صحيفة المثقف
  • مدخل
  • الاولى
  • مقالات
    • أقلام حرة
    • آراء
    • أقلام ثقافية
    • قضايا
    • أقلام فكرية
    • شهادات ومذكرات
    • كتب واصدارات
    • علوم
    • دراسات وبحوث
    • ثقافة صحية
    • تنوير واصلاح
  • أدب
    • نصوص
    • ترجمات
    • هايكو
    • روافد
    • قراءات نقدية
  • حوارات
    • حوارات عامة
    • مدارات حوارية
    • نص وحوار
    • مرايا حوارية
    • حوار مفتوح
  • تقارير
    • تقارير وتحقيقات
    • أوركسترا
    • يوتيوب المثقف
    • اخبار ثقافية
  • استفهامات
    • مواربات
    • استطلاع
  • فنون
    • مقاربات فنية وحضارية
    • لوحات فنية
    • معارض تشكيلية
  • ملفات
    • المرأة في أسر العبودية
    • المرأة والسياسة
    • مستقبل الديمقراطية
    • المثقف والانتخابات
    • ملف: المثقف 10 سنوات عطاء زاخر
    • ملفات سابقة
  • تكريم
    • يحيى السماوي
    • وفاء عبد الرزاق
    • عبد الرضا علي
    • شوكت الربيعي
    • فرج ياسين
  • المؤسسة
    • رئيس التحرير
    • إصدارات المثقف
    • كتب ماجد الغرباوي
    • نشاطات المثقف
    • مناسبات المثقف
    • جوائز وشهادات
    • جائزة الابداع
    • ملتقى المثقف
    • ساهم معنا
  • كتّاب مشاركون
  • اتصل بنا

محمود محمد علي: قراءة تحليلية - نقدية في كتاب ماجد الغرباوي "تحرير الوعي الديني" (3)

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. محمود محمد علي

محمود محمد عليقراءة تحليلية - نقدية في كتاب المفكر العربي ماجد الغرباوي "تحرير الوعي الديني" (*)


لا شك أن أزمة العالم العربي والإسلامي المعاصرة أصبحت رهينة فك الالتباس حول الحقيقة الغائبة بين رسالة السماء الإلهية لإخراج الإنسان من الظلمات إلى النور، وبين رسالة الدين الموازي الذي اخترعته أهواء البشر، ولكي ندرك تلك الحقيقة المغيَّبة بفعل تزييف الوعي الديني من خلال تسطيح العقل وإقصائه وحجبه وراء أستار التقليد والاتباع والسمع والطاعة للتعصب والعصبية، لابد من البيان والتبيين لأصول الخطاب الإسلامي وكذلك لمعالم طريق الخطاب الإرهابي.

من هذا المنطلق وجدنا ماجد الغرباوي ينطلق في كتابه "تحرير الوعي الديني" ليفصل لنا أحاديثه حول أهم قضايا أخرى مهمة تتعلق بتحرير الوعي الديني ونبذ الجمود والتقليد ؛ مثل: الخلق والحقيقة (من ص 111- 113)، ولغة الدين (من ص 114- ص 117 ثم من 120 – 123)، وفلسفة الخلق والتأويل (من ص 118- ص 119)، والتأويل الموضوعي (من ص 124- 126)، وقصص القرآن (من ص 127- 129)، والمنهج القرآني (من ص 130- 131)، ونموذج تأويلي (من ص 132- 135)، وسياقات التأويل (من ص 135-138)، وشروط المنهج (من ص 138-140)؛ وفي تلك القضايا السابقة توصل المؤلف إلى أن النص ليس منقطعا عن سياقاته التاريخية، ولا يتعإلى على تاريخيته، لكن ثمة نظرة خاطئة، واضحة في المنهج الفقهي حينما يتعامل مع النصوص منفصلة عن سياقها القرآني والتاريخي، فلا يخرج عن التقليد دون الاجتهاد، لأن الثاني لا يقف على حدود المعنى اللغوية الذي يعني بذل الجهد لفقه النص ضمن سياقه التاريخي وظروف نزوله. النص جاء ليقدم رؤيته عن الواقع الموضوعي، فهو استجابة لسؤال واقعي أو مقدر، ولذا لا يمكن فهم قصة الخلق وتحريرها من سجون اللفظ إلا بهدر الفهم التراثي والسلفي، وتوظيف المناهج الحديثة لفهمه (37).

كذلك يكشف لنا الغرباوي عن قضايا أخري مهمة لتحرير الوعي الديني مثل: محددات القراءة (من ص 145- 148)، والمدونة الأساسية للدين (من ص 148- 152)، ومنهج القراءة (من ص 153-155)، والوحي ثانياً (من 156- 158)، والبيئة الثقافية (من ص 159-160)، ومفهوم الحق (من ص 161- 163)، والقصص الحق (من ص 164-196)، واستفهامات الحقيقية (من ص 170-172)، ومشاهد الخلق (من ص 172 – 176)، وتأملات في فلسفة الخلق (من ص 176-177)، والتداخل بين الأسطوري والديني (من ص 178-179)، والعنصر المشترك الأول: أسئلة الوجود (من ص 180-186)، وتشابه السرد (ص 187)، والعنصر المشترك الثاني: أسئلة الوجود (من ص 188-193)، وهنا نجد المؤلف يؤكد لنا أن القرآن جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل، وقصة الخلق جزء من اسطورة الخلق التوراتية، حيث تخصص يوما لخلق آدم وحواء وإسكانهما الجنة، مجرد حدث تاريخي لا يشي بمعان رمزية أو قيم إنسانية وأخلاقية. والأسطورة تاريخيا سابقة عليها، تحكي سؤال الوجود الملازم لشغف الإنسان بالخلود، لمعرفة أصل وجوده ومصيره. يبحث دائما عن إجابات لظواهر الحياة والموت وما بعد الموت، وهي أسئلة وجودية، تعبر عن قلق عميق يستبد بالإنسان لا شعوريا. فقصة خلق آدم جزء من قصة الخلق، وهي قصة أسطورية في جذورها التاريخي، وردت في الألواح السومرية والبابلية. قصة خاوية، تؤرخ لبداية حياة الإنسان، وغاية وجوده خلاصتها أن الآلهة قد طلبت من كبيرها أن يخلق من يقوم مقامها في الأرض بعد ان تعبت، وأرهقها السعي وراء تحصيل أرزاقها، فخلق الإنسان من دمها وعلى شاكلتها، وهو أقصى ما بلغته المخيلة البشرية آنذاك. وفي التوراة حصلت قفزة نوعية في قصة خلق الإنسان، ابتداء من توحيد الآلهة، وانتهاء بدوره في الأرض، مروراً بالجنة وكيف أغرته الحية، فارتكب خطيئته، عندما أكل من الشجرة المحرمة. فثمة تشابه بين التوراة وأساطير الأولين (38).

ثم يؤكد الغرباوي بأن فلسفة خلق الإنسان في الأساطير القديمة تقوم على اختزال الإنسان، وتكريس عبوديته للآلهة، التي خلقته مطبوعا على الطاعة والانقياد، تستعين به لتأمين قوتها وغذائها، بعد متاعب الأرض التي أنهكتها، فتكون العبودية جوهره وحقيقته، وليست عارضة أو طارئة عليه، فهو كائن مستلب الإدارة والحرية، متقوم بغيره، وهو ذات المنطق العبودي الذي ينفي استقلالية الإنسان ويكرس تبعيته الوجودية، حدا يبيح هدر إنسانيته. والأمر لا يختلف مع الأسطورة التوراتية، فالإنسان سيكون حارسا على الأرض ومسيطرا على الأسماك والبحار، أو ليذهب وحشه الأرض كما في بعض نسخ التوراة، فلم يكن مخلوقا لذاته، مستقلاً بإرادته، بينما يعطي القرآن الإنسان قيمة مغايرة حينما جعله خليفة، على الأرض، ومنحه العقل والإرادة والحرية، ليتحمل مسؤولياته ويؤدي وظيفته الوجودية، وليس عبدا وخادما للآلهة، ولا متسلطاً على الأسماك والطيور. بهذا نفهم أن الله أراد أن يخلق إنسانا تتجلى إنسانيته من خلال مشاعره وأحاسيسه وسلوكه. فالقرآن صدق فكرة الخلق وأعاد تشكيلها وفقا لمفاهيم إنسانية، ليضع فاصلاً بين مرحلتي الأساطير والوحي الإلهي، في ضوء الإطار العام للكتاب القائم على وحدانية الخالق فيتفق مع التوراة في الوحدانية ويختلف معها حول هدف الإنسان في الحياة، كما استعاد إنسانية الناس، التي سلبتها أساطير الأولين، باعتبارها نتاج مجتمع، يكرس عبودية الفرد دينيا، ويسلب إرادته وحريته (39).

في الكتاب أيضاً يكشف لنا “الغرباوي” عن قضايا أخرى مهمة لتحرير الوعي الديني مثل: مداخل التأويل (من 194-195)، وآيات الخلق (من ص 196-197)، ورمزية قصة الخلق (من ص 198-205)، ورمزية الآيات (من ص 206-210)، وصدقية التناص (من ص 211- 213)، والعنصر المشترك الثالث: لحظة الخلق (من ص 214-216)، والعنصر المشترك الرابع: حوار الخلق (من ص 216-217)، والعنصر المشترك الخامس: موضوع الخلق (ص 218)، والعنصر المشترك السادس: استطلاع الملائكة (من ص 219-220)، والعنصر السابع السجود (من ص 221- 222)، والعنصر المشترك الثامن: خلق حواء (من ص 223-224)، ومفاهيم لغوية (من ص 225-227)، والمرأة ومشهد الخلق (من ص 228- 231)، والعنصر المشترك التاسع: وعلم آدم الأسماء (من ص 232-234)، والعنصر المشترك العاشر (من ص 235-237)، والعنصر المشترك الحادي عشر: الخطيئة (من ص 238-242)، وفوارق جوهرية (من ص 243-245)، والخطيئة العقيدة الدينية (من ص 246-247)، والعنصر المشترك الثاني عشر: قصدية الخلق (من ص 248-249)، والتشابة مرة أخرى (من ص 250-252). وهي مشتركات قام المؤلف بتقصيها من خلال مقارنة موضوعية بين أسطورة الخلق في أساطير حضارة ما بين النهرين، السومرية والبابلية، مقارنة بالتوارات من جهة، ومن ثم مقارنتهما مع قصة الخلق في القرآن، وقد كشف الغرباوي عن موارد التشابه والاختلاف، خاصة تشابه السرد، غير أنه كشف عن دلالات رمزية في قصة الخلق غير موجودة في أسطورة الخلق.

ومن خلال ما سبق عرضه من قضايا أكد المؤلف أنه لم يلجأ طوال البحث في فلسفة الخلق للتبرير والبحث عن أعذار للدفاع عن القرآن والوحي، وما قدم به من تقديم رؤية مغايرة لقصص الكتاب، وفق تقنيات اللغة والاستفادة من معطيات العلوم الإنسانية الحديثة. كل هذا كما يقول المؤلف في إطار الهدف العام للكتاب، باعتباره خطابا للإنسان، فيكون هو مجرد محوره وقصديته، ثم أن هدف القرآن ربط جميع الظواهر الكونية والحياتية بالعلة الأولى، مباشرة، أو ضمن سلسلة العلل، وهذا يؤثر في فهمه. وسلسلة العلل لا تنفي العقل ولا تسلب إرادة الإنسان، بل تضبط حركته ضمن القوانين الكونية والسنن التاريخية والاجتماعية. فالهدف النهائي من قصة الخلق ربط وجود الإنسان بخالقه، وبيان طرق الخلاص، وسبل النجاة وفق رؤيته الدينية. ولا علاقة لقصة الخلق بكيفية خلقه سوى التصديق الرمزي لما جاء في التوراة. وأما خلق الإنسان واقعاً فهو خاضع كغيره من الموجودة لأسباب خلقه وبالتالي لا تقاطع بين الدين والعلم حول ما يطرحه العلم، وتبقي النظريات العلمية مرتهنة لصدقيتها، وقدرتها على تقديم تفسيرات وأجوبة مقنعة لجميع الإشكالات وهو اختصاص علمي، لا يتداخل مع الديني (40).

كذلك يكشف لنا “الغرباوي” عن قضايا أخرى مهمة لتحرير الوعي الديني مثل: تقنية إدراك المعني (من 253-258)، والخلق بين الدين والعلم (من ص 259-262)، والإنسان الكامل (من ص 263-264)، ودلالات مضمرة (من ص 273-276)، الخلافة (من ص 277-280)، ودور الإمامة (من ص 281-282)، والشيعة والإمامة (من ص 283-286)، والمشرع السماوي (من ص 287-290)، والسياسة والتأويل (من 291-293)، والمعرفة الدينية (من ص 294-296)، وقيم الفضيلة (من ص 297-320)، ومن كل ما سبق يعلن المؤلف أن استمرارية الفضيلة لا تتوقف على وجود قيادة صالحة، ما دامت تنبثق تلقائيا، بل تتوقف على وجود مقومات ذاتية وبيئة كفيلة بحمايتها، وهذا ما حرصت عليه الأديان السماوية وأكدتها النصوص المقدسة، من خلال وجود: رقابة ذاتية وقانونية، وثالثة رمزية، كل واحد تؤثر من زاوية خاصة، وتارة تستقل وثانية تتداخل، باتجاه هدف واحد، فيكون تأثيرها مشتركا، خلاصته تعبئة الفرد والمجتمع أخلاقيا، لحماية قيم الفضيلة وتبنيها سلوكا (41).

ومن القضايا الأخرى المهمة لتحرير الوعي الديني والتي يناقشها “الغرباوي” هنا في هذا الكتاب، مثل: مثالية المجتمع (من ص 321- 322)، ومفهوم الفضيلة (من ص 323- 326)، والمجتمع المدني (من ص 327- 332)، وفلسفة الخلق والتسامح (من ص 332- 333)، ومجتمع المدينة (من ص 334- 335)، وحقيقة الإقصاء الديني (من ص 336-342)، وفلسفة الخلق وتداعيات السلطة (من ص 343-344)، والسلطة والاستبداد (من ص 345-346)، والتجربة التاريخية (من ص 347-348)، والأخطاء التاريخية (من ص 349-351)، ومسؤولية الانحراف (من ص 352-354)، فلسفة الخلق ومعاجيز الأنبياء (من ص 355- 358)، منهج فهم القصص (من ص 359-362)، والطابع الغرائبي (من ص 363-364)، والفارق الحضاري (من ص 365- 366)، وندية الحضارة الغربية (ص 367)، والتحرر والتفاعل والنكوص الحضاري (ص 368-371)، حضارة المسلمين (من ص 372-373)، والتثاقف الحضاري (ص 374)، والعلاقة مع الغرب وكذلك الغرب والآخر (من ص 378-379)، والتطرف الديني (من ص 380-381)، والقرآن والتطور الحضاري (من ص 382-383)، والوحدة الإسلامية (من ص 384-385)، والتخلف الحضاري (من ص 386-390)، والنهوض الحضاري (من ص 391-394)، وإشكالية الفكر التكفيري (من ص 395-396)، واليقين السلبي (من ص 397-398)، والتجديد ضرورة حضارية (من ص 399-403)، وهنا نجد المؤلف يتوصل لحقيقة مهمة وهي أننا: ” بحاجة ماسة لمراجعة ثوابتنا ومقولاتنا وتراثنا وفكرنا وثقافتنا، بحثا عن مصادر قوتها وتشخيص نقاط ضعفها، ومطالبون بتجديد رؤيتنا للحياة والموت والآخرة، وعلاقة الإنسان بما حوله، والعودة إلى مصادر وعينا وتفكيرنا، في ضوء الواقع، وتحكيم العقل في قراءة التراث ومصادره (42).

ثم يؤكد “الغرباوي” فيقول بأن: ” صرامة الأجواء، وكثرة المحرمات والخطوط الحمراء، تفرض على المصلحين الحذر في مقاربة  ما يمت للعقيدة والطقوس بصلة، لذا تجد أكثر المقاربات سطحية تنأى عن الإشكاليات الأكثر عمقا. فمن يروم التجديد عليه أن يضع مصلحة الإسلام والأمة فوق كل شئ. ويتسلح بالعلم والمعرفة، ويقتحم كل ممنوع ومحرم، ويمارس النقد بأقصى مدياته، فلم يعد التمسك بالعادات والتقاليد، والتشبث بالماضي خيارا مقبولا، ونحن أمام مد حضاري هائل على جميع المستويات، وليس من المعقول أن نبقي متفرجين، لا نحرك ساكنا بدعوى القداسة واحترام التراث والسلف الصالح، وأبناؤنا يواجهون شتي الإشكالات، ويتعمق شكهم بدينهم وحضارتهم وتحاصرنا الشبهات والتهم (43).

لقد استطاع “الغرباوي” الوصول إلى نتائج ترفع من مستوي القارئ، وتجعله يقترب بسهولة من الكتاب إلى درجة الألفة والاستئناس، ويمكن إيجاز هذه الجوانب الإيجابية من المؤلف ما يلي:

أولاً: الجانب المعرفي: لقد جاء الكتاب مفعماً بالجانب المعرفي من حيث أن المؤلف وقف في الوصول إلى المعارف الضرورية لإنجاز هذا الكتاب، فقد تتبع المسار التطوري للفهم الصحيح لخلافة الإنسان على الأرض وحديث المؤلف عن الفهم هنا هو حديث عن المعرفة، وعن نظرية المعرفة؛ لأن المعرفة والبناء المعرفي لا يمكن أن يتحققا إلا بقاعدة ثابتة من الفهم، ومن الأمثلة على ذلك قول ماجد الغرباوي: ” كان سؤال الوجود وراء استعراض قصة الخلق في الكتب المقدسة، ذلك السؤال الذي لا زم الإنسان، يستفزه بدهشة، ويطرح عليه أسئلة مصيرية، تارة تكرس التشاؤم والعدمية واللاجدوي حد اليأس والانكفاء. وأخرى تدفع باتجاه التأمل والبحث والتنقيب، لمعرفة حقائق الأشياء، فكان ينبغي للخطاب الديني تقديم رؤية وافية تبدد شكوكه، وتجيب على أسئلته، حول حقيقة الوجود والإنسان والموت وحياة ما بعد الموت والخلود، مبدأ الخلق ونهايته وغايته، وغيرها، فهو قلق يعبر عن نفسه بأسئلة واستفسارات فلسفية (44).

ثانياً: التتبع الدقيق للحقائق التاريخية، ويتضح لنا ذلك من خلاله حديثه عن الجذر التاريخي لشعار الإسلام هو الحل؛ حيث يقول ماجد الغرباوي: “ليس الشعار غريبا على الوعي الديني، بل أن من صميم العقيدة تطبيق الشريعة، والكفاح من أجل اعتبارها مصدرا وحيدا للتشريع في دساتير الدول الإسلامية. وإذا كان تنظيم الإخوان المسلمين أول من طرحه بهذه الصيغة (الإسلام هو الحل)، فهذا لا ينفي جذره التاريخي، بل يؤكد ما تبناه الفقه الإسلامي، أن الإسلام دين شامل لكل الحياة، وما من واقعة إلا ولله فيه حكم. ومعناهما أن الإسلام حل لكل معضلة حياتية ودستورية، ومن هنا أفتوا بحرمة التشريعات الوضعية؛ وعندما رفعت الحركات الإسلامية هذا الشعار، فثمة ما يعزز ثقتهم بإمككانية تطبيقه تاريخيا إضافة لما حصل في إيران، كتجربة الخلفاء، التي تعتبر نموذجا للدولة العادلة التي أقامت شريعة السماء (45).

ثالثا: الإحاطة الجيدة لحدود الموضوع المدروس، لقد أبان المؤلف عن حسن تبصر، وعن رؤية واضحة للموضوع المدروس، مما جعله متمكناً من المعلومات التي يعرضها، حتى استطاع أن يوجهها لخدمة الغرض الديني الذي وُضع من أجله الكتاب، ويتضح لنا ذلك من خلال مناقشة ماجد الغرباوي لفلسفة الخلق بين نظريتين حيث يقول الغرباوي: ” إن الفهم التراثي للقرآن، والجمود على ظواهر الآيات، بات عبئا على الوعي العقلاني، وتسبب في كوارث دموية نسبت للدين؛ مثاله تمسك الحركات الإسلامية المتطرفة بآيات القتال، رغم عدم فعلية موضوعاتها، وانصرافها لقضايا خارجية محددة، فاهلكوا الحرث والنسل (46).

ثم يستطرد “الغرباوي” فيقول: ” وقديما استغل مفهوم الجبر من قبل الحكومات الاستبدادية القديمة التي تري في الملوك آلهة أو ظلا لها أو خيارها. ثم استغل الحكم الأموي ومن جاء من بعده، الجبر لتبرير سلوك الخليفة، والارتفاع به فوق النقد والمحاسبة، في الدنيا والآخرة، بعد أن أصل له المتكلمون، وغدا من مؤسسات العقل التراثي لطيف واسع من المسلمين، فالتراث المثقل بالتبعية والاستبداد ليس أقل خطرا حينما يعطل العقل، ويشل إرادة الفرد والمجتمع، ويكرس التخلف باسم الدين وآيات الكتاب (47).... وللحديث بقية.

 

الأستاذ الدكتور / محمود محمد على

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

..............

* هذا هو العنوان الأصلي للمقال

37- ماجد الغرباوي: تحرير العقل الديني (متاهات الحقيقة 5)، دار أمل الجديدة، دمشق، سوريا، ط1، ص 140

38- نفس المصدر، ص 170-171

39- نفس المصدر، ص 176

40- نفس المصدر، ص 251

41- نفس المصدر، ص 219

42- نفس المصدر، ص 402

43- نفس المصدر، ص 402

44- نفس المصدر، ص 81.

45- نفس المصدر، ص 42

46- نفس المصدر، ص 101

47- نفس المصدر، ص 101

 

 

حاتم حميد محسن: وقفة مع أوهام التكنلوجيا وأحلامها

التفاصيل
كتب بواسطة: حاتم حميد محسن

حاتم حميد محسنفي السنوات الاخيرة، لم يحصل اي نمو في انتاجية الاقتصاديات المتطورة او انه كان قليلا جدا. التوضيح الأكثر شيوعاً لهذه النزعة مرتبط بمسألة التكنلوجيا. ان التقدم التكنلوجي يُفترض ان يزيد الانتاجية الاقتصادية والنمو الممكن، ولكن ماذا حدث بالضبط؟

الباحث (مارتن فيلدستن) من هارفرد جادل بان نمو الانتاجية هو في الحقيقة أعلى مما تكشف عنه الارقام لأن احصاءات الحكومة "تقلل وبشكل كبير من قيمة التحسينات في نوعية السلع والخدمات الموجودة وهي ايضا لا تحاول قياس كامل المساهمات للسلع والخدمات الجديدة". هو يزعم، انه بمرور الوقت، ستصبح هذه الأخطاء في القياس كبيرة واكثر أهمية.

اما (روبرت غوردن) من جامعة نورثويست فهو أقل تفاؤلا حيث يرى ان الابتكارات الحالية في مجالات مثل المعلومات والاتصالات التكنلوجية (ICT) لا يمكننا توقّع ان تحقق ارباحا اقتصادية كبيرة كتلك التي حصلت في الماضي في صناعات، مثل الكهرباء والسيارات. ولكن الـ ( ICT) والتكنلوجيات الجديدة الاخرى هي ليست فقط  لا تعزز كثيرا الانتاجية قياسا بابتكارات الماضي، وانما هي حقا تنطوي على تأثيرات سلبية تُضعف الانتاجية ونمو الناتج المحلي الاجمالي. لا حاجة للمرء لإنكار المشكلات الانتاجية المحتملة للابتكارات التكنلوجية.

اولى هذه المشكلات تبدو واضحة، وهي ان الاضطراب التكنلوجي مقلق جدا. انه يتطلب من الناس ان يتعلموا مهارات جديدة ثم التكيف مع الأنظمة الجديدة  وتغيير سلوكهم. ومع ان النسخ الجديدة للسوفتوير والهاردوير تقدم المزيد من الكفاءة والقدرة والآداء، لكن تلك المزايا يقابلها الوقت المطلوب الذي يجب ان ينفقه المتعلمون في اكتساب المهارات الجديدة. كذلك، الأخطاء التي تحصل اثناء التدريب عادة تشوش وتعيق التحول المرجو.

ان التكنلوجيا الرقمية الحالية السريعة التغير ايضا تثير تحديات أمنية. الرسائل الالكترونية المزعجة، الفايرس، الهجمات ضد الكومبيوتر، وانواع اخرى من الخروقات الأمنية يمكن ان تفرض تكاليف باهضة على الشركات وأرباب المنازل.

بالاضافة الى ذلك، هناك تأثير الاتصال (connectivity) على حياتنا اليومية، وعلى قدرتنا على العمل والتعلم. الإيميالات غير المرتبطة بالعمل، وسائل التواصل الاجتماعي،الفيديوات عبر الانترنيت، وفيديوات الألعاب يمكنها بسهولة ان تشوش على العاملين ،فتختفي امكانية رفع الانتاجية التي يُفترض ان يحققها  ذلك الاتصال. هذه العيوب هي اكثر وضوحا عندما يعمل العمال من أماكن بعيدة. وكذلك بالنسبة للهاتف الذكي smart phone الذي غيّر أذهان الشباب وجعلهم بالكاد يتذكرون ما كان عليه الحال قبل ظهور الفعاليات الحالية المسببة للإدمان – من ألعاب الفيديو الى وسائل التواصل الاجتماعي – والتي تجري بمجرد تحريك الأصابع.

طبقا لدراسة حديثة، وُجد ان فعاليات الكومبيوتر الترفيهية توضح جزئيا الهبوط في عرض العمل بين الرجال في أعمار 21 الى 30 سنة. مع ذلك، يبيّن البحث ان أجهزة اللابتوب في غرف الدراسة تبطئ تعليم التلاميذ،حتى عندما تُستعمل تلك الاجهزة لتسجيل ملاحظات، وليس في تصفّح الانترنيت. كذلك،تُضعف التلفونات الذكية الأمان الفيزيقي في عدة مواقف. في الولايات المتحدة، أعلنت الادارة الوطنية للسلامة المرورية على الطرق السريعة  في تقرير لها ان 3477 شخصا قُتلوا وجرح 391 ألف شخص عام 2015 في حوادث تصادم السيارات بسبب عدم انتباه السائقين، مع الاشارة الى ان الرسائل النصية هي السبب الرئيسي للحوادث  خاصة بين الشباب. العملات الرقمية مثل (بتكون) ايضا فشلت في توقعاتها، ولم تُثبت انها اكثر كفاءة كوسيلة للدفع او مخزن للقيمة مقارنة بالنقود التقليدية. العملات الرقمية يبدو انها تشجع انصراف الموارد بعيدا عن الاستعمالات المنتجة. هي ايضا تؤذي البيئة، نتيجة لعمليات التعدين الكثيفة الطاقة، بينما التخفّي واستعمالها لأسماء مستعارة  يُضعف وسائل فرض القانون.

هناك تأثيرات سلبية مباشرة وغير مباشرة للتكنلوجيا الجديدة على الانتاجية، وهناك مخاطرة بانها تتجاهل نوعية حياة الناس. الكثير من الافراد لديهم شعور سلبي حول مكالمات الهاتف الاوتوماتيكية التي أضرت وأزعجت العديد منهم.

هناك ايضا مشكلة الأخبار المزيفة (fake news) المستمرة. مجيء الميديا الجديدة الرقمية كان يبشّر بنزعة ديمقراطية تعطي الناس العاديين خيارا للسيطرة على "الموجات الهوائية"، التي تتحكم بها  الشركات الكبرى و المؤسسات القائمة. لكن اتضح لاحقا ان "دمقرطة" المعلومات ليست عملا جيدا للديمقراطية. فمثلا، لوحظ ان الاخبار المزيفة  تنتشر بسرعة اكبر في التويتر مقارنة بالأخبار الحقيقية. هذا جعل المواطنين ليسوا فقط أقل اطلاعا، بل مكّن ايضا الشخصيات العامة وخاصة رئيس الولايات المتحدة السابق ترامب من التقليل من قيمة الحقائق واعتبارها مزيفة.

تلك فقط سلبيات تكنلوجيا المعلومات. هناك ابتكارات تكنلوجية اخرى ذات عيوب رئيسية واضحة تتضمن الافيونات المسكنة للآلام والاسلحة المتطورة .

يجب الاشارة الى اننا هنا  لانقترح ان صافي تأثير التقدم التكنلوجي الحالي هو سلبي. بالعكس، العديد من التكنلوجيا أعطت منافع هائلة، وقد تستمر. التكنلوجيات ربما فيها إمكانية رفع الانتاجية التي لم يتم استغلالها بعد. المؤرخون مثل بول ديفد وخبراء التكنلوجيا مثل اريك برانجوفسن و دانيال روك، يرون ان الاكتشافات الكبرى( مثل المحرك البخاري والكهرباء والسيارات) دائما ما أخذت وقتا لتعطي مردودا اقتصاديا صافيا، بسبب حاجة تلك الشركات الى التنظيم و إعادة بناء البنية التحتية . الشيء ذاته يُفترض  ان يحدث مع التكنلوجيات الحديثة. لكن هذا ليس سببا لتجاهل النتائج السلبية للابتكارات الجديدة. وكما حذرت مجموعة من تكنلوجيي وادي السلكون، من ان "التكنلوجيا تختطف عقولنا والمجتمع". نحن يجب ان نستعيد السيطرة، ونضمن اننا لا نجعل فقط عالمنا"أذكى"، وانما ايضا نتأكد اننا قادرون على استعماله.

 

حاتم حميد محسن

 

صالح الطائي: عقوبة الازدراء والتجديف في الديانات

التفاصيل
كتب بواسطة: د. صالح الطائي

صالح الطائيازدراء الأديان هو تعمد الإساءة أو الاستخفاف بالعقائد الدينية من قبل فرد أو جماعة أو هيئة هدفه إظهار عدم التقدير أو الاحترام تجاه دين محدد أو تجاه كل الأديان ومعتقداتها وشخصياتها المقدسة لدى أتباعها ورموزها الدينية وعاداتها وشعائرها وطقوسها.

أما التجديف فهو التحدث عن الله بازدراء، سواء كان الحديث مكتوبا أم منطوقا أم إشارة. ومنه الكفر بالنعم أو استقلال عطاء الله وتوجيه الإهانة أو التعيير الى الله تعالى.

الازدراء والتجديف كلاهما صارا اليوم مثار جدل على مختلف المستويات، وانقسم الناس بشأنهما بين مؤيد يرى أن ذلك حق مكفول يتعلق بحرية الرأي والتعبير لا يحق لأحد مصادرته، بل يجب حمايته بكل السبل المتاحة، ويطالب هؤلاء بوجوب توفير كافة سبل الحماية لمن يقوم به، وتوفير ملاذ آمن له. ولب وزبدة هذا الاعتقاد تتلخص في الجملة الأخيرة وتحديدا في كلمتي (ملاذ آمن) التي تبدو كوعد بمنح المجدف مقر إقامة في أي دولة يختارها، وهو حلم جميع شعوب الدول الفقيرة والنامية، وهذا تحريض علني على الازدراء.

قبالة أولئك يرى الذين هم أكثر عقلانية وتسامحا إن الازدراء والتجديف عمل قبيح وعدواني لأنه يعزز الكراهية الدينية بين البشر، وبالتالي لا يطالبون بمنعه فحسب، وإنما يطالبون بمحاسبة فاعليه.

وفي السياق التاريخي والديني كانت مواقف الأديان من التجديف والازدراء متباينة في دلالاتها حيث شددت الديانة اليهودية بحق عقوبة المجدفين والمزدرين، وحكمت بموتهم، جاء في التوراة عن "النفس التي تعمل بيد رفيعة (أي عن قصد وتعمد) فهي تزدري بالرب، فتقطع تلك النفس من شعبها (عدد 15: 30).

أما المسيحية فبدت أكثر تسامحا حينما قسمت التجديف على قسمين، جاء في الكتاب المقدس: "لذلك أقول لكم: كل خطية وتجديف يغفر للناس، واما التجديف على الروح فلن يغفر للناس. ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له. وأما من قال على الروح القـــدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي" (مت 12: 31 و32، ينظر أيضاً مرقس 3: 28 و29 لو 12: 10).

ومثل اليهودية حكمت المسيحية على مرتكب هذا النوع بالذات من التجديف بالقتل: فكما كانت عقوبة من " يعمل بيد رفيعة " (عدد 15: 30) أو يجدف على اسم الله (لا 24: 11 و16) القتل رجما (ينظر: موقع كنيسة الرب يسوع المسيح)

الغريب أن الإسلام الذي يتهم دائما بأنه الأكثر تشددا، والذي يتعرض اليوم إلى أكبر حملة ازدراء وتجديف، كان أكثر تساهلا من الديانتين اليهودية والمسيحية، لكن التطبيق العملي خرج على هذه القاعدة وأساء إليها.

إذ الملاحظ أن موقف الإسلام كان في منتهى التساهل، وللتوضيح أقول: يعرف التجديف في الإسلام على أنه السخرية من كلام الله وآياته، والاستهزاء برسله، أو إنكار نبوة أحد الأنبياء وإهانة الملائكة. ومع ذلك لا تجد في القرآن الكريم ذكرا لعقوبة التجديف ولا للمجدف، سوى المقاطعة بالحسنى، وهذا موقف نبيل جدا وعصري جدا، يختلف عن موقف الأديان السابقة. هذا الموقف يتضح من قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (النساء: 140). وقوله الآخر: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (الأنعام: 68.)

بل إن في القرآن أوامر صارمة ألا يكون المسلم مجدفا بحق الآخرين، قال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 108.)

لكن مع ذلك تجد هناك روايات تذكر أن النبي (صلى الله عليه وآله) عاقب المجدفين بالقتل، فعل ذلك مع كعب بن الأشرف بعد غزوة بدر، حيث كان كعب قد حرض قريش ضد الرسول والمسلمين، وكان يدفعهم ويشجعهم على الانتقام من المسلمين. وكذلك سلام بن أبي الحقيق (أبو رافع)، وكان هذا من كبار ممولي ومحزبي وداعمي قوات الأحزاب بالأموال والدعم اللوجستي ضد المسلمين في غزوة الأحزاب. غير ذلك هناك روايات أخرى تذكر أن النبي أباح للمسلمين قتل المجدفين يوم فتح مكة من النساء والرجال، وأباحه في مناسبات أخرى، مثل دعوته لقتل الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وحالات أخرى منها ما يتضح من حديث عبد الله بن عباس: أن أعمى كانت له أم ولد أي جارية تشتم النبي وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تنزجر، قال فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي وتشتمه، فأخذ المغول (المغول: سيف قصير) فوضعه في بطنها، واتكأ عليها، فقتلها، فوقع بين رجليها طفل، فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذكر ذلك لرسول الله، فجمع الناس فقال: أنشد الله رجلا فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام، فقام الأعمى يتخطى رقاب الناس وهو يتزلزل، حتى قعد بين يدي النبي، فقال: يا رسول الله أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كانت البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول، فوضعته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها. فقال النبي: "ألا اشهدوا أن دمها هدر".

إن افنسان المتزن العاقل الحصيف هو من يحترم عقائد الآخرين ولا يطعن بها ولا يزدريها، وبدل أن يشغل نفسه في البحث عن هنات الآخرين لينفذ من خلالها ليصول تجديفا على تلك العقيدة عليه أن يعمل على تشذيب عقيدته مما لحق بها بسبب الجمود على الموروث غثه وسمينه والتمسك بآراء من نصبوا أنفسهم قيمين على دين الله، فأحدثوا فيه ما ليس منه.

 

الدكتور صالح الطائي

 

محمد البندوري: الفنان التشكيلي فائق العبودي يغازلُ التجريدَ بتقنياتٍ جديدةٍ معاصرة

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمد البندوري

113 فائق العبودي 1ترتكز التجربة التشكيلية للفنان فائق العبودي، العراقي – السويسري، على أس تجريدي، فهو أحد الوجوه المألوفة في العالم العربي وفي العالم، يشتغل على هذا الأسلوب بكل مفرداته التشكيلية وجمالياته الرمزية والعلاماتية. فهو يستقي من المشهد الحضاري العريق مادته التشكيلية وفق طرق متنوعة وأسلوب تشكيلي يتميز بمقومات وتفاعليات مختلفة، سواء على مستوى البناء الفضائي أو على مستوى التقنيات العالية الموظفة، أو على مستوى الجهاز المفاهيمي بكل تشعباته، فأعماله تتبدى بؤرا حمالة لأوجه من الرموز والعلامات التي تتجذر في التاريخ العريق لتعبر عن معان فلسفية وتاريخية واجتماعية وثقافية وحضارية وفق صيغ تعبيرية، يُصيغها المبدع بألوان زاهية منتقاة بدقة فائقة وعناية دقيقة، ليشكل منها مفردات جمالية ذات دلالات ومعاني متنوعة، فيعمد إلى روابط علائقية تتراءى بين العلامات والرموز والألوان، فيلجأ بدءا من عملية البناء إلى إنتاج توليف بين مختلف العناصر التشكيلية، ليفصح عن جملة من التراكمات الرمزية، والأشكال المتوهجة، والعلامات الأيقونية، التي تنبثق أساسا من الأشكال والألوان المحادية لما يشخصه من الواقع الرمزي بكل تفاصيله الدقيقة، وهو بذلك يؤصل لفلسفة قيمية تستجيب لضرورات العمل التجريدي بمختلف عناصره ومفرداته التعبيرية. فإذا كان المبدع يبني فضاءات أعماله باعتماد الرموز والعلامات والأشكال المتنوعة والألوان المبهجة باعتبارها مواد تشكيلية، فإنه بقدرته الفائقة ومؤهلاته الكبيرة وتقنياته العالية؛ يحولها إلى مجال فني خصب يسيل بالتعابير اللا محدودة لينتج حزمات من الدلالات المتنوعة، وليفصح عن كل ما يكتنزه التاريخ العراقي العريق من مكنونات ونفائس فنية وجمالية، بتصورات ورؤى متعددة المعاني، فهو يجسد ذلك بأسلوب فني خارج عن المعتاد، وبفنية تشكيلية عالية الجودة، وبعلامات لونية، وأشكال تعبيرية ذات بيان وفصاحة رمزية، تتوقف على مناحي قيمية وجمالية ساحرة، وهي كلها تنبع بصدق من نفسية المبدع فائق العبودي بعد أن ينسجها إلهامه واجتهاداته في قوالب تعبيرية رائدة كتدليل على انغماسه في الفن التشكيلي المعاصر بحرفية كبيرة، وموهبة ذاتية، ومهارات عالية، ومؤهلات فائقة، وتقنيات معاصرة رائقة، وكفاءة فنية قوية، وبكثير من الدقة والعناية والتوظيف التقني البديع والمحكم. ثم إن خاصية التعدد العلاماتي والإيحائي وكل ما يرمز به في منجزه التشكيلي، يحدث حركات تخلخل السكون، فيتغير الشكل التعبيري الذي يروم تعددية الدلالات والقراءات، فهو يبلور العملية الإبداعية وفق خاصيات جديدة وأساليب معاصرة في التعبير، وإنه أيضا يروم الإفصاح عن معجم دلالي رمزي وعلاماتي متجذر في الحضارة الغابرة ليجول بالقارئ في عمق الصورة الرمزية بصيغ إشكالية جمالية متعددة المغازي يؤثت بها مجموعة من الجدليات وفق مجموعة أخرى من المفردات والعناصر التشكيلية المتوازنة. وهو بذلك يمنح أعماله حيزا كبيرا من الحرية في التعبير ونوعا من التلقائية، ويجادل الأشكال الغامضة ويحاورها عبر اللون والشكل بدرجة كبيرة، وهي في جوهرها أدوات أيقونية تتفاعل مع نظام الفضاء الفني في أنساق دلالية متلائمة ومنسجمة فيما بينها، تترجم تصوراته وهواجسه وأحاسيسه وانفعالاته الداخلية، ما تفصح عنه التعددية المتناسقة أحيانا، والمفارقات التعبيرية أحيانا أخرى.

113 فائق العبودي 2

لقد استطاع الفنان فائق العبودي أن يثبت في المشهد الفني العالمي ما يحمله من مواد رمزية وعلاماتية للتدليل عن آرائه التشكيلية وتصوراته وفلسفته في التعبير بالرموز والعلامات والألوان، إذ تتبدى قدرته الفائقة جلية في توظيف الصورة الرمزية، والشكل العلاماتي، واللون في تشكلاته واندماجه في مختلف المفردات الفنية داخل الفضاء على عدة مناحي، منها التكوين، والأداء التشكيلي، والتقنيات العالية،والتعبير بما تحمله ريشته من معالم فنية ومفاهيم وأفكار ورؤى عميقة الدلالات، تتجسد في مختلف الاستعمالات التشكيلية لبعث القيم الفنية والجمالية في أعماله الجديدة. فهو يجسد كل مقومات البنية الفنية المتكاملة والمتناسقة بكل ما تحتويه من الأيقونات والتماثليات والمؤشرات التي ترصد العلائق المختلفة بين الدوال والمدلولات، تحضُر في أعماله التشكيلية الجديدة التي سرعان ما تتحول إلى منتوج بلاغي جديد، حيث تنطلق من الموقع الرمزي إلى البعد الدلالي بعدما يعيد تأسيس المشهد الرمزي والعلاماتي وفق خاصيات الشكل واللون، فيعطيه أبعادا ودلالات أخرى، تسمح له بالانغماس في المشهد الجمالي والفني، ليمنح القارئ فرصة قراءة أعماله الجديدة في أبعادها الجمالية والفنية، بنوع من التدقيق والتفاعل الإيجابي، لأنه يغازل مختبر المواد الرمزية والعلاماتية، بتفاصيلها وحيثياتها لينسُج منها موقفا فنيا يضع القارئ أمام عوالم رمزية تُشكّل موضوعا أساسيا في أعماله، إلى أن تكتمل الرؤية التي تقود أعماله الفنية الجديدة إلى التعبير الدقيق عن قيمة الرمز والعلامة والشكل واللون في العمل التشكيلي المعاصر.

113 فائق العبودي 3

والظاهر في هذه التجربة الراقية، هي تلك الرؤية الجمالية التي تحملها أعماله الجديدة في بعدها الجمالي والفني والدلالي المستمد من الرمز والعلامة، وفي اختراقها للمسافة الغابرة في الزمن، ومقاربتها بالعمل الفني المعاصر، لتلتف حول المضامين بتنوع مشاربها. لكن وحدها الرؤية البصرية النقدية تستطيع تخبير محتويات أعماله، والكشف عن فنيات الفنان فائق الذي قاد الفن التشكيلي العالمي بابتكاراته المتجددة إلى أشياء العالم الخفية، من حزمة من الرموز. فغالبا ما يضع شكلا جماليا دالا لهذا المعنى، باعتباره تلك المادة الممتدة في الزمن التي يعود إليها القارئ ليغوص في رحلة فلسفية بين الواقع الفني المعاصر والشكل الرمزي بفلسيفته وطقوسه وألوانه، لتشغيل حواسه، وللوقوف عند الرؤية الفنية المُتستّرة وراء حجب اللون والعلامة، فالمبدع يعبُر إليها بأسلوب ممنهج، يفسح المجال لتوظيف المهارات الفنية والتقنيات المتفردة، مما يخدم الأهداف ذات الدلالات والمغازي العميقة. ليقدم منجزا تشكيليا يتجاوز الجاهز ويخرج عن المألوف، لما يحتويه من ما ورائيات وإشارات وعلامات وإيحاءات، لها تأثيراتها الخاصة ومعاييرها الجمالية النوعية في منجزه الجديد.

إن هذا المنجز الجديد الذي تزكيه أعمال الفنان فائق العبودي يُعد طرحا تشكيليا رائدا، يجعل فنه في مصاف الفن العالمي الراقي المعاصر. فاشتغاله على المادة الرمزية والعلاماتية في بؤر تجريدية متنوعة بما يطرحه من إشكاليات فلسفية مختلفة تصب في القيم الفنية والجمالية، والقيم الاجتماعية، وقيم الحياة، والقيم الزمكانية، لاستحضار الرموز ومفرداتها في الشحنات اللونية، حيث الحيادية، والدقة العالية، والتقنية الكبيرة في معالجة الرمز بكل تفاصيله. وهو لاشك وعي من المبدع بقضايا الرمز وأشكاله، وبمستويات اللون المطلوبة التي تتناسب والتثبيت الرمزي والعلاماتي، ووعي بتفاصيل المادة التجريدية. ما يسهم في تنوع الأساس الشكلي برؤية مشدودة بعبَق المعالم الرمزية والعلاماتية، واللون في تقاسيمه الجمالية، وفي دقة توزيع المساحة داخل الفضاء الفني، فيغوص في حضرة التجريد؛ إذ لا يكتفي باستدعاء المادة الرمزية، والاشتغال عليها؛ وإنما يتجاوز ذلك إلى التعبير بالإيحاء والإشارة والدلالة، ليس باعتبار ذلك قيمة بنائية، وإنما كخلفية سنادية تُدللُ على وعي الفنان بأعماق ما تكتنهه المادةُ الرمزية والعلاماتية واللون والشكلُ، وإيلاؤُه لها أهمية كبرى، سواء من حيث طرائق الوضع داخل الفضاء، أو من حيث رصد السمات الجمالية والخبايا المتسترة في حجب الرمز والعلامة. إنه بناء تشكيلي وفني يرسو على التوازن، وعلى عدة مقومات قاعدية تخص الفن التجريدي. وهو يوظف لذلك تلك النظرة الفنية الثاقبة، وحاسته الحادقة؛ حيث تتبدى سحرية أدائه التشكيلي، فيكشف عما تخبئه أعماله من محمولات جمالية تزخر بالتأويل ذي الدلالات المفتوحة. وهذا يُعد ملمسا جديدا وإبداعا مميزا في أسلوب المبدع فائق العبودي الذي لا يتردد في تقديم الجديد تلو الجديد من لوحاته التي ترصد في أدائها الفني التعبيري العلاقة القويمة بين الرمزية والإشارة والمضامين وفق المرجعيات المنبثقة من المجال التشكيلي، ما يمكّنه من تخليد مفردات فنية ذات قيمة عالية في التشكيل المعاصر.

113 فائق العبودي 4

إنه ارتباط وثيق بالمكونات الثقافية والمعرفية التي تؤطر أعماله في جوهرها، وتنم عن أفكاره المتجددة، وخياله المنفتح على مستوى التكوين والإضاءة الرمزية والعلاماتية، وعلى مستوى تشكيل المكان، أو إعادة تشكيله رمزيا؛ وهو ما يضع القارئ أمام أعمال تنطق بمعاني غنية بالمتجددات، في سياق وشائج قائمة بين ما تحمله المضامين والمادة الجمالية في علاقة ترسخ جانبا من التداخل بين كافة العناصر المنفصلة بكل ما تحمله الإشارات من تشعبات دلالية وتأويلات تميز في عمقها الخطاب التجريدي العبودي فائق الجمال، وما تكتسيه لوحاته الجديدة من وظائف بنائية ودلالية تحيل إلى مجال تشكيلي متجدد في تمظهراته الجمالية والشكلية وفي ما تحتويه المادة التجريدية في أسمال الحجب التجريدية، بعمق فني، وفرادة تشكيلية تعج بالإيجابية في التعبير عن العالم البديل. وهو ما يبين الاتجاه الجاذب في هذه اللوحات التي تحتوي فلسفات أخرى جديدة، باستخدامات تحولية، مما يعتبر أنموذجا في عصرنة الأسلوب الفني الذي يقود إلى عوالم توجه الطريقة التعبيرية لدى الفنان فائق العبودي سواء على مستوى الخامات المستعملة أو ما يتعلق منها بتقنيات الطلاء اللوني أو الضربات الصباغية وصناعة الأشكال الجديدة، وزرع العلامات، وتثبيت الرموز، وبسط المساحات، وإرداف اللون على اللون، وتكثيف المساحة، وإغلاق منافذ الفضاء، ما يجعله يقارب أشكال أعماله الفنية بالمادة البصرية. فجمالية هذه اللوحات الإبداعية الجديدة، تجعل من الإيحاءات والرمزية المنبثقة من الواقع الضارب في الزمن تنطق بدلالات أخرى في نطاق مادة فنية تتوافر فيها الرؤية الموضوعية للرمز والعلامة بكل مقوماتهما وتفاصيلهما وتجلياتهما؛ إذ يتم توظيف ذلك وفق أبعاد وقيم، وبطرق فنية يتوخى من خلالها المبدع بسط الصيغ الجمالية، مما يجعل من سياقات أعماله هاته إطارا تعبيريا معاصرا بسياقات جديدة  ولاشك أن للحركة دور أساسي في هذه اللوحات الجديدة، ما يصنع نوعا من التفاعليات بين سمفونية تضرب بجذورها في الزمن، وبين ألوان وأشكال تتراقص في مساحات من البهاء. كما أن جودة التقنيات التي يستعملها المبدع تسهم في عملية المعالجة الرمزية وإبراز هذه الأعمال التشكيلية في رونق وجمال مبهج، فتجربته الفنية الموفقة وخبرته الكبيرة في مجال التشكيل تجعله رائدا في الفن التشكيلي المعاصر.

فهذه اللوحات تمنحنا إحساسا جديدا، وشعورا قيميا ونظرة جمالية فاتنة. استجابة للضرورات الجديدة، إنها أبعاد بائنة تتوافر بشكل قوي في تجربة الفنان الرائد الكوني فائق العبودي. إنه المتفاعل الجريئ مع كل مقومات المنظومة التشكيلية العالمية، ومع مختلف المواد الرمزية، ومع الألوان التشكيلية المتخصصة، ما أنتج لديه أسلوبا تجريديا تعبيريا معاصرا، ينبني على قاعدة تشكيلية معاصرة، باختياراته وتوجهاته المباشرة، التي تستشرف العالم التشكيلي الباسم. بأسلوبه الرائد الخصب الذي يحتوي مجموعة من المعارف التشكيلية والمعالم الفنية والذوقية التي تندرج ضمن نسيج ثقافي واجتماعي وفكري، ورصيد معرفي تشكيلي. إنه يحمل خصائص فنية متفردة وجديرة بالمتابعة النقدية الجادة، لأنه يتوق في الفن التشكيلي المعاصر كل مكوناته ومفرداته وعناصره ومراميه الإبداعية المتطورة، والجماليات التشكيلية، وكل الأساليب التي تنبض بالحياة والتطور، وتهدف إلى إنتاج أعمال فنية راقية.

 

د. محمد البندوري

 

 

نبيل عودة: قراءة في قصيدة جميل الدويهي: إن رجعتُ إلى لبنان

التفاصيل
كتب بواسطة: نبيل عودة

قليلة هي القصائد التي اسرتني معانيها واعدت قراءتها مرات عديدة واكتشف مع كل قراءة عمق المعاني وقوة العاطفة التي تحركها او تنطلق من صاحب قلم اعياه البعد عن ملاعب صباه وعشقه للأرض التي رأى النور فيها وقضى سنوات عمره الفتية يجول باطرافها ويحفظ كل دعسة قدم خطاها في ربوعها، وها هو بجيل تجاوز نبيل عودةالشباب، يطل من شبابيك المهجر متجولا بذكريات لا تمحي، مستعيدا جمال ملاعب الطفولة التي اختلطت مع نبضات قلبه فانطلقت بقصيدة هي برأيي من اجل قصائد الحنين للوطن، ومن اجمل قصائد الذكريات لملاعب الطفولة ، لبحر الوطن وشاطئه وجباله ونسائمه وعصافيره وسمراواته.

في القصيدة نشعر بعمق الحزن وعمق الشوق وعمق الحب الذي يفتقده الشاعر في غربته ، كانه يقول انا لم أختار الغربة بل هي التي اختارنتي. وها هو في بلاد ليس له فيها عنوان. ولا يستجيب لندائه انسان. يتألم بصمت، ويحن بصمت بقوله: ان رجعت الى لبنان؟ تأملوا الجملة ، لا يقول عائد الى لبنان، فهو في عالم غير وطنه:" أقيمُ في خيمةٍ لا الشمسُ تدخلُها…/ ولا يجيبُ إذا ناديتُ، إنسانُ" ويواصل بحزن تنبض به كلمات قصيدته او الاصح اعترافاته: نِصْفي هناك، ولي نصْفٌ أعيشُ به / فكيف أمْشي، وكلُّ الدرب أحزانُ؟"

بنفس الوقت لا ينسى ايام الشباب:" وكان لي جارةٌ سمراءُ تغمزُ لي / ولم يكنْ بينَنا بحرٌ وشطآنُ…"

ويختتم قصيدته بلوعة الحزن والشوق: " هناك لي وطنٌ... لولا أغادرُه /

أصيرُ أعمى، وحولي الناسُ عميانُ".

اجل انه في الغربة ولكن قلبه ومشاعره وعقله ونبض قلبه وعينينه ترفضان ان تغادر الوطن!!

اجل ايها الشاعر: سترجع الى لبنان، وسيرجع لبنان الى روحك وعينيك ونبضات قلبك، وذكرياتك، وحبك لكل ذرة رمل وتراب ونبتة قمح ووردة في ربوعه وبسمة من سمراء تغمز لك ويشرب فنجانا من قهوتها!!

نبيل عودة

.................

إن رجعتُ إلى لبنان / د. جميل الدويهي

أمشي على البحر علّي ألتقي وطناً

                 فيه السماءُ عصافيرٌ وألوانُ

يردّني بعدما أمعنتُ في سفَري

           وصار بيني وبين العطر جُدرانُ

أقيمُ في خيمةٍ لا الشمسُ تدخلُها…

                 ولا يجيبُ إذا ناديتُ، إنسانُ

عندي رداءٌ من الأوجاع ألبَسُه…

               مرّتْ عليه أعاصيرٌ، وأزمانُ

ويسأل الناسُ عن إسمي، وعن بلَدي

            وليس لي في بلاد اللهِ عنوانُ…

نِصْفي هناك، ولي نصْفٌ أعيشُ به

         فكيف أمْشي، وكلُّ الدرب أحزانُ؟

وكيف يعْرفُني بيتي وأعْرفُه؟

           وكيف يرقصُ بين الورد نَيسان؟

ومَن أنا؟ شاعرٌ طال الرحيل به

           وفي مواعيدِه جوعٌ... وحِرمانُ

يشتاقُ للخبز أقماراً مدوّرةً

   هل من رغيفٍ؟ وهل في الحيّ جيران؟

وهل أعود إلى الوادي؟ فلي شجرٌ

              هناكَ يضحكُ… تفّاح ورمّانُ

والنَّهر طفلٌ على كفّي أهدهدُه

       والقمحُ فوق التلالِ الخضرِ سلطانُ

كان الصباح شبابيكاً مشرّعةً

                وتملأُ الدارَ من فيروزَ ألحانُ

كان الربيع جميلاً في حديقتنا

        والآن ما فيه أزهار... وأغصانُ…

وكان لي جارةٌ سمراءُ تغمزُ لي

             ولم يكنْ بينَنا بحرٌ وشطآنُ…

وكنتُ أشربُ من فِنجان قهوتِها

             فكلّما استقبلتْني، قلتُ: عطشانُ

تلك التصاويرُ ما زالت بذاكرتي

              والكلُّ من بعْدِها طينٌ، وأوثانُ

طيّارتي وَرقٌ، في الريح أتبعُها

          إلى هضابٍ عليها الحورُ والبانُ

فإنْ رَجَعتُ إلى لبنانَ، لي سببٌ

          فالحبّ عندي لبعض الناس إدمانُ

هناك طفل صغيرٌ لا يزال معي

            ولو يغيبُ...فإنّ العمرَ نِسيانُ…

هناك لي وطنٌ... لولا أغادرُه

       أصيرُ أعمى، وحولي الناسُ عميانُ

***

د. جميل الدويهي اديب لبناني مغترب صاحب موقع أفكار اغترابيّة" للأدب الراقي - سيدني 2021

 

 

عبد الجبار العبيدي: خارطة العراق قبل وبعد التغيير

التفاصيل
كتب بواسطة: د. عبد الجبار العبيدي

عبد الجبار العبيديلماذا تغيرت خارطة العراق اليوم؟ من يتحمل المسئولية التاريخية في مستقبل العراق؟ نداء للناخبين العراقيين؟

أسئلة بالغة الاهمية تدور في أذهان الكثيرين، باحثة، ومستقصية علها تحظى بجواب شافٍ يريح بال السائلين.بعضهم يرى ان الاجنبي هو الذي يتحمل المسئولية في التغيير، وبعضهم يرى ان بعض العراقيين الذين رافقوا التغيير في 2003، وبعضهم يرى ان دول الجوار المنتفعة عدوة الوطن هي التي ساهمت في التغيير والتدمير.

اذن من يتحمل المسئولية هل هم العراقيون الذين يتحملون المسئولية التاريخية لمستقبل بلدهم العراق، وهل هم الذين عليهم يقع الواجب الوطني المقدس لاخراجه من المحنة. أم هم الذين يجب ان ينفضوا أيديهم من الخطأ الذي ارتكب بعد التغيير.. ويعترفوا بالخطأ الوطني الذي أرتكبوه ؟.. والأعتراق بالحقيقة سيد الأعراف..

ان التجاسر على الثوابت الوطنية، واهمال المبادىء القيمية للشعب العراقي في اهدار حقوقه ومكتسباته الوطنية التي حققها خلال ثمانون سنة بعد الاستقلال كان جريمة.. حتى دمروه بهذا التغيير الذي لم يراعى فيه شروط الوطنية ومصلحة الشعب منذ بدايتة في 2003 حتى جعلنا صغاراً في نفوس وعيون الشعوب الاخرى. متناسين ان لاسلطة دائمة لاحد والوطن وطن الجميع.

