مرايا فكرية

المثقف في حوار خاص مع الباحثة إيمان شمس الدين (5)

خاص بالمثقف: الحلقة الخامسة مع الباحثة إيمان شمس الدين، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معها الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول قضايا المرأة وقضايا الفكر المعاصر، فأهلاً وسهلاً بهما:

س8: أ. مراد غريبي: كيف تنظرون لإشكاليات الإصلاح عند العرب، في بناء مشروع نهضوي متكامل لمفهوم دولة الإنسان، وهل تعدد المرجعيات الإسلامية مأزق تاريخي يفرض العلمانية كحل؟

ج8: أ. إيمان شمس الدين: تناولنا في الإجابات السّابقة إشكاليات الإصلاح ويهمني جدّا تسليط الضّوء على الشّق الثاني من السّؤال حول تعدد المرجعيّات وكون العلمانيّة حل، وهو ما يجعلني أمهّد لموضوع القداسة لعلاقته بالمرجعيّات الدينيّة.

القداسة كمفهوم عام وكلي لها مصاديق كثيرة، والمصداق الذي سنناقشه هو قداسة الأشخاص واعتباراتهم الدينية والفكرية، وما أعنيه من الأشخاص فقط، هم الأشخاص دون الأنبياء والرسل والأوصياء المنصوص عليهم من قبل الله تعالى نصا ونقلا، أو من أخفى الزمان وأحداثه المتراكمة وجودهم الخارجي، لكن حقيقتهم باقية كشخوص لها قداستها من الله.

وما يعنينا هنا بالذات دور القداسة الشخصية، واعتباراتها الدينية والفكرية في دفع مسيرة الإصلاح أو منعها.

فحينما أشرنا في المقدمة إلى أهمية الإصلاح الداخل ديني، وهي الخطوة الأساس في الإصلاح الخارج ديني، فإننا نعني هنا النقد والتقييم والمراجعة على ضوء المستحدثات ومتغيرات الزمان والمكان، وتبدل الأدوات والآليات والخطابات، وكعملية توصيف وليس تقييم للتيارات المدرسية داخل المؤسسات الدينية، أو من يتبعها من خارج المؤسسات، والتي تفاعلت مع مشاريع الاصلاح سلبا وإيجابا، وآلية تفاعلها في هذا الصدد:

١. تيار تقليدي أصولي، بمعنى أنه يتوقف على النص توقفا لا يراعي المتغيرات، يتبنى المسار الطقوسي المذهبي التعبدي، ويعتمد عليه في التحشيد العددي للجمهور، وهذا التيار يختلف في داخله شدة وضعفا، من حيث أصوليته، ويظهر هذا الاختلاف جليا في سبل مواجهة محاولات الاصلاح:

ـ فقسم يكتفي برفض أي محاولات إصلاحية مخالفة لمسلّماته، ويعتبرها تشكل خطرا على الأصالة والثوابت، وفق ما يراها هو ويقرأها، ويكتفي بالرد النصي على ذلك.

ـ قسم آخر من هذا التيار يمارس المواجهة المباشرة، من خلال التسقيط الاجتماعي لحامل المشروع، باستغلال عاطفة الجمهور واستغلال البعد الطقوسي والتعبدي، فبعد تسقيط الشخص في ذهنية الجماهير باتهامه بالخروج عن الدين والمذهب، يتم محاصرة المشروع ومن ثم تقويضه.

ـ قسم آخر يستخدم سلطته الدينية الفتوائية، فيصدر فتاوى تكون بمثابة الرصاصة الأخيرة، التي تقضي على المشروع وصاحبه، دون تفنيد الآراء بالدليل والبرهان.

ـ تيار حداثي يواكب المسائل المستحدثة، لكن يتلقف مشاريع الاصلاح كمسلمات، لأنه يهدف إلى الاصلاح لكن بطريقة مُفَرِّطَة، فلا يعكف على المنهج والآليات، ويتلقف كل ما هو جديد تلقف المسلمات اليقينية، لأنه مسكون بهاجس التغيير والتطوير، وهاجس مواكبة الغرب وأحيانا محاباته معرفيا، حتى لو عن طريق الترقيع.

ـ تيار حضاري أصولي معتدل، ينشد الاصلاح ولكنه يهتم بماهية الاصلاح وآلياته وأدواته، ويدرس حركة الوعي الاجتماعي وقابلياتها، ويهتم بالتدرج الهادئ الممنهج في مساره الاصلاحي، فهو يغلف مشروعه الاصلاحي بظواهر تقليدية، لكن مبانيه إصلاحية أصولية تأخذ في حسبانها المتغيرات العصرية، لكنه لا يتفاعل مع المتغيرات من موقع المنفعل بها، بل الفاعل بها والمتفاعل معها بما يخدم الدين لا يقوضه، ولا يخوض معارك شخصانية، بل معركته معرفية تعتمد الدليل والبرهان، ولا يستنزف وقته وجهده في المواجهة والجدل مع مناهضيه، إلا أنه يتوقف على النقود العلمية لتقويم مساراته الاصلاحية على ضوء هذه النقود وفق درجة وجاهتها علميا وبرهانيا. وهذا التيار لا يمارس الصدمة، وليس له بروز حاد في الساحة، ويتعاون مع المشاريع الاصلاحية النهضوية بتروي ودراسة، فيأخذ بما يلتقي مع مساره، ويترك ما يخالف تلك المسارات، لكنه لا يمارس أي دور دفاعي وتحصيني لتلك المشاريع ولا لشخوصها غالبا، حتى لا يتضرر مشروعه وتنكفئ مساراته، وتقوض جهوده. وقد يساهم في تلك المشاريع بطريقة تمهد لمشروعه وتنفعه على المدى البعيد.

ـ تيار يمارس التقية، فيظهر تقليديته في المنهج ويبطن حضارتيه في المباني والأهداف، لذلك قد يقف هذا التيار في الظاهر ضد مشاريع الاصلاح، لكنه في الباطن يدعمها ويؤيدها.

وهذا لا يعني خلو ساحة المشاريع الاصلاحية وأصحابها من ثغرات، وممارسات خاطئة، بل وفهم خاطئ أحيانا للإصلاح الديني، بل للفكر الديني بذاته، لكننا نكتفي بتقسيمات هذه المشاريع وأصحابها التي أوردناها في البداية.4978 ايمان شمس الدين

عائق اعتبارات القداسة كان ومازال له انعكاساته السلبية والإيجابية على الحركات الاصلاحية أهمها:

ـ كان للتيار الأصولي التقليدي دورا فاعلا في ترشيد كثير من الحركات الإصلاحية، لا بشكل مباشر مقصود، بل بشكل غير مباشر وغير مقصود، فردود الأفعال الصادرة عنه كشفت منهجيته في المواجهة، وكشفت ضعفا في بعضهم يكمن في ميله الإخباري التوقيفي على النص، وهو ما مكن بعض دعاة الاصلاح والنهضة من كشف ضعفهم بمنطق الحجة والبرهان، وإعادة نظر هذا الفريق من المصلحين في آلياتهم ومنهجهم وبعض رؤاهم.

ـ كرس سلطة العوام، لاعتماده على تحشيدها العددي لمواجهة وإسقاط المشروع الإصلاحي وأشخاصه، وكرس الموروثات غير مبرهنة في المجال العقدي والممارسات الطقوسية، بل كرس الطقوسية الدينية على حساب العقلانية المرشدة.

ـ ظهر كقوة ردع في وجه الانحرافات المطروحة باسم الاصلاح وقوضها، وإن مارس ذلك باستخدام وسائل كالإرهاب الفكري والاسقاط الاجتماعي.

