حوارات عامة

جنون الواقع وروعة الابداع حوار مع الأديب ناجي ظاهر

هو كاتب سارد حقيقي، أبدع في مختلف الأنواع الأدبية. كتب المقالة الثقافية والنقدية إضافة إلى الشعر، القصة القصيرة والرواية القصيرة/ النوفيللا. عمل في الصحافة الأدبية خاصة ردحًا مديدًا من الزمن. كما عمل في تعليم الكتابة الابداعية في العديد من المدارس والمؤسسات في طول البلاد وعرضها. ناف عدد مؤلفاته على الستين. تُرجم العديد من أعماله الابداعية إلى العديد من اللغات في مقدمتها الإنجليزية. كُتب عن إنتاجه الادبي العديد من الدراسات والابحاث الجامعية. حاصل على جائزة الابداع الادبي. يَعتبر نفسه قارئًا أولًا وكاتبًا ثانيًا. فيما يلي مقابلة مع الكاتب ناجي ظاهر إبن مدينة الناصرة الضاربة جذوره في قرية سيرين المهجرة منذ عام النكبة.

* ما مدى أهمية القراءة بالنسبة للكاتب والأديب..؟ انت كقارئ نهم، ماذا تقرأ؟

- اكتسبت القراءة لدى من أرادوا أن يكونوا كتابًا ومبدعين في العالم كله، وعالمنا ليس استثناءً في هذا، أهمية خاصة، كون عالم الكتابة والادب على حد تعبيرك، ليس نسيجًا وحيدًا في كينونته ووجوده وإنما هو حلقة في سلسلة متواصلة من الكتابات والابداعات الأدبية.. وُجدت منذ وُجدت الكتابة، يعزّز هذا أنه وُجد هناك من نقاد وأدباء عاشوا في فترات سابقة وفي زمننا هذا، أكدوا أن كل نص حديث هو جُماع لنصوص متعاقبة ومتراكمة عبر الزمن، وأن النص الجيّد إنما يتكئ على نصوص سابقة تدعمه وتؤكد وجوده المتميّز. ولعلّ هذه يدفعنا للإشارة إلى ما أسماه نقادُنا العرب القدماء بالإشارات والتضمينات الأدبية، وبما ذهب إليه نقاد حداثيون، وقفت في مقدمتهم المنظّرة الأدبية البلغارية/ الفرنسية جوليا كريستيفا، حول التناص في العمل الإبداعي الجدير، وهو ما يعني في بعض ما يعنيه  تضمين الكتابة الإبداعية قولًا أو مثلًا سائرًا حديثًا أو قديمًا وربطه بصورة محكمة بما يود أن يقوله الكاتب صاحب النص الحديث بصورة مناسبة وسلسة، الامر الذي يؤكد أن النص الحالي لا يوجد في فراغ وإنما هو يوجد في عالم عامر وبِناءٍ شاهق، هو بناء الابداع الإنساني بكل ما يشمله ويحفل به من آفاقٍ، ثراء وأبعاد.

إجابة عن الشق الثاني من سؤالك أقول، أنت تعرف ولا يغيب عنك، أنني كاتب سردي كتبت طوال عمري الادبي القصة القصيرة والرواية/ النوفيللا وهي الرواية القصيرة ذات المواصفات الخاصة والمحدّدة، كما أنني كتبت الشعر والمقالة الأدبية وأختها النقدية. كتابتي في هذه الأنواع الأدبية دفعتني طوال الوقت للقراءة فيها وعنها، وحفزتني في الوقت ذاته على القراءة في مواضيع أخرى ذات صلة، لعلّ أبرزها علم النفس والفلسفة وغيرها من المواضيع العلمية التي لا يمكن لقارئ مثقف في عصرنا أن يكون غيرَ عالمٍ وجاهلًا بها.

* أشرت إلى مواصفات النوفيللا/ الرواية القصيرة.. هلا ذكرت أبرزها لإثراء من يريد ويود من الاخوة القرّاء؟

- نعم. من أبرز هذه المواصفات أن النوفيللا محدودة المساحة، الكلمات والشخصيات، وتمتاز بالتكثيف والتركيز، ممثلة في حبكة مبأرة (من بؤرة)، وغير متشعبة إلا بقدر. زيادة في التوضيح أشير هنا إلى كاتب أبدع في مجال هذا النوع السردي ويمكن أن يقدم مثالًا جيدًا لمن يريد، هو الكاتب النمساوي ستيفان تسفايج، وهو للدقة يهودي الأصل، ومن نوفيللاته أشير إلى الرائعة "فوضى الاحاسيس". و"رسالة إلى امرأة مجهولة" التي تأسس عليها فيلم عربي قام بدور البطولة فيه الفنان المبدع فريد الأطرش وقدّمته السينما العربية المصرية قبل سنوات بعيدة. وهنا أذكر أمرًا أعتقد أنه يحتوي شيئًا من الطرافة هو أنني كنت أشعر بنوع من الفرادة في كتابة هذا النوع الادبي، بكل ما يستوجبه من تركيز وتكثيف، إلى أن قرأت مذكرات تسفايج " عالم الامس"، ورأيت إلى التماهي العميق في الرأي والرؤية الأدبية فيما بيني وبينه.