لا احد يشك ان عودة العراق الى ما كان عليه قبل التغيير في 2003، اصبحت مستحيلة الآن رغم أماني المتأملين، ورغم العوامل العديدة الداخلية والخارجية التي تعمل ليل نهار من أجل استمرار بقائه خارج التاريخ، وتدمير شعبه ومستقبله السياسي والاجتماعي.وتقف العناصر الطامعة والأحزاب المنحرفة عن الخط الوطني بالداخل في مقدمة الركب.. ونعني أحزاب الرئاسات الثلاث ومن يقف معها في خانة السلطة، وتليها بعض دول الجوار التي تعمل ليل نهار من أجل تثبيت مسيرة الخطأ والتدمير.. وأستمرارية حصولها على المكاسب دون وجه حق وتقف ايران المعادية للوطن والشعب تاريخياً في المقدمة، أملا في ان يبقى العراق ضعيفا لاستمرار تحقيق مصالحها الوطنية، وكأن العراق من وجهة نظرها، اصبح بلدا للخائنين . بعد ان اصبح النظام الديمقراطي الحر رغم عثراته يهدد مستقبل دولها وحكامها الذين يحكمون حكما دينيا ثيو قراطيا بلا قانون.

ان بعض الجهات العراقية أصطفت مع هؤلاء منذ البداية مع الأسف - دون قصد أو عن قصر نظرٍ في التقدير- في مشاريع تخريبية، لكن الشعب - بقياداته الوطنية وشعبه الواعي، وافكار رواده ومثقفيه، قد هزمهم مرات ومرات واخرها في ثورة تشرين الباسلة التي قدمت الدماء الزكية فسجلت بها تاريخ العراق الحديث.. وستهزم كل المشاريع الاخرى التي يحيكها الطارئون على الوطن الذين ينوون عرقلة مسيرة البلاد دون وعي من ضمير.

2394 خارجة العراق

ان الجهات التي تلاعبت وعبثت بمقدرات شعب العراق ما قرأت التاريخ البعيد والقريب التي حذرها ويحذرها من اللعب بالنار والتجاوز على الثوابت الوطنية العراقية.وعليهم ان يدركوا ان العراق اليوم غير عراق الامس، فهو عراق الوطنين التشرينيين، فالاجدر بهم ان لا يتركوا ثغرة واحدة يدخل منها كل من في رأسه ثأر قديم.

لقد ظلم الوطن من بعض مواطنيه بحجة المظلومية، ولم يحسبوا حساب الزمن والاهل، فراحوا يعتقدون ان المال الحرام والغنى الفاحش بديلا عن الوطن والمواطنين ورداً لمظلوميتهم لكنهم أخطئوا التقدير. والآن هم يتحسرون على المخلصين، رؤوسهم منكسة في قصورهم وفنادقهم(من امثال أعضاء مجلس الحكم اللا شرعي والخائن لمبادىء التغيير.. وكل رؤوساء الوزارات ومجالس النواب وكل من أرتقى منصبا دون وجه حق تحت ظلال الاحتلال والفاسدين.من خونة التاريخ كما قال محمود المشهداني الذي قال: "نحن جئنا عصابات تفليش لا بناء "، وبقي المخلصون في وطنهم رؤوسهم مرفوعة مع المواطنين.أما جيران العراق المغتصبين هم مثل الاخرين متهمين ومكروهين من التاريخ والعراقيين، وكان الافضل لهم الف مرة قبل ان يقدموا على التجاوز على حرمة الوطن والشعب والمواطنين ان يكونوا غير الذي هم فيه من الخاسرين.. وليتذكروا ما حل بالسابقين من جراء الأعتداء على الأخوة المجاورين.

ولو سألَ كل عراقي مخلص نفسه اليوم سؤالاً محدداً، لماذا تغيرت خارطة العراق؟ومن سمح للمجلس الوطني (اللا منتخب) ان يضعها فوق راسه ومن كتب الدستور الناقص الهجيني، سيجد جوابه عند لجان التفاوض العراقية التي أهدرت الحق العراقي في التفاوض دون مسائلة من ضمير، وكأن الوطن العراقي لم يعد ملكاً للعراقيين. بل أصبح ملكاً للمنتفعين، وسيجد الجواب عند أصحاب نظرية(الحدود المحسومة في رأي وزير خارجية العراق "هوشيار زيباري"الناكر لوطنه العراق.. ولا ندري كيف أجاز لنفسه حسمها لصالح الاخرين؟ ومن اباح له التوقيع على حسمها لهم؟ومن شرع قوانينها؟هل هي جزء من امتيازات ورواتب الوزراء والنواب والمستشارين الباطلة، كما كان يظن ؟حين كتبوها لانفسهم بانفسهم دون حسيب او رقيب ؟فأكلوها سُماً علقما في قلوبهم السوداء.. او الذين عاضدوهم بالمال الرخيص من كذابين الزفة ؟هل سيحقق المجلس القادم الوطني مجلس ثوار تشرين في هذا التقصير؟ بعد ان دمر رؤوساء المجلس منذ التأسيس والى اليوم كل ثوابت الوطن دون وعي من ضمير.. أكيد..

أرى وكمطلع على كل ما جرى، وعلى قرارات الامم المتحدة، ان على نواب العراق الجدد ان يصروا على تقديم شكوى للامم المتحدة ومجلس الامن بحجز اموال كل السارقين، "أهل مكة أدرى بشعابها".. وبدفع تعويضات للدمار الذي لحق بالعراق من جراء الغزو الخارجي الذي انطلقت قواته من ارض المجاورين، وبعلمهم وموافقتهم المسبقة – والقانون الدولي لا يسمح بغزو ألاخرين ان لم تكن الدولة المراد غزوها قد ثبت خروجها على النص.. وبريطانيا وهي الدولة المتحضرة تحقق اليوم في اسباب الحرب وعلى من تقع مسئوليتها المادية والاخلاقية وتلتها هولندا بعد ان ندم بلير رئيس وزراء بريطانيا وأقر بالجرم المشهود .

وذلك طبقاً لقرار هيئة الامم المتحدة والذي صوتوا هم لصالحه في تعريفها للعدوان، والذي مؤداه ان أي دولة ساعدت أي طرف دولي اخر لالحاق الاذى بسيادة دولة اخرى مستقلة يعتبر عملا من اعمال العدوان – (أنظر النشرة الدولية للقانون الدولي)، فهم بموجب القرار أرتكبتوا عدواناً على العراق عليهم ان يدفعوا كامل التعويضات دون تردد).أم دولهم مصانة ودولتنا مهانة لان الحاكمين فيها كانوا من خونة التاريخ ؟.كلام موجه للمسئولين العراقيين الخونة المنتفعين الهاربين منهم والباقين، والقادمين المخلصين، لمعرفة اين حقيقة التقصير؟.

ان ثالوث التدمير الذي مرررَ على من رافق التغيير من القياديين، هي الطائفية والعرقية والمحاصصية الوظيفية القاتلة، فكان بطلها بريمر2003 الجاهل بتركيبة العراق الديموغرافية والمرافقين من الكتلة الساكتة في وطن العراقيين، ومن قبله كوكس البريطاني 1918(فرق تسد)، والذي وقفت بوجهه عشائر الجنوب البطلة صاحبة موقعة الرارنجية والكفل والعارضية حتى اسقطته، واليوم وقفت بجانب بريمر كل عمائم الخيانة والتهريج.. سيسقطهم نواب تشرين القادمين، رغم عصابات مليشيات ايران وكل الخائنين.

لقد ظن البعض –وهم واهمون-ان العراق قد مات ودفن ولم يبقَ منه الا الثروات المنهوبة وحراسها السارقين، لكنهم وهموا فهذا العراق وهذا تاريخه فلن تغلبه المغول ولا الفرس ولا الأتراك ولا كل من تورط فيه من السابقين واللاحقين، عرباً وغرباء من الطامعين.. فليتذكروا حرب السنوات الثمان وكيف جرعهم السُم والآنين.

لقد تغير النظام في العراق بعد 2003، ولكن عقل النظام بقي دون تغيير، لاسيما عندما يحتفظ النظام الجديدبعقلية النظام القديم حين يبقى يتعامل مع الطائفية والنرجسية والمحاصصية الوظيفية الكريهة.. فلا سنةُ ولا شيعة ولا أكراد في العراق.. بل مواطنين عراقيين لان النظام الجديد يحتاج الى أشخاصٍ من المؤهلين لادارة وزارة او سفارة لا كما نرى من غير المؤهلين الذين يعشعشون في مراكز الدولة والسفارات من الخائبين من غير المبالين، فكيف اذا كانوا من الغرباء الفاسدين والمفسدين .وما فضائح الوزارات والمؤسسات والتقاعد اليوم الا مثال لما نقول.. فاضرب يا عراقي بيد من حديد وأكتب لك تاريخ جديد.. ان كنت من الوطنيين.

اليوم نقول لكل من يدعي الاخلاص للوطن من العراقيين- وهم كُثر-، والمؤمل في قيادتها مستقبلاً، عليهم ان يسمعوا ويردوا ان كنا على غير صواب لاننا نحن الشعب وهم الحكام الفعليين، ان يسمعوا ويستجيبوا ان كنا على الحق المبين.ان التجاهل لصوت الحق ليس في مصلحتهم، فليتذكروا تاريخ السابقين.لقد زار الكاظمي واشنطن وكان عليه ان يجتمع بالوطنيين، ونحن نناديه ان يجتمع بالوطنيين، ويترك البهرجة والفنادق الكبرى وتصفيق الكاذبين هؤلاء الذين وضعتهم السفارة كمخبرين شرطة للقادمين لتضليل الرأي لديهم عن الوطنيين.، فان اراد ان يسمع سنسكنه في قلوبنا ليكون مع الوطنيين؟ اقدم يا كاظمي واصنع لك تاريخا.. فلا تمت مثل ابو رغال خائن المكيين.. ولا مثل ابن العلقمي خائن العباسيين..

.راقبوا يا سادة تنفيذ قوانينكم الصادرة بتواقيعكم والتي تتباهون بها في كل مناسبة وفي كل حين، قانون 24 لسنة 2005، وقانون 441 لسنة 2008، فهي تنفذ لبعض المواطنين دون الاخرين،، والجنوب يخرب ويبعثر، وكأن ابناء الجنوب كتب عليهم ان لا يتقدمون؟ فهل عاد ألينا مرة اخرى قوانين النظام السابق حين غُلب الجاهل على العاقل والمتخلف على الكفوء ونحن لا زلنا ممن لحق بهم الضيم دون انصاف حتى من القادمين .انها قوانين الفرصة المنتهزة كما يسميها العابثون الهاربون اليوم والمنزون في ذل المهانة عن الاخرين.. فلا تدعها تمر، لأنها ستحسب عليكم خطئاً غداً امام حساب الشعب وكل المحاسبين؟

نفذوا كلامكم، يا سادة، كلامكم الذي وعدتم به في مؤتمر الكفاءات واعِيدوا حقوق المظلومين، وحققوا في قوانين الفرصة المنتهزة، فالتعليم العالي اذا فسد فهو كالسمكة التي اذا فسد رأسها فسدت كلها.. العلم والحقوق والواجبات كلنا شركاء فيها كالماء والهواء "حقاً وصدقاً" كما قالها الامام علي امير المؤمنين، وألا لماذا حصل التغيير؟.نريد ايمانكم بدولة القانون صادرا من العقل لا من القلب ساعتها سيكون له قدره وأهميته في كلِ حين.

الانتخابات العامة قادمة على الابواب ولن يفوز بها الا من كان من المخلصين فلن تنفعكم التوافقات والبيع والشراء لسرقة اصوات الناخبين، ولا الكتلة الأكبر التي صنعها خائن المحكمةالعليا ليرضي بها من في قلبه مرض الكرسي اللعين.. ,هو أكبر المزورين..، لقد ادرك الشعب اليوم حيل المتلاعبين، فأسقطهم يا شعب في مجالس المحافظات.. وتمسك بالمخلصين الصادقين .

نقول بصدق:

نريد ممن يحكم اليوم.. عدلا وصدقا في تنفيذ القوانين، نريد منه فصلا لسلطات الدولة عن حقوق الناس؟، نريد منه حكما قائماً على المساواة وشعور الناس بحرية الحركة وحرية العمل والقول؟، نريد منكم تحريرا للمظلومين في سجون المحتلين الظالمين، الا من ثبت عليه الجرم اليقين؟، نريد منكم تحقيقاً في المغتصبين والشهداء المقتولين من الاطباء والعلماء والضباط والطيارين ورجال الدين المخلصين والاكاديميين، ؟ نريد منكم تحقيقا عادلاً في المغيبين في جرف الصخر المسلوب من قبل المليشياويين الأيرانيين الذين قتلوا ويقتلون كل العلماء والمخلصين"هشام الهاشمي مثالاً".. أنعاج هم حتى تذهب دماؤهم هدرا دون مسائلين؟.

نريد منكم عودة للمهجرين، ؟نريد منكم بيوتنا التي اغتصبت من المغتصبين؟ نريد منكم كشفا للتحقيق في تسليم الموصل لداعش الاجرام.. ؟نريد منكم قانونا لرفض الطائفية والعرقية والمحاصصة الوظيفية فعلاً لا قولا؟ نريد منكم ألغاءً للمادة الثانية من دستور العراقيين التي قيدت المواطن بالنص الديني المفسر ترادفيا لصالح مؤسسة الدين.. ؟ بعدها نريد تنفذاً لمطالب الشعب.. فالشعب هو الحارس الامين، لا حراسك الكُثر الخائفين، أقدم يا كاظمي ان كنت مخلصاً وأبعد عن التغليس والصمت الرهيب.. فلا يهمك بعدها تقولات الناكثين.

القيادات لا تظهر في قلوب الناس الا أذا هي حققت المستحيل؟، هل ان العراقيين لا يستحقون الا الرصاصة القاتلة وحقد الاخرين، امن اجل هذا حدث التغيير؟ ليبقى الغريب يحكم العراقيين؟ لله درك يا عراق العراقيين، منذ الازل والاعداء تتكالب عليك قتلا وتشريدا، ولم تعرف الرحمة من قلوب الراحمين؟لكن نبوخذ نصر لازال حياً بين العراقيين.. هل سنبقى خائفون وجلون مشردين بلا حقوق من اجل ان يسعد بوطننا كل الفرباء الطارئين من أمثال مسجدي وكل قياطين أحذية العراقيين..، أصحاب الادوية الفاسدة والطعام الفاسد والمخدرات وحقن المورفين لقتل منتوج العراقيين، هل نحن اصبحنا مثل عاد ٍوثمودٍ فما أبقى؟، حتى هؤلاء الذين يتهموننا بشتى صنوف التهم الظالمة، الا انهم هم الساقطون ولكنهم لا يعلمون؟، ام نحن نستحق لعنة السماء وكل حقد الحاقدين.. كما استحقها أبن نوح ولم يُلحق بسفينة الناجين..

عُد يا عراق الحضارات الى ما كنت فيه، فمنك خرج الاصلاح عند آوركاجينا ومنك خرجت شريعة آور نمو، ومنك صدرت قوانين حمورابي المتقدمة في حقوق الانسان.. وعلى أرضك استشهد علي والحسين ولكنهم مع الاسف تحت رعاية اللامخلصين، وفي تربتك الطاهرة لازالوا رابضين..، أمن أجل هذا ارادوا تدمير سجلات تراثك ومتحفك وباعوا في سفاراتك وثائق المدونين وكل ما تملك من رصيد السنين، أنه حقد الحاقدين.

وفيك ظهرت الكتابة، ومن قصبك صنع القلم والورق وبقلمك دونت المدونات القانونية الحضارية، لذا ارادوا حرق مكتباتك ومعاهدك الوثائقية حتى لا يبقوا لها من آثر في قلوب العراقيين، لكنهم نسوا ان تاريخك يا عراق العراقيين سيبقى محفورا في ذاكرة الوطنيين، وسيبقى الى ابد الابدين، عُد ياعراق الحضارات فوالله أنت لن تموت. وهم الى الزوال الاكيد؟

نداء نوجهه من قلوب مخلصة للناخبين العراقيين، ان لا تعطوا غداً صوتاً واحداً الا لمن تتوسموا في الرجولة والمقدرة والكفاءة والاخلاص والوفاء للعراق والعراقيين لينكشف غدا كل الخائنين المارقين.. لن يغير الامر اليوم في العراق الا صندوق الانتخاب، فلا تنخدعوا بمن خدعوكم بالامس حتى نعيد للوطن حقوقه لننتزعها من براثن الناكثين، ليريهم الشعب يوم الحساب الذي هم فيه يوعدون؟

واليوم نقول له: ان الحدود العراقية من جهاتها الأربعة تحددها معاهدات الاستقلال لا معاهدات فرض الامر الواقع وقرارات مجلس الامن الجائرة، فلا تقدم ايها الحاكم على عمل انت لست المسئول عنه.. فحساب الشعب غدا لكبير.كل الشعوب تحافظ على اوطانها، فلماذا نحن العراقيون نبيع الوطن بثمن رخيص ؟تحية للمخلصين.

 

د. عبد الجبار العبيدي

 

 

 

حسن الياسري: القولُ الفصلُ في دور خبراء الفقه الإسلامي وفقهاء القانون (1-4)

التفاصيل
كتب بواسطة: د. حسن الياسري

حسن الياسريفي المحكمة الاتحادية العليا

قد أسلفنا القول إنَّ التجارب الدولية تؤكدُ أنَّ المحاكم الدستورية تتألف من فئاتٍ متعددةٍ في الغالب، وأنَّ عدد القضاة فيها عادةً ما يمثِّلُ الأقلية لا الأكثرية، خلافاً لما يتمُّ تسويقه في العراق من قبل بعض الشخصيات والجهات غير المطلعة على المضامين الدستورية المحلية والتجارب الدولية،من الذين يتحدثون بلا هدىً. إنَّ أصل النظرية الراجحة في هذا الصدد -بحسب تجارب المحاكم الدستورية الدولية التي سنعرض أهمها- هو ضمُّ فئاتٍ أخرى إلى المحكمة من غير القضاة تكون لها الغلبة والأرجحية في كثيرٍ من التجارب.وستلاحظون من خلال العرض أنَّ الغلبة في هذه المحاكم عادةً ما تكون لرجال القانون لا للقضاة. بل ثمة محاكم دستوريةٌ دوليةٌ ليس فيها قاضٍ واحدٌ . إنَّ الفئات التي تتألف منها المحكمة قد تتمثَّل بأساتذة القانون في الجامعات أو المحامين أو رؤساء الجمهورية السابقين أو بعض المسؤولين الإداريين أو بعض الشخصيات العامة، ونحو ذلك.

وعموماً، سنقوم بإيراد أهم النماذج الدولية في هذا الصدد ؛كي نكشف عن الحقيقة الضائعة وسط الصخب. وهذه النماذج التي سنعرضها تمثِّل (24) تجربةً لمحكمةٍ دستوريةٍ في العالم، من أوربا والأمريكيتين وآسيا، التي يتمُّ عرضها لأول مرةٍ ؛ فهذه الدراسة غير مسبوقةٍ في بابها هذا. 

1ـ المحكمة الدستورية الإسبانية:

تتألف المحكمة الدستورية الإسبانية بمقتضى المادة (159) من الدستور الإسباني لعام 1978 المعدل من (12) عضواً،من أساتذة جامعاتٍ قانونيِّين وقضاةٍ ومدَّعين عموميين وموظفين عموميين ومحامين، يمارسون الاختصاصات ذاتها.

ينتخبُ مجلس النواب أربعةً (4) منهم ومجلس الشيوخ أربعةً (4)، واثنان (2) من الحكومة واثنان (2) من مجلس القضاء. ما يعني أنَّ عدد القضاة هو (2) من مجموع (12).وعليه فالأكثرية هي لرجال القانون وغيرهم وليس للقضاة.(لم ترد هذه الآلية في الدستور الإسباني، بل في القانون المنظِّم لعمل المحكمة).

2ـ المحكمة الدستورية الإيطالية:

تتألف هذه المحكمة بمقتضى المادة (135) من الدستور الإيطالي لعام 1947 المعدل من خمسة عشر(15) عضواً، يتمُّ اختيار ثلثهم من قبل الرئيس وثلثٍ من قبل البرلمان في جلسةٍ مشتركةٍ وثلثٍ من قبل المحاكم العليا العادية والإدارية، ويُختارون من بين أساتذة الجامعات القانونيِّين والقضاة والمحامين. ويمارسون الاختصاصات ذاتها. ومعنى ذلك أنَّ نسبة القضاة فيها هو الثلث فقط. وعليه فالأكثرية هي لرجال القانون وليس للقضاة.

3ـ المحكمة الدستورية الاتحادية الألمانية:

كما المحكمة الإيطالية، تتألف المحكمة الدستورية الألمانية من أساتذة جامعاتٍ قانونيِّين وقضاةٍ ومحامين. يمارسون الاختصاصات ذاتها.(لم يذكر الدستور الألماني هذه الآلية بل القانون).

4ـ المحكمة الدستورية النمساوية:

وتتألف بمقتضى المادة (147) من الدستور النمساوي لعام 1945 المعدل من (14) عضواً و(6) بدلاء. يتمُّ تعيين الرئيس ونائبه وستةٍ (6) من هؤلاء الأعضاء -الأصلاء- وثلاثةٍ من البدلاء بتوصيةٍ من الحكومة، ويكونون من بين القضاة والمسؤولين الإداريين وأساتذة الجامعات القانونيِّين. ما يعني أنَّ لكل صنفٍ مقعدين،وهكذا يكون عدد القضاة (2). ويتمُّ تعيين الستة (6) الباقين والثلاثة البدلاء باقتراحٍ من المجلس الوطني والمجلس الاتحادي. وبالمحصِّلة يكون عدد القضاة (2) من مجموع (14) عضواً. وعليه فالأكثرية هي لغير القضاة .

5ـ المحكمة الدستورية التشيلية:

بمقتضى المادة (92) من دستور تشيلي لعام 1980 المعدل في عام 2015 فالمحكمة تتألف من عشرة أعضاء من الحائزين شهادة القانون مع خدمة (15سنة)، وأن يُعرفوا بتفوقهم المهني والأكاديمي. وعلى هذا فالمحكمة ليس فيها سوى رجال القانون.

6ـ المحكمة الدستورية البوليفية:

تشترط المادة (199) من دستور بوليفيا لعام 2009 أن يكون أعضاء المحكمة ممَّن لهم الخبرة المعترف بها في مجالات القانون. ما يعني أنها قد تكون أيضاً حكراً على رجال القانون،وليس فيها قضاة.

7- المحكمة الاتحادية العليا البرازيلية:

بمقتضى المادة (101) من الدستور البرازيلي لعام 1988 المعدل تتألف المحكمة من (11) عضواً، يتمُّ تعيينهم من قبل الرئيس بعد موافقة مجلس الشيوخ. ويُشترط فيهم أنْ يكونوا ممن يتمتعون (بمعرفةٍ قانونيةٍ متميزةٍ وسمعةٍ لا تشوبها شائبة).

وعلى هذا يمكن أنْ لا يكون ثمة قاضٍ فيها.

8ـ المحكمة الدستورية المنغولية:

تشترط المادة (65) من دستور منغوليا لعام 1992 المعدل في عام 2001 أن يكون أعضاء المحكمة من الحاصلين على (مؤهلاتٍ عليا في القانون والسياسة). ما يعني أنها أيضاً يمكن أنْ تكون حكراً على رجال القانون ولا قضاة فيها. وتجدر الإشارة إلى أنَّ الفقرة الخامسة من هذه المادة -65- من الدستور تحظر على أعضاء البرلمان والوزراء وقضاة المحكمة العليا من أنْ يكونوا أعضاءً في المحكمة الدستورية.

9ـ المحكمة الدستورية البرتغالية:

بمقتضى المادة (222) من الدستور البرتغالي لعام 1976 المعدل في عام 2005 فإنَّ المحكمة تتكون من (13) عضواً، ستةٌ منهم من القضاة، والبقية (7) من رجال القانون. بمعنى أنَّ الغالبية هي لرجال القانون.

10ـ المحكمة الدستورية التركية:

بمقتضى المادة (146) من الدستور التركي لعام 1982 تتألف المحكمة من (15) عضواً، منهم ثلاثةٌ (3)من القضاة، واثنان (2) من مجلس الدولة، وثلاثةٌ(3) من أساتذة الجامعات في مجالات القانون والاقتصاد والعلوم السياسية، وأربعةٌ (4) من بين كبار الموظفين التنفيذيين والمحامين والمدعين العامين. ويبقى ثلاثة أعضاء تنتخبهم الجمعية الوطنية. وبالمحصلة يكون عدد القضاة ثلاثة (3) من بين خمسة عشر(15) عضواً .وعليه فالأكثرية هي لرجال القانون وغيرهم وليس للقضاة.

11- المحكمة الدستورية الأوكرانية:

بمقتضى المادة (148) من الدستور الأوكراني لعام 1996 المعدل تتألف المحكمة الدستورية من (18) عضواً. ستةٌ منهم قضاةٌ معينون من قبل الرئيس والبرلمان، والبقية (12 عضواً) يتم اختيارهم عن طريق فتح باب الترشيح والتنافس بين المواطنين،على أن يكون المرشح من الحاصلين (على مؤهلٍ عالٍ في الدراسات القانونية أو من المحامين). وكما ورد في غيرها من المحاكم يُطلق عليهم كلهم بعد ذلك صفة (قاضٍ)، ويمارسون الاختصاصات ذاتها. وعليه فالأكثرية (الثلثان) هي لرجال القانون وليس للقضاة.

12ـ المحكمة الدستورية العليا الهندية:

بمقتضى المادة (124) من الدستور الهندي لعام 1949 المعدل في عام 2016 تتألف المحكمة الدستورية (من عددٍ من القضاة وفقهاء القانون والمحامين). وكلهم يُطلق عليهم في هذه المحكمة بحسب الدستور -كما في غيرها من المحاكم الدستورية- صفة (القاضي)؛ وذلك لأنهم يمارسون عملاً قضائياً وإن كانوا من غير القضاة. وتجدر الإشارة إلى أنَّ الدستور الهندي استعمل الوصف ذاته المستعمل في الدستور العراقي للتعبير عن القانونيِّين في المحكمة، وهو(فقهاء القانون).

13ـ المحكمة الدستورية الكولومبية:

تنص المادة (232) من الدستور الكولومبي لعام 1991 المعدل في عام 2015 على أن يكون أعضاء المحكمة من الأكاديميين في (التخصصات القضائية) -بمعنى أساتذة القانون- أو من المحامين أو من الشاغلين لمنصبٍ في السلطة القضائية أو النيابة العامة.

14ـ المحكمة الدستورية الإكوادورية:

تنص المادة (433) من دستور الإكوادور لعام 2008 المعدل في عام 2015 على أن يكون أعضاء المحكمة من المحامين أو القضاة أو أساتذة الجامعات القانونيِّين.

وسنكملُ استعراض بقية المحاكم الدستورية الدولية في الجزء الثاني من هذا القسم إن شاء الله ؛ كي يتبيَّن وجهُ الحقيقة للرأي العام .

 

الدكتور حسن الياسري

 

مجدي إبراهيم: نقد المنهج الجدلي بإزاء العقيدة

التفاصيل
كتب بواسطة: د. مجدي ابراهيم

مجدي ابراهيمقديماً؛ كان "أفلاطون" قد جعل من الجدل علماً أقام الحوار الفلسفي الذي اصطنعه في محاوراته عليه؛ فبلغ بمنهج الجدل قمته؛ إذ كانت فلسفة الحوار هي لب لباب الجدل. ومعنى الجدل: نقل اللفظ من معنى المناقشة المموّهة كما جاءت على يد السفسطائيين إلى معنى المناقشة المخلصة التي تولد العلم. وجعل الحوار الفلسفي من طريق الجدل وسيلة لبلوغ هذا العلم.

وكتب "أرسطو" في الجدل كما كتب في الشعر والخطابة وألف البرهان والأغاليط، وأدخل المنهج الجدلي في سائر العلوم النظرية بعد أن هدته دراسته لطريقة الجدل لدى أفلاطون إلى فكرة تصنيف الكليات الخمس وهى: الجنس والنوع والفصل والخاصّة والعرض؛ وأعتمد أرسطو على طريقة الجدل؛ ليبيّن لنا أنواع القضايا والأحكام التي تعبّر عنها. واعتبر المعاصرون من علماء المناهج المنهج الجدلي هو منهج متمم لمناهج البحث، (الاستدلالي ـ الاستقرائي ـ الاستردادي ـ الوصفي) مُكمل لها. وذلك لأنه يحدد طريقة التناظر والتحاور بين الجماعات العلمية، أو فى المناقشات العلمية على اختلافها. ويقوم على المحاورة ودفع الحجة بالبرهان، وعلى النقاش بين أصحاب التوجهات العلمية على اختلاف اختصاصاتها.

وسوف أسوق مثلاً من واقع الفكر الإسلامي على تطبيق المنهج الجدلي لدى المتكلمين مع نقده؛ إذْ كان منهجهم في مناقشة قضايا العقيدة مناقشة كلامية هو المنهج الجدلي الخطابي؛ فإذا كان منهج الفلاسفة هو المنهج العقلي البرهاني، وكان منهج الصوفية هو المنهج الذوقي الوجداني؛ فمنهج علماء الكلام هو المنهج الجدلي. ومن ثم ظهر أهم ما يميز دائرة علم الكلام: أنها دائرة نظرية تعتمد الجدل كمنهجية وإنشاء الخطابة وممارسة "فن التحاور" في الدفاع عن العقائد الإسلامية.

ولذا؛ كان تعريف علم الكلام كما في عبارة "ابن خلدون"  هو: الدفاع عن العقيدة الإسلامية بالحجج المنطقية والبراهين العقلية ضد النزعات اليهودية والنصرانية، وضد أصحاب الديانات الأخرى كالمجوس والصابئة وغيرهم التي حاولت هدم عقائد الإسلام وتشكيك المسلمين في عقيدتهم الدينية؛ فنشأ علم الكلام بمنهجه الجدلي؛ ليدافع عن العقيدة الإسلامية ويقيم قنوات التحاور النظري ضد طعنات أعداء المسلمين ممّن أرادوا هدم الديانة الجديدة من أصحاب العقائد الأخرى، واتخذوا من الجدل فناً للنقاش وأسلوباً للتحاور إذْ ذاك؛ فكان المنهج الجدلي منهجاً لنشأة علم الكلام يوم كانت النشأة ضرورة فرضتها وقائع المسلمين.

هذا من حيث النشأة .. ولكن من حيث ممارسة العقيدة والتوحيد، لم يكن هذا المنهج فاعلاً وحده. ولم يكن كافياً على المستوى الداخلي لإرساء قواعد التذوق للمبادئ الإسلامية، ولممارسة الدين الإسلامي وكشف حقيقة الإنسان الأصيلة. لقد تكلم الفلاسفة وكبار النُّظَّار في الوحدة الإلهية، ولم نستطع أن نفهم منهم على وجه الدقة ماذا عَسَاهم يريدون بكل هذا التراث الذي يَكَادُ أن يكون مهجوراً إلا بين المختصين؟!

تركوه لنا لندرسه ونحققه ثم لا يَلْبَث أن يَتَلاشى من عقولنا وأفئدتنا لكأننا ما دَرَسْنا ولا تعلمنا منه شيئاً، كل ما هناك أن نأخذ من خلاله الشهادات العلمية والدرجات البَرَّاقة العليا كيما نصبح في مجال العلم من النوَابه المتفوقين، ومن المفكرين المُنَظّرين، ولكن دون جدوى نعيش خنازير ونموت خنازير! لأننا لم نكتشف بعد حقيقتنا الأصلية، ولم نتوحَّد مع معارفنا النظرية بحيث تكون سلوكاً لنا نعيشه حياة ونتملّاه.

لم نكن إلا ببغاوات آدمية تردد على التقليد ما تقرأه وتحفظه بغير أن يسري المقروء والمحفوظ في الضمائر فينا وفي القلوب، وبغير أن نعرف أن الكلمة نقولها ـ فيما لو كانت حقيقة لا دعوى ـ إنْ هى حال صاحبها ولا تزيد، وأننا لازلنا حتى اليوم مع كل ما نقوله أو نكتبه نَتَجَرَّع غُصَص المرارة التي يفترق فيها السلوك عن الاعتقاد، أو الخطاب الأيديولوجي عن الممارسة العملية، أو التصوُّر الذهني عن الدلالة الواقعية، أو المقولة عن التجربة.

لم نتَشرَّب هذه التجربة الروحية، ولم نتذوق قطرة من عبابها الفياض بلوعة المعاناة. ولم نكن من أهلها القادرين عليها في كل حال والصادقين في ولوجها تحققاً بما فيها من مفعول الوعي ومفعول التطبيق.

لم نمشْ مشيهم في طريق الله، ولا حذونا حذوهم اتصالاً بهذا الطريق. ولم نعرف "وحدة القصد" إليه إلا بالنظر نستقيه من الكتب والمصنفات لا من واقع التجربة الروحية الحَيَّة أو واقع الذات العارفة خبرةً واستشرافاً وتحققاً وتطلعاً دائماً نحو الخفاء المجهول.

فنحن من أجل ذلك؛ أجهل في هذا الطريق (طريق الله) من دواب، تلك هى الحقيقة التي ينبغي أن نسطرها هنا رغماً عن أنوفنا صاغرين، وأي قول غيرها كذب وادّعاء، هو دعوى عريضة لا يقوم عليها من واقعاتنا الفعلية أدنى دليل.

والذين تكلموا في هذا الطريق ولا يزالوا فيه يتكلمون بغير معونة من ذوق أو من تجربة أو من تحقيق، هم أسوأ خلق الله وأشَدَّهم ضلالاً فيه، وأكثرهم ضرباً في متاهات دروبه الوعرة بمعونة عقولهم المحدودة لا بمعونة أذواقهم ومواجيدهم التي تكاد تكون معدومة الخبرة، فاقدة الأهلية، عقيمة البصيرة في هذا المجال على التخصيص.

إنّ هُوةً وسيعةً شاسعةً بين القول النظري والتطبيق العملي لهى أكبر الكوارث الخُلقية كما أنها أكبر الكوارث التي تبعدنا عن الله بمقدار ما تقربنا من "الوهم"، وتودي بنا في أودية المهالك، وتفتت عرى روابطنا الروحيّة: تمزقنا أشلاءً متناثرة في دروب الحياة الدنيا التي تمضي بنا إلى سراب هو أقرب إلى الوهم في غير تحقيق.

لم نكن قادرين على سدّ الفجوة بين الخطاب الأيديولوجي والممارسة التطبيقية أو بين القول والعمل، أو بين العقيدة والسلوك. وإنها لهوة سحيقة غائرة يقع فيها الوجود الإنساني ـ إلا ما رحم ربك ـ وإلا ما كشف عنه الغطاء، وإلا ما تولاه بحفظه ورعايته وعنايته وخَصَّهُ بخصوصية ولايته، إلا هؤلاء جميعاً؛ فالوجود الإنساني مدحورٌ في الجهالة والعمَاية والتردي عن "وحدة القصد"، واكتشاف حقيقة البذرة الإنسانية الموصولة بالله على الدوام في أغواره الباطنة.

أقول؛ إنّ الفلاسفة وكبار النُّظَّار والمتكلمين في تاريخنا الفكري الفلسفي الإسلامي تحدثوا كثيراً عن الوحدة والتوحيد بمناهجهم التي اَسْتَنْوُها وفق ما تدفعهم إليه غايتهم سواء كانت هذه الغايات تقصد وجه الله حقيقة ـ والله وحده يعلم نواياهم ـ أو يتخفى ورائها توجهات سياسية كما حَدَثَ في نشأة الجبرية، وتشجيع خلفاء بني أمية على شيوع مذهب الجبر بين العوام تمكيناً لحكمهم وتعزيزاً لهذا الملك كونه من تمكين الله لهم، وأنهم لمجبرون عليه قهراً لا طمعاً كما يجبر المرء على كل ما لا حيلة له فيه، أو كما كان هو الحال لدى المعتزلة الذين تَذَرَّعوا بذرائع سلطان القوة والملك كيما يقيموا في الضمائر والقلوب سلطان "الفكرة" و"الرأي"؛ ففرضوا على الناس بالسيف أنظارهم العقلية وأنشطتهم المعرفية وتخريجاتهم إزاء النَّص المقدَّس بما يخدم المآرب السياسية؛ الأمر الذي جعل من الخليفة المأمون إذْ ذَاَك يسجن وراء القضبان كبار العلماء في عصره ممّن خالفوه الرأي ـ وهو رأي المعتزلة ـ في مسألة خلق القرآن.

هذه وقائع في تاريخنا الفكري، وإنْ تكن معروفة متداولة فلا ينبغي أن نمر عليها مرور الكرام ولا نتوقف عندها؛ لأنها تكشف عن "كزازة روحية" في المقام الأول، جعلت من الدين غطاءً للوصول إلى السلطة السياسية دون اعتبار للقرآن في ذاته، ودون تحقيق كثير أو قليل في مسائل التوحيد.

وليس في هذا المعترك العلمي المخلوط بتوجهات سياسية ـ مع كل ما قيل فيه أو قيل عنه كائناً ما كان أو من كان هذا القائل ـ ما يمس "وحدة القصد" في شيء، ولا فيه ما يكشف ما لله في باطن الإنسان، ولا فيه ما يشجع على الاتصال به ومعرفته على شرعة المحبة والتحقيق، ولا فيه ما يحقق طريق القصد إليه من أدنى وأقرب طريق.

مَنْ يُمَارس "النظرية" كما مارسها الفلاسفة وعلماء الكلام يخرج في الغالب بثمرة معرفية معزولة عن توجه القلب الذي يعول عليه كل ما لله من معارف وتوجهات. ولم يستفد من العلوم الجدلية الخطابية إلا قدرة تورث العقل التحليق في الفضاءات النظرية المجردة بغير أن تمس الشعور مَسَّات التهذيب والاتصال بالله حقيقة لا مجازاً يفتقر إلى التحقيق. إنما الوحدة هى اكتشاف صوفي بامتياز.

والقصد إليها ومحاولة الوصول إلى كنهها في الضمير الإنساني والعمل لأجلها بوسائل الرياضة والمجاهدة والترقب والاختبار؛ إنما هو مهمة التصوف الإسلامي ممثلاً في أدبياته وشخصياته البارزة بين سنية ومتفلسفة في مقابل أنظار الفلاسفة والمتكلمين ممّن تَوَخْوُا على الدوام منهجاً وطريقاً في السير أحال المعرفة لديهم إلى ظن لا يقين فيه؛ بمقدار ما صار التوحيد ـ مع التخليط في غير وحدة قصد ـ أوْحَالاً يتناقلها خلفٌ عن سلف وترددها على التقليد أبواق الأجيال جيلاً وراء جيل.

لم يستطع أحد منهم ـ إلا في القليل النادر ـ أن يكتشف حقيقة التوحيد في ذاته، أو أن يجعل من هذه الحقيقة سبيلاً يقصده الناس دون أن يفترقوا فيه؛ لينتظم في القلب أولاً ثم يشع النور منه منعكساً على المجموع؛ ليُرى آثاره وثماره في الأخلاق والمعاملة والعبودية والتوجه والتسليك، أو ما شئت أن تضيف في أمور الحياة التي من المفترض فيها أن تخضع على الدوام للرقابة الباطنة: رقابة الله الأحد فيما يتولاه الضمير من علم ومن عمل ومن تقرير.

لم يكن التوحيد كما جاء على ألسنة علماء الكلام والفلاسفة إلا "نظرية" قلدوا فيها نظرات اليونان من أفلاطون وأرسطو وأفلوطين؛ ليجذبهم التنظير الفكري والمجادلات الفلسفية جذباً يكاد يبعدهم عن تقرير الحقيقة التي قررها وحي النبوة، لا بل منهم من ادّعى إمكان اتصال الفيلسوف بالمصدر الذي استقي منه النبي مشكاته؛ فساوى عن قصد وتعمد بين الفلسفة والنبوة كما فعل الفارابي حتى صَرَّحَ ابن طفيل - ناقداً له في غير تردد - بسوء معتقد الفارابي في النبوة.

صحيح أن هنالك محاولات عقلية سواء من جانب الفلاسفة والمتكلمين جادة ومثمرة وثرية في ذات الوقت، ولكنها لا تستهوي من أرادوا لأنفسهم أن تصل إلى "حقيقة الحقائق"، أو تتصل بالوجود الإلهي أو تتكشف حقيقتها الخفية المرقّاة إلى درجة الإنسانية الكاملة. لم يستهو هؤلاء فكرة البحث المجرد عن اللواحق العملية، ولا الغفلة بالكلية عن مسائل المصير. حقيقة إنما الدنيا فترة ضيافة والعمر فيها قصير والأجل محدود فهل يكون حظنا منها هو فقط ما نناله فيها من مغبون القيمة والتقدير؟

إنما القيمة والتقدير هما فيما عَسَاه يصل به المرء إلى حقيقته الأصلية ويكتشف ما لله في باطنه: قلبه وضميره وخفاياه. هنالك يصبح التوحيد معرفة تذاق لا عبارة تلفظ. يصبح تجربة لا عبارة، يصبح "حالة" لا "مقالة" بتعبير القشيري، يصبح تجربة تُخَاض كما تخاض التجارب الكبرى في حياة الإنسان يخوضها القادرون عليها، الصابرون على التحقق منها والموفقون إلى خوضها بعون من الله. يصبح إدراكاً علوياً قائماً على المعايشة لا فكرة نظرية مجردة عن التسليك.

والفرقُ بينهما هو فرق بين مناهج الفلاسفة والمتكلمين من جهة، والصوفية من جهة ثانية. مناهج الفلاسفة نظرية أو جدلية: قصد العلم والغلبة فيه، مقدّم على قصد التصفية والتذوق. ومناهج الصوفية مناهج سلوك ومعايشة وتحقق وتخلق وتذوق.

نعم ! هو فرق بين علوم الأفكار وعلوم الأذكار أو بين طريق العقل وطريق التصفية. إنّ الصوفي وحده لهو الذي تحدى سلطة العقل والنظر والتحليق المجرد؛ فخصّ التوحيد بفرائد الخصوصية، ولم يستطع أن يكون بهذا التخصيص سوى فرداً متفرداً في التوجُّه؛ إنه ليعرف جيداً معنى هذا التوجُّه، فيدركه كما يدرك المرء كل محسوس منظور؛ لأنه تعود على تحدى العوائق المحدودة بحدود ما يفكر فيه الإنسان العادي. وكما تَعَوَّد على التعالي والتجاوز تعود أيضاً على أن يتسامى فوق ما هو منظور في كل حال وفي أية حال.

والتسامي والتجاوز وامتصاص السقطات الإنسانية وتحمل أذية الناس وأخطاء الضعفاء إنما هى قدرة يمنحها الله لمن يشاء حين يشاء من عباده.

لا شك إنّ "تَوَجُّه" الصوفي (لا المتكلم ولا الفيلسوف العقلاني) إلى الملأ الأعلى في الغالب لهو الذي يخلق فيه قوة التحدي ويرشده باليقين إلى أمور كان قد أدركها ولم يكن في مستطاع غيره أن يتوافر على إدراكها. وليس يكفى للصوفي أن يتحدى فقط سلطة العقل والنظر والتحليق المجرد، ولكنه يتحدى أولاً وقبل كل شيء أهم سُلطة يمكن أن تعوق مسيرته الروحية والفكرية وهى: سُلطة التقليد الأعمى لأصحاب السلطة الدينية.

فالذين يَتَسّلطون على الضمائر باسم الدين أسوأ خلق الله على الإطلاق، ولم يكونوا بمثل هذا السوء إلا لأنهم أقل خلق الله شعوراً بمعيته وتطلعاً لقَيوميَّته، فمتى نبذ الصوفي التقليد لأصحاب السلطة الدينية، أياً كان أصحابها، تساقطت أمامه على الفور كل سلطة سواها، ولم يعد يخشى من أمره خوفاً لا من أصحاب السلطة الدينية كائناً ما كانوا أو مَنْ كانوا، ولا من أصحاب السلطة الدنيوية؛ لأنه إذْ ذَاك سيكون قد تَحَرَّرَ وعياً من عبادة السّوى بإطلاق، وهنالك سينقله التوجه إلى الملأ الأعلى نحو الذكر القلبي: عبادة الفكرة الدائمة.

ولن يستطيع أن يصل إلى عبادة الفكرة الدائمة ما لم يكن من قبل قد تحرّر من عبادة السّوى ونبذ التقليد الأعمى لكل ذي منصب أو جاه أو دنيا أو سلطان. هنالك سيَعْرف أن الحياة التي يعيشها بغير الذكر القلبي (عبادة الفكرة الدائمة) إنما هى هَذَيَان: عبثٌ أو يكاد أن يكون عبثاً في كافة الأحوال.

تظهر إذن من هذا المثال الذي سقناه فوارق المنهج في تناول العقيدة بين الفلاسفة والمتكلمين والصوفية؛ إذْ يعمل المنهج نفسه في مضمون العقيدة التي يدين بها بالولاء؛ فتراه يؤدي بصاحبه إلى نتائج قد تختلف أو تفترق عن النتائج التي استخدمها منهج آخر سواه. فالعقيدة واحدة. والتناول المنهجي لها مختلف عند كل فريق، ومن ثم تأتي النتائج مختلفة ومتباينة؛ فليس تناول الفيلسوف لقضايا العقيدة كتناول المتكلم لها، ولا كتناول الصوفي. الفرق في المنهجية التي يستخدمها كل أحد ويُعملها على العقيدة التي يقوم بدراسة موضوعاتها، إمّا بالنظرية إمّا بالتطبيق. وبما أن الموضوعات التي تتوارد في مجال من المجالات مختلفة؛ فطبيعة الموضوع هى التي تحدّد المنهج، والعكس خطأ صريح.

وبعد هذا المثال المُساق؛ لتطبيق المنهج الجدلي على العقيدة بين الفلاسفة والمتكلمين والصوفية، نختم حديثنا بالقول: بأن الفصل بين مناهج البحث العلمي لا يكون مطلقاً. والمفاضلة بينها إنما يكون على أساس طبيعة المشكلة أو الموضوع العلمي الذى يبحث فيه فيختار الباحث منهجه وفق طبيعة موضوعه. والهدف من الدراسة، ونوعها، وحجمها. فموضوعات التربية المنطقية مثلاً تتداخل فيها المناهج الخمسة (الاستدلالي والاستقرائي والاستردادي والوصفي والجدلي). أى يمكن استخدام أى منهج منها في البحوث التربوية باعتبار أن التربية مثلا علم تتداخل فيه التخصصات الكثيرة. ولعلّ أسبق هذه المناهج فى البحث العلمي هو منهج التأمل الاستدلالي أو الاستنباطي، وبه استدل للحصول على أولى المعارف الإنسانية. ولكن مع ذلك كله يبقى البحث العلمي هو "القانون" أو "المبدأ" أو "القاعدة" التي تحكم أي محاولة للدراسة العلمية في أي مجال من المجالات سواء كانت نظرية أو كانت عملية وفي مختلف الميادين البحثية.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

 

محمود محمد علي: قراءة تحليلية - نقدية في كتاب ماجد الغرباوي "تحرير الوعي الديني" (2)

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. محمود محمد علي

محمود محمد عليقراءة تحليلية - نقدية في كتاب المفكر العربي ماجد الغرباوي "تحرير الوعي الديني" (*)

نعود ونستأنف حديثنا عن قراءة كتاب الغرباوي "تحرير الوعي الديني" لأستاذنا الكبير "ماجد الغرباوي" وهنا في هذا المقال نقدم شهادة للتاريخ فنقول:" إن كتاب الغرباوي "تحرير الوعي الديني" ليس رواية من نسيج الخيال، ولا سرداً لأحداث تاريخية، وإنما حصيلة مراجعة لعدد كبير من المصادر والمراجع إضافة لخبرته في العمل الفكري، لذا نجح في تقديم تفسير رمزي لقصة الخلق تفادى فيه إشكالية وقائعية القصص القرآني، لرفع التعارض المعروف بين نظريتي الخلق والتطور. وقد توغل في استعراض مشاهدها وتفصيلاتها، فجاء استعراضها منسجما مع فلسفة الخلق والهدف الحقيقي من وجود الإنسان. ويأتي هذا ضمن مشروعه لتحرير الوعي الديني وتقديم فهم مغاير للدين يضع مصلحة الإنسان أولا".

وهنا الأستاذ ” ماجد الغرباوي” أراد أن يطبع كتابه بخصائص جعلته يرقي إلى مستوي علمي رفيع، ومكنته من الوصول وبذلك يمكن قراءة أهداف المؤلف في هدفين أساسيين، أو جعلهما في دافعين:

الدافع الأول: نظري معرفي، يقوم على ضم الفروع والجزئيات بعضها إلى بعض، والتماس الروابط بينها، وصياغتها في صيغة نظرية فلسفية، وهو ما لا يعلم ” ماجد الغرباوي” أن أحدا قام به من قبل، لا في شيء محرر، ولا في كتاب مصنف، بل لم ير أحداً حام حوله طائر فكره، أو جعله غاية بحثه ونظره، فرسخ في ذهنه أن هذا أمر مستحسن إظهاره، وإبراز تعم فائدته، وبيان خفيت معالمه، وهذا الدافع قد نصفه بالهدف الأول لتأليف الكتاب، أو الدافع الظاهري أيضاً.

الدافع الثاني: واقعي دعوي، يقوم على ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، ومن خلال قراءة متجددة للنص الديني على اساس النقد والمراجعة المستمرة من اجل فهم متجدد للدين كشرط أساس لأي نهوض حضاري وعصري متقدم وجذري يساهم في تأصيل قيم الحرية والتسامح والعدالة في اطار مجتمع مدني خال من العنف والتنابذ والاحتراب؛ علاوة على أنه في هذا الكتاب كثيرا ما يدعو إلى ترسيخ حس ثقافي وفكري تقدمي وعقلاني يهدف الى توعية العقل العربي من خلال تقديم قراءة متأنية لأسس وأصول التسامح السائدة في واقعنا العربي المزري، قراءة واعية وحقيقية مبنية على قاعدة متينة تشكل قفزة نوعية في  إخراج المجتمع العربي المعاصر من محنه  وأزماته المتراكمة، وتقوده للخلاص من الجهل والتخلف والامية (8).

وننتقل إلى الكتاب مباشرة حيث يتصدى الغرباوي في مقدمته للإجابة على سؤال مفاده: هل يؤثر تفاقم العقائد على مستوى الإيمان الروحي بالخالق؟ وهل هو تأثير سلبي أم إيجابي؟

فأجاب: (العقيدة شأنها شأن أي كائن تبدأ صغيرة، بسيطة، وربما ساذجة ثم تتطور، بعضها يموت، وبعضها يقاوم، عندما تجدد العقيدة خطابها، وتصد تحدياتها، أو تتبناها سلطة دينية أو سياسية، تساهم في انتشارها، وتأصيلها، والذب عنها) (9).. ومن هنا تصبح العقيدة إطارا نظريا للإيمان وضربا من الهيام الروحي بفعل خصوبة الخيال (10). هذا من ناحية ومن ناحية أخرى تصبح العقيدة أيضا منظومة فكرية توجه وعي الفرد، إذ يتأتى الإيمان بها عبر تراكمات لا شعورية نفسية – ثقافية، هي سر تفاوته من شخص لآخر، فتؤثر في تكوينه جميع المؤثرات النفسية والسلوكية والاجتماعية والسياسية، والعلمية، والثقافية، والتربوية (11).

إن ما يريد الغرباوي أن يقوله هنا هو أن: ”جملة آثار موضوعية وروحية تلازم كل تطور عقدي، يشهد لذلك تطور الطقوس والشعارات تبعا لتطورها، حد التشوه والانحراف أحياناً، لأنها شرط لقوام التجربة الدينية (12)، ومن ثم تشكل العقيدة في نظر المؤلف ”جوهر الإيمان، تتولي تقديم رؤية كونية تؤطر العمل الإيماني، وتمنحه مشروعية كاملة، من خلال ضوابطها ومقاييسها (13).

ثم ينتقل الغرباوي للحديث عن انضباط العقيدة، حيث يرى أن العقيدة تشكل خطرا حقيقيا على الدين وأهدافه، عندما تنحرف عن غاياته وقاصده، كأن تبرر الشرك بدواع مختلفة، بينما التوحيد جوهر الدين (14).. على نحو جامع، يكرس وحدانيته تعالى، ويمنع جميع الأغيار، مهما كانت شائبة الشرك، وعليه بما أن العقيدة الموازية، تستظل بالعقيدة الأم، فإن إيجابياتها وسلبيتها مرتهن لأدائها التصوري، ومدى قربه وبعده من جوهرها (15).

وهنا كما يقول الغرباوي سنكون أمام تنوع عقدي، لكل واحد أحكامه، ويمكن في هذا الخصوص تحديد مصاديقها والموقف منه من خلال الدليل العقلي، والذي من خلاله يكون العقل دليلاً على صدقية العقيدة كما هو الحال بالنسبة لوجود الخالق (أصل وجوده)، الذي يمكن للعقل الاستدلال عليه من خلال بعض البديهيات كامتناع التسلسل، وقانون العلية والمعلول، وبطلان الدور (16)؛ وتارة يكون كما يرى المؤلف بالنقل الذي يمثل مصدر جميع تفصيلاتها؛ حيث هنا ستكون العقيدة مرتهنة للنص وشروطه وارتهاناته، وهو بالذات سيكون مقياساً لإيجابية وسلبية التأثير، فيقُتصر على النصوص التأسيسية، التي هي موضوع للفهم والتفسير، وما يتلو النص التأسيسي، نصوص ثانية، شارحة ومبينة، تعكس قبليات مؤلفها، وتخضع لإملاءاتها، وضروراتها (17).

ثم يؤكد الغرباوي المؤلف بأنه من خلال الدليلين العقلي والنقلي تبني العقائد، حيث يقول: ”إن العقيدة جزء مقوم للدين، وتلعب دوراً أساساً في تأسيس مقولاته، وربطها بهدفه الأساسي، وليس ثمة فوضى، يُفتح بموجبها الباب للاستزادة من عقائد تستدعيها ضرورات أيديولوجية أو سياسية؛ خاصة العقائد التي تترتب عليها آثار دينية وعقدية، ولها انعكاسات على الفرد والمجتمع (18).

وثمة نقطة مهمة جديرة بالإشارة يتطرق الغرباوي لمناقشتها ضمن أجوبته على ما طُرح من أسئلة، ألا وهي شعار: هل الإسلام هو الحل؟

وهنا نجد الغرباوي يجيبنا فيقول بأن هذا الشعار قد رفعه جماعة الإخوان المسلمين خلال تحالفهم الانتخابي مع حزب العمل والأحرار في حقبة ثمانينات القرن المنصرم لاستقطاب الشارع المصري، وضمان صوته الانتخابي، على خلفية دلالاته التي تحيل على المقدس والدين في مقابل ما تطرحه المشاريع السياسية والوضعية (19). . وكان للثورة الإسلامية في إيران دور محفز، حيث أثار انتصارها دهشة الحركات الإسلامية، وكسر حاجز الخوف، وشجع على الثورة ضد حكوماتهم، ولهذا تبنت جميعها بشكل مباشر، شعار ” الإسلام هو الحل” (20).

ثم يؤكد الغرباوي بأن هذا الشعار كانت له دلالات منطقية، منها أنه يؤكد كمال الشريعة، وشمولها لجميع مناحي الحياة، علاوة على أنه يستبطن إدانة غير مباشرة لمناوئيه، لعدم تطبيقهم الشريعة (21). . بيد أن شعار ”الإسلام هو الحل” في نظر المؤلف كغيره من الشعارات، حيث يتمتع بزخم عاطفي، وقدرة على تعبئة الناس لكونه يستجير بالمقدس الديني، ويفرض الاعتراف بقدسيته مهما كانت بشريته (22). . عبر توظيف اللغة، وإيحاءات الخطاب، فلم يكن شعارا بريئا، يروم تطبيق الشريعة لأجل الدين، بل يكمن خلفه مشروع سياسي يطمح لإقامة دولة دينية.. تختزن بداخلها صورة مشرقة مبالغ فيه عن دولة الخلافة، وهي صورة كما يقول المؤلف: صورة ساذجة، كتب بأقلام السلطة، دون نقدها وفضح بشريتها وعدم مثاليتها، بل وعدم شرعية سلوكها، وتصرفات حكامها في أحيان كثيرة ” (23).

ثم ينتقل الغرباوي في هذا الكتاب إلى قضية أخرى تتعلق بالنهضة والوعي؛ حيث قال: كان لسؤال النهضة دور كبير في تحريض الوعي، والبحث عن إجابات تفسر ظاهرة التخلف الإسلامي في مقابل التطور الحضاري الغربي الذي فاجأهم في عقر دارهم، بعد وصول جملة نابليون إلى مصر (1798م) مجهزة بأحدث الأسلحة والمعدات. فتوزعت الأجوبة بين من أدان الدين واعتبره المسؤول الأول عن تخلف المسلمين، فدعا إلى قطيعة تامة مع التراث والدين واللحاق بالغرب وحضارته لانتشال واقعنا الحضاري المتخلف. وآخر ارتد سلفياً طالب بتكريس التراث والسيرة لتدارك الوضع متهما المسلمين بخطأ التطبيق. وثالث قاده رواد النهضة كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وآخرين، الذين عادوا للتراث بحثا عن مصادر قوته الملائمة للعصر، ثم جاء التيار الإسلامي المنظم (الإخوان المسلمين) امتدادا لخط الوعي الإسلامي الأول. وبالتالي فجميع التيارات الحديثة جاءت ردة فعل بعد الصدمة الحضارية الهائلة، وطبيعة ردود الفعل تكون متسرعة مرتبكة، تنقصها الدراسة والتخطيط وجهل بالواقع واشراطاته رغم أنها جزء منه (24).