ـ المواجهات الرافضة لأي طرح إصلاحي مخالفا للمشهور والإجماع، والموروثات العلمية لعلماء بشر سابقين غير معصومين، كرست العمل الفردي على حساب العمل الجماعي، فباتت كثير من الشخصيات الدينية ومنها الداعية للنهضة والاصلاح، له مشاريعه الفردية الخاصة، إما بسبب خوف البعض على مشروعه، بالتالي لا يريد أن يتأثر بأي حملات مضادة لمشاريع أخرى متشاركة معه ومتقاطعة ، أو بسبب فقدان الثقة بالساحة الدينية وشخوصها، خصوصا بعد فتاوى التكفير والتضليل وممارسة الاجتزاءات لكلام كثير من دعاة الاصلاح، ومحاولة محاورتهم بطريقة تستنطق ما يريده المحاور من الشخص الداعي للإصلاح، ومن ثم تحرف أو تجتزئ كلامه لتسقطه وتقوض دعوته، وهو ما جعل مساحات الظن السيء تفوق مساحات حسن الظن في الوسط الديني. وكانت النتيجة كالتالي:

ـ في مواجهة دعاة الإصلاح ومشاريعهم، رجحت أصالة المجتمع على أصالة الفرد لتقويض المشروع وإسقاط صاحبه.

ـ هذه المواجهة كانت نتيجتها الدفع لتكريس أصالة الفرد على أصالة المجتمع، من خلال الدفع بالمصلحين للعمل الفردي، وفقدان الثقة بين العلماء من دعاة الاصلاح أو غيرهم، مما هز كيان العمل الجماعي لحساب العمل الفردي، وأضعف الطاقة الانتاجية المعرفية وأخَّر الابداع الخلاق الجماعي.

وقد أسس السيد الشهيد محمد باقر الصدر، قاعدة فكرية لنظرية المصلحة العليا تميز بين المصلحة الخاصة والمصلحة العليا كمبدأ تأسيسي في نظم التفكير في المؤسسات الدينية والمنتسبين إليها، وكانت ترتكز على مبدأ الإيثار الأخلاقي، وهو إيثار المصلحة العامة والعليا للدين، على المصلحة الخاصة للفقيه قائلا:

" الأخلاقية التي كنا نعيشها من نقاطها الرئيسية الارتباط بالمصلحة الشخصية بدلا من التضحية، نحن بحاجة إلى أخلاقية التضحية بدلا من أخلاقية المصلحة الشخصية، نحن بحاجة أن نكون على أهبةٍ لإيثار المصلحة العامة للكيان، على حساب المصلحة الخاصة لهذا الفرد أو لهذا الفرد، نحن لابد لنا من أخلاقية التضحية بالمصالح الخاصة في سبيل المصالح العامة. أما ما كنا نعيشه، أما ما كان موجودا فهو على الغالب إيثارا للمصلحة الخاصة على المصلحة العامة. كنا نعيش لمصالحنا، وكنا لا نعيش للمصلحة العامة حينما تتعارض مع مصالحنا الخاصة.

وهذه النزعة الأخلاقية التي تتجه نحو المصلحة الخاصة لا نحو المصلحة العامة، تجعل القدر الأكبر من طاقتنا وقوانا وإمكاناتنا خصوصا في بيئة مثل بيئة الحوزة، في جو غير منظم، في جو لابد لكل إنسان أن يبني نفسه بنفسه، في مثل هذا الجو إذا عاش الناس دائما عقلية المصلحة الخاصة، ولم يكن عندهم أخلاقية التضحية بالمصلحة الخاصة، في سبيل المصلحة العامة، فسوف يصرف القدر الأكبر من هذه الطاقات والإمكانات والقابليات في سبيل تدعيم المصالح الخاصة، أو في سبيل الدفاع عن هذه المصالح الخاصة.

ثم يقول: في هذا الجو العام بهذا الاتجاه سوف يضطر كل إلى التفكير في نفسه والدفاع عن نفسه، وإلى تثبيت نفسه، وبذلك تصرف ثمانين بالمئة من طاقاتنا داخل الإطار، بالمعارك داخل الإطار، بينما هذه ال ٨٠٪ من القوى والطاقات التي تصرف في معارك داخل الإطار كان بالإمكان - لو كنا نتحلى بأخلاقية الإنسان العامل يعني لو كنا نتحلى بأخلاقية التضحية بالمصلحة الخاصة في سبيل المصلحة العامة – أن نحول هذه ال٨٠٪ للعمل في سبيل الله للعمل في تدعيم الإطار ككل، لتكريسه لتكديسه، لتوسيعه، وبذلك كنا نستفيد- لو كنا نعقل كنا نستفيد- حتى بحساب المقاييس العاجلة أيضا أكثر مما نستفيد ونحن تنازع ونتعارك ونختلف داخل إطار معرض للتمزق ، داخل إطار مهدد بالفناء.

ثم يختم هذه الجزئية قائلا: أخلاقية الإنسان العامل أول شروطها هو أن يكون عند الإنسان شعور واستعداد بالتضحية بالمصلحة الصغيرة، في سبيل المصلحة الكبيرة، وهذا ما لابد لنا من ترويض أنفسنا عليه. (كتاب: ومضات للصدر).

ولكن رغم هذه التعدّديّات إلا أنها يُفتَرض أن تأتي في سياقها التّاريخي الطّبيعي، فالاختلاف أمر طبيعي بين البشر، إلا أن البيئة العربية والإسلاميّة على مستوى الشّعوب عاشت فترات استبداد طويلة كان من أهم آثارها التنشئة عبر الزّمن على أحاديّة التفكير ورفض الاختلاف، لأن الاختلاف كان يواجه من السّلطة بعنف، وبالتّالي كان هذا العنف يتحوّل إلى وسيلة قمع وإرهاب غير مباشر ضد الشعوب، بالتّالي تم وزْد فكرة حريّة الاختلاف والتّفكير، وباتت الفكرة الرّائجة كحقيقة هو دين السّلطة ومنظومتها الفكريّة، وأي خروج عن ذلك يعتبر نوع من أنواع الكفر والخروج عن السائد الاجتماعي، لذلك نحن علينا أن نحوّل تحدّي الاختلاف إلى فرصة إلى رفع منسوب الوعي عن الجماهير بأهمية الاختلاف في تأسيس دولة الإنسان والمواطن، و أهميّة ذلك في تأطير منسوب الاستبداد ورفع منسوب العدالة وتحقيق الكرامة الإنسانية، ورفع مستوى الوعي الحقوقي وأهميته في منظومة الفكر الإنساني والاجتماعي، إذا هذا يحيلنا إلى الجزء الآخر من السؤال هل العلمانيّة هي الحل؟

هناك من ينادي بالعلمانية. كخلاص لمنطقتنا من الظلام، ولكن هل هي فعلا الخلاص أم هي هروب آخر نحو المجهول؟ نحن لا نعالج جذور المشكلة كي نضع لها حلولا مناسبة، نحن غالبا نهرب بعلاجات ترقيعية مستوحاة من الآخرين، دون حتى الالتفات إلى الفروقات الجوهرية بين الثقافات المختلفة والهوية، ونعمد إلى عملية استلاب لكل حواضننا الثقافية، باستيراد تلك الحلول، التي نهرب من خلالها من الواقع، حتى لا نشمر عن سواعدنا ونوغل في فهمه وحل مشكلاته.

والسبب هو التداخلات والتعقيدات المتشابكة والمتراكمة لتلك المشاكل، التي تداخل فيها السياسي بالمعرفي بالديني، ليخنق الإنسان لا ليخدمه.

