دون أن يفصل بينهما.

جواب: أعتقد أن جنان موهوب وقادر على التعبير عن المخاض الفني للرواية العربية بلغة خاصة وموشورية. بمعنى أنه يحلل ألوان الطيف ويكتب في العمل الواحد بعدة مستويات.

* إنما هناك اختلاف في لغته بين عمل وآخر. وهذا مفهوم بضوء التطورات الراهنة. حتى الأدب الفلسطيني تغير. قارن يخلف مع ربعي المدهون. الأول يقاوم ويقاتل بلا تردد. والثاني يتكلم بلغة الخلاص من خلال الألم والمعاناة والصبر الطويل. وشتان ما بين الاستراتيجيتين.

جواب: يحتاج الموضوع لتأمل ودراسات أعمق. ولا أود أن أثير مزيدا من الحساسيات.

* بلا مجاملة.. من هو الكاتب الأقرب إلى قلبك؟.

جواب: أجدني قريبا من فؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان. وأجد أن بعض ملامح بثينة الناصري ولطفية الدليمي تسعدني. هؤلاء الأربعة أرتاح لهم: رجلان وامرأتان. أما من بلدكم الجميل سوريا فلا أخفيك سرا أن شخصيات العجيلي تستحق التفاعل معها. بينما حنا مينة لم يمتلك كل قلبي. وباستثناء (الياطر) هو واضح وبسيط.

* أنا في الحقيقة أفضل (بقايا صور) و(الثلج يأتي من النافذة). ومن أعماله المهاجرة (حمامة زرقاء في السحب) وهي عن رحلة علاج لابنته في لندن. إنها عمل جديد ورقيق ومحزن. وتفقّد به نفسه وماضيه. أما (الياطر) فهي نتاج وعي لغوي يكاد يلغي فكرة الرواية ويتحول إلى تصوير حالة عزلة نفسية وانسحاب من المجتمع إلى برج عاجي. لقد فتح حنا مينة نافذة لفكرة الفداء المسيحي عن طريق العذاب والصليب. وهذا يرفع السياسة إلى مصاف الإيمان الذي نحتاج إليه كشعوب مكبوتة وغير متطورة.

جواب: في الواقع ما يستهويني بلا تردد هو الواقعية الروسية. ثم امتنعت عنها وانتقلت للروايات الرومنسية مثل (البؤساء) و(بائعة الخبز). وأرى أنها أثرت في كل الأعمال الكلاسيكية المعروفة في العراق وسوريا. وأضيف فوق ذلك الآن (ساحرات سالم) لآرثر ميلر. فلغتها الأخاذة لا تغيب عن بالي. وأحب أن أنوه بدور غسان كنفاني. فقد كان يعرف كيف يعرب عن ألم المأساة وضرورة أن تكون فدائيا تدافع عن أرضك.

* كنفاني كتب عن الأدب الصهيوني وسبق غيره لكسر هذا التابو. وعالج الموضوع بانفتاح وجرأة ومسؤولية أحسده عليها في وقته. ولم يهادن الشكل الفني في سبيل المعنى. وكتب بتيار اللاشعور في وقت كان هذا الأسلوب مطاردا ومشكوكا به، بدرجة الخطورة التي يتهم بها أوروبي غيره ويصفه بمعاداة السامية. ولكن لا يوجد لميلر عمل باسم (ساحرات سالم). وإنما كتب عن عرافات سالم مسرحية بعنوان (المحرقة).

جواب: هي نفسها. وتركت أثرا عميقا في نفسي. وستجد هذه المعاناة في روايتي الواقعية (المختار) والتي صدرت لي في وقت مبكر.3677 قصي الشيخ عسكر

* وماذا عن المؤثرات الواقعية؟ ظروف حياتك في الغربة.

جواب: أدين لها بأشياء عديدة. ورواياتي المهجرية استفادت من خبراتي العملية في الحياة. كل مدينة عشت فيها كتبت عنها رواية أغنت من حصيلة كتاباتي. لي رواية عن بيروت، وأخرى عن كوبنهاغن. ورواية عن الرباط. ورواية عن دمشق.

* ألم تترك لديك هذه التجارب إحساسا مختلفا بثقافات متنوعة؟.

جواب: هذه المسألة أقرب للنقد الأدبي. وأنا أنأى عنه بنفسي. أحيانا أكتب انطباعا بشكل خاطرة عن نص قرأته وحرك أشجاني. ولكن أركز على الرواية والقصة في معظم الأوقات. لي دراسة عن الأسطورة قبل الإسلام. ومعجم تعليمي بعدة لغات. لكن أجد نفسي في الرواية.

* المعاجم تحتاج لثقافة موسوعية ووقت ودأب. ما هي مصادرك وأنت كثير التنقل ومثقل بأعباء الحياة؟.

جواب: الأسطورة هي نتيجة الماجستير في جامعة دمشق. وتلقيت فيها علومي على يد الأستاذ العلامة أسعد علي ود. عبدالكريم اليافي الباحث في التراث العربي من كل جوانبه. وأضيف تأثير الناقد المستنير حسام الخطيب الذي كان يقرأ لي مخطوطاتي أحيانا ويرشدني بنصائحه وتعليقاته.