ومن هذا المنطلق راحت جماعة الإخوان المسلمين كما يقول الغرباوي تتحرك سياسياً باتجاه السلطة باعتبارها شرطا لتطبيق النظام الإسلامي، الذي هو وجهات نظر اجتهادية، صاغتها عقول المفكرين الإسلاميين لسد النقص (25). . الأمر الذي جعلهم يدمون الوهم، ويدورون في حلقة مفرغة، تحكم تصوراتهم مغالطة مفادها: بما أن النظام الإسلامي نظام رباني فينبغي أن يكون الأفضل والأصح (26).

ثم انتقل الغرباوي بعد ذلك للحديث عن فلسفة الخلق وأصل الإنسان ومنشأه ووجوده وبيان هدفه في الحياة الدنيا، باعتباره كائناً بشرياً تميز بعقله وقدرته على تطوير حياته، أو بامتياز بعقل خلاق مبدع فتكون الحرية والإرادة والمساواة لوازم وجودية في ضوئها يواصل مسيرته، ويرسم هدفه (27)؛ وهنا نجد المؤلف يعرض لنا تفسير ذلك من خلال النظريتين الدينية والنظرية الوضعية، فالنظرية الأولي تؤكد استقلالية البشر في أصله الترابي (الكتب المقدسة) (28)، بينما الثانية تعول على ” نظرية التطور والتي تعتقد أن أصل الإنسان من القرد (دارون) وثمة من يعتقد بانحدارهما من أسلاف سابقة (29).

وعندما انتهي الغرباوي من مناقشة هذه المسألة انتقل بعد ذلك للحديث عن مفهوم الخلافة، حيث رأى أنه ليس في مفهوم الخلافة الربانية سلب لإرادة الإنسان، ولم يكن مجبرا، سوى ما تفرضه القوانين الكونية باعتباره بشرا محكوما بها، فيخضع للجبر التكويني بفعل قوانين الكون، وهذا خارج عن إرادته. ولا يصدق السلب على التفويض، حيث فوض الله للإنسان حريته وإرادته وجعلهما لوازم لوجوده من وحي عقله وقدرته على التحكم بسلوكه، فيكون مسؤولا أمام اختياراته، وعلى هذا الأساس يمارس الفرد حريته. وحينما يلتزم بشريعة السماء أو يتمرد عليها بفعل ذلك بكامل إرادته (30).

وحول سؤال الوجود والمتعلق بقصة الخلق في الكتب المقدسة؛ فنجد الغرباوي يناقش قضية الخطيئة ضمن دراسة مقارنة بين أساطير الأولين والكتب السماوية؛ حيث رأى أن التوقف عند حدود الخطيئة لا ينسجم مع مفهوم الخلافة. إذ قال ربك إني جاعل في الأرض خليفة. والخليفة هو آدم الإنسان، بكل ما تعنيه كلمة الإنسان واستعداده لعمل الخير والشر (31)، وليس لآدم تصور عن الموضوع سوى ما أخبره به الخطاب الإلهي، بما في ذلك الإيمان الذي كان هشا بسيطا، لم يصل حد الجزم واليقين الذي يحول دون معصيتهما للأوامر الإلهية. ولو لم يخرجا من الجنة لم يعرفا شيئاً عن معنى العقوبة، فقد هبطا للأرص بتجربة غنية جدا رغم بساطتها، حدها الأدنى أن هناك حسن وقبح، خير وشر، ثواب وعقاب. فكانت تجربة ضرورية عاشها آدم مع هواجسه، التي وصفت بالشيطانية لسلبيتها في مقابل هواجس الخير (32).

ثمة بعد آخر تحدث عنه الغرباوي في قصة الخلق متعلق بالمعرفة يمكن رصدها من خلال سياق حركة آدم، فتعلم آدم للأسماء كلها، تعبير آخر عن استعداده التكويني للتعلم واكتساب المعرفة، التي هي عملية مركبة، ليست بسيطة تقف عند حدود التلقي والطاعة المطلقة. فهي تلق وإدراك لمعاني الأسماء، وطريقة استخدامها، مما يتطلب تشخيص الواقع وتحديد اللفظ المناسب. أو تحديد المفهوم كصورة ذهنية، وتخصيص لفظ منتزع من ذات الصورة، قياسا بغيرها من الصور الذهنية الأخرى، وهس عمليات تلقائية لا شعورية، تقف وراء معرفة الإنسان وطيفية توظيفها، وهذه هي مرحلة وعي الذات كما يري المؤلف (33).

وعن علاقة الخطيئة بالفكر الديني، حيث أكد أن الديانتان اليهودية والمسيحية لا تختلف عن القرآن حول قضة الخلق، فآدم والخطيئة عناصر أساسية فيها، غير أن الخطاب الكنسي شيد قاعدة الاعتقاد المسيحي على مفهوم الخطيئة، وأن البشر قد توارثو خطيئة آدم، وارجعوا ضمن متبنياتهم العقدية كل شيء للخطيئة (34).

وهنا يعلن الغرباوي قائلا: ” للأسف لم أجد من يهتم بآيات الخلق التي ترسم معالم هدف الرسالات والأديان، وهذا خطا كبير في فهم الدين، بل وأحد أسباب جميع الانحرافات العقائدية والسلوكية، خاصة ما تمارسه الحركات الإرهابية باسم الدين والقرآن وما تبثه حركات الغلو من ثقافات تكريس الجهل والأمية والتكاسل في الحياة الدنيا (35).

ويستطرد المؤلف فيقول “: لسنا بحاجة للروايات إلا بشكل محدود، وعلينا الاقتصار عليه، وعدم التمادي في التمسك بجميع الروايات، لأنها تعكس فهما للدين والكتاب المبين في ضوء ظرفها، وحاجات وتطلعات زمن الرواية. ثم لا يوجد نص عدا القرآن، وبعض الأحاديث النبوية الصحيحة فوق التاريخ، أو عابرة للتاريخ والأزمان، فلماذا التمسك بالتراث في فهم الكتاب، وهو نص مفتوح للقراءة والتأويل، وهذه ليست دعوة للقطيعة التامة مع التراث، بل التخلي عن التراث غير المنتج، الذي يكرس التبعية والانقياد والتخلف، ويغلق آفاق التأمل في الكون والنفس البشرية (36)... وللحديث بقية.

 

الأستاذ الدكتور / محمود محمد على

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

..............

* هذا هو العنوان الأصلي للمقال.

8- ماجد الغرباوي: تحرير العقل الديني (متاهات الحقيقة 5)، إصدار مؤسسة  المثقف في سيدني – أستراليا ودار أمل الجديدة، دمشق، سوريا، ط1، ص 6.

9- نفس المصدر، ص 9.

10- نفس المصدر، ص 9.

11- نفس المصدر، ص 9-10.

12- نفس المصدر، ص 10.

13- نفس المصدر، ص 11.

14- نفس المصدر، ص 15.

15- نفس المصدر، ص 17.

16- نفس المصدر، ص 17.

17- نفس المصدر، ص 18.

18- نفس المصدر، ص 20.

19- نفس المصدر، ص 22

20- نفس المصدر، ص 22.

21- نفس المصدر، ص 23

22- نفس المصدر، ص 23

23- نفس المصدر، ص 27

24- نفس المصدر، ص32

25- نفس المصدر، ص 33

26- نفس المصدر، ص 35

27- نفس المصدر، ص 63

28- نفس المصدر، ص66-72.

29- نفس المصدر، ص 64-65.

30- نفس المصدر، ص 80.

31- نفس المصدر، ص 86

32- نفس المصدر، ص84-85

33- نفس المصدر، ص 88.

34- نفس المصدر، ص 93

35- نفس المصدر، ص 106

36- نفس المصدر، ص 106

 

 

احمد حسب الله الحاج: العلمانية أفيون الشعوب ونهاية التاريخ في السودان

التفاصيل
كتب بواسطة: د. أحمد حسب الله الحاج

الصراع بين الدولة الدينية كغول مقدس والدولة المدنية كتلفيق فكري والعلمانية

في 1927 كتب ويليام آدامز في مقدمة كتابه "النوبة  الرواق إلى إفريقيا"Nubia Corridor to Africa "ذهبت إلى النوبة لرؤية الإنسان البدائي فوجدت مهد الحضارة.

"”I went to Nubia to see the primitive man and I found the cradle of civilization.”

إذن عندما نكون في كوش، أو في مروي، أو في نبتة أو في أي مكان بالسودان نكون عندها في مهد الحضارة حيث تعلمت البشرية كيف تغفو وكيف تصحو وكيف تحلم مفتوحة العينين. وحيث تعلم الإنسان كيف يكون. حيث تعلم كيف يحبو، وكيف يخطو، ثم يتعثر ويكبو ويسقط وينهض ليتقدم في درب الحضارة خطوة بعد أخرى. وعندما نكون هنا، وعندما نكون هناك، وعندما نكون في أي مكان في السودان، نكون حيث ابتدأ التاريخ. كما أننا نشهد الآن، هنا وهناك، نهاية لبعض التاريخ: نهاية تاريخ ظاهرة بدأت تدخل مرحلة الطي.

ولتأسيس حجتي عن نهاية التاريخ لا بد لي من العودة إلى واحدٍ من أهم الكتب التي ظهرت في نهايات القرن العشرين. والكتاب الذي أعني هو كتاب فرانسيس فوكوياما "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"The End of History and the Last Man . وأبدأ بالقول إن فوكوياما أعاد مصطلح "نهاية التاريخ" إلى الواجهة بمقاله "نهاية التاريخ" الذي نشره قبل أشهر من سقوط جدار برلين في 1989. وأقول أعاد لأن المصطلح ليس له أصلاً، وإنما هو ملكية مشتركة لهيغل وماركس. وقد توسع ذلك المقال ليكون "نهاية التاريخ الإنسان الأخير" الذي صدر في 1992. ويبني فوكوياما حجته بنهاية التاريخ على معرفة وثيقة بالعملاقين هيغل وماركس، ولكنه يتوخى في كتابه تمييزا أكبر بين العالم المادي وعالم الأفكار أو الوعي. ويتمحور الكتاب حول فكرة أنه بعد هزيمة أهم منافسين للديمقرطية الليبرالية، وهما الشيوعية والفاشية، لم يعد هنالك منافس أيديلوجي لها. ويجدر بالذكر أن فوكوياما تعرض للإسلام المتطرف في "نهاية التاريخ" قائلاً إن الإسلام ليس قوة إمبريالية مثل الستالينية والفاشية، وإنما هو قوة قومية لا تتمتع بجاذبية فكرية أو عاطفية مؤثرة خارج "قلب الإسلام". وهذا يعني أنه على الرغم من أن الديمقراطية الليبرالية التي تمضي قدماً بقدم مع اقتصاد السوق لم تكمل سيادتها بعد على العالم، فإنه لم يعد هناك أي منافس حقيقي لها. وهذا يعني أيضاً أنه من الممكن حسم أي تناقض أساسي في حياة الإنسان في سياق الديمقراطية الليبرالية. كما يعتقد فوكوياما أنه بعد الوصول إلى "نهاية التاريخ" فإن العلاقات الدولية سوف تهتم في المقام الأول بالمسائل الاقتصادية ولن تعود معنية بالسياسات أو الاستراتيجية، وسيقلل ذلك بالتالي من احتمالات نشوب صراع عنيف دولي واسع النطاق. و"نهاية التاريخ" على هذا النحو تعني الوصول إلى نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية وسيادة الديمقراطية الليبرالية باعتبارها الشكل النهائي للحكومات البشرية.

وفي السنة التالية لظهور "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" نشر صمويل هنتنغتون مقالاً بعنوان "صراع الحضارات" يعتبر بمثابة رد على فرضية  نهاية التاريخ. ولكن الرد المباشر والنقد الحاد لما طرحه فوكوياما جاء به جاك دريدا في "خيالات ماركس: حالة الديَن، وعملية الحِداد والدولي الجديد Specters of Marx: State of the Debt، the Work of Mourning and the New International (1993) الذي اعتبر فيه فوكوياما "قارئاً متأخراً" لكتابات ألكسندر كوجييف الذي تعرضت لنفس القضايا في الخمسينيات. ويرى دريدا أن الحماسة التي استقبل بها "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" في الغرب هي تعبير عن أعراض القلق اليميني والثقافي الباحث عن ما يؤكد "موت ماركس". من جهة أخرى مثلما فعل فوكوياما، فعل هنتنغتون الذي عكف على توسيع مقاله ليظهر كتاب "صراع الحضارات Clash of Civilizations في 1996، بحجة أساسية تقول إن  الصراع الراهن بين الأيديلوجيات صراع مؤقت لا يقارن في حجمه وتأثيره بالصراع بين الحضارات، والذي لم يحسم بعد. وخصّ هنتنغتون الحضارة الإسلامية باهتمام خاص زاعماً أن للإسلام "حدود دموية"، وقد أثبتت صحة زعمه أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتي وجد فيها فريد زكريا "نهاية نهاية التاريخ." وزاد من تأكيد ذلك نجاح تنظيم داعش في تأسيس "الدولة الإسلامية". ولكن القضاء على تلك الدولة تكفل بترجيح كفة "نهاية التاريخ" على كفة "صراع الحضارات". ولا يزال هذا الوضع قائماً مع توالي التقدم والنكوص.

وقبل المضي قدماً في تناول فرضية الصراع بين الدولة الدينية كغول مقدس والدولة المدنية كتلفيق فكري والعلمانية، أود توضيح أني لن أحاول مناقشة مكونات الدولة المدنية لأني غير مقتنع بوجودها أساساً، وسأتعامل مع الدولة الدينية من منطلق المنظور الذي تجلى في تجربتها في السودان، كما لن أسعى إلى عرض المسطور في العلمانية إلا في حدود ما تقتضيه الضرورة. وفي محاولتي للربط بين بداية التاريخ ونهايته أقول لقد شهدت الساحة السياسة والفكرية مؤخراً في السودان، حيث ابتدأ التاريخ، حيوية مبعثها خليط من التفاؤل والغضب بعد توقيع رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان وقائد الحركة الشعبية عبد العزيز الحلو على إعلان المبادئ الممهد لمفاوضات السلام الشاملة. ومنذ اللحظات الأولى احتدم نقاش لم يتوقف حول الإعلان، وحول ما سيقود إليه. وأهم ما يميز الإعلان هو أنه  نصّ على "تأسيس دولة مدنية ديمقراطية فيدرالية في السودان تضمن حرية الدين والممارسات الدينية والعبادات لكل الشعب." كما جاء فيه "أن لا تفرض الدولة دينا على أي شخص وتكون الدولة غير منحازة فيما يخص الشئون الدينية وشئون المعتقد والضمير كما تكفل الدولة وتحمي حرية الدين والممارسات الدينية، على أن تضمن هذه المبادئ في الدستور". والذي يميز الجدل هو أنه قد حدث في معظم الأحيان بين الأطراف المؤيدة بشكل عام لما تضمنه الإعلان، وقد تركّز جزء كبير منه على مسمى الدولة المدنية التي وجد فيها الكثيرون الحمى من الدولة الدينية دون أن يثيروا أنصارها بمصطلح العلمانية.

وعلى الرغم من أن ظواهر الأشياء تشير إلى غير ذلك، فإنها ليست سخرية قدر أن يأتي بمبادرة إعلان"المدنية" الجنرال الإسلامي البرهان. كما أن الإعلان الذي قد يبدو وكأنه شقلبة Somersault أيديولوجية قام بها البرهان فإنه في حقيقة الأمر ليس كذلك على الإطلاق. إضافة إلى أنه لو كانت لهذه المبادرة حسنة واحدة فستكون في أنها قد حرمت أنصار الكومبرادورية الجديدة من قولة “شكراً حمدوك". ولكن من جهة أخرى فإن فصل الدين عن الدولة بالنسبة للكومبرادوريين الجدد هو في أحسن الفروض هو قطعة بطاطس ساخنة Hot Potato لا يريدون لمسها، وإن كانوا لا يمانعون  من أن يلتقطها لهم شخص آخر من النار ويقلبها بين يديه حتى تبرد ثم يقبلوا عليها في نهم وحماسة. فهنا وفي مواضع أخرى فإن عبد الله حمدوك تجسيد صادق لكلمات تيودور روزفيلت "تلك الأرواح الباردة والخنوعة التي لم تتذوق تصراً أو تتجرع هزيمة"”… those cold and timid souls who neither know victory nor defeat.” أما تعبير الكومبرادورية الذي أعادني إلى أيام خلت، فهو مأخوذ من  ممارسة صينية حيث كان بعضهم يعملون كوسطاء او وكلاء في خدمة ألاوروبي خلال حقبة الاستعمار، وخلال مرحلة التحرر الوطني في آسيا وإفريقيا صارت الكلمة تطلق على المديرين المحليين والوكلاء التجاريين للشركات الأوروبية. وبعد اكتمال حركة التحرر غابت الظاهرة وتوارى المصطلح حتى أعادهما إلى الوجود أمثال عبد الله حمدوك.

هنالك جدل كبير يدور حول ما تفعله الدولة الدينية وما لا تفعله. ولكن من بين الأشياء التي تجيد فعلها نصرة الدين، أي دين، حيث لا يحتاج لنصرة. تنصره حين يكون دين الأغلبية. أما الدولة العلمانية فهي تنصر الدين، اي دين، حيث يكون بحاجة لنصرة، حين يكون دين الأقلية. فالعلمانية تنصر الإسلام في الهند وسط الأغلبية الهندوسية، كما تنصره في الصين الشيوعية، ومينامار البوذية، وأوروبا المسيحية، والولايات المتحدة الأمريكية. كما تنصر المسيحية في السودان وسط الأعلبية المسلمة. ولكن الفرد الذي يناصر العلمانية يكذب إذا قال إن نصرة الدين هي عنده الغاية الأولى. ولكنه عندما يختار العلمانية منهجاً تشريعياً، ويرتضيها خياراً سياسياً، يدرك أنها ستزود عنه وعن دينه، وعن الآخرين وعن أديانهم. لأنها عندما تحول دون تغول دينه على الآخرين وعلى أديانهم، فإنها أيضا تحول دون تغول أديان الآخرين على دينه. وعندما يسعى مناصر العلمانية للزود عن قيم  الديمقراطية والحرية والعدالة وحرية التعبير وحقوق الإنسان فإنه يخدم الدين بشكل مقصود وغير مقصود. ومناصر العلمانية عندما يفعل ذلك ينضم إلى سلسلة من الرجال الذين يعرفون متى وأين وكيف يفرقون بين المقدس والدنيوي. وفي انتباهه لذلك يفعل مناصر العلمانية ويقول ما فعله وقاله عبد المطلب بن هاشم وهو يلاقي أبرهة القادم لهدم الكعبة مطالباً بإبله: "أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه." وبعد عودته بإبله من عند أبرهة ذهب إلى الكعبة يلوذ برب البيت مناجياً له ومستغيثاً به أن يحمي بيته من الغازي الغاشم: "لَاهُمَّ إن المرء يمنع رحله فامنع حلالك/ لَاهُمَّ إن المرء يمنع رحله فامنع حلالك/ جروا جموع بلادهم والفيل كي يسبوا عيالك/ أيا رب لا أرجو لهم سواك/ يا رب فامنع منهم حماك/ امنعهم أن يخربوا قراكا/ إن عدو البيت من عاداكا." غاية القول هنا هي إن مناصر العلمانية هو رب إبل الحرية والعدالة وحرية الفكر والتعبير. ولكن هذا لا يمنع من أن تكون جزءاً من همومه سدانة المسجد أو الكنيسة أو الكنيس أو المعبد أو الضريح أو المزار. وهو يفعل ذلك مع اهتمامه غير المتغول بما يفعله ويقوله ويؤمن به الاخرون. وهو يمضي في ذلك محاكياً ومردداً ما قاله فولتير"ربما لا أتفق مع ما تريد قوله، ولكني سأدافع حتى الموت عن حقك في أن تقوله.“ ولهذا التفكير تبعاته، فشواهد التاريخ تقول إن الفرد الذي يناصر العلمانية قد يموت من أجل اختياره، ولكنه لن يقتل في سبيل فرض قناعاته على الآخرين. أما على الجانب الآخر فبينما قلما يموت رجل الدولة الدينية من أجلها، فإنه كثيراً ما يقتل في سبيل فرضها على الآخرين.

وعلى المواطن العادي الذي لا يكترث لعلمانية الدولة أو لديمقراطيتها تذكُر أن الدولة الدينية هي التي جعلت من انفصال جنوب أمراً مُحتما، وأنه ما لم نسدل على دعاواها الستار فإن أجزاء أخرى من الوطن ستحذو حذو الجنوب. وأن لا تغرنه للحظة دعاوى الجهاد الكاذبة التي ترتفع بها عقائر دهاقنة الدولة الدينية لأن أنصارها لا يدافعون عن كعبة أو ينافحون عن عقيدة، وإنما يزودون عن آلهتهم المزيفة، آلهة المنفعة والمصلحة والجاه والمال والسلطة. ولا أدري للحظة لماذا حرصوا على تسمية مؤسساتهم بالأسماء القرآنية ولم يسموها باسماء تليق بها وتعبر عن حقيقتها مثل هبل ومناة وأساف ونائلة وطاغوت واللات والعزى. ولذات السبب كانوا يتخيرون ساحات جهادهم في حرصٍ بالغ ليستهدفوا في حروبهم المقدسة الضعفاء ويفتكوا في جهادهم المزيف بالمستضعفين، ويتقوا دوماً صولة المستأسد الحامي. وقد فعلوا هذا في جنوب السودان، ولكنهم لم يقكروا للحظة في فعله في الصين حيث تخضع النساء المسلمات للتعقيم القسري، ولم يفكروا في فعله وهم ينظرون إلى القدس الشريف وهو ينتهك كل يوم. ومع أن لسان قولهم قد يقول أحياناً أشياء نشتم فيها استنفار الهمم، فإن أفعالهم تظل تقول بلسان حالهم للمدافعين عنه ما قالته بنو إسرائيل لموسى: "إذهب وربك قاتلا إنا هنا قاعدون." يقولون ذلك لأنهم يدركون أنهم لو ذهبوا إلى هناك، حتى ولو أخذوا معهم قرودهم المؤمنة، فسيرسلهم  الإسرائيليون دن إبطاء، لملاقاة الحور العين.

ودعك عن الفعل، فحتى على مستوى الفكر يسارع أنصار الدولة الدينية دائماً إلى نصرة الطاغوت، ليس لأن ذلك طبيعة ثانية فيهم، وإنما لأن الاستبداد هو جزء أصيل من تكوين الدولة الدينية. وعلى الرغم من إمكانية قيام دولة علمانية مستبدة فإن العلمانية تظل شرطاً أساسياً لتأسيس الديمقراطية. وبسبب عدم الإحساس بقيم الديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة عجز فقهاء الإسلام ودعاة الدولة الدينية عن أن يأتوا "بلاهوت تحرير" كالذي جاءت به الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية. ولن تفلح أرواحهم الخاوية، ومعارفهم الضحلة، ومخيلاتهم العقيمة في أن تأتي بشيئ يشابه، ولو من بعيد، الذي جاء به مفكرو "لاهوت التحرير" من أمثال جوستافو قويتيريز وخوزيه كومبلين وأوسكار رومييز. ونقيضاً لذلك جاؤنا بمثل ما يتقيأه أبو اسحق الحويني:

"إذا نحن غلبنا، شيئ طبيعي حنفرض أحكام الإسلام على البلد الذي دخلناها. أ حكام الإسلام بتقول إن كل الناس الموجودين في البلد أصبحوا سبايا وغنائم. رجال نساء أطفال أموال دور حقول مزارع كل دي بقت ملك الدولة الإسلامية. طيب الناس السبايا دول مصيرهم إيه في الشرع؟ مصيرهم أنهم كغنائم يوزعو على المجاهدين. وهناك قانون كما في الحديث أن من لم يحضر الغزوة لا نصيب له في الغنيمة. معروف كدا. ما يحضرش الجهاد الغزوة مالوش نصيب في الغنيمة. طيب أنا دخلت على بلد وتعدادها مثلا نصف مليون، نعمل إيه في النصف مليون دول، قال لك المجاهدين دول نشوف عددهم كم.، كان مية ألف‘ خلاص، كل واحد ياخد خمسة، كل واحد ياخد خمسة المسألة تتنوع، تاخدلك اتنين رجالة واتنين ستات وعيل، أو العكس، آه، تقسم، جيد، الناس دول أول ما يحصل هذه المنظومة لا بد أن يقابلها شيئ اسمه سوق النخاسة، سوق النخاسة اللي سوق بيع العبيد والإماء الجواري والأطفال. تمام، كل راس من هذه الرؤوس بقالو تمن، فأنا دلوقتي عندي خمسة رؤوس مش محتاج حد منهم ومعذور في قرشين أعمل فبهم إيه؟ أعلق لهم المشنقة واتخلص منهم ولا أعمل إيه؟ قالك لا تروح تبيعهم في السوق، خلاص. لازم علشان ابيعهم يكون في سوق وحنبتدي نساوم، تشتري من دي بكم ودا بكم، يقول بتلتمية، لا خليها تلتمية وأربعتاشر، لا تلتمية وخمسين، هات، اشتري، يقبض ويمشي خلاص. أنا عندي ذنوب الكفارة بتاعتها عتق رقبة، أن أجيب منين رقبة علشان أطلع من الذنب بتاعي؟ لازم أروح اشتري، لا بد يكون في سوق بطريق الحال، أروح اشنري رقبة علشان أقولها، اقول لتلك الرقبة أنت حرة...

والذي يثير كثيراً من القنوط أن أبو اسحق الحويني ليس نشازاً فيما قاله إذ أن هنالك الألوف من تابعيه ومتابعيه الذين يحلمون باليوم الذي سيتشاركون فيه السبايا والغنائم وزيارة أسواق النخاسة العصرية في منتصف القرن الحادي والعشرين.

ولبعضٍ من الوقت كنت أفكر في أيهما أكثر بشاعة وخطرا، ما أفرزه خيال الحويني المريض، أم ذلك الذي جادت به قريحة عبد الحي يوسف المريضة في جواز إبادة ثلث الشعب من أجل استمرار الحكم الاستبدادي. ولكن مع إدراكي أن ما نصح به عبد الحي كان قاب  قوسين أو أدنى من الحدوث بينما تظل أوهام الحويني الرغبوية أضغاث أحلام شيخ مخبول، عرفت أي الوضعين أكثر بشاعة. لقد كشف الشيخ محمد عثمان صالح رئيس هيئة علماء السودان، أن الشيخ عبد الحي يوسف أفتى للمخلوع البشيربأن الإمام مالك أجاز قتل ثلث الشعب إن دعت لذلك الضرورة. وقال الشيخ صالح... إن عبد الحي قال ذلك بحضورهم خلال لقائهم البشيرفي  حدائق بيت الضيافة، وأضاف الشيخ صالح أنهم أنكروا على الشيخ عبد الحي تلك الفتوى التي قالها للبشير خلال ذلك اللقاء، إلا أن عبد الحي قال: إنه لن يكتم العلم.

واستنكر الكثيرون تلك الفتوى من عبد الحي يوسف، ولكن الغريب أن الذين استنكروها على عبد الحي يوسف لم يستنكروها على الإمام مالك. ولو استنكروا تلك الفتوى على الإمام مالك لاكتشفوا أنه لم يقل ما نسبوه إليه. ولكن الفقهاء الآخرين الذين لا يعارضون قتل ثلث الأمة لصلاح ثلثيها وجدوا في تلك الفتوى المبنية على حجية المصالح المرسلة ضالتهم التي تتيح لهم مؤازرة حكامهم دون تجشم عناء الاجتهاد الفقهي للخروج بحكم خاص بهم يتحملون وزر تبعاته. ولهذا اكتفوا بأن يلصقوا ذلك بمالك دون أن يأتوا بدليل يثبت عليه ما يدعون. ولكن ترديد ذلك قد انحسر وتراجع بعد أن نجح فقهاء المالكية في دحض ذلك الإفتراء على إمام دار الهجرة. وكمالكي، كغالبية مسلمي السودان، أرضاني ذلك كثيراً، مع اعترافي بأن قناعتي التي ورثتها بالإمام مالك قد تضاءلت هي الأخرى كثيراً بعد أن عرفت أنه يبيح للمرأة السوداء نزويج نفسها بنفسها لأنها "دنيئة".

إن الذي يمكن استخلاصه، بل يجب استخلاصه، من أقوال الحويني والعشرات من فقهاء الدولة الدينية الجهادية، هو أن العلمانية ليست مطالبة بأن تبرر وجودها. وإنما الدولة الدينية هي التي بحاجة قصوى لكي تبرر مجرد أن تفكر في طرح نفسها، ليس كبديل، وإنما كمساهم في التعاطي الفكري والسياسي الإنساني الذي ينتظم الثقافات كافة في هذا العصر. إن التخلص من التركة المثقلة المتراكمة عبر سنوات التخلف عن ركب الحضارة يمثل تحدياً عملاقاً لكل من يريد للدين الإسلامي أن يلعب دوراً يؤثر فيه ايجابياً  على مجريات الحياة الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأدبية والفنية المعاصرة.

والذي يمكن استخلاصه، بل يجب استخلاصه، من نصيحة عبد الحي يوسف للبشير هو أنه من بين كل الأنظمة الاستبدادية التي حكمت العالم لم يكن هنالك نظاماً أكثر شراسة وضراوة وتبجحاً وعنجهية من نظام الإنقاذ الذي كان أيضاً من أكثرها فساداً. وفي ظني أن المفكرين السياسيين عندما فكروا ووضعوا اشتراطات وتوصيفات وأسس نظام الكليبتوقراطية  Kleptocracy كالتعبير الصريح والواضح لدولة اللصوص، أو الدولة اللصوصية، لم يخطر ببالهم أن تأتي مجموعة تأخذ على عاتقها مهمة أن تذهب بذلك المفهوم إلى غايته القصوى ودركه الأسفل في زمن قياسي، وفي إجادة تامة، كما فعلت عصابة المشروع الحضاري.

بشكل عام ترتبط الكليبتوقراطية بالديكتاتورية الأوليغاركية أو الحكومات العسكرية أو غيرها من أشكال الحكومات الاستبدادية مثل الدولة الدينية. وجميع هذه الدول والنظم التي ذكرت لا يكون فيها الإشراف الخارجي صعباً، وإنما مستحيلاً. أما في سودان الإنقاذ فقد تضافرت كل تلك الأنماط لتجعل من المشروع الحضاري كائناً خرافياً مفترساً تلتهم رؤوسه الأربعة، والتي هي الديكتاتورية والأوليغاركية والعسكرية والدينية، الزرع والضرع وجميع ما فوق الأرض وما تحتها. ورمت بالإنسان في غياهب السجون وبيوت الأشباح. وقد جعلت هذه التركيبة المرعبة من الرقابة أمراً لا يمكن حتى مجرد التفكير فيه. وقادت الزمرة الحاكمة الدولة الكليبتوقراطية الموغلة في الجموح إلى غور سحيق لا قرار له من شهوات البطن والفرج والجمع والتكديس والغصب والسلب والنهب. وافترست الدولة الدينية المتوحشة الرجال والأطفال، وبخاصة النساء في دارفور وكردفان والنيل الأزرق بدرجة مريعة ومخزية. وقبل مرور طويل وقتٍ تحولت خزانة الدولة عندهم إلى مخزون مباحٍ ومتاحٍ ينفقون منه على الضروريات والكماليات والنزوات والشهوات وغيرها من تعبيرات البذخ المنفلت من عقاله عليهم وعلى زوجاتهم ومحظياتهم. ومثلهم مثل الكليبتوقراطيين في كل مكان أتقن لصوص الإنقاذ عمليات تحويل الأموال سراً وعلانية إلى حسابات مصرفية خارجية في دول أجنبية مثل سويسرا وماليزيا وتركيا ودول الخليج، وذلك لضمان استمرار حياة البذخ  التي تعودوها حتى الإدمان وهم الذين كثيرا ما تباهوا "بما لدنيا قد عملوا."

إن الدولة الدينية هي دولة "أبارتهايد" من نوعٍ مخيف لأنها تستمد مبررات وجودها زوراً من السماء. ومثلما كان يقال في جنوب إفريقيا إن كل شخصٍ أبيض في دولة الفصل العنصري إما مرتكباً لجريمة أو مستفيداً منها، فإن كل شخص في نظام الأبارتهايد الديني الأيديلوجي الشمولي إما مرتكباً لجريمة أو مستفيداً من جريمة. فبداية من تبرير وتقرير حق أن تحكم الجميع عصبة مشوهة عاطلة من كل فكر وفن وأدب وثقافة، ومروراً بالسيطرة المطلقة على كيف يفكر الناس، وماذا يقرأون ويكتبون ويدرسون، وماذا يسمعون ويشاهدون، وكيف يلبسون ويغنون ويرقصون، ونهاية بكيف يموتون ويدفنون، عملت الدولة الدينية على تشويه موروثات الماضي، وتفتيت معطيات الحاضر، وتبديد إمكانات المستقبل. إضافة إلى ذلك فكل مشارك في نظام الأبارتهايد الإنقاذي، وبلا استثناء، مارس بعضاً من أشكال اللصوصية الكليبتوقراطية المفترسة التي تنهش اللحم، وتهرس العظم، وتلفظ الفتات لتقتات به الجموع المهمشة. فالكليبتوقراطي هو بالضرورة إما سارق لمال او عقار أو منصب أو موقع أو مستثمر لصلات أو علاقات. وقد استفاد من هذه اللصوصية الإخوان والأقارب والمعارف والأصدقاء، واستفادت منها بصفةٍ خاصة الزوجات والمحظيات. ولكن الكليبتوقراطية لا تسطو فقط على الحاضر، وإنما تسطو أيضاً على المستقبل بشكل بشع يضمن استمرارية ذاك السطو حتى بعد زوال دولتها. فالكليبتوقراطية الإسلامية أعطت الأبناء فرصاً غير عادلة لضمان استمرار تفوقهم على أندادهم. وتتجلى مظاهر ذلك السطو في المنازل الضخمة، والسيارات الفارهة، والمزارع الوارفة، وفرص التعليم  المتميز داخل السودان وخارجه، والمأكل والمشرب، والعناية الصحية. والأبناء تمتعوا، ولا يزالوا، بكل هذه المسروقات في كنف دولة لصوصية منحتهم أفضلية لا يستحقونها.

وعلى ذكر جنوب إفريقيا، يقول رئيس الأساقفة ديزموند توتو: "عندما جاء المبشرون إلى إفريقيا، كان لديهم الكتاب المقدس وكانت لنا الأرض. فقالوا دعونا نصلي فأغمضنا أعيننا، وعندما فتحناها كان لدينا الكتاب المقدس وكانت لديهم الأرض." وهذا تماماً ما فعله دعاة الدولة الدينية في السودان. قالوا للناس هيا بنا إلى المساجد، فدخلوها، ولما خرجوا منها وجدوا أن الكليبتوقراطيين الإسلاميين قد استولوا على الأراضي والمتاجر والمنازل والحدائق والمزارع والمطاعم والمصارف والطرقات ووسائل المواصلات ومصادر المياه والطاقة والثروات والمدارس والمؤسسات والشركات والوزارات والسفارات والإذاعات والتلفزيونات والصحف والمجلات والنساء الجميلات، وفرضوا على البلاد من أقصاها إلى أدناها سلوكهم وأزيائهم وعاهاتهم وعاداتهم وتشوهاتهم ورغباتهم وصلفهم وعجزهم وقصورهم.

إن نظام الدولة الدينية الكليبتوقراطية في السودان لم يكن فاسداً حتى النخاع، وإنما كان فاسداً من النخاع لأن قوانينه فاسدة لا تبرر فقط للفساد وإنما تشرعنه من خلال قوانين يصرحون بها بلا ذرة حياء مثل قوانين وسياسات التمكين والتحليل والصالح العام وفقه الضرورة وضرائب الجهاد والاستشهاد. والكليبتوقراطية عادة ما تتفوق على نفسها وسط أجواء ومعطيات الافتصاد الريعي. وقد جعل الكليبتوقراطيون الإسلاميون من ذلك حال اقتصاد السودان الذي صيروه ريعياً يعتمد تماماً على النفط،، وحكموا عليه أن يعتمد الآن على الذهب. ولهذا باضت فيه  دولة الفساد وأفرخت، وتكاثرت، وامتلأت حواصلها، وطالت قوادمها، واشتدت براثنها، حتى ظنت بنفسها الخلود.

والقول بتطابق الوجود، وتزامن المسيرة، وتلاحم المصير بين الدولة الدينية والفساد في السودان ليست حصيلة رأي شخصي متحيز، أو نتيجة تحليل سياسي متحامل، وإنما هو واقع تثبته المعايير الدولية العلمية الموضوعية والمقننة وعلى رأسها "مؤشر تصور الفساد" Corruption Perception Index والذي كثيراً ما وصفته أبواق نظام الإنقاذ بأنه متحامل ومتآمر على نزاهة نظام الدولة الدينية، وهو ليس كذلك. فمنذ إدراجه ضمن دول "المؤشر" احتل السودان مركزاً متأخراً، إذ كان ترتيبه 106 من بين 133 دولة في سنة 2003. ومع إزدياد عدد الدول المدرجة ضمن المؤشر، ومع اشتداد قبضة النظام الكليبتوقراطي وتفوقه على نفسه في ابتكار وإتقان أساليب الفساد والإفساد، تأخر السودان ليحتل مقعده الدائم في مؤخرة الدول كالدولة رقم 172 أو 174 أو 175 أو 176 بين الدول التي لا تتجاوز 180 دولة، وذلك في رفقة تضم في معظم الأحيان دولاً من بين فنزويلا، واليمن، وغينيا بيساو، وأفغانستان، والصومال، وجنوب السودان، والعراق، ومينامار، وسوريا.

وبعيداً قليلاً عن نظام الإنقاذ، عندما ينظر المرء إلى حال الإسلام والمسلمين ستترسخ عنده قناعة أن الإسلام دين حق، ولو لم يكن كذلك لفتك به المسلمون من زمن بعيد. ولكن الدين الحق الذي ظل وسيظل قائماً حتى يرث الله الأرض ومن فيها، ليس هو دين السبايا والغنائم وتفخيذ الرضيعة وإرضاع الكبير. وليس هو الإسلام الذي يغض الطرف عن عشرات الآلاف من المسلمات يتعرضن للإغتصاب كل يوم في ميناماروحناجرهن ترتفع بالاستغاثة "وا إسلاماه" ولا من مجيب يقول "لبيك"، إذ أنه لن يهب لنجدتهن أحد من الملتحين المدججين باللحم والشحم، الكانزين للذهب، المضمخين بالعطور، العاشقين للحلوى، والمولعين بالنكاح.

لقد أنتجت دولة الاستبداد، رغماً عنها ولكن بسببها، مئات الألوف من الشباب الذي قدموا للعالم ثورة تضاهي في جسارتها أعظم الثورات التي عرفها العالم، ولا زالوا يقدمون كل يوم نماذج رائعة من الوعي والتجرد والإدراك. كما أخرجت الدولة الدينية بعد ثلاثين سنة من التجهيل المتعمد مجموعات من الشباب المبرمج لكي يكون مُتنمراً يريد أن يكون إرهابيا ذا خطرٍ ولا يجروء أن يكون. ومن هؤلاء أصحاب دعوة "خلي سوطك قريب" ومن لف لفهم الذين عليهم إن أرادوا لأنفسهم دوراً جهادياً أن يذهبوا بسياطهم إلى حيث هنالك حاجة لها. إلى مينامار حيث تكشف الفتيات المسلمات رؤوسهن قهراً، ويفتحن أفخاذهن قسراً، ويمارسن الجنس عنوة. ولكنهم لن يفعلوا، لأن المعركة هناك لن تكون بسهولة جلد فتاة عزلاء في شوارع المدن السودانية التي تتكدس فيها النفايات. ولكن حتى إن فعلوا فربما تحتال أنفسهم على عجزهم لتسول لهم توظيف سياطهم في منع المغتصبات من رفع أصواتهن بالعويل. ومن سنين قال مظفر النواب لأمثالهم من أدعياء العفة والطهارة والشرف الذين يملأون المساجد خطابة وتوعداً وضجيجا:

القدس عروس عروبتكم؟؟

فلماذا ادخلتم كل زناة الليل حجرتها

ووقفتم تسترقون السمع وراء الابواب

لصرخات بكارتها

وسحبتم كل خناجركم، وتنافختم شرفا

وصرختم فيها ان تسكت صونا للعرض؟؟؟

فما اشرفكم!

ويبذل نفرٌ من المفكرين السودانيين المتميزين جهداً كبيراً في الترويج لمصطلح "الدولة المدنية"على حساب مفهوم العلمانية. ومن بينهم د. الواثق كمير الذي يقول في مقال بعنوان "العلمانية في السياق السياسي السوداني: العودة إلى القانون الجنائي المدني !!" "وعلى شباب الثورة التي سقوها بدمائهم أن يدركوا أن شعار "مدنيااااوو" الذي يهتفون به لا يعني المدنية مقابل العسكرية، أو تعيين المدنيين مكان العسكريين، إنما يعني في جوهره إرساء دعائم دولة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات." ولكن شباب الثورة ليس بمقدورهم تبني ما يقترحه الدكتور بأثر رجعي. فالمدنية التي كانوا ينادون بها، ولا يزالون، هي مُطالبة واضحة المعالم ومُناهضة للاستبداد العسكري. وهنا تكمن بعض إشكاليات الدولة المدنية التي تظل إلى حين إشعار آخر بحاجة إلى المزيد من البحث والفحص والتمحيص. فالدولة المدنية ليست Self-explanatory بمعنى أنها ليست قادرة على شرح نفسها بنفسها مثل الملكية والجمهورية والاشتراكية والأرستقراطية والعديد من المصطلحات السياسية الأخرى. ود. كمير، بصفته أستاذ سابق للعلوم السياسية، يدرك تماماً أن تصنيفات الدول والحكم سواءأ جئتها من ناحية هياكل السلطة (كالفدرالية مثلاً) أو مصدر السلطات (كالديمقراطية مثلاً) ليس من بينها هيكل سلطة أو مصدر سلطات اسمه "الدولة المدنية". والجميع يعلمون أن الجماعات الليبرالية عندما استبدت بها الجماعات الدينية بعد نجاحها في "تجريم" كلمة العلمانية لاذت - الجماعات الليبرالية - بالفرار لتختبئ وراء ستار "المدنية" دون أن تدري بالكيفية التي دخل بها المصطلح الحياة السياسية في البلدان العربية. ومن بينهم أيضاً الأستاذ بابكر فيصل الذي يجيب على سؤال طُرِح عليه في سياق إعلان المبادئ الذي نصّ "على تأسيس دولة مدنية ديمقراطية فيدرالية في السودان تضمن حرية الدين والممارسة الدينية والعبادات لكل الشعب" عما هو موقف التجمع الاتحادي من العلمانية، وكيف يرى هو العلمانية؟ بقوله "نحن في التجمع الاتحادي مع مفهوم الدولة المدنية الديمقراطية المحايدة تجاه الأديان. ولن ندخل في الجدل واللغط حول العلمانية. وكما ذكرت لك سابقا نتيجة الفهم الخاطئ له، لأنه نشأ وتتطور في بيئة مختلفة، وحدثت كثير من التغييرات فيه. إذن نحن مع وقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان. وفي إطار الدولة المدنية الديمقراطية. والتي أعتقد أنها تكفل بما طالبت به حركة عبد العزيز الحلو وجميع الحركات الأخرى. وهي دولة تقوم الحقوق والواجبات فيها على أساس المواطنة." ويدهشني هنا عزوف الأستاذ بابكر فيصل، ومعه الحركة الاتحادية، عن العلمانية لأن المفهوم "نشأ وتتطور في بيئة مختلفة"! ومبعث دهشتي أن هذا هو حال الديمقرطية أيضاً، ومع هذا لم نشهد بعد في التجمع الاتحادي أو في غيره من أعرض عنها لذلك السبب.

إن"المدنية" التي يُعول عليها الكثيرون هي "حصان طروادة" تكمن، إن لم تكن تتربص، بداخله مجموعات متناحرة تنتظر أن تفتح لها "أبواب المدينة". فهنالك "العلمانيون" غير الراضين بكلمة المدنية كبديل للعلمانية، وهنالك المدنيون الذين يريدون مسك العصا من وسطها، وهنالك المدنيون الحقيقيون، والذين هم الإسلاميون الذين ابتدعوا مصطلح "الدولة المدنية" في خمسينيات القرن الماضي في مصر ليفصلوا بين توجههم المدني والطبيعة العسكرية لثورة يوليو، وليؤكدوا أيضاً على القيمة المدنية لدولتهم الإسلامية. وعندما أجرت الكاتبة السورية أنجيل الشاعر حواراً مع المفكر الكردي جاد الكريم الجباعي في مجلة "حفريات" بتاريخ 12/5/ 2020 وسألته: "في كتابكم في الدولة الوطنية، تحيلون فكرة الدولة المدنية إلى سيد قطب زعيم جماعة الإخوان المسلمين، هل نفهم أن جماعة الإخوان المسلمين وراء هذه المطالبة بالدولة المدنية أم لكم رأي آخر؟" فيرد عليها الجباعي: "لقد وصفت شعار الدولة المدنية بأنه "تلفيق فكري وتلبيس سياسي"، قد أكون مخطئاً، ولكنني ما زلت عند هذا الرأي. لأن الشعار المذكور روجه الأخوان المسلمون في مصر وسورية، مع أنه متناقض على طول الخط مع مقولات حسن البنا، موسس جماعة الإخوان المسلمين: "الإسلام دين ودنيا ودولة .. مصحف وسيف"، التي تتبناها الجماعة، ومتعارض بالقدر نفسه مع مبدأ الحاكمية عند الجماعة، ومع مبدأ الدعوة والجهاد، والدعوة أساس التطرف والجهاد أو النضال أساس الإرهاب، عند الإسلاميين وغير الإسلاميين، كالبعثيين والشيوعيين."

ومن أجل المزيد من الاستيثاق من حقيقة التأسيس والترويج الإخواني لمصطلح/مفهوم الدولة يمكن النظر أيضاً إلى "اليقظة العربية: الإسلام والشرق الأوسط الجديد" The Arab Awakening- Islam and the New Middle East، London: Penguin Group، 2012 (114-116)  للمفكر الإخواني الإسلامي طارق رمضان حيث يقول إن هنالك تحولات غير ملحوظة قد حدث في خطاب الأخوان المسلمين، وكذلك عند بعض الحركات الإسلامية الأخرى والتي أخذت تتبنى سياسة "الوسطية" في العالم العربي الإسلامي. ويعزي رمضان هذا إلى ازدياد هيمنة العولمة وإلى أن الظهورالمضطرد لحركات إسلامية جديدة حال دون تأسيس حركة إسلامية شاملة وجامعة. كما يشير رمضان أيضاً إلى فشل الثورة الإيرانية في تحقيق الطموحات الإسلامية العريضة التي تتجاوز الخلافات الطائفية. ونتيجة لذلك قامت الحركات الإسلامية المعتدلة، بحسب رمضان، بمراجعة مصطلحاتها وعكفت على إعادة تعريف مفاهيمها. وكنتيجة لذلك وضعت الكثير من الثقل على مصطلح "الدولة المدنية". وطارق رمضان، لمن لا يعرفه، هو حفيد حسن البنا مؤسس حركة الإخوان المسلمين، وقد كان يحتل مكانة مرموقة وسط المؤسسات الأكاديمية الغربية حتى سقوطه المدوي تحت طائلة القانون متهماً بأكثر من حالة اغتصاب وتحرش.

ووضعاً للذي ذكرت أعلاه في الاعتبار أود توجيه سؤال للأستاذ بابكر فيصل هل تكفي حقيقة نشوء مصطلح ومفهوم "الدولة المدنية" عند سيد قطب لترموا بها بعيداً كما رميتم بعيداً بمفهوم العلمانية؟ أم أنكم بحاجة إلى ما يؤكد لكم أنها، كما قال الجباعي، "تلفيق فكري وتلبيس سياسي؟" وأريد أن أقول هنا إن من بين الأشياء "المدنية" التي تحمل دلالات واضحة في حياتنا الهندسة المدنية، والمجتمع المدني، والعصيان المدني، والقوانين المدنية، والقضايا المدنية، والحريات المدنية، والخدمات المدنية، والسلطات المدنية، ولكن ليس من بين مسئوليات وتداعيات أيأ منها الفصل بين الدين والدولة. ويقودني هذا للقول إن العلمانية تعاني بين مناصريها والمتعاطفين معها من ثالوث الإغراق في الرصد التاريخي، والانشغال بالتفسيراللغوي، وضعف الاقتناع. وعلى الجانب الآخر تعاني العلمانية من ثالوث الجهل والكذب والعصبية الفكرية. والجدل الذي يدور حول العلمانية اليوم في السودان يستدعي ما قاله الشاعر الإيرلندي دبليو بي يتس “The best lack all conviction، while the worst are full of passionate intensity.”  "الأفضل يفتقدون كل قناعة، بينما يمتلئ أسوأهم بحماسة جياشة." وإذا كانت جزئية القول الأولى تنطبق على بعض مناصري العلمانية، فإن جزئيته الثانية تنطبق بشكل يكاد أن يكون كاملاً غلى مناوئيها.

وعندما أستعيد "بينما يمتلئ أسوأهم بحماسة جياشة" أجدني أفكر في عدد من المناوئين للعلمانية من بينهم د. محمد عبد الله كوكو الذي نشر في "أوراق برس" مقالاً بعنوان "للذين لا يعرفون العلمانية" يتحدث فيه عن العلمانية حديث العارفين، وهو لا يعرف. والدكتور هنا مثل معظم الذين يتحدثون عن العلمانية يظنون بأنفسهم حصافة تتيح لهم معرفةً محجوبةً عن بقية الناس فلا يضيعوا وقتاً قبل أن ينصبوا من أنفسهم عليهم نصحاء ومرشدين. والدكتور أيضاً مثل العديد من الناصحين الحصفاء لا يحرص على علاقة طيبة باللغة، ومثلهم أيضاً له من ضحل الثقافة وضعيف المعرفة نصيب كبير. فهو يبدأ حديثه قائلاً: "لايمكن أن نقبل تعريف العلمانية إلا من جهة أوربية رسمية، لماذا؟ لأن الأوربيين هم الذين أنتجوا العلمانية واخترعوها ومارسوها." ثم يمضي الدكتور للاستدلال بالمصادر "الأوربية" الثلاثة التي اختارها وهي: دائرة المعارف البريطانية، وقاموس ويبستر، وقاموس اكسفورد. ويكفي هذا القول وحده ليدرك القارئ المستنير أن هنالك ما ينذر بعواقب وخيمة لأن قاموس ويبستر أمريكي وعليه لا يجوز إدراجه ضمن المصادر "الأوربية" التي أكد الدكتورأنه لن يقبل تعريفاً إلا منها. ولكن لنضرب عن ذلك صفحا لنرى ماذا ينقل الدكتور عن ويبستر "الأوربي".

يزعم الدكتور أن القاموس "يقول عنها (أي العلمانية) (هي نظام من التطبيقات والمبادئ يرفض اي شكل من أشكال  الإيمان والعبادة) وفي موضع آخر يقول ويبستر: (هي نظام اجتماعي مؤسس على وجوب قيام الأخلاق على الحياة المعاصرة دون النظر إلى الدين)." بينما يقول القاموس عن العلمانية ما هو مكتوب أدناه. وقد حرصت على إيراد التعريفات التي وردت في المصادر التي ذكرها الدكتور في لغتها الأصلية قبل ترجمتها حتى يتسنى للقارئ التحقق منها ليدرك أن الدكتور لا يترجم، وإنما يؤلف.

“Definition of secularism: indifference to or rejection or exclusion of religion and religious consideration.”

"تعريف العلمانية: اللامبالاة تجاه أو رفض أو استبعاد الدين والاعتبارات الدينية."

“The belief that religion should not play a role in government، education، or other public parts of society.”

"الاعتقاد بأن الدين لا ينبغي أن يلعب دوراً في الحكومة أو التعليم أو الأجزاء العامة الأخرى من المجتمع." وهذا يعني أن ما أورده الدكتور، وبخاصة "يرفض أي شكل من أشكال الإيمان والعبادة" لا علاقة له إطلاقاً بقاموس ويبستر، إلا إذا هنالك فعلاً قاموس ويبستر "أوربي" كما يقول الدكتور، وكما يكتب أوروبي.

ويزعم الدكتور أن مصدره الثالث، وهو قاموس أكسفورد، يُعرف العلمانية "(بأن معناها : دنيوي أو مادي، ليس دينيا ولا روحيا) وفي موضع آخر يقول لا ينبغي للدين أن يكون أساسا للتربية والأخلاق)."

بينما يقول قاموس أكسفورد:

"Secularism is the belief that religion should not be involved in the organization of society، education، etc."

وترجمتها: "العلمانية هي الاعتقاد بأن الدين لا ينبغي أن يشارك في تنظيم المجتمع والتعليم وما إلى ذلك." وهي، كما هو واضح، لا علاقة لها "بدنيوي أو مادي أو ليس ديني أو روحي" كما يدعي الدكتور. إضافة إلى ذلك فإن الإدعاء بأن القاموس يقول "لا ينبغي للدين أن يكون أساسا للتربية والأخلاق" هي محاولة لا أخلاقية للتشويه. أما ترجمة education على أنها "تربية" فلا تدل على سوء النية بقدر ما تدل على ضعف اللغة.

وقاموس أكسفورد يقول أيضاً عن العلمانية:

"The term was coined c.1850 to denote a system which sought to order and interpret life on principles taken solely from this world، without recourse to belief in God and a future life. It is now used in a more general sense of the tendency to ignore، if not to deny، the principles of supernatural religion."

وترجمة ذلك: "تمت صياغة المصطلح في 1850 لتحديد نظام يسعى إلى ترتيب الحياة وتفسيرها وفق مبادئ مأخوذة فقط من هذا العالم، دون اللجوء إلى الإيمان بالله والحياة الأخرة ويتم استخدام المفهوم الآن بشكل أكثر عمومية ينحو إلى تجاهل، إن لم يكن رفض، المبادئ الغيبية للدين."

أما إذا جئنا إلى مصدر الدكتور الأول وهو "دائرة المعارف البريطانية" التي يزعم الدكتور أنها تقول عن العلمانية secularism "(هي حركة اجتماعية مضادة للدين وتهدف إلى صرف الناس عن الإهتمام بالدار الآخرة إلى الإهتمام بالدنيا وحدها)" فلا أقل من أن نقول أن الدكتور تغوّل عليها وتقوّل، لأنها تقول:

"SECULARISM، a term applied specially (see Secular) to the system of social ethics associated with the name of G. Holyoake (q.v.). As the word implies، secularism is based solely on considerations of practical morality with a view to the physical، social and moral improvement of society. It neither affirms nor denies the theistic premises of religion، and is thus a particular variety of utilitarianism. Holyoake founded a society in London which subsequently under the leadership of Charles Bradlaugh advocated the disestablishment of the Church، the abolition of the Second Chamber and other political and economic reforms."

وترجمة ذلك "العلمانية: مصطلح يطبق بشكل خاص (انظر علماني) على نظام الأخلاق الاجتماعية ويرتبط باسم جي هوليوك. وكما توحي الكلمة فإن العلمانية تقوم فقط على اعتبارات الأخلاق العملية بهدف تحسين الجوانب المادية والاجتماعية والأخلاقية للمجتمع. والعلمانية لا تؤكد ولا تنفي الافتراضات التوحيدية للدين، وبالتالي فهي نوع خاص من توخي المنفعة. وقد أسس هوليوك جمعية في لندن ودعا لاحقاً تحت قيادة تشارلس برادلو إلى إلغاء الكنيسة والمجلس الثاني (مجلس اللوردات) وتنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية." وعليه فإن "حركة مضادة للدين هي من "كيس" الدكتور، ويزيدها سوءاً أن "بريتانيكا" تقول إن العلمانية "لا تؤكد ولا تنفي الافتراضات التوحيدية للدين."

ويضيف د. محمد عبد الله كوكو إلى حشف نقده للعلمانية سوء كيلة موغل في التطفيف عندما يواصل حديثه محاولاً تشريح العلمانية باللجوء إلى شيئ من الاشتقاق Etymology. والاشتقاق مركب صعب بالنسبة للذين يعرفون، فما بالك بالذين لا يعرفون، والذي ينبغي عليهم أن يدركوا أن البحث يحتاج مع المعرفة والدراية الحزم والصبر والصرامة، وهذا جميعه تفتقده كتابة الدكتور التي تمضي إلى حيث يذهب بها الهوى. وكما قال أكثم بن صيفي "والحَزْمُ مَرْكَبٌ صَعْبٌ، والعَجْزُ مَرْكَبٌ وَطِيئٌ، آفَةُ الرَّأي الهوى، والعَجْزُ مِفْتاحُ الفَقْرِ..." وأشنع أنواع الفقر بؤس المعرفة. والذي جرني إلى الاشتقاق هن أن الدكتور يقول: "يبقى كلمة العلمانية (secularism) ما عندها اصلا علاقة بالعلم والعلماء فهي بعيدة عن كل ترجمات العلم ومشتقاته مثل: العلم science المعرفة knowladge التعليم learning والدراسة studiedness المعلومات information". وقد لا تكون للعلمانية علاقة بالعلم والعلماء، وهذا زعم مشكوك فيه. ولكن الأمر المؤكد هو أن علاقة د. محمد عبد الله كوكو بالعلم والعلماء جد ضعيفة. وهذا أمر مؤسف لشخص يحمل درجة الدكتوراة وقضى الجزء الأعظم من حياته المهنية يعمل في محال التعليم. فمن بين الكلمات الخمس التي اختارها الدكتور للتدليل على أن العلمانية "بعيدة عن كل ترجمات العلم والعلماء" أصاب في اثنتين وأخطأ في ثلاث. أصاب في العلم science والمعلومات information، وأخطأ في التعليم learning لأن التعليم هو education بينما learning هي التعلم. وعندما نأتي إلى المعرفة فهي knowledge وليست knowladge كما كتبها. أماstudiedness  فإنه حقاً يستحق عليها الثناء، لأنه أضاف إلى اللغة الإنجليزية كلمة لم توجد بها قبلاً.