والحقيقة أن ما هو سياسي ليس ما يجب أن تكون عليه السياسة، وما هو معرفي ليس حقيقة ما يجب أن تكون عليه المعرفة، وما هو ديني ليس ما هو دين أو ما وجد كدين، التشابكات الحاصلة هي ثمرة أفهام بشرية متداخلة، ساقت لنا تجاربها وعصارة أفكارها لتصنع لنا واقعنا .

ما نحتاجه كخطوة أولى حقيقية هي فك هذه التشابكات، من خلال فهم واقعها ومواجهة كل الانحرافات التي بها، ومن ثم معالجتها بالحقيقة.

وهنا نقع في مأزق الحقيقة، فأي حقيقة وأي منهج يوصلنا لتلك الحقيقة؟

في ظل فوضى المعرفة وادعاء امتلاك الحق والحقيقة، لا يمكننا زعم استحالة معرفة الحقيقة والحق، بل علينا أن نمتلك الجرأة والقدرة على مواجهة كل التحديات لمعرفة الحقيقة بقدر ما نمتلك من أدوات منهجية، فلن ادعي قدرتنا على امتلاك كل الحقيقة ، ولكنني أجرؤ على القول، أننا يمكننا الحصول على جزء كبير منها إذا قررنا ذلك .

إن أول عقبة وحائط صد يمكنه الوقوف أمام هذا الطريق الشائك، هو أغلب النخب الدينية والفكرية، والسبب هو تداخل المصلحة الذاتية مع مسار المعرفة البشرية، تداخلا متشابكا يُغَلِّب فيه هؤلاء مصالحهم على معارفهم، والضحية هو الإنسان الذي منه تتشكل المجتمعات.

لذلك أرى أن الخطوة الأولى للتشخيص هو مواجهة الذات، من خلال تسليط الضوء عليها ومعرفة خباياها وطرق تحفيزها وتوجيهها للخير العام، وليس فقط للخاص، مع تشخيص دقيق لمفاهيم الخير والصلاح وفق المشتركات البديهية البشرية التي تتفق فطرة البشر عليها خاصة في الجانب القيمي فيها، كون العقل قادر على تشخيص الحسن والقبيح وفق آراء أغلبية الباحثين في هذا الصدد، إضافة لانخراط أولئك الذين تتقدم معارفهم ومصلحة الإنسان على مصالحهم وذواتهم، أولئك المستعدون للمواجهة الكبرى مع الذات من جهة، ومع الآخر من جهة أخرى .

مواجهة معرفية تمتلك القدرة على فهم الواقع وتشابكاته، ومن ثم مواجهته وإصلاحه، مهما كلفها ذلك من ثمن على مستواها الشخصي أو الاجتماعي، أو حتى على مستوى ما اعتادت عليه من أفكار وعقائد.

إذا امتلكنا هذه المقدرة والقدرة، فنحن بذلك نكون قد قطعنا نصف الطريق نحو فهم وإدراك ماهية المعرفة، والإجابة عن سؤال أي معرفة؟ وما هي أدواتها وما هو منهجها السليم.

إن فهم العقل الإنساني وطبيعة الفهم البشري مدخلا ضروريا لفهم الذات والآخر، كون المعارف تشكل الافكار التي تقود العقل.

إذا خطوتنا الأولى تكمن في فهم الإنسان، فهم حاجاته الواقعية، صراعاته التي يعيشها مع ذاته بين فطرته وغرائزه، كيف تم نظمها وقَوْنَنَتُها.

هناك حقيقة لا يمكن الانفكاك منها، وهي حاجة الإنسان للدين كضرورة لا تنفك عن وجوده، فالإنسان بفطرته ينزع نحو المقدس ويسكن إليه، المقدس للإنسان هو مصدر طمأنينته وسعادته.

إن أدركنا ذلك بواقعية، نستطيع بعدها معرفة أي دين وأي مقدس، كون النص هو مصدر الدين، وهو أهم مصادر المعرفة المقدسة، وهنا يجرنا هذا الاعتراف والاقرار إلى إيلاء اهتمام خاص بهذا الجانب المعرفي من معارف الإنسان، والمحوري في تشكيل عقيدته، وتسيير سلوكه الفردي والاجتماعي .

فالدين هو مصدر التفسير الأثرى لمعنى الحياة والموت، وكون الحياة والموت مراحل أساسية للإنسان، بل هي تشكل مساراته كافة وأفكاره، بالتالي تصبح حاجته للدين حاجة وجودية واجبة، هذا فضلا عن كونها حاجة فطرية.

نحن اليوم إذا أمام أزمة فهم ديني لا أزمة دين، هذا الفهم مرجعه إلى موارد المعرفة وأدواتها وكيفية الإدراك، وهو ما يتطلب معالجة على عدة أصعدة مختلفة.

الإدراك المعرفي وأدواته:

الصعيد الأول هو الحفر العميق في منطقة الإدراك المعرفي، وكيف يتعامل عقل الإنسان ومراكز الإدراك فيه مع المعارف، ويرسم من خلالها أفكارا تشكل له عقيدة وسلوكا.

إن العمل يكون على مناهج التفكير أو ما أسماه المفكر العراقي يحيى محمد "علم الطريقة".

فيقول: " البحث الطريقي للفهم، وهو معني بمعرفة مناهج الفهم والقواعد التي يعتمد عليها والقوانين التي تتحكم فيه. كما يندرج ضمن البحث الطريقي كل ما يستجد من قواعد للفهم، وكذا طرق التقييم والترجيح بين مناهج الفهم وأنساقه. ويدخل هذا القسم في صميم علم الطريقة، وهو نظير ما يجري بحثه في) فلسفة العلم (وبهذا الاعتبار يكون عبارة عن فلسفة الفهم. لكن إطلاق سمة المنهج والطريقة عليه أولى من إطلاق لفظ الفلسفة.

وللمنهج معنيان، اذ يُقصد به المعنى الإجرائي، كما قد يُقصد به المعنى الابستيمي أو المعرفي. ويعني الأول القيام بالخطوات والضوابط اللازمة للبحث. فمثلاً في البحث التجريبي؛ على المجرب أن يأخذ بعين الاعتبار كل الخطوات التي تكفل للعملية التجريبية أن تكون مناسبة، دون أن ينقصها شيء من الشروط المعدة للبحث، كتحضير عينات من المادة المراد إجراء البحث عليها، وتعريضها لظروف اختبارية مختلفة، والاستفادة من الأبحاث السابقة في هذا المجال، وتسجيل الملاحظات الخاصة بخطوات البحث وجمعها ثم تحليلها واستخلاص ما يمكن من نتائج. والأمر كذلك في البحث الفكري، فلكي يحاول المفكر أن يقدم نظرية ما أو يشكل تصوراً دقيقاً حول قضية معينة؛ عليه أن يقوم بجملة من الاجراءات المنهجية، كشرط للدقة في النتائج التي يمكن أن يتوصل إليها، من قبيل الاطلاع المسبق على النظريات والتصورات التي سبقت بحثه في القضية ذاتها، وكذا مقارنة هذه الأفكار ببعضها أو القيام بنقدها ضمن نفَس موضوعي، وكذا ألا يحمل صورة نهائية مسبقة حول القضية ليسقطها على البحث، وكل ذلك يعد من الإجراءات المنهجية للوصول إلى نتائج نهائية دقيقة. لكن ذلك لا علاقة له بالبحث المنهجي بما يعبر عن نظرية في المعرفة الإبستيمية، ففي جميع الأحوال إن الباحث سيعوّل على منهج أو أكثر من المناهج المعرفية؛ سواء التزم بدقة الإجراء المنهجي أم لم يلتزم. فقد يعتمد على المنهج التجريبي في قبال العقلي أو العكس، فهو وسيلة غرضها الكشف عن الحقائق عبر عدد من القواعد والمبادئ القبلية، التي تعمل على تحديد سير العملية المعرفية، وكل ذلك لا علاقة له بالإجراء المنهجي الآنف الذكر. والذي يعنينا هو المعنى الأبستيمي للمنهج لا الإجرائي."