* هل كل من حمل القلم أو فتح صفحة على مواقع التواصل هو كاتب وأديب؟.. كيف يفرّق القارئ بين الغث والسمين؟

- (يبتسم)، لنتفق أولًا على أن كلمة كاتب تُطلق في العادة على كل مَن يكتب، غير أن هناك فرقًا شاسعًا بين كاتب وكاتب، فهناك مَن يشهد له الجميع ويُقرّ بوجوده الذوق العام، وهناك مَن لا يقرّ به إلا ثلة من أصدقائه وأصفيائة فقط. وهنا أستذكر طُرفة طيّبة المعنى والمذاق، أوردها الكاتب الفلسطيني محمد اسعاف النشاشيبي في كتابه المعبّر والمؤثّر " نُقل الاديب"، تقول هذه الطرفة إن حكيمًا سُئل مَن هو أشعرُ الناس؟، فردّ قائلًا كلٌّ في نظر نفسه إلا هوميروس فانه الشاعر في نظر كل الناس. وأذكر في هذا المجال أن معرفةً جمعنا به أحد المجالس أعرب حين إشارتنا إلى نجيب محفوظ وابداعه، أعرب عن رأي مُخالف لمعظم ما قيل عنه/ محفوظ من آراء، موضّحًا أنه كاتبٌ مملٌّ وثرثار وما إلى هذه من الكلمات. فقُلنا له إنه يوجد هناك في عالم الابداع الادبي، ذوق خاص وآخر عام، بمعنى أن الانسان الواحد منا يُمكنه أن يتخذ أي موقف يراه مناسبًا له، غير أن الذوق العام هو مَن يقرّر في النهاية وقبل كل شيء. وهنا أشير إلى ما قاله المفكّر الادبي الإيطالي اومبيرتو إيكو صاحب "إسم الوردة"، حول القارئ العادي والقارئ النموذجي، موضّحًا أن رأي القارئ النموذجي/ العارف، يساوي في قيمته آلاف وملايين آراء مَن لا يعلمون من القرّاء العاديين. هنا أعتقد أنني وصلت للإجابة عن الشق الثاني من السؤال حول التفريق بين الغث والسمين. وأقول في الإجابة عن هذا السؤال إن العالم احتكم فيما يتعلّق بهذا الشأن حتى فترة قريبة الى النقاد. أما اليوم، فقد ابتدأ بالانتقال إلى اللايك، كما رأى الناقد البريطاني في رونان ماكدونالد في كتابه" موت الناقد" الذي ترجمه إلى العربية الكاتب فخري صالح.

* ما رأيك في ظاهرة الكتّاب والأدباء والمحللين الذين يولدون بين ليلةٍ وضحاها دون رصيد سابق؟

- كما المحت ضمن إجابة سابقة لا يوجد هناك كاتبٌ يستحق هذه الصفة دون أن يكون مثقفًا مُطّلعًا وذا مستوى عالٍ من الوعي المتوهج. ونحن إذا ما عُدنا إلى التاريخ وإلى عمق حاضرنا في أبعد أغواره لرأينا أن مَن يكتب ويبدع ويقدّم ما يفيد الناس إنما يحتاج إلى رصيد ثقافي وفير. إن العابر يبقى عابرًا، أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض حتى لو لم يره ويلمسه الكثيرون.

* ما الفرق بين الكاتب والمبدع؟ وهل كل مَن كتب أبدع؟

- أعتقد أنني أجبت بهذا الشكل أو ذاك عن هذا السؤال فيما سبق من إجابات، إجابة مباشرة أقول إن هناك فرقًا كبيرًا، والتاريخ المُعلّم مُدرّس الإنسانية يوضح لنا هذا افضل توضيح، ففي كل عصر يوجد الكثير من الزبد والقليل مما ينفع الناس، ولنا في كل مَن عُرف من المبدعين في كل لغات الأرض عبرة، ففي زمن شكسبير كان الآلاف والملايين، ممن ولّوا وذهبوا.. وبقي شكسبير وهذا ينطبق على كل المبدعين الحقيقيين أمثال المتنبي، الجاحظ وأبي حيّان التوحيدي من اعلام ادبنا العربي الخالد. واضح أن المبدع الحقيقي هو مَن يكتب بعمق ثقافي وصدق إبداعي. وأن الفرق كبير جدًا بين المبدع الحقيقي والكاتب العابر، وما أقل الأول وما أكثر الثاني وأمثاله.

* لماذا نجد أن الكاتب المحلي أقل شأنًا من الكُتّاب في العالم العربي؟ وهل لدينا مِن الكتّاب مَن هم في مستوى الكتاب والأدباء في العالم العربي؟

- ابدأ في الإجابة عن هذا السؤال الصعب والمُركّب في الآن ذاته من شقه الثاني فأقول إنه يوجد لدينا كتاب مبدعون لا يقلون أهمية عن كتّاب في العالم والعالم العربي المحيط بنا تحديدًا. أنطلق في ردّي هذا من أمرين أحدهما أنه لا يوجد هناك كاتب ونصف كاتب، وإنما يوجد هناك في الواقع كاتب مبدع وآخر غير مبدع. أما فيما يتعلّق بالشق الأول من السؤال فإنني أقول، إن أمر الكتابة في عصرنا الراهن اتصف بالمزيد من التعقيدات. فالكاتب الحقيقي في عالمنا يحتاج إلى الكثير مما يوصل ابداعه إلى عناوينه، مثل الدولة التي تدعمه، ودار النشر المشهود لها وقدرتها المشهود لها في توصيله إلى القراء، وقبل هذا وذاك إلى اللغة الحية القوية التي توصله إلى القرّاء في انحاء العالم المختلفة. وربما كان من الضروري أن أشير هنا إلى ما سبق وأشار إليه العديدون وهو أن الشهرة لا تعني الأهمية والعكس صحيح. فهناك كتاب مشهورون في جميع انحاء العالم وليسوا مبدعين في صُلب أعمالهم الأدبية وهناك في المقابل كتاب مهمون إبداعيًا ولا يعرفهم الكثيرون.. جرّاء عدم توفر الطرف الداعم والموصل محليًا وعالميًا كما سلفت الإشارة.

* انت كأديب وكاتب وقارئ ولديك عشرات الكتب، مِن أين تستوحي كتاباتك؟ وهل هي من واقعك؟

- تَعلم أن كل الكُتّاب وكل المبدعين في العالم الماضي والحاضر، إنما استوحوا أعمالهم الأدبية من واقعهم اليومي المعيش، وانه لا يوجد هناك أي من هؤلاء استوحى ابداعه إلا مِن واقعه، وهنا أشير إلى الكاتب الاسباني الخالد ميجيل ثربانتس، صاحب الرواية الرائدة "دون كيخوته"، فقد استوحاها من واقعه المتّسم بالانتقال من فترة تاريخية الى أخرى وهي الفترة المودعة لزمن الفروسية، هذه الفترة التي جعلت بطله الهُمام دون كيخوته يحارب طواحين الهواء بدلًا من الفرسان الذين عزّ وجودهم. إن الكاتب والانسان العادي بصورة عامة، يستوحي ما يُبدعه ويقوله من واقعه، بدليل أن الغربيين يشبّهون المرأة الجميلة بالشمس في حين أننا نحن الشرقيين نشبّه المرة النظيرة بالقمر. بمعنى أن كل من هؤلاء يشبّه المشبه بما يحتاج إليه، وهنا أشير إلى رأي لناقد روسي هام يقول إن المبدع عندما يرسم نصف يد أو نصف حصان إنما يقترب من واقعه وينطلق منه.

*هلا ذكرت المصدر.

- نعم. المقصود بهذا الناقد بوريس سوتشكوف وقد ورد رأيه هذا في كتابه الهام " المصائر التاريخية للواقعية"، وقد ترجم  نصفه الأول الكاتب محمد عيتاني وترجم نصفه الثاني الكاتب أكرم الرافعي.

* ما أهمية المكان والزمان بالنسبة للكاتب؟

- الكاتب الفنان المبدع هو ابن مُخلص لمكان وزمان، وهو لا يعيش في فراغ، لذا هو يعيش قضايا مكانه وزمانه، بتأثر بها ويحاول باذلًا جُلّ جُهده أن يؤثر فيها، ملتزمًا بها وليس مُلزمًا كما يريد الكثيرون.

*هلّا أوضحت؟

- في التوضيح أقول. إن الابداع الحقيقي إنما يأتي من دوافع داخلية عميقة، لا تتجاهل الواقع بقدر ما تؤكده وتجزم بوجوده. بمعنى أن المبدع الحقيقي الجدير بصفته هذه يلتزم بطبيعته بمكانه وزمانه منطلقًا ومتمحورًا فيهما لكنه لا يمكن ولا يحق لاحد أن يُلزمه قاسرًا إياه ومنتهكا ملكوته المقدس.

***

مقابلة أجراها زكريا حسن

في المثقف اليوم