ولا بد لي من التنويه هنا إلى أنني في تناولي لما طرحه د. محمد عبد الله كوكو حرصت على أن لا أنزلق إلى الخوض في نقاط جدلية تخضع للأخذ والرد، لأني لا أريد أن أتيح له مخرجاً ينفذ عبره من المأزق الذي وضع نفسه فيه: مأزق عدم الدراية في استخدام المصطلحات "الأوربية" والاشتقاق والترجمة من اللغة الإنجليزية وإليها. ولكني أريد التوقف عند نقطة واحدة عنده وهي قوله "مستحيل تقول أنا علماني ومسلم في نفس الوقت انت يا علماني يا مسلم." وكل من يقرأ ورقتي بشيئ من الاهتمام سيدرك أنني أيضاً لا أعتقد في إمكانية أن يكون المرء مسلماً وعلمانياً، ليس لسبب خاص بالإسلام، إذ أن هذا الرفض يمتد ليمنع أن يكون المرء مسيحياً وعلمانياً، أو هندوسيا  - أو أي دين أو معتقد آخر- وعلمانياً في نفس الوقت. ولكن ذلك ليس، كما يقول الدكتور، لأن "العلمانية والاسلام عبارة عن خطين متوازيين لا يلتقيان ابدا"، أو لأن على المسلم أو المسيحي أو الهندوسي أن يتخلى عن ديانته أولاً قبل أن يكون علمانياً، وإنما لأن هنا خط واحد لا غير، وهو خط الدين.  وهذا يعني بالضرورة عدم إمكانية أن يكون الفرد من أي دين وملة علمانياً على الإطلاق. فالدولة قد تكون علمانية أو لا تكون، ولكن الفرد لا يمكن أن يكون علمانيا أو غير علماني، ولكن بمقدوره أن يكون مناصراً للعلمانية أو مناوئاً لها إن شاء.

وذلك لأنه إن كان هنالك توصيف لشيئ "يسعى إلى ترتيب الحياة وتفسيرها وفق مبادئ مأخوذة فقط من هذا العالم، دون اللجوء إلى الإيمان بالله والحياة الأخرة"، و"يتم استخدامه بشكل أكثر عمومية ينحو إلى تجاهل، إن لم يكن رفض المبادئ الغيبية للدين"، ويتصف "باللامبالاة تجاه أو رفض أو استبعاد الدين والاعتبارات الدينية"، و"الاعتقاد بأن الدين لا ينبغي أن يلعب دوراً في الحكومة أو التعليم أو الأجزاء العامة الأخرى من المجتمع"، و"أن لا ينبغي للدين أن يشارك في تنظيم المجتمع والتعليم وما إلى ذلك"، والعمل على"تحسين الجوانب المادية والاجتماعية والأخلاقية للمجتمع"، بينما "لا يؤكد ولا ينفي الافتراضات التوحيدية للدين، وبالتالي فهو نوع خاص من توخي المنفعة،"، فمن المؤكد أن ذلك الشيئ الذي تناوله التوصيف هو نظام دولة، وليس ميول واختيارات فرد مهما كبر حجم قدراته وعظم قدر طموحاته.

ومع أن هذا لا يسعدني كثيرا، أجد صعوبة في الابتعاد عن ما كتبه د. كوكو دون أن أتسآل عما إذا كان يحق لأي شخص أن يطالب جامعة مرموقة مثل جامعة الجزيرة بسحب درجة الدكتوراة من شخص جلب لها سوء السمعة bringing it into disrepute بإظهار كل هذا القدر من الجهل في منبر عام؟ ولكن مثل هذا الطرح، بالمعاني كافة التي تحتملها الكلمة، ينادي بضرورة إنشاء هيئة متخصصة تقوم بمراجعة درجات الدكتوراة التي تغرق الساحة الفكرية بالضحالة والركاكة والإسفاف. أقول هذا مدركاً درجة الغلظة التي انتهجتها في تعاملي مع ما طرحه د. محمد عبد الله كوكو، ولكني لا استهدف الفرد هنا بقدر ما استهدف  ظاهرة ضعف الكفاءة الأكاديمية التي يزيدها سوء القصد قبحاً وقتامة. وعلى صعيدٍ موازٍ يثبت ما كتبه الدكتور أن مناصري الدولة الدينية يعتقدون أن الكذب براعة وأن التضليل مهارة. وهذه هي الوهدة التي تقبع بداخلها ثقافتنا التي أقعدوها بعجزهم وقصورهم. ومن بين جميع مثالبنا ليس هنالك أوجع من أن أعظم محفوظاتنا ضد الكذب حديث مكذوب (حديث أن المسلم لا يكذب)، وليس هنالك أسخف من أننا نكذب على أكبر كذاب في تاريخنا (مسيلمة الكذاب)، وليس هنالك أتعس من أنه إذا قال بعضنا "يحصل خير" فإنه لن يحدث، وليس هنالك أبشع من أن أحدنا إذا قال إن شاء الله فإنه لا يعنيها، ونعلم جميعاً أنه لا يعنيها.

وبسبب إعلان المبادئ انطلقت دعوات تنادي بتنفيذ المزيد من الدراسات لتفسير وتبرير العلمانية. ومع أني لا أرى ضرورة لذلك لأن ما كتب عنها (مثل كتابات جورج طرابيشي: العلمانية في الخطاب العربي، العلمانية مطلب إسلامي، هرطقات عن العلمانية كإشكالية إسلامية 1- 2، ) كافٍ لتوضيح ما هي  العلمانية وما هي التحديات التي تواجهها في العالم الإسلامي، فإن أي كتابات سودانية ستشكل مساهمات ذات قيمة وتأثير. ولكن الانتصار الوجداني والقبول العريض للعلمانية لن يتم على صفحات الصحف ومواقع الإنترنت التي تغشاها القلة المثقفة، وإنما على ساحة التفاعل مع قطاعات عريضة من المواطنين. ولهذا قد يقول قائل من بينهم إن النعي الذي أكتبه مشيعاً به الدولة الدينية مبكرٌ في توقيته لأنها لم تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد. ولكن الذي لا شك فيه هو أن مرحلة طي الإسلام السياسي قد بدأت مع الانتباه إلى أن السودان كان ولا يزال مهيأ وجدانياً أكثر من غيره لاحتضان الدولة الدينية. فالعاطفة الدينية فيه جياشة ولا حدود لقدرتها على التطرف. وفي هذا السياق علينا أن نضع في الاعتبار أن السودان قد احتضن بشكل عريض، أكثر من أي بلد آخر، أقصى تعبيرات التطرف الإسلامي متمثلة في الوجود المعاش لفكرتي "المهدي" و"الختم".

ويزيد من تعقيد الأشواق والأوجاع والطموحات والمطامع الإسلامية في السودان، الطرائق التي دخلت بها الطوائف الإسلامية البلاد والتي جعلت منه غازياً ولاجئاً في نفس الوقت. فعلى جانب الغزو نجد طوائف التدين المتجهم الكئيب الذي جاءت به معاهدة البقط التي تكرس دونية بلاد السودان وأهلها، والتي ينص البند السابع فيها على التالي:

" وعليكم فى كل سنة ثلاثمائة وستون رأساً تدفعونها إلى إمام المسلمين من أوسط رقيق بلادكم غير المعيب، يكون فيها ذكران وإناث، ليس فيها شيخ هرم ولا عجوز ولا طفل لم يبلغ الحلم، تدفعون ذلك إلى والي أسوان.8. وليس على مسلم دفع عدو عرض لكم ولا منعه عنكم من حد أرض علوة إلى أرض أسوان. فإن انتم آويتم عبداً لمسلم أو قتلتم مسلماً أو معاهداً أو عرضتم للمسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم بهدم أو منعتم شيئاً من الستمائة رأس والستين رأساً فقد برأت منكم هذه الهدنة  والأمان وعدنا نحن  وأنتم على سواء حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين."

وأزعم، وقد لا أكون بعيداً عن الصواب في زعمي، أنه من الممكن اقتفاء الجذور المموهة والمخفية للأيديلوجية "الكيزانية" المؤسسة على الاستعلاء والغصب والسلب والإتجار بكل شيئ في اتفاقية البقط، كما يمكن العثور على أصل مكونات سلوكهم الانتهازي المخادع والمخاتل والمتربح في النموذج الأوليprototype  الذي يمثله عبد الله بن أبي سرح. أي نموذج الشخصية التي تدعي وتلفق وتفتري، والتي كانت غزواتها في شمال إفريقيا حصداً للغنائم. عن هذا يقول الليث بن سعد "بلغ السهم للفارس ثلاثة آلاف دينار، وللراجل ألف دينار." والسودانيون يحتفون بعبد الله بن أبي سرح دون أن يعرفوا عنه إلا أقل القليل. والذين يعرفون عنه ما يكفي لا يكفون عن بذل التبريرات لتخفيف مثالبه، وهي جليلة. وتتلخص في أنه عندما دخل ابن أبي سرح الإسلام كان ممن يكتبون الوحي، ثم أرتد وعاد إلى مكة حيث كان يقول كاذبا ً متبجحاً إذا أملى علي محمد سميعا عليماً كنت أكتب: عليماً حكيماً،  وإذا أملى علي عليماً حكيماً، كنت أكتب: سميعاً عليماً، وهو لا يمانع. وكان يقول: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحى إلى، وإن كان الله ينزله فقد أنزلت مثل ما أنزل الله. كما وشى ببعض المسلمين الذين كانوا يتسترون على إسلامهم فأخذهم كفار قريش وعذبوهم حتى كفروا. ولهذا عند فتح مكة كان ابن أبي سرح واحداً من أحد عشر شخصاً أمر النبي بقتلهِم ولو وجدوا مُتعلقين بأستار الكعبة. ولما كان أخ عثمان بن عفان في الرضاعة إختبأ في منزله فأخذه عثمان معه حنى وقف بين يدي النبي وقال يا رسول الله: إن أمه كانت تحملني وتمشيه وترضعني وتقطعه وكانت تلطفني وتتركه فهبه لي، وأكب عُثمان على رسول الله يُقبل رأسه وهو يقول يا رسول الله، تُبايعه، فداك أبي وأمي يا رسول الله. فصمت النبي طويلاً ولم يبايعه إلا بعد الثالثة. وبعد رحيلهما التفت النبي إلى أصحابه وقال: "أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ؟" وحتى بعد مبايعته للرسول ظل لا يظهر وجهه له ويفر منه، وإذا قابله صدفةً يُسلم عليه ولا يضع عينه في عين الرسول خجلاً مما فعله. ويقول الطبري وبعض المفسرين إن "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ" نزلت في مسيلمة بن حبيب وعبد الله بن أبي سرح.

وعلى جانب اللجوء نجد الإسلام المتسامح والمتصالح مع نفسه ومع الآخرين الذي تسلل مع الرعاة وتناغم بسهولة مع التقاليد المحلية والأساطير النوبية ليشكل عقيدة، أو إن شئت طرقاً وفرقاً صوفية تجمع بين مخلفات الوثنية بقبابها وطبولها وألوانها وتراتيلها، والوحدانية بخشوعها وتبتلها. وتظل هذه الطرق في نهاية المطاف قوة محايدة قادرة على التعايش مع القديم، وعلى استعداد لاحتضان الجديد. ولعل أحد أروع مشاهد ثورة ديسمبر مشهد مسيرة الطرق الصوفية بطبولها وأهازيجها تعبر كبري النيل الأزرق في طريقها إلى ساحة الاعتصام. ولعل هذا التأرجح بين نزعتي الغزو واللجوء يفسر استعداد الشخصية السودانية للانتقال بسهولة بين نقيضي التسامح والتطرف، ولعله يفسر أيضا استعدادها لقبول فكرة الدولة الدينية والتكيف مع غيرها. وبالإضافة إلى أولئك هناك الجماعات المسيحية وقدرتها على الصمود مثبتة أن إدارة الخد الأيسر ليست مظهر ضعف وإنما دلالة قوة، وكذلك الجماعات غير العربية وغير المسلمة التي لا تعرف لنفسها غير "السودانوية" هوية.

وعودة إلى جدلية الصراع بين الدولة الدينية كغول مقدس والدولة المدنية كتلفيق فكري والعلمانية، أرى أن العلمانية هي قدر الشعوب. وأرى أيضاً أنها أفيون الشعوب. أقولها في استدعاءٍ واعٍ ومتعمدٍ لقولة ماركس المُفترى عليها"Die Religion ... ist das Opium des Volkes" . والذي لا ريب فيه ولا مراء هو أنه لم يكن لماركس في مجمل كتاباته رأي ايجابي في الدين، ولكنه يشيد هنا بقيمة الدين في تخفيف عذابات ملايين البشر المسحوقين تحت رحى البؤس والاستغلال. وأنا أترجم هنا من الإنجليزية

 "Religion is the sigh of the oppressed creature، the heart of a heartless world، and the soul of soulless conditions. It is the opium of the people".

والترجمة هي "الدين هو أنّة الكائن المقهور، قلب عالم بلا قلب وروح ظروف بلا روح. إنه أفيون الشعوب." وإذا كان هنالك من يعتقد أن في هذا التوصيف إزدراء للدين أو تحقير له فليراجع قدرته على الاستيعاب. أما أنا فمن فرط إعجابي بهذه المقولة فقد رأيت أن أستعيرها لكي تضفي على العلمانية التي أناصر قيمة أنها أيضاً "أنّة الكائن المقهور، وقلب عالم بلا قلب، وروح ظروف بلا روح. إنها أفيون الشعوب." فالعلمانية تخفف من عذابات ملايين البشر في الصين (الشيوعية) والسعودية (الوهابية) ومينامار(البوذية) والفلبين (الكاثوليكية) والهند (الهندوسية) وسودان الإنقاذ، وما بعد الإنقاذ، الذي يشهد نهاية لبعض التاريخ: نهاية عهد الدولة الدينية.

 

أحمد حسب الله الحاج

 

الزمان الفلسفي وموضعة اللغة.. إصدار فلسفي جديد للباحث علي محمد اليوسف

التفاصيل
كتب بواسطة: صحيفة المثقف

صدر عن دار غيداء بالاردن اذار 2021، كتاب جديد للباحث الفلسفي الأستاذ علي محمد اليوسف، بعنوان: الزمان الفلسفي وموضعة اللغة

وقد اشتمل الكتاب خمسة وعشرين مبحثا عالجت قضايا فلسفية معاصرة عصّية في مخرجاتها الفكرية الحاسمة التي تجعل من الموضوع مغلقا على نفسه مصادرا أفق المساجلة المفتوحة جدليا على التفكير بلا نهائيات والنظرة المنهجية النقدية التحليلية لمباحث فلسفية مثار حضور نقاشي تداولي في تاريخ الفلسفة الغربية المعاصرة..

المحتويات

المقدمة

(1)

اشكالية الذاكرة والخيال

(2)

الذاكرة والخيال بين الفلسفة والعلم

(3)

اللغة: المادة والادراك

(4)

تداخلات فلسفية:التحليلية المنطقية الانكليزية انموذجا

(5)

افلاطون واسبقية المكان في تنظيمه عشوائية الزمان

(6)

تحقيب الزمان الارضي والمطلق الكوني

(7)

كيف يكون الزمان الحاضر وهما وحقيقة معا؟

(8)

الزمان المطلق وهم الاتصال والانفصال

(9)

الموضعة والتجريد في اللغة

(10)

تموضع الذات في تجريد اللغة

(11)

هل الوعي مادة؟

(12)

الوعي بالصفات لا بالماهية

(13)

الماهية والفلسفة

(14)

ديالكتيك الفلسفة الوجودية

(15)

جون لوك ومثالية المنهج المعرفي

(16)

بيركلي والادراك العقلي

(17)

الايمان الديني والعقل

(18)

شخصنة الايمان الديني

(19)

الذات والماهية في الفلسفة الوجودية

(20)

ديفيد هيوم الذاكرة والخيال

(21)

المعجزة الدينية وقوانين الطبيعة

(22)

مادية هولباخ والمعجزة الدينية

(23)

ريتشارد رورتي وفلسفة العقل

(24)

حقيقة العود الفكري والفلسفي

(25)

الجوهر: سجالات فلسفية

2392 علي محمد اليوسف

المقدمة

محتويات هذا الكتاب المتنوع العناوين خمسة وعشرين مبحثا تعالج قضايا فلسفية معاصرة عصّية في مخرجاتها الفكرية الحاسمة التي تجعل من الموضوع مغلقا على نفسه مصادرا أفق المساجلة المفتوحة جدليا على التفكير بلا نهائيات والنظرة المنهجية النقدية التحليلية لمباحث فلسفية مثار حضور نقاشي تداولي في تاريخ الفلسفة الغربية المعاصرة..

طرقت موضوعة الزمان الفلسفي في أربعة مباحث جديدة استكمالا لما كنت كتبته حول اشكالية الزمان الفلسفي التي تضمنتها مؤلفاتي السابقة في فصول ومقالات عديدة، ما تمتاز به هذه المباحث الجديدة التي تصدرت محتويات الكتاب أنها معالجة نقدية منهجية أعتدتها في مؤلفاتي السابقة، في أجتنابي العرض المخل الذي يكرر نفسه بما يفقده أية أضافة نوعية تستحق الوقوف عندها طويلا من غير المرور العابر عليها.

الفلسفة في أدق مهمة تقوم عليها أنها قراءة في تاريخها الفلسفي، التي لخصها فينجشتين قوله تاريخ الفلسفة هو نقد معنى دلالة اللغة في مباحثها والتزمت هذا المنهج ليس من واقع صحة مقولة فينجشتين بل من قناعتي بمنهج النقد الفلسفي لبعض طروحات الفلسفة الغربية.

ثم أنتقلت الى مواضيع فلسفية مختلفة متنوعة لها تعالق شديد متين بفلسفة اللغة والتحول اللغوي ونظرية المعنى في فلسفة العقل، لعل أبرز تلك الموضوعات إثنتين هما الموضعة اللغوية في تعالقها التجريدي بعلوم اللسانيات وفلسفة اللغة، وهو مبحث أستطيع القول أنه نادر في مباحث الفلسفة خاصة المعاصرة، لما يمتاز به من عمق فلسفي يجعل من الدخول في معتركه محفوفا بمخاطر عديدة ومجازفة تنسحب على الباحث غير المتمكن من توصيل قصدية مبحثه، قبل محاكمة قناعة المتلقي له.لكن يبقى جهدي محتفظا بميزة أني طرقت مبحثا تجديديا له مستقبل فلسفي مفتوح على الاهتمام به في موضعة اللغة.

الموضوع ألأثير عندي الوعي الفلسفي والذي لا يقل خطورة وحساسية عن مبحث موضعة اللغة ذلك هو مبحث يتحاشاه غالبية الفلاسفة لما يحتويه من مطبّات يتداخل بها الموضوع بإحساسات نفسية إدراكية وصولا الى الذهن والادراك العقلي. رغم عودة الانتباه لأهمية مبحث الوعي لما يحمله من تداخل ما يعتبر فلسفة القرن العشرين بلا منازع تلك هي فلسفة التحول اللغوي وتعالق الوعي وفلسفة العقل بها.

من المواضيع التي يحتويها الكتاب تناولي لفلاسفة الوضعية المنطقية المثالية عند بيركلي في تناوله المثالي للادراك العقلي، وجون لوك في مثالية منهجه التجريبي المعرفي. كما تناولت مفهوم الذات في الوجودية من وجهة نظر المفكر عبد الرحمن بدوي، ومفهوم ديفيد هيوم حول اشكالية الذاكرة والخيال، لأختم الكتاب بمواضيع فلسفية عن الايمان الديني بالمعجزات هي شخصنة الايمان الديني، والايمان الديني والعقل. والمعجزات الدينية وقوانين الطبيعة، وهولباخ والمعجزات الدينية، وموضوع مهم عن رؤية ريتشارد رورتي فلسفة اللغة من منظار فلسفة العقل التي يعتبر رورتي رائد فلسفة العقل بعد رائدها الاول الفيلسوف الانجليزي جلبرت رايل. من المواضيع المهمة الاخرى هو ديالكتيك الفلسفة الوجودية، وعلاقة اللغة بالمادة والادراك، وتطرقت الى الفلسفة التحليلية الانجليزية بمقالتين نقديتين، ثم انتقلت الى نقد مصطلح المنهج الفلسفي لدى ديكارت في ثلاث مقالات، وفي مقال فلسفي عميق وشائق عرضت منهج اسبينوزا حول الجوهر الالهي من منطلق مذهب وحدة الوجود في الصوفية والفلسفة.. تشكيلة مواضيع الكتاب الفلسفية هي تنويعة جديدة أعرضها برؤية نقدية إعتدت عليها في مؤلفاتي الفلسفية السابقة. ولا يمكن للمقدمة هذه المرور عليها بعرض توضيحي أجد من مهام القاريء الوقوف عليها ومعاملتها بتلق نقدي وليس بتسليم يقيني يصادر تفكير العقل المعرفي . فالفلسفة متراكم من إثارة أسئلة تتوالد عنها إجابات تبقى قاصرة فالقراءة النقدية الفاحصة عند المتلقي تجعله يخرج بمحصلة تساؤلات إثارتها مواضيع الكتاب ولن يجد في أي كتاب فلسفي جاد لا يطرح أسئلة إشكالية يقوم عليها جوهر الفلسفة.

 

علي محمد اليوسف /الموصل

كانون ثان 2021

 

 

صادق السامرائي: اللغة والتفكير!!

التفاصيل
كتب بواسطة: د. صادق السامرائي

صادق السامرائياللغة أداة التفكير، فلكي نفكر نحتاج إلى مفردات تساعدنا على التفكير والتعامل مع الأفكار بقدرات إدراكية عالية.

فالأفكار بحاجة لمفردات، وقوتها تتناسب طرديا مع كمية المفردات المتوفرة للعقل.

فإذا ضعفت اللغة ضعف التفكير، وهذا ينعكس على صورة الحياة القائمة ويتمثل بها.

ولهذا تجد المجتمعات القوية تبدأ بتعليم الأجيالها منذ ما قبل المرحلة الإبتدائية معاني الكلمات، وتضخ فيهم مخزونا لغويا يؤهلهم لإعمال عقولهم والإعتماد على تفكيرهم، ويستمر الضخ المكثف للمفردات ومعانيها ودلالاتها ومراميها حتى نهاية المرحلة الجامعية، التي يكون الشخص فيها قد إمتلك أدوات التفكير اللازمة للتعبير عما يريده ويراه.

إن وعي مفردات أي لغة تحتم على العقل التفكير، لأن المفردات ذات طاقة حيوية وقدرة على التواشج والتوالد، والإنطلاق في كينونات ذات قيمة تعبيرية عن فكرة ما.

وواقعنا العام يشير إلى نضوب المفردات في أجيالنا، وعدم إبتكارنا المناهج التعليمية المعاصرة للغة الضاد، فلا نتبع خطوات المجتمعات المتقدمة في تعليمها للغاتها، ونأخذ منهم ما يضر بلغتنا ويساهم في نضوب مفرداتها وتغريبها عن وعي الأجيال.

فمنذ منتصف القرن العشرين والنخب تجتهد في النيل من اللغة وتقويض أسسها وأعمدتها، التي توارثتها الأجيال بذريعة الحداثة والتجديد، وما حدّثت ولا جدّدت بقدر ما إستنسخت من الآخرين ما يناهض اللغة ويعاديها في ميادينها الإبداعية المتنوعة.

فتجدنا نغرق في كتابات عبثية هروبية خالية من الإضافات المعرفية، والزاد اللغوي الشهي الذي يعين على إثراء المعجميات الذاتية، بل ترانا نقرأ نصوصا خاوية على عروشها، لا تعيننا على إكتساب معنى لمفردة أو إقتباس عبارة ذات قيمة.

وهذا يعني أن نخب الأمة يساهمون في تجديبها من المفردات الضرورية لإنتاج الأفكار والإبداع الأصيل.

وعليه يتوجب الإهتمام بالكلمة ومعناها ومنذ سن مبكرة، وأن تكون النصوص المكتوبة بأنواعها رافدا مهما لإغناء القارئ بالمفردات المعاصرة اللازمة للتفكير التنويري وتفعيل العقل.

وبهذا يمكننا أن نقول بأن اللغة العربية أداة تفكيرنا، ووسيلتنا للإتيان بما يتوافق والإستجابات اللازمة لمواجهة التحديات القائمة.

أما القول بتفعيل العقول وهي خالية من أدوات التفكير فهذا هو الهراء بعينه!!

 

د. صادق السامرائي

 

كفاح محمود كريم: الديمقراطية والبيئة الاجتماعية المعاقة!

التفاصيل
كتب بواسطة: كفاح محمود كريم

كفاح محموديُرجع الكثير من علماء النفس والاجتماع ظواهر الانتهازية والتدليس، وما يرافقها من كذب واحتيال الى الخوف سواء ما كان منه في السنوات الأولى لحياة الانسان وتكريسه تربويا، او نتيجة منظومة الاستبداد الاجتماعي والتربوي والديني الذي أنتج جملة من العادات والتقاليد التي تقف بالضد من أي محاولة للحداثة ودمقرطة المجتمع والنظم السياسية. ورغم انها أي الانتهازية كسلوك اجتماعي أو سياسي من انتاج الخوف والرعب الذي تولده الانظمة القمعية الدكتاتورية منها وحتى بعض النظم الديمقراطية، وهي في واقع الحال واحدة من اخطر الظواهر التي أفرزتها تلك الأنظمة الى جانب الاستبداد الاجتماعي والتربوي على مستوى الاسرة والمدرسة، صفا بصف مع منتج آخر للخوف وهو الكذب وفقدان الثقة بالنفس وبالآخر، حيث اصبحت الانتهازية والتملق والتزلف بنات شرعيات للكذب السائد في مجتمعات الأنظمة الشمولية والبوليسية التي تحتضنها بين طيات تكوينها القبلي والعشائري أو في مؤسساتها الإدارية وصولا إلى قمة الهرم، وقد دفعت البشرية خسائر فادحة حتى استطاعت مجتمعاتها المتحضرة حل هذه الإشكالية بالتربية الحديثة والديمقراطية الاجتماعية والسياسية واحترام حقوق الإنسان بصرف النظر عن العرق والدين واللون والجنس.

لقد انعكست مظاهر الانتهازية والعدوانية على شكل التعامل بين السلطة والأهالي من جهة وشكل البناء الاجتماعي القروي والقبلي والنظام التربوي البدائي من جهة أخرى في التعاطي مع الفعاليات الحياتية بكل أنماطها في السياسة والمجتمع والاقتصاد والتربية والتعليم وحتى على مستوى العلاقات الشخصية بين الأفراد أو المجموعات، حيث تسود مشاعر الأنانية والحذر الشديد والتوجس إلى درجة الخوف من الآخر بل والشعور بالعدوانية تجاهه، ففي معظم مجتمعاتنا الشرقية التي تعاني من أمية أبجدية وحضارية وثقافة قروية وسلوك بدوي ما زال يسكن دواخل الكثير من الذين غيروا أشكالهم وديكوراتهم بإكسسوارات المظاهر دونما الالتفات إلى نوعية السلوك وتقدميته إلا بالقدر الذي يحافظ على مصالحهم الذاتية والمظهرية والتي تنحصر في مجملها بعقلية الربح والخسارة، تسبقها دوما سوء النية في التعامل اليومي والتعاطي مع تفصيلات الحياة اليومية بين البشر، على خلفية البقالة المجردة من المشاعر الخلاقة.

لقد مارست الطبقة الحاكمة سواء كانت فردا أو حزبا أو شريحة اجتماعية، ضغوطا هائلة على المجتمع من خلال المجموعات التابعة والملحقة بها من المستفيدين من عطاياها وسلطنتها الذين يشكلون خطوط حمايتها وأبواق دعايتها وسدنة حكمها ومن ثم مراكز هيمنتها وإداراتها، حيث تولت هذه (الملحقات المعوقة) مسؤوليات إدارية واقتصادية وحتى اجتماعية مهمة في المجتمع والدولة وخير مثال على ذلك تلك المجاميع التي أنتجها النظام الدكتاتوري من خلال مؤسساته القمعية والحزبية من الأميين وأنصافهم منذ بدأ حقبة الانقلابات في كل من العراق وسوريا والجزائر وليبيا واليمن وايران والسودان وبقية الدولة الاخرى المشابهة، وتولي الكثير منهم قيادات مهمة في الجيش وحقائب وزارية وإدارات المحافظات والمدن وحتى في الجامعات وعماداتها، ناهيك عن عشرات الآلاف من صغار ومتوسطي الموظفين في كل مفاصل الدولة.

وبدلا من تكريس الحياة المدنية ونقلها إلى الريف والقرية وإحداث تغييرات اقتصادية واجتماعية ترتقي بها من تلك الأنظمة المغلقة والمحدودة والمقيدة بنظام العبودية للشيخ والأغا وأحيانا كثيرة لرجال الدين القرويين أشباه الأميين إلى مستويات اعلي وأكثر تطورا، بربط تلك المناطق بمنظومة من الطرق والاتصالات والخدمات والمناهج التربوية التي تحدث تغييرات مهمة في بنائها التحتي، عملت كل الانقلابات التي هيمنت على السلطة وادعت تغيير النظام السياسي والاجتماعي وأحيانا كثيرة الاقتصادي السابق لها إلى نظام جمهوري مدني اشتراكي، لا إلى نقل المدينة إلى الريف بل حصل العكس بنقل الريف وتهجيره إلى المدن، مما أضاع فرصة ثمينة لتطوير الريف والمدينة بل عمل على مسخ هوية المدن وإغراقها بأنماط قروية وقبلية في السلوك والتصرف.

وخلال عقود قليلة تحولت تلك الأفواج من القرويين إلى مجموعات منقادة اخترقت كل أنظمة المجتمع والدولة وبخاصة مؤسسات الجيش والشرطة والتعليم الأوسع انتشارا من غيرهم في الهيكل الوظيفي للدولة، هذه المجموعات التي أفرزتها تلك الأنظمة المستبدة سواء ما كان منها على دفة الحكم أو ما كان منها على شكل منظومة عادات وتقاليد اجتماعية استبدادية وهي بالتالي تشكل العمق الاجتماعي للأنظمة السياسية المستبدة حيث بساطة التفكير وسذاجته وعقلية القطيع التي سهلت مهمة الأنظمة في السيطرة على هذه المجموعات التي نقلت معها كل سلوكيات القرية والبداوة إلى مراكز المدن بحثا عن العمل أو الارتزاق خلف أنظمة سياسية استبدادية تستغل سذاجتها لاستخدامها أدوات سلطوية وقمعية في أجهزتها الخاصة كما تفعل معظم أنظمتنا السياسية هنا في الشرق الأوسط في الاعتماد على مجاميع من القرويين والقبليين في حماية النظام ورموزه ومؤسساته العسكرية والأمنية، حتى وصلت إلى مفاصل مهمة في مراكز القرار في الدولة والمجتمع مما تسبب في ظهور عوق اجتماعي كبير هو ما نسميه بالنفاق الاجتماعي والانتهازية المقيتة.

إن الديمقراطية ليست تداولا سلميا للسلطة من خلال صناديق الاقتراع في مجتمعات مشتتة الانتماءات والولاءات، بقدر ما هي عملية إحداث تغييرات اجتماعية تربوية جذرية تشمل كل مناحي الحياة وطبقات المجتمع، وبخاصة ما يتعلق بإزالة هواجس الخوف المنتجة لكثير من مظاهر العوق الاجتماعي في الكذب والتدليس والسلبية في التعاطي مع الآخر، وتحديث أساليب التربية والتعليم والانتقال من التلقين وصناعة القطيع إلى التربية النقدية والمبادرة وحرية التعبير وقبول الآخر المختلف، وإزاء ذلك لا يمكن إتمام أي عملية تحديث مع وجود مد عشائري في ثقافته وسلوكياته وتركيباته وطغيانه على النظم الاجتماعية والسياسية، وستبقى هذه المظاهر من اكبر التحديات والمعوقات الحقيقية في طريق إحداث أي تغيير باتجاه بناء مجتمع مدني ديمقراطي.

 

كفاح محمود كريم

 

 

ظريف حسين: لماذا نؤمن؟!

التفاصيل
كتب بواسطة: د. ظريف حسين

ظريف حسينالإيمان الديني لا علاقة له بالمنطق العلمي فيما يتعلق بإمكانية وجود كائنات عالية،  بعكس كل إيمان وضعي آخر.

و من المفارقات التي يقع فيها العقل الملحد هو أنه لم يرَ هو نفسه كيف جاء إلي الوجود، ولا كيف كان ميلاده إلا ما حكاه له أهلوه ومعاصروه، ومع ذلك يجادل في وجود أصل غير طبيعي لوجود الأشياء جميعا دفعة واحدة وهو منهم.

و أعتقد أن أكبر حماقات العقل الملحد هو هوسه بالإيمان العلمي القائم علي الملاحظة والتجربة أو الرياضيات التي لا تضيف شيئا جديدا للوجود. فالعقائد العلمية موثوقة لأنها تري فعلا ما تقرره، وتتأكد منه باستمرار وبلا أدني شك. وبذلك لا يمكن قياس الحقائق الدينية علي الحقائق العلمية: فالحقائق الدينية مِلك معتنقيها فقط، ولا يمكنهم نقلها إلي غيرهم إلا إذا تعاطف معهم فيها هؤلاء.

لكن الأهم هنا هو المبدأ الأساس لكل الأديان وهو عدم كفاية التفسير الطبيعي لنشأة العقل والنظام الكوني الدقيق؛ فليس من الممكن- ولم نر حتي الآن- تفسير كيف نشأت الخلية الحية من مكونات غير عضوية، ثم مبدأ تطور الكائنات الحية باتجاه العقلانية ورُقِي الشعور، والوعي الذاتي.

ولخلفيتي العلمية فإنني لم أقتنع يوما بأي حجة من حجج الذين يروجون للإلحاد استنادا إلي الحجة الطبيعية، ومعناها أن "كل شيء جاء من الطبيعة ويظل فيها ولا يمكنه أن يتجاوزها"، أي أنه ببساطة يعتقد بأن "الطبيعة هي كل شيء"، وبذلك فلا حاجة بنا لإله عاقل مُريد قادر، ثم إنهم ينسبون كل صفات الله المعروفة في الأديان للطبيعة ويُسمُّون الله الطبيعة.

فأما غايتهم فعملية وهي التخلص من مثالب الأديان كما أفرزتها أفهام المتدينين عبر التاريخ فيما يتعلق باستغلال العقائد في صياغة قوانين ونظم اجتماعية تفرق بين الناس علي أساس طبقي يضع في الاعتبار القرب من الله والبعد عنه. وكانت هذه الاعتبارات وما زالت هي النقاط الأضعف في قلب الأديان، وقد جرت عادة النقاد أن يتلقفوا المتدينين بأطنان من السخرية من النتائج العملية للتدين، فقد قام المستغِلون سواء بحسن نية أم بغير ذلك بعمل كل شيء لتشويه الأديان، فضلا عن التفاسير التاريخية والاجتماعية والنفسية... للأديان بما يعيدها مرة أخري إلي حظيرة الطبيعة!

" فالله هو الطبيعة وبناء عليه فكل تفاسير نشأة الدين طبيعية أيضا، وبالضرورة". وهذه هي خلاصة نقد الأديان التي ينتجها ويعيد استهلاكها في كل لحظة العقل الملحد.

ولو عدنا إلي المعيار الوحيد للإيمان الديني فإننا نجده "الاعتقاد بإمكانية وجود أصل غير طبيعي لوجودنا". وهذا الاعتقاد ليس ضد العقل كما يزعم الملحدون إلا إذا اعتقدنا معهم بأن "العقل هو كل شيء تماما كالطبيعة".

ولكن سير الحياة يُثبت عجز العقل عن معرفة كيف نشأت العقلانية نفسها، ولماذا وُضع المخ في هذه العلبة المصفحة التي تسمي بالجمجمة، ولماذا أحيطت الرئتان بدلا من ذلك بشبكة من الضلوع المرنة، وقل مثل ذلك علي تأهيل كل شيء لأداء وظيفته طبقا لتكوينه، فمهما اصطنع الملحدون من حجج تستند إلي منطق داخلي في الطبيعة يجعلها حكيمة موجهة للكائنات بهدف الاستغناءعن فكرة الله، فإنهم لن يفعلوا إلا نقل الفعل من الله إلي الطبيعة، وكفي.

ولكن هذا الإيمان بعدم قدرة العقل عل الإحاطة بكل شيء لا يعني تسريب كل ما لا يُعقل، من خلال ثقوب هذا العقل الواسعة، كالموضوعات العامة للخرافات والحكايات والأساطير مهما كانت أشكالها والإدعاءات التي يروجها بعض المتدينين لاستغلال حاجات الناس للعزاء الكامل والدعم النفسي وحل المشكلات الشخصية والاجتماعية...فلم يترك المدَّعون فرصة لاستغلال غيرهم إلا اغتنموها، ولم يتركوا ثغرة إلا دخلوا منها، وكانت هذه وما زالت أخطر نقاط ضعف الدين بصفة عامة، كما أسلفت.

وتبقي الغاية من الإيمان وهي الشعور بالتوافق النفسي والاجتماعي والسعادة وتلقي العزاء من الله، والشعور بالأنس ضد وحشة هذا الوجود، فضلا عن إشباع فضول الإنسان لمعرفة كيف جييء به إلي هنا، ولماذا الآن!

 

د. ظريف حسين

أستاذ و رئيس قسم الفلسفة بجامعة الزقازيق،مصر

 

 

أنْرِيك دُسّال: المَوقِف الرِّعائيُّ والمَوْقف النُّبُوَّيّ

التفاصيل
كتب بواسطة: د. عادل بن خليفة بِالكَحْلة

عادل بن خليفة بالكحلةنص من نصوص لاهوت التحرّر

د. أنْرِيك دُسّال[1]

ترجمة: د. عادل بن خليفة بالْكَحلة

اللاهوت هو لوغوس عن وحي الله في التاريخ. وهذا اللوغوس، الذي هو تأمّل في موضوع الوحي، جزءٌ من اللاهوت الواحد، وله أيضا بُعْدٌ رِعَائي. والحقيقة، أن كل ما قلتُهُ رِعائي، ومن أجل التطبيق العينيّ، فهو ليس غير تِبْيان بأي صفة كان رِعائيّا.

اللاهوت التأملي واللاهوت التطبيقي هما واحد ونفس الشيء[2]. ففي عهود الانحطاط تم التمييز بين اللاهوت التأملي واللاهوت التاريخي واللاهوت التطبيقي. كلُّ ما قيل إلى الآن هو في الوقت نفسه وحيٌ وبْرَكْسيس، وراكسيس وتاريخ. وهذا المُجْمَلُ هو الذي يفسر ما يمكنُ أن يحدث كلَّ الأيام.

أريدُ رغم ذلك العودة إلى بعض النقاط لإيضاح الموقف الرِعَائي خاصةً اليومَ. ليس لمعرفة كيفية هذا وذلك، وإنما موقفًا.

1- مُساءلةٌ في الكلية موقف الاستماع:

«المَوْقف» هو أسلوب في رؤية الأشياء مُسبقا، إنه أسلوب نرى به الحقيقة، بما هي طبيعة ثانية. فنحن نرى شيئا، ولما نراهُ بدأ في مشاهدته بأسلوب ما. هذه المشاهدة تصبح كأنها طبيعتنا، وذلك ما هو مَوْقف.

يصنّف اللاهوتيون الاتّباعيون تلك فضائل وتلك رذائل. وفضيلة العدل، هي أن أحبَّ الآخر، انطلاقا من حبّ الـ«أنت» بماهو «آخر»، وليس بما هو أداة لي أستطيع استخدامه، فأعطيه ماهو حقيق به بماهو «آخر»، أحقّق العدل. مِنْ ثمّة يكون الموقف مُقدَّمًا، وضمن الرِّعَائي.

الموقف المسبّق ضروريّ، وماهو محلّ سؤال هو أن يكون لنا الموقف الرّعائي سامحًا لنا باكتشاف جِدّة ماهو آتٍ، وأن نجد حَلاّ جديدًا لهذه الجدّة. إننا لا نستطيع استعمال أي منهج يُصبح تكرارًا بسيطًا للماضي. ولكن بما أننا في فترة تغيّر عميقٍ، ينبغي أن تكون لنا أذُنٌ واعية لسمع الكلام الجديد باختلافه، وأن تكون لنا أعيُنٌ مفتوحة جيدا لرؤية ما يتقدّم، وذلك انطلاقا من الكلام الوحْياني.

ففي دهشتنا بهذه الجِدّة (والدهشة هي أن نشاهد في الحقيقة)، نستطيع ببساطة، ضمن مسؤوليتنا الكاملة، والاعتقاد في العينيّ من عدم الحرية، أن نفعل شيئا.

لماذا قلنا: «مِنَ العَدْم»؟ لأن الحرية إذ كانت غير مشروطة، ليست شيئا مِن العينيّ بعد، ولا «معنى» لها بالنسبة إلى الكليّة. إنها تخرج من عدم شرطيتها، هنا وهي تريد حرية الآخر. هنا تكمن أنثروبولوجيا للخَلْق مازلت لم تُكشَف بعد.

أوَّلُ موقف (لا نصل إليه في يوم ولا في أسبوع فلا بد من سنوات) هو أن نعرف أننا جزئيا مُحَدَّدُون. جزئيًا محدّدُون سَلَفًا من قِبَل كُلّية عَالَمِنا، وأن نعرف أنّ عليا شعورًا بِثِقَل سُنن وأحكام مسبقة. إننا ننتمي إلى جماعة، وليس إلى الجماعات، وإلى شيء لا إلى كل الأشياء. نحن حينٌ من أحيان الكنيسة ولسنا كل الكنيسة.

إننا كلّ ما نرى، وذلك من خلال زاوية ما؛ وإذا عرفنا ذلك يعني أن نَقْبَل حدود أسلوب رؤيتنا، ولكي نقبل هذه الحدود يجب أن نقبل أيضا أن الآخر يحمل رؤية للحقيقة تختلف عن رؤيتنا. ولذلك أيضا، ينبغي أن أعرف الاستماع لما يقوله لي؛ ويجب خاصة أن لا أجعل نفسي إِلاهًا.

أتدرون لماذا أقول ذلك؟ ذلك لأن الله وحده يتأبّى على الإشراط. فنحن مشروطون لأننا جزء من شعب، ومن طبقة اجتماعية، وأننا ننتمي إلى ثقافة، فكل هذه الاشتراطات تُحدِّدُنا، وأحيانا تجعلنا مغتربين (...).

تَثْقُلُ علينا الاغترابات الثقافية. فإذا كلّمتُ عاملاً شابا، يَثقُل عليّ اغترابُ ثقافة أكاديمية جامعية إذْ أسْتعْمِلت كلمات لا يفهمها، فأقول: «إنه أمّيّ». ولكنّ ذلك خاطئ، فيمكن أن بعض كلامي يتخذُ معنى آخر. فما أعبّر عنه يفهمه بصفة أخرى أو لا يفهمه، لأن تجربتي بالعالَم ليست تجربته الخاصة. فهنا حوارُ صُمَّ، بل نحن أبْكَمَانِ. فالكلامُ النازع للسيطرة هو دائما أبكمُ. إنه مُلحِدٌ بـ«الآخر».

هناك أيضا اشتراطات مَعَاشِيَّةٌ. لي وضع، وهذا الوضع هو أيضا عامل إبعادٍ.

2- الإشراط الديني بالكاثوليكية الشعبية:

لدينا إشراطات دينية. بهذا المعنى، نحن رُبّما مبتعدون عن التديّن الشعبي، وليس لدينا معايير لكي نحمل حُكمًا عليها. نواجه هنا كل مشكل التديّن الشعبي للكاثوليكية الشعبية.

إذًا، عِوَض: «كلنا كاثوليك»، لم تبْقَ إلا جماعة صغيرة لكي تكون كاثوليكية، أي الواعية بالعقيدة، وما بقى من الشعب ليس كاثوليكيّا، لا يحمل سوى تديّن ملتبس كثيرا، موروث عن أزمان ما قَبْل هِسْبانية[3].

في ما يخصّ الكاثوليكية الشعبية، تَجَاوَزنا عدة فترات في تحليل هذه الظاهرة، وهي فترات هامة جدا في تاريخ الكنيسة الأمريكية- اللاتينية[4]. ففي بداية الوعي، نحو سنة 1930، مثلا، أو حتى سنة 1940، كنّا نقول: «90% من شعبنا مُعمَّدٌ، بل حتى أكثر؛ 90% وأكثر يعتقدون في ذا وذاك. فكلّهم كاثوليك».

أمّا المرحلة الثانية، فمختلفة (...) كَتَبَ الأب هُرْتَادُو كتاب: الشيلي: هل هي بلاد كاثوليكية؟. فلقد اعتقدنا أنّنا كاثوليك، في حين أنّنا لسنا كذلك. وقد بدأنا في القول: «في الحقيقة، هؤلاء الناس ليسوا على العقيدة المسيحية. فلهم معتقدات دينية، معتقدات باطلة وتقاليد غريبة (...)».

بالمرحلة الثالثة، بدأت هذه النخبة من اللاهوتيين المتكوّنين بأوروبّا تقتنع بأنّها لا تمتلك معايير لتقول إنَّ الشعب على العقيدة أو على مضمونها.

وعلى المستوى اللاهوتي، اكتشفنا أنفسنا مغتربين، فتساءلنا: «ما العمل لنعرف هل الناس على العقيدة أمْ لا؟». هُنا يأتي عالِم الاجتماع (...)[5].

اكتشفنا أن العقيدة ليست بالضرورة واعية بالذات، ولا مرتبطة بمستوى معيّن من الثقافة. فعقيدة الأبطال، والشهداء، والقديسيين الكبار، والأنبياء، ليست بالضرورة واعية بالذات، ولكنْ كانت معيشة بطريقة أصيلة وفي الممارسة.

بهذه النقطة من التطور، اندثر الوعي بالذات نُخبَةً، الذي أتانا من اللاّهوت المُتأوْرِب، وأصبحنا ننظر بكثير من احترام لعقيدة الشعب[6](...) «كلهم كاثوليك، باعتبار أن 90% معمَّدون»؛ [ولكننا] نعلم أن هذا التعميد طُلِبَ في كثير من الأحيان لإشفاء طفل من «إصابة بالعينين»، أو من انزعاجات مَعِدِيّة.

ولكن في عمق كل هذا، هناك انفتاح على المُطْلَق، وتجربة لهذه الحدود، ولصغرها، فهي تجربة دينية ذات قيمة. هنا تبدأ شكوكنا منه جديد، وبذلك نبدأ رَهْبانِيّتنا.

يعني ذلك أنْ نعي بهذا الاحتكاك في الحوار لكي نَكُفّ عن الانغلاق داخل «الكل»؛ هذا «الكل» الذي هو عالَمنا (...) فمن الضروري أن يموت بَذَار كُلّيّتِنَا، لتُولد حياة الآخَرِ، ولنُولَد فيه (...).

الحياة اليومية سهلة جدّا، ولكننا عقّدناها إلى حدّ أن من الصعوبة العودة إلى البساطة. ومن الهامّ معرفة التجارب التي أجْريتْ في هذا الاتجاه. فما يسمح لأي طائفة بالدّوام سنوات وسنوات (عشر سنوات أو 15 أو 20 أو 30)، هو البساطة الأكثر إطلاقًا، أي يومية الحياة. وهذا يعني، على السّواء، طوائف المنازل والطوائف المكوَّنة من علماء دين أو أساقفة أو لائكيّين.

3- الموقف النقدي:

على نطاق ثان، يجب على هذه الطائفة ومِنْ يكوّنونها اكتشاف الوظيفة النقدية للإيمان. فينبغي أن نعرف أنّ الذي يُكوّن الإيمان في التاريخ، في العالَمَ، هو الصراع ضدّ الپانْثِيونية[7]؛ أي الصراع ضدّ منْ يعتقدون أنفسهم آلهة، بمعنى الصراع ضد المشاريع التي جُعلت مُطلقة، وذلك ما يعود إلى الصراع ضد الوثنية. إنّه الصراع ضد الخطيئة، ضدّ اضطهاد الإنسان للإنسان هذا، كل ذلك هو الشيء نفسه. فعلى المسيحي أن يُعيد اكتشاف النقدية والتحريريَّ في الإيمان.

والنقد –بَدْءًا- ليس مسألة كلام، ولكنْ هو أساسا مسألة فعل. تماما، كعيسى الذي سيجلس إلى جانب جابي الضرائب وذي الخطيئة (...). فعِيسى[8] مع الشعب، وهذا ما يجب فعله: فالدخول في هذه الوظيفة النقدية التي تتمثّل في وضع النّظام الذي أقامته السيادة محلّ سؤال، وإفهامه أنّه يجب أن يدخل الحركة.

يجب اكتشاف ذلك بطريقة مسيحية. فكل من يلتزم بهذه الوظيفة النقدية. التَّحرُّرِيَّة يفهم الإنجيل[9]، وربما لأوّل مرّة (...).

4- الإلتزام بالبْرَكْسِيس التحريري:

(...) إن السلطة بماهي سيطرةٌ هي سلطة الشيطان نفسه، فهي سلطة القوة والخطيئة. إنها –بدقة- جَعْلُ الخطيئةِ الأصلية مؤسسةً. ولمّا يتبنّأ النبيّ، ولما يُعْلِنُ الإنجيلَ، من الطبيعي أن تتلبّد عليه السلطة المَعاشية، والسلطة السياسية، والسلطة العسكرية، وكل سلطات العالم. وينبغي أن نعي بأنه حتى إذا لم نَدْخُل السياسة، وحتى إن اكتفينا بأن نعيش على المسيحية، فإنّ للإيمان المسيحيِّ – رغم ذلك- وظيفةً سياسيةً.

الكلمات الختامية:

النصُّ الذي يَحْضُرُني لإنهاء هذه المحاضرات، وهو ما أعدتُهُ عَلَيْكم بَعْدُ، هو نص إنجيل لوقا، الآية 24، حيث يتحدث عيسى لحواريّيه بكل الحكمة المُطلقة عن الذي يعرف أنه هَزَم التاريخ الماضي والتاريخ الآتي، بفضل وساطة الناس الذي يَخْدِمون الآخَرَ، خارج نظام السيطرة. قال لهم عيسى: «قُوموا!». وكلمة «قُومِي» في العِبرية[10] تعني: «لِتَقُمْ!». لتتذكروا الطفلة الصغيرة التي ماتت وقال لها عيسى: «طَلِطَا قُوُمِيِ!» (أيتها الطفلة قُوُمِي!).

أن نقوم، هو نفسه أن ننبعث. فينبغي أن نقوم كأننا كُنَّا أمواتًا وتوسدّنا القبر. «فانتصبوا وارفعوا رؤوسكم!»، فقد تحطمنا بالمعاناة والتشاؤوم والاضطهاد، كالرقيق الذين لا يملكون الشجاعة للنّظر إلى السادة قُبالتهم. فالقبر أو الاسترقاق، هو السيطرة مِنْ داخل الدين المسيحيّ. وإذا اندثرت، نستطيع القول: «حمدًا لله، لأنه حُرِّرَ الدينُ المسيحي»[11].

«فانتصبوا وارفعوا رؤوسكم، فتحرّركم قريب!». نعم هو قريب. أوّلا لأن لنا عَدَدَ سنواتٍ صغيرٌ أمامنا. ولكن علاوة على ذلك، هو قريب لأن الذي يُمارس حياته على المشروع التاريخي، هو مَنْ يُمارس حياته من أجل مملكة الله، التي بدأت بَعْدُ.

يجب أن لا تعتقد أن بطريقة أثيرية سنُحقّق مملكة الله، فنحن نُحقّقُها بوساطة التاريخ، أي بالمشاريع التاريخية العَيْنِيّة، ولكنْ كلُّ مشروع تاريخيّ عينيّ لا يحقّق بكمالٍ مَمْلكة الله.

بعضهم يقولون: ما ينبغي فِعْلُهُ الآن، هو ذا مُشَيَّدًا في المُطلق. ولكنْ هذا هو الوثنُ الذي ينبغي تحطيمه يوْمًا، فالشيوعية[12] ليست مطلقا، ولكنها صنم.

وجعْلُ مملكة الله مملكةً أرضيةً هو أيضا خطيئة. ولكن على المسيحي أن لا يقول لنفسه: بما أن مملكة الله ليست من هذه الأرض، لن أفعل شيئا إذْ لا تُوجد مملكةُ تاريخيةٌ. هذا خطأ، إذْ يجب الالتزامُ- عكس ذلك- وإعطاءُ الماء لمن هو عَطِش. وهذا الماء، هو مشروع تاريخي. فينبغي العيش في الحماسة، والعمل على تحقيق ما نَعْلمُ أنه –فضْلاً عن ذلك- نِسْبّيٌّ وقابلٌ لأن يكون مُتجاوَزًا. فينبغي الفعل لأن ذلك هو الطريقة الوحيدة لإظهار مملكة الله.

أخذ المسيحُ يَدَ المشول وأعطاه إمكانية المشي، وأعطى المريضَ الصحةَ. وكان ذلك علامة التي تقودنا إلى السؤال الثاني: «هل أنت مؤمن؟ إذنْ ليخلّصْك الله!»

إن رسالة المسيحية لن تكتمل ببناء كنائس من حجارة، ولكن بالالتزام في بناء المشروع التاريخي، والسياسي، المَعاشي، الانتحالي، للشعبُ[13]، وهو الوَسَاطة العينيّة للمملكة. فالمملكة تُبنى عبر المشاريع. فإذا لم تكن هكذا، فلن تكون الأُخْرَوِيَّة أبدًا[14].

نجد هنا الحلَّ للتناقضات التي تظْهرُ كل يوم، حتى لدى الناس الذين يبْدون أكثر تَنَوُّرًا.

 

.....................

[1] أنْرِيك دُسَّالْ هو...

[2] Dussel (Enrique), Histoire et théologie de la libération, Perspective Latino- Américaine, Les éditions ouvrières, Paris, 1974, pp 163-181.

[3] الهِسْبَانية: هي الثقافة الناطقة بالإسبانية في أمريكا الجنوبية (المترجم).

[4] مصطلح «أمريكا اللاتينية» يحمل مركزية أوروبية وإقصاءًا للساكن الأصلي لأمريكا الجنوبية، وللموطّنِين هناك من أفارقة سود ومِنْ مَنْفِييّن جزائريّين وتونسيين (في غُويّانًا) المترجم).

[5] ... لم يقم الأزهر والزيتونة والنجف بهذا النقد الذاتي بَعْدُ!! ﴿....﴾. إنه الغرور! (المترجم).

[6] هل سيفعل ذلك «اليسار » و«الإسلام السياسي» التونسيّان، أما سيواصلان استخفافهما بها؟؟

[7] الپانثيون: هو مَجْمع الآلهة.

[8] في النصوص المسيحية العربية الأولى، نجد «عيسى» و«يسوع»، حتى في الشام نفسها، حسب تنّوع لغات اللسان العربيّ.

[9] هل تواضع الإسلام الإخواني واليسار العربيان ليفهما القرآنَ، باعتبار أن الشعب يُقَدّسُهُ؟؟ ما زال «يسارنا» ملحدًا، ولذلك ما زال شعبنا يعاقبه في الانتخابات بـ0.01% من النجاح!! إنه «يسار» غير شعبي ومجرد تيار علماني نخبوي.

[10] ليست في العبرية – بما هي لهجة عربية- سِرْيانية وحدها، بل في كل اللغة العربية بأشكالها (المترجم).

[11] ... متى سيتحرر الدين الإسلامي من سجّانيه؟!!

[12] اندماج لاهوت التحرر بالاشتراكية المبحوثة باستمرار، والمندمجة بدين الشعب، وليس مع ما سُميّ «الشيوعية» أو «الستالينية» أو «الاشتراكية العلمية» (ولا «علميّ» غيرها!) بدكتاتورية حزبية وميليشياوية، هو الذي أنتج التغيّر الثقافي الجذري الذي تعيشه أمريكا الجنوبية منذ عقود.

[13] أين التوجه الشعبي للإخوان المسلمين عندما سيطروا على برلمانات ما بعد 14/1/2011؟؟ حتى ميزانية 2021 التونسية كانت فارغة من المضمن الاجتماعي. إنه التحالف الكلي مع الكمبرادورية والدولة العميقة والفساد!

[14] قارن الأخْروية المسيحية المشروطة بمجيء المسيح في اكتمالها، بالأخروية الإسلامية المشروطة بمجيئه أيضا.

 

صلاح حزام: هل ينجح الريف في ادارة المدينة؟

التفاصيل
كتب بواسطة: د. صلاح حزام

صلاح حزامالريف تاريخياً وفي كل العالم يسبق وجوده وجود المدينة، والمدينة كيان تقدمي جاء لاحقاً ليتجاوز شروط الريف. ظهرت القوانين العابرة للعشيرة والطائفة وظهرت اشكال الحكم العابرة لحكم زعيم القبيلة وظهر الاقتصاد الحديث والمؤسسات المختلفة في المدينة كالجامعات وغيرها.

من مؤشرات تقدم الدول تنموياً ازدياد اعداد السكان الذين يسكنون في المدن وتقلص سكان الريف ..

وتُصنّف اماكن سكن الناس على اعتبارها ريفاً ام حضر، على اساس توفر مجموعة من الخصائص العمرانية التي تتغيّر بموجبها صفة المكان من ريف الى حضر (مدينة).

وفي الدول المتقدمة يتقلص عدد سكان الريف باستمرار طبقاً للتقدم في عملية التنمية، حتى ان نسبة سكان الريف قد تصل الى ٢٪؜ من اجمالي السكان.