وكما يرى أن علم الطريقة، هو العلم الذي يدرس مناهج الفهم ويوضح العلاقة فيما بينها وبين تأسيساتها القبلية، ومن ثم بين هذه التأسيسات وبين الفهم. (يحيى محمد، بحث في علم الطريقة)

وتكمن أهمية هذا العلم كونه ينظم طريقة الفهم والتفكير المعنية بالتعاطي مع النص الديني، الذي يشكل رافعة أساسية في نظم الأفكار للإنسان والبشرية كافة. خاصة في وطننا العربي والإسلامي، والذي يعتبر اليوم أهم إشكالية جدلية نتجت عنها مدارس عدة، منها مدرسة داعش التي اعتمدت على القراءة النصية المغلقة للنص، دون مدخلية للعقل أو للزمان والمكان، ودون مداورة لتلك النصوص وإعادة موضعتها فيما يتناسب مع منجزات الحاضر ومعطياته.

هذا الحفر في الجهاز المعرفي والإدراكي يُمَكّننا من الخروج بمنهج لعلم الطريقة، الذي بدوره ينظم عملية التفكير والفهم. وهو ما قد يقلل مساحات الاختلاف بين كافة المدارس الدينية في قراءة النص الديني، ويحقق منسوب وعي وازن، قادر على إيقاع تغيير يحقق العدالة والكرامة البشرية، واللتان هما قيمتان لا يختلف عليها بشر. إلا أن التطبيق محل الاختلاف، لاختلاف مناهج التفكير ومصادر المعرفة، فموضوع التغيير والاصلاح مرتبط أساسا في بنية تفكير الفرد التي تحدد ذاته الداخلية وتبنيها، ومن ثم توجه سلوكه الخارجي. فأي حديث حول التغيير لابد أن يحفر في عمق المجال الإدراكي للفرد، وفهم عقله، وطرق بناء منظومته الفكرية، ومن ثم معرفة طرق التأثير، وتحقيق التغيير باتجاهات مقاصدها العدالة والكرامة. وهدف التغيير يتطلب مقدمات تشكل أساسا هاما في تحقيق التغيير كهدف آلي للعبور نحو العدالة. ومن أهم المقومات هو وجود الدافع لدي الإنسان، وهذا الدافع هو حصيلة بنيته الفكرية وفهمه للكون ولوظيفته، وعلى ضوئها يستطيع تشخيص الخلل الخارجي، ويقوم بمجموعة مقارنات تخلق لديه الدافع نحو تحقيق هدف التغيير، وإحراز العدالة التي تحقق له كرامته ووجوده الإنساني. ويتشكل الدافع وفقا لبنيته الفكرية والمعرفية، لذلك تتفاوت دوافع البشر في شدتها وضعفها وقوتها وعمقها وفاعليتها، بناء على الاختلاف الكبير في البنية الفكرية والمعرفية.

إن إشكالية الدين والدولة هي إشكالية قديمة جدا دخلت في صراعات كثيرة كان عنوانها الرئيسي سياسي بامتياز، حيث مرت هذه الإشكالية بمراحل عديدة وصلت بنا اليوم إلى النظرية العلمانية،"سواء في العلمانية الجزئية وهي وجوب فصل الدين عن عالم السياسة، وربما الاقتصاد وهو ما يُعبر عنه بعبارة " فصل الدين عن الدولة"، ومثل هذه الرؤية الجزئية تلزم الصمت حيال المجالات الأخرى من الحياة، ولا تنكر وجود مطلقات أو كليات أخلاقية أو وجود ميتافيزيقا وما ورائيات، ويمكن تسميتها "العلمانية الأخلاقية" أو "العلمانية الإنسانية". والعلمانية الشاملة وهي رؤية شاملة للواقع تحاول بكل صرامة تحييد علاقة الدين والقيم المطلقة والغيبيات بكل مجالات الحياة، ويتفرع عن هذه الرؤية نظريات ترتكز على البعد المادي للكون وأن المعرفة المادية المصدر الوحيد للأخلاق وأن الإنسان يغلب عليه الطابع المادي لا الروحي، ويطلق عليها عبد الوهاب المسيري أيضاً "العلمانية الطبيعية المادية"(نسبة للمادة و الطبيعة)". ونستطيع القول بتطور العلمانية كنظرية حيث بدأت من الرؤية الجزئية في فترة كانت لا تزال هناك بقايا قيم مسيحية إنسانية متأثرة بالحكم الكنسي لذلك العصر، ثم بعد سيطرة الدولة ومؤسساتها على الحياة الفردية في المجتمع، فتم توسيع الرؤية والنظرية لتشمل كل مناحي الحياة وتطرح العلمانية الشاملة. أما بالنسبة لحكم الدين للدولة وعدم فصله عن الواقع السياسي فقد مرت أيضا التجربة الإسلامية بمراحل عديدة أدت أيضا إلى تجيير الدين أو دعم الفهم و الرؤى الدينية التي تصب في صالح الحكم والحكام لكل فترة زمنية. وعلى الرغم من نجاح أول تجربة دينية دستورية في الواقع الإنساني والتي كانت بقيادة رسول الله صلى الله عليه وآله حيث شكلت الدولة الإسلامية في المدينة، إلا أن عدم نضوج هذه التجربة وارتحال قائدها قبل اكتمال معالمها، وانتقالها بعد الخلافة إلى الدولة الأموية ومن ثم العباسية إلى الخلافة العثمانية، أدى إلى تشويه التجربة الإسلامية نتيجة ممارسات تلك القيادات والتي كانت تعبر بشكل أو بآخر عن تمثيلها للإسلام في المفهوم العام. ونستطيع القول أن التعسف والديكتاتورية التي كانت تمارسها تلك القيادات باسم الدين شبيهة إلى حد كبير بتلك الممارسات المتعسفة التي كانت تمثلها الكنيسة المسيحية، مع وجود اختلافات في المنطلقات والمفاهيم.

لذلك تبلورت القناعات والإدراكات المعرفية في ظل هذه التجارب الغير ناجحة، لتزداد قناعة ـ خاصة وأن التجربة الغربية الظاهراتية للدولة الحديثة ماثلة أمام النخب ـ من أن النجاح والتطور ونهوض الدولة مرتبط بشكل حتمي مع فصل الدين عن الدولة، واختلفت هنا الدعوات في درجة العلمانية المطلوبة، بين أصوات نادت بالعلمانية الشاملة، وأخرى اكتفت بالعلمانية السياسية الجزئية، التي تكون فيها الدولة محايدة دينيا لا تتبنى أي وجهة دينية، ولا مدخلية للدين في التشريعات والتقنين وكانت هذه الأصوات مصدرها غالبا من النخبة من المثقفين خاصة، متذرعين بما آلت إليه أمور المسلمين نتيجة قيادة الدولة باسم الدين. ونحن لا نستطيع أبدا أن نقر أن ما قامت به الدولة الأموية أو العباسية أو العثمانية يمثل بشكل أو بآخر الإسلام أو حتى يشبه قيادة رسول الله للدولة الإسلامية في صدر الإسلام، لأن التشويه المفاهيمي للدين ودوره في قيادة الدولة بدأ بعد ارتحال رسول الله وبشكل تدريجي وليس دفعي، إلى أن آلت الأمور إلى ما آلت إليه.