*هذا قوس واسع من المؤثرات المتناقضة. فأسعد علي مؤسسة مستقلة. بينما اليافي يعمل ضمن دائرة التراث العربي الرسمية. أما حسام الخطيب فهو كتلة شائكة من الشد والجذب، بين الوجودية بصيغ الفكر القومي، ومشكلة فلسطين، وعلاقته بالأدب المقارن والحداثة.

جواب: أنا معك. استفدت منهم جميعا وبنيت على مراجعي السابقة في العراق مثل جواد طاهر وغيره من مؤسسي الفكر الوطني الذي فتح له الباب الزعيم عبدالكريم قاسم. لكن خسارتنا له والانقلابات الدموية التالية وليل البعث الطويل هيمن على الساحة وكمم الأفواه. ولم يعد أمامنا مجال للتسامح. ودخلنا في مشكلة مزمنة مع الفساد الذي يلهب ظهورنا بسياطه حتى الآن. وأنا شخصيا خسرت والدي في المعتقل واضطررت لأن أنجو بجلدي بالفرار.

* ما هو العمل الذي تصور فيه هذه المعاناة أكثر من غيره؟.

جواب: المعاناة نوعان. عبرت عن نفسي في الداخل برواية (نهر جاسم) وهي مهداة لمسقط رأسي وكيف تطور مع الزمن وظروف الحياة الصعبة التي نعيشها في مجتمع الندرة والقيود. وصنفها الناقد نجم عبدالله كاظم بين أفضل مائة رواية عربية. أما المعاناة في المهجر فقد رسمت صورتها في رواية (وأقبل الخريف مبكرا).

* أمضيت في نوتنغهام أكثر من 15 عاما. وهي مدينة مؤنثة عشت فيها شخصيا لثلاث سنوات. وأذكر أنها تحرك قلب الحجر. ولكنك لم تكتب عنها. لماذا؟.

جواب: من قال لم أكتب عنها؟. لدي قصة طويلة منشورة وكلها عن نوتنغهام. وفي روايتي (الحبل والنار التي تسري) توجد عدة إشارات واضحة.

* كنت أعني رواية أساسية بحجم (قصة عائلة) التي سجلت فيها سيرة عائلة نموذجية من البصرة. خذ على سبيل المثال دي إتش لورنس أو ألان سيليتو. لورنس رحالة ولم ينس نوتنغهام وخصها بأهم رواياته مثل (نساء عاشقات) و(قوس قزح). وسيليتو مع أنه موزع في حياته بين آسيا خلال الخدمة في الجيش وبين لندن خلال عمله الصحفي لكنه كتب عن مسقط رأسه (الباب المفتوح) وهو أهم أعمال السيرة الأدبية التي أنفقت ساعات بقراءتها وتخيل شوارع وأزقة مدينة لا تذهب من الذاكرة. هل لديك مخطط لرواية من هذا النوع. أو حتى رواية مغامرات تاريخية عن القلعة وروبن هود؟.

جواب: منذ أول أسبوع وصلت إلى نوتنغهام تحركت الأفكار في رأسي وكتبت (الحبل والنار التي تسري). نعم العلاقة طفيفة وبعيدة، لكنها من وحي نوتنغهام. وما زالت في الذهن أفكار تتحرك، لكني أتأنى بتنفيذها، وأحتاج لمزيد من الوقت. ولا تنس "نوتنغهام في علبة لشمانيا". مع أنها نوفيلا فهي مخصصة لعلاقتي مع هذه المدينة. وخلال كتابتها نفذت رحلة ميدانية إلى شارع هايسين غرين لتدقيق المعلومات على أرض الواقع. ومع أنني وصفته في النوفيلا على أنه شارع البغايا فهو الآن كما لاحظت نظيف منهن. ويبدو أنه دخل بسن التقاعد. وبعد الاستفسار من ببال محلي أك. لي أنه لم يعد يوجد في نوتنغهام شارع مخصص لهذه المهنة. هن موجودات لكن في أماكن وبؤر متفرقة و لم يكن مستعدا للخوض بالموضوع. ولذلك تراني الآن أقرأ عن تاريخ سوق المطرزات الذي أسسه الفايكنغ. وعن تاريخ القلعة. وعن ماضيها الاستعماري وموقفها من جمهورية كرومويل.

*وكيف تمضي ساعات يومك في نوتنغهام؟.

جواب: كنت أعمل بعدة جهات. وحاليا متقاعد أعيش في منطقة ميدوز. البيت لي. جيراني إيرلنديون. في الصباح الباكر أؤدي بعض الواجبات المنزلية. أحيانا أستجم في مكتبة نوتنغهام. أقرأ ما تيسر. وإذا توفرت الفرصة أحضر عرضا مسرحيا أو حفلة موسيقية. كنت أشارك بحضور القراءات الشعرية. آخرها أمسية مع الشاعر هنري نورمال والكاتب المسرحي كيفن فيغان. وقبل النوم أقرأ نصف ساعة ثم أكتب لو هناك شيء وهكذا...

***

حاوره: صالح الرزوق 

في المثقف اليوم