سكان الريف يعملون في الانتاج الزراعي، وبما ان استخدام التكنولوجيا الحديثة في الزراعة يتوسع باضطراد، فأن الحاجة للعمال الزراعيين تنخفض بشدّة مما يخلق فائضاً في الايدي العاملة التي تتجه الى المدن المزدهرة لكي تعمل في القطاعات المزدهرة كالصناعة والخدمات بعد تأهيلها وتدريبها.

سكان الريف والعاملين في الزراعية لهم بيئة ثقافية ومهنية واجتماعية مختلفة عن تلك السائدة في المدينة لاسيما في دول العالم الثالث كالعراق مثلاً.

فالعلاقات العشائرية والقيم الاجتماعية والولاءات تختلف عن تلك الموجودة في المدينة.

ابن خلدون عندما تناول هذا الموضوع، تحدث عن هذه الفروقات .

سكان الريف يلتفّون حول زعامات محلية تكون قبلية في الغالب ولهم اسلوبهم في العيش الذي يختلف عن ذلك الذي في المدن ..

ولكي لايذهب البعض الى مقارنة بغداد،على سبيل المثال، بالارياف التي تقع خارجها ليقول مُستنتجاً :ان بغدا اصبحت قرية كبيرة وليست مدينة عصرية.

دعونا نأخذ مدينة أخرى كبيروت او القاهرة ونقارن مالديها من مسارح وسينمات ومكتبات وجامعات ومعاهد ومؤسسات سياسية واجتماعية ونشاط اقتصادي وبنوك وشركات تأمين وشبكات مواصلات واتصالات الخ .. يعمل فيها مئات الآلاف من البشر،نقارن ذلك كله بما هو موجود في القرى والارياف !!

هذه الكيانات والنشاطات تنعكس حتماً على طبيعة تفكير الانسان وتصوراته عن الحياة وعن المستقبل . الانسان فيها يتعامل ويحتك مع الملايين من الناس من أهل البلد ومن الاجانب ويتعلم الدروس وينفتح ذهنه.

في الريف، الوضع مختلف وهنالك سيادة للنمطية في سياقات الحياة .

لذلك كله، لايجوز ان يحكم الريف المدينة لانه سوف يحكمها بعقلية الريف ولن يسمح لها بالتطور . ليس ذلك عملاً متعمداً، لكنها عقلية الريف المحافظة التي لاترى التطور ولاتعرف كيف تشجع عليه.

وحتى ان امتلكت الرغبة فانها غير قادرة، لان قيم الريف ونظرته للتراتبية والسيادة وصلاحية صنع القرار، مختلفة عن مثيلتها في المدينة تماماً.

نظرتهم الى الديانة المختلفة والقومية المختلفة والعِرق المختلف واللون المختلف والجنس المختلف (الانثى)، تجعلهم يتحسسون من ذلك الاختلاف !!

الولاء والقربى لديهم اهم من الكفاءة والمهنية !!

بعض الارياف فيها عنصرية وازدراء لبعض الجماعات ولاتستطيع العيش تحت إمرتها وسيادتها اطلاقاً حتى لو كلّف ذلك مستقبل التنمية !!

بل ان نظرتهم للتنمية قد تكون مختلفة نتيجة نمط العيش البسيط والزاهد والصوفي احياناً الذي يَعتبر المطالبة بالنماء نوع من الطمع والبذخ غير الضروري، خاصة عندما يدعمون ذلك بتفسير خاطيء او مُغرِض للنصوص الدينية.

وكان العراق تحت حكم الريف والقرية منذ الستينيات عندما وصل العسكريون للسلطة وأخذوا يجمعون الموالين من الاقارب وابناء القبيلة حولهم لضمان الولاء وخوفاً من الانقلابات، بعد ان اختفت مؤسسات التداول السلمي والديمقراطي للسلطة.

اذا لم يكن هنالك مؤسسات ديمقراطية، فالبديل هو الشخصانية والمزاج والتقدير الشخصي للمواهب والولاءات.

وهنا تكون الموهبة والمهنية اول الضحايا لذلك النهج .. وتتعثر مسيرة التنمية وتكثر الاخطاء ..

جاء الناس الى المدينة في العراق على شكل موجات نازحة واستوطنت هوامش المدن بحثاً عن فرصة افضل للعيش وهرباً من ظروف الريف البائسة التي اهملتها التنمية. لم يأتِ الناس الى المدينة بالتدريج كما حصل في اوربا عندما انخفضت الحاجة للعمل في الريف في مقابل ازدهار الحياة الاقتصادية في المدينة واشتداد الحاجة للأيدي العاملة .

لدينا جاؤوا الى حواشي المدن وهم يحملون قيمهم القديمة التي طغت على بدايات القيم المدنية المبكرة في المدينة وأزاحوها.. وازداد الأمر سوءاً عندما استولى ابناء الريف على السلطة.. وهنا اصبحت الأمور كما يعرف الجميع.. عند الازمات تستدعي سلطة ابناء الريف، كل قيم ومشاعر العصبية الريفية وتحيط نفسها بابناء القبيلة والمنطقة مفرطةً بكل الكفاءات المدنية .. بذلك ضاع حلم التنمية..

من يحتج بان ابناء الريف قاموا ببناء طريق او مصنع فاشل (بغض النظر عن الدعاية الحكومية، فأن الاغلبية الساحقة من مصانعها خاسرة وغير مجدية وتعمل بالدعم الحكومي او احتكار السوق من خلال منع استيراد المنتجات المشابهة) او بناية، اقول لهم هذه ليست التنمية الشاملة والمستدامة التي هدفها ووسيلتها الانسان .

في المقالة السابقة التي تتحدث عن اسباب عدم امتلاكنا حياة سعيدة، اشرت الى عدد من الممارسات التي افسدت حياتنا والتي هي امتداد لحياة وقيم وممارسات الريف.

 

د. صلاح حزام

 

 

علاء اللامي: قصة الأرقام العربية الغبارية والأخرى الهندية الهوائية

التفاصيل
كتب بواسطة: علاء اللامي

علاء اللاميلنبدأ بالتفريق بين الأرقام والأعداد: فالأرقام ليست أعداداً وإنما هي أشكال تكتب بها رموز الأعداد، فنقول؛ عدد هؤلاء الرجال عشرة. ونقول؛ الرقم عشرة مؤلف من رقمين هما 1 و0.

استعمل العرب القدماء الخط المسند وحساب الجُمَّل؛ وهو تسجيل الأرقام والتواريخ باستخدام حروف أبجدية، إذ يعطى كل حرف رقماً معيناً يدل عليه. فحرف الألف يقابل أو يعني الرقم ١ والباء تقابل الرقم ٢ والجيم ٣ وهكذا حتى نصل إلى الحرف غين وتقابل الرقم ...١

وفي العصر العباسي ومع اتساع الفتوحات طور العرب سلسلتين أو نوعين من الأرقام هما:

1- الأرقام الشرقية وتسمى أحيانا "الهوائية" ذات الأصل الهندي وهي تسعة أرقام ترسم بهذه الرموز (١ و٢ و٣ و٤ و٥ و٦ و٧ و٨ و٩) وقد حورها العرب من أشكال هندية عديدة. وقد أخذوها من حركات أصابع الكف في الهواء وأرجح انها اخذت اسمها من هنا، كما في الصورة.

2391 الارقام 1

2- الأرقام الغُبَارِيَّة وسميت بهذا الاسم لأنها كانت تُكتب في بادئ الأمر بالإصبع أو بقلم من البوص على لوحٍ أو منضدةٍ مغطاة بطبقة رقيقة من التراب. وقد صمم العالم المسلم الخوارزمي تلك الأرقام على أساس عدد الزوايا (الحادة أو القائمة) التي يضمها كل رقم. فالرقم واحد يتضمن زاوية واحدة، ورقم اثنان يتضمن زاويتين، والرقم ثلاثة يتضمن ثلاث زوايا ... إلخ.

وعن تاريخ هذه الأرقام نورد هذه الخلاصات من مقالة للكاتب أحمد نانو: كانت البداية في عام 154هـ 771م عندما وفد على بلاط الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور فلكي هندي، ومعه كتاب مشهور في الفلك والرياضيات هو سدهانتا، لمؤلفه براهما جوبتا الذي وضعه في حوالي عام 6هـ 628م واستخدم فيه الأرقام التسعة". وقد أمر الخليفة المنصور بترجمة الكتاب إلى اللغة العربية، وبأن يؤلف كتاب على نهجه يشرح للعرب سير الكواكب، وعهد بهذا العمل إلى الفلكي محمد بن إبراهيم الفزاري. وقد أخذ العرب بهذا الكتاب حتى عصر الخليفة المأمون، إلى أن جاء عام 198هـ 813م واستخدم الخوارزمي الأرقام الهندية في الأزياج الفلكية، وهي قوانين لحساب حركات الكواكب وتعديلها للوقوف على مواضعها.

* ثم نشر الخوارزمي في عام 210هـ 825م رسالة تعرف في اللاتينية باسم Algoritmi de numero Indorum أو الخوارزمي عن الأرقام الهندية. وما لبث لفظ Algoritmi أو الغورزم أن أصبح معناه في أوروبا في العصور الوسطى طريقة حسابية تقوم على النظام العشري. وما يزال اسم الخوارزمي مستعملا كاسم لهذه الطريقة في الحساب حتى اليوم بلفظ قريب هو "لوغاريتم".

2391 الارقام 2

* يعتقد بعض الباحثين هذين النوعين من الأرقام الهوائي والغباري كلاهما من أصل هندي، ويعلل البيروني ذلك بتعدد أشكال الأرقام الهندية تبعا لمناطق بالهند، وربما أخذ العرب نوعين منهما من بين أنواع أخرى. وهذان النوعان هما الأرقام المشرقية التي تسمى الهندية، والأرقام الغبارية التي تسمى العربية، و"هما أول نظام رقمي يصلح لكتابة أي رقم، ويستخدم بسهولة في المعادلات الرياضية والجبر الحسابي الذي ابتكره الخوارزمي".

ويضيف نانو أن "الأرقام الغبارية استعملت في بلاد المغرب العربي ثم انتقلت بعد ذلك إلى الأندلس ثم الدول الأوروبية وتم التعديل عليها لتتوافق مع اللغة اللاتينية وظهرت الأرقام الغربية التي نعرفها الأن "ولم يتمكن الأوروبيون من استعمال هذه الأرقام العربية إلّا بعد انقضاء قرون عديدة من اطلاعهم عليها، وتحديدا في أواخر القرن السادس عشر للميلاد، استغرقت عملية الانتقال من أرقامهم الرومانية المعقدة قروناً طويلة. وفي القرن الثالث عشر الميلادي ألف جون هاليناكس كتاب (Algorismos) أي الحساب الخوارزمي حوالي عام 1250م.

ومن الجدير بالذكر أن الأرقام الغبارية كانت تستخدم حتى عهد قريب في بلاد المغرب والجزائر إلى أن اعتمد العرب بعد ذلك نظام الأرقام الشرقية، حيث كتب بها معظم التراث العربي العلمي، كما أنها تحمل ثمة " تتلاءم مع؟" اللغة العربية من حيث اتجاهها من اليمين إلى اليسار. وربما يفسر لنا هذا السبب بقاء الحروف الهندية وانتشار استعمالها في المشرق العربي حتى اليوم.

ويعتقد أحد الباحثين هو عبد الوهاب جعفري أن أصل الأرقام العربية ليس عربيا بل هو أمازيغي أخذه العرب لاحقا من الأمازيغ؛ فيكتب "يعود أول ظهور لها - للأرقام الغبارية - الى بلاد الامازيغ في شمال افريقيا ولم تكن تسمى حينها بالأرقام العربية بل كانت تسمى بالأرقام الغبارية حيث تم تصميم هذه الأرقام بالمغرب الاقصى بفكرة إعطاء كل رقم رمز بعدد الزوايا التي يرمز لها الرقم (1 = زاوية واحدة، 2= زاويتان…) انتشر استخدام هذه الارقام عن طريق الزّوايا الأمازيغية لحاجتها للترقيم في النصوص و الكتب الدينية وبعد رواجها بدأ سكان شمال افريقيا باستعمالها في حياتهم اليومية". ولكن الكاتب لا يقدم أي دليل تاريخي أو آثاري ملموس يؤكد مزعمه هذا؛ فهو تارة يسميها الأرقام الغبارية وتارة الأمازيغية وثالثة المغاربية ويقول "انتشر استخدام هذه الارقام عن طريق الزّوايا الأمازيغية لحاجتها للترقيم" فما المقصود بالزوايا الأمازيغية؟ هل يقصد الزوايا "التكيات" التي يعلم فيها الصبية حفظ القرآن أم الزوايا الهندسية؟ وهل الزوايا القرآنية أو الهندسية هي اختراع أمازيغي، أما أنه يقصد التشابه بين الأرقام الغبارية العربية والحروف في كتابة التيفناغ وهي الأبجدية التي يستخدمها الطوارق والأمازيغ لتدوين لغاتهم، وهذا ما لم يقله صراحة. وتبقى مقالة جعفري هشة ومضطربة ومكتوبة بنزعة قومية مناهضة للعرب الذين يتهمهم بأنهم استغلوا "حضارة الشعوب التي سقطت في ايديهم واستعملوا بما يسمى الحضارة الإسلامية ليصبح في الاخير ابداع وجهد الأعاجم عربيا". وهذا كلام أيديولوجي لا مكان له في لغة البحث العلمي الذي يعتمد الأدلة الملموسة والحسابات الدقيقة وليس الهجاء السياسي القومي سواء كان عروبيا أو أمازيغيا.

خلاصات: 

* الأرقام ليست أعداداً وإنما هي أشكال تكتب بها رموز الأعداد، فنقول؛ عدد هؤلاء الرجال عشرة. ونقول؛ الرقم عشرة مؤلف من رقمين هما 1 و0.

* استعمل العرب القدماء الخط المسند وحساب الجُمَّل؛ وهو تسجيل الأرقام والتواريخ باستخدام حروف أبجدية، إذ يعطى كل حرف رقماً معيناً يدل عليه.

* طور العرب سلسلتين أو نوعين من الأرقام هما:

1-الأرقام الشرقية وتسمى أحيانا "الهوائية" ذات الأصل الهندي وهي تسعة أرقام ترسم بهذه الرموز (١ و٢ و٣ و٤ و٥ و٦ و٧ و٨ و٩).

2- الأرقام الغُبَارِيَّة صممها أو طورها العالم المسلم الخوارزمي تلك الأرقام على أساس عدد الزوايا (الحادة أو القائمة) التي يضمها كل رقم.

* يعتقد بعض الباحثين هذين النوعين من الأرقام كلاهما من أصل هندي، ويعلل البيروني ذلك بتعدد أشكال الأرقام الهندية تبعا لمناطق بالهند.

* الأرقام الغبارية كانت تستخدم حتى عهد قريب في بلاد المغرب والجزائر إلى أن اعتمد العرب بعد ذلك نظام الأرقام الشرقية، حيث كتب بها معظم التراث العربي العلمي، لأنها تتلاءم مع اللغة العربية من حيث اتجاهها من اليمين إلى اليسار. وربما يفسر لنا هذا السبب بقاء الحروف الهندية وانتشار استعمالها في المشرق العربي حتى اليوم.

 

 

علاء اللامي - كاتب عراقي

قراءة تحليلية - نقدية في كتاب ماجد الغرباوي "تحرير الوعي الديني" (1)

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. محمود محمد علي

محمود محمد عليقراءة تحليلية - نقدية في كتاب المفكر العربي ماجد الغرباوي "تحرير الوعي الديني" (*)


 

مقدمة: ما زلت أومن بل ربما أكثر من أي وقت مضي، بأن الإشكاليات المعرفية التي يعاني منها الوعي الديني تنعكس مباشرة على الوسط الذي يعيش فيه الفرد، وعلى كيفية رؤيته له تفاعلاً وانفعالاً معه، فلما كان هذا الوعي منقسما ومتشتتا ومتأزما أثر هذا في الفكر الإجرائي، أي في أسلوب العيش في جماعة، أي في النظام الاجتماعي وفي مستوياته المختلفة؛ ففشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد الإسلامية، هو كما يري البعض من الباحثين، هو نتيجة عدم انشغال الفرد بمثل هذه السياسات من جهة، لأنها مفروضة من فوق، ومن جهة أخرى لأن الفرد نفسه لا يدرك أهمية التحدي الاقتصادي والاجتماعي الذي يواجهه، لأن زمنه الفكري زمن مضى أولاً، ولأن حضور الوعي والتميز في العمل، والفاعلية في الإدارة، يربطهم الفرد بمعاني فكرية فوقية لا بنتائج واقعية محسوسة ثانياً، وهذا ما أدي إلى كل المظاهر السلبية في الحياة العامة، والتفكك الاجتماعي، والتسيب الإداري، والاستقالة المحسوسة في كل الميادين. انفصام الوعي وانقسامه جعل الحياة الاجتماعية للأفراد تفقد معناها، فلم يعد هناك ذلك التلاحم بين أجزاء المجتمع، ولم يعد المخيال الاجتماعي يغذي تطلعات الأفراد إلى جدوي تحسين واقعهم، فالآفات التي طرأت على الواقع، كالانتحار، والهروب عبر الحدود، وعدم وجود رابط بين عدي رابط القهر، والعنف، والتشدد، ثم التبرم من كل وضع قائم، وانسداد الآفاق، واللجوء إلى الحلول الانتحارية، كل هذا يدل على أزمة في الوعي رداها خطورة هذا الخطاب الديني السياسي الذي يستغل كل الأزمات ليؤجج بذور الصراع والاختلاف بطرحه  الإيديولوجي البعيد عن كل أسلوب حواري متسامح (1).

وعندما ننظر لديننا الحنيف، نجد أنه كان أهم معاني خاتمية الرسالة الإسلامية وخلودها، هو الإيمان ببلوغ العقل الإنساني درجة من النضج تسمح له بالاستقلال باستنباط الأحكام استقلالاً تاماً، أو تأسيساً على ما ورد في التشريع الإسلامي من أصول وقواعد وأحكام (2)

ومن ثم ظل سؤال “تحرير الوعي الديني ” هو أهم الأسئلة المحورية لنهضة الأمة من وهدتها، وبعثها من سباتها العميق على مدى  عصورها المتطاولة.

وموضوع الوعي والتوعية الدينية من الموضوعات القديمة الجديدة، والتي تتجدد الحاجة إليه في كل عصر منذ عصر النبي صلي الله عليه وسلم، إلى عصرنا الحاضر. وتزداد الحاجة إليه في هذا العصر لما تشهده الساحة العربية من غزو إرهابي وتفش للجهل، وحين تعيش الأمة على هامش الأحداث وتتخلي عن دورها الريادي، وحين تفقد مصداقيتها فلا يحسب لها حساب، وحين تُضيع مبادئ دينها السمحة وقيمه العليا، فإن ذلك مؤذن بوجود خلل ما يتمثل في جملة منها: موجات الإرهاب الدامي التي تُفرض علينا، وحفلات القتل الجماعي باسم الدين، وضرورة استعادة الإسلام العظيم من قبضة التطرف اللعين. إنها مهمة الأمس التي تأخرت إلى اليوم، ولا يجب أن ننتظر للغد.

وأكثر هذه الإشكاليات أهمية فيما يخص تحرير العقل الديني تتمثل في المفاهيم، وتتعلق بقضية الخطاب نفسه، عموماً، يعني استراتيجية ما في القول عن الشيء، أي نمطاً للإفصاح الشامل عن واقع بعينه، ومن ثم فهو نتيجة مترتبة على واقع سائد بالفعل، لا يمكن تقديم صورة عنه ولا تؤيدها معطيات الواقعية وإلا افتقد الخطاب منطقه وتحول إلى محض صياغات بلاغية ومزايدات كلامية لا تقنع أحداً (3).

ويعني الخطاب الديني، خصوصاً، بكيفية عرض الدين، أو الدعوة إليه، أو الدفاع عنه ضد منتقديه، حيث يهيمن الطابع السجالي، على الأقل، إن لم يكن الطابع التبشيري. وهكذا يبقي مفهوم الخطاب الديني مهجوساً بالآخر، خصوصاً الغربي، وبتلك الرغبة الدفينة في الدفاع عن أنفسنا في مواجهاته، وتزويق صورة التدين الإسلامي القائم فعلياً لدينا، بينما المطلوب الآن لا يقل عن تجديد الفكر الإسلامي، في مكونه القيمي والإنساني، بإلهام المكون الاعتقادي المتسامي على التاريخ؛ أي تجديد (تديننا) وأفكارنا عن (إسلامنا)، وذلك عن طريق إعادة تعريف ماهية النص نفسه، قبل الولوج إلى مساءلته على مستويات مختلفة من العمق الجذرية تتوافق على مستويات إحكامه وتساميه، تطويراً لواقعنا نحو الأفضل (4).

قصدت أن أقدم هذه المقدمة عن الوعي الديني، لأمهد للحديث عن تحليلي للكتاب الشيق الذي بين يدي، وهو كتاب بعنوان ” تحرير الوعي الديني ” للأستاذ ماجد الغرباوي، وقد صدر الكتاب في سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة في دمشق – سوريا، ضمن سلسلة متاهات الحقيقة التي يشتغل عليها المؤلف (5).

أما المؤلف فهو الأستاذ ماجد الغرباوي باحث في الفكر الديني، ومتخصص في علوم الشريعة والعلوم الإسلامية، وهو عراقي مقيم في أستراليا.. مؤسس ورئيس مؤسسة المثقف العربي في سيدني.. كان رئيساً لتحرير مجلة التوحيد (الأعداد: 85- 106)، وكان عضو الهيئة العلمية لكتاب التوحيد، وقد مارس التدريس ضمن اختصاصه في المعاهد العلمية لسنوات عدّة، والحائز على عدد من الجوائز النقدية والتقديرية عن أعماله العلمية، وقد كتب عن منجزه الفكري والثقافي والأدبي عدد من النقّاد والباحثين، عرب وأجانب، وله أكثر من ثلاثين عملاً مطبوعاً: تأليفاً، وتحقيقاً، وحواراً، وترجمة، إضافة الى عدد كبير من الحوارات والدراسات والبحوث والمقالات في مجلات وصحف ومواقع الكترونية مختلفة. اشتغل على موضوعات نقد الفكر الديني، التسامح، العنف،  الإصلاح والتجديد، فكر النهضة.

96 majedalgharbawi600

وقبل أن أتحول لقراءة هذا الكتاب دائماً ما أقول: لقد علمتني التجارب البحثية أن هناك أكثر من طريق لقراءة الأعمال الفلسفية قراءة نقدية، وأكثرها عفوية وسذاجة أن نلخص العمل الفلسفي أبواباً وفصولاً ثم لا شيء، وأعمقها أن نحاول تحديد مقولات العمل أولاً حتى نضع المتلقي معنا على أرضية واحدة مشتركة، ثم نخلص من ذلك إلى تجسيد رؤيتنا النقدية لهذه المقولات وإحالة هذه الرؤية النقدية في النهاية إلى قضايا وظاهرات.

وقد اخترت في قراءتي النقدية لكتاب الأستاذ ماجد الغرباوي (تحرير الوعي الديني)، تلك الطريقة الأخيرة التي ترفض الهشاشة وتكابد في طريقها إلى محاولة التنظير والتأصيل. . أولاً: لأن هذا الكتاب عمل علمي جاد يستحق بالفعل أن يعاني الناقد في قراءته وتقويمه، وأزعم أن هذا الكتاب سوف يضيفه التاريخ إلى أمهات الكتب الخوالد، لأن هذا المضاف يفتح السبُل أمام النظر، وإعمال العقل، وأمام البحث ومناهج العلم. . وثانياً الميزة التي يتميز بها الكاتب ” ماجد الغرباوي ” في هذا الكتاب، وهي هذه الجدية في النظر، وهذه الصرامة في المنطق، وهذا العكوف في العمل، وهذا الاحترام للنفس كاتباً وللغير قارئاً هو ما في نظري ما تعودت عليه أنا شخصياً مع ماجد الغرباوي (في هذا الكتاب)، يحتشد للموضوع الذي يبحثه من جوانبه التي تخصص فيها، ويتقدم للقارئ لا بالموضوع الذي يبحثه فقط، ولكن بالأدوات المنهجية التي يتعامل مع موضوعه بها، فيعرضها واضحة بما تستدعيه من منطق، ومن أسلوب تدليل ومن ترتيب سياق.

والسؤال الذي أود أن أسأله للأستاذ” لماجد الغرباوي: لماذا اختار لكتابه عنوان تحرير العقل الديني، ولم يختار له اسم “تجليات الوعي الديني”، أو “تنوير العقل الديني”، أو ” بؤس الوعي الديني في دارنا العربية كما ذهب د. برهان زريق، أو أزمة الوعي الديني كما ذهب فهمي هويدي. . الخ؟

وهنا يجيبنا ماجد الغرباوي ضمن ملاحظة سجلها في الصفحة الرابعة في جميع كتب متاهات الحقيقة: (قد لا ينطبق عنوان الكتاب مع تمام موضوعاته، لكنها تنتظم جميعاً ضمن حوارات متاهات الحقيقة). فيكون الوعي الديني جوهر موضوعاته، وهو ما يسعى له ضمن مشروعه الفكري والتنويري. والكتاب كما جاء في الإعلان عنه عند أول صدوره: (يقع في” 418″ صفحة من الحجم الكبير، وقد زينت لوحة الفنان التشكيلي الكبير أ. د. مصدق الحبيب غلاف الكتاب الجميل. وهو الكتاب الخامس ضمن سلسلة متاهات الحقيقة. حيث حمل الكتاب الأول عنوان: الهوية والفعل الحضاري. والثاني: مواربات النص. والثالث: الفقيه والعقل التراثي. والرابع: مضمرات العقل الفقهي).

تناول الكتاب مجموعة قضايا قاربها الكاتب ضمن الحوار المفتوح، منها: تطور العقائد، القلق المصيري، فلسفة الخلق، سؤال الوجود، المعرفة البشرية، منطق الخطيئة، فلسفة الخلق بين نظريتين، التأويل الموضوعي، سياقات التأويل، محددات القراءة، التداخل بين الأسطوري والديني، تشابه السرد، العناصر المشتركة، المعرفة الدينية، النهوض الحضاري، مواضيع غيرها متعددة.

من هنا جاءت الأجوبة في هذه الموسوعة الحوارية (متاهات الحقيقة)، تقارع حصون الكهنوت وتحطّم أسيجة تراثية تستغرق الذاكرة، وتطرح أسئلة واستفهامات استفزازية جريئة.. بحثا عن أسباب التخلف، وشروط النهوض، ودور الدين والإنسان في الحياة. فتوغّلت عميقا في بنية الوعي ومقولات العقل الجمعي، واستدعت المهمّش والمستبعد من النصوص والروايات، وكثّفت النقد والمساءلة، وتفكيك المألوف، ورصد المتداول، واستنطقت دلالات الخطاب الديني، بعد تجاوز مسَلَّماته ويقينياته، وسعت إلى تقديم رؤية مغايرة لدور الإنسان في الحياة، في ضوء فهم مختلف للدين، وهدف الخلق. فهناك تواطؤ على هدر الحقيقة لصالح أهداف أيديولوجيات – طائفية. ومذهبية – سياسية.

في هذا الكتاب اعتمد المؤلف على منهج نقدي – تحليلي – تاريخي قائم على استقدام مشاهد حية من الماضي في تاريخيتها وشخوصها، لتخليص الحقيقة الدينية كما يقول أستاذنا الدكتور “علي محمد اليوسف ” في النص القدسي من براثن مجاهيل التضليل والتشويه والانحرافات والأكاذيب على التاريخ في جنبة التنظير التوعوي، وفي تعرية النفاق الديني الذي اخذ بحكم تداوليته المجتمعية صفة البديل القار الثابت في اكتسابه الحقيقة الدينية الزائفة التي يعتقدها ويمارسها المجموع، وفي  إعلان هذا التزييف نفسه فكراً مضللاً، وممارسة منافقة وحيدة في امتلاكها الحقيقة لوحدها لا من اجل تصحيح علاقة العبد بالخالق ولكن بعلاقة تقديم الطاعة والمبايعة العمياء لمن يدعي ان حكمه مستمد من روح وجوهر دولة الخلافة الإسلامية في عهد النبوة (6).

لقد أراد المؤلف لمشروعه أن يكون مشروعاً نقدياً مضمونياً، أشبه ما يكون بمحاكمة فكرية لتطور العقائد، التي جنحت عن الاجتهاد والفهم الصحيح، ففي نظر المؤلف أنه في كل الديانات القديمة، وبمرور الوقت تنشأ عقائد جديدة، نابعة من الأساطير التي يتحتم بها الموروث الشعبي لهذه المجتمعات، وبحكم الفلسفات التي يتداولها معتنقو هذه الديانات. . وقد تكون هذه الأفكار والعقائد كما يري المؤلف باعثاً على التجديد وعدم الركون لفكر ثابت (7).. وللحديث بقية.

 

الأستاذ الدكتور / محمود محمد على

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

..............

* هذا هو العنوان الأصلي للمقال.

1- سعدي الهادي: الفكر الديني بين إشكالياته المعرفية ومشكلاته الواقعية، مجلة التربية والابستيمولوجيا، المدرسة العليا للأساتذة بوزريعة – مخبر التربية والابستيمولوجي، العدد الثالث، 2012، ص 80.

2- عمرو عبد الكريم: معركة الوعي: سؤال التجديد، الوعي الإسلامي، وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية، س52 ,ع600، 2015، ص 84.

3- صلاح سالم: الوعي العربي بين الإصلاح الديني والتنوير العقلي، شؤون عربية، جامعة الدول العربية، العدد 164، 2015، ص 170.

4- نفس المرجع، ص 171.

5-أنظر ماجد الغرباوي: تحرير العقل الديني (متاهات الحقيقة 5)، دار أمل الجديدة، دمشق، سوريا، ط1، 2012.

6- أنظر على محمد اليوسف: منهج النص في سؤال الحقيقة.. قراءة في فكر ماجد الغرباوي، صحيفة المثقف العدد: 4466 المصادف: 2018-11-16.

7- شاكر فريد حسن: ماجد الغرباوي المثقف التنويري والمفكر المضيء، العدد: 5652 – 2017 / 9 / 27 – 11:54.

 

 

 

سامي عبد العال: حين يكون الكذبُ حقيقةً

التفاصيل
كتب بواسطة: د. سامي عبد العال

سامي عبد العالربما تتعذر "ظاهرة الكذب" في مجال السياسة أمام التفسير المباشر، رغم أنَّ أغلب الطرق تؤدي إليها من جانب: أساليب إدارة الدولة ونظامها الحاكم، وتطبيق القوانين والمناصب العامة، وإقامة العدالة والمساواة، وعمل المؤسسات، وسلوك رجال السلطة، وآثار القرارات، والخُطب العامة، والاتهامات السياسية المتناثرة هنا وهناك. فهذا الأشياء جميعاً محفوفة برمال متحركة من الكذب الخفي حول الواقع والمأمول، حول ما هو حادث وما هو باقٍ لم يُحدّد بعد. ولا تستطيع أنت ولا أنا الحكم بأنَّ ما نسمع ونقرأ حقيقيٌ أم لا، وبأية درجة من درجات الصحة سيكون؟!

ذلك لأنَّ الحاصل هو وجوه سياسية يمكن أن تُرسم كصور خارج المألوف. كما أنها صور لممارسات ليست أحادية الصيغة، بل تمتد متسلقة على أذهان مواطنيها كنوع من تكملة الترويج لسياسات معينة. بجانب أن الشفافية المفقودة يجب أن تكون الخلفية العالية التي لا يمكن تجاوزها ولا ينبغي التنازل عنها أمام المتابعين. كل هذا إذا أردنا أن تكون السياسات معلنة على نحو تفاعلي يعود بالمردود الحقيقي على المواطن.

 الرصيد المتخيل

المعنى البعيد أنه نتيجة سلطة الدولة وهيمنتها سيكون الرصيد المتخيل من قوتها أكبر من الفعلي، وبالتالي سيسبب خوفاً لدي المواطنين من بطشها المفترض مع كل فعلٍّ عام. الأمر الذي يولد السؤال المنطقي عندئذ: ما مدى مصداقية هذه الأشياء ارتباطاً بغايات إنسانية واجتماعية أخرى تخص المجتمعات؟ إذ بالإمكان أنْ تنهمك السياسة جميعها في حركة وهمية ويُروج زعماً لنتائجها على النطاق الأوسع. ولاسيما مع تخلف الأنظمة السياسية وتدني ممارساتها وبروز المصالح الفئوية التي تمثل ثقباً أسود للآمال الشعبية المنتظرة.

ومن جهة أخرى لا ينطبق ذلك فقط على الأنظمة الحاكمة التقليدية، بل قد يرتبط الكذب بأنظمة الدول المتطورة كذلك مع تحولات السياسة وممارسة الخطاب العام. فقد قيل عن إدارة دونالد ترامب أنها كانت عبارة عن "تسونامي من الكذب"، آلاف الأكاذيب أطلقها الرئيس الأمريكي الأشقر الفاقع، وربما كان مهووساً بهذه النوعية من الأحاديث التي تضمر وهماً في إهاب الاعلام. وهي أحاديث تأخذ مراسم صارمة في الحديث والإلقاء بحيث يشعر المتابع أنها جادة لدرجة الإدهاش. وإدارة ترامب في حينها كانت تتعامل مع الأكاذيب بقوة الواقع وفرضه على الشعوب الأخرى (كالشعوب العربية) حين اعترف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل.

فالأكاذيب كانت معدة سلفاً وجيء بها من وراء البحار لتحط فوق أرض (فلسطين) التي بها تراث لاهوتي وسياسي قديم، ثم أطلقت الأكاذيب على الملأ الكوني تحت عيون العدسات الإلكترونية وبكل وسائل الإبهار الممكنة. أليست تلك العملية صناعة فائقة الجودة لصنف من الأكاذيب التاريخية التي أخذت قوة السياسة واستعاراتها؟!

 ولكن إجمالاً لكون الإلحاح من قبل أية سلطة قائمةٍ على ترويج مواقفها والإيمان بها لا يذهب سُدى، فقد تتعلق الصور المرسومة حول " ما يجري " بالوعي كما لو كانت حقيقية. أي تخرج صور الخيال إلى فعل يسعى (كعصى موسى حين انقلبت أمام سحرة فرعون إلى حيّة تسعى). وليس هذا فقط، بل قد تخلق الصور الزائفة إيقاعها الداخلي عوضاً عن التأثيرات على الصعيد الملموس، ثم تحيط نفسها بسياج من " التتابع والتزامن " على مداها البعيد بطريقة نظام اللغة الذي يولد الدلالة ويفهمنا الكلمات والجمل رأسياً وأفقياً.

لو تخيلنا السياسة مادة دسمة للخداع، فهي تشتغل- بالمقام الأول- على الأوهام كإطار تكويني. أي بسبب أننا نصدق الوهم المختلط بأنشطتها ونتحسب له وننخرط فيه أحياناً، ولأننا نجري وراءه طوال الوقت، فإنَّه يستدرجنا نحو مزيدٍ من حرق المراحل دون طائل. فالآمال والحقوق التي يسعى وراءها الإنسان تحترق كالشموع يومياً حتى وإن تحققت في وقتٍ ما. وهو ما يدفعنا لطلب المزيد، فحبال الأكاذيب طويل ويخترق وعينا رغم جميع التدابير الاحترازية التي نتخذها في لحظات الاستفاقة ومن وقت لآخر. إن جرعات الأوهام التي قد تراق يومياً في وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي تشتغل على تحفيز الرغبة ولا تشبعها. وهي جرعات تدرك كيف تحيط بالمواطن دون أن ينال منها أو يبتعد عنها.

ذلك أننا نتقبل ما هو سياسي بضمان آمال منتظرة (مثل الحياة الكريمة وتحقيق العدالة وفرص العمل الأفضل والمساواة وتداول السلطة واحترام التنوع وقيمه الثقافية) تجد نفسها عارية وسط غابة المصالح والذرائع حيث الصراع والتنافس. ودوماً تعول السياسة على هذا الضمان المفترض لدى الخيال الجمعي collective imagination بلا ضمانات، أي ستكون هناك وقائع مفترضة بلا واقعٍ حتى وإن كان الأخير محدوداً جداً ولا يحتمل أفقاً سواه. وبخاصة في مراحل الانتخابات وكطرح البرامج السياسية والخطط المعدة للنهوض بحياة المواطنين.

ليس هذا مدعاةً لنكران الجهد أو لإجهاض الإصرار على بناء المجتمعات والدول والسير في ركب الحضارة، إنما لكشف طرائق العمل التي تدفع السياسة نحو الانحراف. وتحليل لماذا يصدمنا اختياراتنا السياسية كما لو لم تكن هي بذاتها ما نطرحها؟ وكيف يتجسد ما نخشاه من أكاذيب كواقع له قناع الحقيقة وبلاغته المتلونة؟ وهل تعد الأكاذيب أشباحاً لأشياء فعلية أم أنَّها كائنات هلامية تفرز حيلها عبر اللاوعي؟

 قوة الكذب والكهنوت

التفرقة هنا ضرورية بين مقولة " الكذب بوصفه حقيقة "lying as truth وبين "الحقيقة بوصفها كذباً "truth as lying . في الحالة الأولى عادة ما يكون الكذب سلطةً ذاتيةً تلتهم الفرص المتاحة لفرض سطوته محاولاً إقناع المتلقي بأهميته وخاطفاً الوعي نحو ما يزعم. وبالتالي يصبح لدى الكذب مساحة للانتشار وجلب عوائد معنوية أكبر من أنْ تحصى. بكلمات واضحة أنَ الكذب نظراً لوعيه الذاتي المراوغ بفاعليته يندفع لتحقيق وجوده كما لو كان كذلك. ربما أنَّ مجمل تأثيره يكمن في تكريس أشكال الحضور forms of presence طالما لديه القدرة على التكرار. الأفعال السياسية لا تمل من تكرار الوقوع في الأخطاء لتخرج منها (كأنَّ شيئاً لم يكن). وإذا كانت هناك سمة عامة تتمتع بها السياسة فهي عمليات التكرار الزلق نحو انحراف داخلي كنوع من التشوه الذاتي، لأن هناك عوامل كثيرة ومتغيرات مفاجئة على نطاق واسع. فالمجال العام يستحيل التحكم في متغيراته مهما تكن السياسات التي تهيمن عليه.

إذن الكذب كما لو كان حقيقة (كصورة مزيفة false image) يستحوذ على السلطة في هيئة قوة دفع ذاتي، ورغم كونه يستعيرها (أو بالأحرى يجسد استعارتها metaphors)، إلاَّ أنه يعكسها متوحداً بأثرها القوى. وتعبير (كما لو (as if مهم جداً لأن السياسة مشبعة حتى الثمالة بهذا المعنى، وقد لا تُعنى إطلاقا بما وراء كأن هذه، أنها تظل قيد التشبيه، المجاز حتى بالنسبة لفعل إدراكها من المتلقين. والسلطة عندما تجد الكذب مجدياً في غلبة معارضيها وفرض تأثيرها، فإنَّها تظل هاجساً داخله والعكس يصح أيضاً، تحدد حضوره وتستعمله في تحقيق مصالحها. ومن تلك الزاوية ربما لا يسمى أي كذب كذباً بمعناه الأخلاقي، ويصعب بل يستحيل تصنيف أية أفعال وأية خطابات تنتمي إلى تلك الدائرة وأية أشياء تخرج إلى غيرها.

علينا التمييز بين عدة مستويات من الكهنوت الذي يغطي ويخدر الوعي لتمرير الأكاذيب. الكهنوت الديني يفرض سردياته المجازية في شكل تأويلات خاصة بالدين وتاريخه الممتد، وينفخ فيها سلطة مطلقة مطبقاً إياها كلياً بحسب الاعتقاد السائد. والتأويل نوع من المجاز اللغوي لأحدى وجوه النصوص المؤسسة، وإذا كان لن يُقبل من جهة الفهم، بل من زاوية القوة السياسية والاجتماعية التي يحملها، فإن كل تأويل يحاول اقتناص (خلق) قوة تعادل طبيعة الواقع والتغلب عليه. وعليه سيكون التأويل نوعاً من أيديولوجيا الكهنوت في أشكال أخرى، ولن يكون حقيقياً بمعنى الحقيقة المعروفة. فالكذب بالنسبة إليه ليس آتياً من زاوية مخالفته للحقيقة، بل سيأتي انحرافاً في فهم النصوص الدينية واستغلالها وبناء ممارسات وأفعال فوقها تأخذ المعالم نفسها.

 ونتيجة استمرار المنطق ذاته، يغتصب الكهنوت الديني كافة أشكال الحقائق، ويعيد إنتاجها في أنماط مقدسة تخضع لأصحابه بنهاية الأمر. وبالتالي فالمشكلة تكمن في اتساع مفهوم القداسة كشيء مادي، أي يتحول من شعور قوامه الخوف والرهبة لدى المؤمنين إلى كيان عيني يتقمص مؤسسات وأشخاصاً ونصوصاً. وفي محاولة لرد الفعل، سيتحول الكيان المصور هكذا إلى سلطة مطلقة في ذاته. اغلب الظن أنَّ ذلك هو ما يحدد طبيعة المذاهب والجماعات والتنظيمات الدينية. وهو أيضاً يحدد طبيعة التصورات والأفكار، لتكون الأخيرة منطوية على نوع من المجاز غير الحقيقي. ولذلك فإن كل عبارات الجماعات المتطرفة وشعاراتها هي مجرد مجاز يصطاد ضحاياه على مذبح اللغة إذ يؤدي في النهاية إلى الإرهاب. ويجعل من الكلمات تفريغاً عاطفياً قوياُ بموجب الكيان الضخم للعاطفة الدينية التي تجتذب إيمانهم فيما ليس ملموساً.

الكهنوت الاجتماعي قوة تنزع نحو استلاب حرية الأفراد، حيث تفرغ إرادتهم الرافضة والمتمردة على أساليب الضبط والهيمنة. وطالما غدا الإنسان ضعيفاً بلا قدرة على الرفض، فإنه سيعطى نفسه وإرادته للآخرين. يبدأ الكهنوت الاجتماعي بفرض الصمت على سريانه وينتهي بالقتل الرمزي غير المباشر فارضاً مناخاً من الزيف المشترك. وهو يتضخم باستمرار مع حجم قدرة الاستعباد وبث المخاوف وتعميم القهر وإعادة فرض العادات والتقاليد، عندئذ فإن الكذب هو الوسادة الوثيرة التي يريح الفرد عليها عقله وجسده وحياته ومصيره، ويغط في نوم مريح ليسمع أصواته الجانبية كل الآخرين.

إنَّ الكذب فن اجتماعي أصيل إلى درجة الظهور في المجتمعات المقهورة، لكونه أشبه بالمرايا العاكسة لضخامة الأشكال والأوزان وأبعاد العلاقات السائدة. إنّ قوته لا تأتي من تماسك داخلي بقدر ما هو مشبع بمحاولات الهيمنة على الآخر. ولذلك يخاتل الناس بعضهم البعض من خلال الممارسات والطقوس الاجتماعية كأنهم يشاهدون مرايا متقابلة ويمعنون في تضخيم صورها بالتبادل. وبالطبع يتم ذلك عبر مظاهر الثراء والعلاقات الاجتماعية وعلاقات السلطة والتمايز الطبقي والفئوي والمفاضلة في الأعمال وأهميتها.

كلُّ كذب يعالج العلاقة المزدوجة التالية: الامتلاء الأجوف بحضور المعنى من ناحية وقطع المسافة تجاه الشركاء عائداً بردم متخيل للثغرات من ناحية أخرى. والكذب أيضاً نوع من إكسسوارات accessories الحياة الاجتماعية التي تتغير من مرحلةٍ لأخرى، كأنها قيمة مضافة تجلب أرباحاً رمزية طوال الوقت. فمظاهر البذخ والطقوس والمناسبات وما يتعلق بها من إعداد ومغالاة وأعمال إنما هي أكاذيب براقة إلى حد القبول المشترك. والغريب أن يمارسها المحتاجين والفقراء بعض الوقت للحاق النسبي بقطار التسابق الاجتماعي، ورغم انهم داخل نفق شبه مظلم لا أمل يرجى منه غير أنهم يجدون في الكذب واقعاً بديلاً ولو كان مؤقتاً. ولا يتم ذلك بشكل أرادي كامل بل هناك قهر مسلط ومعكوس في تصرفاتهم.

في المجتمعات العربية تمارس سلطة التقاليد دور الكهنوت، ولارتباطها بالموروث الديني فهي تخاتل الأفراد نافذةً إلى جميع أنشطة المجتمع صغيرها وكبيرها. وهي في أساسها قدرة على التظاهر السطحي بما يتوافق مع الشأن العام ويخادعه، ويتناوب فيه لأفراد علاقات برانية دون جوهر. إن الكذب يتسرب حتى في أنماط برانية من الحضور المغلظ اجتماعياً ويرشق نفسه لدى العلاقات والظواهر المحكُّومة بالعادات والمظاهر المترتبة عليها.

 أما الكهنوت السياسي فيستند إلى الكهنوتين السابقين، ففي المجتمعات الأقل تحضراً تستثمر السلطة السياسية الدين والنظام الاجتماعي لتكريس استبدادها وتخلفها. فالحاكم العربي مازال يجلس على كرسي العرش كنصف إله دون رقيب ولا حسيب ولا نقد ولا مساءلة ينبغي توجيهها إليه. وبين ليلة وضحاها يخلق من ذاته اسطورة داخل بزه حداثية وعبر فضائيات ساحرة واجتماعات مهيبة وعبارات رنانة، غير أن عقله في الأخير مجرد صندوق أسود لعمليات الكذب المبرّرة سلفاً بطابع الدين والمجتمع.

الحاكم العربي لا يكذب حرفياً، لكنه يعلم – من مكانة التألُّه والتقديس المزيفين- أنه يعمل لصالح شعبه بكل يقين ممكن!! وأنه يدرك كافة الأشياء النافعة والضارة لهم دون جدال. ولا ينبغي لأي فرد أو جماعة أو حيوان اجتماعي حتى مراجعته ولا معرفة ماذا فعل ولا ماذا سيفعل في المستقبل، كل شيء كان يتم وسيتم بتكتم شديد انتظاراً لإعلان النتائج على الملأ دون أدنى اعتبار للشعوب. ذلك في غياب مبدأ الشفافية الذي في غيابه يصبح كل شيء مباحاً أو على الأقل غير حقيقي.

 ومن أسف ٍ أن الكذب يعشعش، يبيض، يفرِّخ، يمشي، يطير بتلك الأدمغة الحاكمة التي أكل الصدأ عليها وشرب، والحكام يعلمون سلفاً أنهم لا يقولون الحقائق ولن يقولونها. فكل شيء مبرر في مفاهيم الدول الحديثة لدينا: الاعتقال و الأقصاء والملاحقات الأمنية والقتل والمحاكمات غير العادلة لأجل الحفاظ على هيبة الدولة، وهناك سياسات الإفقار بدعوى انتشال الناس من المرحلة الحرجة، فضلاً الاستبداد والديكتاتورية لكيلا ينفذ أعداء الوطن إلى مواقع المسئولية. كل هذا متاح بينما لا تعرف الخطط وبرامج التنمية إلاَّ بعد فشلها دون غربلة ودراسات جدوى وتنقية الآثار الجانبية.

هذه الأوضاع السياسية التي تمر بها جميع دول العرب تقريباً هي بيئة خصبة جداً لاعتبار الأكاذيب حقائق، أوضاع هي بيولوجيا السلطة لنشأة واستفحال فيروسات الكذب، فمجتمع الاستبداد والعبودية يمثل حاضنة رئيسة للكذب وتجسيده في هيئة مسئولين ومؤسسات لممارسة التضليل الاعلامي وطقوس التصديق المجاني. وإذا كانت بعض النصوص والسرديات الدينية وقعت فريسة للتحريف والتزييف في إطار ظروف سياسية واجتماعية، أفلا تكون الدساتير والقوانين مجرد أكاذيب مقننة في إطار شعائر السلطة. ثم حال التطبيق لا تلوى على أي شيء في أرض الحياة. وعلى الأقل تمثل (معلقات قانونية) على جدران مجتمعات محرومة من أبسط حقوقها الإنسانية.

أمَّا مقولة " الحقيقية بوصفها كذباً "... فوراء تلك العبارة يوجد انكشاف وافتضاح لأمرها قائمان على الإنكار والوعي الناقد ومراجعة التاريخ واستعمال العقل استعمالاً صارماً. وفي تاريخ الثقافة العربية هناك من الأفكار والطقوس والنصوص التي تتعرى تدريجياً. ويتضح أن هالة القداسة التي تغلفها كانت محض صناعة سياسية واجتماعية، فالكهنوتان الديني والسياسي ارتكبا حماقات لا تغتفر في إشعال الحروب بين الطوائف والملل والنحل والمذاهب وصولاً إلى موجات الإرهاب والتطرف المعاصرين. فالإرهاب أثبت أن الأكاذيب بمعناها التأويلي والمجازي بإمكانها أن تدمر الحياة وتقتل الإنسان. فالكذب ليس لغويا من خلال الخطب الصوتية، لكنه تراكم كراهية تجاه المخالفين وتجاه المجتمع ككل.

 القفز على الواقع

إنَّ الكذب في تاريخ الإسلام السياسي لا ينتهي، فهو فجأة يقفز على أرض الواقع (خريطة الأحداث) فيصبح أشد شراسةً من الكوارث المدمرة. فالإخوان على سبيل المثال كانوا بالأمس القريب ومازالوا يفرضون جماعتهم نفسها كحقيقة بناء على مدونات فقهاء العنف والدم والجهاد والنحر، ولا تفرق أدبياتهم بين الاعتداء على بشر وحيوان أو شجر. وأخذ المتطرفون الحركيون يتعاملون مع سياستهم الشرعية كامتداد لدولة الرسول مع أنه محض تزييف إعادة اختراع اخواني أو سلفي للخلافة التي لم تتجاوز مساحة ضئيلة جداً من عمر الإسلام المبكر.

وهي المرحلة ما لم تخضع للنقد والفحص التاريخيين على نحو تفصيلي: كيف ولدت الخلافة، وماذا عن الأحوال التي آلت إليها؟ ولماذا كانت الخلافة ولم تكن سواها؟ وكيف حكم الخلفاء الأوائل كبشر خطَّاءين مثل كل البشر كما يقول التاريخ؟ وما طبيعة الصراع السياسي والاجتماعي الدائر بينهم؟ وكيف أنتجوا نصوصاً واتفاقيات وتصورات مازالت عالقة بالإسلام حتى الآن؟ بل كيف ظل الإسلام نفسه كدين كوني (كرسالة للعالمين) متعلقاً بالمحددات البيئية التي انتجتها الخلافة؟!

ما ينطبق على الإسلام السياسي ينطبق على مفاهيم الدولة العربية الحديثة، تلك التي ظهرت بعد الاستعمار حيث فرضت وجودها ككيان معنوي حداثي بينما هي مختلطة (حتى الغرق) بتصورات بدائية وقبيلة ولاهوتية وعائلية وأخيراً وظيفية. لكونها كمفهوم حداثي (شخصية اعتبارية) لا تجد ماصدقاً بلغة المنطق (شخصية عينية) على الخريطة الفعلية من الأحداث والتطورات. إذن الحقائق تقول هناك جثة مادية مترهلة اسمها الدولة، غير أنَّها بلا روح تقتات على نتاج الأكاذيب والاستعارات التي تتولد في عقول مواطنيها. والصراع الدائر الآن (منذ ما قبل الربيع العربي وبعده) هو نتيجة الصراع بين الاستعارات السياسية التي تتطاحن داخل كل مؤسسة حاكمة وداخل كل قصر رئاسي وكل قرار يتخذه حاكم ناقضاً أسس دولته الملقاة بإحدى زوايا التاريخ.

هناك سؤال بسيط جداً ينبغي لكل مواطن عربي أنْ يطرحه: هل حاكم دولته أو ملكها أو أميرها أو سلطانها حاكم يتسق مع مفهوم الدولة أم أنَّه أي شيء آخر إلاَّ أن يكون ذلك؟ ماذا يكون بالضبط، هل هو شيخ قبيلة أم كبير عائلة أم قاطع طريق أم زعيم عصابة أم فَتَّاء في جميع القضايا بمنطق الإفتاء الديني؟ لماذا تجتمع كل تلك الرؤوس المشوهة في رأسه ككائن خرافي تسلل إلينا خلسة من التاريخ الغابر؟ هل مازالت تلك الحفريات السياسية موجودة وسارية؟

 مهما تكن الإجابات التي يجب الكد بحثاً عن صياغتها، فالواقع يحتاج فهما بمزيد من التدقيق ومطاردة الاكاذيب. نحن في أمس الحاجة إلى ابتكار وسائل ثقافية وفكرية لصيد الأكاذيب كصيد الفئران. ليست تكفي كل أجهزة " كشف الكذب" عندما يكون الأخير مسكوتاً عنه نفاقاً وتزلفاً، لكن الوعي الناقد والحر يبقى هو الغربال الذي يتجنه رجال السياسة. ولا يتحقق هذا الوعي إلاَّ بتحرير العقل من هيمنة القوى المتسلطة على الفكر.

وبخاصة أنَّ تلك القوى لا تأتي إلينا عارية واضحة كوضوح النهار، بل على العكس هي تتسلل خفية إلى كل أنشطة الحياة ولا تترك شاردة ولا واردة دون استثمارها لفرض وجودها. حتى أنها قد تتحول إلى شفرات أحيانا، فالكذب لا يُرى عادةً، لكنه يُحس كالغريزة الكامنة في تضاعيف الحياة، ومن ثم علينا أن نقاومه تفصيلياً وتشريحياً بالطريقة ذاتها. شريطة أن تكون السياسة انفتاحاً حُراً يثري التنوع في المجتمعات الإنسانية على أسس الشفافية والاختلاف والحوار وتداول السلطة. فالسياسات ليست فنونا للممكن إلاَّ من حيث كونها فنوناً لإمكانية التحقق لا فرض الكذب فرضاً لدرجة التوهم.

 

سامي عبد العال

 

 

حاتم حميد محسن: هل التغيير التكنلوجي يخلق اقتصادا عالميا جديدا؟

التفاصيل
كتب بواسطة: حاتم حميد محسن

حاتم حميد محسنان التغيرات التكنلوجية هزت حياة الناس بالصميم مع حلول الثورة الصناعية الرابعة التي حوّلت الاقتصاديات بشكل لم يسبق له مثيل. السرعة غير المسبوقة للتغيير، بالاضافة الى اتساع وعمق العديد من التغيرات الراديكالية التي اُطلق لها العنان بفعل الرقمية الجديدة، والروبوت، والتكنلوجيا الثلاثية الأبعاد،كان لها تأثيرات هائلة على ما ننتج ونعمل، وعلى كيفية  وأين نعمل وحتى على الطريقة التي نحصل بها على رزقنا . وبينما يجري التحول بشكل مختلف في الدول المتقدمة والنامية ،لكن لا بلد او سوق سينجو من موجة التغيير.

لكي نثمن التغييرات الحاصلة أمامنا،هناك مظهران توضيحيان مترابطان للاقتصاد هما النمو والانتاجية من جهة، والعمالة او الاستخدام من جهة اخرى. وكما يشير منتدى الاقتصاد العالمي في تقريره السنوي،  ان الانتاجية هي العامل المقرر الأهم للنمو الطويل الأجل. مع ذلك، لاحظنا ان نمو الانتاجية في العالم أصابه الركود، خاصة منذ الكساد الكبير، وهو ما أثار السؤال عن قدرتنا على توفير مستويات معيشة مرتفعة لمواطني العالم. وبينما يكثر الجدل حول ما الذي  يدفع الانتاجية نحو الركود، يبرز سؤال هام هو كيف ستقود الثورة الصناعية الرابعة الانتاجية في السنوات القادمة.

نظريا، تطبيق تكنلوجيات جديدة على المشاكل القائمة يجب ان يحسّن الفاعلية ومن ثم الانتاجية. الابتكارات التكنلوجية تميل لرفع انتاجية العمل عبر السماح لقوة العمل القائمة بعمل الكثير بموارد أقل، وذلك عبر استبدال العمال الموجودين بتكنلوجيا (مع سلبيات واضحة سنشير اليها لاحقا)،الامر الذي يبشّر ايضا بمنتجات جديدة وعمليات تفتح مصادر جديدة للنمو.

تكنلوجيا الألعاب ام تكنلوجيا طوباوية؟

لازال هناك المزيد من النقاش حول الحجم المحتمل للتأثير. فمن جهة، الخبراء مثل روبرت غوردن من جامعة الشمال الغربي يعتقد ان المساهمات الأكثر اهمية للثورة الرقمية قد حصلت سلفا، وان تأثير الثورة التكنلوجية الحالية على الانتاجية قد انتهى تقريبا. وهذا سيكون مزعجا حقا، خاصة في ضوء التباطؤ الاقتصادي الحالي. ومن جهة اخرى، "متفائلو التكنلوجيا" مثل ايرك شميدت، رئيس مجلس ادارة غوغل، يعتقد ان العالم وصل نقطة الانحراف وسوف يشهد فورا نموا أسرع وصعودا هائلا في الانتاجية.

هذه الرؤى المختلفة تحصل لأن تأثير التكنلوجيا يصعب قياسه. و رجوعا الى عام 1987، ذكر الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل روبرت سلو: "انت تستطيع رؤية عصر الكومبيوتر في كل مكان الاّ في احصائيات الانتاجية".