ولذلك وجد الكثير من المفكرين المسلمين أن الحل يكمن في العلمانية وفصل الدين عن الدولة وبناء دولة مدنية يسودها القانون، في ظل احترابات ذهب ضحيتها كثير من حيوات الأبرياء، وانتقصت إنسانية الإنسان وكرامته باسم الدفاع عن الدين، تحت مظلة دولة يحكمها مستبد تلبس ثوب الدين ليهيمن على عقول الناس، وليصبح هو ربهم لا الله.4907 ايمان شمس الدين ومراد غريبي

هل العلمانية هي البديل؟

"منذ تسعينيات القرن الماضي يكرر الفرنسي أوليفييه روا Olivier Roy والأمريكي ريتشارد هاس Richard Hass، وهما قريبان من مؤسسات القرار السياسي، القول بأن أفضل طريقة للتخلص من الإسلاميين هي في نزع الأسطورة والمصداقية عنهم، وذلك بأن يصلوا إلى السلطة ويجربوا الحكم فيفشلوا عندئذ في تنفيذ البرامج التي وعدوا بها، وقد وصل العديد من الإسلاميين إلى السلطة في ظروف شديدة التعقيد والصعوبة وفي وجود مشاكل اقتصادية واجتماعية، على الأقل، فشلت دول كبرى في إيجاد الحلول لها بدليل الأزمة الحادة التي تعصف بالولايات المتحدة وبالقارة الأوروبية وبالنظام المالي والاقتصادي العالمي منذ عام 2008". (كتاب: التحولات في النظام العربي)

بعد تجربة الإسلاميين في السياسة والسلطة سؤال يطرحه أغلب المثقفين: هل العلمانية هي البديل؟

بداية لتقييم أي تجربة لابد لنا من قراءتها ضمن ظروفها المحيطة زمانيا، وضمن جغرافيتها مكانيا والتحديات الداخلية والخارجية، فاستلام الإخوان المسلمين للحكم في مصر لم يتجاوز العام، وجاؤوا لحمل إرث النظام السابق بكل فساده وأبجدياته، وهذا لا يبرئ ساحتهم من ارتكاب أخطاء، وهو أمر طبيعي بشريا، ولكن الإنصاف يتطلب منا قراءة التجربة قراءة موضوعية، فالأصل في ذلك فهم ما حدث وتقييمه والخروج منه بفائدة.

وعادة في الثورات التحول والتغيير للأفضل يحتاج التالي:

١. رؤية حول مشروع الدولة وآليات التطبيق ضمن خطة استراتيجية ثاقبة،

٢. ولوضع الرؤية لابد أن يكون لديهم إحاطة بالميدان، سواء الاجتماعي وماهيته وتركيبته، أو السياسي وخارطة طريق الأحزاب والسلطات والتغيير المطلوب.

٣.الخروج من عقل الجماعة والحزب إلى عقل الدولة الجامعة لكل المكونات.

وهذا يتطلب تجربة في الساحة السياسية، وتجربة بقيادة الدولة طويلة ممارسة وتنظيرا، وتجربة سياسية وثقافية في الفضاء الحر، وليس في سراديب السجن والمجتمع، وفي سراديب العمل السري.

٤. وقت زمني طويل ومرحلي وتدريجي، كي يستطيع التخلص من تراكم الفساد للنظام السابق من خلال تخلصه من كل توابعه، وكي يعيد تأسيس بنية الدولة على أساس سليم مستفيدا من أخطاء النظام السابق ومستلهما من تجارب الآخرين.

٥. منظومة قيم ومعايير ومبادئ قادرة على الصمود والمواجهة لكل أنواع الضغوط، كون إعادة بناء نظام دولة على أسس صحيحة تتبنى المبادئ السليمة، سيكون له وقع كبير ورد فعل أكبر معاكس يحاول إفشاله وزعزعته.

فقيادة الدولة تحتاج رؤية حول الدولة والشعب، رؤية تنهض وتقوم مسيرة من مضى وتعيد رسم خطى الدولة وفق أبجديات الدولة الحديثة التي تحقق العدالة.

٦. قراءة وإحاطة عميقة لظروف المنطقة السياسية والتحديات الكبرى التي تواجهها من قبل الدول العظمى وفهم حدود العلاقة مع هذا المحيط، وكيفية التعامل مع هذه الظروف والتحديات، دون التنازل عن المبادئ الكبرى، ودون تكبد خسائر على مستوى الداخل.

وهي تختلف تماما عن قيادة الحزب والتيار والجماعة، فلا تجربة الإخوان المسلمين في مصر يمكن تصنيفها بالفاشلة، رغم كل الممارسات الخاطئة التي ارتكبها الإخوان في الحكم، وهي ممارسات تأتي في سياقها غالبا الطبيعي نتيجة حداثة التجربة وحداثة ممارسة إخوان مصر تطلعاتهم وأمنياتهم في الفضاء الحر، هذا فضلا عن الأدوات التي استخدمها الإخوان في مصر من أجل الوصول إلى السلطة، وفي أغلبها هي أدوات لا تتناسب وهدف الاصلاح كون أغلبها فاسد .

ولا تجربة إخوان تركيا يمكن الاتكاء عليها كتجربة ناجحة نتيجة ازدواجية المعايير والقيم التي ينتهجها زعيم تركيا الحالي الرئيس رجب طيب أردوغان وأخوانه وأدواته، ونتيجة تلوث أياديهم بدماء السوريين والعراقيين والفلسطينيين من خلال دعمهم للجماعات التكفيرية، وعلاقاتهم مع الكيان الصهيوني رغم مواقفهم العلنية ضده.

هذا فضلا عن أن إخوان تركيا لا يشبهون الإخوان في العالم العربي، لجنوحهم الحاد في الآونة الأخيرة نحو فكرة أظهرت حقيقة تحركاتهم وتطلعاتهم وطموحهم، وهي فكرة إحياء العثمانية بثوب جديد، لذلك أطلق عليهم العثمانيون الجدد، وهذا لا يعني أنها تجربة غير ناجحة، ولكن تحتاج عدة عقود لتظهر مدى فاعليتها، لأن التداعيات الممارساتية للتجارب في الواقع البشري لا تظهر إلا بعد أكثر من عقد من الزمن.

والتجربة الإيرانية في الحكم قياسا إلى مرور عقود بعد الثورة، هي تجربه أيضا لها ما لها وعليها ما عليها، لكنها إلى الآن تجربة صمدت في وجه أعتى الرياح وتطورت رغم كل العقبات، وحجزت لها موقعا متقدما في خريطة العالم العربي والإسلامي وباتت إيران رقما صعبا إقليميا أحدث خللا في ميزان القوى وفرض معادلات سياسية جديدة ، ولكن مازالت تقف أمام عقبات داخلية أهمها الخوف من العسكرة، والفساد الذي يَتبدّي تدريجيا من بعض رجالات الثورة وحوارييها، وهذه العقبات هي وليدة تحديات خارجية تحاول زعزعة الداخل لتقويض النظام، مما ينعكس على الداخل أمنيا واقتصاديا .

لكنها التجربة الأكثر ثباتا ونجاحا إلى الآن في الحكم من قبل الإسلاميين قياسا مع غيرها من التجارب في منطقتنا، وقياس نجاحها يكمن في عدم تنازلها عن مبادئها وشعاراتها التي حملتها في بدايات الثورة خاصة فيما يتعلق بقضايا الأمة وتحدياتها وأهمها قضية فلسطين وعداؤه للكيان الصهيوني، ودعمه لحركات التحرر في المنطقة معنويا، وهي الآن تتقدم علميا وعسكريا باعتراف أعدائها وخاصة الأمريكي الذي يعجز إلى الآن من شن حرب حقيقية عليها لمعرفته بالإمكانيات العسكرية والعلمية التي تملكها إيران، رغم أنه خاض حروب عديدة في منطقتنا على أنظمة بحجة فسادها وهوس تطبيق الديموقراطية ، وطبعا هذا يتطلب إفراد دراسة منهجية خاصة مقارنة بين تجارب الإسلاميين في الحكم بشكل تفصيلي علمي موضوعي. إلا أننا لا ننكر أن هناك عسكرة داخلية للفن والثقافة والمجتمع تطغى على الحالة المدنيّة في الدّاخل الإيراني، وهذا يأتي نتيجة طبيعة المواجهة وما تفرضه عليها من هواجس أمنيّة تبقى طاغية على الهواجس المعرفية والفكرية والثقافية، رغم أن الأصل هو في المعرفة، وتأتي القوة والعسكر لحماية التجربة المعرفية والمدنيّة للدّولة وهذا ما لم يتحقق غالبا في تجربة إيران.

وكوننا نتكلم عن التجربة في العالم العربي بعد ثورات ما سمي بالربيع العربي، فإن سؤالا يطرح نفسه من معطيات تلك التجارب:

هل يعني ذلك ترسيخ قناعة في ذهنية الشعوب من قبل النخب والمثقفين مفادها الحاجة إلى العلمانية كحل بديل يحقق رغبات الاصلاح والعدالة للشعوب؟

إن إشكالية الفصل بين الديني والسياسي إشكالية منهجية في العقل العربي، الذي هيمنت على جزء كبير من نخبه ومفكريه العلمانية التي لها ما لها وعليها ما عليها.

الاشكالية المنهجية تكمن في عملية ترقيع الأفكار في الثقافة المكونة للهوية، هذا الترقيع حتما يولد جنينا مشوها ومعاقا بنيويا.

مما ينتج عنه التخرصات التي نراها سلوكيا لدى أغلب العلمانييين العرب، الذين لا أراهم إلى الآن قدموا مشروعا للدولة، غير التطرف غالبا في مواجهة المختلفين معهم من الدينيين إن صح التعبير، خاصة في الخليج، فلا الإسلاميين قدموا عملانيا ما تبنوه نظريا، وفشلوا في تقديم مشروعهم عن الدولة في الوطن العربي، ومارسوا ازدواجية صارخة بين النظرية والتطبيق، بل ازدواجية معيارية كشفت عن غلو في فهم الدين، وعن تطرف مذهبي وقيمي بل حتى ازدواجية في فهم منظومة الحقوق الإنسانية التي لم أجد لها فهرسا في قاموس أغلبهم.

فنحن وقعنا بين أمرين:

١. الاستلاب ومن ثم الانبهار بنفسية مهزومة نفسيّا وأخلاقيّا.

٢. التقوقع على الذات والفوبيا بحجة الحفاظ على الهوية.

أي فكرة لها وعاء نمت فيه وترعرعت، والعلمانية هي نتاج مسيرة طويلة في الصراعات الفلسفية التي حدثت بعد النهضة والتنوير في أوروبا، واللتان كانتا نتيجة الانقلاب على الكهنوت والاختزال الكنسي للدين وتحويله لسلطة على رقاب الناس.

نمت كفكرة وترعرعت بعد مخاضات فكرية وعقلية، والسير في تجارب ميدانية اجتماعية وسياسية تدرجت في إبعاد الدين الذي مثلته الكنيسة عن الحياة، بدأت بعزلها عن السلطة وانتهت ليكون الدين مجرد طقوس بسيطة فردية تؤدى في الكنيسة يوما في الاسبوع.

ونحن أمام علمانيات ذات مراتب متفاوتة شدة وضعفا، فهناك العلمانية الشاملة والحادة المتطرفة كما في فرنسا، وهناك العلمانية المعتدلة كما في كندا، وتتراوح درجة العلمانية في الغرب بين الدول الأوروبية شدة وضعفا.

فلكي نستطيع بشكل جدي أن ننهض بواقعنا من وجهة نظري هو ليس باستيراد تلك الافكار التي نجحت في مجتمعات، نتيجة ظروفها السياسية وتراكماتها العقلية والعملية نجاحا ظاهريا في أبعاده المادية، مع وجود خلل كبير في أبعاده الأخرى، بل بالاستفادة من تلك التجربة البشرية العريقة ومحاولة المراجعة وإعادة النظر في القراءة الدينية وتصويبها، لمعرفة ماذا نريد من الدين؟ ما هي مساحات الاشتغال التي يجب أن يشغلها في حياتنا وما دور العقل فيه؟

هل واقعا هناك شيء اسمه دين وسياسية؟

واقعا هناك سلطة دينية تستخدم السياسة بمعناها الحالي وليس كما هي، فكلمة لا إله الا الله هي عين السياسة، لأنها إقرار برفض أي سلطة علينا لغير الله وبالتالي رفض أي سلطة خارجة عن إرادة الله وحدوده، وهذا يترتب عليه رفض الاستبداد وأنظمته كلها، ولكن لا على الطريقة السلفية التكفيرية، وإنما على الطريقة الحضارية التي ترى الدين خالدا بحركيته ومرونته، وأصيل بثواته التي تعتبر هيكله العظمي.

فإبعاد الدين هو تكريس للاستبداد بأشكال مختلفة، لأن محورية الدين تكمن بكلمة " لا"، وهي تعني الرفض لكل أنواع الهيمنة خارج إرادة الله وفق قراءة عقلية معتدلة لهذه الإرادة التي مثلها الدين وشريعته.

فالأنظمة التي حكمت منطقتنا أنظمة لا دينية، لكنها مستبدة استغلت الدين لتخدير الشعوب وتعطيلهم عن مواجهتها ومحاسبتها.

وأما التوحش الجديد الذي ظهر حاملا راية الدين ، ومتكأ على فتاوى تكفيرية إقصائية ، فهذا يحتاج إلى إفراد دراسة خاصة به ومع ذلك لا يمكننا الحكم على الدين من خلال فئة ، لكننا يمكن أن نعتبر أنها فئة ظهرت نتيجة الدين السلطوي الذي كرس فهم الدين في تصورات الشعوب على أنه مجموعة من الطقوس والشعارات من جهة ، وأزاح دور العقل وأقصاه ليوطن للنصوص الحديثية دورا محوريا وفق منهج تخديري وتسليمي، لا يقيم للقرآن أي مرجعية معرفية تغربل وتعيد النظر في النصوص الحديثية المختلفة معه ، بل حولت القرآن أيضا لأسفار يحملها قراء يجيدون تجويد الآيات وترتيلها بصوت شجي ، دون أن يدركوا عمقها وآفاقها وتطبيقاتها على أرض الواقع الإنساني، وكيفية إدارتها لحياته الخاصة والاجتماعية ونظمها لأمره.

هي جماعات استلهمت منهجية الحكم من الأنظمة المستبدة بأشكال اختلف ظاهرها واتفق باطنها وأهدافها، هي عبارة عن ولادات لأنظمة سلطوية أخرى، لكن الفرق أن تلك الأنظمة تحالفت مع السلطة الدينية لتشرعن وجودها، أما هذه فهي استخدمت الدين مباشرة لتتسلط به على رقاب الناس، بعد فشل الأنظمة تلك وانغماسها في التآمر على الشعوب وانكشاف أمرها.

واستطاعت هذه الجماعات المنحرفة في ظل خواء روحي وتغييب عقلي متراكم للشعوب ، وفي ظل شعارات جاذبة لكنها خاوية في حقيقتها ، وفي ظل حالة يأس تعم فئات كبيرة من الشباب في الوطن العربي الذي يعاني من الفقر والبطالة والتهميش والظلم ، والفراغ ، والتغييب وغيره ، استطاعت أن تجذب إليها عددا كبيرا منهم، إما بالإغراء المالي أو بالاغراء الديني الشعاراتي الذي يربطهم بنعيم الآخرة ويخلصهم من شظف العيش، في ظل منظومة دينية فكرية اعتاد عليها هؤلاء ، ربطتهم دوما بأن الدين لأجل الموت وليس لأجل الحياة ونظمها وتسيير الإنسان وفق نظام إلهي يقوده لحياة طيبة وآخرة سعيدة.

"وإذت كان التيار الديني، قد تلاعب بالنص لحفظ الواقع القائم وتبريره، كونه يبقي على التشكيلة الاجتماعية والسياسية التي تحافظ طبقيا على منافع الأولياء على الدين وأدعياء الوصاية، فإن التيار العلماني الفاقد لسلطة نافذة في الحياة العربية والإسلامية سيما بعد فشل المثقف الذي أعلنه تيار النهضة ومن بعده، وهو الآخر سعى لتطويع النص ـ ولو من الخارج أحيانا ـ أو سعى لنسفه تحقيقا لمصالح أخرى، إذا أردنا أن نكون أوفياء لتحليلنا السيسيولوجي (الاجتماعي) و ...". (الشيخ حيدر حب الله)

"فالصعود الإسلامي بعد الثورات العربية لم يدم وقتاً طويلاً، ففي مصر انتهي عام واحد من حكم الإخوان المسلمين بانتفاضة شعبية عليهم، سميت ثورة 30 يونيو، عاد بعده الجيش إلى السلطة لقيادة مرحلة انتقالية جديدة يعصف بها العنف والإرهاب والمجهول حول مستقبل الدولة المركزية المصرية، وفي تونس لم يتسن لحزب النهضة الإسلامي وحليفيه في الترويكا قيادة مرحلة انتقالية هادئة، وإذا بالحركات الإسلامية الجهادية والتكفيرية تحتل المشهد في المنطقة العربية على حساب الإسلام السياسي الموصوف بالمعتدل، مما أدى إلى ارتباكات معقدة وخطيرة في النظام الإقليمي العربي وفي تعاطي الدول الكبرى معها.

اليوم تقف الدول العربية كلها، والتي يتشكل منها النظام الإقليمي، وليس دول الثورات فحسب أمام تحدي توضيح العلاقة بين الدولة والإسلام السياسي، وهو تحد يضرب جذوره العميقة في التاريخ والاجتماع السياسي العربيين، وهذا التحدي يرافقه نظير له لطالما كان خلف إشكالية العلاقة ما بين الإسلام والعروبة في منطقة عربية تسكنها أقليات عرقية غير عربية، وهذه الإشكالية كانت وما تزال سبباً لعدم الاستقرار في عدة دول عربية في مقدمتها المغرب والجزائر ولبنان والعراق وسوريا، دون أن ننسى مشكلة الأقليات المذهبية والدينية أيضاً والتي تضيف زيتاً متجدداً إلى نار الفتن المتوقدة". (التحولات في النظام العربي)

لذلك في ظل غياب شبه كلي لفهم عقلي معتدل لعلاقة الدين بالحياة، والاستبداد السياسي بغطاءات إما علمانية أو دينية متشددة، قد تكون بعض الحلول التي يمكن أن تعيد صناعة أنظمة أكثر خدمة لشعبها وأقل عمالة للخارج ضد داخلها تكمن في التالي:

- العمل الأهلي في منظمات اجتماعية، كونها تدمج الأفراد في المجتمع وتنمي انتماءهم له وللوطن لا للأنظمة، وتكون لها سلطة أهلية تصوب العمل السياسي وتخفف من الاستبداد، وتلعب دورا في صناعة الأنظمة وفق معايير تتناسب وبيئاتها الاجتماعية وهويتها وظروفها .

ـ انطلاق شبكة تنسيقية بين أصحاب الفكر المعتدل حقيقة من العلماء كافة ومن الأديان كافة والنخب تعمل على تظهير حقيقي لعلاقة الدين بالإنسان، دون مجاملات ولا عصبيات، آخذة بحسبانها قراءة الدين على ضوء الراهن وأحداثه ومستفيدة من التجارب البشرية في هذا الصدد، لا تكون لها ارتباطات بالأنظمة حتى لا يكون حراكها مرهونا لتلك الأنظمة.

وأما موضوع تنظيم الأحزاب، فإلى الآن لم تستطع أغلب الأحزاب في الوطن العربي أن تخرج من عقلية الأنظمة الاستبدادية كليا ، فغالب الأحزاب لابد أن تصاب بمس الاستبداد ، كون البيئة السياسية تاريخيا شكلت العقل العربي بطريقة تسللت فكرة الاستبداد إلى بنيته العقلية والمفاهيمية، وكرستها كسلوك يختلف شدته وضعفه من حزب إلى آخر ، لذلك نحتاج إعادة النظر في مفهوم الحزب في العقل العربي وإمكانية تغييره وإعادة هيكلياته وأهدافه على ضوء التجربة الغربية وغيرها من التجارب التي قدمت نجاحات بنسب مختلفة، وأهمها أن لا تكون الأحزاب جزء من السلطة بل صانعة لها وفق معايير تمنع التسلط وترتفع بمنسوب وعي الشعوب وحريتها والنهوض بالعقل والفهم ومعايير النهضة والابداع .فالسلطة وسيلة لخدمة المجتمع لكنها تحولت لغاية فانهدم المجتمع لأجل تلك الغاية.

إن إشكالية أغلب التيارات الدينية اليوم هي في عقول رموزها المتحجرين غالبا، وإلا كان يمكن أن تتحول تلك التيارات لمؤسسات تصنع السلطة التي تخدم الناس وتحقق العدالة.

ورغم أن هذه التيارات تنتمي لمشارب دينية، إلا أن أغلب ممارساتها في العمل الميداني التطبيقي هي ممارسات علمانية مختلطة مع فهم سلطوي.

فالأهداف نبيلة إصلاحية غالبا، لكن آليات وأدوات تطبيقها فاسدة في الأعم الأغلب، فهي تعتمد غالبا على البراغماتية الغربية وعلى الطاعة السلطوية، وعلى إقصاء المختلف و وتجميد الطاقات وعدم توزيع الأدوار واحتكار السلطة وعدم الإيمان بتدويرها ، إضافة لهامش الحرية الضيق الذي يحول الفرد المنتمي لها إما إلى شخص آلي ينفذ مخططات السلطة العليا دون نقاش بحجة الطاعة ، أو إلى منافق يبدي لأعضاء التيار ما لا يخفيه ليحقق مصالحه التي لا يمكن له تحقيقها، إلا في إطار هذا التيار أو الحزب كونه يملك الجمهور .

والمشكلة أن من يأتي بشعارات إصلاحية لما هو موجود، نراه تدريجيا ينغمس لأجل تمكين مشروعه ودخوله صندوق ضيق، نجده يمارس بشكل أو بآخر نفس تلك الممارسات ويبرر لها كونه بات ضمن منظومتها.

بل يصل الأمر لممارسات شبيهة بممارسات الأنظمة السلطوية من خلال توزيع الوجاهات، وتقريب الأشخاص وفق معايير شخصانية تعتمد على الوجاهات الاجتماعية، ومدى قدرة توظيفها في المشاريع التي تطرح باسم الاسلام، وضمن شعار في سبيل الله، وواقعها في سبيل كل شيء إلا الله.

لذلك أغلب الأحزاب والتيارات الدينية رغم رفعها لشعارات دينية إلا أنها منغمسة بالعلمانية عملانيا وتطبيقيا وأداتيا، سواء شعرت بذلك أو لم تشعر، رغم أن الإسلام قدم لما منظومة أخلاقية كاملة لتكون في خدمة التطبيق النظري لنظرياته.

ومن هنا لا يمكنني بحجة الممارسات الخاطئة للإسلام أن أتبنى العلمانية، ولا يمكنني أن أحارب العلمانية بإقصائها كخيار على مستوى الدولة، بمعنى حيادية الدولة دينيا كمظلة للجميع، وهو ما يتطلب دراسة معمقة لدرجات هذه الحيادية في كل دولة ومجتمع على حدة، ودرجات علمانية الدولة أيضا في كل منطقة ودولة على حدة، خاصة أننا في منطقة غالبها من المسلمين، ويمكن الخروج برؤية تعايشيه تتبناها الدولة، ولكن هذا يتطلب تظافر جهود النخب كافة دون تحييد أحد، للخروج برؤية في هذا الصدد والإجابة على تساؤل أي دولة نريد.

بل على النخب أن تقدم مشروعا تطبيقيا حقيقيا بديلا، فعلمانية الغرب تدفع لإعادة قراءة فهم الدين ومساحات اشتغاله في الحياة وعلاقته بالدولة ومؤسساتها ومؤسسات المجتمع الأهلي، لا أنها تجعلني اخلع هويتي وألبس ثوبها الذي لا ينفع أبدا مع قابليات هذه المجتمعات في العالم العربي وخاصة في الخليج، تحت حجة ممارسة أغلب التيارات الاسلامية وتشددها باسم الدين وفشلها في السياسة وفي تحقيق العدالة والأمن.

فدور الدين في الحياة محوري، بل أصل لا ينفصل عنها، أراه دورا بناء غير لاغيا للانسان وعقله، بل الأصالة فيه للعقل القارئ للنص و المُثَوّر له، فلا العقل دون نص يملك قدرة تامة، ولا النص الديني دون عقل يمكنه أن ينفع الإنسان.

وقد طرح "إرنست فولفكانغ بوكنفوردا ـ Ernst Wolfgang Boeckenfoerde" في منتصف الستينات من القرن الماضي في معادلة ملفتة للنظر: ألا تتغذى العلمانية الحرة من فرضيات معيارية لا يمكن أن تضمنها هي بنفسها.

تتضمن هذه المعادلة كما يصف الفيلسوف الألماني "يورغن هابرماس" شيئين اثنين:

١. الشك في إمكانية الدولة الدستورية الديموقراطية تجديد شروط وجودها المعيارية عن طريق إمكانياتها الخاصة.

٢. والاعتقاد بأن هذه الدولة في حاجة إلى تصورات قديمة للعالم أو تصورات دينية، وهي في كل الأحوال تصورات أخلاقية جماعية موروثة. وقد يؤدي هذا الاعتقاد بالدولة بالنظر إلى موقفها المحايد لتصور خلق العالم و " واقعة التعدد" (كما يقول راول Rawl) إلى مشاكل كثيرة. ولا تتناقض النتيجة مع الاعتقاد السالف الذكر (هابرماس: جدلية العلمنة ـ العقل والدين). أي الاعتقاد بأن هذه الدولة في حاجة إلى تصورات قديمة للعالم أو تصورات دينية (إضافة المترجم).

ويعتبر يورغن هابرماس من العلمانيين الذين نادوا بشكل عنيف لتحييد الدين عن الدولة في القرن الماضي، إلا أنه مؤخرا بعد نقد وتقييم الحداثة، أي ما بعد الحداثة، وجد أن الكنيسة والمتدينين يمكنهم أن يقدموا رؤى تساعد في تقنين قوانين تخدم الإنسان والمجتمع، وكونهم مكون هام من مكونات المجتمع فلهم الحق في هذه المشاركة، وقد طرح "هابرماس" تساؤلا مهما حول ذلك قائلا: هل السلطة السياسية ممكنة بعد استكمال القانون الوضعي، هذه السلطة التي لا تستند مشروعيتها لا من الدين ولا من أية ما بعد ميتافيزيقيا؟ ويكمل قائلا:" حتى وإن أقر المرء بهذه المشروعية، فإن الشك يبقى على المستوى الانفعالي ويكمن هذا الشك في التساؤل ما إذا كان في الإمكان تعزيز أسس الحياة المجتمعية المتعددة عن طريق خضوعها إلى خلفية معيارية متفق عليها شكليا في أحسن الأحوال، يعين خضوعها إلى نمط عيش معين. ويمكن القول حتى وإن تفهم اللائكية الثقافية والمجتمعية كصيرورة تعلم مزدوجة، يكون في حاجة لها أتباع تقاليد الأنوار والتعاليم الدينية على حد سواء للتفكير في حدود تخصصهما.(المصدر نفسه)

هذه المراجعة المهمة التي قام بها "يورغن هابرماس"، حول دور الدين والمتدينين في الحياة السياسية، وفي التضامن الاجتماعي وسن الدولة لقوانين خادمة لكل مكونات الدولة، هي مراجعة منهجية لتجربة طويلة في ظل دولة علمانية شاملة، وصل فيها إلى قناعة مهمة مؤخرا أقر فيها عن ضرورة الاستفادة من الدين والمتدينين في الدولة.

ومن هنا بات لزاما على التيارات والأحزاب الدينية والشخصيات والنخب الفاعلة، أن تعيد قراءة تجربتها على ضوء تطورات المنطقة الجديدة وإرادة إدارة التوحش ، حتى لا يتم اختطاف الدين من قبل مجموعات متطرفة ومتوحشة تعتمد على التكفير والإقصاء لكل مختلف، وتحول العدو في ذهنية الشعوب من العدو الحقيقي إلى عدو وهمي ، وتلعب على الفروقات المذهبية والطائفية كوسيلة ناجعة في إدارة التوحش ، وتمكن مشروع الاستعمار بمزيد من الهيمنة وتصنع مفاهيم جديدة في بنية العقل العربي تستحضر من التراث المنحرف ما يمكن تحويله لحقيقة في راهننا ومستقبلنا ، تكمن خطورته في حرف مسار الأمة يراكم انحرافات الماضي ويشرعنها، بل يكرسها كواقع لا يوجد غيره بديل ، فتصنع إسلاما مشوها، وتدريجيا يصبح مرفرضا كونه ينافي ما فطر عليه الإنسان ، ومن ثم تدريجيا تصبح القناعة الشعبية للجماهير هي في استبعاد الدين عن الحياة كما حدث في العهد الكنسي، ومن المهم الاستفادة من تجربة الغرب في إقصاء الدين كليا، وسلبيات هذا الإقصاء الشامل، ومراجعاته في هذا الصد خاصة ما بعد الحداثة. ولابد من فهم حقيقة الدين وفطريته وميله له، فمحاولات نزعه في منطقة تضج حضاريا بوجوده وتراثيا بمعالمه وميدانيا بقصصه، ستكون ارتداداتها عكسية تماما نحو مزيد من التمسك بالدين، ولكن بطريقة متطرفة تنشئ ردود فعل عنيفة وعكسية وتدميرية في ذات الوقت، فيتحول هم البناء والتطوير بإقصاء الدين إلى وسيلة تدميرية قاتلة لروح الإنسان.

***

حاورها: ا. مراد غريبي

في المثقف اليوم