المشكلة مع موقع Airbnb والناتج المحلي الاجمالي

بصرف النظر عن التأثير الدقيق للقياسات التقليدية للانتاجية والنمو، فان عدم كفاية القياس هو مشكلة بحد ذاته. موقع Airbnb الخاص بتأجير المساكن والشقق السكنية  يوفر بوضوح فاعلية ومكاسب انتاجية كبيرة. مع ذلك، العديد من منافع هذه الفعاليات الجديدة لم تُحتسب ضمن حسابات الناتج المحلي الاجمالي، بنفس الطريقة التي يتم تجاهل بها العمل المنزلي الخاص ورعاية الاطفال. بكلمة اخرى، نحن باستمرار ننتج ونستهلك قيمة اكثر مما تقيسه مؤشراتنا الاقتصادية. هذا يشير الى اننا نحتاج الى طريقة جديدة لقياس مخرجات الانتاجية، طالما لا نحسب بدقة القيمة التي اُنتجت للاقتصاد.

هذا يمكن رؤيته كجزء و كحزمة من نقاش لـ "ما وراء الناتج المحلي الاجمالي"، الذي يرى ان الناتج المحلي الاجمالي هو ببساطة ليس قياسا كافيا للتقدم الاجتماعي. سيكون مهما بالذات مراجعة النمو التقليدي لأرقام الانتاجية، لأن معظم هذه الانتاجية الجديدة سوف تُنجز بطريقة تجعل عالمنا اكثر قابلية للديمومة البيئية. في الحقيقة اننا في ظل ما يُرمز اليه بـ  "الاقتصاد التشاركي" الجديد يكون فيه العمل من أجل افضل استعمال للمنتجات الموجودة بدلا من مجرد انتاج "مواد" اكثر، والتي مع انها جيدة لإحصائيات الناتج المحلي الاجمالي لكنها ليست جيدة للكوكب.

ماذا يحدث عندما تتحول الروبوتات الى ذوي ياقات بيضاء؟

مع ان النقاش حول الانتاجية والقياس يبقى نظريا نوعا ما، لكن الشيء الاكثر اهمية هو التأثير المحتمل على مكاسب العمالة والاستخدام. طوال العصور،استبدلت التكنلوجيا الجهد الانساني والذي مع انه جيد لنمو الانتاجية (كما ذكر اعلاه) والنمو الكلي، لكنه مدمر للعمال الذين يفقدون وظائفهم. هذا لم يعد يتعلق فقط  بوظائف المصنع النمطية المتكررة، لأن الحوسبة الجديدة وتكنلوجيا الروبوت حاليا تهدد العديد من المهن التي بدت كأنها "منطقة آمنة" مثل المحاسبين وسائقي التاكسي و المساعدين القانونيين. ومع سرعة واتساع التغيرات التي انطلقت الآن، فمن الواضح ان التكنلوجيات الجديدة سوف تغير دراماتيكيا طبيعة العمل في جميع الصناعات والمهن. وعندما تحل الأتمتة محل قوة العمل في انتاج البضائع والخدمات الحالية، فان السؤال الاساسي هو كم من الوقت سيأخذ هذا والى أي مدى سيذهب. دراسة حديثة قدرت ان 47% من العمالة الكلية في الولايات المتحدة هي في خطر خلال العقد او العقدين القادمين.

كان من المألوف دائما ان الابتكارات التكنلوجية تحطم بعض الوظائف وتستبدلها بوظائف اخرى، في فعاليات مختلفة وربما في اماكن مختلفة. ومع تصاعد سرعة الابتكارات التكنلوجية ، يمكن للمرء توقّع ان الفعاليات القليلة المهارة ستُستبدل بشكل تصاعدي بمهام تتطلب ابداعية وذكاء اجتماعي. ومع الفصل المتصاعد لوظائف السوق الى "وظائف قليلة المهارة وقليلة الأجر" و "عالية المهارة وعالية الأجر"، فان التوترات الاجتماعية ستزداد حتما.

نحن لاحظنا سلفا زيادة في اللامساواة ضمن مجموعة دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، وفي مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي وهو  مؤشر للمدى الذي تكبح فيه هذه اللامساواة النمو والتنمية.

المدرسة، العمل، التقاعد، برنامج حوافز التقاعد RIP

بما ان الاضطراب سيكون كبيرا و التحول بين الوظائف الجديدة والقديمة سيأخذ وقتا، يبقى السؤال الرئيسي هو ماذا نعمل لتسريع المزيد من المحصلات الايجابية وانجاز أحسن ادارة لتلك الوظائف التي علقت في مرحلة التحول. في البيئة العاملة التي تتطور بسرعة، تصبح دائما المقدرة على توقّع متطلبات المستقبل من حيث المعرفة والمهارات الضرورية للتكيّف حاسمة . جميع أصحاب المصلحة في الشركات والحكومة والمجتمع والافراد  يجب ان يعملوا مع بعضهم لتغيير التعليم وأنظمة التدريب التي يمكنها باستمرار إعادة المهارات وتعليم مهارات جديدة  للعمال. النموذج التقليدي للمدرسة – العمل – التقاعد سوف لن يعمل كما ينبغي، خاصة عندما ندخل في عصر يكون فيه التخلي عن الوظائف أسرع من خلق وظائف جديدة.

هل الدول النامية تقفز الى الامام ام تُترك الى الخلف؟

من المهم التفكير في مايعنيه هذا  للدول النامية. في ضوء العديد من المراحل السابقة  للثورة الصناعية التي لم تصل بعد للعديد من مواطني العالم (الذين لازالوا ليس لديهم كهرباء او تراكتورات وغيرها)، فان الثورة الصناعية الرابعة تحدد اساسا طبيعة المتحول في الاقتصاديات المتقدمة (والى حد ما الدخل المتوسط).

في العقود الاخيرة،رغم ان هناك زيادة في اللامساواة ضمن الدول، لكن هذه اللامساواة عبر الدول انخفضت بشكل كبير عندما بدأت الدول النامية اللحاق. هل تخاطر هذه الدول  في السير عكس مسيرة اللحاق مع تأثير ذلك بالنسبة للدخل والمهارات والبنية التحتية والتمويل؟ ام ان هذه التكنلوجيات والتغيرات السريعة ممكن إتقانها لغرض التنمية وتحقيق لحاق أسرع من خلال القفز السريع او حرق المراحل؟

الانسان الاقتصادي The homo economicus

من الصعب الاجابة على هذه الاسئلة  لكنها سوف تتطلب تفكيرا هاما لأن الاقتصاديات المتقدمة تتعامل مع تحدياتها الخاصة.انها ليست فقط مهمة اخلاقيا لضمان ان مساحات من العالم لم تُترك في الخلف، بل انها تشكل  مخاطرة للاستقرار العالمي من خلال سيناريوهات مثل اللامساواة العالمية، تدفق المهاجرين، وحتى علاقات جيوسياسية وأمن.

في النهاية، الدول النامية لديها أعظم فجوة للاغلاق، ولكن يمكنها ايضا الاستفادة من التعلّم من أخطاء الاقتصاديات المتقدمة،  والقفز الى مزيد من المستقبل المزدهر المعزز تكنلوجيا. ان نجاح الانسان الاقتصادي في الغد  بالتأكيد سوف يكون مختلفا عن اليوم، هو سوف يكون ذو ابداعية عالية ومتكيفة، سوف يمتلك عدة وظائف اثناء حياته، و سوف يكون غير منزعج  ليمتلك او يسوق السيارة الى العمل ان كان لديه مكتب يذهب اليه. سوف يعيش في عالم يكون قد تغير بعمق بأربع ثورات صناعية.

 

حاتم حميد محسن

 

مجدي إبراهيم: نقائض التصوف: بين الفكر والتجربة (6)

التفاصيل
كتب بواسطة: د. مجدي ابراهيم

مجدي ابراهيمالسؤال الذي طرحناه في نهاية المقال السابق وهو: إذا كانت التجربة الصوفية هى الفيصل الفارق المميز لجعل هذا العالم قائماً بذاته، فما العلاقة بين التجربة والفكر: هل تسبق التجربة العقل أم يسبقها العقل ويتقدّم عليها؟ سؤال له ما يبرره من واقع ما سبقت إليه الإشارة تفصيلاً.

غير أننا في المجمل نستخلص من هذا كله نتيجة مهمة، وهى أن تجربة الصوفي في حد ذاتها سابقة على الفكرة. وحيث أقول "الفكرة" فإنما يتوجه القصد مباشرة إلى الفكرة الفلسفية، فلا يفكر الصوفي أولاً ثم يُجرب، ولكنه يجرب أولاً ثم يأتي الفكر شارحاً لتجربته. ولا يكون العكس صحيحاً بوجه من الوجوه. وهذا في تقديري هو ما يميز العرفان (Gnosis) عن الفلسفة؛ إذْ العقل في مجال الفلسفة أسبق من التجربة في مجال التصوف. والمتصوف أقدر على فلسفة تجربته العرفانية من الفيلسوف الذي لم يذق فتوح التجارب الصوفية؛ فأفلوطين مثلاً كان أخضع تجربته لعقله ولم يخضع عقله لتجربته. وقد صحّ عنه أنه قال لم يذق في هذه التجربة شهود الوصال (الجذب Ecstasy) مع الواحد إلا أربع مرات في حياته كلها. ومعنى هذا أنه لم يبلغ حالة التسامي الفنائي (ecastitic trance) التي بلغها أصحاب التجارب العليا من صوفية المسلمين .. ربما لافتقاره إلى الوحي (Revelation) من جهة.

ومن جهة أخرى؛ لأن الفكر سبق لديه التجربة؛ فكل ما عرفه عن الواحد كان نتيجة تأمل عقلي وتفكير نظري، ولا يحدث هذا في بطن التجربة الصوفية؛ ليتم بفضلها الشهود المباشر؛ لأنها تكون هى السابقة المُقدّمة على كل ما يثمره العقل أو يشكله بمقولاته تشكيلاً أوليّاً سابق على التجربة.

مقولات العقل وإطاراته الذهنية في مجال الفلسفة مُقدّمة على التجربة الصوفية مستقلة عن الاحتكاك بها، حتى إذا ما جاءت التجربة بعد ذلك جاءت ضعيفة بالقياس إلى إعمال العقل قبل ذلك؛ إذْ القوالب العقلية المفروضة تسيطر على الحالة الروحية وتحد من طلاقتها؛ فتأخذ الحالة الشكل الذي فرضته عليها تلك القوالب الجامدة، فتفقد جذبتها إلى الملأ الأعلى بمقدار ما تفقد خصوصيتها وتفرُّدها وامتيازها.

حقاً ! ربما تصبح تجربة عقلية فلسفية بامتياز، ولكنها ليست حالاً ولا سراً يشهد الملأ الأعلى شهوداً بالمباشرة.

والعقل بلا شك له زاويته التي لا ينفك يرى بها الأشياء التي تزخر بها طبيعتها بعد أن يكون قد أختار منها ما شاء وأسقط منها ما شاء، بحسب نظرته الذاتية الخاصّة بمحض ما تفرض عليه مقولاته لا غير، فلا يدع من ثمّ التجربة أن تستكمل طريقها في مسارها الروحي؛ لكأنما يستعجل هذا المسار: يعوقه بفروضه ويقطعه بتحليلاته ويسلط عليه أنظاره من غير أن يُتمم للتجربة مسارها. على العكس من ذلك كله يحدث في مجال التجربة الصوفية؛ إذ هى التي تفرض على العقل فيما لو كانت هى المقدَّمَة، وحين يعجز عن الانصياع لها والتقيد بأوامرها يتوقف عن الإدراك فيحيل إلى مدراك أعلى منه وأرفع، هى بلا شك مدراك البصيرة. والبصيرة لازمة بالضرورة للتجربة، هي الأداة الإدراكية العليا لصنوف التجربة الصوفية باصطلاح وليم جميس.

أمّا العقل؛ فلا .. إذا سلّم العقل للبصيرة أمره، نجح الإنسان في إتمام مراقي الشهود. وإذا ناطح العقل البصيرة، خذلته الرؤية فما أتمّ الشهود. ولكن هذه الشروط والضوابط ليست حَديّة فاصلة، وإنما تأتي كما لو كانت صياغات تقريبية لفهم عمل التجربة الصوفية في ميدانها. ويبقى بعد ذلك دورٌ غير منكور للعقل لا يتخطاه، وهو أنه أحال أولاً على البصيرة. وهو ثانياً يظل شارحاً للتجربة ينظمها ويسترشد في التخريج بمعطياتها ويأخذ منها ولا يأخذ من نفسه. وبمقدار ما يتصالح معها ويحاول فهم أسرارها يُخضع قوالبه لها ويكيف مقولاته في إطار التعاطف معها من حيث لا يخضع المرء تجربته، كما يحدث في مجال الفلسفة، لقوالب عقله ومقولاته.

لكن سؤلاً يثيره الذهن المترقب في هذه الفروق: وهل يدخل الصوفي تجربته وهو مُجرّد بلا علم ولا فكر ولا معرفة؟ وأي تجربة هذه التي يخوض غمارها وهو جاهل، والجهل لا يُعوّل عليه؟

تحقيقاً؛ لا نأخذ بما كان أخذ به "جان فال" حين أراد أن يصف هذه الحالة من طريق المجاز بالاستنارة مع أنها جهالة؛ فسمّاها في "طريق الفيلسوف" "بالجهل المستنير"، وهى عبارة تحمل مفارقة إنْ دلت على التجربة الصوفية ومعطياتها مفارقات، لا تدل على حقيقتها الكامنة فيها من حيث إنها عمل لا يعرف الجهل، وعلم يقارب المعرفة ويرتفع عنها إلى مقام الشهود.

غير أنه سؤال يبدر من الوهلة الأولى نقضاً لدعائم التجربة الصوفية: علام تستند؟ وهو سؤال وجيه، لكنه قاصر في نفس الوقت؛ إذْ الصوفي أولاً يعلم من الشرع أصوله، ومن العلم مبادئه ثم من بعدٌ لا يُشغل نفسه بكثرة الأقوال، ولكن يزج بها في بحار الأنوار؛ فالعلوم التي تعلمها والشرائع التي حصّلها تستدعي إعمال العقل وتتطلب جهد التفكير المُضنى الذي يصرف المرء عن غاياته ويشتت مقاصده ويقدح في خلوصه من جهة. ثم من جهة أخرى؛ فإنّ بعض قدماء الأولياء من المسلمين كانوا يعدّون الإغراق في العلم يبعث على الزهو والخيلاء. والعلماء ذوي الإيمان الضعيف يراكمون العلم ويأخذون بناصيته إلا أنهم لا يطبقونه في حياتهم العملية ثم يبيعون العلم لقاء المال. ومن صحة الرأي عندهم أن العالم يكون متكبراً، دنيوياً، مسيئاً، " إذا كثر بقباقبه وانتشرت كتبه وغضب أن يرد عليه شئ من قوله" كما يقول أبو نعيم في حلية الأولياء.

وهكذا لم تتغير على مدى السنين الطوال صفات المتكبرين من العلماء؛ لأنها صفات نفوس ملوثة، يأكل العجب فيها كما السوس إلى حيث يقضي عليها وعلى ما تعلمت في غير تعليم. إنما الصوفي الذي يخوض غمار التجربة في المقابل، ليس مطلوباً منه أن يستغرق عمره في شتى صنوف المجادلات النظرية بل يقتصر على الفروض والرواتب، ويأخذ في العلم ويشتغل بدوام الذكر.

وهنا نقطة تبدو لي في غاية الأهمية ينبغي التنبُّه إليها، وهى أن هذه المرحلة ليست دائمة؛ بل هي مرحلة موقوته بزمانها ومكانها: (خلوات) على فترات متباعدة للتصفية والتنقية، يعول عليها عمل الباطن؛ لأن الصوفي لا يمكث طوال حياته متبتلاً منقطعاً دون أن يمارس أعماله في حياته اليومية عبادة في مواعيدها المناسبة واستخلاصاً لما يمليه عليه واجبه تجاه نفسه ومجتمعه.

على أن هذه المرحلة الموقوتة، الفترة الزمنية التي يخوض فيها التجربة، تستغرقه بالكلية وتملك عليه أقطاره، وهى مع ذلك تجربة مُمَنهجة لا تقوم فيه جزافاً بلا هدف ولا غاية، يتغذى فيها الباطن بالأذكار لا بالأفكار، أو على حد قول ابن خلدون يتغذى فيها الروح العاقل بالذكر. وأكثر من تحدّث في فترة التجربة هم أقربهم إليها، هم من مارسوها. وكان الغزالي في ميزان العمل قد منهج خطواتها على مراحل، واستفاض ابن عربي من بعده في رسالة (الأنوار) شارحاً كيفية ممارستها على أصول منهجية وضعها. وإليك منهج خوض التجربة الصوفية كما وصفة الغزالي في خطوات:

(1) أن تقطع علائقك من الدنيا بالكلية بحيث لا يلتفت قلبك إلى أهل، وولد، ووطن، وعلم، وولاية، أو ما شابه ذلك من القواطع والأغيار؛ بل تصير إلى حالة يستوي عندك وجودها وعدمها (ولكن لا بأس من عناية القالب لا القلب بكل هذا).

(2) تخلو بنفسك في زاوية تقتصر من العبادة على الفرائض والرواتب.

(3) تجلس فارغ القلب، مجموع الهم، مقبلاً بذكرك على الله تعالى، وذلك في أول الأمر بأن تواظب باللسان على ذكر الله تعالى، فلا تزال تقول (الله .. الله .. الله) مع حضور القلب وإدراكه.

(4) لا تزال على هذا الحال إلى أن ننتهى إلى "حالة" لو تركت تحريك اللسان؛ لرأيت كأن الكلمة جارية على لسانك لكثرة اعتياده عليها.

(5) ثم تصير مواظباً على الذكر لا تنقطع إلى أن يمحي أثر اللسان؛ فتصادف نفسك وقلبك مواظبين على هذا الذكر من غير حركة اللسان.

(6) تواظب، ولا لاتزال تواظب، إلى أن لا يبقى في قلبك إلا معنى اللفظ، ولا يخطر ببالك حروف اللفظ وهيئة الكلمة؛ بل يبقى المعنى المجرد حاضراً في القلب على اللزوم والدوام. ولك اختيار إلى هذا الحد فقط، ولا اختيار بعده لك إلا في الاستدامة لدفع الوساوس الصارفة.

(7) ينقطع اختيارك فلا يبقى لك إلا الانتظار لما يظهر من فتوح ظهر مثله للأولياء، وهو بعض ما يظهر للأنبياء. 

هذه الخطوات بادئ الرأي فيما لو تمت بحرص وعناية أظهرت فيمن يطبقها منهج الكشف كما يصوّره الغزالي: منهج تجريبي عملي (ممارسة عملية) لا يتسنى تطبيقه إلا إذا وجدت دوافع توفيقية من الله تعالى سابقة، ووجد معها القصد بالاستعداد. وعين ما يذكره الغزالي في الميزان والإحياء، ذكره ابن عربي في "رسالة الأنوار" مع اختلاف اللفظ وبقاء المعنى: المواظبة والاشتغال بالذكر بلا توقف حتى ينمحي الاختيار، ولا يتم هذا وعلائق الإنسان بالدنيا موصولة، والتعلق بشواغلها ومنغصاتها مستقرة في الباطن، رابضة كامنة في العقل، موجّهة للفكر إلى المحظور وغير المحظور سواء.

هذا المنهج دالٌ من الوهلة الأولى على أسبقية التجربة الصوفية على الفكرة النظرية؛ فمجرد التفكير في شئ من أشياء الدنيا، قل أو كثر، عائق عملي أمام فاعلية التجربة داعياً إلى تعطيل مسارها، فضلاً عن انغماس الفكر في التفصيلات النظرية، فهو أيضاً عائق معرفي بكل تأكيد؛ لأن ما يتلقاه المرء بعد سقوط الاختيار علوم ليست من جنس علوم الأفكار النظرية، ولا هى من تصرفات العقل الفلسفي النظري فيها، ولكنها علوم تنقش نقشاً على رقائق القلب، ويعز التعبير عنها بالمباشرة بلغة العبارة العادية، لأنها صادرة عن وعي عالي، هو الوعي الصوفي (Mystical Consciousness)، والوعي العالي لا يُكيف مباشرة باللفظ المعتاد ولا بالعبارة العادية؛ لذلك كان الرمز هو المناسب للإشارة المُلغزة، وللومضة البارقة، وللذوق الفياض بثمار الأذكار.

غير أن هذا لا يحدث في حقل الفلسفة؛ لأن الفيلسوف إذا سلط عقله على شيء يستغرقه بالكلية، ناهيك عما يتضمّنه محض التفكير من جوانب ذاتية متصلة بكل ما للمرء من عبادة الأنا واستشعار الذات واستبقاء الآنيّة التي لا تتلاشى أبداً من باطن الفيلسوف في حين لا تقوم للعارف قائمة وهي فيه قائمة.

ما تعطيه التجربة ويُفاض عليه من علوم مُمدّة بفعل الهمة تكون عطايا الفهم الجديد لا الشّرع الجديد؛ لكنه يكون إذْ ذَاَكَ فهم على غير مثال مسبوق، فهم ممزوج بالمعاناة مخلوط بتعب الانتظار والترقب.

مثله، ينقطع الفيلسوف إلى شواغله النظرية ويخوض تجربته مع المقروء والمكتوب في إطار التأملات العقلية، ولا يخرج بالعقل ليُعَبِّر عن الحقيقة إلا كما يخرج غربال من بئر بتعبير الشاعر الفارسي فريد الدين العطار، طيّب الله ثراه،: ضع الغربال في بئر ماء فهل تخرج بشيء سوى قاذورات ونفايات تلقى بها بعيداً غير آسف؟ وكذلك العقل الذي يدعي كشف الحقائق الإلهية بلا وعى البصائر والأنوار والتجليات، يحكمها وعى محدود بحدود ما تفكر فيه على شرطها، وعلى شرط مقولاتها لا على شرط القصد المُوجّه من وعى الإلهام والاستبصار، وهو أعلى وعي يمكن تحصيله من ذوق مقامات الإحسان.

الفاعل الأكبر في (الحقيقة) التي هي باطن الشرع هو هذا الوعى، وليس من فاعل غيره على التحقيق بكل تأكيد. ولهذا؛ ومن أجل هذا؛ يكون للوليّ خاصية الفهم الجديد لأجل تجربته الفياضة بعلوم الأذكار؛ وهو ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب، وهى فيوضات التقريب (Emanation) أو تجليات (Manifestation) النور الإلهي في قلب الولي أو (Revelation) أو هي الحقيقة المطلقة التي تكشف عن نفسها فيما لا يتناهى من الصور والأشكال كما يسميها المرحوم الدكتور أبو العلا عفيفي في دراسته عن ابن عربي (The Mystical philosophy of Myhyid Din Ibn Arabi, Cambridge, 1939, p.62)).

ولأجل معيته الدائمة مع ألطاف الله، يتعلم الولي من فيوضات الحق وتجليات أنواره على قلبه ما لا يتعلمه الفيلسوف من معارفه التأملية العقلية وهو يعلم من شرع الله ما لا يعلمه الفقيه المحدود بحدود العلوم الظاهرة.

ومحالٌ مرة أخرى؛ على مستوى التجربة أن تكون عطايا الباطن كعطايا الظاهر سواء. ليس الوليّ يجاوز الشرع بتجليات علوم الحقائق على قلبه، لا ولكنه يتحقق من باطن الشرع، من النبع الصافي الذي يكرع منه شراب الأنس ووصلة الوصال.

الأولياء نجوم مضيئة في سماء الولاية يتجسد فيها قمر الحقيقة الساطع، وهو باطن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فكيف يخالفون شرعه وهم قطع من نوره المشرق على التحقيق، كل واحد منهم قبس من شمس الحقيقة؟

إنما الذي يقدح في الأولياء طمع الأغبياء ممّن غرقوا في وحل الوقائع الظاهرة والأحداث اليومية الجارية؛ فاستغرقتهم وطمعوا في إقبال الدنيا عليهم؛ فحجبتهم عن نور الحق وأضواء الحقيقة. 

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم     

 

سونيا عبد اللطيف تحاور الأديبة فاطمة بوهراكة

التفاصيل
كتب بواسطة: سونيا عبد اللطيف

2388 فاطمة بوهراكةيغيب صاحب المنصب المحارب وتبقى الأعمال الشاهقة

شاعرة وأدبية معاصرة... تنبش في القديم.. تحفر في التراث.. لا تيأس من البحث والسؤال، آثرت التعريف بالآخرين من الأدباء والشعراء من كل بلدان العالم العربي على خدمة نفسها هي الشاعرة فاطمة بوهراكة من مواليد 1974 بفاس المغربية، اقتحمت الساحة الأدبية اقتحاما فعرفت من المحيط إلى الخليج.... كما عرف اسمها لدى العديد من الأدباء المعاصرين الأجانب بحكم ترجمة أشعارها إلى لغات عديدة كالفرنسية، الإسبانية، الانقليزية، الألمانية، التركية والكردية وحتى العبرية.. غير أن اسمها مازال مخفيا نسبيا عن الكثيرين من الأدباء والشعراء، اخترتها أن تكون شخصيّة اللقاء لجملة من الحوارات التي أجريتها مع بعض المبدعين.. فتوجّهت إليها بالأسئلة التّالية:

السؤال الأول: الشاعرة فاطمة بوهراكة سألت عن اسمك في الوسط الشعري التونسي وحتى العربي من خلال علاقاتي فكان نسبيا معروفا... هل لك أن تعرّفي بنفسك أكثر للقراء وذكر ما سبب عدم شهرة اسمك بالرغم من انجازاتك وتكريماتك والشهادات العديدة التي نلتها والمحبّة التي حصدتها..؟

فاطمة بوهراكة

- من مواليد فاس في 13 فبراير 1974 م .

- رئيسة دارة الشعر المغربي منذ عام (2007 - 2019 م)

- مديرة مهرجان فاس الدولي للإبداع الشعري (2010م إلى 2018 م.)

- معدة ومقدمة برنامج رنين الكلم بإذاعة فاس الجهوية عام 2013 م .

- مشرفة نادي المكتبة التابع للمركب الثقافي والاجتماعي والرياضي عين النقبي (2013-2014 م) .

- مديرة عامة لمؤسسة صدانا الثقافية في الفترة الممتدة مابين (2008 – 2018م)

- عضو اتحاد كتاب المغرب .

- شاركت في العديد من الملتقيات والمهرجانات الشعرية والفكرية منذ عام 1996م وإلى يومنا هذا في كل من: المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، مصر، السودان، العراق، لبنان،الإمارات، البحرين، سلطنة عمان، فرنسا،الهند .

- شاركت إلى جانب الشاعرة الدكتورة الشيخة سعاد الصباح في إنجاز مسرحية شعرية تحت عنوان '' فيتو على نون النسوة '' عرضت بالمركب الثقافي بمدينة فاس المغربية يوم السبت 28 يوليوز 2007م .

- معدة الموسوعة الكبرى للشعراء العرب التي انطلق العمل عليها بتاريخ 1 يوليوز2007 وتم إصدارها كمجلد شمل 2000 شاعرا وشاعرة عام 2016 م .

- معدة كتاب 100 شاعرة من العالم العربي / قصائد تنثر الحب والسلام 1950/2000 صدر عام 2017 م بأربع لغات هي: العربية , الفرنسية (ترجمة الأستاذة فاطمة الزهراء العلوي) , الإنجليزية (ترجمة الدكتورة سعاد السلاوي) الإسبانية (ترجمة الأستاذة ميساء بونو).

- معدة كتاب77 شاعرا وشاعرة من المحيط إلى الخليج 2007 /2017 صدر عام 2018 م .

- معدة كتاب شعراء سياسيون من المغرب (1944/2014م) صدر عام 2019 م.

- معدة موسوعة الشعر السوداني الفصيح (1919/2019 م) صدر عام 2019 م .

- معدة كتاب 50 عاما من الشعر العماني الفصيح في ظل السلطان قابوس (1970/2020) . صدر عام 2020 م .

- ساهمت في إنجاز أربع مجموعات شعرية مشتركة رفقة ثلة من الشعراء وهي:

- احتراقات عشتار 1995م،غدائر البوح 1996م، وشم على الماء 1997م، بهذا وصى الرمل 1998م .

- لها ديوان شعر تحت عنوان: اغتراب الأقاحي طبع عام 2001 م مترجم للغة الفرنسية .

- لها ديوان شعر يحمل عنوان: بــوح المــرايا طبع عام 2009 بثلاث لغات: العربية، الفرنسية، الاسبانية .

- لها ديوان شعر تحت عنوان نبض طبع بسبع لغات هي: العربية،العبرية ،الإنجليزية،الفرنسية، الإسبانية، الكردية، التركية طبع عام 2012م.

- لها ديوان تحت عنوان جنون الصمت طبع بالرباط ثم بالقاهرة عام 2015 م .

- تم ترشيحها لنيل لقب أفضل شخصية ثقافية لعام 2012م ضمن جائزة الشيخ زايد للكتاب .

- تم تكريمها من قبل المهرجان الثقافي الوطني للشعر النسائي بقسنطينة الجزائرية تحت رعاية فخامة رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة في 13 أكتوبر 2012 م.

- أنجزت على دواوينها الشعرية العديد من الدراسات النقدية منها دراسة باللغة الفارسية من قبل الدكتور جمال نصاري طبعت عام 2014 م في كتاب تحت عنوان فاطمة بوهراكة تتكلم بصمت .

- كتبت عنها العديد من الشهادات والأشعار من قبل شعراء ونقاد جمعت وطبعت في كتاب تحت عنوان: شراع المحبة عام 2014 م .

- صاحبة مبادرة (تبرع بكتاب ... تحمي الألباب) والتي جمعت من خلالها أكثر من 5000 كتاب قدمت هبة لبعض المكتبات العمومية التابعة لجمعيات فاس والتي انطلق العمل عليها مند عام 2014 م .

- فاعل جمعوي لأكثر من عشرين عاما حيث خلقت العديد من الأفكار والمشاريع الثقافية داخل وخارج المغرب نذكر منها:

ملحمة في حب السودان عام 2019 م

ملحمة في حب لبنان عام 2020 م

- اشتغلت على تحقيق عدة أفكار ثقافية منها: مشاكسة الشعر للفن التشكيلي عام 2001 ومشاكسة الشعر للغناء عام 2013 م كما سجلت عدة حلقات تعريفية لرائدات الشعر العربي من حيث طباعة الدواوين في لقاءات معهن عبر اليوتوب تحت عنوان: رائدات لازلن على قيد الحياة .

- أجريت معها عدة لقاءات إذاعية وتلفزية نذكر منها: القناة الأولى المغربية، قناة الثقافية السعودية، قناة عشتار العراقية، قناة النيل المصرية، قناة النيل الأزرق والشروق السودانية .

- أجري معها حوار صحفي عربي عبر قناة اليوتيوب شارك في إنجازه ثلة من الصحفيين المتميزين: الدكتورة فاطمة برودي وسعيد معواج (المغرب) الدكتور عبد البديع فهمي وشرين نبيل (مصر) غادة أبشر ومحمد آدم بركة وأحمد خضر (السودان) ضحى عبد الرؤوف المل (لبنان) عبد الوهاب العريض (السعودية) زهراء غريب (البحرين) يوليوز 2019 م .

- تم اختيار مسارها في مجال التوثيق الشعري للحديث عنه في العديد من القنوات الفضائية منها: قناة الظفرة الإماراتية في برنامج الرقم 1 وقناة TRT التركية من خلال برنامج قصتي .

- كتب عن مسارها الإبداعي الأديب المغربي حميد بركي كتابا أطلق عليه اسـم: فاطمة بوهراكة امرأة من ذهب طبع عام 2018 م .

- ضيف شرف ملتقى الخرطوم لنقد الشعر السوداني في دورته الثانية بتاريخ 25،26 غشت 2019 م المنظم من قبل بيت الشعر بالخرطوم إلى جانب الأديب المصري أحمد فضل شبلول .

- تم إدراج بورتريه لها ضمن معرض (بورتريهات لشخصيات مهمة) في كلية الفنون بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا بريشة الفنان والأستاذ السابق بالكلية بدر الدين محمد النور، يناير 2020 م .

أما ما يتعلق بعدم انتشار إسمي بشكل كبير عربيا ووطنيا فأعتقد أن السبب الأول يرجع لطبيعة شخصيتي التي تحب العمل في صمت وثانيا أنني لست صديقة مقربة للإعلاميين حتى أكون مادة دسمة في مجلاتهم وصحفهم .

2388 فاطمة بوهراكة

السؤال الثاني: بدأت صغيرة بكتابة الشعر.. لكنك اشتغلت على البحث في أسماء الشعراء والشاعرات ليس في المغرب فقط.. ألمْ يُؤثّر هذا على موهبتك كشاعرة..

الجواب: هذا الاختيار كان صعبا للغاية لكنه مهم بالنسبة لي وللساحة التوثيقية العربية فهناك شعراء كثر لكننا نحتاج لمن يوثق لهم بكل مصداقية وحيادية حتى لا تضيع أثرهم الشعري والنتيجة أن إنتاجي الشعري تراجع بشكل كبير بعد دخول مجال التوثيق .

السؤال الثالث: هل واجهت عراقيل وأنت تنجزين أعمالك الكبرى كتلك الموسوعة التي ضمت 2000 شاعر وشاعرة وأخذ من عمرك ووقتك الكثير.؟

الجواب: هناك العديد من الصعاب والعراقيل التي لا تعد ولا تحصى أوجزها فيما يلي:

- غياب الدعم المالي لهذه الأعمال التوثيقية فتبقى الطباعة شخصية محدودة الانتشار .

- التواصل مع عدد كبير من الشعراء مختلفي الطباع والثقافات .

- اختلاف الثقافات المجتمعية بين الدول مما يؤثر سلبا على الظهور الشعري لدى النساء .

- ضرورة السفر للبلد الذي سيتم التوثيق لشعرائه بعد اختيار الفترة التاريخية لذلك .

- وجود قصائد مسروقة بين الشعراء .

- فبركة بعض السير الأدبية من قبل أصحابها .

- خلق مجموعة عراقيل من قبل بعض الجهات أو الشخصيات لظهور هذه الأعمال .

- تقديم أسماء شعرية دون غيرها من قبل الشعراء أو النقاد الذين أتوجه إليهم كمتقرحات فيفضلون إرسال أسماء تربطهم بهم علاقة دينية أو مذهبية أو شللية على حساب الشعر نفسه .

السؤال الرابع: كيف كنت تحصلين على المعلومات التي قمت بتجميعها في موسوعاتك.؟

الجواب: أنا لا أعمل على تجميع المعلومات وإنما التنقيب عليها من خلال التواصل المباشر مع الشاعر الحي أو مع عائلته وأصدقائه في حالة وفاته وهذا ما مكنه لي وجودي في الساحة الشعرية العربية لحوالي ثلاثين عاما ومعرفتي الشخصية بالشعراء والشاعرات .

الشيء الذي جعلني أكتشف أسماء شعرية مهمة بالساحة العربية لكنها مغيبة ولم تذكر في أي كتاب من قبل .

السؤال الخامس: اهتممت اهتماما خاصا بالشعر السوداني الفصيح فأعددت موسوعة له من 1919 إلى 2019، كذلك اشتغلت على الشعر الفصيح العماني خمسين عاما... كيف جاءتك الفكرة أن تبحثي في تراث شعري ليس من بلدك؟

الجواب: انطلاقتي الأولى في مجال التوثيق الشعري كانت عام 2007 م من خلال الموسوعة الكبرى للشعراء العرب بين سنوات 1956 و2006 م حيث اشتغلت على شعراء العالم العربي بمختلف جنسياته وعرقياته ودياناته بعدها جاءت فكرة الاشتغال على توثيق وترجمة الأعمال الشعرية لمائة شاعرة من العالم العربي بهدف التعريف بالانتاج الشعري النسائي عالميا ثم اشتغلت على كتاب 77 شاعرا وشاعرة من المحيط إلى الخليج بطلب من عدة باحثين بالجامعيات العربية بعدها عملت على كتاب مغربي مخض هو شعراء سياسيون من المغرب ثم انتقلت للعمل على مستوى الأوطان فكانت فكرة الاشتغال على الشعر السوداني الفصيح بعدما زرته عام 2018 م بدعوة كريمة من بيت الشعر بالخرطوم بعدها جاءت فكرة الاشتغال على التوثيق لشعراء سلطنة عمان في عهد السلطان قابوس رحمه الله باني نهضة عمان الحديثة في ذكراه الخمسين وحاليا اشتغل على موسوعة الشعر النسائي العربي المعاصر بين سنوات 1950و2020 م .

السؤال السادس: كل المنجزات التوثيقية التي قمت بها تتطلب منك جهودا جبارة مادية وجسدية وفكرية... إلى غير ذلك.. ماذا حصدت منها؟

الجواب: إذا كنت تقصدين الجانب المالي فلا شيء يذكر باستثناء مبلغ 500 دولار مع تكريم ببيت الشعر بالخرطوم .

أما إذا كنت تتحدثين عن الجانب المعنوي فهناك أشياء كثيرة على رأسها محبة الناس .

السؤال السابع: كل بحوثك ودراساتك نخبويّة... موجّهة إلى فئة معينة من القراء أو الأدباء والباحثين في الغرض.. ألا توافقينني أن كل من رام اليوم بحثا توجّه إلى الشّيخ ڨوڨل أو اليوتيوب أو المواقع الإلكترونية.. فهل سيبحث عن الورق في المكتبات؟

الجواب: هناك فرق شاسع بين ما يقدم لنا بالعالم الافتراضي من بيانات وبين ما هو موجود على أرض الواقع وشخصيا لا أميل للبحث عن أكاذيب منشورة بالانترنت حيث تجدين العديد من السير الأدبية المزورة.

فما يقدمه الانترنت لا يجب الوثوق به وعلى الباحثين أن يحتاطوا منه ويبحثوا عن المعلومة من أصحابها مباشرة ثم التحري عنها من غيرهم .

السؤال الثامن: لو سألتك عن شأن بحثك في الشعر النسائي.. من هي أقدم شاعرة في التاريخ؟ في أي عصر ظهرت..؟

الجواب: الشاعرة أنخيدوانا ابنة الأمير سرجون الأكدي ببلاد الرافدين عاشت في الألفية الثالثة قبل الميلاد .

السؤال التاسع: بعد النتائج المبهرة التي حققتها في موسوعاتك هل باستطاعتك ان تقدمي لنا قائمة بأسماء أول الشاعرات العربيات من كل بلد أو كنّ صاحبات أول ديوان؟

الجواب: أول الإصدارات الشعرية النسائية العربية جاءت على الشكل التالي:

وردة اليازجي / حديقة الورد، عام 1867م / لبنان .

مريانا مراش / بنت فكر،عام 1893 م/ سوريا .

جميلة العلايلي / صدى أحلامي،عام 1936 م/ مصر.

نازك الملائكة / عاشقة الليل،عام1947م/ العراق.

ثريا ملحس / النشيد التائه،عام 1949 م/ الأردن .

فدوى طوفان / وحدي مع الأيام، عام 1952م / فلسطين .

سلطانة السديري / نداء عبير الصحراء،عام1956م / السعودية .

سعاد الصباح / ومضات باكرة،عام 1961 م / الكويت .

كوثر نجم / فجر وغيوم،عام 1965 م / ليبيا .

صفية الشيخ الأمين / إيحاء،عام 1966 م / السودان .

زبيدة بشير / حنين،عام 1968 م / تونس .

مبروكة بوساحة / براعم،عام 1969 م / الجزائر .

فاطمة الزهراء بن عدو الإدريسي / أصداء الألم،عام 1975 م / المغرب.

حمدة خميس / اعتذار للطفولة،عام 1978 م / الإمارات .

ميمونة أبو بكر الحامد / خيوط في الشفق،عام 1978 م / اليمن .

إيمان أسيري / هذي أنا القبرة،عام 1982 م / البحرين .

زكية مال الله / في معبد الأشواق،عام 1985 م / قطر .

سعيدة بنت خاطر الفارسي / مد في بحر الأعماق،عام 1986 م / عمان.

مباركة بنت البراء / ترانيم لوطن واحد،عام 1991 م / موريتانيا .

و قد ورد ذلك في كتابي 100 شاعرة من العالم العربي: قصائد تنثر الحب والسلام الصادر عام 2017 م .

السؤال العاشر: كيف تقيّمين الحركة الشعرية في العالم العربي؟

وما نسبة حظوظ المرأة الشاعرة المبدعة من ذلك؟

الجواب: إذا تحدثنا بشكل عام فهي في تراجع كبير مقابل الرواية التي تجد دعما من قبل المؤسسات والشخصيات حتى كدنا نؤمن أن الرواية ديوان العرب اليوم عوض مقولة الشعر ديوان العرب . لكن هذا الأمر ليس عاما فهمنا ك بعض الدول لازالت متشبثة بالشعر وتحتفي به يوميا على أساس أنه مرجع الفرد تاريخا وحضارة .

أما المرأة الشاعرة فوجودها التوثيقي ضعيف مقارنة بالرجل الشاعر وهذا أمر طبيعي بالنسبة لي ورجع لسبيين إثنين:

- أولا عملية التوثيق ظلت حكرا على الرجال فوثقوا لأنفسهم بشكل أكبر.

- ثانيا التعليم لدى المرأة جاء متأخرا جدا مقارنة مع الرجل باستثناء بعض الأسر الغنية والعريقة التي علمت بناتها في وقت مبكر .

السؤال الحادي عشر: في أي بلد عرفت حركة الشعر النسائي نهضة أكبر؟ وماذا تعرفين عن الشاعرات التونسيات وحركة الشعر النسوي في تونس؟ .

الجواب: هناك العديد من الدول التي ظهرت فيها المرأة الشاعرة بشكل قوي منها لبنان وسوريا وفلسطين والعراق وسلطنة عمان والسعودية ومصر.و هذا ما انعكس إيجابا على بدايات الظهور الفعلي لدواوينهن المطبوعة .

أما المشهد الشعري النسائي التونسي فبخير ويعتبر من الدول الرائدة في الطباعة بشمال إفريقيا من خلال الشاعرة الراحلة زبيدة بشير صاحبة ديوان حنين الصادر عام 1968 م لتسلم المشعل بعدها للعديد من الشاعرات أمثال: جميلة الماجري، فوزية العلوي،رقية بشير وغيرهن كثير .

السؤال الثاني عشر: هل سمت كتابات المرأة في الشعر إلى مستوى نقول صارت تزاحم صوت الشعر الذكوري وتخيفه؟

الجواب: الشعر منتوج إنساني كلما نضج فكر صاحبه بثقافة سامية وقراءة خاصة جعلته أكثر قوة ولا يمكننا الحكم القطعي أن التجربة (الذكورية) أهم من التجربة النسائية على اعتبار أن الشعر آت من الشعور وهو فضاء يحتمل الجودة وقلتها بالنسبة للطرفية .

السؤال الثالث عشر: ماذا تفضلين أن تكوني مستقبلا فاطمة بوهراكة الشاعرة، أم فاطمة بوهراكة الباحثة في مجال التوثيق الشعري؟

الجواب: لا أذكر السنة الحقيقية لمعانقتي الحرف لكني أذكر أول نص شعري نشر لي بجريدة الميثاق الوطني عام 1991 م حيث كانت الانطلاقة الفعلية لي كشاعرة بعدها تم نشر العديد من النصوص الشعرية في منابر وطنية وعربية عدة كما شاركت في ملتقيات كثيرة إلى أن جاء عام 2001 م عندما رغبت أن أطبع أول ديوان شعري لي تحت اسم اغتراب الأقاحي والذي أنجزت له المقدمة الشاعرة المقتدرة أمينة المريني في طبعته الأولى حيث أثنت على التجربة ومدحتها مما جعلني أختار في الطبعة الثانية قلما نقديا صارما هو قلم الدكتور الشاعر والناقد محمد السرغيني الذي يصعب على المبدع إرضاء ذائقته الشعرية فكان هذا الإختيار بالنسبة لي تحد كبير نجحت فيه والحمد لله حيث قبل كتابة المقدمة وأشاد بحرفي الشعري هذا الحرف الذي ستؤثر فيه عملية البحث والتوثيق سلبا وتجعله يصبح جافا ونادر الظهور .

أعشق الشعر الذي انطلقت به ومنه لكني أفضل مهمة البحث والتوثيق لبقية الشعراء لما لها من مسؤولية تاريخية يصعب ركوبها

السؤال الرابع عشر: ما هي المواضيع التي تتناولينها في قصائدك أكثر.. هل هي قضايا تهم الإنسان والإنسانية أم هي قصائد وجدانية؟

الجواب: أعتقد أنني توغلت أكثر في الجانب الوجداني الشخصي مع وجود بعض النصوص الشعرية الإنسانية التي تحدثت عن هموم وأحزان البشرية لكنني لم أستطع أن أصل على مستوى صناعة الشعر ومجاراة البقية بسبب اعتكافي التوثيقي الذي يحتاج إلى عقل دائم التساؤلات والعمل بدل الشعر الذي يجنح إلى الخيال والعاطفة .

السؤال الخامس عشر: لقد جربت المسرح من خلال مسرحية "فيتو على نون النسوة" سنة 2007.. لماذا لم يتكرر عرض هذا الحدث في عدة مدن وبلدان؟ كيف وجدت هذه التجربة؟

الجواب: كانت تجربة مميزة وناجحة جدا وقدمت لي دعما نفسيا مهما في مساري الشعري لكن الجهة التي احتضنتها تنظيميا لم تفكر مع الأسف الشديد بإخراجها خارج أسوار فاس حيث تم عرضها للمرة الأولى والأخيرة .

لكني حاليا اشتغل على تنسيق عمل مسرحي شعري لشاعرات عربيات مجيدات يشتغل عليه باحترافية كبيرة الدكتور إدريس الذهبي مشكورا رفقة طلبة جامعة سيدي محمد بن عبد الله بمدينة فاس .

السؤال السادس عشر: نالت فاطمة بوهراكة عدة جوائز وكتبت عنها العديد من المقالات والدراسات والشهادات وكتب منها: فاطمة تتكلم بصمت الصادر بإيران وكتاب فاطمة بوهراكة امرأة من ذهب طبع بالمغرب وحصدت عدة ألقاب منها: فاطمة بوهراكة = المرأة المؤسسة، وجمعت الآراء التي قيلت في حقك في كتاب شراع المحبة 2014 م ما هو الاسم أو الدرجة التي تطمحين الوصول إليها…؟

الجواب: في السابق كنت أطمح للوصول إلى منصب وزيرة الثقافة ظنا مني أن الكفاءة وحدها تقدم لنا هذا الحق الذي يخول لنا الاشتغال من خلاله على الحياة الثقافية الوطنية بشكل جيد وفق رؤية واضحة وعميقة لتقوية المشهد الثقافي بالبلد وبعدما أصبحت أكثر نضجا علمت أنه مجرد حلم بعيد المنال وعليه أشتغل حاليا في صمت وبطاقة إيجابية رغم سوداوية الحياة ..

السؤال السابع عشر: ما هي مشاريعك المستقبلية؟

الجواب: أشرفت على نهاية كتابي التوثيقي السابع: موسوعة الشعر النسائي العربي المعاصر بين سنوات 1950 و2020 م والذي يضم 1011 شاعرة من عالمنا العربي ليكون قيمة حقيقية للمشهد الشعري النسائي وطنيا وعربيا .

السؤال الثامن عشر: ألا توافقينني أن الشاعر أو الشاعرة يصل صوته إلى قلوب الجماهير والقراء عامة بمشاركاته في المهرجانات والفضاءات الثقافية هنا وهناك أكثر من الباحث والدكتور والأكاديمي؟

الجواب: الباحث أيضا يمكنه المشاركة في ملتقيات وطنية ودولية متخصصة في مجاله .لكن ملتقيات الشعر تبقى الأكثر حضورا على ارض الواقع وعبر المنصات الاجتماعية . وأعتقد أن الغاية ليست هي كثرة المشاركات بل نتيجة هذه الأعمال وعددها بالإضافة إلى تأثيراتها حاضرا ومستقبلا .

السؤال التاسع عشر: ما هي نصيحتك لجيل اليوم عامة وللشاعرات بصفتك شاعرة معاصرة وصوت أنثوي خاصة؟ .

الجواب: علينا أن نشتغل أكثر على ذواتنا وأن ننصت للغير بشكل أكبر قبل أن نعمل على المجازفة وإظهار العمل في أي مجال أدبي أو علمي فالمهم هو أن تنمو تجربتنا بشكلها الطبيعي لا بولادة قيسرية .

سؤال: نرى أن البعض قد استطاع الظهور والنجاح دون أي دعم مادي للمؤسسات الثقافية فما تحليلك لهذا الأمر؟:

الجواب: العزيمة وحدها من تصنع المشاريع الكبرى والمال تابعا لها قد يقويها ولكنه لا يطمسها ومن هنا أقترح على رؤساء المؤسسات الثقافية بالعالم العربي أن يكونوا أكثر ذكاء ويعملون على ضم مثل هذه الكفاءات المؤمنة بمشاريعها بدل تهميشها لأن هذا التهميش لن يبق مدى الدهر أكيد يغيب صاحب المنصب المحارب وتبقى الأعمال الشاهقة .

شكرا جزيلا الأستاذة الباحثة الشاعرة المغربية فاطمة بوهراكة على رحابة صدرك في تقبّل مساءلتك التي أردت بها التقرّب منك كمبدعة وكفاطمة بوهراكة المرأة والإنسان المكافح الناشط عربيا ودوليا في حقل الثقافة عامة والشعر خاصة.. على أمل اللقاء بك قريبا في تونس لتكريمك والاستمتاع بشهاداتك حول الشعر النسائي العربي المعاصر..

 

حاورتها الأديبة سونيا عبد اللطيف

تونس 2021

 

علي رسول الربيعي: الشر والغرض الكوني لله (4)

التفاصيل
كتب بواسطة: د. علي رسول الربيعي

علي رسول الربيعيهل كل شر مطلوب من أجل خير أعظم (حتى لا يكون الخير الكلي أعظم من الشر الذي لم يحدث)؟

لا. إذا كان كل شر مطلوبًا لخير أكبر، فلماذا نحارب الشر (طالما، إن الشر الذي نحاربه مطلوب من أجل خير أكبر)؟ ولماذا لا نتسبب في الشر لأنفسنا (طالما سيجلب هذا الشر خيرا أعظم)؟ إذا كان كل شر مطلوبًا لخير أكبر، فلا يهم إذا كنا نحارب الشر أو نتسبب فيه.

من المهم أن تُحدث أفعالنا فرقًا، وأن يكون العالم حقًا أفضل أو أسوأ اعتمادًا على كيفية تصرفنا. عندها فقط يمكن أن تكون أفعالنا ذات أهمية.

تفترض إجابتي أنه من المنطقي على الأقل الوصول إلى ذروة الخير "الكلي". يرى البعض أن أنواعًا مختلفة من القيمة غير قابلة للقياس؛ لذلك لا يمكننا جمع الخير الأخلاقي والشر الجسدي للحصول على المجموع. هذا من شأنه أن يجعل السؤال 3 بلا معنى.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

رشيد بناني: (رائية العرب) صرخة ألم ممزقة على شفاه أزيد من مئة شاعر

التفاصيل
كتب بواسطة: د. رشيد بناني

كثيرا ما يفاجئني الصديق الصحفي وصاحب (دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر) عبد النبي الشراط بدعمه لتوجهات غير منتظرة، وإطلاقه لبرامج ومشاريع أصيلة مخالفة للمألوف أو تسير بخلاف الاتجاه السائد؛ وقد يظن المرء أول وهلة أن عمله ذاك يخالف منطق الأشياء وصيرورتها، ولكنه يكتشف سريعا حس الرجل الصادق وقدرته على إمالة كفة غير المألوف، أو غير المتوقع، في اتجاه ما هو عين الصواب. فلربما اكتنف غيرَ السائد لحظة غبار النسيان أو التناسي أو ربما التعتيم تحت ضغوط التعود، أو ضغوط آليات التحكم في توجهات الرأي العام عن طريق المفروض أو الممنوع، غير أنه سيظهر حتما حينما يجد من ينتبه إليه. وقد فاجأني هذه المرة حين أهداني مجموعة من الكتب التي تطوع بطباعة بعضها ونشرها على نفقة (دار الوطن) التي يملكها ويديرها؛ وتدور ثلاثة من هذه الكتب حول القصيد العربي العمودي التقليدي مع العناية بقصيدة عروبية مطولة عنوانها (رائية العرب) موضوعها التأسي لآلام العراق الشقيق. ولكن هذه الكتب الثلاثة وإن كانت توحي بالدوران في فلك الشعر العتيق في زمننا الذي يبتعد تدريجيا عن الشعر، أو تدور في فلك المطولات الشعرية (371 بيتا) في زمن السرعة وشعر الهايكو، فإنها في الحقيقة لا تكتفي بذلك؛ فرغم دوران هذه الكتب الثلاثة في فلك هذا العالم التراثي العربي الكلاسيكي فإنها ليست بعيدة عن العالم المفضل لدى هذا الصحفي المثقف والناشر، أي عن الواقع الدولي الراهن وعن عالم السياسة الطافح بالتدافع والنزاعات والآلام.

2389 رائية العرب

إن عنوان (رائية العرب)، وعنوانها الثاني (قصيدة وطن)، تستمد جزءا من تسميتها من قاموس تراثي عربي يحيلنا على قصائد كان لها وقع وتاريخ وقيمة، وإلى شعراء كبار قدماء مثل (لامية العرب) للشنفرى الجاهلي، و(لامية العجم) للطغرائي و(لامية الحِكَم) لابن الوردي و(لامية القضاء والأحكام الشرعية) للزقاق و(لامية الأفعال) لابن مالك... بالإضافة إلى رائية عمر ابن أبي ربيعة وميمية البوصيري ودالية أبي العلاء المعري واللائحة الشعرية التراثية طويلة بأسماء هذه الروائع المشهورة التي شغلت الأجيال واكتُفيَ أحيانا للدلالة عليها بذكر حرف رويها. إن نسبة كل واحدة من هذه القصائد إلى حرف رويها هي بمثابة تعريف ما لا يحتاج إلى تعريف، أو فقط بمثابة إشارة إلى علامة بارزة في الشعر المنظوم على ذلك الروي في مختلف العصور... ولا بأس أن تنظم الأجيال الحاضرة علامة من العلامات الجديدة التي تضاف إلى ذاكرة ديوان العرب.

ولا تقتصر الأواصر بين (رائية العرب) وهذه القصائد على الجوانب الشكلية المشار أليها وحدها، ولكن في الإمكان تلمس علاقات أخرى نجمع بينها، لاسيما مع (لامية العرب) للشنفرى التي يمكن اعتبارها بطريقة ما قصيدة سياسية لاحتوائها على احتجاج شديد على نظام القبيلة الجاهلية وتمركزه في بعض الأيدي وقسوته على الآخرين، مما أسفر عن ظاهرة الخروج على القبيلة، وأدى إلى ظهور طائفة الصعاليك الرافضين لظلم بني أمّهم :

أَقِيمُـوا بَنِـي أُمِّـي صُـدُورَ مَطِيِّـكُمْ               فَإنِّـي إلى قَـوْمٍ سِـوَاكُمْ لَأَمْيَـلُ

فَقَدْ حُمَّتِ الحَاجَاتُ وَاللَّيْـلُ مُقْمِـرٌ                وَشُـدَّتْ لِطِيّـاتٍ مَطَايَـا وَأرْحُلُ

وفي الأَرْضِ مَنْـأَى لِلْكَرِيـمِ عَنِ الأَذَى                   وَفِيهَا لِمَنْ خَافَ القِلَـى مُتَعَـزَّلُ

لَعَمْـرُكَ مَا بِالأَرْضِ ضِيـقٌ على امْرِىءٍ                سَرَى رَاغِبَـاً أَوْ رَاهِبَـاً وَهْوَ يَعْقِـلُ

وَلِي دُونَكُمْ أَهْلُـون: سِيـدٌ عَمَلَّـسٌ                وَأَرْقَطُ زُهْلُـولٌ وَعَرْفَـاءُ جَيْـأَلُ

هُـمُ الأَهْلُ لا مُسْتَودَعُ السِّـرِّ ذَائِـعٌ               لَدَيْهِمْ وَلاَ الجَانِي بِمَا جَرَّ يُخْـذَلُ

ولكن موضوع (رائية العرب) ليس الاحتجاج على القبيلة ولا هروبا منها أو دعوة إلى الاستئناس بوحوش الفلاة والطمأنينة إليها، ولكنها صرخة موضوعها حب الوطن وإعلان التشبث الشديد به، وهي أيضا صرخة ألم ممزقة على شفاه مائة شاعر وتسعة وثلاثين شاعرا (139) ينتمون إلى كل أقطار الوطن العربي من الماء إلى الماء، وبعضهم ينتمون إلى نفس الوطن، ولكن ظروف الشتات دفعت بهم إلى خارج المائين وبقيت قلوبهم أسيرة بلادهم. إن القصيدة بمعنى آخر صرخة من داخل القبيلة، على شفاه شعرائها الذين لا يُحصَون عددا، ناضحة بالألم على ما أصابها من شر، سواء من أبنائها العاقين أو من الغزاة الخارجيين الحاقدين. إنها مبادرة من شاعر مقيم في العراق (الدكتور صالح الطائي)، ودعوة وجهها إلى شعراء بلاده وإلى شعراء العالم العربي للمشاركة بأبيات من نظمهم في قصيدة واحدة فاستجابوا، وبادر لتلقي المشاركات وتنسيقها وتوحيد الرؤية فيها شاعر مهندس عراقي آخر مقيم في نيوزيلاندا (ضياء تريكو صكر)، ثم تلقفتها منهم (دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر) في المغرب وتكفلت بطباعتها وتوزيعها.

حين يتمعن القارئ الحصيف في كلمات (رائية العرب) يجد صدى ألفاظ كل واحد من الشعراء المشاركين ومعانيه منطلقة من أفواه كل الآخرين، وكأن قائلها شاعر واحد؛ كيف لا وكلهم متألم نفذ بين ضلوعه خنجر الغدر حتى بلغ شغاف القلب، كيف لا وكلهم متألم لما أصاب بلاد الرافدين من التقتيل والتدمير وبث الفتنة والتفرقة والتفقير والنهب... ولكنهم كلهم مفصح عن الأمل في ثورة الشعب المظلوم واكتساحه لمساحات القهر لإعادة التوازن إلى البلاد التي اختل فيها التوازن... وهي كلها مصائب تهدد كافة أقطار هذا الوطن الكبير المثخن من الماء إلى الماء. ألم يعبر أمير الشعراء أحمد شوقي، حين ضربت دمشق بقنابل الاستعمار الفرنسي (سنة 1926م)، عن نفس معنى وحدة هذا الوطن، ووحدة المآسي والألم فيه حين قال:

فُـتوق الـمُلك تَحدُث ثم تمضي     ...     ولا يـمـضـي لـمُـخـتلفين فَـتـقُ

نـصحت ونـحن مـختلفون دارا     ...     ولــكـن كـلـنا فــي الـهـم شــرق

إن موضوع (قصيدة وطن) هو بدون شك التعبير عن آلام يعانيها العراق عقب غزو التحالف الأمريكي وما خلفه من ويلات وإعاقات، ولكنها تترجم أيضا آلاما عانت وتعاني منها الأجيال المتعاقبة، كما عانى ويعاني منها المواطن في كل البلاد العربية... مما يمنحها عن حق صفة قصيدة العرب أو (رائية العرب) أجمعين مصداقا لعنوانها. إنها قصيدة احتجاج في وجه الظلم و جأر بآلام تنعش في الذاكرة آلام أجيال متلاحقة من هذا الشعب الطيب عبر عن مثيل لها شعراء عراقيون كبار سابقون، مثل محمد مهدي الجواهري الذي يقول في رائعة سياسية من روائعه يبث فيها همومه لنهر دجلة :

يا دجلةَ الخيرِ يا أطيـــافَ ساحرةٍ     يا خمرَ خابيةٍ في ظلِّ عُــــــرْجون

يا سكتةَ الموتِ يا إعصــارَ زوبعةٍ     يا خنجرَ الغدرِ، يا أغصان زيتون

أدري على ايِّ قيثارٍ قد انفـــجرت     اتغامُكِ السُمرُ عن أنَّـــــات محزون

تهزين من خصْبِ جنَّات مــنشَّرةٍ     على الضفاف ومن بؤس المـــــلايين

لعلَّ يوما عصوفا جارفـــا عرِما         آتٍ فتُرضيك عقبـــــــاه وترضيني

يغلب على قصيدة (رائية العرب)، منذ مطلعها الذي نظمه الشاعر (الدكتور صالح الطائي) صاحب مشروع القصيدة، شعور الغضب والرفض والنذير، ثم الأمل في الثورة المطهرة التي تعيد الأمل للبلاد كما تعيد البسمة لوجوه الناس:

حذار من الهدوء إذا تفشى      فعند الفجر قارعة تثور

وألف حذار من صبر التلظّي      هو البركان تحضنه الصخور

ففي النسمات إشعال اللّواظي     وإن الأمر يا هذا خطير

فبعد الليل تنتفض الحكايا      ويكشف وجه ملحمة سُـفور

وتورق كلّ أحلام الضحايا     ويبزغ رغم عمق الجرح نور

وهو معنى يتكرر في كل مفاصل النص من أوله إلى الآخر، أو يتكرر صداه بمائة لون عند الشعراء المائة والنيّف الذين شاركوا في إنتاج لحمة القصيدة وسداها :

نعم يا شعب إن الصبح آت    وليل الظلم مرتعه خطير

غدا نأتي بجيل بعد جيل    يفك القيد كي يحيا الأسير

غدا نبني عراقا يعرُبيّا     فقل يا ظالمي أين المصير ؟

ومع ذلك نجد في القصيدة أبياتا رقيقة مفعمة بحب هذا الوطن الجميل والتغني بخيراته وناسِه وتاريخه الحافل وأمجاده عبر العصور، لكن معظم هذه الأبيات المتغنية بالمحبة لا يخلو، هو بدوره، من التنديد بالظلم والحرمان الذي تعانيه الفئات البسيطة من الشعب الكادح :

ولدتَ مع الزمان فكنت ندا     له بملاحم أنت الجدير

رويت برافديك تراب أرض    فلانت من حضارتك الدهور

قضيت العمر أبحث عن ملاذ   عراق الخير في دمّي يمور

فأرضك جنة والنار فيها    ودجلة كوثر والنخل حور

وخيرك يغمر الآفاق منها     وشعبك جائع  فيها فقير

أيا وطنا بك التاريخ غنى     وصلّت بين نهريك الدهور

ويمكنك القول إجمالا إن قصيدة (رائية العرب) أنشودة رقيقة وحزينة ذات معان متكررة عبر عدد من الأجيال، يرن في أعماقها نفس إحساس الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب وهو يتغزل بجمال بلاده وتناقضاتها من وراء مياه الخليج، عندما يقول :

عيناك غابتا نخيل ساعة السحر

أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر...

أو وعلى الخصوص حينما يقول مستشرفا غضبة الشعب ومندرا بها :

أَكَادُ أَسْمَعُ العِرَاقَ يذْخرُ الرعودْ

ويخزن البروق في السهولِ والجبالْ ،

حتى إذا ما فَضَّ عنها ختمَها الرِّجالْ

لم تترك الرياحُ من ثمودْ

في الوادِ من أثرْ .

ونعتقد في الختام أن القصيدة كانت موفقة تصورا وإنجازا، ولكننا نعتقد أن اشتراط ثلاثة أبيات لا غير على كل شاعر مشارك فيها، تفتح الباب بدون شك أمام أكبر عدد ممكن من الشعراء للمشاركة في هذا المشروع الأدبي والوطني المؤثر، ولكنه شرط كان يعوق الشعراء عن نظم المعاني المركبة التي تحتاج إلى الاستقصاء والتفصيل أو التحليل؛ لذلك تطغى على أبيات النص المعاني القصيرة والشعارات أحيانا، كما تطبعه بعض المعاني العمومية التي تتكرر باستمرار؛ وحبذا لو أتيح للشعراء المساهمة بأكثر من ثلاثة أبيات، إذن لطالت القصيدة أكثر على شاكلة عديد من المطولات والملاحم، ولتعددت وطالت وتكثفت فيها المعاني، ولتمكن الشعراء من الغوص في أحاسيسهم ومعانيهم بالتفصيل والوصف والحجاج.

 

الدكتور: رشيد بناني

باحث في الأدب والتراث، من المغرب فاس ـ المغرب

 

عبد الله الفيفي: من أوهام النحاة!

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. عبد الله الفيفي

عبد الله الفيفيعن (ابن أبي الآفاق التراثي)، عن (ابن هشام الأنصاري، رحمه الله)، أنه قال في "شذور الذهب":

"ويجب حذف "كان" وحدها بعد "أمَّا" في نحو "أمَّا أنت ذا نفر" ويجوز حذفها مع اسمها بعد إنْ ولو الشَّرطيَّتين، وحذف نون مضارعها المجزوم، إلَّا قبل ساكن أو مضمر متَّصل."

ثمَّ قال (ابن هشام، نفسه، رحمه الله، أيضًا) في "شرح شذور الذهب":

"وأقول: هذه ثلاث مسائل مهمَّة تتعلق بكان بالنظر إلى الحذف: إحداها: (حذفها وجوبًا)، دون اسمها وخبرها، وذلك مشترط بخمسة أمور ؛ أحدها: أن تقع صلة لأن، والثاني: أن يدخل على أن حرف التعليل، الثالث: أن تتقدم العلة على المعلول، الرابع: أن يحذف الجار ، الخامس: أن يؤتى بما، كقولهم : "أمَّا أنت منطلقًا انطلقت"، وأصل هذا الكلام: انطلقت لأن كنت منطلقًا، أي: انطلقت لأجل انطلاقك، ثمَّ دخل هذا الكلام تغيير من وجوه؛ أحدها: تقديم العلة، وهي "لأن كنت منطلقًا"، على المعلول، وهي "انطلقت"، وفائدة ذلك الدلالة على الاختصاص، والثاني: حذف لام العلة، وفائدة ذلك الاختصار ، والثالث: حذف كان، وفائدته أيضًا الاختصار ، والرابع : انفصال الضمير ، وذلك لازم عن حذف كان، والخامس: وجوب زيادة "ما" وذلك لإرادة التعويض، والسادس: إدغام النون في الميم، وذلك لتقارب الحرفين مع سكون الأول وكونهما في كلمتين. ومن شواهد هذه المسألة قول العباس بن مرداس، رضي‌ الله‌ عنه:

أبا خراشة أمَّا أنت ذا نفرٍ                فإنَّ قومي لم تأكلهم الضَّبعُ." (1)

- هل فهمتم شيئًا؟

- لا!

- أحسنتم، وهذا هو المطلوب!  أذكرَني هذا بمدرِّسٍ للنحو، كان يغضب إنْ سألَنا: هل فهتم؟ فأجبنا: نعم!  كان يقول: "أولوا ما فهمتوش وخلاص!"

- لماذا يفعل هذا؟

- المطلوب عدم الفهم، وتلك سُنَّتهم منذ القِدَم؛ كي يستمر مسلسل الشروح والحواشي، والحاجة إليها وإليهم!  لكن ألا ترى أن المتن "شذور الذهب" كان أوضح من شرحه المفترض، مع أن المؤلِّف واحد؟!

- الحق أن المتن المشروح أوضح من شرحه!

- لأنه في المتن يصف الاستعمال، كما جاء عن العَرَب، على حين جعل يحاول في الشرح أن يُمنطق ذلك الاستعمال منطقةً عجيبةً، متكلَّفةً، ومتوهَّمة.  وكان بوسعه أن يقول إنَّ (كان) قد تُحذف بعد "إمَّا"، ويكتفي بذلك.  وأنا أتحدث هنا عن ابن هشام؛ لأنه موضع الشاهد، وإلَّا فهذا اللتُّ في كتب النحاة متوارث من قبله ومورَّث من بعده. وإنما هذا نموذج صارخ مما صنعوه باللغة العَرَبيَّة وبطلبتها؛ حين تَمنطقوا، فضاعوا وأضاعوا.

- ما الحكاية؟

- الحكاية حكاية طويلة عريضة.  ربما صدمهم (العباس بن مرداس، رضي‌ الله‌ عنه) بما لا يتفق مع قواعدهم، التي أقاموا الدنيا من أجلها ولم يُقْعِدوها، إذ قال: "أمَّا أنت ذا نفر".  فما الذي نصبَ "ذا" هذه؟ يا للهول!  لا بُدَّ من حل!

- ألهذه الدرجة كانوا واثقين أنه قال "ذا"، لا "ذو"؟  وكأنَّ الرواية جاءتهم مسجَّلة صوتيًّا!

- إنْ شاءوا، وثِقوا ووثَّقوا، وإذا بدا لهم بداءٌ، ضعَّفوا، وحكموا بالشذوذ، أو بالضرورة، ما وجدوا إليها سبيلًا.

- إنَّ صعوبة العَرَبيَّة، إذن، إنما صنعها لنا النحاة، من خلال تمنطقهم، وتنافسهم، وخلافهم، وصراعهم.  فأضحى جهدهم وبالًا على العَرَبيَّة، وإنْ كان في ظاهره لخدمتها.

- ثمَّ انظر، هنا، كيف أصرُّوا على أن حذف (كان) واجب؟  وكيف جعلوا "أمَّا" بدل "إمَّا"؟  وإنَّما العبارة، كما ينبغي لعَرَبي أن يقولها: "أبا خراشةَ، إمَّا أنتَ ذا نفرِ".  بل ربما كانت "أنتَ" في الأصل: "كُنتَ".  على أنه يجوز أن يقال: "إمَّا أنت ذا نفر"، و"إمَّا كنتَ ذا نفر".  لكنها حرفة النحوي حين لا يجد له حرفة!  ولقد صدق (عبَّاس حسن)(2) في نسبة هذه المسألة، التي استهلكت عقول النحويين، إلى محض التخيُّل؛ لأنَّ العَرَب، كما قال: "حين تكلموا بمثل هذا الأسلوب، لم يَدُر بخلدهم شيء من هذا الحذف، والتقدير، والتعليل، إنما نطقوا سليقةً وطبعًا، بغير اعتماد على تحويل وتأويل، أو مراعاة لقواعد المنطق، وغيره، مما لم يعرفوه في عصورهم السابقة على وضع القواعد النحوية."

- نعم، لم يَدُر...، لكن كلامه ينطوي على تسليم نظري بتعليل النحويين وتحليلهم.

- صدقتَ!  غير أن الأمر لم يكن يقتضي ذلك التخيُّل البعيد أصلًا.  ثمَّ ليت شِعري، أعندهم من الشواهد غير بيتهم اليتيم؟ وزعْم (سيبويه) أنَّ العَرَب تقول: "أمَّا أنت منطلقًا، انطلقتُ معك"، و"أمَّا زيدٌ ذاهبًا، ذهبتُ معه"؟(3) فإنْ صحَّ هذا، أمَّا كان يسعهم أن يَعدوها لهجة؛ فيريحوا ويستريحوا؟! ثمَّ كيف تُبنى قاعدة، تشغل حيِّزًا من كتب النحو على مَرِّ الدهور، ولا شاهد عليها، سِوَى بيتٍ روي شفويًّا، احتمالات الخطأ فيه والتصحيف واردة بلا حدود؟  ومن أين انتهت تلك الرواية إلى (سيبويه، -180هـ) وحده، فتأكَّد قطعًا من ذلك الحرف الفارق، وأن الشاعر قال "أَنتَ"، لا "كُنتَ"، وبينه والشاعر نحو قرن ونصف من السنين؟! أكاد أجزم أن الشاعر لم يقل البيت كما رووه، وإنما قال: "أبا خراشةَ، إمَّا كُنتَ ذا نفرٍ"، فجَعلَ جاعلٌ الهمزة فوق الألف بعد أن كانت تحته في "إمَّا"، وحوَّلَ "كُنتَ" إلى "أَنتَ"، واشتغلت عجلة النحاة على هذا الأساس أكثر من ألف عام. 

- ماذا عن ديوان الشاعر؟

- دعنا نذهب إلى ديوان (العباس بن مرداس السُّلَمي)!  الآن حصحص الحق! في ديوان الشاعر، بتحقيق (يحيى الجبوري)، تجد البيت كما توقَّعناه: "أبا خراشةَ، إمَّا كُنتَ ذا نفرٍ..."؛ فالبيت في الديوان لا شاهد فيه؛ لأن "كان" ثابتة، لم تُحذف. ولقد ذكر المحقق أن البيت واردٌ في اثنين وعشرين كتابًا من كتب التراث، في اللغة والنحو والأدب، منها ثمانية عشر كتابًا برواية "إمَّا كنتَ ذا نفرٍ"، أوَّلها معجم "العَين، (ضبع)"، لـ(الخليل، -173هـ)، أستاذ سيبويه، وهو راوية موثوق، وقد رواه بصورته الطبيعية: "إمَّا كنتَ".  ولم يرد برواية "أمَّا أنت ذا نفر" إلَّا في أربعة كتب، منها ثلاثة نحوية- طبعًا!- أوَّلها "الكتاب"، لـ(سيبويه)، والآخران متأخران- إنما نقلاه كما هو عن سيبويه، توارثًا للشواهد كزملائهم من النحاة- هما: كتاب (السيوطي)، "شرح شواهد المغني"، وكتاب (البغدادي)، "الخزانة". وأمَّا الرابع، فكتاب "المسلسل في غريب لغة العَرَب"، لـ(التميمي).(4)  وكذلك يفعلون؛ فلهم رواياتهم الغريبة، المنتقاة أو المصطنعة! 

- والله المستعان على ما ينتقون ويصطنعون!

 

أ. د. عبدالله بن أحمد الفـَـيْـفي

...........................

(1) ابن هشام، (2004)، شرح شذور الذهب، عناية: محمد محيي الدين عبد الحميد، (القاهرة: دار الطلائع)، 215- 216.

(2) (1974)، النحو الوافي، (مصر: دار المعارف)، 1: 583. 

(3) انظر: (1988)، الكتاب، تحقيق وشرح: عبد السلام محمَّد هارون، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 293. 

(4) انظر: ابن مرداس، العبَّاس، (1991)، ديوان العباس بن مرداس السُّلَمي، تحقيق: يحيى الجبوري، (بيروت: مؤسسة الرسالة)، 106. 

 

عاطف الدرابسة: الرُّؤيةُ الجدليَّةُ بين الشِّعرِ والرَّسمِ.. قراءةٌ تاريخيَّةٌ

التفاصيل
كتب بواسطة: د. عاطف الدرابسة

عاطف الدرابسةلن أُحاولَ أن أُؤكدَ على الصِّلةِ بين الرَّسامِ والشَّاعرِ، كما لن أسعى إلى إثباتِ الصِّلةِ الحيويَّةِ بينهما، ربَّما ما زالت فكرةُ هوراس أنَّ الشِّعرَ هو التَّصوير تُشكِّلُ مُرتكَزاً حقيقيَّاً لكشفِ جوهرِ العلاقةِ بين الشِّعرِ والرَّسم، ولعلَّني هنا لا أبتعدُ كثيراً عن مقولاتِ النَّظريَّةِ النَّقديَّةِ: قديمُها وحديثُها؛ فالنُّقادُ ارتكزوا على كتابِ هوراس في محاولةِ تحديدِ ماهيَّةِ الشِّعرِ، ويبدو لي أنَّهم حين يُعرِّفون الشِّعرَ يلجأونَ إلى الرِّسمِ؛  فالجاحظُ مثلاً المُتوفَّى عام 255 هجرية، يُحدِّدُ ماهيَّةَ الشِّعرِ مُستعيناً بالرَّسمِ كما يظهرُ من مقولتِه: "فإنَّما الشِّعرُ صناعةٌ؛ وجنسٌ من التُّصوير"، ولعلَّ عبارةَ: (جنسٌ من التَّصويرِ)، هي أنضجُ عبارةٍ في النَّقدِ العربيِّ القديمِ، أقامت علاقةً بين الشِّعرِ والرَّسمِ .

بيدَ أنَّ السُّؤالَ المشروعَ هنا: ما هي طبيعةُ العلاقةِ بين مقولةِ: أنا أنظرُ، ومقولةِ: أنا أكتبُ؛ أو ما العلاقةُ بين عبارةِ: أنا أشعرُ، وعبارةِ: أنا أتصوَّرُ، وربَّما قد نُفجَأُ بسؤالٍ آخر حول العلاقةِ بين مفاهيمَ نقديَّةٍ من مثلِ: المجازِ، التَّخييلِ، والتَّصويرِ .

إنَّ مخرجاتِ الاستعارةِ اللَّفظيَّةِ، أو مخرجاتِ المجازِ في الأدبِ، وطرائقِ تشكُّلِ بنيةِ المجاز، هي التي تُسهمُ على نحوٍ ما في تشكيلٍ صورةٍ في ذهنِ المُتلقِّي، أي أنَّنا هنا نُشيرُ إلى الوجودِ الذِّهني للصُّورة، وعبارةُ: (أنا أنظرُ)، تقودُنا إلى مفهومِ الإنطباعاتِ البصريَّةِ، بمعنى أنَّ الرَّسمَ أو النَّحتَ أو الرَّسمَ بالخزفِ هو شيءٌ ماديٌّ، يُرى بالعينِ باعتباره وحدةً واحدةً، لا تخضعُ لشروطِ الزَّمانِ والمكانِ، وهو أمرٌ لا يتوافرُ في الشِّعرِ خصوصاً، وفي الأدبِ عموماً، فالشِّعرُ يستجيبُ لشروطِ المكانِ؛ وشروطِ الزَّمانِ، ولن نكونَ دقيقينَ إذا اعتبرنا أنَّ الشِّعرَ والاستعارةَ هما شيءٌ واحدٌ، أو أنَّ كلمةَ الشِّعرِ وما تنطوي عليه من التَّصويرِ قد تشملُ الأعمالَ الفنيَّةَ كاملةً .

يمكن أن أقبلَ أنَّ الاستعارةَ التي تخلقُ صورةً في الذِّهنِ، قد تتحوَّلُ إلى لوحةٍ فنيَّةٍ تُرى بالعينِ، أو منحوتةٍ، وبالتالي يُمكنُ أن تُحقِّقَ مبدأَ الانطباعِ البصريِّ، ويبدو لي أنَّ العلاقةَ بين الرَّسمِ والشِّعرِ ستأخذُنا إلى مفهومٍ أعمقَ لفكرةِ الشَّكلِ والمضمونِ .

ولعلَّ الفجوةَ بين ما هو شِعريٌّ لغويٌّ، وما هو بصريٌّ، يُمكنُ ردمُها إذا أعدنا فهمَ الاستعاراتِ اللَّفظيَّةِ بوصفِها بِنية موازية للاستعاراتِ البصريَّةِ في الفنونِ التَّصويريَّةِ والتَّشكيليَّةِ .

وكذلك يُمكننا ردمَ تلك الفجوةِ إذا أعدنا النَّظرَ في مفهومِ الشَّكلِ، أو من خلالِ تفعيلِ الطَّريقةِ الطبولوجيةِ لفهمِ هذه العلاقةِ، ولذلك فثمَّة تشابهٍ بين قوانينِ الشِّعرِ، وقوانينِ الرَّسمِ .

ومن جانبٍ آخر، فإنَّ الرَّسامَ عادةً ما يمتلئُ بالرُّوحِ التي تُحرِّكُ الحياةَ في الشِّعرِ، فالرَّسمُ يفعلُ بالعينِ ما يفعلهُ الشِّعرُ بالأُذن، وهناك إشارةٌ لبيكاسو تُفيدُ بأنَّ: الرَّسمَ هو الشِّعر، وهو دائماً يُكتبُ على شكلِ قصيدةٍ، ذات قافيةٍ تشكيليَّةٍ .

وقد أدركَ الشَّاعرُ الغنائيُّ الأوَّلُ (سيمونيدس) (٤٦٨- ٥٥٦ ق.م) الصِّلةَ الوثيقةَ بين الشِّعرِ والرَّسمَ بقوله: "إنَّ الرَّسمَ شعرٌ صامتٌ"، ولعلَّ الأمرَ اللافتَ للنَّظرِ أنَّ صدى تلك المقولةِ قد تردَّدَ في تعبيرٍ ليوناردو دافينشي في القرنِ الخامسِ عشر بقوله: "الرَّسمُ شعرٌ يُرى، ولا يُسمعُ، وأنَّ الشِّعر رسمٌ يُسمعُ ولا يُرى"، وفي القرن العشرين   تتردَّدُ الفكرةُ نفسها بقول إدوارد كامينجز حينما وصفَ نفسَه في مقدمة ديوانِه ومجموعته الفنيَّة (CIOPW)، بأنَّه: كاتبُ صورٍ، ورسَّامُ كلماتٍ، كما وصفَ عمليَّةَ الإبداعِ بأنَّها سماعُ لوحاتٍ، ومشاهدةُ قصائد .

وحميميَّةُ الصِّلةِ بين الشِّعر والرَّسمِ تظهرُ على نحوٍ مباشرٍ جداً في المفرداتِ المشتركةِ بين الفنَّين، فكلاهما يستخدمانِ الأساطيرَ والتاريخَ والحلمَ والخيالَ، ويستندانِ إلى قانونِ البِنيةِ بوصفِها نظامٌ من التحوُّلاتِ، فالنِّظامُ نفسه كما يُفعَّلُ في الشِّعرِ، يُفعَّلُ في اللَّوحةِ، فالتَّكوُّنُ التشكيلي في اللَّوحةِ يتكرَّرُ نتيجةً للتنظيمِ الذَّاتي، وهو نفسُه ما يحدثُ في الشَّكلِ الشِّعري، والتَّنظيمُ الذاتي لا ينفصلُ عن مبدأِ الشُّموليَّةِ، ومبدأِ التَّحوَّلِ .

 

د. عاطف الدرابسة - الأردن

 

حيدر عبد الرضا: قراءة في رواية (الجبان) للروائي ياسين شامل

التفاصيل
كتب بواسطة: حيدر عبد الرضا

حيدر عبدالرضاالمؤلف البديل بين فواصل الذروة ومفترض بدائل الاستبدال

توطئة: تسجل دلالات الواقعة الإبدالية والاستبدالية في وظائف ومحاور رواية (الجبان) للروائي والقاص الصديق ياسين شامل، ذلك المجرى الملح في دائرة إمكانية الأسباب والعوامل السببية في تنصيصات الإدماج والاندماج التداخلي الموظف ما بين أطراف محاور (السارد المشارك ـ المؤلف الضمني ـ المؤلف البديل ارتباطا إجرائيا مغموسا بمؤثرات دائرة تحقيق العلامة الشخوصية في طيات محامل وظائفها ومواقفها الزمنية والمكانية والظرفية المكتظة بصوت ومحورية أصداء السيرذاتية المستوعبة في مجال حساسيتها البؤروية المشغولة بنقل محكيات الذات المعزولة والمغمورة عبر وسائط رواية المؤلف الحقيقي . من الممكن لنا القول عن تجربة رواية (الجبان) للصديق ياسين شامل، إنها جملة علاقات نفسانية وعاطفية وموقفية مستلهمة بوظيفة ملازمة حيثيات مفردات الواقع البديل تخيلا عن المشخص من سيرة حياة المؤلف، ولكنها من جهة ما تستشف وتجترح لإحداثها ومسار أفعالها (منطق الاستبدال = الإبدال) بمعنى ما إنها توظف سلوكيات الواقع المشخص في مجرى واقعية إستبدالية محسوسة، ولكنها في ذات الوقت لا يمكننا التعرف عليها في حدود من استقامة الشواهد الأحوالية والتمفصلية من دليل الواقع المغاير .و على هذا الأساس سوف نتعامل مع أجواء دلالات الرواية، بما يتاح لنا من خطية شواهدها النصية الاعتبارية، مأخوذين بذلك باعتبار أن الراوية في ثوبها اللبوس غير خاضعة لحقائق المعنى، بل أنها خاضعة إلى مجال من تأويلات الناقد والقارىء فحسب . الرواية كانت تؤشر لأهم موضوعة تتعلق بحوادث الثورة الشبابية في البلاد، وانطلاقها في شوارع وتقاطعات المدن المخطوفة، وهذا الأمر ما جعل من مدلول الرواية بمثابة قيمة مشرئبة في التحول الجاذب نحو الاستجابة الآنوية من النص ـ اكتمالا ـ مع الأنا الجمعية في الوعي المرسوم لها في أحداث التوصيف الروائي .

ـ الفضاء الشخوصي وتمفصلات موضوعة الدال الانهزامي .

بدا لنا الواقع الشخوصي في محاور رواية (الجبان) مجالا وإلهاما نحو التفكر بماهية الأسباب القصوى التي جعلت من الروائي نفسه، أن يشرع في زرع ورسم المنزع الإنهزامي في نوازع شخصيته منصور، فيما راح في الوقت نفسه يشيع أكمل المظاهر التكاملية في نرجسية ووثوقية الشخصية المرمز إليها بـ (ك) والحال ما راح ينطبق عليه دون باقي شخوص الرواية حالا وموقفا ونعتا بشقيقة المسمى (ك) التي يرمز إليها أيضا بـ (ن) وتلوح لنا علاقات وأحوال الواقع الروائي، عن مشخصات حكاية غريبة، تتعلق بالسارد المشارك ـ منصورـ وكيفية خطواته في النص بحثا عن دلائل واستدلالات وصوله إلى من كان سببا في مقتل الشخصية سمر في الرواية: (عندما عدت من بغداد شعرت بارتياح، وجدت جنات في بيتنا، التي عملت في عدد من دول الخليج، واكتسبت صفاء لغتها، وقد أختار لها ـ ك ـ غرفة في الطبقة الأولى كي تكون قريبة من غرفة أمي، وترك الطبقة الثانية، ثم نصب منظومة كاميرات مراقبة، بأمر من ـ ك ـ وحين سألته أجاب: بأنه يريد لي السلامة في هذا الوضع المربك، فالاحتياط واجب بعد حادثة مقتل سمر . / ص7 الرواية) تتداعى في السياق النصي، حركة استباقية من شأنها استعادة وتأشير مرحلة زمنية متقدمة في السرد، اقترانا لها باستعادة الأحداث بصورة أولية نواتية في بداية النص، ولأنها هي المحور الأهم في بؤرة النص، بقيت مظاهر السرد في النص عارضة لأحداث تجرى من خلال مسرودية ضمير منصور كساردا مشاركا . وما يدفع هذه الشخصية الانهزامية تحديدا نحو إلتباسية عاطفتها الكليلة، أي في ذلك الشعور المتوفر لديها بالخجل والقلق الاكتئابي من مواقف أحاسيسها بالأشياء من حولها، كحال مواجهة المواقف والأشخاص من قبل ذات واهنة تخشى الخروج من وهن حجبها، إذا تطلب أمرها مقابلة أو مصارحة في حالة من مشاعر الحب إلى فتاة معينة، وهذا الأمر ما صدفنا في موقف الشخصية منصور من سفانة وسمر: (كلما نظرت إليها وهي جالسة، أجدها مختلفة عن الآخرين، كانت لملابسها لمسة فتاة / على الرغم مما كان لسمر من الجمال بما يكفي لجذب الشباب، فهي تصغرني بعشر سنين ..شعرت بأنها غريبة في تصرفاتها .. ولا تطلب من أحد أن يفهمها / لعل كل ما أراه في تصرفاتها ينطوي على سر عميق .. لا تريد البوح به لأحد .. أنا أعذرها .. فأنا أيضا لي أسراري . / ص23 الرواية) قد تكون أوجه التقارب والمغايرة ما بين (منصور = سمر)علاقة مجبولة على التلاقي في صفات حاضرة وغائبة معا، ومن أجل أن لا نفهم بأن الشخصية سمر كانت واقعة في عشق منصور يوما، علينا فقط أن نفهم بأن الشخصية منصور يشكل في سلوكه العاطفي الواهم، مجالا هشا في كل عشق لفتاة يلاحظها في مسار ما وقع عليه بصره، وهذا دليلا على أنه رجلا مهزوزا تداعب وتحرك حتى طنين الذبابة العابرة مشاعره العاطفية بجمرة ملامسة قلبه بواصلة حسية قد تكون مقصودة أو غير مقصودة من الفتاة التي يقابلها في حياته، هذا الأمر ما كان ينسحب بدوره على سفانة زميلته في أيام الدراسة الجامعية، فهذه الفتاة اللعوب بدورها وغوايتها القاهرة، ما كان يجعل منصورا أسيرا لها في وهب كل مصروفه الجامعي لها، المستوى الذي وصل إلى حدود انتشال علبة سكائره التي كان يمنحها إياها بسخاء المهزوم المستضعف . في الحقيقة هناك في الرواية مواقف مفتعلة إلى حد ما، فمثلا ما قيمة استعراض (ياسين شامل) لأسماء أصدقاءه في الواقع لتكون لها دورا في أحداث النص ؟هل هذه الأسماء الواردة لها علاقة عضوية وبنائية ودلالية جادة في ضرورة الخطاب الروائي مثلا ؟ فما الجدوى من ذكر أسماء المطاعم وأصحابها الأصل في مجرى الحبكة الروائية؟ ألا يعتقد الصديق الروائي بأنها محض نكتة مثلا أو مهزلة إعلانية في الإشهار بأسماء أهل الأوساط الأدبية في مدينة البصرة وباعة الصحف داخل أحداث روايته بشكلها المباشر ؟ كنت أتمنى من الروائي أن يكون موظفا لإحداثه الروائية بما فيها من ضرورة مؤشرات الأحوال البنائية والحبكوية الجادة في انتقاء شخوص الواقع الأصل دون حاجة ذكر مسمياتهم البديهية، ربما بهذا الحال أصبحت الممارسة الروائية لديه أسمى وأجدى مما دبجه في أحدى فصول روايته من إعلانيات لا ضرورة لها إطلاقا داخل حيز سياق السرد وحكاية الرواية ؟ صحيح أن هناك روايات وقصص تستثمر عناصر شخوصها من حيز واقع الكاتب، كالأسماء والمدن، ولكنها أسمى من أن توظف مثل هذه المقتطفات وبهذه الصورة من الأخوانيات الإعلانية المباشرة: أقول لو كان يرغب الصديق ياسين شامل في هذا المجال من ذكر الأسماء المباشرة وعلاقتها المباشرة به، فلربما كان ممكنا له أن يكتب مذكراته ويومياته قريبا من أصدقاءه في المحافل الأدبية وبعيدا عن مشاغل وهموم كتابة موضوعة الرواية وتوظيفاتها الضمنية والمضمرة غالبا في أفق من التلميح المرمز لا التصريح بعبارات واسعة من يومياته، أعود إلى نقل شاهدا من هذه المقتطفات من رواية الصديق: (تركت مكتبة الصحراء لصاحبها حمزة العبدلله / فدخلت مطعم أبي ستار / توقفت قرب كشك أبا علي بائع الصحف / ذهب الشاعر والناقد إلى مكتبة القبة لملاقات صاحبها كاظم اللايذ الشاعر الخلوق / تحولات الواقعية الشيئية للناقد خالد خضير / وكان صاحب المكتبة صفاء ذياب الذي كعادته لا يعجبه العجب . / ص36 . ص37 . ص38 . ص40 . ص41  الرواية) وغيرها من فقرات سردية مذكراتية هي من الإشهارية حصرا والإعلانية اللامبررة ضربا، إذ لا علاقة لها هذه الفقرات والوحدات في بناء الدلالة الروائية في سياق من نمو الأحداث والتبئير، كان بإمكان الروائي أن يوظف هذه الشخوص ضمن علامات واقعية متخيلة تستنشق أريجها الطلق عبر خلفيات ومحاور أشد إتماما في معادلة السرد الروائي، دون إفساد الرواية بكشف علاقات يومية تقريرية خاصة بذاكرة الكاتب بهذه الأسماء من الأدباء الأصدقاء له ولنا ولكن خارج الرواية.

ـ المؤلف البديل وأسرار مدونة الفصل الأخير

أكيد أن محاولات الشخصية الانهزامية الفاقدة إلى أبسط روح المواجهة والإرادة الكاملة، صعبا عليها تقديم روايتها وذاتها إلى مجتمع القارىء الجريء والمشاكس والرقيب، لذا وجدناه أي الشخصية الروائية في الرواية فارا من كتابة الفصل الأخير من روايته: (هكذا أنقضت رواية منصور ولأنني لم أعرف طريقا له،ولم أجده في أي مكان يلتقي فيه الأدباء والمثقفون / شعرت في أثناء الكتابة بأنه يرافقني ويبدي موافقته، لذلك قررت توزيعها لما فيها من جرأة . / ص168 الرواية) في الحقيقة أن أجمل ما في رواية (ياسين شامل) والتي لا أحبذ عنوانها أبدا من جهتي الخاصة، هو إمكانية العلاقة المغيبة للشخصية منصور صاحب الرواية (الجبان) ما راح ياسين شامل يحقق علاقة تكنيكية هي ليست بالجديدة في الأسلوب الروائي، ما بين حيز المؤلف المفترض ـ المؤلف البديل، اقترانا بإمكانية التوحد والتماهي في خطاب المؤلف الحقيقي، وهذا الأمر ما جعلنا ننبهر بالضربة المضمونية في نهاية الرواية، بعد اكتمال كتابة الفصل الأخير من قبل المؤلف البديل ـ المؤلف الضمني احتمالا: (في الحال تم اقتياد منصور إلى جهة مجهولة ـ في الساعة التاسعة في نشرة الأخبار من الفضائية الرسمية كانت المذيعة التي بالغت بوضع مكياجها تذيع الخبر: بعون الله وبهمة الأبطال تم إلقاء القبض على أحد أفراد الطرف الثالث، بحوزته سلاح الجريمة في قتل المتظاهرة الشهيدة سمر . / ص174 الفصل الأخير: الرواية) .

ـ تعليق القراءة:

نكتشف من خلال فصول الرواية ما قبل الأخيرة، بأن الشخصية سمر كانت ناشطة في التظاهرات الشعبية وقد تم تهديدها من قبل الطرف الثالث المتمثل بـ (ك) والطرف (ن) بعد أن جرى خطفها ثم مقتلها على أيدي مجهولة الهوية والعلاقة . ولكن من سوء حظ المسكين منصور أنه تسلم مسدسا من قبل الشخصية (ك) بعد أن أقنعه هذا الأخير بضرورة حمله تفاديا لحدوث أي مكروه له، وعلى هذا النحو فإن نهاية الرواية جاءتنا كرواية داخل رواية واصلة بفواصل من المحبوك الاستبدالي ما بين المؤلف الشخصية في الرواية وبين المؤلف البديل عن هذه الشخصية لإكمال روايتها . أقول مجددا أن رواية (الجبان) تجربة فاعلة من خلال وسائل حبكها الذروية جماليا، فيما تحتل وظائف شخوصها الداخلية والخارجية حيوات متحولة ومبررة في مسار العلاقة المحبوكة من الشد الموضوعي الموزع ما بين إجرائية الدال المنفذ والدليل الروائي المسجل لأهم تطورات الرواية .أما من ناحية فكرة الرواية، فهي صورة سير ذاتية للمؤلف الذي راح يقدم لذاته الكاتبة في زوايا وجهة نظر مختلفة، قد تفصح عنها مساحة بنية المدلول معادلا أحواليا محتملا في ضوء تجليات أكثر عمقا وتأشيرا في الخطاب الروائي المبثوث في فضاءات من نزيف استقصاءات الوحدة المضمونية المفترضة من جهات البدائل الدلالية، إي إننا في نهاية مداليل الرواية، لعلنا أمام عدة خيارات وبدائل مضمونية، أولا أن الخاتمة منقسمة إلى أكثر من حالة دلالية وموضوعية، ثانيا أن علاقة الخاتمة بالعنونة الروائية، قد لا تعكس سوى رؤية مرتبطة وحيثيات فكرة دال (الجبان)، لأن ما مر به الشخصية منصور ما هي إلا حالة انهزامية نفسية تحكمها دوافع ظرفية وموضوعية خاصة، وليس كما هو ظاهرا من وراء صفة الجبن عبر شرائطه المختلفة . ببساطة أن خصائص موضوعة الرواية فيها من الإسراف والمبالغة في تحجيم موقع الشخصية في ما ليس ممكنا أبدا في طبيعة التوظيف الشخوصي، كما أن عملية ابتداع هروب المؤلف للرواية، بالإضافة إلى مفارقة إتمام فصلها الأخير من قبل صاحب دار الطباعة، قد يبدو عمل غير مقبول فنيا، بل أنه يحمل أوجه كبيرة من المفارقة في مستوى الإقناع الموضوعي للرواية وسردها . لعل الصديق الروائي كان يطمح من وراء هذا المعنى إنتاج آليات تقنية حاذقة أو لعبة فنية خاصة في خصوصية مواقع المؤلف البديل في المسار الروائي . لاشك أيضا أن العتبة العنوانية في مدار متن النص، لا تعبر عن صياغة إيحائية دقيقة، بل أنها جاءت معبرة عن وحدة الانطباع للمؤلف في ملفوظ التسمية والتوظيف . حاولت في هذا المقال توضيح قراءتي في تعليق سياق القراءة عن رؤيتي للرواية تقويما لها وليس هدما إطلاقا، فهناك مستويات جيدة في الرواية بل هي أفضل من روايات سابقة للروائي ذاته، ولكننا ارتأينا معاينة بعض الملاحظات والاشارات حول المناطق الضعيفة في بناء الرواية بدءا من العنونة وانتهاء بالخاتمة التي تذكرنا بنهايات فن الأقصوصة حيث الضربة المفارقة المختزلة والزهد في لملمة أطروحة الختام . وعلى هذا الأساس أقول موضحا للصديق الروائي: أن معيارية النصوص الجيدة هي الأكثر قبولا للمعاينة والتفكيك النقدي ثم تأويلها وصولا بها إلى حصيلة استقرائية مميزة في التصور والرؤية النقدية التي لا تعد شرطا في إقرار مقرر المعنى المنصوص في النص الروائي، بقدر ما تقدم القراءة النقدية علاقة مؤولة في المعنى الآخر من الرؤية للناقد والنقد .

 

حيدر عبد الرضا

 

إبراهيم أبراش: معضلة الانتخابات الفلسطينية

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ابراهيم أبراش

ابراهيم أبراشالانتخابات في فلسطين ليست مجرد تعبير عن إرادة وطنية لممارسة استحقاق ديمقراطي، بل هناك إرادات أخرى خارجية و توجه دولي إقليمي لتغيير النظام السياسي الفلسطيني من خلال بوابة الانتخابات، وهذا ما نلمسه من خلال الانسجام والتفاهم بين عدة أطراف على إجراء الانتخابات الفلسطينية: قطر وتركيا والإمارات ومصر والاتحاد الاوروبي وأمريكا وحتى إسرائيل إن تم القبول بشروطها، بالرغم مما بين هذه الدول من خصومات واختلاف في مراهناتها وأهدافها.

سواء كانت الانتخابات الفلسطينية بإرادة خارجية أو إرادة شعبية أو بكليهما فإنها أصبحت معضلة، فمع مرور كل يوم تبرز إشكالات وتساؤلات جديدة تزيد من حالة ألا يقين من إجرائها ومن قدرتها على تشكيل رافعة تُخرج النظام السياسي من مأزقه، كما أن كل الحديث الطيب حول المصالحة الذي صدر من حركتي فتح وحماس وبقية الفصائل لا يخفي حقيقة أن الشعب الفلسطيني ذاهب لانتخابات في ظل غياب رؤية واضحة لمرحلة ما بعد الانتخابات وشكل التحالفات القادمة وطبيعة النظام السياسي القادم، بمعنى آخر أن الأمور تسير بدون استراتيجية واضحة، الأمر الذي يجعل الانتخابات مغامرة غير مضمونة النتائج.

غياب التوافق الوطني والاستراتيجية الوطنية، كثرة عدد القوائم الانتخابية، الخلل أو التصدع في بعض فصائل منظمة التحرير وخصوصاً حركة فتح ،عدم اليقين من إجراء الانتخابات في القدس، وغياب أي ضمانات دولية حتى الآن بأن الكيان الصهيوني سيلتزم ويعترف بنتائج الانتخابات وبالحكومة التي ستنتج عنها، كل ذلك زاد المخاوف عند الشعب من العملية الانتخابية وخصوصاً بعد تراجع الخطاب التصالحي الذي نتج عن لقاء الفصائل في بيروت ورام الله في سبتمبر 2020 ولقاءات استنبول والقاهرة واخيراً لقاء القاهرة في مارس الماضي .

الانتخابات أصبحت معضلة ومغامرة سواء للأحزاب منفردة أو على المستوى الوطني. فبالنسبة للأحزاب منفردة فإن الانتخابات ستكشف أوزانها الحقيقية وهشاشتها الداخلية، وعلى المستوى الوطني فإنها معضلة كبيرة بسبب قوة تأثير الأطراف الخارجية عليها وعلى مخرجاتها، كما ستكون خطيرة وخطيئة وطنية إن تمت بدون القدس، كما أن تأجيلها وبقاء الأمور على حالها مغامرة أكثر خطورة، وأن يتم تأجيل الانتخابات دون توافق وطني لن يحل المشكلة.

وفي هذا السياق يمكن التوقف عند القضايا التالية:-

أولا: الأحزاب مُكرهة على المشاركة في الانتخابات

بعيداً عن الخطاب الإعلامي الديماغوجي المُعلن للأحزاب والذي يؤكد الحرص والرغبة في إجراء الانتخابات، نعتقد أنه لو تُرِك أمر الانتخابات للطبقة السياسية الحاكمة وللأحزاب القديمة ما فكرت بالانتخابات حتى لا تنكشف أوزانها الحقيقية وفقدانها لشعبيتها، إلا أن المطالب الشعبية الضاغطة ورغبة الخارج وخصوصاً الأوروبيين في إجرائها جرها جراً للدخول في العملية الانتخابية.

ثانياً: صراع على السلطة وغياب البرامج السياسية

من الملاحظ أن كل الأحزاب وأصحاب القوائم الانتخابية يتجنبون الخوض في القضايا السياسية الكبرى. صحيح أن مرحلة الدعاية الانتخابية لم تبدأ إلا أن الأمر يخفي تهرباً مقصودا لغياب رؤية واضحة عند هذه الأطراف، وعند بدء مرحلة الدعاية الانتخابية – في حالة إجراء الانتخابات- سيكتشف الشعب ضحالة وبؤس البرامج الانتخابية.

ثالثاً:  قوة تأثير المال السياسي والخطاب الديماغوجي

لأن الأحزاب والمُشكلون للقوائم الانتخابية لا يتوفرون على برامج سياسية وإن صاغوا برامج فإنها ستكون باهتة وغير مقنعة للجمهور فإنهم سيعوضون ذلك بالمال السياسي وبمنافقة الشعب،  وهذا بدأ بالفعل منذ صدور قرار الرئيس بالانتخابات، فالكل أكتشف الآن معاناة غزة والفقر في غزة وضرورة تحسين أوضاعها المعيشية والكل يطالب بتصحيح (الخلل) المتعلق بالرواتب، كما أن الأموال تتدفق للضفة وغزة بطرق مشروعة وغير مشروعة، والسلطتان في الضفة وغزة تمنح تسهيلات مادية وغيرها وتحاول تحسين صورتها عند الشعب، وسيظهر بوضوح دور المال السياسي عند بدء الدعاية الانتخابية نهاية هذا الشهر. 

رابعاً: مجلس تشريعي مختلف عن سابقيه

الذهاب للانتخابات في ظل عدم حل الإشكالات المتراكمة منذ سنين واستمرار الانقسام بل وتمدده حتى داخل الأحزاب كما هو الحال في حركة فتح وفصائل أخرى في منظمة التحرير، وفشل اليسار في تشكيل قائمة واحدة وتعدد القوائم – 36 قائمة- كل ذلك سيؤدي لمجلس تشريعي مختلف عن المجلسين السابقين وستكون التحالفات صعبة ومختلفة عما كان سابقاً عندما كانت فتح وحماس تتحكمان في المجلس التشريعي وفي شبكة التحالفات، كما أن هذا الوضع التعددي بدون مرجعيات متوافق عليها سيضع تحديات أمام تشكل حكومة وحدة وطنية وحتى إن تشكلت قد لا تُعَمر طويلاً.

خامساً: تأجيل الانتخابات بين الحسابات الحزبية وحسابات الرئيس

بالرغم من ارتفاع الأصوات المتخوفة من الانتخابات والمطالِبة بتأجيلها وخصوصا داخل حركة فتح التي تخشى من فقدان أغلبية مريحة تؤَمِن لها استمرار ريادتها وقيادتها لمنظمة التحرير وللسلطة وللنظام السياسي إلا أن من الصعب على الرئيس أبو مازن، الذي يملك وحده قرار التأجيل من عدمه، تأجيل الانتخابات لأسباب فتحاوية، فهذا سيؤثر  على مصداقيته أمام شعبه وأمام العالم،  كما أن الرئيس أبو مازن راغب في إجراء الانتخابات حتى وإن كانت حركة فتح تعارض، لأنه يعطي الأولوية لمشروعه السياسي الذي أسس له منذ اوسلو وهو مشروع لا يكتمل إلا بانضواء كل أو أغلب الأحزاب السياسية وخصوصاً حركة حماس في التسوية السياسية والسلطة الوطنية من خلال بوابة المجلس التشريعي، السبب الوحيد الذي قد يدفع الرئيس لتأجيل الانتخابات هو رفض إسرائيل إجراءها في القدس .

سادساً: تأجيل الانتخابات ليس حلاً

مع إدراكنا لتخوفات حركة فتح من نتائج الانتخابات، وتفهمنا أن إجراء الانتخابات بدون القدس سيتم تفسيره بأنه موافقة فلسطينية على أن القدس جزء من إسرائيل وخارج حدود الدولة الفلسطينية الموعودة، إلا تأجيل الانتخابات لن يحل المشكلة حيث سيستمر الانقسام ولن تتغير وضعية القدس، كما أن تأجيل الانتخابات لن يغير من واقع حركة فتح لأن مشاكل فتح الداخلية سابقة للعملية الانتخابية حتى وإن كانت هذه الأخيرة كشفت المستور.

سابعاً: حتى لا يؤدي التأجيل إلى تعميق الخلافات الداخلية

قرار تأجيل الانتخابات بسبب القدس يجب أن يكون بتوافق وطني مع وضع استراتيجية أو خطة وطنية للحفاظ على الحد الأدنى من المصالحة أو التوافق حتى لا يتكرس الانقسام وتفلت الفتنة من عقالها. في حالة إصدار الرئيس قرار تأجيل العملية الانتخابية أو تعليقها ورفضت بعض الأحزاب هذا القرار فعليها التقدم برسالة رسمية للرئيس أبو مازن وللجنة الانتخابات المركزية تعلن فيها أنها مع إجراء الانتخابات بدون القدس، أو تقترح آلية لتجاوز قرار المنع الإسرائيلي بدلاً من تحميل الرئيس وحركة فتح مسؤولية تأجيل الانتخابات. 

ثامناً: إسرائيل هي المسؤولة عن إعاقة الانتخابات

الإصرار على إجراء الانتخابات بالرغم من كل ما ذكرناه من عيوب وثغرات وتحديات رسالة للعالم أن الشعب الفلسطيني يؤمن بالديمقراطية وقادر على دفع استحقاقاتها وأن المشكلة تكمن في الكيان الصهيوني الذي يُعيق العملية الانتخابية من خلال رفض إجرائها في مدينة القدس والتضييق على المرشحين للانتخابات والشروط التي يضعها مسبقاً لاستكمال المسار الانتخابي وللتعامل مع الحكومة التي ستنبثق عن الانتخابات.

تاسعاً: ماذا لو لم تم تأجيل الانتخابات؟

إذا تم تأجيل الانتخابات فهذا معناه عدم إجرائها في المدى القريب على أقل تقدير، وفي هذه الحالة سيتكرس الانقسام وسيتم البحث عن آلية لإدارة الانقسام، أو سيتم الإعلان رسمياً عن فصل قطاع غزة وقد تلجأ حركة حماس ومواليها من الأحزاب إلى إجراء الانتخابات في غزة فقط وتشكيل حكومة أو إدارة لغزة، وفي هذه الحالة لن تكون هناك مقاومة في غزة لا عسكرية ولا سلمية لأنه سيمارس على حكومة غزة ما يتم ممارسته على حكومة السلطة في الضفة، كما سيكون موقف القيادة الفلسطينية أكثر ضعفاً في أية مفاوضات قادمة مع إسرائيل.

 

إبراهيم أبراش

 

 

شاكر فريد حسن: قراءة في ديوان "أكاليل آذار" للشاعر رجا الخطيب

التفاصيل
كتب بواسطة: شاكر فريد حسن

شاكر فريد حسنمن دواعي الغبطة والسرور أن يقوم الصديق الشاعر الأستاذ رجا الخطيب، القامة الوطنية، ورئيس مجلس دير حنا سابقًا، وصاحب المواقف السياسية والوطنية الجذرية الصلبة، بإهدائي باكورة أعماله الشعرية، ديوانه الموسوم "أكاليل آذار"، الصادر عن دار الحديث  في عسفيا بإدارة الشاعر الناشر فهيم أبو ركن.

يقع الديوان في 131 صفحة من الحجم المتوسط، وجاء بطباعة فاخرة وأنيقة، وأبدعت الفنانة ملكة زاهر بالتصميم الداخلي للديوان، وتصميم لوحة الغلاف الجميلة والمعبرة عن محتوياته ومضمونه. ويهدي رجا ديوانه إلى" الذين يعشقون الحروف، ويصوغون من بقاياها قلائد الكلام، ومحبي الخير والعاملين على إفشاء السلام".

ويتضمن الديوان أشعارًا وخواطر ذات دلالات عميقة، تحمل بعدًا وجدانيًا ووطنيًا وسياسيًا واجتماعيًا عامًا، تحاكي آذار وما يمثله من رمز بالارتباط والالتصاق بالأرض حتى الجذور، يوم انتفضت وهبت جماهيرنا العربية الفلسطينية دفاعًا عن أراضي المل في البطوف والأرض الفلسطينية كلها في العام 1976، وتعكس هذه الأشعار والخواطر الهم العام والوجع الإنساني والجرح الفلسطيني النازف.

لقد قرأت ديوان رجاء الخطيب بكثير من المتعة الذوقية، ووجدت في نصوصه مشاعر الحب والإنسانية وعشق الوطن وأبجديات الحروف، والالتزام الوطني والكفاح بكل تجلياته. إنه يمتلك نفسًا شعريًا وموهبة فذة، ويصب ويسكب أحاسيسه ومشاعره وينسج حروفه وكلماته بكل الصدق والعفوية والتلقائية والرقة والعذوبة والصياغة الجمالية الفنية. وما يميز كتابته الشعرية هو مقدرته الواضحة على المزج بين بساطة التعبير وواقعية الكلمات والمعاني من ناحية ورمزية اللغة الشعرية.

وعنوان الديوان يحمل دلالات فنية رمزية خالصة تلخص الإطار العام للرؤية الشعرية في الديوان كله، فالثورة والغضب على الواقع والحلم بفجر وضاء، وأمل مشرق بغد خالٍ من القهر والالم والظلم الإنساني، يمكن أن يتحقق في يوم من الأيام، ذلك أن الأسى والحزن والشجن لن يظل يطغى على ملامح تجربة شاعرنا رجا الخطيب.

في الديوان قصائد عديدة ومتنوعة الأغراض في معظم المواضيع، الوطنية والسياسية والاجتماعية والإنسانية والوجدانية والتأملية والرومانسية والرثائية، وغير ذلك من هموم وثيمات وعناوين. ففي الغزل نقرأ "رقّ قلبي" وهي قصيدة ناعمة حد الرقة، وفي غاية الروعة والجمال والشفافية ورهافة المشاعر، فيقول:

رقّ قلْبي للحَبيبِ وَراقا

كالندّى عَشِقَ الوُرودَ رِفاقا

يا حَبيبي لا تَزُرْني غِبّا

قد رَمى سَهْمُ المُحِبِّ مُحِبّا

فأصابَ كَبْدَ الهَوى وأراقا

أمْهتْ على ذِكْرِ الحَبيبِ عُيوني

وَوَقَتْ رُؤاهُ سَتائرُها جُفوني

أنْشدْتُ لهُ لَحْنًا فَسَرَّهُ شّدْوي

ما كانَ ظنّي أنّ الهَوى يَكْوي

ومن القصائد التي تحاكي الوطن والتراب والأرض والشهداء الابرار، قصيدته الرائعة "أكاليل آذار" المشحونة بالغضب اللاهب والاعتزاز بشعبه الذي ثار بوجه مصادرة واغتصاب الأرض، والتي اختارها عنوانًا لديوانه، نقتطف منها:

آذار جُرْحُنا يُنْكَأ كلَّ يوْمٍ

حتى بدا نَزيفُ النّجيعِ مَسيلا

شُهَداؤنا لهم في القُلوبِ نُقوشٌ

لِجَميلِ ما اسْتَردّوا نرُدُّ جميلا

ردّوا بِروحِهِم في الحوادِثِ حقًّا

وكرامَةً ومجْدًا فباتَ أصيلا

حقُّ الشّهيدِ موْصولٌ بنا حتّى

لوْ كانَ درْبُنا في النّضالِ طويلا

كلُّ الشّهورِ آذارُ هل هو قَدَرٌ

يأبى تحَمّلًا شعْبُنا وقَبولا

وفي قصائد أخرى يتحدث رجا الخطيب عن عشقه للحروف ولغة الضاد، وعن جمال الربيع ونيسان وأزهار اللوز والطبيعة الخضراء وهمس الليل والفجر ورمضان وعيد الميلاد ورمضان وجائحة كورونا والعنف المستشري في مجتمعنا، ويكتب عن القدس الجريحة والشام وحلب الشهباء والحالة السورية، وعن السلام، ويدعو إلى نشر رايات السلام والمحبة والوئام في المجتمع وبين الشعوب واحقاق الحق الفلسطيني المشروع.

ونلمس في الديوان الحس الطبقي الواضح المنحاز والمنتصر للجماهير المسحوقة الكادحة، المتعطشة للحياة والحرية والعدالة، بالإضافة للروح الريفية الشعبية التي تتجلى في قصيدته " صورة وعرية" التي تنتمي للشعر الايديلي "الريفي"، حيث يقول:

والفلّاح بِمْحاذاةِ الوعَر كرْمُه

عشْقان من ريحْتُه طَعْمُه

تين ودوالي ما شاالله

التين زنّر على الدّايِر

والدّالية تْعرْبشت مَدّاتها عَ صْخور

باحْضانها قْطوفِ العنب تدّلّى

حَبّاتها زْمُرّدُ وْبلّور

وقطوفِ اسْتَوَت مثل الذّهب المِجَلّى

منها حَوّشِ الفلّاح مشَقول

تين وعنب للقَفّور مَلّا

وبحْدا الدالية بُطْمِة عالْيِة

بين اغصانَها نَطْنطِ الشّحْرور

وفي الديوان كذلك قصائد في الرثاء، فنراه يرثي بكل الحزن واللوعة والأسى المناضل شوقي خطيب، وجاره المربي صالح محمد خلايلة، والمرحوم البروفيسور الشاعر فاروق مواسي، سيد الحرف، الذي يقول فيه:

أبْكيْتَ حَرْفًا كانَ فيكَ يُمَتّعُ

وَقَصِيدَةً تَرْثي الرّحيلَ وتَدْمَعُ

يا سَيّدَ الحَرْفِ الّذي قوّمتَهُ

بعْدَما لَهَجتْ فيهِ ألْسُنُ تَبْدَعُ

أوْجَعْتَ فينا شِعْرّنا ورُواءَهُ

لوْ كُنْتَ تدْري كم رَحيلُكَ يصْفَعُ

فاروقُ حينَ تَشاكَلَتْ وتَحيّرَتْ

فينا الرُّؤى، كُنْتَ المُحَكَّم تَشْرعُ

زِنَةَ الرَّواسي بالحُضورِ رَصانَةً

مُتكامِلًا كالبَدْرِ نورُكَ يسْطَعُ

وتمتاز قصائد ديوان "أكاليل آذار" بالرصانة والجزالة اللفظية وقوة التعبير واللغة، ومتانة السبك والحبك، والعذوبة اللغوية الموسيقية، والروح الشاعرية المرهفة الشفيفة، والشعور الوطني العارم الطاغي على مضامينها، فضلًا عن الصور الشعرية الخلابة المبتكرة، والاستعارات البلاغية والايحاءات العميقة.

ومن نافلة القول، أن رجا الخطيب استطاع بفضل موهبته الفنية الإبداعية وثقافته السياسية والفكرية ومقدرته اللغوية، وبأسلوبه السهل الممتنع العذب والمتميز أن يصقل ويطور أدواته ويسمو بها نحو الابداع والتجديد ليلائم مقتضيات التطور والحداثة في المسيرة الشعرية الحديثة. وما هذا الديوان سوى بطاقة تعريفية لشاعر نجح عبر متخيله الشعري أن يحول أغنياته وأناشيده وخواطره إلى ترنيمات وألحان شجية ينبض فيها الأمل والبقاء والحياة.

فللصديق الأستاذ العزيز الشاعر رجا الخطيب أجمل التهاني بصدور ديوانه الأول "أكاليل آذار"، مع أصدق التحيات وأطيب الامنيات بدوام التوفيق والنجاح والمزيد من الإبداع والعطاء والإصدارات الشعرية.

 

بقلم: شاكر فريد حسن

 

قاسم حسين صالح: الصيام.. في زمن كورونا

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. قاسم حسين صالح

قاسم حسين صالحأثار صيام رمضان الماضي الذي تزامن مع تفشي فيروس كورونا، جدلا فقهيا على الصعيدين العربي والأسلامي.. ففي تونس أصدر علماء جامع الزيتونة فتوى تبيح الإفطار للمصابين بفيروس كورونا فقط، فيما اصدرالمفتي عثمان بطّيخ، قرار بأن الصوم في زمن الوباء يعود للأطباء الذين يجب أن يجتمعوا لتقييم الوضع، وقبل ذلك لا نستطيع إعطاء أي حكم فهذا يدخل في إطار الشعوذة".

وفي القاهرة أصدرت لجنة البحوث الفقهية التابعة للأزهر في رمضان الماضي، إنه "بناء على عدم وجود الدليل، تبقى أحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بالصوم على ما هي عليه، من وجوب الصوم على كافة المسلمين، إلا من رخص لهم الإفطار شرعا من أصحاب الأعذار.وافادت بأنها اصدرت بيانها هذا بحضور "كبار الأطباء وجهات التخصص الطبي بفروعه المختلفة، وممثلين عن منظمة الصحة العالمية وعدد من علماء الشريعة بالأزهر الشريف.

وفي العراق ،اصدرمكتب السيد علي السيستاني في رمضان الماضي فتوى بان وجوب الصيام في نهار شهر رمضان انما يسقط عمن له عذر شرعي كالمريض ومن يخاف - لنصيحة طبية مثلا- أن يصاب بالمرض ان صام ولم يتيسر له اتخاذ الأجراء الأحتياطي المؤمّن له عن الأصابة، والا لزمه ذلك ولم يجز له ترك الصيام. وأضاف بأن الذين يسعهم ترك العمل في شهر رمضان والبقاء في المنزل بحيث يأمنون الأصابة بالمرض لا يسقط عنهم وجوب الصيام .واما الذين لا يسعهم ترك اعمالهم لأي سبب كان ،فان خافوا من الأصابة بالفيروس مع ترك شرب الماء في فترات متقاربة في النهار ولم يمكنهم اتخاذ اجراء آخر يأمنون معه من الأصابة به لم يجب عليهم الصيام ،وان لم يجز لهم التجاهر بالأفطار في الملأ العام.

وطبيا اعتمدت المنظمات العالمية الموثوقة تغريدة للأمم المتحدة اوضحت فيها أن "الفكرة المتداولة بأن شرب الماء أو المشروبات الساخنة كل 15 دقيقة، كفيل بالقضاء على كورونا، غير صحيحة". مضيفة بأن شرب الماء بكمية تكفي ،(8- 10) اكواب، يمكن تناولها ما بين صلاتي المغرب والفجر.

ما نعوزه عراقيا وعربيا ان غالبيتهم يفهمون الصوم على انه فرض ديني واجب ولا يمتلكون فهما بهذه القضايا السيكولوجية التي نأمل من وسائل الأعلام والبرامج الدينية في الفضائيات التقاط افكارها وأيصالها للصائمين بلغة سهلة، ليتحقق صوم رمضان بدرجاته الثلاث:صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص.

 

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

 

 

الدين ودستور الدولة والعلمانية (4): نبيل ياسين

التفاصيل
كتب بواسطة: د. علي رسول الربيعي

تمت الإجابة على السؤال المطروح في الحلقات المتقدمة، من قبل: ا. د. محمد مسلم جمعة، ا. نور الدين علوش، ود. محمد عبده أبو العلا، د. علي رسول الربيعي، ود. أيمنة بن عودة، وا. محمد رياض الدقداقي، وأدناه جواب الدكتور نبيل ياسين:

أما السؤال: هل يمكنكم تقديم تسويغ لأيً من هذه النماذج كنظام دستوري يمكن أن يكون حلًا حيًاديًا أفضل أو معالجة دستورية تجدونها مناسبة للعلاقة بين الدولة والدين أو حتى نقدًا لكافة هذه الدساتير؟ (النماذج مذكورة في الحلقة الاولى على الرابط أدناه)

https://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_users&id=5889&lang=ar&view=articles

د. علي رسول الربيعي

.................................

نبيل ياسينجواب  نبيل ياسين عن سؤال الدستور

ماذا يفعل الدستور؟

ما يفعله الدستور عمليا، باحتوائه على قوانين اساسية، هو فصل الاستبداد عن الدولة. وبما ان الاستبداد ارتبط بالدين وفوّض نفسه الحكم المطلق باسم الاله، فقد كان فصل الدين عن الدولة، عمليا، هو فصل الاستبداد عن الحكم دستوريا.

لقد تحولت العلمانية تحولات تاريخية متراكمة . بالدساتير كانت تقلص من صلاحيات الملوك والأباطرة عبر حوادث ووقائع انتجت قوانين ومواد دستورية فعالة وحاكمة. فالدستور يحكم من خلال الرجال الذين اخترعوه ليلتزموا به.

واذا كانت (الشريعة) بمفهومها التاريخي سلاح التحالف بين رجال السلطة ورجال الدين الذي تم استخدامه تعسفيا، فان الدستور هو قانون الدولة الخاضع للمراقبة القضائية والبرلمانية وسلطة الرأي العام. انه منظمة تشرف على حل النزاعات سلميا.

وصل الدستور في القرن التاسع عشر الى ان يكون وثيقة اساسية للحكم . نحن نعلم ان عام ١٢١٥ كان عاما تاريخيا في نشأة الدستور حين صدر العهد الاعظم Magna Carta وتضمن مادة اساسية أصبحت سارية  المفعول بقوة، المادة التي تقول انه لايمكن سجن احد بدون محاكمة عادلة . وهي مادة بلغت من الفعالية عام ٢٠٠٤ أعلى مستوى، حين منع القاضي الفدرالي الامريكي، استنادا على هذه المادة، وبعد قرابة ٧٠٠ عام من صدورها، استمرار سجن  المقاتلين الذين القي القبض عليهم في أفغانستان في سجن غوانتينامو بدون محاكمة. كما رفض رئيس القضاة البريطاني عام ٢٠٠٧، بعد ان ضربت لندن موجة تفجيرات، طلب الحكومة تمديد فترة اعتقال المشتبه بهم لمدة ٧٢ ساعة، استنادا على مادة العهد الأعظم.

اكتب عن الدستور منذ ربع قرن . ولا اريد تكرار ما كتبته وكتبه الاخرون، فالدستور لايعني شيئا،بدون توفير العناصر الضامنة له، والتي تحميه. هذه العناصر تكمن في توفير  قضاء عادل وقوي، ورأي عام فعال، وصحافة قوية ومستقلة  كما هي الصحافة في فرنسا في القرن التاسع عشر. اذ يعتبر المؤرخ الفرنسي للدولة جاك دوفابر  فابر في كتابه ( الدولة) ان القرن التاسع عشر كان قرن حرية الصحافة في فرنسا. ويتعطل الدستور أيضا بدون وجود  مجتمع مدني فعال لايتخلى عن مجاله المدني للمجتمع السياسي كما يكتب منظر الديمقراطية الحديثة آلان تورين في كتابه ( مالديمقراطية) . فالدول الديكتاتورية أيضا تملك وثيقة  اسمها الدستور، وهي تنص غالبا على ماتضمنته الدساتير الديمقراطية في اوروبا، على الحريات وسيادة  القانون، وان السلطة مستمدة من الشعب. كما تنص على فصل السلطات والمساواة وتكافؤ الفرص وحرية الصحافة والمباديء الاخرى للديمقراطية . ولكن لاقيمة للدستور اذا بقي وثيقة غير محمية . فتعريف السلطة وتسويغها  مثلا، وهو ما يتضمنه أي دستور، لا يتحقق في النظام الجمهوري الذي تقوده طغم مدنية او عسكرية او قبلية او حزبية . كما ان الرأي العام، الذي يعرّفه الدستور بحقوقه وما ينتظره من السلطة لاينال من هذه الحقوق الدستورية شيئا، حيث يتسيد الاستبداد في ظل وثيقة دستورية تنص على تبادل سلمي للسلطة وعلى العدالة والمساواة وتوزيع السلطة وفصل السلطات ومنها فصل سلطة الدين على القوانين وحياة المواطنين، اذ ان فصل السلطات في الدستور الديمقراطي طال سلطة الدين على الدولة  ايضا، وهو ما سمح للعلمانية ان تقود فصل السلطات فصلا واقعيا ومتحققا  ليمارس الدين سلطته على المؤمنين به في البيت او دور العبادة لتكون الدولة ملكا لجميع المواطنين دون تمييز.

الهدف من الدستور، حسب فقهاء الدستور، هو اقامة  نظام عقلاني مستقر يتطور على ضوء الحاجات الواقعية وتجنب العنف والانقلابات التي تنسف استقرار الدولة، ويعزز من استقرار الدولة وفق مبدأ سيادة الشعب عبر الانتخاب العام،ويتجنب الانقلابات والاضطرابات من خلال اخضاع جميع القوانين والقرارات للنقد والمناقشة .

ان معظم الدساتير الحديثة، كما يؤكد دوفابر، تنطوي على بيان لحقوق الانسان والمواطن والحقوق الاقتصادية والاجتماعية.  وهذه الحقوق الدستورية تعززت بالاعلان العالمي لحقوق الانسان عام ١٩٤٨، وبصكوك فيينا عام ١٩٦٦  بعد ان بدأت في لوائح الحقوق في بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا منذ وقت مبكرنسبيا من تطور الحداثة السياسية  حين صدرت وثيقة الحقوق في بريطانيا عام ١٦٨٩ وتضمنت النص  على إن حق الملك في التاج مستمد من الشعب الممثل في البرلمان وليس من الله. كما نصت الوثبقة على حرمان الملك من الغاء القوانين او وقف تنفيذها او اصدار قوانين جديدة الا بموافقة البرلمان، وهو ما طالب به البرلمان في عهد المستبد الملك تشارلز وادى الى اعدامه . لقد تم نزع الالوهية عن الملوك وانهار حكمهم المطلق وظهر الدستور. اصبح الدستور هو الذي يحكم الملك بعد ان كان الملك يحكم ا باسم ا لله ويتعسف باعتباره مفوضا من الله.

الدستور هو (الكائن) المحصن بصلاحيات الفصل بين السلطات، وبتكريس سيادة القانون، كما في إنكلترا. فأحد مبادئ الدستور البريطاني هو انه يطبق من خلال سيادة القانون. أي حكم القانون  كما يكتب Sydney D .Bally  في كتابه British Parliamentary Democracy .اما المبدأ الدستوري الثاني فهو ان للبرلمان سيادة.

ولكن سيادة البرلمان ليست كافة بحد ذاتها. ففي العقد الثامن من القرن التاسع عشر ظهرت مجموعة من فقهاء الدستور في الولايات المتحدة، خاصة فيما يتعلق بعمل السلطة التنفيذية وعلاقته بالدستور، تعتقد ان قوانين الحكومة وجهازها الإداري، الخاضع للدستور، هي قوانين لا حياة فيها، وان ما يبعث فيها الروح هي الهيئات غير الرسمية مثل الرأي العام والأحزاب السياسية، وان هذه الهيئات غير الحكومية هي قلب عملية الحكم، كما يقول Austin Ranney  في كتابه The Governing of Men.

ان الدستور والقانون بحاجة الى وسائل حماية لتطبيقهما . ويؤكد على ذلك الفرنسي آلان تورين في كتابه (مالديمقراطية) على انه لا يجوز للمجتمع المدني (أي الهيئات المستقلة) ان تسمح للمجتمع السياسي  الزحف على مجال عملها غير الرسمي، لأن احد اهم ضمانات حماية وتطبيق الدستور والقانون هي العمل المدني الموازي والمنافس للعمل الحكومي.

واذا قرأنا كتاب دافيد أو. ستيوارت المميز (الرجال الذين اخترعوا الدستور في صيف ١٧٨٧)، والمقصود هنا هو الدستور الأمريكي، سنحظى بمتعة الرواية الأكثر دقة عن اجتماع ونقاشات واشنطون وماديسون ومايسون وويلسون وفرانكلين وهاملتون وجيفرسون وبقية رفاقهم وسنجد ان النزاعات النهرية قبل اكثر من عام على اجتماع هؤلاء الرجال كانت الدوافع الأولى. ولكن بمجرد انعقاد الاجتماعات ظهرت قضايا اكثر حدة مثل العبودية، التي تحولت من قضية اقتصادية الى قضية أخلاقية، وصلاحيات الحكومات المحلية وصلاحيات الكونغرس. أي باختصار ظهر سؤال: كيف تحكم؟

الدستور أيضا،ومن جديد، هو منظمة لحل النزاعات سلميا وتجنب العنف. وهو اعتراف بحقوق المواطن وصلاحية الدستور ليكون الحكم عبر القضاء العادل والمستقل والمحمي هو الآخر بالدستور والرأي العام من خلال شبكة متنوعة من العلاقات والوظائف .

         

 

علي رسول الربيعي: التعددية والهوية

التفاصيل
كتب بواسطة: د. علي رسول الربيعي

علي رسول الربيعييُعد مصطلح التعددية أحد المصطلحات الأساسية لنظام عالمي جديد يُلهم تنوع الثقافات وأنظمة المعتقدات والقيم كلاً من البهجة للتعبير البشري والرهبة من الصراع الذي لا يمكن التوفيق فيه. لقد أصبح الاحتجاج بالتعددية دعوة، وحثًا عاجلاً لمواطني العالم على التصالح مع تنوعهم. إن الصراعات بين السنة والشيعة داخل الإسلام أو تلك التي لا تنتهي بين المسيحيين والمسلمين، والهندوس والسيخ، والتأميل والبوذيين، والفظائع المصاحبة التي ترتكب ضد المدنيين الأبرياء، قد أدت إلى إلحاح شديد إلى الضرورة الأخلاقية المتمثلة في الاعتراف بالكرامة الإنسانية للآخر، بغض النظر عن ديانته. والانتماءات العرقية والثقافية.

هذه الحاجة الأخلاقية الملحة للاعتراف بالآخر هي نتيجة ثانوية للتطورات التكنولوجية المتصاعدة في مجال النقل والاتصالات. حتى وقت قريب، كانت الدول تعيش في عزلة نسبية عن بعضها البعض، ولم تكن المواجهات السابقة مع التنوع دائمًا ودية. في الواقع، كما تشير العديد من النزاعات حول العالم، يمكن أن تصبح الصدامات بين الثقافات المتنوعة مصدرًا رئيسيًا لتجريد الآخر من إنسانيته. يسعى كل تقليد، مسلحًا ببراءة اختراعه الممنوحة ذاتيًا عن الوحي الإلهي، إلى السيادة بدلاً من التكيف عند مواجهة عقيدة غريبة.

إن الاعتراف بالتعددية الدينية داخل مجتمع المؤمنين يعد بتعزيز مبدأ الشمولية (التي تشمل الجميع)، والذي من شأنه أن ينصح وينهض بالتوافق، وليس الصراع، بين الادعاءات المتنافسة حول الحقيقة الدينية في المجتمعات غير المتجانسة دينياً وثقافيًا. يجب أن تؤدي هذه الشمولية إلى إحساس بالإمكانيات المتعددة والفريدة من نوعها لإثراء البحث البشري عن الرفاه الروحي والأخلاقي.

هل الوعد بالتدين التعددي، والاعتراف المعزز بالاختلاف الروحي، هو نتيجة غير مقصودة للتقدم بالاعتماد التكنولوجي والاقتصادي المتبادل، مع ظهوره بشكل متزايد وأكثر من أي وقت مضى؟ أم أن هذا الأمل في المصالحة هو جزء قديم من التراث الإنساني، محفوظ في الخطاب الديني الكلاسيكي الذي كان عليه أن يتصالح مع ادعاءات مماثلة ومنافسة للخلاص الحصري فيما يتعلق بكل من الأديان الأخرى وداخل مجتمع المؤمنين كيف يمكن للمجتمع توفير الأدوات اللازمة للاندماج والشرعية دون حرمان الجماعات الدينية الأخرى من حصتها المستحقة في الهوية الدينية المتمحورة حول الله؟ هل يمكنها بناء نموذجها المثالي، وهو نظام عام عادل، دون خلق لاهوت جامع للتعامل مع مجموعة واسعة من المشاكل الناشئة عن اللقاءات بين المسلمين والأخرين من الديانات الأخرى؟

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

 

بهجت عباس: هكذا هم!.. هكذا نحن!

التفاصيل
كتب بواسطة: د. بهجت عباس

بهجت عباس(من الماضي البعيد) 

حينما كنتُ أدرُسُ في جامعة نوتنغهام (إنكلترا) في منـتصف السبعينات من القرن الماضي، زار الجامعةَ بروفيسور بولندي لقضاء بضعة أشهر، كأستاذ زائر، وكان يهودياً. أعجـبـته الجامعة ونمط الحياة البريطانية والجنيه الإسترليني رغمَ هبوطِه المسـتمر حينذاك، فقرر البقاء! فماذا كان من أبـناء دينه؟ أوجدوا له وظيـفةَ بروفيسور (تأريخ أوروبي) في جامعة ليستر، مدينة مجاورة، ومنحوه أو أقرضوه (لست متأكداً) أحدَ عشرَ ألفَ جنيهٍ ليشـتريَ بيـتاً (وهو مبلغ كافٍ لشراء بيت جميل في نوتنغهام أو ليستر أو ما يجاورهما في تلك الأيام) فعاش سعيداً مُـنعـمّـاً ولم يَـعُـدْ إلى عُـشِّـه الذي هجره! 

وكان في الوقت عينه زائر آخر، ولكنْ في قسم الكيمياء الحياتية. كان بروفيسوراً أمريكياً من أصل عربيّ . توطَّدتْ علاقة متـينة بيننا . وبعد أنْ أمضى سنةً كاملة في الأبحاث وأراد العودة إلى الولايات المتحدة، تمنّـى أنْ أزورَه هناك . ولما واتتني الفرصة، بعد حصولي على الدكتوراه، شددت الرحال إلى أوغستا - جورجيا حيث هو فيها . كان ذلك بعد عام على مغادرته نوتنغهام . فاستقبلني استقبالاً حسناً .. وبعد مرور عامين وأثناء عملي كمدرس في كلية الطب - الجامعة المستنصرية في بغداد تلقيت دعوة منه (البروفيسور العربي) للبحث في مختبره عن (فعالية الخمائر المؤَكسِدة في عضلة العين) خلال العطلة الصيفية (1979)، ووعداً بدفع مبلغ  ألف دولار خلال شهريْ الصّيف. شددتُ الرحال إليه مرة أخرى . كان ودوداً ولطيفاً بادئ الأمر، ولكنَّ الأمرَ تغيّر بعد أن عرف أنَّ في نـيتي البقـاءَ هناك والعملَ في الجامعات الأميركية. فأخذ يـثبِّـط هِـمّـتي بإخـباري أنْ ليس لي ثـمة عمل في الولايات المتحدة بطولها وعرضها! مما أنكرت ذلك عليه زوجته الأمريكية. وفي اليوم التالي تعرفتُ على بروفيسور أمريكي من أصل ألماني، وقد سُـرَّ لحديثي معه باللغة الألمانية فطلب مني البقاءَ والعمل هناك. ولما أخبرته بعدم وجود فرصة عمل هنا (الولايات المتحدة)، حسبما أخبرني صديقي العربي، استغرب وقال إنَّ أستاذ المناعة في الجامعة بحاجة إلى باحث علمي، وأخذني إليه فوراً. وبعد أنْ مدحني أمامه وأوصاه بي خيراً، تركني معه وكانت مقابلةInterview   لغرض التعيين . طلبتُ من صديقي البروفيسور أنْ يرتِّب لي إلقاء محاضرة في الجامعة حول الخمائر متعددة الوظائف الموجودة في الكبد Mixed function oxygenases وكان هذا الموضوع جزءاً من اطروحتي في الماجستير (الباثولوجي التجريبي - لندن) فقال لي إنّهم (أساتذة الجامعة) لا يعيرون شأناً لهذا الموضوع! (وبالمناسبة نشرتُ هذا الجزء في مجلة الفارماكولوجي السويسرية عام 1981 . وفي عام 2008 عرضته المجلة السويسريّة للبيع بمبلغ 25 دولاراً في غوغل ولا يزال موجوداً للبيع ولكنْ بمبلغ 39 دولاراً *)

وخلال فترة عملي معه حصلت على وظيفة باحث علمي في  جامعة ميامي – فلوريدا، فـ(ضرب) عليَّ الألفَ دولار، مبرِّراً فعلته هذه  أنْ لولا وجودي في مختبره، لما حصلتُ على هذه الوظيفة !  وأردف قائلاً إنَّ ثمة مؤتمراً عالمياً للكيمياء الحياتية في حيفا (إسرائيل) وهو بحاجة لهذا المبلغ للاشتراك فيه، وأما أنا فلست بحاجة إلى مثل هذا المبلغ، كما قال . ذهبت وعائلتي إلى ميامي وباشرت العمل مدة أسبوعين، ولكني قررت العودة إلى بغداد لتصفية أمور كثيرة عالقة مع تصميم على مغادرتها في السنة التي تليها وهكذا كان . ومع هذا فإني لست حاقداً عليه، فقد كان إنساناً بسيطاً رغم كل شيء، وما قام به هو جزء من طبيعتنا (مع استثناء)، وقد يُغَضُّ النظرُ عنه، مُـقارنةً بما فعل آخرون خلال دخولي دهاليزَ الزمن العتيد !

لربما تقولون إنّها حال فردية، وأقول: ليست هي، فلديّ كثير من أمثالها.          

ألا نزال نغـنّي جاهلية عمرو بن كلثوم؟:

ونشربُ إنْ وردنا الماءَ صفواً   

                ويشرب غير ُنا كدراً وطيـنا

نافلة الكلام

أبا الوجدِ** إنّي قد أتيتك شاكياً

                لأني وجدتُ  العدلَ قبضةَ زعـتـرِ

أيُنشر غثُّ الشعر دون مبرِّرٍ

                     ويُقـبَرُ مأثورُ الكلام المعبِّـرِ!

فلـو كُنتُ من نجـدٍ لكانت قصائدي

                 على الصَّفحـة الأولى تُخّـطُّ بعنبـرِ

ولكنني من أرض دجلة أُحرِقتْ

                     شواطئها والموت يفتك بالبَـري

وراحت رؤوسُ العرب تُطرق رهبـةً

                     لتفعـلَ ما تقضي إرادةُ قيصـرِ 

إذا كان (جيـنٌ) للبلادة مُـفصِحـاً 

                        فليس لـه إلاَ دواءُ الـتّـغـيّـُرِ

وإنْ غُيِّـرتْ (وَحداته) ضاع أصلُـه

                   وأصبح من عِـرقٍ جـديد مُـحوَّر ِ

وإنْ لم يـكنْ في (الجِّين) أيّ تغـيّر

                    فلن يُرتجـى للنـفس أيُّ تَحَـرّر ِ

وإنّا لقومٌ قـد أضَـاعوا طريقَهمْ

              فراحوا حيارى بين "جون" وحِمْـيَر

ألستَ تراهمْ في شوارع لندنٍ

                   وأفواهُهمْ تشدو بأمجاد عنترِ!

                   ***

د. بهجت عباس

..........................

* الرابط

Get article: Effect of Mercuric Chloride on Microsomal Enzyme System in Mouse Liver - Karger Publishers

** (كُتبتْ بعدما أرسلتُ قصيدة إلى جريدة الحياة اللندنية السّعودية عام 2000 فلم تنشر)

*** نُشرتْ باسم مستعار (د. باسم علي) في (نقطة حوار)، التي كان يُشرف عليها الكاتب السّعودي الراحل عبد الله الجفـري، في جريدة الحياة اللندنية الصادرة في 22 أيلول 2000.

                                                                         

 

           

كريم المظفر: التشيك وعدواتها مع روسيا.. من المستفيد

التفاصيل
كتب بواسطة: د. كريم المظفر

كريم المظفرطرد 18 دبلوماسيا روسيا من البلاد، وإلقاء اللوم على روسيا في التفجيرات والبحث عن "بتروف وبوشيروف"، ومنع شركة Rosatom من المشاركة في استكمال محطة الطاقة النووية، حدث كل هذا في جمهورية التشيك مساء السبت الماضي، والأمر قد لا يقتصر على هذا، وهكذا، انتقل  هذا البلد إلى عدد من المعارضين الخطرين لروسيا، ولا ينبغي أن تستمر مثل هذه الأعمال دون رد شديد القسو ة كما تقول موسكو.

وفي اول ردود فعلها وبعد استدعاء سفير براغ لدى موسكو، فيتيزسلاف بيفونكا، للإعراب عن احتجاج حاسم له على إجراء السلطات التشيكية بحق السفارة الروسية، أعلنت وزارة الخارجية الروسية، الأحد، عن طرد 20 دبلوماسيا تشيكيا باعتبارهم شخصيات غير مرغوب فيها، وعليهم بمغادرة أراضي روسيا حتى انقضاء يوم 19 أبريل، واصفة الخطوات التشيكية بانها "عدائية" وتمثل استمرارا لسلسلة إجراءات معادية لروسيا اتخذتها التشيك خلال السنوات الأخيرة، وشددت على انه  لا يمكن ملاحظة الأثر الأمريكي في هذه الأحداث،  وفي سعيها إلى إرضاء الولايات المتحدة على خلفية فرضها مؤخرا عقوبات جديدة على روسيا، "تخطت السلطات التشيكية حتى أصحابها في الطرف الآخر للمحيط".

واعتبرت موسكو  التصريحات التشيكية الأخيرة المناهضة لروسيا ، بان الغرب كان يحتاج إليها لحجب تدفق معلومات عن محاولة انقلاب في بيلاروس، وفي تصريحاتها المتلفزة، علقت المتحدثة باسم الخارجية ماريا زاخاروفا على تزامن الأنباء عن طرد 18 دبلوماسيا روسيا من جمهورية تشيكيا مع إعلان السلطات البيلاروسية والروسية عن إحباط محاولة انقلاب في بيلاروس، وقالت: "هناك شعور - وتدعمه وقائع - أنه في المجال الإعلامي، وخاصة في جزئه الغربي، كان شركاؤنا الغربيون مهتمين بحجب الطابع الملح وأهمية المعلومات التي تم نشرها من قبل كل من روسيا وجمهورية بيلاروس حول ما لم يكن مجرد مؤامرة، بل خطة لانقلاب على الدستور (في بيلاروس).

وفي عملية خاصة قالت هيئة الأمن الفيدرالية الروسية انها أوقفت شخصين في موسكو كانا يخططان لانقلاب عسكري في بيلاروس وفقا لسيناريو "الثورات الملونة" واغتيال رئيسها ألكسندر لوكاشينكو، وأن الانقلاب المخطط له في التاسع من مايو، كان يستهدف تغيير النظام الدستوري في بيلاروس وإلغاء منصب رئيس الدولة مع تسليم السلطة لـ "هيئة مصالحة وطنية، ووفقا للرئيس لوكاشينكو، فأن التحقيقات الجارية كشفت عن ضلوع الاستخبارات الأمريكية في التخطيط للعملية، معلومات نفاها ممثل رسمي لوزارة الخارجية الامريكية، واصفا إياها " خاطئة تماما " محذرا في الوقت نفسه، حتى من التلميح بها .

المراقبون الروس يشددون على ان حدث طرد 18 دبلوماسيًا روسيًا بتهمة التجسس، مبالغ فيه من قبل السلطات التشيكية، وتجاوزت جمهورية التشيك جميع حلفاء الناتو في هذا الصدد، حتى الولايات المتحدة نفسها التي طردت 10 دبلوماسيين فقط، وبولندا، المعادية لروسيا علانية، ثلاثة فقط، فقد، فقط بريطانيا هي التي أبعدت  المزيد كجزء من "قضية سكريبال"، ولكن حتى ذلك الحين فان الحديث يدور عن دولة ذات حجم أكبر بكثير، لذلك قررت القيادة التشيكية تقويض العلاقات مع روسيا بضربة واحدة.

ويسخر المحللون الروس من الادعاءات التشيكية، ويشيرون بالامر بالنسبة لتشيكيا لن يقف عند هذا الحد، فقد أعلن رئيس الوزراء بابيش أن روسيا مشتبه بها في انفجار في ساحة تدريب فربتيس العسكرية في عام 2014، مما أسفر عن مقتل شخصين،  ويصفون مايحدث " بالكوميديا " كما يقول موقع (EADaily)  وبدأ في وضع "بتروف وبوشيروف" على قائمة المطلوبين، وهما نفس هؤلاء "بتروف وبوشيروف"، الذين يعتبرهم البريطانيون ممن سمموا سكريبال، ويقولون إنهم دخلوا جمهورية التشيك تحت أسماء مولدوفا بوبا وطاجيك تاباروف.

علاوة على ذلك، فكرت سلطات جمهورية التشيك في حرمان شركة Rosatom من حق المشاركة في مناقصة استكمال وحدتين للطاقة في محطة الطاقة النووية في دوكوفاني، ودعا توماس بيتتشيك، الذي حُرم من منصبه كرئيس لوزارة الخارجية في بداية الأسبوع المنتهية ولايته، صراحةً إلى "طرد روساتوم"، مشيرًا إلى وجود تهديد للأمن القومي، ووعد زعيم الحزب المدني الديمقراطي المعارض، بيتر فيالا، بأن تتخذ جمهورية التشيك إجراءات جديدة "للحماية من روسيا".

كما يمكن أيضًا إضافة عمل رابع مناهض لروسيا، فقد كان وزير الخارجية Hamacek بصدد الذهاب إلى موسكو لمناقشة توريد لقاح Sputnik V، لكن رئيس الوزراء بابيس عارض بشدة مثل هذه الرحلة، وبعد إجراءات يوم السبت، يتجه احتمال شراء جمهورية التشيك للقاح نحو الصفر،  وربما لن تبيعها روسيا نفسها، بالنظر إلى سلوك الجانب التشيكي هذا، ومن الواضح أن الموضوع مغلق بغض النظر عن كيفية التعامل مع فيروس كورونا في كل بلد.

وإذا تم اتخاذ كل من الإجراءات على حدة، يمكن أن يتم اتخاذها بهدوء، كدليل على التضامن مع الولايات المتحدة وبريطانيا من جانب دولة صغيرة في الناتو أو كنتيجة "لمساعدة" علماء نوويين من فرنسا في إطار من معاهدة يوراتوم، أو كيف ببساطة عدم الرغبة في الحقن بلقاح "روسي" مشبوه، ولكن، نظرًا لتزامن الإجراءات، فإن الحديث يدور بوضوح عن رغبة القيادة التشيكية في قطع العلاقات فعليًا مع روسيا.

وجمهورية التشيك هي إحدى الدول التي تشكل سياسة الاتحاد الأوروبي في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي، ولعب التشيك دورًا نشطًا في الميدان الأوروبي في أوكرانيا، وهم اليوم يعملون بنشاط كبير على تغيير السلطة في بيلاروسيا، وإنهم يساعدون بشكل علني المعارضة الموالية للغرب في روسيا نفسها، ولا يترددون في التدخل في شؤوننا الداخلية، ويدرس في هذا البلد آلاف الطلاب من روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا على نفقة الدولة.

كما ان جمهورية التشيك ليست القوة العسكرية الأخيرة، وإنها، أدنى من روسيا، لكنها تحتل مكانة جيدة في السوق العالمية في عدد من المناصب في الأسلحة الصغيرة وطائرات التدريب والاتصالات والذخيرة، وللتشيك ممثلين بشكل جيد للغاية في كل من سوق الأسلحة الأفريقية والآسيوية، ويكفي التذكير بحالة الصحفي إيفان سافرونوف المشتبه في أنه يعمل لصالح المخابرات العسكرية التشيكية.

ويستخدم شركاء الناتو "الكبار" أيضًا التشيك، فالنسبة لهم، كونهم سلافًا، من الواضح أنه من الأسهل إتقان اللغة الروسية والعمل في الاتجاه الروسي على طول خط الذكاء، ويقع المقر الرئيسي لراديو ليبرتي في جمهورية التشيك (وسائل الإعلام هي وكيل أجنبي في الاتحاد الروسي)،  ومؤسسة Nemtsov، وهي منظمة تهدف علنًا إلى تغيير الحكومة في روسيا، وهي تعمل في جمهورية التشيك، لذلك، فإن التهديدات الصادرة من الاتجاه التشيكي يجب أن تحظى بأكبر قدر من الاهتمام الجدي وعدم إهمالها.

والحال هذه يدور في الاذهان هو: كيف ينبغي لروسيا أن ترد على مثل هذه الأعمال الجريئة؟ الجواب الأول مع "سبوتنيك" يقترح نفسه، إن إقناع جمهورية التشيك بشراء اللقاح بعد ما حدث هو نسيان للشرف، وفي ظل الظروف الحالية، قد يصبح هذا البلد هو البلد الوحيد الذي يجب على روسيا من حيث المبدأ أن ترفض توفير اللقاح، حتى لو لم تؤذي جمهورية التشيك نفسها كثيرا، والجواب الثاني هو بعد طرد الدبلوماسيين، ال 20 ،  وهذا الإجراء في الواقع يفسد تمامًا عمل السفارة التشيكية في موسكو، وبعد هذا الترحيل، يجب إغلاق القنصلية العامة في يكاترينبورغ، كما سيكون عمل القنصلية العامة في سانت بطرسبرغ موضع تساؤل، ومن الممكن تمامًا التفكير في إغلاق القنصليات الروسية العامة في برنو وكارلوفي فاري.

ويؤكد الكثيرون انه يجب أن تكون روسيا مستعدة لحقيقة أن جمهورية التشيك من خلال الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي ستعمل بنفس الطريقة التي تعمل بها بولندا أو دول البلطيق، وستبدأ على الأرجح في معارضة نورد ستريم 2، على الرغم من أنها حتى وقت قريب لم تكن مترددة في المشاركة في هذا الأمر، ويمكنها البحث عن أسلحة إضافية لأوكرانيا، وقد تطالب بفرض عقوبات أشد على روسيا، لذلك  لا يوجد سبب للاعتماد على الفطرة السليمة للسلطات التشيكية الحالية، ويتمتع الرئيس ميلوس زيمان بصلاحيات قليلة جدًا لتصحيح الوضع، وأصبحت جمهورية التشيك عدوًا خطيرًا لروسيا، ويجب تقليص العلاقة معها إلى الصفر حتى الأوقات الأفضل.

 

بقلم الدكتور كريم المظفر

 

 

أياد الزهيري: الاله في احضارة السومرية والبابلية

التفاصيل
كتب بواسطة: أياد الزهيري

اياد الزهيريتطرقنا في بحث سابق تحت عنوان (الاله في الأديان والأقوام البدائية) في جزئيه الأول والثاني عن الاله في زمن ما قبل الكتابة، كما شمل البحث الأقوام البدائية في المناطق التي لم تدخل لها الحضارة لحد الآن، والتي تعيش في مجاهل الأحراش والغابات النائية، أما في هذا الجزء فسوف نتطرق الى الاله في الحضارتين السومرية والبابلية، وهي حضارات تميزت بأن أنسانها قد أكتشف الكتابة، وسجل الكثير من معتقداته وأساطيره،وأحداثه ومنجزاته على ألواح طينية، وهي تعتبر اليوم وثائق تؤرشف له أعماله وحفظتها من التلاعب والتزوير، وهذا أنجاز قد سبب أنعطاف تاريخي في مسار الأنسانية وبيان درجة تطورها، كما جعل المعلومات عن أنسان هذين الحضارتين على درجة كبيرة من الموثوقية والأمانة، والسبب أن هذه الأعمال التي ثبتت على ألواح الطين قد حافظت على حالها كما هي ولم تتعرض للتغير والتحريف والفقدان كسابقتها التي تناقلتها الأجيال شفاهةً، مما جعلها عرضة للتغير والتبديل والزيادة والنقصان، وأن من أشتغل عليها وكتب عنها، أعتمد في أكثر الأحيان على الحدس والترجيح في كتابة المعلومة، ولهذا لم يكتسب تاريخ الأنسان لما قبل الحضارة درجة عالية من الموثوقية والأمانة، ولكن الباحثين لم يألوا جهداً في أنتزاع ما أمكن من هذا التاريخ العصي على الوضوح.

أن قضية الاله في الحضارتين السومرية والبابلية حظيت بأهمية قصوى لأنسان هاتين الحضارتين، ونالت من تفكيره الكثير، وهذا الأهتمام هو أستمرار لأنسان ما قبل الكتابة، ويمكننا القول منذ أن وعى الأنسان نفسه في هذا الوجود، ورأى نفسه عارياً في هذا الكوكب، ساعياً وبدواعي غريزة حب البقاء أن يحمي نفسه، ويؤمن حياته، وبعد ذلك سأل عن مصيره والغاية من وجوده في هذا الوجود الذي لم يأتي أليه بأرادته، هذه الأمور جعلته في خضم من المشاعر، وأنتابته الكثير من الهواجس لأنه أصبح وجهاً لوجه أمام متطلبات البقاء الضرورية لأستمراره، والتي تتطلب دفع الضرر عنه، وتوفير العيش وطلب الحماية له، بالأضافة الى نزوعه وأمله بالخلود . هذه المشاعر والهواجس، قادته الى تساؤلات، اولها هو معرفة هذا الوجود الذي يحيط به، والذي هو جزء منه، والذي أثارت فيه دقة الخلق وما أنعكس عليه منه من الرهبة والحيرة جعلته يفكر بكيفية الحماية من الظاهرة الكونية الرهيبة والعجيبة التي أثارة في نفسه المخاوف والتساؤلات، كما فكر بكيفية الأسترشاد بما يضمن له النجاح والتطور الأيجابي في مسيرة حياته أسوة بالموجودات التي يراها في هذا الوجود الغريب عليه. من هنا يمكننا الأنطلاق من حقيقة أن الأنسان القديم أتجه الى المسألة الألهية أنطلاقاً من التصور العميق بأن لا بد من أن يكون هناك مُوجِد لهذا الكون ولكنه لا يعرف ماهيته، وأنه هو حبل النجاة لكل هواجسه التي أنتابت كيانه كأنسان حائر في وجوده ويتطلع لمعرفته .

أن أختياري لحضارة وادي الرافدين لم يكن أعتباطاً ولكن لأنها أول الحضارات التي أكتشفت الكتابة وأن أثارها مليئة بالمسألة الألهية، فأنسان وادي الرافدين قد شغلته كثيراً المسألة الوجودية وخاصة الألهية . من الملاحظ أن أنسان هذين الحضارتين لا يختلف عن غيره من أنسان الحضارات الأخرى بأنه متعدد الألهه، وأنه يعتقد بأن كل اله مسؤول عن ظاهرة كونية معينة، فهناك اله للشمس واله للقمر واله للمطر واله للسماء وهكذا أيماناً منه بأن أله واحد لا يكفي أو غير قادر على خلق كل شيء، وأن أدارة هذه الظواهر تحتاج الى أكثر من اله يدير شؤونها، وهذه الفكرة أسقطها من نفسه على الألهه، لأنه يرى أن الأنسان الحاكم لشؤون المجمع غير قادر بمفرده لوحده بالقيام بكل هذه المهام الكثيرة والمعقده، أذن فلابد من وجود المعين، وهنا في هذه المرحلة ترى أنسان ذلك الزمن مايزال يعمل مقاربات بيه وبين الآلهه، وكما أن البلاد وأدارة المجتمع تحتاج الى بشر تنشأها وترعاها، كذلك هو الأمر نفسه مع الكون ومظاهره، يحتاج الى كائنات أخرى أكثر قدرة وذات أمكانيات متفوقة، وتمتلك ميزة الخلود، وهذه لا يمكن الا في كائنات أستثنائية سماها بالآلهة. أنه يشعر بالعجز أتجاه ما تراه عينه وأنطلاقاً من شعوره بقدراته المحدوده والقاصره، وأفتقاده للخلود مقابل قدرة كلية ومطلقة قادرة على هذا الفعل والخلق الكلي، و أن بساطة الأنسان وسذاجته البدائية لا تحتمل هذا التعقيد بالخلق بأن يصدر من قوة واحده، لذا آثر التعدد في الألوهية. هذا التصور هو من قاده الى تسمية اله انيليل للرياح والعواصف، وهناك من هو مسؤول عن المياه الجوفية والعذبه والذي أطلق عليه اله أنكي، وهناك اله مردوخ اله العواصف الرعديه والمسؤل عن خلق البشر، وهناك الكثير من الهه التي يمكن للقارئ الأطلاع عليها في كتب متخصصة في الحضارتين السومرية والبابلية.

مع مرور الزمن وتطور ملكات الأنسان الذهنية وتراكم تجاربه، أصبح أكثر نضجاً وأعمق تصور، وذلك بسبب أستيطانه في المدن، حيث أصبحت حياته أكثر أستقرار، وذلك بتأثير الزراعة وتربية الحيوان، وهذه تحتاج منه أن يمسك الأرض ويفكر بتقلبات الجو، وتتابع الفصول، وهذا جعله أكثر تعلق بمظاهر الطقس، واكثر مراقبه للسماء وظواهرها الطبيعية مما جعله اكثر أنشغالاً وأهتماماً في أمور الشمس والقمر والأمطار . أن مشاهداته لهذه الظواهر الكونية جعلته يفكر فيها ملياً، ورأى أن دقة نظامها وأنضباط مواعيدها أثارت في نفسه الكثير من التفكير وتأمل بأن وراء هذه المخلوقات الكونية وما تحمله من برمجة غاية في الدقة والنظام،أن هناك خالقاً ومحركاً وفاعل لها،وهي من ترسم لها مقاصدها وغاياتها، وهي من تديرها في حركتها المتسقة، أعتقد أنسان هذه الحضارة،أن هناك قوة خفية ماورائية تختفي أو تتكثف في هذه المظاهر، لذلك تصور أن الأله يتجلى فيها،فجعل  القمر اله وسماه ننار أو يسمى أحياناً سن وأله السماء وسماه آن، واله للماء وسماه أنكي، واله للشمس وسماه أوتو وغيرها الكثير من المظاهر الكونية التي أختزنت ألهه في داخلها، ولها أسماءها المعروفه، وتوسعوا في تعدد الآلهه حتى دخلت في أمور عملية يتناولها البشر في أعمال الزراعة، ونراهم كلما تعقدة الحياة وأتسعت، نراهم يستحدثون الهه لها، أيمانا منهم بأن أدارة الكون تحتاج الى ألهه عديدة، حتى أنهم لشدة تقسيمهم للآلهه جعلوا حتى للمحراث اله،وهو من جاء بهذه الآله وهو من علم الأنسان أستعمالها للحراثة وقد سموه بالاله ( نينورتا)، كما أن تفكيرهم وصل الى أن الحياة بكل ما فيها وأدارتها ترجع الى الهه، فهي من تدير كل شيء، حتى وصلوا الى قناعه أن الآلهه هي من ترسم التاريخ، وهي من تحدد المستقبل، والقدر، لذا أمنوا بمسألة الأرواح بشقيها الخيرة والشريرة، حتى راجت عندهم عملية التعامل من الأرواح وراجت عندهم صنعة العرافين في قراءة المستقبل، وهؤلاء لهم حضوة عند الحاكم وخاصة في وقت الحروب حيث قبل أن يبدأوا الحرب يستشيروهم عن نتيجة  هذه الحرب أن دخلوها مع خصمهم. أن كل ما ذكرناه عن دور الألهه جعل أنسان هاتين الحضارتين يحرص على التقرب وأرضاء هذه الألهه عن طريق تقديم النذور والأبتهالات وتقديم القاربين تقرباً لها لغرضين أساسين وهما تجنب غضبهما وكسب رضاها، وهذا ما جعل هناك مذبحاً في كل معبد من معابدهم، وله مكان مخصص فية أملا بأن تقابلهم هذه الألهة بالعطايات الكثيره من غزارة الأمطار وديمومة الخصوبة وزيادة الولادات في حيواناتهم، بالأضافة ظهرت في هاتين الحضارتين السومرية والبابلية مسألة التمائم التي تبعد الشر والأمراض وأبعاد الأرواح الشريرة عنهم . من الأمور اللافتة للنظر  أن الأنسان البابلي والسومري ظهرت عليه علامات تكشف عن نزوعه الى التجرد والتأمل الماورائي، وأصبح أوسع خيالاً وأكثر تجريداً، لذا نزع لأسلوب المجازات والأستعارات في تصوير القوى الماورائية، والتي تعزى له المسؤولية عن هذه الظواهر الكونية، فهو بات يفكر أن الشمس والقمر والنجوم والأرض ليس الهه بذاتها، وأنما أن الألهه تتجلى فيها وكامنة فيها وأنها تمثلات مادية لها، لأن الأنسان على الرغم من أقترابه لدائرة التجرد الا أنه مازال يحن للمحسوس ولا يستطيع الفكاك من أسره، ورغم ذلك يعتبر أنسان هذه المرحلة وقد أنتقل نقله نوعية في  تفكيره العقلي، حيث التأمل والحدس في التفكير الذي ينقله خارج حدود المادة .

أن الأنسان السومري كما أخيه البابلي لا زال لا يستوعب أن يكون هناك اله واحد خالق كل شيء لأن عقله لا زال لا يمكنه أن يستسلم بأن هذا التلون والأختلاف بالطبيعة ترجع الى مصدر واحد، لذلك تراه يجعل حتى  للقصب اله وسماه الاله (انورو) وأن للسمك اله فسماه (نانشي) وللماء وسماه انكي وحتى هناك اله للزراعه والخضرة وسماه (دامو) وحتى  هناك اله  لخزن البلح وتسمى اينانا واله للحبوب ويسمى ازينو، لكن مع هذا التعدد الا أن هناك ما يسمى بالبانثيون أو مجمع الآلهة، حيث هو مجلس يضم كل الآلهه،الغاية منه عقد الصلة بين الآلهه، وأن منازلهم درجات، كل وحسب أهميته ومهامه،  وأن منزلته تقررها أهمية الظاهرة الكونية التي يمثلها،  ولكن نرى أنه أعطى المرتبة الأولى في سلم الأولويه الى أله السماء والرياح والمياه وتليها آلهة الكينونات الأصغر كالقمر والشمس، وأخيراً تأتي الهة العالم السفلي . يتضح لنا من خلال متابعة العقل السومري والبابلي، أن هناك تطور وتغير في بنيته الفكرية والذي أنعكس بشكل مباشر على طريقته العقائدية، فهو أبتدأ بتعدد للآلهه، وبعد ذلك جعل بين هذه الآلهه علاقة يجمعهم بانثيون أو مجمع الهي تتبوءه مجموعة من الآلهه الرئيسية، وهناك من الآلهه من هي بمستوى ثانوي، كما تطورت صورة الاله في ذهنيته، فنراه يرى اله المطر (نينجيرسو) بصورة حيوان طائر الرعاد، وبعد حين جعلوه على صورة بشري بالرغم من أحتفاظه بجناحيه، وهذا ما نشاهده حتى بالحضارة الرافدينية الآشورية حيث يكون الثور المجنح وهو اله اشوري برأس بشر وجسم حيوان الثور، فالرأس يرمز للعقل وجسد الأحيوان يرمز للقوة، كما نرى أن الحضاره الرافدينية القديمة أعتبرت تصوير الأله بالأنسان، يكون أكثر عظمة وجلال، وأن الأله الذي يكون على شكل أنسان أكثر ألتصاق بهم وأقرب لهم لأنه يقربهم بالمظهر بل ولعلهم أعتبوا شكل الأنسان وقابليته هو الشكل الأمثل، ولم يقفوا عند ذلك بل تطور الأمر في نظرتهم الى الآلهه بأن جعلوا منها شكلا رمزيا، فقد جعلوا هناك رموز يعبروا عنها، وهذه حالة تطور ذهني لديهم بأعتبار أن الأله حالة لا يمكن معرفة كنهه بالضبط، وهو طور تجريدي في طريقة تفكيرهم والتي تدرجت من المحسوس الحيواني الى نصف بشري وحيواني، وقد يكون هذا التحول هو من باب أيجاد حل للتناقض الحاصل بين الفاني والخالد، كما ينبغي التنويه الى أن السومريون لم يكتفوا بمجمع الآلهه، بل هناك الأله( آن) اله السماء بأعتباره الحاكم الأعلى لمجمع اللآلهه وهذه خطوه بأتجاه التوحيد بالحقيقة، وأن كانوا بين فترة زمنية وأخرى ينتقلون الى أله اأخر كرئيس لمجمع الآلهه،كما أعتقدو بالأله (انيليل) كزعيم مجمع الآلهه، وبعد ذلك وخاصة بالألف الأول قبل الميلاد جعلوا من مردوخ هو من يكون على رأس هذا المجمع وهو رب الأرباب، وخالق وحاكم هذا الكون، وهكذا بين زمن وآخر نرى رئيسا لمجمع الآلهه يتبنى هذا المنصب .

من الملاحظ أن اللاهوتيون السومريون أعتقدوا بأن مجمع الألهه هو المدير الحقيقي للكون وهو مشغله والذي يمارس مهمة الأشراف عليه، وأن هذه الآلهه هي ذات قدرات عالية وذات مستويات بالغة القدرة والقوة، وهي محجوبه عن أنظارهم، وأنها  كائنات من نوع خاص لا يفقهون حقيقتها،  ولا يتوصلون لكنهها رغم تصويراتهم المجسمه لها وأن شبهوها بشكلهم البشري أحيانا.

أن ما أود التوصل اليه أن اللاهوت السومري والبابلي قد توصل الى أمر مفاده أن هناك منطقا وراء هذا العالم، وأنهم بدأوا من المعلوم التي هي الطبيعة الى المجهول الذي هو الآله، وهذا عين السؤال الذي سأله الدكتور محمد الطائي العراقي الجنسية وأستاذ الفيزياء بجامعة اليرموك الأردنيه عندما سأل عالم الفيزياء البريطاني (ستيفن هوكينغ) في مؤتمر جمعه معه في كندا، فقال له، هل ترى هناك منطقا وراء هذا العالم، فرد عليه لاشك بأن هناك منطقا وراء هذا الكون، وعلى هذا الأساس رجح انسان سومر وبابل وبدافع هذا المنطق نفسه،أن وراء هذا العالم الكوني عالم ماورائي،هو السبب في نشوء وأدارة هذا العالم، ولكن هناك أختلاف في تصور هذا العالم الخفي بينهم وبين غيرهم من بني البشر، ولكن يبقى من خلال ما لمسناه أن أنسان الحضارة الرافدينية القديمة قد توصل بمنطقه العفوي والبسيط الى أن هناك أله أعلى خالق وحاكم ومدبر لهذا العالم على رأس مجمع الآلهه الذي يندرج تحته آلهه ثانويون يعاونوه بالمهمه الكونية.

 

أياد الزهيري 

 

نايف عبوش: هوية التراث المعماري الموصلي.. ضرورة تاريخية وتراثية

التفاصيل
كتب بواسطة: نايف عبوش

نايف عبوشلا جدال في ان الحفاظ على الموروث المعماري للبيئة الموصلية، انما يعني الحفاظ على سمات هوية الشخصية الموصلية، في سيرورتها المتعاقبة عبر الزمن، حيث ان تراثها المعماري يحمل ملامح الهوية الحضارية لتلك الشخصية المتميزة، لاسيما وأن الموصل، قد صنعت لها تاريخاً حضارياً ضارباً في عمق الوطن، فكانت راس العراق على مر التاريخ.. وظلت بذلك، حاضرة ثرية بالموروث المعماري، الذي يتنوع بخصوصيته، بتنوع المكان، والمناخ، والناس.. وبذلك يظل الموروث المعماري لها نمط حياة،وهوية مدينة، وليس مجرد مجسمات هنسية محضة.

وهكذا ظلت الموصل بمعمارها التراثي المتميز، واسلوب حياتها الخاص، أصيلة الهوية، وعصية على عوامل المسخ والتشويه، رغم كل ما لحق بها من نكبات، وأضرار، عبر تاريخها الطويل.

ان المطلوب اذن، عند الشروع باعمار مدينة الموصل.. هو الشروع بتوثيق معالم المعمار التراثي الموصلي البارزة، من الحصون والقلاع، والقصور، والمساجد، والتكيات،والازقة، والحارات..  وعلى رأسها بالطبع، منارة الحدباء العتيدة، للحفاظ عليها من ضياع معالمها نتيجة الدمار الذي لحق بها، مع انه يصعب إعادة تشكيل تلك المعالم برمتها، كما كانت قبل الدمار الذي لحق بها، لاسباب مالية، وفنية،ناهيك عن ضرورة أخذ متطلبات التوسع، وتداعيات العصر بنظر الاعتبار .

ومع كل تلك المعوقات، فإنه لابد من محاولة الإبقاء على الشكل المعماري المنحني لمنارة الحدباء، بالاستفادة من معطيات الهندسة المعمارية المعاصرة، والتسهيلات الفنية المتاحة، لاسيما وان الموصل اخذت إسمها مدينة (الحدباء) من المنارة بهيئتها المحدبة، وما يعنيه أمر الحفاظ على معمارها المحدودب، من رمزية كبيرة، للمنارة كإرث تاريخي، في استلهام  المسميات والمعاني، حتى تغنى بها الشعراء الموصليون، ومنهم الشاعر الكبير، احمد علي السالم أبو كوثر ، حيث يقول في قصيدته العصماء ( سينية ألحدباء ) :

وفي عيوني ترى الحدباء شاخصة ... أم الرماح وعهدي ناسها ناسي

حورية الجيد في سيمائها حدب ................ كأنها ملك يرنو لجلاس

إذا وقفت على البوسيف تنظرها ........ ترى سناء لها يسمو بنبراس

نطرتها نظرة نجلاء فابتدرت..... شؤون عيني وهز الوجد إحساسي

وهمت واحتشد الماضي بذاكرتي..... وزاحمتني خيالاتي وأحداسي

وتبقى مسؤولية النهوض بمشروع إعادة إعمار الموصل، مسؤولية جمعية، اكبر بكثير من ان يتم حصرها بجهة معينة لوحدها، مما يتطلب ان ينهض بهذه المهمة الجليلة، كل من يعنيه امر التراث الموصلي وخصوصياته، من الكتاب، والمؤرخين والفنانين والباحثين، والمعماريين، والرواة،ورجال الأعمال، وغيرهم.. من أبناء الموصل.. 

ولا ريب ان في الموصل من الطاقات العلمية، والفنية، والمادية، الحريصة على الحفاظ على تاريخ الموصل وهويتها وتراثها، ما يمكنها من ان تنهض بهذه المهمة بجدارة عالية، وتترجمها الى واقع عملي ملموس، فتحفظ للموصل هويتها المعمارية التراثية، المتصلة حركيا بالتاريخ، من دون تحريف، كلما كان ذلك ممكنا.

 

نايف عبوش

 

 

الصفحة 1 من 172

  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • ...
  • 6
  • 7
  • 8
  • 9
  • 10

hewar2(207)،(208)،(209)،(210)

84 mahmod mohamad ali200

اقرا ايضا

  • محمود محمد علي: قراءة تحليلية - نقدية في كتاب ماجد الغرباوي "تحرير الوعي الديني" (3)
  • حاتم حميد محسن: وقفة مع أوهام التكنلوجيا وأحلامها
  • صالح الطائي: عقوبة الازدراء والتجديف في الديانات
  • علي رسول الربيعي: الشر والغرض الكوني لله (7)
  • محمد البندوري: الفنان التشكيلي فائق العبودي يغازلُ التجريدَ بتقنياتٍ جديدةٍ معاصرة
  • صادق السامرائي: رشيد الدين الصوري!!
  • نبيل عودة: قراءة في قصيدة جميل الدويهي: إن رجعتُ إلى لبنان
  • سليم الحسني: مكتب السيستاني.. من الخطأ الى الكارثة
  • محمد سعد عبد اللطيف: الحرب الفاترة.. من القاتل؟
  • حسن حاتم المذكور: بين الوطن والموازنة

القائمة البريدية



العدد: 5343 المصادف: الخميس 22 - 04 - 2021م


العودة لأعلى

تابعونا على:

الحقوق محفوظة صحيفة المثقف 2006 - 2021 ©

تابعونا على: