صحيفة المثقف
  • مدخل
  • الاولى
  • مقالات
    • أقلام حرة
    • آراء
    • أقلام ثقافية
    • قضايا
    • أقلام فكرية
    • شهادات ومذكرات
    • كتب واصدارات
    • علوم
    • دراسات وبحوث
    • ثقافة صحية
    • تنوير واصلاح
  • أدب
    • نصوص
    • ترجمات
    • هايكو
    • روافد
    • قراءات نقدية
  • حوارات
    • حوارات عامة
    • مدارات حوارية
    • نص وحوار
    • مرايا حوارية
    • حوار مفتوح
  • تقارير
    • تقارير وتحقيقات
    • أوركسترا
    • يوتيوب المثقف
    • اخبار ثقافية
  • استفهامات
    • مواربات
    • استطلاع
  • فنون
    • مقاربات فنية وحضارية
    • لوحات فنية
    • معارض تشكيلية
  • ملفات
    • المرأة في أسر العبودية
    • المرأة والسياسة
    • مستقبل الديمقراطية
    • المثقف والانتخابات
    • ملف: المثقف 10 سنوات عطاء زاخر
    • ملفات سابقة
  • تكريم
    • يحيى السماوي
    • وفاء عبد الرزاق
    • عبد الرضا علي
    • شوكت الربيعي
    • فرج ياسين
  • المؤسسة
    • رئيس التحرير
    • إصدارات المثقف
    • كتب ماجد الغرباوي
    • نشاطات المثقف
    • مناسبات المثقف
    • جوائز وشهادات
    • جائزة الابداع
    • ملتقى المثقف
    • ساهم معنا
  • كتّاب مشاركون
  • اتصل بنا

التجربة السياسية الشيعة في العراق

التفاصيل
كتب بواسطة: مهدي الصافي

مهدي الصافيثقافة الفرد او المجتمع تتحدد بعدة عوامل مشتركة بين الامم والشعوب او المجتمعات الصغيرة منها"الدين-الاثنيات-البيئة وطبيعة الارض (قرى وارياف او مدن قروية او مدن عصرية) -المهن والحرف والصناعة والاعمال التجارية-الموروث الشعبي او القبلي او العائلي-الادب والحكم والامثال والعادات والطبائع المكتسبة..الخ.

ولادة الطائفة او المجتمع الشيعي مر بمراحل ومنعطفات تأريخية مختلفة بعد وفاة الامام علي ع (661م-40هجرية)، واندلاع الصراع الاموي العلوي على قيادة المسلمين والتمسك بسلطة الوراثة، وهذه قضايا مثيرة للجدل وللنقاش الطائفي العقيم، الا ان البحث الاكاديمي المحايد، يمكن له ان يحدد بدايات انطلاق او نشوء الامبراطورية الاسلامية الاموية (عهد معاوية)، التي امتدت فيما بعد الى شمال افريقا والى الحدود الجنوبية الغربية الاوربية في الاندلس، مما تسببت بولادة معارضة قبلية وعقائدية داخلية، تم التعامل معها بقوة السيف تارة، وبالترغيب والترهيب والسجون تارة اخرى...

مراحل صناعة مجتمع المعارضة والخوف والقلق والعمل السري في هذه الامبراطورية (المعارضة الشيعية، والخوارج هي اهم الفرق التي وقفت بوجه الدولة الاسلامية الرسمية بعد وفاة النبي محمد ص، من عهد الخلفاء الاربعة الاوائل مرورا بالدولة الاموية والعباسية وصولا الى العهد العثماني)، ليست عملية هينة، انما تخللتها مراحل عديدة من المعاناة والالم والحرمان والانتفاضات بعد واقعة كربلاء (مقتل الامام الحسين ع واصحابه (10محرم61هجرية) ، وسقوط الاف الضحايا، وبداية رحلة النفي والهجرة والاختفاء، وصولا للعهد العباسي بعد انتهاء الامبراطورية الاموية (132هجرية)، حيث اصبحت الارضية خصبة لولادة المذاهب الاسلامية الاربع (والمذهب العقائدي السياسي الخامس المذهب الجعفري)، اذ كانت المذاهب الاربع (السنة والجماعة) مذاهب الدولة او الامبراطورية العباسية الشبه رسمية (لانها تقلبت مستوياتها واختلفت حظوتها من خليفة او والي وبين منطقة واخرى)، بينما تحول المذهب الخامس الى مذهب معارض رسمي للدولة (على اعتبار انه يمثل الجناح العلوي المنافس الشرعي في الثورة التي اسقطت الحكم الاموي)، وهذه الحالة او الولادة الجديدة ايضا مرت بمراحل صناعة اخرى اختلفت او تطورت كثيرا عن ما كانت عليه بدايات العهد الاموي، حيث يمكن مجازا ان يطلق على العهد العباسي بداية الحراك الفكري العقلي الاسلامي، الذي انتج فرق وطوائف ومدارس اسلامية متعددة ومتناقضة او متصادمة (بعد دخول بلاد فارس في السياسة والحكم..كما حصل بعد ذلك عهد السلاجقة )، هذه المقدمة المختصرة جدا ليست الهدف مما نبحث هنا، انما نود ان ننتقل منها الى تعريف الحالة السياسية-المذهبية الشيعية واسباب تعثرها وانهيارها في الحكم بعد 2003...

بعد نجاح الثورة الاسلامية الايرانية1979 (بقيادة المرجع قائد الثورة السيد الخميني رحمه الله)، واسقاط نظام شاه ايران محمد رضا بهلوي، حدث انفجار عاطفي كبير في الوطن العربي وبقية الدول الاسلامية، اعطى قوة دافعة هائلة للاسلام السياسي في المنطقة، ولهذا تم التخطيط لاسقاط هذا الاندفاع الاسلامي الثوري، بمؤامرة الحرب العراقية الايرانية عام1980، وقد تكرر هذا الامر بعد ذلك بعقود، في مؤامرة (وكأنها صورة طبق الاصل) اسقاط ثورات الربيع العربي بعد 2003، عبر اغراق المنطقة بالحركات الارهابية والوهابية المتعددة الجنسيات، وكأن الامبريالية الرأسمالية العالمية المتحالفة مع دول البترودولار الخليجي، لاتريد لشعوب ودول الشرق الادنى الاوسط النهوض، او ان تنعم بديمقراطية حضارية حقيقية، غير تلك المسرحيات الاصلاحية الهزيلة، بفتح مجالات وفضاءات محدودة للحريات المدنية (كشعار المساواة بين الرجل والمرأة، او التغني بالسماح للمرأة بقيادة السيارة في المملكة العربية السعودية او فتح دور السينما واقامة الحفلات الراقصة الخ.) ...

 شيعة العراق جزء من المشهد السياسي-الطائفي المعلن في منطقة الخليج العربي-الفارسي، تنامت عندها قوة الحركة الاسلامية الشيعية في بلاد الرافدين، بعد ان كانت متذبذبة او متأرجحة نسبيا بين رفض الحوزة العلمية التقليدية لاقحام التشيع بلعبة السياسة والحكم، وبين قوة تأثير الحركات المتنافسة الاخرى في المجتمع (اليمين القومية العربية، واليسار الشيوعي)، لكن تغيرت الامور جذريا بعد الثورة واندلاع الحرب مع ايران، فقد اعتبر الخطر او المد الشيعي الايراني (بعد ان تم رفع شعار تصدير الثورة الايرانية للدول المجاورة) في المنطقة مثير للازمات الداخلية لبقية الدول (التي تتواجد فيه طائفة شيعية مهمة، كالبحرين، والسعودية، والكويت، فضلا عن العراق الخ.)، حتى بات نظام الدكتاتور الاحمق صدام، يعتبر ان المعارضة السياسية العربية العراقية الشيعية عميلة لايران، وتستحق الاعدام بتهمة الخيانة، وهذه قمة التوحش والاقصاء والتهميش لتاريخ عربي شيعي وطني عريق في العراق،  (وقد اصدر قرار اعدام بأثر رجعي لكل من ينتمي لحزب الدعوة الاسلامية)، واستمرت معاناة المكون الشيعي العربي حتى بعد ان تم ازاحة اكثر الانظمة شرورا في المنطقة (نظام صدام البائد) بعد2003، فقد تحولت المؤامرة الى المرحلة الثالثة، وهي احياء الفتنة النائمة، اي صراع الدول الاسلامية السنية مع دول الهلال الشيعي المفترض (التي تمتد من ايران الى العراق واليمن مرورا بسوريا الى لبنان)، دون ان تكون هناك اية هدنة منطقية او عقلية لاعطاء فرصة للحوار المتبادل بين جميع دول المنطقة، لعلها تحمل في طياتها حلولا جذرية لمشاكل هذه الدول، ذات التأريخ والجغرافية والحضارة والثقافة وحتى البيئة المشتركة...

ايران الاسلامية الشيعية-طالبان الافغانية الوهابية -الاخوان والسلفية في مصر-الوهابية في السعودية والخليج-الحكم الاسلامي الشيعي في العراق تجارب الاسلام السياسي في الحكم اثبتت فشلها، فهي من حيث المبدأ تتعارض مع المبادئ الديمقراطية العامة، ولايمكنها التعايش معها، لكن من الممكن جدا ان تعطي نموذجا سيئا ومشوها عن علاقة الدين بالسياسة، في حال تم المزج بين الدين والديمقراطية، فمنذ عقود تحدثنا عن ان المسلمين ليس بحاجة الى احزاب اسلامية (لانهم بالاصل مسلمين)، هم بحاجة الى احزاب تنموية متحضرة، تؤمن بالديمقراطية، وحرية الرأي والعقيدة، والعدالة الاجتماعية وحقوق المرأة، وبناء دولة الامة المتعددة الثقافات والاعراق والطوائف الخ....

بدأت تجربة التشيع العربي في العراق بالانخراط في العمل السياسي الواسع بعد ولادة الحركة الاسلامية (حزب الدعوة اواسط القرن الماضي)، لكنه اتخذ من فكر اخوان المسلمين النظرة الشمولية في العمل الدعوي، العابر لجغرافية الحدود الوطنية، مما جعل الناس تبتعد عنها لعدم موضوعيتها في الطرح والغايات او الاهداف، وتتجه لبقية الانتماءات والتوجهات السياسية او الفكرية الواقعية، فالحركات الاسلامية عموما لايمكنها مغادرة التراث السياسي الاسلامي، وبعودتها الى الماضي ترجع الى مربع احياء الفتن الطائفية، واثارة الخلافات المذهبية، وتطبيق الحدود او الشريعة الاسلامية، ففي السنة كما في التشيع هناك اختلاف في القراءات كما يقال او في فهم الشروحات للنصوص والتأويل القراني اوشرعية تقديم السنة النبوية على القران الكريم في بعض المواضع او الفتاوى، وهذا علم واسع يجب ان يخرج من المدارس والحوزات والمعاهد الدينية القديمة المغلقة على التراث، الى فضاء العلم التحليلي الحديث، في مراكز الدراسات والبحوث والعلوم الاكاديمية العصرية، واتباع اسلوب المقارنة المنطقية للاديان والاساطير والاثار المكتشفة، التي اصبح بأمكانها ان تضع دراسات الاديان الى جانب العلوم الاجتماعية والانسانية، ودراسات علم الاثار والالسنيات والاساطير والادب القديم الخ.

بعد عام1991 وفشل انتفاضة 15 شعبان في الجنوب والشمال، ظهرت مدرسة شيعية شعبية صدرية اخرى (محمد صادق الصدر رحمه الله)، اختلفت كثيرا عن تجربة الشهيد الاول محمد باقر الصدر (رحمه الله)، الشهد الاول كان ينظر الى تجربة العمل والتنظيم السياسي وسيلة عصرية للمشاركة او الوصول الى سدة الحكم، الا انها بقيت حركة او محاولة نخبوية اسلامية، لم تدعمها الجماهير لجعلها بمستوى تأثير الحركات القومية او اليسارية العاملة حينها، بل كان من المشهور في المحافظات الشيعية اطلاق تسمية "موسكو الصغرى" على بعض المناطق، بعد ان استقطب الحزب الشيوعي الطبقات المسحوقة في المجتمع (مجتمع الفلاحين والعمال فضلا عن الموظفين والمثقفين والفنانين والادباء وابناء شيوخ العشائر ورجال الدين)، وكما يقال ان الفقراء وقود الثورات، لم تكن هناك اية قاعدة شعبية مؤثرة لحزب الدعوة في الشارع، عدا الخطوط والانتماءات المعروفة في المجتمع، بينما عمل الشهيد الثاني (صادق الصدر) العكس بنزوله المباشر الى الشارع (في احياء صلاة الجمعة)، جدير بالذكر ان الحوزة الشيعية التقليدية (في النجف وقم) عارضت الاسلوب السياسي الثوري للشهيدين الصدرين  (وهذا امر وبحث طويل، منه مايتصل بنزاع الحواشي والدوائر القريبة المغلقة والوكلاء على منصب المرجع الاعلى، وامور وقضايا تتعلق بنظرية الحكم الاسلامي في غياب الامام المعصوم الخ.)، المشكلة التي ظهرت بعد 2003 في الحكم الشيعي للعراق، ان النيات لم تكن سليمة او اسلامية خالصة، تنازلت الاحزاب والتيارات والقيادات او مايطلق عليها بالزعامات الشيعية عن حقها الدستوري في قيادة الدولة والشعب، فقد قامت بالمشاركة الرئيسية في عملية تفكيك نظام الدولة والحكم وفق المقاسات والترتيبات الامريكية التي قادها بريمر بخبث (مؤامرة تفكيك الدولة والمجتمع عبر تشكيل مجلس الحكم، ومن ثم الجمعية الوطنيةوفقا للطوائف والمكونات والاثنيات)، ونفذها الجميع بخبث وغباء ايضا، الموافقة على المحاصصة والتوافق في النظام السياسي سمح للانظمة الخليجية او الحركات الارهابية الوهابية، من ان تنفذ الى المناطق الغربية (ذات الاغلبية العربية السنية)، لتقيم لها حواضن ارهابية، او تفتح لها منافذ الاستقطاب الطائفي، وذلك لانها تشعر بحماية تلك البؤر المتوترة لمشاريعها التخريبية  (ولهذا تجدهم في ثورة مطلبية دائمة لخروج الجيش منها، ورحيل قوات الحشد الشعبي عنها)، وكذلك لقربها من العاصمة بغداد (ومن حواضن الارهاب في حزام بغداد)، التي تبقي صورة كراسي الحكم الطائفية ماثلة امامهم (اما عودة العرب السنة لحكم العراق او الاقاليم الفيدرالية او التقسيم والانفصال)، هذا الازمات صنعت مليشيات وفصائل شيعية مسلحة لمواجهة المد الارهابي الداعشي، ولتحرير الارض المغتصبة في المناطق الغربية، بعد ان عجزت المؤسسة العسكرية والامنية عن مواجهة فلول الارهاب الاعمى (عدة اسباب ادت لضعف اداء تلك المؤسسات الدستورية اهمها الفساد المالي والاداري، والمحاصصة في توزيع القادة والضباط والمراتب، والتدخلات السياسية، والفساد والرشوة داخل بعض اقسامها واجنحتها)، التيار الصدري كان له الدور المؤثر في ايقاف المد الداعشي في العاصمة بغداد، ومن ثم في محيط مدينة سامراء (هناك اخطاء وجرائم فردية حصلت اثناء الاقتتال الطائفي بعد تفجير المرقدين العلويين في سامراء عام 2006)، ولكن الاشكال تطور وانتقل الى العمل السياسي، تيارات سياسية لها اجنحة وسرايا وفصائل مسلحة منخرطة بالعملية السياسية ونظام الحكم المركزي والمحلي (كتجربة حزب الله لبنان، وحتى تجربة الحرس الثوري الايراني، الذي يتدخل ايضا بقوة في السياسة والحكم)، تيار او حزب سياسي له جناح او فصيل عسكري في اي دولة من دول العالم، يشارك في الانتخابات العامة، لايمكن الوثوق بنتائجها، او القول بأنها مشروعة او عادلة او نزيهة، حيث يمكن ان يكون التنافس بينها وبين بقية الاحزاب والتيارات السياسية المدنية شريفا او بعيدا عن التجاوزات، فهذه التيارات المسلحة لايمكن ان تتقبل الهزيمة او الخسارة الكبيرة او الابتعاد عن القرار السياسي في الدولة، مع انها حتى لوكانت تمتلك القاعدة او الاصوات الحقيقية للجماهير التابعة لها، فهي لاتعني شيئا امام الدستور والاسس والمبادئ الديمقراطية، لان المسألة لاتتعلق بنسبة الاصوات التي يمتلكها هذا الحزب او ذاك التيار، او بجماهيرية هذه الفئة او تلك، انما بالسلاح وفوهات البنادق المسلطة على الشعب، وعلى صناديق الاقتراع غير الامنة، علما ان الجماعات المسلحة في اي دولة مضطربة (التي يكثر فيها السلاح المنفلت، وعمليات التصفية الجسدية، وكواتم الاغتيال المقيدة اغلبها ان لم يكن جميعها ضد مجهول، وعصابات الجريمة المنظمة، الخ.) لاتعنيها تلك الاجراءات السياسية او المدنية الدستورية، لانها تؤمن بنظرية قوة سياسة الامر الواقع، الذي تفرضه سلطة فوهات البنادق على الارض...

القوة الشيعية المؤثرة في الشارع العراقي بعد 2003 هي التيار الصدري، والاجنحة المنفصلة عنها من التيارات والحركات الشيعية المسلحة (الافرع الصغيرة المنشقة عن التيار الصدري، التي تعاظمت قدراتها بعد فتوى الجهاد الكفائي، والدعم الايراني المفتوح لها)، او تلك التي استغلت فتوى الجهاد الكفائي، لادخال قياداتها وفصائلها المسلحة في تشكيلات او هيئة الحشد الشعبي، لمكاسب ومصالح سياسية بائسة، وما حصل مؤخرا من اعادة صياغة التعريف الواضح للفتوى، بأن من يمثلها من الفصائل المسلحة هي المنضوية تحت مايسمى حشد المرجعية، الرافضة لاستغلال اسم الحشد الشعبي في التنافس السياسي الانتخابي، او في مايسمى بتقسيم كعكة المحاصصة، على مائدة توزيع الوزارات والمناصب الوظيفية العليا بين الاحزاب والكتل البرلمانية (وكأنها علوة الخضرة او قاعة للمزاد العلني، ساحة للنهب والفرهود)، هذه التصرفات والاساليب الملتوية اربكت الشارع الشيعي، واحرجت المرجعية الشيعية السيستانية الهادئة تحديدا، واقحمتها في متاهات الصراع السياسي المحلي والعربي او الاقليمي في العراق، هذا لايعني ان المكونات الشريكة في العملية السياسية نزيهة او بعيدة عن الفساد واسباب انتشار الارهاب، الا اننا نتحدث عن تجربة انتظرها شيعة العراق قرون طويلة...

ثورة تشرين في بغداد والمحافظات الشيعية2019، وسقوط المئات من الشهداء والاف الجرحى، وماجرى بعدها من اعتقالات عشوائية، وعمليات تعذيب ممنهجة للناشطين وبعض المتظاهرين، وزيادة نسبة عمليات الاغتيال العلنية، وتقاعس المؤسسة العسكرية والامنية والحكومة عن كشف مايسمى بالطرف الثالث (المتهم بقتل المتظاهرين)، ودخول التيار الصدري (القبعات الزرق) لساحات التظاهر، وتهديداته العلنية لبعض المتظاهرين، فتحت ابواب النقد والمراجعة والمواجهة امام الجميع، وظهرت عدة اسئلة نخبوية وشعبية على السطح، حول ضرورة ابعاد الدين او الطائفية والاثنية عن السياسة والنظام الديمقراطي، ثم فتحت جوانب واسئلة فرعية داخل كل مذهب او طائفة عن علاقة النظام الديمقراطي بالدولة والامة، فبعد الهزيمة التاريخية للمذاهب السنية الاربع (وجماعة الاخوان) امام تصاعد المد السلفي والوهابي والداعشي الارهابي، وانتقال ظاهرة الدعشنة او التدعيش الى التشيع السياسي (في ايران، والحركات الشيعية المتطرفة في العراق)، اصبحت الخيارات محدودة امام الشعوب العربية والاسلامية، وباتت لاتملك غير خيار انظمة الحكم الديمقراطية العلمانية، والتفكير الجدي بصناعة او انتاج ثقافة سياسية عربية تنموية اصلاحية، تنظر الى تجارب الامم والدول المتحضرة في العالم، على انها النموذج العلمي العملي الواقعي لنجاح الشعوب في بناء الدول المتطورة...

كانت تجربة الشيعة في الحكم بعد 2003في العراق سيئة، بل كارثة كبرى، اذ انها جلبت او جرت المذهب الجعفري والشيعة الى المشاركة والمنافسة في السياسة وادارة الدولة، فظهرت كل العيوب والمساوئ والانحرافات او الاشكالات العقائدية او المذهبية عبر الفساد والفشل والاخفاق والنهب المنظم لثروات الشعب وظلم فقراء الشعب وسحقهم (كما فشلت حركة اخوان المسلمين والوهابية في الخليج)، ولازلنا نؤكد على ان اسلوب السيد محمد صادق الصدر (رحمه الله) في فتح حوزته، ومسجد الكوفة لعوام الناس، او ما يطلق عليهم اليوم اتباع التيار الصدري، كانت تجربة مريرة، لاتختلف كثيرا عن تجربة الامام علي ع او الامام الحسن والحسين ع مع شيعة الكوفة، مع انها انتجت الصفوة او الثلة المخلصة، ولكنها انتجت ايضا القاعدة الجماهيرية المتناقضة والمتباينة في تدينها او ايمانها، فالجاه والسلطة صنعت الظاهرة القارونية في البلاد، مع انها اكثر توحشا وتجاوزا ونهبا من قارون نفسه، كان الناس من مختلف الاديان والطوائف تلوذ بالمراجع ورجال الدين الشيعة، اليوم بات يردد الشيعة والشعب "بأسم الدين باكونه اي سرقونا الحرامية"، يكرهون سيرة او ذكر اسم رجل الدين او اي زعيم او تيار سياسي اسلامي شيعي او سني، في مرحلة تاريخية مصيرية، وضعت الدين والمذاهب والحركات الاسلامية على طريق المواجهة الشاملة مع الحضارة الالكترونية -الفضائية...

الخلل ليس في الدين او في فطرة الناس، انما بالتفكيروالعقول التراثية المتصارعة مع ذاتها، التي لاتقوى على المراجعة بنية التغيير والاصلاح، ولايمكنها تقبل نتائج المواجهة مع التطور العلمي والتكنولوجي او التقدم السياسي الحضاري العلماني، لان ادواتها المعرفية معطلة بالكامل، هي مشلولة امام العلم، لان حقيقة الايمان بوجود الخالق عزوجل، والاديان لايمكن لها ان تقدم الفهم التاريخي الاسطوري لهما كحجة او دليل امام الحقائق العلمية وحتى الموضوعية، بينما بالعقل والعلم والمعرفة يفهم الناس ربهم ودينهم بصورة مختلفة عما يقدمه من يحسب انفسهم وكلاء الله عزوجل على خلقه...

كان الناس يعتقدون ان رجل الدين او الاسلامي الحركي صاحب كتاب الحلال والحرام والخطوط الحمر، لايمكنه ان يسرق دينارا او سنتا واحدا، او حتى يكذب او يكون منافقا وانتهازيا، لان زحمة ضخ الصور الدينية والاحاديث الصحيحة والملفقة عن نزاهة الصحابة او السلف الصالح، والاتباع والخلفاء والولاة، جعلت من تلك الاكاذيب حقائق راسخة بالوجدان الشعبي للمسلمين، لكنها سقطت مع اول تجربة جلبت الويل والفساد والارهاب والفوضى للمجتمعات، الفساد الذي لم يستثني مجالا معينا، بما فيها مجالات قوت الناس وادويتهم واحتياجاتهم الاساسية (كما حصل من نهب للبطاقة التموينية واموال مخيمات النزوح، والادوية ومشاريع بناء المستشفيات والمدارس وتعبيد الطرق، وبقية الخدمات الضرورية لحياة وبيئة امنة خالية من الاوبئة والامراض) ..

بعد ان مرت الشعوب العربية المسلمة (السنية والشيعية) بتجارب الحكم الديني الطائفي الفاشلة، التي لم تخلف غير الفساد والمعاناة والجهل والتخلف والارهاب، صار لزاما ان تفكر هذه الشعوب بصناعة دولة الامة الموحدة خلف الفكر والثقافة السياسية التنموية، التي بدورها ستكون قادرة على ان تنتشل ابناء تلك المجتمعات المحطمة بسبب البطالة والفراغ، وانتشار الجريمة والمخدرات، او حالات الاحباط واليأس، الى واقع التنافس والسباق الدولي نحو بناء دولة التطور والازدهار والتكنولوجيا، لاسبيل للنجاة او الخروج من هذه الماساة، الا بالوحدة الاجتماعية والالتفاف حول النخب المثقفة والمفكرة، تلك التي لايمكنها ان تنظر الى الحياة على انها وسيلة لاغتنام الفرص، انما الى حياة العمل والصناعة والانتاج والتقدم العلمي، الذي سيجلب السعادة والامل والرفاهية والامن والاستقرار كما حصل في اوربا الحديثة، بعد معاناتها الطويلة مع حكومات القرون الوسطى، فالتطور الاخلاقي والعلمي والابداع الانساني جاء بارادة الله عزوجل، وليس عبر بوابة الكنيسة او المسجد او الحسينية او فتاوى الفقهاء او المذاهب والفرق، الاسلام اوسع من ان يختزل بحوزة او معهد ديني او رجل دين او حركة اسلامية، هو يمثل اهم قاعدة الهية متينة لبناء المجتمعات الانسانية على اسس ومنطق علمي عقلاني رصين، لايمكنه ان يتجرد عن اسرار واكتشافات هذا الكون الواسع..

الدولة او الامم التي لايقودها الاذكياء ستفشل

 

مهدي الصافي

 

 

د. عبد الجبار الرفاعي يفوز بجائزة البطريركية الكلدانية في العراق

التفاصيل
كتب بواسطة: صحيفة المثقف

عبد الجبار الرفاعيفاز المفكرُ العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي بالجائزة الأولى التي تمنحها البطريركية الكلدانية في العراق لأفضل الأعمال الفكرية المنجزة في سنة2020 . وقدّم الكاردينال لويس روفائيل ساكو الجائزةَ للدكتور عبد الجبار الرفاعي في مقرِّ البطريركية ببغداد، ومنعت ظروفُ جائحة كورونا من إقامة حفلٍ بهذه المناسبة.

مُنح الرفاعي هذه الجائزة لإسهامه الفكري الجادّ في ترسيخ القيم الأخلاقية والإنسانية السامية في الدين، وإشاعة ثقافة الحقّ في الاختلاف والتنوع والتعددية، ودوره الرائد في بناء لاهوتٍ إنساني وعلمِ كلامٍ جديد ينشد إيقاظَ القيم الروحية والأخلاقية والجمالية في الدين.

وكان عبد الجبار الرفاعي قد فاز بعدّة جوائز، منها:

1- الجائزة الأولى للإنجاز الثقافي في الدوحة على منجزه الفكري الرائد وآثاره في تأصيل المعرفة وثقافة الحوار وترسيخ القيم السامية للتنوع والتعددية والعيش المشترك، الدوحة - قطر 14 ديسمبر 2017.

2- الدرع الذهبي للحركة الثقافية بأنطلياس في لبنان، لدوره في إغناء المنجز الثقافي في العالم العربي، 1 مارس 2013.

3- اعترافًا بالمهمة التي نهضت بها مجلةُ قضايا إسلامية معاصرة في بناء علم الكلام الجديد وفلسفة الدين باللغة العربية، وبوصفها الدوريةَ الأهمّ المتخصصة في الأديان بالعربية خصّص "المعهد البابوي في روما التابع للفاتيكان" كتابَه السنوي عام 2012 لهذه المجلة. وقضايا إسلامية معاصرة مجلة فكرية فصلية تهتم ببناء فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، أسّسها ويحرّرها عبد الجبار الرفاعي منذ ربع قرن تقريبًا، ومازالت تصدر حتى اليوم.

4- الجائزة الأولى على أطروحته للدكتوراه، في مباراة تنافست فيها أكثر من 200 رسالة وأطروحة جامعية، نظّمها مكتب الشهيد الصدر سنة 2009.

5- الجائزة الأولى لكتاب الوحدة الإسلامية في طهران على جهوده في الكتابة والنشر والدعوة للوحدة والعيش معًا في فضاء التنوع والاختلاف، سنة 2005.

6- الجائزة الأولى للمؤرخ العلامة حسن الأمين في بيروت على منجزه المعرفي والثقافي، 2003.

2176 ساكو والرفاعي

يذكر أن عبد الجبار الرفاعي من مواليد الرفاعي في محافظة ذي قار في العراق، سنة 1954، وبعد أن تخرج في المعهد الزراعي ببغداد سنة 1975، انخرط في دراسة علوم الدين في الحوزة العلمية في النجف الاشرف سنة 1978، وحضر دراسة المقدّمات وبعض السطوح فيها، ثم أكمل ما بقي من دراسة السطوح والبحث الخارج في الحوزة العلمية في قم . وتتلمذ في المنطق والنحو والصرف والبلاغة والفقه وأصول الفقه من المقدّمات والسطوح على الشيخ حسين جودة و الشيخ عبد الأمير الساعدي، والشيخ أحمد البهادلي والشيخ هادي آل راضي والشيخ باقر الإيرواني والسيد أحمد المددي. ودرس جزءا من كتاب "تجريد الاعتقاد في علم الكلام" على يد السيد محمد محمد صادق الصدر، وقسما من منظومة السبزواري على السيد مسلم الحلي، والعقائد على الشيخ أحمد البهادلي، في حوزة النجف. كما درس في حوزة قم: بداية الحكمة على الشيخ باقر الإيرواني، ونهاية الحكمة على الشيخ غلام رضا الفياضي، والأسفار الاربعة على الشيخ عبدالله الجوادي الآملي، وتمهيد القواعد لابن تركه، وفصوص الحكم لابن عربي على السيد كمال الحيدري. كذلك حضر دروسَ البحث الخارج في الفقه وأصول الفقه لمدة ثمان سنوات، في حوزة قم، حتى تأهل علميا للاستناد الى نظره الخاص في الاستنباط الفقهي. وحضر دروسَ البحث الخارج عند:  السيد محمود الهاشمي الشاهرودي، والشيخ محمد حسين الوحيد الخراساني، والسيد أحمد المددي، والشيخ باقر الايرواني، والشيخ محمد هادي آل راضي.

وحصل عبد الجبار الرفاعي على الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية، بتقدير امتياز، 2005. والماجستير في علم کلام، بتقدير امتياز، 1990، وبكالوريوس المعارف الإسلامية، بتقدير امتياز، 1988. ولقب الأستاذية سنة 2012، وأشرف على وناقش أكثر من 60 اطروحة دكتوراه ورسالة ماجستير في الفلسفة وعلم الكلام والدراسات الإسلامية. وبلغت آثارُ عبد الجبار الرفاعي المطبوعة حتى اليوم خمسين عنوانًا.

 

 

الفنان ليوناردوا دافنشي.. عالماً طبيعياً!

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمود محمد علي

محمود محمد عليكان العلم الأوروبي عند مطلع العصر الحديث، كما يري أستاذنا الدكتور فؤاد زكريا، علماً ميكانيكياً فى المحل الأول. فالميكانيكا نفسها كانت أهم العلوم وأدقها وبفضلها تحققت مجموعة كبيرة من كشوف القرنين السادس والسابع عشر. والأهم من ذلك أن نموذج المعرفة ذاته كان هو النموذج الآلي ؛ أعنى أنك تستطيع أن تفهم الظواهر على أفضل نحو إذا ما استطعت أن تنظمها فى نسيج تكون فيه كل منها مؤدية إلى الأخرى بطريقة آلية خالصة . بل إن الكون كله كان آلة ضخمة تسير فى عملها بانتظام الساعة الدقيقة . وعلاقة الله بالعالم أشبه بعلاقة الصانع بصنعته؛ بمعنى أن العالم قد صنع متقنناً منذ البداية، ويظل يسير بعد ذلك بنفس الدقة والانتظام اللذين صنعا بهما.

ولقد كان دافنشى خير من يمثل هذا الاتجاه فى عصر النهضة؛ حيث رأى فى الميكانيكا أساساً للعلوم الطبيعية التى تقوم على مفاهيمنا للمادة ولحركتها فسجل العبارة التالية: " الميكانيكا فردوس العلوم الرياضية، إذ أن فيها نصل إلى ثمار الرياضيات "

Mechanics is the paradise the mathematical science because by means of it comes to the fruits of mathematics.

وبلغ تقديره لأهمية العلوم الميكانيكية أقصاه؛ حيث يقول: " يطلق توصيف الميكانيكي على تلك المعرفة، التى تولد من التجربة، بينما المعارف التى تتولد من العلوم، وتنتهى فى العمليات اليدوية، فإنها تسمى عندئذ بالعلوم نصف أو العلوم شبه الميكانيكا " .

إن تقدير دافنشى لعلوم الميكانيكا كان له أثره فى أن يصبح واحداً من كبار المهندسين والمصممين للآلات فى عصره ؛ حيث كان مهتما بشكل خاص بمشاكل الاحتكاك والمقاومة وتوصيف عناصر مثل أسنان اللولب والتروس والرافعات الهيدروليكية وأجهزة التدوير وتروس الثقل، وما شابه ذلك بصورة فردية أو فى مجموعات متنوعة، وبمرور الزمن اختلط اهتمامه بالميكانيكا التطبيقية . كما أدرك دافنشى أن القوى الميكانيكية العاملة فى القوانين الأساسية للميكانيكا تعمل فى كل مكان سواء العالم العضوي أو غير العضوي . وهكذا فإن القوة أصبحت فى النهاية المفهوم الأساسي بالنسبة لدافنشى وكخاصية روحية فإنـها كانت تشكل وتحكم الكون .

وأينما فحص دافنشى ظواهر الطبيعة، كان يعترف بوجود قوى أولية تحكم شكل ووظيفة الكون . ففى دراساته عن طيران الطيور التى اتخذت فيها فكرته الشبابية عن إمكانية أو جدوى أداة الطيران شكلا قد أدت به إلى بحوث شاملة فى عنصر الهواء.

وفى دراساته للماء التى اهتم فيها بالخواص الطبيعية يقدر اهتمامه بقوانين الحركة والتيارات . وفى بحوثه عن قوانين نمو النباتات والأشجار. وكذلك التكوين أو التركيب الجيولوجي للأرض وتشكيل التلال .

وأخيراً فى ملاحظته لتيارات الهواء التى تستحضر لهب شمعة أو صورة خيط رفيع من سحاب ودخان . وفى رسوماته – خاصة فى دراساته عن الدوامات بناء التجارب العديدة التى قام بها، وضع دافنشى مرة أخرى شكلاً للتمثيل ينطبق على أسلوب معين كان من تصميمه هو نفسه، وكان هذا يتضمن تقسيم الظاهرة إلى أجزائها المكونة لها – خطوط الماء والتيارات الدائرية للدوامات . ولكنه فى الوقت نفسه يحتفظ بالصورة الكاملة والرؤية التحليلية والتجميعية . وهكذا فإنه بالنسبة لكل المجالات الفردية المنفصلة لمعرفة علم الطبيعة، قدم دافنشى صورة موحدة للعالم: نظرية لنشأة الضرورة وقانون الانسجام اللذين خلقهما الله" .

وانطلاقاً من هذا يرى بعض الباحثين أن دافنشى: " كان عبقرية تكنولوجية لا مثيل لها، ففي أعماله تتحول التقنية إلى تكنولوجيا، تحولا تعبر عنه أقواله حول الأهمية المطلقة للتجربة، التي يدعى هو أنه تلميذها بالنسبة إلى التأمل الفلسفى وإلى المعرفة الكتبية، والتي ليست على الأقل إلا قاعدة لبناء النظرية التى تحل محلها وتخالفها، تحول نادى به تصريحه الشهير القائل بأن الميكانيكا هى فردوس الرياضيات، حيث تعطى الرياضيات كل ثمارها، الميكانيكا تتحول من  فن تجريبى إلى علم تطبيقى، والتالي إلى علم مغلق أمام كل أولئك الذين ليسوا مهندسين، تحول حققته مشاريعه الآلية التى سبقت زمنه، والتى لا تقدم لنا صوراً كما تقدم المجموعات التقنية من القرن الخامس عشر والسادس عشر، بل مشاريعاً محسوبة ومنجزة بالمقاييس مثل الرسوم الجيومترية .

وتبين مذكرات دافنشى ذلك؛ حيث تحوى دراسات وبحوث تجريبية قيمة في مجال الهندسة الميكانيكية، ومن بين هذه الدراسات والأبحاث أنه وصف وبين بالرسم كثير من الاقتراحات للمخترعات الحربية التى تشمل الدبابات والمدافع والبنادق .

ومما يدل على ذلك تلك الرسالة التى أرسلها إلى الأمير" لود فيكو سفورزا " والتى بين مواهبه فى مجال الهندسة الحربية، حيث يقول فيها:  " سيدي الأجل الأفخم، لقد اطلعت الآن إطلاعاً كافياً على جميع البراهين التى يتقدم كل أولئك الذين يحسبون أنفسهم أساتذة فى أدوات الحرب، فتبين لي أن اختراع هذه الآلات السالفة الذكر، واستخدامها لا يختلفان فى شئ عن الآلات والطرق التى تستخدم الآن، وقد جرأني هذا على أن أتصل بعظمتكم دون أن أبغى فقط الإساءة إلى أحد غيري، لكي أكشف لكم عما عندي من الأسرار، ثم أعرض عليكم بعدئذ، إذا سركم هذا أن أشرح لكم شرحا وافيا فى الوقت الذى يوائمكم جميع الأمور التى أوجزها فى هذه الرسالة، وهى على النحو التالي:-

1- إنى أستطيع بناء جسور نقالة عظيمة الفائدة فى مطاردة العدو أثناء الحرب أو الفرار منه بنجاح. وهى جسور خفيفة وقوية فى آن واحد، كما يسهل فكها وتركيبها بسرعة فائقة.

2- فى حالات الحصار المضروب على قلعة للأعداء يمكنني بوسائلي الخاصة، تفريغ المياه التى تملأ الحفر والخنادق من حولها. وعندي لهذا الغرض آلات حديدية وسلالم تنفع فى تسلق الجدران العالية.

3- إذا كان هناك نهر يمنع الاشتباك بين جيشين، فأنا أستطيع تغيير مجرى النهر وتحويله ضد العدو . كما أحسن حفر الخنادق والأنفاق تحت الأرض بحيث يتمكن المهاجمون من بلوغ القلعة المحاصرة فى سرية تامة ومباغتة العدو من الداخل .

4- أستطيع بناء مركبات مصفحة بالحديد ومجهزة بالمدافع وقاذفات النيران . كما أن بمقدوري صناعة قنابل يدوية محرقة تلتهم جنود العدو عند الهجوم .

5- فى أيام السلم أستطيع أن أحوز رضاكم التام فيما يختص بتشييد العمارات والأبنية والجسور فوق الأنهار وإقامة السدود ومد الأقنية الصالحة للري. وبوسعكم أن تتأكدوا من ذلك .

وبناء على ذلك يذكر بعض الباحثين أن دافنشى قد رحل إلى مدينة " ميلانو" بعد أن رد عليه الحاكم مشجعاً . وبدأ عمله هناك كمستشار فني لأعمال استكمال " كاتدرائية ميلانو"، ثم قام بتصميم بعض الآلات التى كان قد وعد لود فيكو سفورزا بها .

ويذكر " ول ديورانت " في كتابه "قصة الحضارة"، أن دافنشى فكر فى وضع كتاب يبين كيف تصد الجيوش بقوة الفيضان الناشئ من إطلاق المياه، وكتاب يبين كيفية إغراق الجيوش بسد المياه التى تجرى فى الوديان، ووضع تصميماً لأدوات تقذف بطريقة آلية وابلاً من السهام من سطح دوار، ولرفع المدافع على عربات، وإسقاط سلم مزدحم بقوة محاصرة تسلق الجدران، وأغفل " بورجيا " معظم هذه الأدوات لأنه ظنها عملية، واكتفى منها بتجربتين أو ثلاث فى حصار " تشيري"  عام 1503 .

واعتمدت طريقة دافنشى على تحويل كل مشكلة تصادفه إلى فحص منطقي للمبادئ الأساسية الخاصة بها، سعياً وراء الحصول على الهيئة المثلي لطريقة الحل . ويتضح ذلك حين اشتدت رغبته فى استئناف طريقة عمل من المحامل والوصلات والتروس، وغير ذلك من آليات نقل الحركة الميكانيكية.

ولم تقتصر جهود دافنشى على ابتكار الآلات الحربية، بل كانت له إسهامات أخرى فى العلوم الميكانيكية، منها كما يذكر بعض الباحثين أنه عمل فى ميلانو مهـندساً للهيـدورليكا، حيـث قام بتعديل بوابات الأهوسة المقامة على القنوات ( عن طريق إنشائها بزوايا محدودة للصمود فى مواجهه الماء)، وخاصة أهوسة قناة " ماريتزانا "، وقد انبهر دائماً بالقدرات الهائلة للحياة الجارفة . كما صور فى لاسكتشاته عشرات الآلات التى أدخل عليها  تحسينات " .

وامتد نشاطه إلى تخطيط بعض المدن، وقد كتب فى ذلك يقول: "يجب أن تقام المدينة إلى جانب نهر لا تعكر مياهه الأمطار، يجب أن يكون ارتفاع أبنية هذه المدينة فى مستوى واحد، ويجب أن يدخلها النور والهواء وتسودها النظافة وتنشأ فيها ميادين فسيحة واسعة .

ثم يستطرد فيقول: ويجب أن تكون فى هذه المدينة نوعان من الطرق: طرق مرتفعة أو معلقة تزدان بنوع من الأناقة، وطرق منخفضة أو سراديب تسير تحت الأرض ترتفع رويداً رويداً عن المياه الصافية، ويرتفع منها الطين المتراكم باستمرار بواسطة الكراكات والمجاريف .

وكان دافنشى يتعمق فى رسومه إلى أحط حاجيات المعيشة، وكان يصمم الغرف موزعة أحسن توزيع، بحيث يدخلها النور والهواء، ويضع لها مدخنة تبقى الأخشاب مستعرة على الدوام .

وبجانب اهتمام دافنشى بإصلاح البيئة، كانت له اسهامات علمية فى الكشف عن آلات أخرى منها كما يذكر كراوذر أنه صنع آلات لخيوط بأشكال لولبية، وسار من خلال التجربة إلى الطريق الصحيح الموصل لاختراع الساقية، وأبتكر كماحات (فرامل ) ذوات سيور، وترساً لمضاعفة سرعة الحركة ثلاثة أضعاف، ومفتاحا مضبباً قابلاً للضغط ، وترس آلة للف المعادن وتدويرها، وقاعدة متحركة لآلة طباعة، وترساً ينغلق من تلقاء نفسه لرفع سلم . وأحياناً فكر دافنشى فى تعديل الآلة البخارية التى قال بها " هيرو الاسكندرى ". كما اثبت بالتجربة كيف يستطيع الإنسان بالضغط فى مدفع أن يرمى قذيفة من الحديد على مدى ياردة . وأبتكر وسيلة للف الخيط وتوزيعه بالتساوي على مغزل دوارا ومقص ينفتح بحركة واحدة من حركات اليد.

هذا بالإضافة إلى أنه وضع تصميماً لمرابط الخيول التى يمكن حفظها نظيفة وللمداخن التى تدور مع الهواء كى لا يدخل الدخان الحجرات، كما وضع تعديلات متقنة لآلات النسيج، وكانت مقترحاته ورسوما ته تشمل ألآت لصنع الحبال وآلات خيوط الحرير، وقطع الأقمشة، وآلة لإزالة الوبر، ومقص الحرير والأقمشة، وقبعات الصوف.

من ناحية أخرى، فقد كان لتقدير دافنشى للميكانيكا أثره الفعال فى أن يقوم بدراسات تجريبية فى أصول هذا العلم من استاتيكا وديناميكا. ففي مجال الاستاتيكا بحث دافنشى فى مركز الثقل، وفى مبدأ الرافعة وجمع للقوى وتحليلها، وقد كان دافنشى على علم بما توصل إليه أرسطو وأرشميدس فى هذا المجال .

فمثلاً حول مركز الثقل قام دافنشى بدراسات تجريبية توصل من خلالها إلى أن مركز الطبيعي يقسم الجسم إلى جزأين متساويين، فهو يوضح ذلك فيقول: " يستقر مركز الثقل لكل جسم معلق تحت نقطة ارتكازه، وبذلك يطلق اسم الخط المركزي على الخط المستقيم الذى يتصوره المرء ممتدا من الجسم .

كما كان دافنشى على بينة من أن مركز الثقل يمكن أن يقع خارج الجسم نفسه، حيث يقول: " يحدث  أحياناً أن يوجد مركز الثقل خارج الثقل، أو بعبارة أخرى فى غير نطاق المادة أى الهواء؛ كما توصل دافنشى أيضاً إلى الحقيقة القائلة بوجوب وقوع مركز ثقل داخل نطاق قاعدته كشرط أساسي لتوافر حالة الاتزان له، وفى هذا يقول: " تتناسب الأوزان أو القوى تناسباً عكسياً مع أطوال أذرعتها مقاسه من نقطة الارتكاز الرافعة عندما تكون المجموعة فى حالة الاتزان؛ كما عرف دافنشى مبدأ الرافعة الذى نادى به أرشميدس، وحاول أن يصوغ قانونه، فأكد بأنه بقوم على بديهيتين:-

الأولى: أن الجسمين المتساويين يكونان متساويين وزنا إذا علقا على بعدين متساويين من نقطة الارتكاز.

الثانية: أنهما إذا لم يكونا على بعدين متساويين من نقطة الارتكاز، فإن أبعدهما يهوى إلى أسفل .

وبعد أن صاغ دافنشى مبدأ الرافعة الذى قال به أرشميدس، عرج إلى تطبيقاته، ومنها مثلاً الموازيين ودارة اللف، أو المرفاع الصغير، وفيها يحصل على ما يعرف بالفائدة الميكانيكية، حيث نسلط قوة صغيرة نسبياً لنتغلب على قوة أكبر، وقد أولى دافنشى عناية خاصة للموازين ذات التدرجات التى يمكن قراءتها معرفة الوزن المطلوب مباشرة، وطبق هذه الفكرة فى قياس درجة رطوبة الهواء، حيث يزيد الوزن على الكفة التى تحمل المادة الممتصة للرطوبة، وبذلك يمكن تحديد كميتها.

ومن ناحية أخرى تناول دافنشى فى مذكراته دراسة مسألة جمع قوتين أو سرعتين فى اتجاهين، كما تعرض أيضا للمسألة العكسية، وهى تحليل قوة ما إلى قوتين فى اتجاهين معينين .

ويؤكد الدكتور "جلال شوقي "، أن أرسطو قد توصل إلى إيجاد محصلة قوتين متعامدتين على بعضهما البعض منذ زمن بعيد، ولكن دافنشى لم يقصر دراسته على هذه الحالة الخاصة، وإنما تعداها إلى الحالة العامة التي تتخذ فيها إحدى القوتين – أي وضع مائل مع القوة الأخرى . وقد وقف دافنشى على فكرة وجود قوة محصلة تحدث نفس تأثير القوتين مجتمعتين، واستعان فى حل مسألة تحليل القوة برافعة افتراضية في وضع متعامد مع خط عمل القوة المراد تحليلها، وبذلك يكون دافنشى أول من أدخل فكرة العزم فى الاستاتيكا، كما أنه أول من توصل إلى مركبات القوة عن الشد في الحبال الحاملة للثقل".

وفى مجال الديناميكا، يعتبر دافنشى بحق من رواد علم الديناميكا، إذ كانت الدراسات السابقة لعصره تتناول أساساً علم الاستاتيكا، ومن ثم فقد عمل دافنشى فى حقل بكر كان له فيه فضل واضح، وقد تعرض دافنشى للقوانين التى تنظم حركة الأجسام، واكتشف بالفعل قانونين من قوانين الحركة الثلاث التى نعرفها اليوم، وذلك قبل أن ينشرها اسحق نيوتن فى كتابه بحوالى مائتي عام . كما تناول دافنشى بالدراسة أيضاً حالة خاصة من القوة هى قوة الجاذبية.

حقاً لقد تعرض دافنشى للقوانين التى تنظم حركة الأجسام، فاستنتج بالتجربة أن الجسم لا يتحرك من تلقاء نفسه، وإنما يحركه غيره، وجميع أنواع الحركة تميل إلى الاستمرار، أو أن الجسم المتحرك يستمر فى حركته ما دام واقعاً تحت تأثير المتحرك . كما توصل دافنشى بالتجربة أيضا إلى أنه إذا تحرك جسم تحت تأثير قوة مسافة معينة فى زمن محدد، فإن نفس القوة ستجعل جسما له نصف الكتلة بتحرك ضعف المسافة البادئة فى نفس الزمن .

كما توصل دافنشى بالتجربة إلى أن لكل فعل رد فعل مساوي له في المقدار ومضاد له فى الاتجاه، وقد أوضح ذلك عند تحليله لعمل الباراشوت، حيث قال: " أن مقاومة الجسم للهواء تعادل مقاومة الهواء للجسم. أنظر كيف يستطيع النسر أن يحلق فى أجواء شديد الخلخلة بضرب أجنحته فيه. شاهد أيضاً كيف يملئ الهواء المتحرك فوق البحر الشرع المنتفخة، وكيف تسير السفن ذات الحمولات الكبيرة، من هذه الأمثلة وللأسباب المبينة قد يستطيع كيف يتغلب على مقاومة الهواء، وينجح فى غزوه ورفع نفسه فوقه " ؛  كما تحدث دافنشى عن حالة خاصة من القوة هى قوة الجاذبية، تلك القوة التى تؤدى إلى سقوط الأجسام على مركز الأرض متبعة فى ذلك أقصر الطرق وهو الخط المستقيم، فكتب عن سقوط الأجسام قائلاً: " إن الجسم الذى لا يعوقه عائق يتخذ أقصر طريق فى سقوطه على الأرض، وفى الهواء منتظم الكثافة تزاد سرعة حركة الجسم فى سقوطه من لحظة إلى أخرى " .

ويذكر الدكتور " جلال شوقي" بأن دافنشى قد أجرى تجربة بإلقاء كتلة ثقيلة من أحد الأبراج، فلاحظ أن الأجسام الساقطة تحيد بعض الشئ عن موضع تلاقى الخط الرأسي المسقط من البداية إلى الأرض، وقد وجد أن هذا الانحراف يأخذ  اتجاهاً شرقياً، وقد عزا دافنشى وصف مسار الجسم الساقط بأنه يجمع بين حركة خطية مستقيمة، وأخرى منحنية، وسبب الحركة الخطية المستقيمة إلى مركز الأرض، وأنها  حركة خطية فى ذاتها، وفى كل نقطة من المسار.

كما بحث دافنشى فى القوى التى تؤثر على جسم موضوع على سطح مائل، وبين أن الجاذبية تؤثر على الجسم فى اتجاهين، احدهما عمودي على المستوى المائل، والآخر فى اتجاه المستوى المائل . كما بين أيضاً أن نسبة سرعة كرة منزلقة على مستوى مائل إلى سرعة جسم ساقط لا يعوقه عائق، كنسبة ارتفاع الجسم الساقط إلى طول المستوى المائل .

مما سبق يتضح لنا أن دعوة دافنشى إلى تطبيق العلم على مجال الصناعات تمثل أول مظهر من مظاهر التحول الفلسفي فى عصر النهضة الذى هيأ الأذهان قبل فرنسيس بيكون لقبول فكرة الآلية ووضع الأساس الفكرى للعصر الصناعي الحديث .

 

د. محمود محمد علي

قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

أزمة العراق سيادياً

التفاصيل
كتب بواسطة: د. عبد الحسين شعبان

عبد الحسين شعبانمشروع معهد العلمين وملتقى بحر العلوم للحوار

توطئة: حسناً فعل معهد العلمين وملتقى بحر العلوم للحوار، حين حاولا استشراف "أزمة العراق سيادياً" وذلك من خلال مناقشة رؤية خمسة رؤساء سابقين لمجلس الوزراء تعاقبوا على سدت المسؤولية بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، العام 2003، وهم كل من: د. إياد علاوي ود. ابراهيم الاشيقر (الجعفري) وأ. نوري المالكي ود. حيدر العبادي  وأ. عادل عبد المهدي.

وكان سدى هذه المبادرة ولحمتها هو موضوع السيادة، سواء بإجاباتهم أو بمشاركة رؤساء مجلس النواب السابقين أيضاً، إضافة إلى  شخصيات أكاديمية وثقافية وسياسية، والهدف من ذلك تقديم رؤية نقدية تحليلية  للإجابات المذكورة، على أن تلتئم ندوة لجميع المشاركين للتوصل إلى استنتاجات وتوصيات ليصار إلى تعميمها على أصحاب القرار، ثم لنشرها كاملة باللغتين العربية والانكليزية.

المبادرة

تكتسب هذه المبادرة أهمية بالغة  للأسباب التالية:

أولاً- إنها تعيد طرح القضايا ذات الطبيعة الإشكالية النظرية والعملية في ما يتعلّق بالسيادة ارتباطاً بالنظام السياسي وآفاق العملية السياسية التي تأسست على قاعدته، خصوصاً بعد حركة الاحتجاج الشعبية التي بدأت في 1 تشرين الأول (أكتوبر) العام 2019، والتي ما تزال مستمرة.

وثانياً- إنها تنشغل بموضوع السيادة ومدى تحققها عملياً بعد أكثر من 17 عاماً من الاحتلال، وهو أمر مهم ومطلوب، خصوصاً بعد تصويت مجلس النواب على إخراج القوات الأجنبية كافة، إثر مقتل قاسم سليماني رئيس فيلق القدس الإيراني وأبو مهدي المهندس أحد أبرز مسؤولي الحشد الشعبي  يوم 3 يناير (كانون الثاني) 2020 على يد القوات الأمريكية، مع الأخذ بنظر الاعتبار المواقف المتعارضة من وجود القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي بشكل خاص، والقوات الأجنبية بشكل عام، بما فيها توغل القوات العسكرية التركية المستمر والمتكرر، إضافة إلى قواعدها العسكرية التي أقامتها في العراق، ناهيك عن التغلغل والنفوذ الإيرانيين.

وثالثاً- إنها تضع هدفاً لهذه المراجعات يتلخص في إمكانية التوصّل إلى مشتركات واستنتاجات وتوصيات، لاستعادة السيادة العراقية التي ظلّت منقوصة ومجروحة ومعوّمة  منذ غزو قوات النظام السابق للكويت في 2 آب (أغسطس)  1990، وحرب قوات التحالف الدولي في 17 كانون الثاني (يناير) 1991 لتحرير الكويت، وما أعقبها من فرض حصار دولي شامل على العراق، حيث زاد عدد القرارات التي صدرت بحقه  أكثر من 75 قراراً دولياً (نحو 60 قراراً منها  قبل الاحتلال والبقية بعده) ويعدّ بعضها خرقاً سافراً للسيادة وبعضها الآخر تقييداً لها أو انتقاصاً منها أو تعويماً لممارستها.

ورابعاً- إنها تشتبك باتفاقية الإطار الاستراتيجي التي تم توقيعها في الوقت نفسه مع الاتفاقية العراقية - الأمريكية لعام 2008 والتي انتهى مفعولها في 31/12/2011، حيث اضطرّت القوات الأمريكية إلى الانسحاب من العراق لأسباب عديدة، منها ما تكبدّته من خسائر بشرية ومادية ومعنوية، ناهيك عن ضغط الرأي العام  الأمريكي والعالمي، إضافة إلى الأزمة المالية والاقتصادية العالمية وانعكاساتها على الولايات المتحدة .

السيادة والقرارات الدولية

إذا كان موضوع السيادة وممارستها قد ورد مشوشاً في الإجابات المختلفة، سواءً عدم المجيء على ذكره أو الإتيان عليه بصفته موضوعاً "نظرياً"، وأحياناً اختلط مع مواضيع أخرى أو أنه ارتبط بمفهوم " المكوّنات" وبعض تفسيرات الدستور المختلفة، دون التوقف عند الجوانب العملية التطبيقية (البراكسيس)، فإن مثل تلك الالتباسات القانونية الفقهية والسياسية وردت هي الأخرى في القرارات الدولية التي أصدرها مجلس الأمن الدولي، بدءًا من القرار 1483 الصادر في 22 أيار (مايو) 2003، والذي أعلن انتهاء العمليات الحربية وتعامل مع الولايات المتحدة وبريطانيا بوصفهما دولتين قائمتين بالاحتلال، والقرار 1500 الذي صدر في 14 آب (أغسطس) 2003 الذي اعتبر مجلس الحكم الانتقالي "خطوة مهمة في تشكيل حكومة عراقية معترف بها دولياً وتتولّى ممارسة السيادة "، أو القرارات الأخرى بما فيها القرار الذي سبقه ونعني به القرار 1490 الصادر في 3 تموز (يوليو) 2003، أو القرارات التي تلته، ولاسيّما القرار  1511 الصادر في 16 تشرين الأول (اكتوبر) أو القرار 1518 الصادر في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2003 وجميعها صدرت ضمن الفصل السابع.

كما صدر القرار 1546 في 8 حزيران (يونيو) 2004 ضمن الفصل السابع أيضاً (بعد إلغاء مجلس الحكم الانتقالي ) ودعا إلى حكومة عراقية مؤقتة مستقلة وتامة السيادة لها كامل المسؤولية والسلطة بحلول 30 حزيران (يونيو) 2004، لكن القوات المحتلة استمرت في العراق بامتيازاتها وحصاناتها الكاملة بجيوشها والمتعاقدين معها، علماً بأن القرارات السابقة  تعاملت مع القوات المحتلة نظرياً على أقل تقدير، بوصفها المسؤولة عن إدارة العراق وضمن  الفصل السابع الخاص بالعقوبات (من المادة 39 إلى 42 من ميثاق الأمم المتحدة)، إلّا أن صدور القرار 1546 أعاد وضع الفصل السابع قيداً جديداً في عنق العراق المقيّد أساساً بنحو 60 قراراً كانت قد صدرت قبل الاحتلال كلّها كانت ضمن الفصل السابع، باستثناء القرار 688 الذي صدر في 5 نيسان (أبريل) 1991 وهو القرار اليتيم والتائه والمنسي من سلسلة القرارات التي أصدرها مجلس الأمن الدولي، وهو القرار الخاص بوقف القمع الذي تتعرض له المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق وكفالة احترام حقوق الإنسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين.

إذا كان العراق قد استمر في الرضوخ مكرهاً لتنفيذ الالتزامات الدولية، فإن المحتل تحرر من التزاماته بموجب اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها وأصبح حرّاً طليقاً من القيود، بزعم مطاردة الإرهاب الدولي الذي فتحت الحدود أمامه، حيث تم تمديد مهمة القوات الأجنبية بالقرارات 1637 في 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 2005  و1723 في 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 2006 والقرار 1790 الصادر في 18/12/2007 الذي مدّد بقاء القوات الأجنبية إلى 31 كانون الأول (ديسمبر) 2008.

وقد تغيّرت الوضعية القانونية للقوات الأمريكية التي ضغطت لتوقيع اتفاقية العام 2008 لتكريس شرعية وجودها، فبعد أن كانت "قوات محتلة" تحولت إلى فريق في قوة متعددة الجنسيات بقيادتها متعاقدة مع الحكومة العراقية، أي أن "الاحتلال العسكري" تحوّل إلى "احتلال تعاقدي" أو تعاهدي، وامتلكت القوات الأمريكية حرّية استخدام الأراضي والأجواء والممرات المائية لمواجهة أي خطر يتهدّد السلم والأمن الدوليين، أو يعرض الحكومة العراقية أو دستورها ونظامها الديمقراطي للتهديد، فضلاً عن مواجهة الإرهاب الدولي.

وهكذا أنشأت عدداً من القواعد العسكرية وتصرّفت بحرّية بما فيها القيام بارتكابات شنيعة لحقوق الإنسان، سواء في السجون أو من خلال المواجهات المباشرة تحت زعم ملاحقة الإرهابيين دون الحاجة إلى اتباع الإجراءات التي يتطلبها وجود قوات عسكرية في أراضي دولة أجنبية متعاقدة معها، الأمر الذي يتنافى مع قانون المعاهدات والاتفاقيات الدولية، ولاسيّما اتفاقية فيينا حول قانون المعاهدات لعام 1969 التي تفترض أن يكون الاتفاق بين طرفين متكافئين وعلى أساس الإرادة الحرة دون أن يشوبه أحد عيوب الرضا، وليس كما هو واقع الحال بين طرفين أحدهما قوي ومحتل والآخر ضعيف ومحتلة أراضيه.

وبالطبع فقد تجاوزت الولايات المتحدة على قواعد القانون الدولي بما فيها المتعلّقة باتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لبروتوكولي جنيف لعام 1977 المتعلقة بالحرب وآثارها؛ الأول- الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، والثاني- الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية، مستندة بذلك إلى قواعد القانون الدولي التقليدي الذي أصبح من تراث الماضي والذي يقوم على مفهوم "الحرب الوقائية" أو " الحرب الاستباقية"، علماً بأن القرار 1373 الذي صدر في 28 أيلول (سبتمبر) 2001 عقب أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية الإجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة إثر تفجير برجي التجارة العالميين، قد أعاده إلى الواجهة، بأن أعطى الحق في شن الحرب فيما إذا شعرت الدولة أن ثمة تهديداً إرهابياً وشيك الوقوع أو محتمل.

واستندت واشنطن إلى ذلك حين احتلت أفغانستان العام 2001 والعراق العام 2003، بزعم العلاقة بالإرهاب الدولي، إضافة إلى امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، بما فيها غاز الانثركس، الذي اتضح زيف تلك الدعاوى، وهو ما كشف عنه الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش  بعد أن مشّطت القوات الأمريكية العراق طولاً وعرضاً.

السيادة الداخلية

وإذا كان ذلك يشمل مفهوم السيادة الخارجية للدولة العراقية،  فإن من يمتلك السيادة الداخلية في العراق أخضع لتوزيع طائفي وإثني منذ مجلس الحكم الانتقالي وكرّس للأسف قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية الصادر في 8 آذار (مارس) من قبل 2004 والذي ثُبّت في الدستور الدائم المستفتى عليه في 15 تشرين الأول (اكتوبر) العام 2005، والذي تحدث عن ما يسمى بالمكوّنات، وذلك في المقدمة (مرتان) وفي المواد 9 و12 و49 و125 و142، وليس ذلك سوى نظام سياسي يقوم على مبدأ المحاصصة والتقاسم الوظيفي.

وأعتقد أن ذلك بدأ يتحسّس منه العديد من القوى والشخصيات، بل إن بعضهم يعلن براءته منه ويحاول البحث عن الممكنات لتغييره أو لوضع حد له، لأنه في الواقع أوقع البلاد في ورطة حقيقية أنتجت نظاماً مشوّها يقوم على الزبائنية السياسية والحصول على المغانم، لاسيّما في ظلّ ضعف مرجعية الدولة وعدم تطبيق حكم القانون وولّدت هذه المحاصصة:  الفساد المالي والإداري واستشراء العنف والإرهاب، لاسيّما بشيوع ظواهر التعصّب ووليده التطرّف التي لعبت سنوات الاستبداد والدكتاتورية في ظل النظام السابق، إضافة إلى الحروب والحصار دوراً كبيراً في تغذيتها، خصوصاً بانتشار السلاح والاستقواء به عبر ميليشيات وقوى مسلحة باستخدام أجهزة الدولة أحياناً أو قوى منفلتة من خارجها.

وبالطبع كلّما كانت الدولة صاحبة سيادة كاملة كلّما تمكنت من اختيار نظامها السياسي والاجتماعي بحرية كاملة بما فيها السيطرة على الموارد الاقتصادية، والعكس صحيح أيضاً كلما كانت الدولة مثلومة السيادة أو منتقصة أو مبتورة، كلّما اضطرّت للرضوخ للقوى المتنفّذة فيها، سواء على المستوى الخارجي الإقليمي أم الدولي أم على المستوى الداخلي، دون أن يعني ذلك الانعزال عن المحيط الدولي والعلاقات الدولية، التي ستترك تأثيراتها سلباً وإيجاباً على سيادة الدولة واستقلالها.

ما السبيل لاستعادة واستكمال السيادة؟

لاستعادة السيادة كاملة على المستوى الخارجي يحتاج الأمر إلى إعادة النظر بعلاقتنا الدولية، فعلى الرغم من وجود قوات أمريكية ودولية بطلب من الحكومة العراقية إثر هيمنة تنظيم داعش الإرهابي على الموصل في 10 حزيران (يونيو) 2014، فإنه بانتهاء هذه المهمة ينبغي انتهاء وجود هذه القوات، خصوصاً وأن البرلمان اتخذ قراراً بذلك بتاريخ 5/1/2020، ولا بدّ من تحديد سقف زمني لتنفيذه وإلّا بقي الأمر مفتوحاً، علماً بأن القوات الأمريكية مارست منذ العام 2003 وحتى الآن أعمالاً تتنافى والسيادة العراقية، بما فيها القيام ببعض الأعمال العسكرية بالضد من إرادة الدولة العراقية التي لم تحسب لها أي حساب، كما حصل في تحليق طائرات فوق مطار بغداد وتعقب عناصر تعتبرها إرهابية، منهم من له مسؤوليات في أجهزة الدولة العراقية .

وللأسف فإن الموقف من وجود القوات الأمريكية ليس موحداً، فالتحالف الكردستاني لم يحضر في التصويت على جلاء القوات الأجنبية، وكذلك التحالفات والقوى السنيّة بأسمائها المختلفة، بل على العكس من ذلك، فإنها تعتقد أن وجود القوات الأمريكية ضرورة لمواجهة داعش من جهة وتدريب القوات العراقية من جهة أخرى، فضلاً عن وجودها سيكون عامل تقليص للنفوذ الإيراني في العراق، وغيابها سيعزز من دور ما يسمى بالقوى الشيعية والنفوذ الإيراني المتعاظم، سواء أعلنت ذلك أم لم تعلن لكن ذلك واقع الحال، في حين أن القوى القريبة من إيران والتي يسمى بعضها بالولائية  تصرّ على خروج هذه القوات، بل ويقوم بعضها بقصف مواقع للقوات الأمريكية بما فيها السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء، خارج إطار القوانين والأعراف الدبلوماسية والتزامات الحكومة العراقية التي يدخلها في حالة حرج وتناقض.

ومن مظاهر انخرام السيادة العراقية هو زيارات مسؤولين أمريكان بمن فيهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للقاعدة العسكرية الأمريكية في عين الأسد شمال بغداد في 24 ديسمبر (كانون الأول) 2018 دون إشعار الحكومة العراقية، ناهيك عن طلب إذنها، وكما زار وزير الخارجية مارك بومبيو القاعدة يوم 28 ديسمبر (كانون الأول) 2019، والأمر مستمر ومتكرر منذ العام 2003 ولحد الآن.

ولاستكمال السيادة العراقية على جميع الأراضي العراقية فيتطلب الأمر أيضاً الطلب من تركيا مغادرة الأراضي العراقية وتفكيك قواعدها، وليس حجة وجود قواعد حزب العمال الكردستاني PKK  سوى ذريعة لا يمكن قبولها لأنها تتعارض مع مبادئ السيادة، ولابدّ من إعادة النظر بجميع الاتفاقيات التي تسمح للقوات التركية بالتسلل داخل الأراضي العراقية منذ العام 1984. كما إن استكمال السيادة يتطلب إعادة بحث الاتفاقيات المائية مع تركيا بما يضمن تأمين حقوق العراق وحصته وفقاً لقواعد القانون الدولي فيما يتعلق بالأنهار الدولية، ومثل هذا الأمر ينطبق على إيران، وبسبب استفراد الدولتين واستغلالهما ضعف العراق وتعويم سيادته قامتا بعدد من الإجراءات التي من شأنها حرمان العراق من موارده المائية بما يلحق ضرراً بالغاً بالسيادة والمصالح الوطنية العراقية.

أما بشأن التغلغل الإيراني الناعم  والنفوذ السياسي الهادئ، فلا بدّ من اعتماد استراتيجيات جديدة وفقاً للمصالح العراقية أولاً لكي لا يكون العراق ساحة للصراع الأمريكي - العراقي، وثانياً لكي لا يكون جزءًا من المحاور الإقليمية والدولية المتصارعة، وثالثاً  يستطيع أن يقيم علاقات متوازنة مع دول الجوار غير العربي من جهة ومع الدول الأجنبية الأخرى، فضلاً عن إعادة بناء العلاقات العربية على أساس المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة وبروح السلم والأمن والإخاء وعدم الاعتداء وحل المشاكل العالقة بالطرق السلمية والدبلوماسية وفقاً للمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة.

أما بخصوص السيادة الداخلية، فيتطلب إعادة النظر بالنظام السياسي ككل والخطوة الأولى تبدأ من الدستور، إما بإلغائه وسنّ دستور جديد أو بتعديله جذرياً، علماً بأن ما ورد فيه من حقوق وحريات واعتماد مبادئ المواطنة هي أمور جيدة ومتقدّمة، لكنها تقدّم بيد لتقيّد في اليد الأخرى، فضلاً عن العديد من القوانين التي شرّعها البرلمان، والجانب الإجرائي في ذلك اعتماد الآليات الواردة فيه، خصوصاً بإجراء مراجعة شاملة كان لا بدّ من القيام بها خلال أربعة أشهر بعد انتخابات العام 2005 .

والأمر يتعلق أيضاً بعلاقة السلطة الاتحادية بالإقليم من حيث الصلاحيات، بما فيها المواد الخاصة بالنفط وتنازع القوانين على أساس قواعد النظام الفيدرالي المعمول به دولياً في أكثر من 40 بلد، وقد تحتاج هذه الأمور إلى حوار وطني شامل يشارك فيه الجميع من قوى ومنظمات وشخصيات أكاديمية وثقافية وحقوقية ومن مختلف التوجهات الفكرية والاجتماعية، والهدف هو تحقيق السيادة الكاملة وبناء نظام سياسي على أساس المواطنة العابرة للطوائف والإثنيات والحاضنة للتنوّع والقائمة على أساس التكافؤ والمساواة والشراكة والمشاركة والعدل الاجتماعي، وهنا لا بدّ من تحديد الأولويات والتدرج فيهان خصوصاً في ظل إرادة وطنية شاملة .

 

عبد الحسين شعبان

باحث ومفكر عربي

......................

* نشرت هذه المساهمة في كتاب من إعداد وتقديم د. إبراهيم محمد بحر العلوم الموسوم "أزمة العراق سيادياً"، دار العلمين للنشر والعارف للمطبوعات، إصدار ملتقى بحر العلوم للحوار، العراق، الكوفة - النجف الأشرف، 2021 .

والبحث  جزء من مشروع يناقش 5 رؤساء وزارات هم : إياد علاّوي وابراهيم الجعفري ونوري المالكي وحيدر العبادي وعادل عبد المهدي ومنظورهم للسيادة، كما يناقش منظور 5 رؤساء برلمان هم : حاجم الحسني و محمود المشهداني و إيّاد السامرّائي و  أسامة النجيفي و  سليم الجبوري، وشارك في الحوار شخصيات أكاديمية وفكرية وثقافية وسياسية في  5 محاورٍ شملت النظام السياسي والوعي بأهمية العوامل الإقليمية والدولية وإدارتها  والمصالح الوطنية والتّوازن الإقليمي الدولي وكيف تعاطت حكومات ما بعد العام 2003 مع مبادئ السيادة.

 

المراجع النقدية

التفاصيل
كتب بواسطة: د. ليلى مناتي محمود

إن النقد الادبي عند العرب نشأ عربياً؛ لأن أساس كل نقد هو الذوق الشخصي، تدعمه ملكة تحصل في النفس بدون ممارسة الآثار الأدبية، فلقد وجِدَ النقد الأدبي بصورته الأولى بعد أول مقطوعة شعرية قالها العرب، أي أنه كان ملازماً للشعر،متواجداً بتواجده، متطوراً بتطوره وأن الشعر يثير أنواعاً خاصة من الانفعالات، ومن المؤكد أن تكون هناك استجابات لهذا الانفعال في جانبين سلبي وايجابي،تحكم على الشعر لترفع مستواه، وجعله قابلاً للتدوين والاعجاب. وإن النقد الأدبي توطد واستقر في عهد الطبقات الأولى من اللغويين، عُرفت له مقاييس واصول، وهو ذلك النقد الذي تدعمه اسس نظرية او تطبيقية عامة وقد استعنت ببعض النماذج لمراجع نقدية قديمة، لأنها تساعد قارئ الادب على التواصل مع النص وفهمه، وتعينه على تذوقه واكتشاف جوانب الابداع فيه ويغرس فيه الاحساس بالجمال . ومن اهم تلك المراجع:

أولاـ الشعر والشعراء لابن قتيبة:

1ـ تعريف الكاتب:

هـو محمـد عبـد االله بـن مسـلم بـن قتيبـة الكـوفي الملقـب بالـدينوري نسـبة إلى دينـور الـتي ولي قضـاءها، ولـد في بغـداد وسكن في الكوفة وكان إماما من أئمة الأدب، وفقيها ومحدثا ومؤرخا، قصد البصرة واتصـل بالجـاحظ ثم انتقـل إلى بغـداد وتـوفي فيهـا سـنة (276 هــ / 889م)،" كـان صـادقا في مـا يرويـه، عالمـا باللغـة والنحـو وغريـب القـرآن ومعانيـه والشـعر والفقـه،وكثـير التصنيف والتأليف .

لـه تصـانيف ممتعـة ومفيـدة، تناولت معـارف أهـل زمانـه، قـد حـذا فيهـا حـذو المـبرزين مـن معاصـريه أمثـال: الجـاحظ وأبي حنيفـة الـدينوري، وكان هـم هـؤلاء أن يجعلـوا اللغـة والشـعر والأخبـار في متنـاول الكتـاب،الـذين بـدأ يـذيع صـيتهم ويعلـو شـأنهم إبـان دولة بني العباس .

لم يقتصـر دور ابـن قتيبـة علـى جملـة مـن التصـانيف الأدبيـة واللغويـة الـتي وضـعها والـتي أسـهمت إلى حـد بعيـد في إنمـاء المكتبـة العربيـة وإغنائهـا، بـل كـان مـن المـدافعين عـن السـنة والكتـاب ضـد النزاعـات الفلسـفية والتيـارات الفكريـة الـتي عرفـت في عصره،فاتهمه البعض بالزندقة شأن المارقين في كل عصر المتنطحين للقلة من الأضداد .

ولابـن قتيبـة آثـار كثـيرة قيـل أنهـا ثـلاث مئـة كتـاب في شـتى الموضـوعات منهـا كتـاب " معـاني الشـعر الكبـير" وكتـاب " عيـون الشـعر " وكتـاب " المعـارف " وكتـاب " أدب الكاتـب" كتـاب " الخيـل " وكتـاب " خلـق الإنسـان " وكتـاب " الأشـرية" ... الخ

2ـ تعريف الكتاب:

هـذا الكتـاب مـن مصـادر الأدب الأولى،وممـا أبقـي لنـا حـدثان الـدهر مـن آثـار أئمتنـا الأقـدمين، ألفـه إمـام ثقـة حجـة من أوعية العلم. تناول فيه ابن قتيبة المشهورين من الشعراء فأورد أخبارهم وما يستجاد من شعرهم وما أخذته علـيهم العلمـاء من الغلط والخطأ في ألفـاظهم أو معـانيهم... وكـذلك الـذين يقـع الاحتجـاج بأشـعارهم في الغريـب، وفي النحـو، وفي كتـاب الله (عز وجل) وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم

. وهـذا الـذي قصـد إليـه:" ذكـره وكسـد شعــره، وكــان لا يعرفـه إلا بعـض الخواص،فأمـا أقـل مـا ّ فأمــا مـن خفـي اسمــه، وقــل ذكـرت مـن هـذه الطبقـة إذا كنـت لا أعـرف مـنهم إلا القليـل، ولا أعـرف لـذلك القليـل أيضـا أخبـارا " كمـا قـال هـو في ّ خطبة كتابه، وقدم له بمقدمة تنطوي على أبواب في أقسام الشعر، وعيوب الشعر، والإقواء والأكفاء،والعين في الإعراب وأوائل الشعر .

ثانياـ طبقات الشعراء لابن معتز

1ـ التعريف بالكاتب:

أبو العباس عبد االله بن المعتز بـن المتوكـل بـن المعتصـم بـن هـارون الرشـيد مـن الخلفـاء العباسـيين ولـد في سـامرا ولا تعـرف سـنة ميلاده معرفة ثابتة والأرجح كـان سـنة 247 هـ وقـد انصـرف منـذ حداثتـه إلى الدراسـات الأدبيـة فتخـرج علـى جماعـة مـن العلمـاء، نذكر منهم المبرد النحوي البصري والأديب المشهور وأبا العباس ثعلب إمام الكوفيين في النحو واللغـة فكـان ابـن المعتـز مـن الطبقـة ّ المثقفـة ,إن لم تكـن ثقافتـه عميقـة وقـد نظـم الشـعر وهـو في نحـو الثالثـة عشـرة مـن عمـره قتـل ابـن المعتـز سـنة 296 ه بعـد أن اضـطرب علـى خليفـة المقتـدر وعسـكره وبـايعوه بخلافـة ثم عـادوا مـذعنين للمقتـدر، ولم يهنـأ ابـن معتـز بلقـب الخليفـة إلا يومـا أو بعض يوم، فتفرق الناس عنه وقضي عليه خنقا .

وقد أسـلمت المدرسـة البيانيـة في الحكـم والأدب وفي تذوقـه زعامتهـا إلى ابـن المعتـز الـذي ربي في ظـلال النعمـة والحسـب المنيـع وهـو أديـب وشـاعر ذو عاطفـة جياشـة وحـس مرهـف فجـرى أثـر تلـك النعمـة وبـدأ الفـن في أروع صـوره وأجمـل معانيـه وأعـذب 1 فنونه في شعره الذي كان لا يسوغه رغبا ولا رهبا .

2ـ مؤلفات ابن المعتز:

ذ كر أصحاب الكتب التي فيها ترجمة له أن له عدة مؤلفات منها: - كتاب الزهر والرياض - كتاب البديع - مكاتبات الأخوان بالشعر - كتاب الجوارح والصيد - كتاب أشعار الملوك - كتاب الآداب - كتاب على الأخبار - كتاب طبقات الشعراء - كتاب الجامع في الغناء - كتاب في أرجوزة في ذم الصبوح - كتاب السرقات .

3ـ تعريف الكتاب:

طبقـات الشـعراء لابـن المعتـز مـن أهـم الكتـب الـتي وجـدت في تراثنـا الأدبي الرائـع،يعرض ألوانـا مـن الشـعر لطائفـة مـن شعراء الدولة العباسية،ويجمع أشتاتا من أخبارهم ونوادرهم ومالهم من علاقات وصلات . وقـد أصـطلح الأدبـاء علـى أن ينعتـوا الشـعراء العباسـيين بلفـظ المحـدثين ولم يكـن ابـن المعتـز أول مـن افـرد تأليفـا عـن المحدثين وحدهم بل وسـبقه على الاقل استاذه المبرد في كتاب له اسمه الروضة، وسبقه هـارون بـن علـي المـنجم في كتـاب اسمه البارع . يذكر ابن المعتز أن الناس في زمانه كانوا يهتمون بأشعار المحدثين وأخبارهم . وقـد أوجـز فيمـا اشـتهر في عهـده وقصـر اهتمامـه علـى القصـائد والأخبـار الخاصـة بمعرفتهـا ولهـذا كـان كتابـه مـن أعظـم المصادر التي لا يستغنى عنها مـؤرخ أو أديـب ولا نجـد في غـيره مـا اشـتمل عليـه إنـه أثبـت أشـعارا تزيـد عـن ألـف وخمسـمائة بيـت لا توجد في كتاب سواه، لهذا كان تقويم ما صنف منها من أعسر الأمور .

ثالثا:ـ العمدة لابن رشيق:

التعريف بصاحب الكاتب: هو أبو علي الحسن ابن رشيق القيرواني الأزدي، ولد في نهايات القرن الرابع الهجـري في مدينـة (المحمديـة في) المغـرب العربي وكان ذا ميول أدبية فاتحة إلى القراءة، ورغب في الاستزادة مـن علـوم اللغـة والأدب، فرحـل إلى القـيروان ولمـا بلـغ السـابعة عشر، اتصل ثمة بالمعز بن باديس وابنة تيمة وأهل العلم والأدب فاشتهر أمره ونبه ذكره . تتلمذ علي يد أشهر علماء عصره كالقزاز النحوي صاحب (الضرار الشعرية) وعبد الكريم النهشلي صاحب (الممتع في علم الشعر وعمله) وغيرهمـا تـوفي رحمـه االله غـرة ذي القعـدة سـنة 456 هـ عـن سـت وستين سنة . وتعددت جوانب ابن رشيق الأدبيـة والعلميـة ولكـن غلـب عليـه جانـب الشـعر والنقـد ولـه ديـوان شـعر كبـير تناقـل كثـير من المؤلفين بعض قصائده في موضوعات مختلفة . ولا يختلف شعره كثيرا عن شعر معاصريه في موضـوعاته فهـو يغـرق في المـديح والتملـق والمبالغـة في صـفات الممـدوح مـع اصـطناع الظـرف أحيانـا والمبـادرة إلى القـول فيمـا يعـرض مـن موضـوعات أو يقـترح في المجالـس إلى جانـب الغـزل بالمؤنـث والمـذكر ووصف الخمر ومجالس اللهو كما يتفق شعره مع روح عصره في أسلوبه وديباجته وميله إلى الوزان الخفيفـة والرقيقـة والاكثـار مـن 3 التشبيهات والاستعارات، وإن كان لا يميل إلى الصنعة اللفظية كثيرا كالجناس والطباق، ولو انه لم يخل منهما

2ـ مؤلفاته:ـ

ترك ابن رشيق آثار نقدية جلاّ يتصدرها كتابـه (العمـدة في محاسـن الشـعر وآدابـه ونقـده) ولـه أيضـا (قراصـنة الـذهب) الذي صنفه للرد علـى ابـن شـرف الـذي اهـتم ابـن رشـيق بالسـطو علـى آراء أسـتاذه عبـد الكـريم النهشـلي، ولأبـن رشـيق كتـاب (الأنموذج في الشعراء) وهو ترجمة مفصلة لشـعراء القـيروان في عصـره،فضلا عن تلـك الكتـب فلابـن رشـيق عـدد مـن الرسـائل المفقودة .

3ـ تعريف الكتاب:

كتـاب العمـدة يعـد عمـدة دراسـات الشـعر في هـذا القـرن، وقـد قـال عنـه ابـن خلـدون " وهـو الكتـاب الـذي انفـرد بهذه الصناعة وأعطاها حقها ولم يكتب احد فيها قبله ولا بعده مثله" ويقول أحمد أمـين، إنـه بهـذا الكتـاب قـد نقـل النقـد من نقد شاعر خاص أو شعراء معينين كما فعل صاحب الموازنة والوساطة إلى نقد الشعر عامة، فابن رشيق قـد نقـل النقـد مـن المشرق إلى المغرب، وأن النقد بعد العمدة لم يعد حكرا لعلماء العـراق أو الشـام بـل شـارك ابـن رشـيق بكتابـه الكبـير في جهـود هؤلاء.

ويعـرض ابـن رشـيق خطـة كتابـه في المقدمـة فيقـول:(فقـد وجـدت الشــعر أكـبر علـوم العـرب وأوفـر حظـوظ الأدب،وأحرى أن تقبل شـهادته، وتمثـل إرادتـه، ووجـدت النـاس مختلفـين في كثـير منـه، يقـدمون ويـؤخرون ويقلـون ويكثـرون، يبوبـون أبواب مبهمة،و لقبه ألقابا متهمة ,و كل واحد منهم قد ضرب في جهة، وأنتحل مذهبا هو فيه إمـام نفسـه، وشـاهد دعـواه فجمعت أحسن ما قاله كل واحد منهم في كتابه ليكون العمدة في محاسن الشعر وآدابه إن شاء االله تعالى . فهـو لا يـرى أن النـاس اختلفـوا في الشـعر، ووقـف كـل مـنهم منـه موقفـا خاصـا أدلى فيـه برأيـه، وأنـه وقـف علـى كـل مـا قيـل في الشــعر، ومــا بــذل مــن محــاولات و جهــود في فهمــه ونقــده وتبويبــه واطلــع علــى مــذاهب العلمــاء فجمــع آرائهــم ونســق بينهــا وهضمها واختار منها ما كان سديدا في رأيه فصار هذا الكتاب

4ـ قيمة الكتاب:

كتـاب العمــدة كتــاب جليــل القــدر اجتمعــت فيــه الثقافــات العالميــة، وتمازجــت فكــان مــرآة للحركــة النقديــة، والــروح الفلسـفية، والحيـاة الاجتماعيـة عرفـت في ذلـك العصـر، فهـو مـن ثم شـاهد قـيم لمـا بلغـه الفكـر الإنسـاني مـن التشـبع والتحـري وتقصي الحقائق في روح علمية منهجية تتسم بسمة الدقة وسعة الآفاق وغزارة العلم والمعرفة . والكتـاب مرجـع مـن مراجـع الأدب تتجلـى فيـه الـروح الموسـوعية، الـتي طافـت خـلال عصـور الأدب، منـذ فجـره إلى عهـد ابـن رشـيق، وجمعـت مـن شـتى المصـنفات والمجموعـات ومـن شـتى المصـادر والمـوارد، قــدرا عظيمـا مـن الشـعر وأبرزتـه بعـد التنخيـل والمقارنة وإبراز يطمئن إليه العالم والمؤرخ والأدب .

رابعا - دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني:

التعريف بصاحب الكتاب:

هـو أبـو بكـر عبـد القـاهر بـن عبـد الرحمـان بـن محمـد، فارسـي الأصـل، جرجـاني الـدار مـتكلم عـن مـذهب الأشـعري، فقيه على مذهب الشافعي، ولد بجرجـان ولم يبرحهـا حـتى لطلـب العلـم، ولمـا طافـت شـهرته الآفـاق شـدت إليـه الرحـال وحثـت المطي،وظل متصبرا بجرجان يفيد الوافدين عليها إلى أن توفي بجرجان ودفن به سنة 741 هـ . تتلمذ علي يد شيخه أبو الحسين محمد بن الحسن بن عبـد الـوارث الفارسـي ابـن أخـت أبي علـي الفارسـي، وأنـه قـد قـرأ علـى القاضي الجرجاني علي بن عبد العزيز بن الحسن بن علي بـن إسماعيـل الجرجـاني، وقـد قـرأ عليـه وحمـل عنـه الأدب وعلومـه وكـان يفتخر به في مجالسه . أثـار عبـد القـاهر الجرجـاني تشـير بأنـه قـد أحـاط علمـا بمـا صـنفه السـابقون عليـه في علـوم الـدين والفلسـفة والكـلام والأدب و اللغة، وأدلى بدلوه فيما عرضوا له من قضايا ومشاكل،فضلا عن ما حفظ وجمـع لـه مـن شـعره، فيتضـح مـن آثـاره وإحاطتـه بما كتب أبو عمرو بن العلاء،والخليل، ويونس،و الأخفش، وسيبويه، وابن قتيبة، وأبو هلال العسكري .... وغيرهم . وتتلمذ في الفقه على مذهب الشافعي،وفي الكلام على مذهب الأشعري، وغلبت عليه شهرة اللغوي النحوي . تتلمذ علـى يديـه جلـة مـن العلمـاء مثـل علـي بـن يزيـد الفصـحي،وهـو مـن أشـهر تلامذتـه، قيـل عنـه: إنـه النحـوي الحـاذق بمـا اخذ عن عبد القاهر، وأبو النصر احمد بن محمد الشجري، وهو من العلماء المبرزين في اللغة والنحو بعامة . اشتهر عبد القاهر بسعة الصدر، وطول النفس، في مناقشة معاصريه ومؤلفاته هي:

المعنى: وهو شرح مبسوط للإيضاح يقع في ثلاثين مجلد . المقتصد: أقتصد الجرجاني شرح المعنى في مصنفه المقتصد . الإيجاز: هو اختصار أبي علي الفارسي, ووصفه صاحب " كشف الظنون" الكلمة: علق عليه صاحب " الإنباه" بقوله إن عبد القاهر لو شاء لأطالّ . الجمل: وصفه صاحب"كشف الظنون" وصفا يطابق واقعه وللجرجاني كتب أخرى .

(التلخيص - كتاب رسالة الشافعية – كتاب العروض - كتاب أسرا البلاغة - كتاب المختار) تعريف الكتاب: ـ

أ ـ سبب تأليفه:

إن النـاظر إلى كتـاب عبـد القـاهر الجرجـاني يجـد رجـلا يحمـل وسـيفا، لا يـألو أن يشـهره دائمـا في وجـه خصـمه، إلا أن الرجـل طغى عليه حب العلم، ولاسـيما إذا كـان في كتـاب االله، فالقـارئ لكتابـه يلـتمس المنافحـة الـتي يحسـها بيديـه مـن قبـل الجرجـاني في دفاعه عن نظرية النظم على طريقـة المتكلمـين، فـأن عبـد القـاهر الجرجـاني يصـرح أن هنـاك أنـاس قـد سـبقوه في الكـلام علـى وجه الإعجاز بفكر وطريقة لم يعرض لها الجرجاني .

ب ـ من أين اشتق الجرجاني مادته:

الكتـاب قـد ألـف مـن أجـل بيـان وجـه الإعجـاز في القـرآن،إذا فمادتـه الأولى هـي القـرآن، ثم إن عبـد القـاهر اعتمـد على علمين جليلين، وهما:سيبويه والجـاحظ فهـو لم ينتفـع بهمـا، فقـد ذكـر الجرجـاني، أن الخليـل وسـيبويه بلغـا في فقـه النحـو مبلغا لم يسبقهم إليه أحد, ثم ذكر أن الجاحظ بلغ في بابه أي علم الشـعر والمعرفـة جـوهره وطابعـه ومعدنـه، مبلـغ الشـيخين في علم النحو، وتفرد الجاحظ في علم الشعر كتفرد الشيخين في علم معاني النحو .

خامسا - منهاج البلغاء وسراج الأدباء:

تعريف الكاتب:

ولـد أبـو الحسـن القرطـاجني في سـنة (608- هــ 1211 م) بقرطاجنـة واشـتهر بنسـبته إلى مسـقط رأسـه حـتى عـرف بالقرطاجني، وقد نشأ أبو الحسن حازم في وسط ممتاز ذي يسار . حفظ القرآن وتخرج في قراءتـه علـى شـيوخ جلـة مـن قـراء بلـده،وأقبـل مثـل معاصـريه ابـن الآبـار والمخزومـي علـى دراسـة العلـوم الشـرعية واللغويـة واكتملـت عناصـر ثقافتـه فكـان فقيهـا مـالكي المـذهب كوالـده، نحويـا بصـريا كعامـة علمـاء الأنـدلس، فـارق حـازم وطنـه ومسـقط رأسـه مهـاجرا إلى المغـرب، كانـت حياتـه حافلـة بـالأدب والعلـم، زاخـرة بالنشـاط الفكـري في كـل مكان حل به من بلاد الأندلس والمغرب وإفريقية وقد عمر حازم وكانت وفاته ليلـة السـبت 24 رمضـان سـنة (684 /23هـ نوفمبر 1385 م)عن ست وسبعين سنة قضاها في البحث والدرس .

2ـ تعريف الكتاب:

المنهـاج كتـاب بلاغـة، ونقـد تـذكر موضـوعاته المختلفـة المتنوعـة بمصـنفات الرومـاني (384 هـ 944 م)،والقطـابي: (388 /هــ 998 م)، الجرجــاني (474/ هــ 1081 م ـ1082 م) كمــا يكمــل صــنيع كثــير مــن النقــاد أمثــال قدامــة: (337 / هــ 508 م) والأمدي:(371/ هـ 981 م) والخفاجي: (366/ ه 1073م .(وهـو فضـلا عـن ذلـك يتميـز بخصـائص تفـرق بينـه وبـين عامـة المصـنفات مـن نوعـه مـن جهـتي الشـكل والمـادة، ويسـتدعي في أسلوب حازم في المنهاج انتباها خاصا، فهو مقتضب في عرض الإحكام والقواعد خال في الغالب من الشواهد .

وينقســم الكتــاب إلى منــاهج والمــنهج علــى فصــول أو فقــرات طويلــة يســميها علــى التــوالي معلــم، إضــاءة تنــوير أو معرف، إضاءة ... وتتـوالى الإضـاءة فـالتنوير داخـل المعلـم أو المعـرف الواحـد ولـيس ثمـة فـرق عنـده بـين المعلـم والمعـرف، ولا بـين الإضاءة والتنوير بل هي تنويعات في تسمية الأقسام لا تخلو من حذلقة. وبـالرغم مـن الطريقـة الترتيبيـة الـتي أدخلهـا حـازم علـى مصـنفه فجعلـه أقسـامها ومنهاجـا ومعـالم ومعـارف و اضـاءات وتنــويرات، نلمــس في هــذا الكتــاب جوانــب مــن التعقيــد تقــوم في وجــه مطالعــة، فلغــة حــازم مستصــعبة لا يمكــن لمــن يجعــل الاصطلاحات المنطقية النفوذ إلى ما ورائها، كما لا يتسنى لمن لم يألف الاستعمالات الحكمية أن يدرك غرضه منها بسهولة .

سادسا ـ المثل السائر لابن الأثير:

تعريف الكاتب:

هـو أبـو الفـتح نصـر االله بـن أبي الكـرم محمـد بـن عبـد الكـريم بـن عبـد الواحـد الشـيباني، المعـروف بـابن الأثـير الجـرزي، الملقـب بضـياء الـدين. كـان مولـده بجزيـرة ابـن عمـر ونشـأبهـا، وانتقـل مـع والـده إلى الموصـل، وبهـا اشـتغل وحصـل العلـوم، وحفظ كتاب االله الكريم، وكثير من الأحاديث النبوية، وطرفا صالحا من النحو واللغة وعلم البيان وشيئا كثيرا من الأشعار . ثم اتصل بصلاح الدين الأيوبي في مصر، فوصله القاضي الفاضل رئـيس ديوانـه بالعمـل عنـده، ثم طلبـه الملـك الأفضـل نور الدين بن صلاح الدين، وولي عهده بدمشق، فخيره صـلاح الديـن بيــن البقـاء والذهـاب فاختـار الذهـاب، فاستـوزره نـورالديـن وحسنـت حاله عنده . ولما توفي السلطان صلاح الدين، واستقل ولده الملك الأفضـل بمملكـة دمشـق، اسـتقل ضـياء الـدين المـذكور والــوزارة، وردت أمـور الناس إليه، وصار الاعتماد فـي جميـع الأحـوال عليه . وتوفي ابن الأثير سنة (637 / هـ 1239 م) في بغداد وكان قد توجه إليها رسولا من قبل صاحب الموصل . ولابن الأثير من التصانيف

1ـ المثـل السـائر في أدب الكاتـب والشـاعر طبـع في مصـر سـنة 1939 م بتحقيـق محمـد محـي الـدين عبـد الحميـد ثم سـنة 1959 م بتحقيق الدكتورين احمد الحوضي وبدوى طبانة .

2ـ (الوشي المرقوم في حل المنظوم) طبع في بيروت، سنة 1289 هـ .

3ـ (المرصع في الأدبيات) طبع في الأستانة عام 1304 هـ، وفي ألمانية عام 1896م

2ـ تعريف الكتاب:

كتاب المثل السائر يعد في مقدمة كتب البلاغـة الـتي تجمـع التبويـب وحـدد موضـوع كتابـه في عنوانـه، فجعلـه في أدب الكاتـب والشـاعر أي يتـأدب بـه كلاهمـا ومـا ينبغـي أن يتـزود بـه مـن أدوات لإتقـان صـنعته، ويمكـن أن يجمـع إلى ذلـك جانـب النقد بأن يكون النظر في صنعة الكاتب والشاعر وتحليلها وبيان محاسنها أو مواقع القبح فيه . وينحصـر نقـد ابـن الأثـير في كتابـه المشـهور، المثـل السـائر في أدب الكاتـب والشـاعر وهـو كتـاب نظـر فيـه صـاحبه أولا إلى من سبقه من رجال النقد فلم يعجبه إلا الآمدي في "الموازنة " وابن سـنان الخفـاجي في سـر الفصـاحة وقـد رأى أنهمـا أهمـلا أبوابا كما أهملا التعمق في موضوعات تعد في النقد جوهرا .

ومن هناك انتقل ابن الأثير إلى موضوع الكتاب،إذ انه تناول في مقدمة ومقالتين والمقدمة فيها عشرة فصول: علم البيـان آلاتـه وأدواتـه – الحكـم علـى المعـاني – الترجـيح في المعـاني – جوامـع الكلـم – الحكمـة الـتي هـي ضـالة المـؤمن – الحقيقـة والمجـاز – الفصاحة والبلاغة أركان الكتابة – الطريق إلى تعلم الكتابة . وتـدور المقالتـان حـول علـم البيـان - المقالـة الأولى حـول الصـناعة اللفظيـة (اللفظـة المفـردة واللفظـة المركبـة) مـن مثـل السـجع والتجنـيس أو الجنـاس ولـزوم مـالا يلـزم و المنـافرة في الألـف ومـا إلى ذلـك، والمقالـة الثانيـة حـول الصـناعة المعنويـة مـن مثل الاستعارة والتشبيه والتجريد والإيجاز والإطناب وما إلى ذلك . ولقد أورد ابن الكثير من الآثار الأدبيـة وأظهـر رأيـه فيهـا كمـا حمـل موازنـات بـين بعـض الكتـاب والشـعراء مـن مثـل أبي تمام والبحتري والمتنبي فابن الأثير رجل نظر وتطبيق.

 

الاستاذ المساعد : ليلى مناتي محمود

 

 

قراءة في المجموعة الشعرية (صَحِيفَةُ الْمُتَلَمِسّ)

التفاصيل
كتب بواسطة: حيدر عبد الرضا

حيدر عبدالرضاللشاعر عبد الأمير خليل مراد

التحاور النسقي بين حسية شعرية الوجود واللاوجود في ذوات الأشياء

توطئة:

لعل فضاء القراءة إلى مجموعة قصائد (صحيفة المتلمس) للشاعر عبد الأمير خليل مراد، تقودنا نحو تلك العلاقة النسقية المتأسسة ما بين ثنائية الوجود واللاوجود في ذوات الأشياء احتمالا،وصولا منها إلى استكمال وقائع ضمنية أنا الشاعر / الآخر المرجعي، اقترانا بأسباب القول الشعري وأحواله الحسية المتواشجة وآفاق إجرائية ذاتية موصولة من الوعي المحمول بأيقونة أسئلة ومقاصد المعنى المضمر في علاقات دوال القصيدة . وعند قراءتنا إلى الأنماذج الشعرية في منجز المجموعة، تواجهنا كيفيات ومرجعيات خاصة من أمكانية النص الشعري، وذلك بدءا مما تنتجه دعوات المبعث الدلالي في حدود النظرة الإيحائية في شاعرية النص .

ـ منظور الرؤية ومواجهة الزمن المرجعي

عند قراءتنا إلى قصيدة (صحيفة المتلمس) تواجهنا مثالية العلاقة المرتبطة ما بين خاصية الأنا الشعرية وأفق أسفارها في مركبات الأطلال من التفاصيل والاستعارات المتندرة في بواعث الأحساس الفاحص في ملفات حالات القصيدة:

كَمْ مرَّ مِنَ الأَزمانْ

وَأنا كَصيّادٍ يُبْحِرُ في الَمخْطوطاتِ

(مَخْطوطاتٍ للحبِّ وأخرى للمَوتِ)

أُحْصِي الُمدنُنَ الباقيةَ (بابلَ، دلمونَ، الحيرةَ، سومرَ

وَأكدْ)

وَالمُدنَ الزائلةَ (نَحْنُ)

وَتاريخَ الأشخاصِ (مُلُوكاً، صَعَاليكَ، غُلاةً،

شُعراء) . / ص80

إذا تعاملنا مع هذه المقاطع الأولى من النص، على أساس من أنها مخطوطة في مؤشرات (الذاكرة السير ذاتية / وثيقة الأمكنة) فلربما قد لا نقف على واصلة العلاقة الشعرية التامة مع مرجعية مخيلة الأماكن إلا من زوايا نسبية في المقايسة والاحتواء الاستدلالي المحض، نقول من جهتنا الخاصة أن الشاعر أراد تأسيس لنصه استراتيجية خاصة متكونة من علاقة أنا الشاعر وحدود تعاملات المستوى النسقي من التناص ودلالات المحاكاة المتباينة ومسار مشخصات لغة الموضوعة الشعرية، وهذا الأمر بدوره ما جعلنا نواجه جملة مفهوم (منظور الرؤية) عبر سرانية وعلنية إزاء محددات جمل (كم مرة من الأزمان / وأنا كصياد يبحر في المخطوطات = مخطوطات للحب وأخرى للموت) أي أن محاور المرجعية الزمانية والمكانية أخذت تحضر في محمولات علاقة قصدية مواضع مستترة (الذات الشاعرة ـ الأداء ـ تحول الحالات ـ تحول الزمكانية = علاقة تنافذية قيد الفاعل المنفذ) وهكذا تبقى ركيزة الواصلة الموضوعية ما بين الأزمان والأمكنة والذوات، كمفصلية منفذة أخذت تحددها علاقة الأنا / فاعل الحالة، في مرحلة البحث والاستقصاء (كصياد يبحر في المخطوطات / أحصي المدن الباقية / المدن الزائلة نحن / تاريخ الأشخاص) والتعامل الأوحد في وظيفة الوحدات يبقى في مجموعة الجمل، ما يماثل علاقة عادلة ومتفاعلة في الإحصاء التذويتي إلى محاور العلامة المرجعية في جمل المدن ودلالات الأمكنة:

مِنْ كلكامشَ إلى عَبْدَ الأَمير ....و .... و....و

(وَلا تاريخَ إلاّ تاريخُ الأَشخاصِ)

أَتَهَجَّى أَبْراجي بِكآبةٍ

كأَنّني عَلى شَفا حُفرَةٍ مِنْ هذا العالَمْ

أقفُ .... ! . / ص80

الشاعر يسعى إلى استعادة تواريخ الأجناس الآدمية، في سياقية جذرية متنوعة، بدءا من كلكامش وحتى مرحلة الشاعر نفسه نزولا إلى متشكلات الصيرورة المتنوعة في كرنفالية فضاءات التنقيط في بنية المحذوف، فيما تبقى مروياته تحوي ذلك الحدوث العدمي من جملة (أتهجى أبراجي بكآبة) واللقطة الثانية هي حالة توكيدية في مجال الانفصال أو اللا تواصل مع عدمية الوجود في حراك الأشياء الخارجة من معنى موقفية الشاعر الاعتبارية (كأنني على شفا حفرة من هذا العالم) . أما الحال في قصيدة (الأرجوحة) حيث نقرأ:

ظِلاّنا يَقْتربانِ مِنَ العَتَبة

هذا يَتَخَلَّقُ في نَهْر العُمْرِ ....

خَفِياً

وَالآخرُ يَفْتَضُّ تُخُومَ الوَقْتِ ....

وَيَمْضِي . / ص78

علاقة المفتتح الصوري في النص، تزدحم في حيز شعري ملتئم على كينونته الذاتية وسيرة ذلك المنشطر نحو حساسية تفارقية من الوجود الآخر (ظلانا يقتربان من العتبة .. هذا يتخلق في نهر العمر .. خفيا .. والآخر يفتض تخوم الوقت .. ويمضي) من الواضح أن هذه العلاقة النصية في متن مستوى المقاربة مرتبطان أرتباطا وثيقا في مهمة مسافة الزمن والفعل الدوالي لذا نجد مضمار المدلول يعتمد مطابقة ما منشطرة من شيفرة (الوجود / اللاوجود / الأنا / الآخر) وصولا إلى غاية المتحدث تعديلا في مسار العلاقة التوصيفية في حالات موجهات المتكلم ووظائفه الأحوالية:

يَتَوزَّعُ في فاتَحةِ الخِصْبِ ... فُصُولاً

مِنْ خُبزٍ وَدماء

هذا ظِلُّك ... أمْ ظِلّي ...

أَمْ نَصلُ قَتيلْ

يَقْذفُني كالأُرْجُوحةِ في الحَلَبة

وَيَلُمُّ بقايايَ حُقولاً مِنْ شِعْرٍ

وَرُواءْ . / ص78

 

1ـ التبديل والاستبدال:

تتكشف الدوال في المقاطع المعروضة أعلاه في نص القصيدة عن حالات ابدالية ـ استجابية شبه تضامنية وحساسية وظيفة الاستبدال في مستويات حراك الجمل، مما جعل الخطاب في المقاطع أكثر تداخلا وتفاعلا ما بين ثنائية الإبدال والاستبدال، وصولا نحو الركيزة الذاتية المضمرة في السياق الدالي، وعلى هذا النحو نستعرض ما قاله الناقد السيميائي جوزيف كورتيس من هذا القول: (مشكل الاستبدال كله نوع من العملية المعكوسة للتبديل وفيه الدال يمكن أن يقابل مدلولات مختلفة، وبالعكس نفس المدلول يمكن أن تعبر عنه دوال مختلفة . / سيميائية اللغة ـ جوزيف كورتيس / ص64) وبهذا المعنى يمكننا معاينة الإجراء الاستبدالي في جملة (هذا ظلك .. أم ظلي) أن التعادل الافتراضي في بنية الاستبدال هنا تكشف لنا عن حاصلية الناتج في بنية المحذوف من الفضاء النصي ـ اقترانا لها بذلك الحاصل المفترض بين العلاقة الإشارية الواردة في الجملة، وذلك المدلول القائم بينهما في مسار التبديل الدلالي، وذلك ما يجعلنا نفهم جملة (أم نصل قتيل) على أنها المخصوصية المرجحة في دلالة المحتمل الذي هو بمثابة العلاقة المماثلة في مسار الوظيفة الظلية المتقادمة من دليل الأرجوحة .

ـ أنسنة الصورة الشعرية وحساسية الأستدعاء المضمر

تتأكد أنسنة حالات الصورة الشعرية في منحى بنيات قصائد مجموعة الشاعر، نحو ذلك التفعيل الدلالي المخصوص عبر وحدات البنية الدوالية في القصيدة ومحتملاتها المتشكلة في خلق الصورة التشكيلية الأكثر غورا في كوامن لغة المحاور الشعرية، وبهذا الصدد تواجهنا قصيدة (الطائر) وقصيدة (العتايج) وقصيدة (الشاعر):

جَسَدٌ ناحِلٌ كالقَصِيدة

لا زَادَ غيرُ هَشِيمِ الحُرُوفِ

وَبُرْعُمُ ضَوْءٍ يُزنِّر في الذاكرة . / ص50

تتأكد من هذا الفضاء محاور أنسنة الذات الشاعرة إلى محمولات أحوالها الداخلية المؤولة بأوصافها من ناحية الاستثناء واللحظة القاسية من استجابة صوت أنسانية الشاعر ـ تعبيرا صوريا ظاهرا أخذ يكشف عن أشد اللحظات في انسانية أحوال الشاعر وأنسنة دواله الواصفة، والحال يطرح ذاته في قصيدة (تقاسيم الناي الأولى) وقصيدة (إيماءات بعيدة) والحال أيضا من أنسنة المحاور في قصيدة (قطاف) المهداة إلى الكاتب ناجح المعموري:

بِأيِّ فَمٍ سَتَقُولُ القَصِيدة

الرَّبَابَةُ دَارَتْ بِنَا مِنْ زَمَانْ

وَعَلَى حائِطٍ مِنْ رَمِيمِ البَقَايا

رَأَيْتُ المَدِينةَ تَبْكِي ... وَفَانُوسَها

جُثَّةً فِي الظَّلامْ . / ص30

ـ تعليق القراءة:

لاشك أن موجهات قصائد مجموعة (صحيفة المتلمس) للشاعر المتفرد عبد الأمير خليل مراد، بمثابة فضاءات للنموذج الشعري المتمخض عن فاعلية مركزة في أدق تفاصيل شعرية الواقعة المرجعية وسمو الدلالة المنفتحة نحو لغة المعطى الداخلي والخارجي من طاقة الرؤيا الإيحائية المؤثرة لدى الشاعر .. أقول حاولنا في الفروع المبحثية من مقالنا هذا، تقديم قراءة بسيطة ومقتضبة عن سمات الإجرائية الدوالية في متون قصائد المجموعة، والتي أخذت تكشف لنا بالوقائع النصية عن علاقات دلالات القصائد المحملة بطبيعة مركزة في جمال اللغة ونصاعة الأسلوب الشعري المتاح في مجال نصوص المجموعة عبر كامل وظائفها التي لا تتوقف على مسارات الشعرية الآنوية من مساحة لغة الشاعر الذاتية، بل أنها ذلك الخطاب الحلمي في الزمن واللازمن وعبر مقترحات ذلك البديل العدمي من جدوى تحاورية وجودنا النسقي على شاشة الوجود أو اللاوجود في ذاتية الأشياء المصورة في مضمر القصيدة .

 

حيدر عبد الرضا

 

فيرجوالية.. رواية الحداثة والتجريد

التفاصيل
كتب بواسطة: احمد عواد الخزاعي

احمد عواد الخزاعيبمعزل عن عناصر الرواية الرئيسية، التي يستمد القارئ منها معطيات النص ودلالاته، كتب سعد سعيد روايته (فيرجوالية) لتكون نصا حكائيا مجرداً، يشكل الحوار عموده الفقري، بغياب عنصر الزمان، الذي يلعب دوراً مهما في بناء النسق الحكائي وتسلسله، وعنصر المكان المسؤول عن منح القارئ منصة لرؤية الاحداث والتفاعل مع بيئتها، اضافة الى افتقادها اهم عنصر في السرد الروائي وهو (الحدث الحقيقي)، الذي يشكل قطب الرحى الذي يدور حوله النص ويستمد منه شرعيته ووجوده. كل هذا الارباك الذي احدثه سعد سعيد في ابجديات السرد الروائي، هو بالمحصلة لا يشكل مثلبة عليه، بقدر ماهو ايذان بولادة اسلوب سردي حداثي، يمكن ان يتواكب مع التطور الحضاري والتقني الذي يشهده العالم، برؤية فنية تفاعلية تستمد ادواتها منه، فهو نص افتراضي غرائبي غير واقعي في معطياته وبواعثه، ينشأ من حصول عطل في حاسوب روائي، ينتج عنه حوارات جدلية افتراضية بين الكاتب ووحدة (SSR2981957-TS) في الحاسوب والتي لم تخلو هذه الجدليات من حضور المنطق والفلسفة فيها.. (SSR2981957-TS  لا يفهم معنى كثير من الكلمات يستخدمها بشر مثل فلوس جنس، انثى، رجل، امرأة، شرف، اخلاق، مبادئ وغيرها) بعد هذا الحوار بين انس حلمي مع وحدة SSR  في الحاسوب، والذي يطلق عليه اصطلاحا (السرد الكاذب) كون احد طرفي الحوار ليس له وجود حسي على ارض الواقع..  تقرر وحدة  SSR الحاسوب بأن تنشر كل حوارات الروائي انس حلمي على مواقع التواصل الاجتماعي (قرر SSR2981957-TS  ان يستعيد معلومات محذوفة وينشرها على موقع حقيقة حيث تعود بشر مدير انس حلمي ان ينشر بعض ما يكتب). هذا الحوار الافتراضي الكاذب، يفتح للنص مدخلاً اخر اكثر صدقاً من سببيته، عندما يبدئ جهاز الحاسوب باستعراض حوارات انس حلمي مع مجموعة من اصدقائه والذين كان معظمهم من النساء، وهنا يبدئ  سعد سعيد باستخدام ادواته الفنية والمعرفية في صياغة شخصياته وميولها وافكارها وتناقضاتها، بغياب البعد السيميائي عن النص وتفاعلاته البيئية (تأثيث مكان الحدث) و(التشيؤ: اي ارتباط الابطال بالمكان وتأثيراته النفسية والسلوكية عليهم).

سبع شخصيات مختلفة (بيئياً ومعرفياً وثقافياً ونفسياً وسلوكياً) اتجاه ثابت معرفي وثقافي ونفسي واحد هو (انس حلمي)، الذي اشار النص في بعض محطاته على انه الروائي نفسه، وذلك بذكر أسم روايته محل النقد (فيرجوالية) وهذا اشعار تطميني للقارئ لإيقاعه بما يعرف ب(وهم الاقناع) اي حضور الروائي في نصه.

حوارات مطولة واخرى مقتضبة، وانتقالات سردية سريعة بين هذه الحوارات، التي تنوعت بين شاخصين رئيسيين هما (الثقافة والجنس) مع الحفاظ على بؤرة علائقية مركزية، هي علاقة البطل انس حلمي مع (روح هائمة) والتي سعى الروائي الى انتشال هذه العلاقة من واقعها الافتراضي الى الوجودي، حين اقدم بطله على السفر الى استراليا لرؤيتها، بعد ان عرفت بطبيعة علاقته الجنسية مع قريبتها ميساء، في انتقالة سردية عمودية، غريبة ومفاجئة تقاطعت مع افقية النص ونسقه الحكائي، الذي اخذ منحاً حوارياً افتراضياً هو اقرب الى ما يسمى ب(مسرح العبث)، فأنتقل النص من التعاطي مع العالم الافتراضي وبواعثه النفسية وتأثيراته على سلوك الانسان المعاصر، الى الحديث عن اخلاق ومبادئ البطل انس حلمي، الذي رفض ان يمارس الجنس مع روح هائمة، لتعارض هذا الفعل مع مبادئه واخلاقه وقيمه السامية.. لكنه برر هذا العمل على لسان بطله في حوار لاحق بينهما :

2175 سعد سعيدروح هائمة :لكن أعبرت المحيط الهادئ لتبقى ثلاثة ايام فقط هل انت مجنون؟

انس حلمي: لقد اخبرتك منذ البداية

روح هائمة: مالذي اخبرتني به؟

انس حلمي: انني مجنون

ربما فسرت مفردة (مجنون) الكثير من التذبذب الذي طال شخصية البطل انس حلمي، وتأرجحها بين (الرذيلة والفضيلة، العهر والشرف، الصدق والكذب، المكر والنبل)، وما يفسر جزء من هذا التذبذب، هو الاطار الحكائي العام الذي منحه صفة (الصياد) في العالم الافتراضي الذي زج نفسه فيه هربا من مشاكل زوجية معقدة.. لكنه حاول ان يظهر خلاف ذلك، بلعبه لدور الضحية بين الحين والاَخر، كما في طبيعة علاقته مع (ميساء) التي لقبها بالعاهرة، حين خطط والح عليها لاستدراجها الى لقاء حقيقي كي يمارس معها الجنس، وعندما تحقق له ما اراد، استنكر ما حصل، والقى باللوم عليها .

(فيرجوالية)  نص رائد في عالم السرد الروائي، لانه انتهج التجريد كأسلوب حداثوي، متعكزاً على ركيزتين أساسيتين:

اولا: العنوان الغريب (فيرجوالية) الذي اشار الروائي الى معناه من خلال حوار ثقافي بين انس حلمي وروح هائمة :

- اهلا بك في العالم الافتراضي في الفيرجوالية

- ماذا ؟

- الفيرجوالية هي كلمة من اختراعي مأخوذة من (virtual world) وهي تعني العالم الافتراضي.

لكن هذا المصطلح العلمي التقني الذي استنبطه الروائي من مفردتين انكليزيتين، هو قريب من حيث اللفظ والمغزى من مصطلح طبي يسمى (متلازمة فيرجولي): وهو نوع من الاضطرابات النفسية النادرة، التي توهم الشخص أنه يرى جميع الناس شخصًا واحدًا، فأي شخص يقابله سواء يحبه أو يكرهه هو نفس الشخص.

وهذه المقاربة التي ربما تكون قد حدثت مصادفة في العنوان، هي مماثلة لجزء من السلوك النفسي للبطل، الذي اعتمد على الشك والريبة والميل الغرائزي مع كل المتحاورات.. لكن يبقى ما اشار اليه الروائي في تعريف العنوان هو الأساس في تعاطينا مع النص وعنوانه.

ثانيا: العالم افتراضي، الذي زج الروائي ابطاله فيه، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي ونوافذه التي تتيح للمستخدم التحاور مع الاخرين بكل حرية، وتجريد النص من كل ادواته الفاعلة والمؤثرة، التي تشكل دعائم رئيسية للفن الروائي التقليدي، واعتماده على الحوار فقط في ايصال ما يريد، مستخدماً لغة حداثية، وهي الاداة الوحيدة لدى سعد سعيد في ادارة النص، والتي اتسمت بالبساطة والذكاء في انتقاء المفردات، ومراعاة المستوى الثقافي والمعرفي للمتحاورين، وحضور الاصطلاحات الحداثية العلمية والتكنلوجية المعاصرة، وكان يجب ان يبقى النص في هذا الاطار الافتراضي التجريدي، ومنعه من الانزلاق الى الواقع الفعلي، كما حدث في علاقة البطل مع روح هائمة، وتطور هذه العلائق الافتراضية بدافع غرائزي منفلت، لكن الروائي اعادة النص الى واقعه الافتراضي التجريدي من خلال الخاتمة، التي مثلت حوارا افتراضيا كاذبا بين وحدة SSR وبين انس حلمي، عَبر حوار فلسفي يعي جيدا ازمة الانسان المعاصر في هذا العالم المادي وسطوته عليه:

- يا مسكين هذا الذي لن تستطيع اتقانه ابدا ولذلك ستبقى مجرد الة

- قلت لك اني لست بالة

- كائنا ماكنت انت لست بإنسان ولذلك لن تفقه المنطق الحقيقي

- لم افهم ما تريد قوله

- ولن تفهم .. فالإنسان يستطيع ان يخرق المنطق احيانا ومع ذلك يبقى بأمان.

 

احمد عواد الخزاعي

 

 

اساطير الاولين.. الاسطورة والمعجزة

التفاصيل
كتب بواسطة: مريم لطفي

"وقالوا اساطير الاولين أكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا"

الاساطير في اللغة جمع اسطورة ويراد بها كلام ملفق لااصل له  ومعنى اساطير الاولين في القران الكريم ماسطره وكتبه الاولين من اباطيل  فهي حكاية تروي احداث خارقة للعادة وتتحدث عن الالهة والابطال وتعبر عن معتقدات الشعوب في العصور الاولى وقد تتحدث عن أناس حقيقين واحداث وقعت فعلا مع الكثير من المبالغة والخيال لتاخذ مكانتها بين الناس،ثم تسلقها الالسن ولذلك  وصف المشركين دعوة الرسول ومعجزة القران بالاساطاير لانها –الاساطير- كانت موجودة في الازمان الغابرة وتناقلها الناس كجزء من حياتهم وتراثهم، واتخذوا موقفا معاديا للقران ودعوة الرسول محمد(ص) لان الدعوة لاتخدم مصالحهم باي شكل من الاشكال، واعتبروا ان كل ما جاء به الرسول  من الاساطير"وقالوا اساطير الاولين "لكي يضعفوا القيمة الحقيقية والاعجازية التي جاء بها القران،وان النبي لم يأت بشئ جديد وانما كرر ماسمعه من اساطير واخبارالامم السابقة، لانهم كانوا يستمعون الى القران ويرون من اياته ودلائله وحججه مايثبت صدق النبي لكنهم يصدون عنه لان الله جعل على اذانهم وقرا والله لايهدي القوم الظالمين . وقد تحدث القران عن الاساطير في مواضع عدة ليبين زيف المشركين وموقفهم من الدعوة "وجعلنا على قلوبهم أكنة ان يفقهوه وفي آذانهم وقرا،وأن يروا كل آية لايؤمنوا بها،حتى إذا جاؤك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا اساطير الاولين".

والاسطورة في اللغة هي من سطر وتعني الكلام المسطور "المصفوف" ولايشترط فيها التدوين،لكن بالضرورة ان تكون سطر وراء سطر فتظهر كالقصيدة ليسهل حفظها وتداولها اي انها تتناقل شفويا بسطورها،وتعد جزءا من التراث القديم الذي يعبر عن نتاجات الاولين،فهي اذن قصة شعرية مصفوفة تحتوي على موضوع ديني يتعلق بالقوى العلوية والخفية"الغيبية"  وتعبر عن معارف الانسان الاول والتي تتعلق بالالهة او انصاف الالهة،والاسطورة تتمتع بقوى خارقة منها مايخص الحياة والموت والخلود، وتشترك مع الفلسفة في موضوعاتها غير ان الفلسفة تحاكي العقل بينما الاسطورة تستند الى الخيال ومنها مايتعلق بالقوى الخارقة للطبيعة،والحقيقة انها تتخذ من الاباطيل والخرافات والميثولوجيا موضوعا لها فهي الوعاء الذي سكب فيه الانسان الاول معرفته التي صاغها عن طريق الايحاء والتخيل.

وبما ان الانسان الاول قد عرف الاسطورة ووضع اسسها وحدد موضوعاتها التي اتخذت من الامور الخارقة نهجا لها لكي يستطيع ان يقنع العامة بمضمونها،لذا فعندما اهتدى  الى عبادة الله الواحد وباتت المعجزات هي السمة التي تلازم الانبياء كل حسب عصره وطريقة فهم الناس لروح العصر ومايسوده من ظواهر مادية او طبيعية تسيطر عليه فقد اوكل الله تعالى لكل نبي معجزة لاقناع الناس بالايمان بالله تعالى وكما نعرف ان من اصعب الامور على الاطلاق تغيير العادات والمعتقدات، والمعجزة عبارة عن امر خارق للعادة وهي دليل واثبات حسي او معنوي ولايستطيع احد من البشر الاتيان بمثلها لانها من عند الله جل وعلا تختص بانبياءه لتكون دليلا على صحة نبوتهم ،وقد اختلفت المعجزات باختلاف المجتمعات وتعددت وقد اغدق الله على انبياءه ورسله بقدرات خصهم بها كسبيل لهداية الناس مثل النار الباردة التي لم تحرق ابراهيم(ع) ومعجزات موسى(ع) الكثيرة ولعل اكثرها اعجازا اختراق البحرليجعل الناس يؤمنون به في وقت ساد فيه السحر وكان لابد ان ياتي بامر خارق" وأوحينا الى موسى ان ألق عصاك  فاذا هي تلقف مايأفكون"

والقدرات التي وهبها الله لعيسى "وأبرئ الاكمه والابرص وأحيي الموتى بإذن الله"في وقت سادت فيه الامراض النفسية والجسدية،فلابد ان تكون قدراته الاعجازية ملائمة لظروف عصره، وغيرها من المعجزات التي اوكلت لانبياء الله،واذا تاملنا نزول القران  لوجدنا انه نزل على قوم متفوقين لغويا  وبلاغيا وان اللغة هي الفيصل الذي يتميزون به لذا فمعجزة الرسول محمد (ص) التي وضعها الله كدستور للحياة كانت ولاتزال كتابا لغويا بلاغيا اعجازيا بامتياز،لم يستطع احد ان ياتي بمثله"قل لئن اجتمعت الانس والجن على ان ياتوا بمثل هذا القران لايأتون بمثله"" والقران صالح في كل عصر واوان وقد عارضه المشركين والمشككين واعتبروه من الاساطير،ليفندوا الدعوة الاسلامية،كما ان رحلة الاسراء والمعراج التي حدثت نتيجة اضطهاد المشركين للنبي ومقاطعته وفقدان زوجته وعمه ،جاءت كمكافأة داعمة ومؤيدة لدعوة الرسول محمد(ص).

ان المعجزة تزيد الرسل تاييدا وايمانا من قبل الناس الذين يطلبون دليلا ملموسا لاقناعهم،وهي حجة الله على خلقه فلو لم تاتهم البينات والادلة لكان حجتهم يوم القيامة الكفر لانهم يبررون ذلك بانهم لم يتلقوا بلاغا من الله"قال الم ياتكم نذير"،لذا فمن عدل الله ورحمته ارسال الرسل بأدلة وبراهين ومعجزات ثم يترك لهم الخيار اما الايمان او الكفر وعلى الله تعالى الحساب.

لقد خلط الناس بين المعجزة والاسطورة  في وقت سادت فيه الاساطير وتلتها المعجزات فاعتبرها الانسان البسيط او المحدود الذكاء او الذي يلجأ الى نكرانها لغاية ما، بانها واحدة نظرا لقدرتها على اختراق الطبيعة،وهذا مانراه جليا بالتشابه الكبير بين الطوفان في ملحمة كلكامش وطوفان نوح والكثير من الامور التي جاءت بها الملحمة والتي ذكرت بالكتب السماوية كالهة الحياة السومرية التي تم خلقها من ضلع "انكي "لتشفيه بعد اكله للزهور الممنوعة وهي مشابهة لقصة ادم وحواء في سفر التكوين، واذاتاملنا قليلا وكثيرا سنجد ان الملحمة حدثت في عصر كان التوحيد فيه موجوداوالدليل  على ذلك ان التاريخ الانساني بدأ بأدم وادم كما نعرف كان نبيا وقد علمه الله علوم السموات والارض ليوكل اليه ادارة الارض "وعلم ادم الاسماء كلها"ولابد ان تنتقل الصفات الوراثية  او المكتسبةالى ابناءه وكل الامور بما في ذلك قصة الخلق و يرجع المؤرخون التناسل البشري ل" شيت"وهو ثالث اولاد ادم جد نوح (ع) والجديربالذكر ان ابن حفيد نوح وهو"النمرود" بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح كما ذكره ابن كثيروهو من بنى برج بابل  ثم بلغ به الطغيان حدا ليدعي الربوبية! "الم ترالى الذي حاج ابراهيم في ربه "وقد كان له النبي ابراهيم(ع) بالمرصاد ووقف بوجهه وانجاه الله من بطشه  ثم سلط عليه بعوضة اماتته موتا بطيئا،وعليه يكون من المنطقي ان طوفان اوتنابشتم في ملحمة كلكامش هو تقليد ونسخ لطوفان نوح، اذا اخذنا بالحسبان ان دين التوحيد كان موجودا اصلا  وجود الكثير من الانبياء  وقت الملحمة".

ولذا فمن الارجح ان تكون الاسطورة الصورة المقلدة للمعجزة مضافا لها بعض الامور الخارقة المنسوجة من الخيال.

هذا الخلط بين الاسطورة والمعجزة جعل الانسان  غير العارف  او الذي يتجرأ على كتاب الله لمعاداته بان يصفه "اساطير الاولين"نظرا لكثرة الاساطير التي سلقتها الالسن ، لذا فمن الطبيعي على من استحب الكفر على الايمان ان يلجأ الى اي اسلوب يثنيه عن الايمان بالله وتصديق الرسول ،ثم ان الكثير من المعجزات حدثت امام مراى الناس كحادثة ابراهيم وحادثة الطوفان التي اختلطت ماهيتها على الناس بين الاسطورة والمعجزة..

وعليه فان اوجه التشابه والاختلاف بين الاسطورة والمعجزة يتجسد بالاتي:

-ان المعجزة من الله جل وعلا بينما الاسطورة من صنع الانسان.

-تحتاج المعجزةالى قدرات خارقة للقيام بها،فيما تحتاج الاسطورة الى خيال خارق.

-ان المعجزة آية  تحدث بسبب يرتأيه الله سبحانه وتعالى فتكون كرد فعل لعمل ما،كأن تاتي على قوم كفار فتكون المعجزة عقابا او ان تكون ثوابا كحادثة ابراهيم اي انها تحدد بزمان ومكان،فيما لاتتطلب الاسطورة ذلك.

- المعجزة امر خارق للطبيعة يقوم بها الله دعما لانبياءه لتكون دليلا على صدقهم ومدعاة لتصديقهم،فيما تكون الاسطورة عمل انساني بطولي لقصة خرافية مسّطرة.

-المعجزة تترك اثرا واضحا على مرأى ومسمع الناس باعتبارها آية تستند الى واقع حقيقي ملموس،فيما تعتمد الاسطورة على الخيال الغيبي او السحر الزائل!

وهكذا فأن المعجزة اختص بها الله في عباده ومخلوقاته وظهر الاعجاز واضحا في كل مرافق الحياة ،بينما اقتصرت الاسطورة على عمل نعتبره الان وبعد مرور السنين عملا ادبيا روى احداث خيالية عن ابطال خياليين.

 

مريم لطفي

 

يعقوب صنوع... الرائد الذي عشق المسرح

التفاصيل
كتب بواسطة: د. يسري عبد الغني

يسري عبد الغنيولد يعقوب صنّوع 15 إبريل سنة 1839 في القاهرة لوالدين مصريين مقيمين في مصر في حي باب الشعرية  كان والده مستشاراً للأمير يَكَن حفيد محمد علي باشا، ويروى أن يعقوب كتب قصيدة مدح في يكن الذي أعجب بها ولم يصدق أن فتى في الثالثة عشر من عمره هو الذي كتبها

فأبتعثه الأمير يكن لدراسة الفنون والأدب في إيطاليا على نفقته سنة 1853، ثم عاد يعقوب سنة 1855 ليعمل مدرسا لأبناء الخديوي يُدرِّس لهم اللغات والعلوم الأوروبية والتصوير والموسيقا.

عين في عام 1868 مدرسا في مدرسة الفنون والصناعات في القاهرة، وعضوا في لجنة امتحان المدارس الأميرية. كان بارعا في عدة لغات أهمها العربية والعبرانية والإيطالية والفرنسية والإنجليزية والألمانية، مع إلمام بالأسبانية واليونانية والروسية والبرتغالية وغيرها.

عام 1869 فكر يعقوب في تأسيس مسرح مصري تعرض على خشبته مسرحيات عربية متأثرا بما رآه في إيطاليا. وسمح له التنقل بين جميع فئات المجتمع من حرفييها وعمالها وجاليتها الأجنبية والطبقة الارستقراطية التعرف على كافة افراد الشعب المصري آنذاك واستفاد من ذلك في رسم شخصياته المسرحية الكوميدية.

ألف يعقوب صنوع مسرحيات قصيرة ممزوجة بأشعار وقام بتلحينها وعرضها في قصر الخديوى إسماعيل وأمام حاشيته من الباشوات فأعجبوا بها، قرر يعقوب أن ينشئ فرقة مسرحية من تلاميذه وكان هو يلعب دور المدير والمؤلف والملحن والملقن، وعرض مسرحيته على منصة مقهى موسيقي كبير بحديقة الأزبكية بالقاهرة وكانت توجد في ذلك الوقت فرق تمثيل إيطالية وفرنسية تعرض أعمالها للجاليات الأوروبية في القاهرة، ونجحت مسرحيته نجاحا كبيرا.

أنشأ بعدها يعقوب فرقته الخاصة لتقديم مسرحياته وفي فرقته ظهرت النساء لأول مرة على خشبة المسرح. ويرجع لقب موليير مصر إلى الخديوى إسماعيل الذي اطلق عليه ذلك الاسم وطلب منه ان يعرض مسرحياته على مسرحه الخاص في قصر النيل، عرض يعقوب ثلاث مسرحيات هي (آنسة على الموضة) و(غندورة مصر) و(الضرتان) وكانت مسرحيات كوميدية أعجب بهم الخديوي وسمح له بإنشاء مسرح قومى لعرض مسرحياته على عامة الشعب، وقد عرض على هذا المسرح أكثر من 200 عرض ل 32 مسرحية ألفها، إلى أن قدم مسرحية (الوطن والحريه) فغضب عليه الخديوي لانه سخر فيها من فساد القصر ثم اغلق مسرحه ونفاه إلى فرنسا فاستقر في باريس إلى آخر حياته.

انشأ عددا من الصحف نذكر منها أبو نضارة التي اضطر إلى إعادة إصدارها باسم "أبو نظارة زرقاء"، ثم صحيفة الوطن المصري وأبو صفارة التي أيضا اضطر الي تغيير اسمها إلى أبو زمارة، وصحيفة الثرثارة المصرية.

بسبب معارضته للسياسة المصرية في ذلك الوقت غضب عليه الخديو فأغلق مسرحه وأبعده إلى باريس. وألتقى يعقوب أديب إسحاق في باريس وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وإبراهيم المويلحي وخليل غانم ثم مصطفى كامل وغيرهم. ثم واصل دعايته للقضية الوطنية بعد الاحتلال البريطاني لمصر، فأصدر العديد من الصحف بالعربية والفرنسية وأخذ يتنقل في أوروبا للدفاع عن مصر واشترك في الحملات التي شنت على الخديوي إسماعيل والاحتلال البريطاني، وراسل احمد عرابي في منفاه في جزيره سيلان.

رغم أن صنوع كان ميالا للمسرح والتمثيل بطبعه، إلا أنه لم يجد بدا بعد إغلاق مسرحه الذي لم يستمر سوى عامين من أن يخلق متنفسا آخر لآرائه فأسس جمعيتين أدبيتين علميتين في سنة 1872: الأولى: تم تسميتها "محفل التقدم" والثانية:"محفل محبى العلم" وتولى رياستهما.

شرع في إصدار صحفه مكملا ما بدأه بالقاهرة قبل نفيه ونجح في توصيل جريدته إلى أبناء وطنه بالقاهرة وها هو عرضا موجزا لصحافته بباريس:

1- "رحلة أبى نضارة زرقا": صدر العدد الأول منها في 7 أغسطس 1879 وكان على رأس هذا العنوان "رحلة أبى نضارة زرقا (الأولى) من مصر القاهرة إلى باريس الفاخرة، تعلم جيمس سنوا رأى يعقوب صنوع، محرر جريدة "أبى نضارة زرقة البهية والدة النظارات المصرية"، وكانت الصحيفة تصدر في معظم أعدادها في أربع صفحات مليئة بالمحاورات الساخرة والمهاجمة لسياسة الخديوي وحكومته.

2- "النظارات المصرية": صدر العدد الأول منها في 16 سبتمبر 1879 ورسم في صدرها عوينات كتب في أسفلها " جريدة تاريخية علمية تحرير مصر وإسكندرية ". وكانت الصحيفة أيضا مليئة بالمحاورات التمثيلية التي استعاض بها عن غلق مسرحه، وكانت معظم أعداد الصحيفة بها صور كاريكاتورية تصور السياسة وتنتقدها بطريقة فكهة لاذعة.

3- " أبو صفارة ": صدرت في يونيو سنة 1880 وصدر منها ثلاثة أعداد وكتب في صدرها " جريدة هزلية أسبوعية لانبساط الشبان المصرية بحفظهم رب البرية من المظالم الفرعونية منشئها محب الاستقلال والحرية".وكانت متضمنة أخبارا عن أحوال مصر الداخلية، هذه الأخبار التي صدرت تحت باب "مراسلات الجهات" الجديد في مجلة صنوع.

 4- " الحاوى": صدر العدد الأول منها في 5 فبراير سنة 1881 وقد صدر منها أربعة أعداد جاء في صدر العدد الأول منها هذا الشعار "الحاوى الكاوى اللى يطلع من البحر الداوى عجايب النكت للكسلان والغاوى ويرمى الغشاش في الجب الهاوى".

5- " أبو نضارة": صدر منها خمسة عشر عددا كان شعارها " لسان حال الأمة المصرية الحرة"، وقد امتازت هذه الصحيفة بوجود الصور الكاريكاتورية الجميلة البالغة الإتقان، كما تمتاز مقالات الصحيفة بالعودة إلى الأسلوب العربى الأدبى. وكان الهدف من هذه المقلات هو تنبيه المصريين إلى حقوقهم وتحذيرهم من التهاون في هذه الحقوق والتمسك بالاستقلال. وبدأت الجريدة من عددها الثامن حتى العدد السادس عشر في ترجمة ما تنشره باللغة العربية إلى اللغة الفرنسية ،وذلك لتظهر للرأى العام الفرنسى كيف يتدخل الإنجليز والأجانب لنصرة الخديوي على الشعب المناضل المسكين .

6- "الوطني المصري": صدر العدد الأول منها في 29 سبتمبر سنة 1883 أى بعد مضى سنة من الاحتلال الإنجليزي لمصر، ولم يصدر منها سوى عددين، وكانت تصدر في ست صفحات بخلاف صحف صنوع الأخرى التي كانت تصدر في أربع صفحات فقط، وتحدث عن صحفه الأخرى باللغة الإنجليزية التي احتلت فيها جزءا كبيرا وكانت ترجمة لبعض مقالاته المنشورة في الصحف باللغة .

7- "التودد": من صحف صنوع الجادة، وكانت في حجم أكبر قليلا من صحفه، أى في حجم الكتب العادية، وصدرت في مارس سنة 1902، وكانت سجلا لنشاط دول الغرب ، دون العناية بأخبار مصر إلا أخبار التاريخ والآثار القديمة.

8- " المنصف ": صدر العدد الأول منها في 15 فبراير سنة 1899 وكان في صدر العدد "جريدة سياسية أدبية تجارية مديرها ومحررها الشيخ جيمس سافوا أبو نضارة المصرى بباريس " وقد استمر صدور الصحيفة لمدة عامين وكانت حملتها شديدة جدا على الإنجليز وسياستهم في وادى النيل وكذلك في حرب البوير.

9- " العالم الإسلامى": تتميز بلغتها الفرنسية، وصورها الواضحة الدقيقة، وكانت تهتم بأخبار العالم العربي والمسلمين ويظهر ذلك الرسم الذي اتخذه "صنوع" شارة للصحيفة وهو رسم القباب، والمآذن والأشخاص المرتدين للملابس العربية..

كانت الريبورتاجات التمثيلية من العناصر الهامة التي كانت تشغل جميع الصحف التي أصدرها صنوع، وكان يعتمد في ريبورتاجاته هذه على حل جميع المشاكل التي تشغل مواطنيه، والقيام بمعالجتها بطريقة تمثيلية حوارية جميلة تشجع القارىء وتجذبه لذلك قام باختيار هذا الشكل الفنى قالبا يصب فيه مادته الكتابية السياسية. وكان يقوم صنوع باختيار أسماء مستعارة في غالب الأحيان يغطى بها مهاجمته اللاذعة للشخصيات الحقيقية، فكان يسمى إسماعيل شيخ الحارة، وتوفيق توقيف أو الواد الأهبل، ورياض أبو ريض، والفلاح أبو الطلب، ومجلس الوزراء جمعية الطراطير. وكان يعلن رأيه بصراحة في المشاكل الاجتماعية والسياسية تحت هذه الأسماء المستعارة.فقد استعاض صنوع عن غلق مسرحه بكتابة هذه المحاورات التمثيلية، وقد انقسمت هذه الريبورتاجات لنوعين: الأول: المحاورات الثاني: اللعبات

لقد كان صنوع أشبه بالمغناطيس الحساس، سرعان ما يلتقط المشكلات والأحداث، حال وقوعها، ويتناولها بالمعالجة والتحليل في مسرحياته، على نحو ما نجد مثلا في:

مسرحية "البنت العصرية ": حيث تناول مشكلة انسياق بعض الاسر وراء تقليد الغرب في التبرج وانغماس الفتيات والنساء في حياة اللهو والسهرات مبينا ضرر هذا الانقياد الأعمى للتقاليد الغربية وما يتبع ذلك من تفكك، وانتشار الانحلال والتصدع بين أفرادها.

مسرحية "الضرتين": حيث تناول مشكلة تعدد الزوجات وأوضح بصراحة ما يترتب على ذلك من تفكك في الأسرة وتعاسة في المعيشة. وسخر أيضا من الباشوات والأمراء الذين يقتنون عددا كبيرا من النساء في قصورهم كما يقتنون الخيول والأثاث سواء بسواء.

مسرحية "العليل": كانت دعاية لمشروع افتتاح الحمامات الكبريتية ونصح للمرضى والمشوهين الذهاب إلى هذه الحمامات التي تشفى مياهها جميع الأمراض المستعصية.

وإذا تتبعنا إنتاج صنوع بعد إغلاق مسرحه ونفيه إلى باريس سنجده يكتب لعبات تياترية ومحاورات تمثيلية تعالج أيضا مشكلات الساعة السياسية والاجتماعية وكذلك تنتقد التقاليد وما يحدث في المجتمع من نفاق وزيف.

بالرغم من كل التاريخ الذي يحمله صنوع فإن الاديب والقاص المصري محمود تيمور ينفي بوجود شخصيتة أصلا في التاريخ الأدبي المصري. ولا ندري على وجه الدقة على أي مصادر موثقة أعتمد أستاذنا الجليل؟

بقي يعقوب صنوع منفيا في أوروبا إلى أن توفي في 1912 في فرنسا

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

معجم الأساطير الجاهلية: (3)

التفاصيل
كتب بواسطة: د. قصي الشيخ عسكر

قصي الشيخ عسكرأُم خارجة

كانت من أجمل نساء زمانها. تزوّجت عددا كثيرا من الرّجال. زعموا أنّ الخاطب يأتيها فيقول: خطب، فتقول: نكح. كانت ذوّاقة تطلق الرّجل إذا جرّبته، وتتزوّج آخر، وقد ولدت جلّ أجداد العرب .

أمثال العرب، ص58، جمهرة النسب للكلبيّ، ص135، خزانة الأدب 2/224، 6/375، مجمع الأمثال 2/361، المرصع 85، المعارف لابن قتيبة، ص609، المنقوص والممدود، للفراء، ص173.

أم ربيق

كنية الغول.

المستقصى2/41.

أُمّ الصبيان

قيل هي البومة، وقيل هي التابعة من الجنّ.

حياة الحيوان الكبرى، 1/228.

أم عنترة

ينسبها ابنها عنترة إلى حام بن نوح. يقول في ذلك:

يقدمه فتى من خير عبس    أبوه وأمه من آل حام

عجوز من بني حام بن نوح  كأنّ جبينها حجر المقام

ديوان عنترة ص67.

أُمّ عويف

دويبة صغيرة لها أربعة أجنحة وذنب طويل وهي لاتطير، يلعب بها الصّبيان، ويقولون لها:

أمّ عويف انشري برديك. . ثمّت طيري بين صحراويك. . إنّ الأمير خاطب بنتيك. بجيشه وناظر إليك.

وهي رمز الجبن.

حياة الحيوان الكبرى1/408ـ409، 2/100، ربيع الأبرار4/470، المرصع ص

155، معجم مقاييس اللّغة مادّة: أمّ.

أمّ الكلبة

هي الحمّى.

الأغاني17/252.

أمّ مرحب

كانت كاهنة يهودية تتنبأ بالمستقبل.

خزانة الأدب6/64.

الأمي

هو المنسوب إلى أم القرى ، وقيل الأميّون هم العرب الذين لم يكن لهم كتاب.

المفردات في غريب القرآن ، مادة:  أمّ، العقد الفريد4/8.

أُميّة

زوّج في حياته ابنه أبا عمرو امرأته.

نهج البلاغة15/207.

أُميّة بن أبي الصلت

كان مصحوبا تبدو له الجنّ، فخرج في عير من قريش، فمرّت بهم

حيّة، فقتلوها، فاعترضت لهم حيّة اُخرى تطلب بثأرها، وقالت: قتلتم فلانا، ثمّ ضربت الأرض بقضيب، فنفرت الإبل فلم يقدروا عليها إلاّ بعد نصف الليل، ثمّ جاءت فضربت ثالثة، فنفرتها فلم يقدروا عليها حتّى كادوا يهلكون عطشا وعناء، وهم في مفازة لاماء فيها، فقالوا : لاحيلة هل عندك من حيلة؟ قال لعلّها، ثمّ ذهب حتّى جاوز كثيبا، فرآى ضوء نار على بعد، فأتبعه حتّى أَتى على شيخ في خِباء، فشكا إليه مانزل به وبصحبه، وكان الشيخ جنّيّا، فقال: اذهب فإن جاءتكم، فقولوا باسمك اللّهمّ سبعا، فرجع إليهم وقد أَشرفوا على الهلكة، فأَخبرهم بذلك، فلمّا جاءتهم الحيّة قالوا ذلك، فقالت تبّا لكم من علّمكم هذا؟ثمّ ذهبت وأَخذوا إبلهم، وكان فيهم حرب بن أُميّة، فقتلته الجنّ بعد ذلك بثأر الحيّة.

وقد أخبر أحد الرّهبان أُميّة أنّه لن يكون النّبيّ الموعود لأَنّ الرّئيّ التابع له يأتيه من شقّه الأيسر، وهو يحبّ الثياب السّوداء بينما النّبيّ يأتيه رئيه من الجانب الأيمن، ويرتدي البياض.

وهناك اسطورة تقول: إنّ أميّة كان في قوم يتعشون، فجاءت عظاية

فطردوها، فجاءتهم عجوز، فنفرت إبلهم ثلاث مرّات، فغادر أميّة القوم إلى كنيسة فحدّث راعيها حديث العجوز فقال له هي امرأة يهوديّة من الجنّ، فإذا جاءت فقولوا لها: سبع من فوق، وسبع من أسفل باسمك اللّهمّ، فلن تضرّكم، فلمّا رأت العجوز الإبل لم تتحرّك عرفت أميّة، فدعت أن يبيض أعلاه، ويسودّ أسفله، فأصبح أميّة برص، واسودّ أسفله، وفي خبر آخر بينما إذ فزعت إحدى ابنتيه، فقال ماشأنك؟قالت: رأيت نسرين كشطا سقف البيت، فنزل أحدهما إليك، فشقّ بطنك، والآخر واقف علىظهر البيت، فناداه، فقال: أوعى نعم. قال أزكى: قال لا. وتُروى الحكاية عن طريق أُخته أيضا، وعن موته يُذكر أنّه كان في بعض الأيّام يشرب، فجاء غراب، فنعب نعبة، فقال له أميّة: بفيك التراب، ثمّ أقبل على أصحابه، فقال: أَتدرون مايقول هذا الغراب؟زعم أَنّي أشرب هذا الكأس فأموت، وإمارة ذلك أنّه يذهب إلى هذا الكوم، فيبتلع عظما فيموت. فذهب الغراب إلى الكوم، فابتلع عظما، فمات، ثمّ شرب أُميّة الكأس، فمات من حينه، وقد نظم أمية قصة الخليقة في شعره كما وردت في التوراة أو كما وصلت شذراتها من فكر الأمم السابقة التي سكنت في وادي الرافدين وبلاد الشام.

الإصابة1/134، الأغانيّ4/127ـ140، البداية النّهاية2/208ـ211، حياة الحيوان

الكبرى2/108ـ110، 426، ربيع الأَبرار1/796.

أَناهيد

امرأة بغيّ مُسخت نجما، فصارت الزّهرة، وهي إلهة الطّرب

والسّرور، واللّهو، والنّظر إليها يوجب فرحا وسرورا، ومن شأنها الشبق

والباه، والألفة.

تفسير الفخر الرازي 3/238، الحيوان للجاحظ1/113، 2/456، عجائب المخلوقات، ص17.

أنده

يقول العربي لزوجته: إذهبي فلا أنده سربك. أي أزجر سربك. وهي صيغة طلاق كان

الرجل يطلق امرأته بها.

المستقصى1/137.

أنس

راجع نسور لقمان.

أنس بن مدرك

عاش مائة وأربعا وخمسين سنة.

الإصابة1/85، جمهرة النّسب للكلبيّ، ص483، المعمرين ص50.

أنس بن نواس

عمر دهرا طويلا، ونبتت له أسنان جديدة بعدما سقطت الأولى.

المعمرين ص97.

إنسان الماء

يشبه الآدميّ.

المستطرف2/278.

الأنصاب

حجارة كانت العرب يعبدونها وهي الأوثان، وكان بمكّة ثلاثمائة وستون نصبا.

الاتقان1/36، مجمع البيان3/369، المستطرف2/172، معجم مقاييس اللّغة: مادّة نصب.

الأنصار

كان الأنصار يحجّون لمناة، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، وكانوا إذا حجّوا لايدخلون من أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها.

أسباب النزول للنيسابوريّ، ص24، 28، أسباب نزول القرآن للواحدي ص41، 48.

أنوشروان

اشترط على معديكرب شروطا منها أنّ الفرس تتزوج باليمن ولاتتزوج اليمن منها، وفي ذلك يقول الشاعر:

على أن ينكحوا النسوان منهم  وألا ينكحوا

في الفارسينا

مروج الذهب2/82.

أنيب

اسم شخص كان جبانا من يام وهم حيّ من همدان فأراد قومه أن يخصوه لكيلا يورث فيهم الجبن فخافوا أن يعيروا بأنّ فيهم خصياً فعزموا على قتله فقال لهم من والاهم من قبائل همدان إن لم تشركونا في قتله حلنا بينكم وبينه فرماه كلّ قبيلة من همدان بسهم حتى مات وهم يرتجزون ويقولون:

لله سهم مانبا عن أنيب  حتى نوارى نصله في المنشب

منتخبات في أخبار اليمن ص107.

الأهرام

قبور شداد بن عاد، وغيره من ملوك العرب السّالفة الذين غلبوا على بلاد مصر.

التنبيه والاشراف، ص18.

أوال

صنم

الأصنام ص107.

الأوثان

حجارة كانت تُعبد، وكان العرب يسمعون في أجواف الأوثان همهمة.

الحيوان للجاحظ2/457، معجم مقاييس اللّغة: مادة وثن.

أولاد السعلاة

نسبة بعض الآدميين إلى جنس السّعلاة.

الحيوان1/113.

الأوس والخزرج

هما أخوان أوس بن حارثة وأخوه، الخزرج، كان لأوس ولد اسمه مالك، والخزرج خمسة ، فقال عن ولده:  لم يهلك من له مثل مالك. وقال كلاما يشبه سجع الكهان.

الأمالي، القالي، الهيئة العامة المصرية للكتاب، 1976 ، 1/134.

أوس بن حارثة

عاش 220 عاما.

المعمرين ص54

أوس بن ربيعة

عاش 214 سنة.

المعمرين ص101.

أوس بن الصامت

هو أول من ظاهر.

أسد الغابة ص1/177.

أوس اللات

رجل يقال لذريته أوس الله " محوّل"

لسان العرب أوس.

أوّل

هو يوم الأحد عند العرب.

معجم مقاييس اللغة مادة أول.

أويس

من أسماء الذئب مصغر أوس وهي كلمة زجر الغنم والبغر حيث حقروه متفائلين

أن يعوضهم الله بدل الذي افترسه من قطيعهم.

العباب الزاخر مادة أوس، لسان العرب مادة أوس.

إياد

فشا الموت فيهم لبغيهم في الكعبة، وقد عبدت إياد وثقيف بيتا يقال له

اللات، ثم عبدت إياد وبكر بن وائل سنداد.

أنساب الأشراف1/25، نشوة الطرب ص2.

أيادي سبأ

مثل في الفرقة ذهبوا أيادي سبأ أي متفرقين من تفرق أهل اليمن.

معجم مقاييس اللغة سبأ.

إياس بن قبيصة الطائي

كان كسرى يتيمن به.

ديوان الأعشى الكبير ص159.

الأيسار

وهي الأزلام ، وكان مكلفا بها صفوان بن أُميّة، ومفردها يسر وأسماء

القداح: الفذّ، التوأم، الضريب، الحلس، النافس، المسبل، المعلى، والأيسار هم المقامرون نقيض الأبرام، وكان من العيب على الرجل الموسر أن لا يقامر والمثل أبرما وقرونا أنّ امرأة أحد الأبرام استطعمت من بيوت الأيسار فرجعت بقدر فيها قطع لحم فوضعتها بين يديه، وجمعت عليه الأولاد، فأقبل يأكل قطعتين قطعتين، فقالت ذلك.

العقد الفريد3/67، المستقصى1/17.

أيسار لقمان

كانوا ثمانية يضربون معه القداح.

مجمع الأمثال2/302.

إيل

اسم الله.

القاموس المحيط مادة إيل.

الأيل

إذا ضاق من الصيّاد رمى نفسه من رأس الجبل فلا يتضرر بذلك، وإذا لسعته حيّة ذهب إلى البحر، فأكل السّرطان، فيشفى.

المستطرف2/220.

الإيلاء

ضرار الجاهليّة. كان الرجل لايريد المرأة ولايحبّ أن يتزوّجها غيره، فيحلف ألاّ يقربها أبدا، وكان يتركها كذلك لاأيما، ولاذات بعل.

أسباب النزول للنيسابوري ص43.

أيم

هو الجان من الحيّات وفي لغة تميم أين، يقول طرفة بن العبد:

يسري على الأين والحيات معتفيا نفسي فداؤك من سار على ساق.

وأيم مطابق للمعنى العبري ئى بمعنى مارد أو البابلية مو مو بمعنى عنقاء. ص61.

تاريخ الطبري 1/104، شرح اختيارات المفضل ص98-99، اللهجات العربية الغربية

القديمة،   Chaim Rabin، ترجمة عبد الرحمن أيوب ص61، معجم مقاييس اللغة

مادة أيم.

الأيّام

كان هناك تصور للعرب حول الأيّام في السعد والنحس. الأحد أوّل يوم خلقه اللّه من الزمان. الاثنين هو الثاني. الجمعة اجتمع فيه الخلق. السبت خلق فيه آدم. الاربعاء إذا وافق أربعا من الشهر يكون نحسا.

عجائب المخلوقات، ص50، عيون الأخبار1/203، مروج الذهب2/191.

أيّام التشريق

سميت بذلك لأنّ لحوم الأضاحي تشرق فيها للشمس، وهناك من يقول سميت بذلك لقولهم: أشرق ثبير لكيما نغير.

معجم مقاييس اللّغة مادة: شرق.

أيّام العجوز

إنّ عجوزا كاهنة من العرب أخبرت قومها ببرد شديد في آخر الشتاء يسوء أثره على المواشي، فلم يكترثوا بقولها، وجزّوا أغنامهم واثقين بإقبال الرّبيع، فإذا هم ببرد شديد أهلك الزّرع والضرع، فنسبوا تلك الأيّام لها، وقيل هي عجوز كان لها سبعة بنين، فسألتهم أن يزوّجوها، وألحّت، فقالوا لها: ابرزي للهواء سبع ليال حتّى نزوّجك، ففعلت والزمان شتاء كلب، فماتت في السابعة، وقيل هي الأيّام السبعة التي هلك فيها قوم عاد.

ربيع الأبرار1/87 ـ 88، عجائب المخلوقات، ص57.

أين

هو الأيم وهو الجان من الحيات والأين بقلب الميم نونا في لغة تميم.

معجم مقاييس اللغة مادة أيم

***

قصي الشيخ عسكر

 

 

قُبَيْحَة والمتوكل!!

التفاصيل
كتب بواسطة: د. صادق السامرائي

صادق السامرائيقبيحة جارية من أجمل نساء عصرها، (ملكة جمال زمانها)، وإسمها من أسماء الأضداد، أطلقه عليها المتوكل لشدة الحاقدين عليها وحسّادها.

ورغم آلاف الجواري الذين كن عنده (كما يذكرون)، لكن قبيحة قد فتنته وتيمته فأغرم بها، وتمكنت من قلبه ولبه فتزوجها، وما عاد يرد لها أمرا، وبلغت ذروة هيمنتها عليه عندما أنجبت له إبنه (المعتز بالله)، (232) هجرية، الذي كان جميلا ومتميزا بذكائه وقدراته ومواهبه ونبوغه.

وله منها ولد آخر إسمه إسماعيل.

وكان المتوكل مشغوفا بها ولا يصبر عنها، فوقفت له ذات يوم، وقد كتبت بالغالية على خدها "جعفر"، فتأملها ثم أنشأ يقول:

"وكاتبة بالمسك في الخد جعفرا...بنفسي محط المسك من حيث أثرا، لئن أودعت سطرا من المسك خدها... لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا".

وقد شجعت المتوكل على خلع إبنه (المنتصر بالله) وجعل ولاية العهد لأبنها (المعتز بالله) فأطاعها،  لكنه تصرف بغير ذكي، إذ كان يوبخه ويهينه أمام الحاضرين في مجلسه، والبعض ذكر أنه كان عازما على قتله، مما أدى إلى مقتله من قبله، بتحالفه مع الأتراك وخصوصا حارسه الشخصي (باغر التركي)،، وبالسيف اليماني الذ إشتراه وقلده إياه، ليحميه وكان قاتله به.

فالأتراك إستثمروا في الجفاء بين الأب وإبنه.

ويُذكر أنها كانت تحب المال حبا جما، وتجمعه وتتحكم به في الدولة منذ زمن المتوكل، والبعض يصفها بالبخل.

وهي التي إقترحت على إبنها (المعتز بالله )، أن تكون مرتبات الجنود بيده، وأصبحت المسؤولة عن أموال الدولة العباسية والأمينة على خزائنها.

وكان أسلوبها بالنيل من القادة الذين لا ترغب بهم بقطع الرواتب عن جنودهم،  ليثوروا عليهم ويتخلصوا منهم.

وعندما منعت الرواتب عن جنود (بُغا الكبير) أغار عليها، وإستولى على خزائنها، لكن الجند ظفروا به وأعادوها إليها بعد أن قتلوه (وتتضارب القصص حول مقتله)، ويُقال علق رأسه في سامراء وبغداد، وتولى إبنه (موسى) القيادة والواجبات التي كانت مناطة به، وهو الذي قتل (صالح بن وصيف)، وكذلك (المهتدي بالله).

وتذكر كتب التأريخ أن لها باع طويل في دائرة المؤامرات المفرغة، التي حصلت في سامراء بعد مقتل المتوكل، وما أعقبها من فوضى، وتحكم الأتراك المطلق بالخلفاء.

ويُقال ربما (صالح بن وصيف) الذي قتل إبنها الخليفة المعتز بالله، قد إغتصبها بعد أن إستحوذ على أموالها وشردها وأذلها ونفاها.

وكانت خطتها في عدم إعطاء المعتز بالله ما طلبه من مال، بأن الجند ستثور على (صالح بن وصيف) وتقتله كما فعلوا بأبيه، بذات اللعبة أو المكيدة التي دبرتها، وما خطر ببالها أن الأخير سيخلع إبنها ويقتله، وسيستولي على أموالها، وينفيها، فقد كانت متنفذة وذات سلطان، لكنه تغدى بها وبإبنها قبل أن تتعشى به.

وقصة المتوكل وقبيحة تذكرنا بعلاقة (رمسيس الثاني بنفرتاري) التي سرقت لبه وروحه، وتيمته دون آلاف الجواري من حوله.

قبيحة إختفت بعد مقتل إبنها مع خزائن الأموال، ويقال أنها قد حفرت نفقا سريا يتصل ببيتها،  وما أن ظهرت بعد حين حتى داهمها (صالح بن وصيف) وفعل بها ما فعل، ولا يُعرف كيف نجا (إبن المعتز) من سطوة هذا المارد الفتاك المتوحش الطباع.

قبيحة ماتت في سامراء سنة (264) هجرية ودفنت فيها، ولا يزال الكثير مجهول عن شخصيتها، ودورها في الحكم أيام المتوكل وما بعده.

 

د. صادق السامرائي

 

 

العقل والدين.. في مسألة الإلحاد؟

التفاصيل
كتب بواسطة: د. ريكان ابراهيم

ريكان ابراهيمفي علم النفس الديني (4)

لقد صنعَ العقل البشري ديناً كما صنعَ الدين عقلاً. هذا ما حصل عبر مسيرة الإنسان الطويلة إلى أن التقى العقل والدين في محطةٍ واحدةٍ أو حقيقةٍ واحدة هي وجود الله واحداً لا مُتعدداً وشاملاً لا محدداً.

ونحاول الآن أن نفحص الدين (الوسيلة إلى الله) كما حاول العقل أن يصنعه. عندما نقول أن العقلَ صنع ديناً، فمعنى ذلك أن هذا الدين هو مُعطى عقلي أو فاعلية عقلية (Mental activity). وكل فاعلية عقلية لا تعدو كونها وسيلة، كما هو الحال مع اللغة التي هي فاعلية عقلية يتخذها هذا العقل للتواصل والوصول إلى غاية. إن غاية (اللغة، الوسيلة) هي تحقيق التواصل الإجتماعي، بينما يقوم الدين الذي أوجده العقل البشري وسيلةً غايتها الوصول إلى الله.

أ‌- إنسان بعقل ← بوسيلة اللغة ← تواصل إجتماعي مع مجتمع.

ب‌-  إنسان بعقل ← بوسيلة الدين ← الوصول إلى إله.

وكل وسيلة تحمل جانبين فيها: الجانب العملي والجانب النظري. والجانب العملي هو المحسوس الملموس بينما النظري هو الذي يمكن تصورُه لكنه ليس بالضرورة ممكناً أن يتحقق. لقد كان الإنسان قديماً يميل إلى تصديق المشاهدة والميل إلى الجانب العملي أكثر من ميلهِ إلى الجانب النظري وفيه التنظيرات، لذلك أصبح الإنسان كائناً طقوسياً يحاول بالطقوس الوصول إلى الماهية. ولازال الإنسان المعاصر ميالاً إلى المختبر الذي يُقدم له نتائج التجربة. إن الطقوس ممارسات سلوكية تملك قدرة إرجاعية إلى أفكاره (Bio Feed Back)، ومركز هذه الأفكار هو الدماغ.

تبرز لدينا في الإنسان الباحث عن ربِهِ آليتان: آلية الدفاع (Motive) وآلية الحافز (incentive). ويقف وراء الدافع عاملان: حُب الفضول في إكتشاف الشيء والخوف من المصير. الحافز هو وجود ظاهرة المخلوقات التي تَحث الإنسان على إكتشافها وإكتشاف مُوجدها.

وفي علم النفس يرتبط الحافز بالدافع إرتباطاً كبيراً، فكلما كان الحافز كبيراً، ضخماً، مثيراً، دعا إلى وجود دافع كبير ضخم مستثار. أمام هذه المراوحة بين الدافع والحافز حاول الإنسان الأول أن يُوجد طقوساً يتقرب بها إلى فهم الحافز الذي استثاره.

***

إن إنعدام الإستقرار النهائي على فهم الحافز (وجود الله) حدا بالإنسان إلى ظاهرتين:

1- ظاهرة تَعدد الدوافع.

2- ظاهرة الإحتمالات.

وقبل قليل قلنا أن هناك دافع الحُب في الإكتشاف ودافع الخوف من المصير. أما ظاهرة الإحتمالات التي أصبحت لاحقاً نظريةً معترفاً بها في مجالات البحث، فإنها واحدةٌ من وسائل الدافع الى المعرفة. والمشكلة في نظرية الإحتمالات هي مشكلة قدرة تلك الإحتمالات على الإنشطار والتشظي إلى عدد لا محدود من التوقعات على نحوٍ يُربك الفكر وقد لا يقود إلى نتيجةٍ حتمية.

ولكي يخرج الإنسان الإبتدائي من نظرية الإحتمالات التي تحتاج إلى عقلٍ كبيرٍ ناضج في إنشائها والقيام على جداليتها لجأ إلى إقامة الطقوس الميثولوجية فأصبح له دينٌ (إتقائي) يواجه به خوفه بتلك الطقوس وممارستها.

على هذا الأساس كان الدين الذي صنعه العقل ديناً:

1- تحولياً من حالة إلى حالة

2- طقوسياً أدائياً يفتقر إلى النظرية.

ويحاول بعض الباحثين في العصر الحاضر إعتبار الطقوس التي وردت في الدين السماوي (الكتاب السماوي، وممارسة رسوله) بقايا من الدين الأول الذي صنعه الإنسان، ولكن هذا غير صحيح لأن الطقوس في دين السماء تستند الى إرتباط وثيق بين المعملية والنظرية؛ ومثالنا على ذلك: النُذر أو الفدية، تلك الحالة التي أقرها الدين السماوي (دين النضج) لأنها تحمل دلالات ورموزاً تتحقق بها مصداقية السريرة.

إن الدين، صنعة العقل، ظلَ يؤثر في قدرة الإنسان المعاصر على استلهام الإشراق الفاضل في الدين السماوي الذي صنع أو صنَع العقل الإنساني من جديد فظهرت لدينا في هذاالإنسان حالة (التدين) ونعني بها الإتكاء على الوسائل الوضعية في فهم الدين الخالص.

والإنسان كائن بطيء الإنسحاب من معتقداته حتى في أجلىى حالاته الفكرية لانه لا يملك عقلاً (مفكراً) نقياً خالياً من التفكير الوجداني الذي يغطي مساحة العقل بالسلوان العاطفي ورطوبة المشاعر.

والتدين هو الذي أوجد الإنشطار المذهبي في الدين الواحد حينما أصبحت الشخصيات وقداسة الفرد وطهرانية الضريح وإختلاف النظرة إلى طبيعة الدولة التي أنشأها الدين السماوي عوامل ناخرة هادمة لحقيقة الدين الخالصة.

***

قلنا كما نقول الآن أن وظيفة الدين العُليا هي بث الطمأنينة والإستقرار في النفس البشرية، وهذا ما عجزَ عنه الدين الذي صنعه العقل، لأن العقل صانع والدين الذي أوجده العقل مصنوع، والمصنوع لا يجوز أن يكون أكبر أو أقدر من الصانع على أداء المهمة.

هل يرضى الأب أن يكون إبنه قائداً له في مسيرة حياته وهو الذي كان سبباً في ولادته ومُعلماً له دروس حياته؟ وإذا أردنا أن نشير إلى فضيلةٍ للعقل في إختراعه ديناً خاصاً به، مُفصلاً على حالة وعيه المحددة بزمانه ومكانه وثقافته، فإننا ملزمون بالإعتراف بأن الدين ضرورة عقلية للإنتماء على الرغم من الإختلاف القائم في فهم محتواه.

فما دام العقل قد (فكَر) في إيجاد دين ينتمي إلى نفسه وإلى خَلقِه وخالقه فيعني ذلك أن الدين يظل عملاً عقلياً لم يُسعفه الدين السماوي بالتبكير في الظهور فأوجده الإنسان من عندياتهِ.

إذن، لو فرضنا أن الدين السماوي لم يظهر ابداً، فهل كان العقل البشري قادراً على الوصول بتدرجه الديني الذي هو من صُنع محاولاته إلى مرحلة الدين السماوي أم أنه سيستمر في الإنتقال من دين الى دين بصورة وضعية حسية تعتمد على إدراك اللامحسوس بالمحسوس (استخدام الحس الفائق)؟ الذي نعتقده هو انه سيصل إلى مشارف الدين السماوي أو الدين السماوي نفسه ولكن بعد أن يستنفذَ كل محاولاته في صناعة إله على هواه فينشأ عنده ما نُسميه (إدراك اليقين باليأس من الشك).

هنا يلتقي الدين الذي صنعه العقل مع الدين الذي ضيع العقل، وهذا ما يؤكد ان الدين السماوي هو دين الفطرة والفطرة هي التلقائية والإستعداد الجبلي لقبول التوحيد والدين الذي ينادي بالتوحيد.

فلنعترف الآن أن الإنسان في مسألة إعتقاده كان قد دار في حلقة مُغلقة لم يُخرجهُ منها إلا استسلامه إلى القدرة الأعلى وهي الله.

نحاول الآن أن نفحص الدين الذي صَنع العقل، أي الذي أخضع العقل الطاغي المتمرد لقوته ونظَم وعيه بالطريقة التي يريد. إن الكائن الإنسان محكوم بتلاثة معطيات: التفكيروالعواطف والسلوك.

والذي فعله الدين في العقل، لكي يسيطر على هذه المعطيات هو الآتي:

1- قَدم الدين السماوي صيغة المُسلمات وهي النصوص التي لا جدال فيها. ولكي لا تكون تلك النصوص قيوداً على العقل ترك الدين للعقل فرصة التفكير في النص ولماذا جاء بهذه الصيغة الثابته. أي أن الدين لم يسلك مع العقل سلوك التدرج بل قَدم الثابت ليدور حوله النقاش.

2- قَدم الدين معلوماتٍ عن الخَلق (آثار الله) بطريقة رمزية وإشارية تتطلب من العقل البشري إعمال المجاهدة فيكشف تلك الرمزية.

3- جعل الدين ظاهرة الشك قائدة إلى اليقين ولم يجعل اليقين سبباً لإسترجاع الشك.

4- رسخ الدين السماوي في العقل ظاهرة التأمل.ويعرف الكثيرون أن التأمل هو أولى الخطوات إلى المعرفة الحقة.

5- أردفَ الدين السماوي ظاهرة العواطف في الإيمان إلى جنب ظاهرة التفكر لأننا نعرف، وفي علم النفس تحديداً، أن التفكير الوجداني يشحن التفكير العقلي بقوة المتابعة والإستمرار في المتابعة.

6- جَرد الدين السماوي سلوك الإنسان من الممارسات الساذجة والطقوس البدائية في التابو والطوطم والأسطورة لأنها لا تُفضي إلى الإيمان الحق بالخالق الحق.

7- علم الدين السماوي العقل البشري ظاهرة التواضع أمام المجهول لحين إكتشافه فأصبح عقلاً لا يمارس العمل الإختزالي في الوصول إلى النتائج.

***

لقد إتجه الدين الذي صنعه أو أوجده العقل البشري إلى فحص ظاهرة الطبيعية التي تحيط بالإنسان لكنه أهمل أهم ظاهرة إنسانية وهي ظاهرة النفس البشرية بكل ما يكتنفها من غموض وأسرار وخفايا.

فلقد حاول هذا الدين الوضعي حلَ ألغاز البراكين والزلازل والشمس والقمر والرعد والغيوم ناسياً أن أكبر لغز هو هذه النفس العاقلة؛ بينما إهتم الدين السماوي بالنفس واعتبر خَلقها وكينونتها تحدياً واضحاً أمام العقل.

أتزعمُ أنك جُرمٌ صغيرٌ    وفيك إنطوى العالَمُ الأكبرُ؟

إن هناك إختلافاً واضحاً في المعاني والتسميات بين علم النفس العام وعلم نفس الدين.

وسنضع الآن جدولاً لهذه الإختلافات لنُبين فيه ما ذهب إليه علم النفس الوضعي الناتج من الدراسات الإنسانية وما ذهب إليه الدين في محاولته تأسيس علم نفس ديني يصوغ العقل البشري من جديد.

علم النفس العام - علم النفس الديني

1- هو نتائج ما تَوصلت إليه الدراسات الإنسانية للدماغ ومعطياته الفكرية والعاطفية والسلوكية.

 1- هو الناتج الجاهز للنص الديني الذي يعتمد الثبات والتقدير المُسبق للسلوك الإنساني.

2- لم يناقش هذا العلم ظاهرة (الروح) وإعتبر الحديث عنها عودةً إلى بدايات غير واضحةِ المعالم.

2- أكد موضوع الروح وإهتم بها.

3- إهتم بموضوع "الشخصية" وقسمَها على نوعين: السليم والمريض وعدد أنواعاً كثيرة للشخصية المريضة.

3- لا يوجد موضوع واضح باسم "الشخصية" في علم النفس الديني بل أناب عنها مصطلح النفس في صحتها ومرضها كالنفس المطمئنة والنفس اللوامة.

4- إعتبر الدماغ مسؤولاً عن إدارة الصراع في توجيه السلوك وتحديده.

4- تحدث علم النفس الديني عن الأفئدة والقلوب وجعلها شريكة للعقل في ما تفقه فيه أو ما تضمُره من نوايا

5- لم يُفسر الأحلام تفسيراً نبوئياً مستقبلياً بل إعتبرها محاولات رمزية لحل المستعصى من المشكلات التي عجز الوعي عن حلها.

5- تعامل مع الحلم على أنها استنباءٌ بما سيحدث من خير أو شر.

6- لم يؤكد موضوع الجن والسحر والكهانة واعتبرها ميثولوجيا مَجة مُتخلفة.

6- يشير إلى هذه الأشياء بإهتمام واسع ويؤكد أثرها في النفس البشرية.

7- لا يؤمن بالحتمية السلوكية ويعد الإنسان كائناً قابلاً للتعديل والعلاج.

7- يميل إلى تقرير حالة الإنسان الذي يتصرف في حياته على وفق ما هو عليه من ثوابت وُلِد عليها.

***

كان الإنسان في دينهِ الوضعي (الدين الذي أبدعه أو إبتدعه العقل) يتغير لكي يتطور فهو ينتقل من حالة وعي إلى أخرى مستخدماً التدرج الزمني. فإله الغيم عند قوم من الأقوام يتغير إسماً وتكويناً طبقاً لوعي وثقافة أولئك القوم من زمن إلى زمن. وعدَ الأنثروبولوجيون الثقافيون حالة التغير هذه نوعاً من أنواع التطور.

هذا ما حصل في الدين الوضعي بينما كان الإنسان في الدين السماوي (الدين الذي صنع العقل والوعي) مُطالباً بأن يتطور من دون أن يتغير. وقد تحقق ذلك للدين السماوي لأنه أكد استمرارية ثبات مَرافق في حياة الإنسان وأكد مطالبة الإنسان بأن لا يتغير فيها إنما حقه أن يتطور في ضمنها. هذه المرافق هي: الإقتصاد ، واللغة، والمحرم المقدس.

ففي حالة المسلم في الإسلام لا يستطيع هذا المسلم أن يُغير من ثوابت الحلال والحرام في مصادر إقتصاده خلافاً لِما قرره كتابه السماوي (القرآن)، فهو ثابتٌ فيه وعليه أن يتطورَ في حدود هذا الثابت.

وفي اللغة العربية لم يستطع المسلم أن يُغير من لغته التي نزل بها القرآن حرفاً واحداً لأن القرآن عنده هو سيد المعاجم ورائد القواميس الذي يندحر أمامه كل إجتهاد في التغيير. وهذا ما جعل هذا الكتاب صعباً جداً على مترجمه إلى لغة أخرى لأن الترجمة الحرفية النصية أخفقت كثيراً في استلهام روح التأويل وفقه ما بعد المعنى المباشر في الجملة القرآنية.

وأدى ثابت (المُقدس المحرم أو المحرم المقدس) دوراً في العمل ضمن دائرة الطاعة للقوة الأعظم وليس في التمرد عليها، أي في العمل من الظاهرة بإتجاه خالقها. أمام هذه الثوابت وجه الكتاب السماوي العقل إلى العمل في ضمنها فأشاع في النفس البشرية الآتي من التعلم:

1- التواضع الجم في البحث العلمي عن الخالق وانعدام المكابرة في إصدار قرار الإلحاد. لأن العلم يعترف ويناقش في ما وصل إليه ولا يُصدر رأياً بالإلغاء والنفي لما يجهله، وإذا قال عالمٌ عن شيء لا يعرفه بأنه غير موجود لأنه لا يعرفه فقد جَهِل.

2- الصبروالتأمل الكاملان وهما سمتان في طالب التعلم، وبدونهما تشيع اللجاجة والفوضى والإستعجال. وإذا شاع الصبر والتأمل قلت كمية (العُصاب) في النفس البشرية وأصبح صاحبها أكثر إستقراراً ة وقدرةً على الحوار من أجل الحقيقة.

3- العلم بالمقارنة (Comparison learning): وهذا ما كان مفقوداً في الدين الوضعي، فلم يكن مُعتقِدُ دينه الوضعي قادراً على المقارنة بين ما أوكل إلى تصوره في معتقداته وكمية المنجز من هذه المعتقدات.

لقد ظل الذي يتصور ربه أفعى أو كائناً بحرياً أو صنماً حجرياً عاجزاً عن فهم العجز الكامن في هذه المؤلهات عن تحقيق شيء، أما الدين السماوي (وفيه الكتاب) فقد أوقد فتيل المقارنة في العقل.

4- محاربة الشك بفتح باب اليقين: فعلى الرغم من عدِ الشك عند بعض المدارس الفكرية سبباً لليقين فإنه له أثراً سالباً في النفس البشرية حيث يقود أحيانا الى ظهور البارانويا (أفكار الإضطهاد وأفكار العظمة). ولا يمكن أن يتحقق الإيمان ما لم يتحقق اليقين. فالفصامي والهوسي ومريض الأفكار الحصارية ومريض القلق يعانون من الوهم الذي كانت بدايته تدور في دائرة الشك.

***

من هذا الذي أوردناهُ نستنتج أن الدين السماوي أثر في العقل وقاده إلى التوحيد على ثلاثة أصعدة:

1- التفكير: وهو الذي يرتكز إلى الذكاء والذاكرة واللغة والإستنتاج عبر أدوات الحس وما فوقها من قدرة على الإستلهام.

2- العواطف: حين هذبها تهذيباً يليق بوقار الكائن الإنساني المُطالب بكيفية المثول أمام قدرةٍ تتمتع بالمُطلق.

3- السلوك: حين استطاع هذا الدين أن يرسم حدوداً وحرية محكومةً بإحترام حرية الأخر.

لقد حَقق الفكر الإنساني المُلحد بالله إغراء لدى الكثيرين فنشروا نظرياتهم وأفكارهم الداعية إلى إنكار وجود الله، واستطاع هؤلاء بما ملكوهُ من قدرة على الكتابة والنشر أن يُغروا جيل الشباب من بني الإنسان بأفكارهم.

وكثيراً ما يكون الإنسان في مُقتبل عُمرِه متمرداً مشاكساً باحثاً عن وجودهِ عبر قاعدة "خالف تُعرَف"؛ حتى إذا تَقدَم العمر بهؤلاء الشبيبة آلو إلى التمحيص وإعادة النظر في ما أغراهم من هؤلاء المفكرين الداعين إلى الإلحاد.

إن علم النفس الملحد لم يستطع أن يقف أو يصمد أمام علم النفس المؤمن بالله، لأن ذلك العلم كان يدرس السلوك البشري بواسطة مختبره النفسي والعقلي فيأخذ الظاهرة الإنسانية أخذاً تفسيرياً لا تأويلياً.

لقد جعل علم النفس الملحد الإنسانَ نواةً لأبحاثه وأوكل إلى طبيعة الإنسان كل قدرةٍ على الكينونة. ولنأخذ أمثلةً على ذلك: درسَ علم النفس حالة الغضب (Anger) عند الإنسان ووصل إلى أن مركز السلوك الغاضب هو اللوزة (Amigdla) التي تجعل الإنسان غاضباً عندما يتعرض لأسباب نفسية أو إجتماعية أو بيئية؛ فيصبح غاضباً لأن منطقة اللوزة مستثارة، لكن علم النفس لم يستطع أن يجيب عن الأسئلة الآتية:

1- لماذا اصبحت اللوزة مركزاً للغضب عند استثارتها؟

2- لماذا تُثير الأسباب النفسية والإجتماعية اللوزة؟

مثال آخر: قرر علم النفس أن المكان الأكثر من غيرهِ في الدماغ إختصاصاً بالذاكرة هو الفص الصدغي وقرن آمون.

لكن الكتاب السماوي يقول: يومَ تشهد عليهم جلودهم وأقدامهم وأيديهم. والشاهد لا يكون إلا بذاكرةٍ لديه عن الحدث الذي حضر حدوثه. هنا لم يستطع علم النفس أن يجيب عن سبب قدرة الجلود والأيدي على الشهادة.

هذا هو التحدي الذي قام به الدين أمام العقل البشري فإما أن يرفضه هارباً منه إلى الإلحاد أو أن يكتشف حقيقةً لا يستطيع إنكارها. مثال آخر:

1- لماذا تُبصر العين ولا تسمع؟

2- لماذا تسمع الأُذن ولا تبصر؟

3- لماذا لا يضحك الحيوان؟

4- لماذا ننام؟

5- كيف نحلم؟

6- هل ينام الدماغ؟

***

إن العقل المجاهد في محاولة صناعته إلهاً وديناً يوصله إلى ذلك الإله سيلتقي يوماً ما مع الدين السماوي الذي قدَم للعقل صورة الإله وطبيعة الدين الذي أقره الله طريقاً للوصول إليه، وهذا ما حصل عَبر كل ما قدمناه من تدبر وقراءة.

إذا كان الأمر كذلك وقد كان كذلك، فهل يمكن القول إن واحداً منهما يكفي للقيام على حياة الإنسان وصولاً إلى التوحيد؟ هل سيكون العقل وحده عقلاً ونائب فاعل عن الدين كما سيكون الدين ديناً ونائب فاعل عن العقل فيعيش الإنسان بواحدٍ منهما؟

إثنانِ أهلُ الأرضِ: ذو عقلٍ بلا  دينٍ، وآخر دَينٌ لا عقلَ له.

للإجابة عن هذا السؤال نقول: ستستوي كفة العقل والدين وصولاً إلى مرحلة الإيمان بالله على المستوى العقلي الرياضي المجرد لكن لن يغني وجود العقل عن وجود الدين على المستوى القيمي للأشياء وعلى مستوى الأخلاق، لأن العقل في طبيعته لا يؤمن بالقيم ولا أخلاق مع العقل بينما تكمن القيم التي تٌقاس بالميزان ولا تحسب بالعداد في الدين.

فالإيمان العقلي بالله يُشبه الإيمان بالمسألةِ الحسابية يقرأها ويضع حلاً لكنه لا يقيم لها اعتبارات أخلاقية. فيما الإيمان الديني يضيف إلى الإيمان العقلي حلاوة ورطوبة ومذاقاً.

للإيضاح أكثر نقول: هَب أن رجلاً عالماً في الرياضيات أو الفيزياء يُوحد الله ويؤمن بخلقه للصغير والكبير بدون أن يعتنِقَ ديناً، فهل يجد هذا العالم معنى للصلاة والصوم وصولاً إلى رضا الله كما يفعل أتباع الدين السماوي؟ إنه لن يقوم بذلك لإفتقاده إدراك الغرض من هذا، لكن رجلاً آخر عالماً مثله في الرياضيات أو الفيزياء مثلاً يُوحد الله بعد إعتناقه ديناً سماوياً، سيقوم بالصلاة والصوم لأنه يؤمن بهما طريقاً إلى رضا ربه. فالأول لا يفهم معنى للعلاقة بين أن يُوحد الله وأن يُصلي له. هذا المثال يكفي على ما نعتقدُه سبباً للقول أن العقل يُوفر الإيمان المجرد بالله فيما يوفر الدين الإيمان المًعضد بطريقة الشكر لهذا الإله.

***

لماذا يُثير أتباع العقل الأسئلة حول الله فيما يتحاشى ذلك أتباع الدين وخصوصاً الدين السماوي؟ إن أسئلة أتباع العقل تتركز على النواحي الآتية:

1- إذا كان الله هو خالق كل شيء فمن خلق الله؟

2- لماذا أقر الدين قاعدة (لا إجتهاد في النص)؟

3- إذا كان الله جميلاً فلماذا خلق القبح في الأشياء؟

4- إذا كان الله يعاقب المجرم فلماذا خلقه غير قادر على الفضيلة؟

5- إذا كان نور الله يملأ كل شيٍ في الكون فأين تكمن النجاسة؟

6- إذا كانت الوراثة تفعل فعلها في إنتاج أجيال الملحدين فما دور العقل في الإنتصار على الموروث؟

هذه هي أهمُ الأسئلة التي أثارها العقل فلم يجد لها جواباً فمالَ إلى الإلحاد. وفي مقابل هذه الأسئلة لجأ أتباع الدين إلى ترك أسئلةٍ لا يملكون إجابة لها فأقروا ان مجرد إثارة مثل هذه الأسئلة عملٌ يقع في دائرة الحرام، فلجأ الكثير منهم إلى الصمت حتى تناهى إلى أذهان أتباع العقل أن اسئلتهم مفحمة ومعجزة لأصحاب الإيمان.

إن علم النفس يردُ على أتباع العقل بالآتي:

1- في مسألة (مَن خلق الله؟) يسأل علم النفس أتباع العقل ما يأتي: إذا كان النجار قد صنع (خَلق) الكرسي فكيف صنعه؟ إنه صنَعه بالفكرة فمن صنع الفكرة؟ صنعها الدماغ. فلماذا لم يسأل هؤلاء: من صنع الدماغ؟ إنهم لا يبحثون عن صانع للدماغ بل يحيلون إليه قدرة وفكرة الصناعة وينسون أن الدماغ مخلوق.

فإذا وصلنا إلى أن الله هو خالق الدماغ نكون قدوصلنا إلى سؤال: مَن خلق الله؟ ولو أجبنا أتباع العقل بالقول أنه لابد لله من خالق فينشأ سؤال آخر يقول: من خَلق خالق الله؟ وهنا ينشأ الإلحاد بالله لأنه سيُصبح قيمة وسطى بين خالقهِ ومخلوقاته، بمعنى آخر إنه سيُصبح مبعوثاً من خالقه إلينا وهذا لا ينطبق على الوصف الذي أقر بأن الله هو المُطلق.

وإذا أردنا أن نُقرب ما أوردناه بأمثلة فلدينا ما نقول به الآتي: يوجد في عضلة القلب مركز لكهربائية القلب تُسمى (العتبة الصانعة Base maker). وفي الدماغ البشري تنبعث موجات كهربائية من الفص الخلفي له (Occipital lobe) و تبعث الموجات الكهربائية المغذية لفصي الصدغ والجدار والفص الأمامي.

من أين جاءت الطاقة الكهربائية للدماغ مع علمنا أنه لا يوجد أي إتصال للنسيج الدماغي مع أنسجة أخرى أو محطات تغذية أخرى؟ معنى ذلك أن الدماغ صانعٌ لطاقته الكهربائية بنفسه فلماذا لا يقودنا هذا إلى استنتاج أن الله قوةٌ مكتفية بذاتها في صُنع ما تريد؟

2- الدين دينان: دين الإيمان بالله خالقاً أزلياً واحداً لا يتجزأ، ودين العقيدة. والنصوص تخص الحدود التي تجعل للإيمان معنى. مثال ذلك المدرسة : للمدرسة مناهج تُعلم التلميذ الكيمياء والفيزياء والرياضيات واللغة ولها أعرافٌ وطقوسٌ تقوم على إحترام المعلم والنظر إلى المعرفة بأخلاق وإنضباط أمام مُعلمها ولها مراسم إحترام زمن الدرس واللباس الخاص بالتلمذة.

ومثلما لا يمكن الإعتراض على عِلم المدرسة (النص) بينما يمكن الإجتهاد في أعرافها بحرية محدودة، كذلك لا إجتهاد في النص الذي منه وعلى رأسه الإيمان بمنهج الكون (الله).

3- الله جميل وقد خلق القبح في مخلوقاته لكي يُبرزَ صورة صورة الجمال على طريقة صراع الأضداد (الضِدُ يُظهرُ حسنه الضد). ولولا القُبح لما ظهر الجمال. فالكون في كل مفاصله محكوم بالثنائية. فالرسام البارع يرسم المناظر الجميلة لكنه يستطيع أن يرسم لوحةً تظهر قبح رأس البوم.

4- أودع الله في الإنسان عنصري الصراع (الشروالخير) ليرى كيف يجاهد الإنسان في خلاصة من السلوك الشرير.

5- الوراثة مؤثرٌ قويٌ لكن مبدأ الطفرة عامل كبير كما أن وسائل التعليم الجيد تٌخفي الكثير من آثار التوريث السيء.

 

د. ريكان إبراهيم

 

عمّار المسعودي يزرع بهجته شعراً

التفاصيل
كتب بواسطة: د. جمال العتابي

جمال العتابيعمار المسعودي يمتلك أفقه ولغته الشعرية المميزة بإسلوب يعرفه، شديد الإخلاص له، المسعودي ابن (الصلامية) إحدى قرى الحسينية في كربلاء، كتب أول قصيدة له على كيس سمنت، كان أبناء القرية يقرأون للسياب والجواهري، ويقرأون الروايات ويتابعون الأحداث السياسية بعد إعلان الجمهورية الأولى في تموز 58، أولئك الذين تأثروا بالإنفتاح على حركة التجديد في الثقافة العالمية، تركوا بصماتهم على أجيال لاحقة، ومنهم عمار المسعودي، فأصدر مجموعته الشعرية الأولى في بداية التسعينات، وتلتها مجاميع أخرى، آخرها ديوانه الشعري، (عمار المسعودي يزرع بهجته) عام 2017.

هنا تتحول القرية إلى رمز لعالمه الخاص، عالم الروح والعقل، وحتى الخلود، فالشاعر في كل قصائده الوصفية لهذا العالم، يستعين بالمشهد الواقعي اليومي مادام يفيض بالحيوية من حوله، والقصيدة طافحة بالبراءة والبساطة والنقاء بنفس غنائي دافيء، والمتتبع لقصائد المسعودي يجد للطبيعة وجوداً سحرياً ، وأصبح هم الشاعر أن يجمع المكان والزمان والأشياء في لحظة الحضور الأزلي، فإزدحمت قصائده بالتفاصيل و عناصر الطبيعة الساحرة من حوله، ونثر أسماء القصائد موزعة على الأ شجار والفاكهة والمياه والحقول والريح والنخيل والأرض والأقمار والسماء، وأسراب الطيور، والندى والعطش وكأنها أقواس قزح مفعمة بالصور والألوان، والأنغام الصافية، إذ لا تكاد قصيدة واحدة في الديوان تخلو من هذه المفردات.

ان قوةً ما تتملك المسعودي تجد قرينتها في مرتع الطفولة التي ما تزال تشغل كل ركن من أركان وجوده، انه يدرك ما يكتب سوف يرتبط بلا شك بأجمل الأشياء، حين يجدها مصدراً لسعادته وكما يختار، وثمة لغة يحتفظ الشاعر بأسرارها لا تتوفر لشاعر آخر :

لو أني من أوراق وأغصان وأشجار فقط/لكان سهلاً علي أن /أبوح بأسراري عن هجرة الطيور

وفي قصيدة عناصر خالدة يقول:

لا أبحث عن الإرتواء/ما يشدني هو العطش، لأختبر شفتيَّ/لأراقب ما تهرّبين من المطر.

ثمة ساحر خفي يحول الاشياء الى نقيضها أو ينقلها من حال الى حال، هذه الطاقة والإنفعالات لا تلبث أن تجد لها متنفساً في الطبيعة للتعبير عن حرمان من لذة الحب، فإستطاب هذا الحرمان.

يميل المسعودي الى الإيجاز باللفظ، إلى حد الإكتفاء بالإشارة، مقتصد في التعبير، القصيدة لديه تكاد تتحول إلى نقش مختصر أو رسالة مكتوبة على جناح طائر،

لنتأمل (فاكهة لبهجاتي) :

لا أريد أكثر/من أن أغني/لهذه الأنهار/أن أخضرَّ/

بدلاً من عشبة نائية/أن أهدأ/صخبي صار /يؤلمني

وفي قصيدة أخرى يتصاعد الإيجاز والأقتصاد في اللغة:

أنا ريح/لا تحسن /إصطياد/النوافذ

عمار في أعماقه إنسان وحيد، متواضع، حبيس داخل ذاته، يحب الجمال، فهذه الصور المكثفة البسيطة تشيرالى واقع خفي وراء الواقع المرئي الملموس، مستسلم لإغراءات الطبيعة المضنية، لا يتردد أن يدخل ذاته في القصائد كلها:

(سألني، هنائي، راح عني، خرج مني، رماني في جب، لا تلمني، كلمني، يحيط بذاكرتي، انا عاشق نخيل، صرت طيراً منه، أودعني في بهائه، أتفقد أبي، أحلم ان اكون غنياً، أنا أنزل، اتقطر حزناً، أنا أقرب إليك، من الهامش أنا، أنا حفنة ماء.....).

وهناك عشرات الأمثلة، في قصائد المسعودي غارقة في ( الأنا)، لكنه سعى إلى خلق حالة من التوازن والإنسجام في محاولات ونداءات لأمل وحلم، تعبيراً عن إنتماء شاعر عاشق لوطن فالأنا في نهاية المطاف ليس موقفاً عدمياً خاسراً، لأنه عاش أبعاد المأساة بحرارة وصدق، تمثلها في قصائد(أملأ من عناقيده، عبث، أستبدلها بشجرة، لا أصلح للهجرة، أبني وحياتي تتهدم، وغيرها)، في هذه القصائد، تتحول اللغة إلى التزام بالعالم والإنسان، لاتفقد حدودها الجمالية في الصدق بمعناه الفني الرحب لأن صدمة الكارثة أقوى من هذا التيار الهاديء، والمشكلات أعنف من أن تقنع بالقيم الجمالية والأشكال الفنية المحكمة:

أبني وطناً /أسوِّره بالشموع /مرة وبالدموع

في فهرس الأمنيات يخفي إحتجاجه على فوضى العالم وراء الحزن والإكتئاب، وهو في النهاية حزن يوجهه العقل الناصع والوعي الدقيق، الشعر عنده هنا ملتزم، لا بالمعنى الذي تردده الألسنة دون إحساس، إنه شعر يشارك معاصريه آلامهم :

ليتني أنتمي لهذه الأسيجة

تلك التي نزفت على صلابتها/أعظم لحظاتي

صفوفاً في مدارس /حصوناً في سجون

ان كل شيء في شعر المسعودي يبدو واضحاً ملموساً مبتعداً عن الإنفعال، لكنه ملفوف في غلالة شفافة من الرموز والأسرار، وإستطاع الشاعر أن يملأ فراغ الوجود الموحش أو أرضه الحرام المهجورة، لتتحول حياته وتجربته محوراً يعبر عنها في شعره، فأصبح جزءاً من كيانه الشعري لا ينفصل عن العالم المحيط به، محاولاً التوفيق بين عناصر الخلق الشعري، وكأنه يقول :ليس من الخطأ أن تجد الطبيعة طريقها الى الشاعر والإنسان، بل الخطأ أن يفقد الشاعر إيمانه بالحياة.

يضيف عمار عنصر البهجة في أشد الحالات الإنسانية قسوة، وشعره أشبه بحقل كثيف تشابكت فيه الزهور والأشجار والنباتات، تحلق فيه الطيور، ويقطر الندى، وتحولت القصيدة إلى فهرس مفصل بأسماء هذه الكائنات، التي لا تحتاج الى متخصص للتعريف بها، لان المسعودي يقدمها طازجة نابضة بالحياة.

السؤال الأهم، هل يمكن لقصيدة عمار أن تجدد نفسها؟أم تظل تلوذ بإغراءات الطبيعة؟ بما يعني الإستسلام لها، أشد ما أخشاه أن تحتج الطبيعة على الشاعر نفسه، وتبعده عن القصيدة! بإعتقادي ان المسعودي بإمكانه أن يضيف لتجربته عناصر جديدة ومثيرة، تؤكد نضج وعيه الشعري وعمق تفكيره، ان ما تميزت به قصائده من جمال في الأداء والتعبير، وما تمتعت به من طعم شعري خاص، لا تحجب الدعوة الى البحث عن المعنى الإنساني العميق في تجارب المسعودي المقبلة، لتعلن عن نفسها انها فوق المقارنة مع ما سبقها من آثاره الشعرية.

 

جمال العتّابي

 

 

من ثقافة الوعي الى ثقافة التسليه

التفاصيل
كتب بواسطة: أياد الزهيري

اياد الزهيريالثقافه لغةً؛ تعني الفطنه والحذاقه، أما أصطلاحاً؛ فهي نظام يتكون من مجموعه من الأفكار والمعتقدات، والأجراءات، والسلوكيات. والثقافه وفقاً لهذا التصور لا يمكن حصرها في مستوى أرتقائي واحد، بل تتدرج من الحاله البدائيه الى الحاله الراقيه، وهذا ما يكشف التباين في ثقافات الشعوب وكذلك الأفراد في المجتمع الواحد. فالثقافه الواعيه؛ هي الثقافه التي تنور عقل الأنسان، وترتقي في طريقة تفكيره، وتهذب من سلوكه، وتدمجه في دائرة المدنيه، حيث تعبر عن نفسها بقيم التسامح، والمحبه، والأعتراف بالأخر، وأحترام القانون، والسعي لتطوير المعارف والقدرات، وأرتفاع منسوب التعامل الأنساني بين البشر. لا شك أن الثقافه الواعيه تنعكس على الواقع في حاله من النمو والتطور، ويعيش المجتمع في بحبوحه من السلام والوئام والمحبه .

الواضح أن الأمم والشعوب، كلما ترتقي في السلم الثقافي كلما تعيش في حاله حضاريه متقدمه، والسبب أن الثقافه لها صله عضويه مع الجانب الحضاري بلحاظ أن الثقافه عباره عن معارف، وسلوك يجسد هذه المعارف، كما ذكرنا أعلاه في التعريف الأصطلاحي للثقافه، وهذا عكس ما يتصوره البعض، وهو تصور خاطيء، بأن الثقافه تعني مجموعة الأفكار والمعارف النظريه التي يحملها الفرد، وهذا خطأ كبير، وهذا عين ما أشار اليه القرآن الكريم، وصوره بصوره فنيه جميله حيث قال (كَمَثل الحِمار يَحمل أُسفاراً)، فمثلاً هناك الكثير من حفظة القرآن، حيث يحفظوه على ظهر قلب، وهم لا يفهموه ولا يعملون به، فهؤلاء حالتهم كحال الحمار الذي يحمل الأسفار، ولا يدري ما فيها. فالثقافه هي غذاء الأنسان الروحي والوجداني المنعكس على الممارسه والأخلاق، ولذلك عمل الأستعمار القديم على تكريس حالة الجهل في المجتمع لكي يديم وجوده في الهيمنه عليه وأستغلاله، أما اليوم، فالأستعمار يزيف الثقافه ولا يمنعها، ويحرفها، بل ويفرغها عن محتواها الحقيقي، ويحولها الى لون من ألوان التسليه، في محاوله لأشغال الشعوب في اللهو، وعدم الأنصراف للأعمال الجديه، لكي لا تتفرغ للتفكير والعمل الجدي، وتأخذ زمام المبادره بأدارة وتنمية نفسها . كما هناك محاوله تحمل طابع التخريب لهوية الشعوب، وخاصه الأسلاميه، والعمل على تحطيم مرتكزاتها، أملاً في أهتزاز الثقه بها من قِبل أبناءها، لكي يكون ذلك مقدمه لأحلال الثقافه المهيمنه والتي تأتي من خارج الحدود، والدفع بالتماهي فيها والأنصهار بها، رغبةً بأسقاط وتلاشي كل المحرمات التي تمنع الأستغلال والتطبيع الغير مرغوب مع دول لها أطماع توسعيه في بلداننا الأسلاميه، وهذا يأتي من معرفة الأخرين بضرورة القيم الثقافيه الرصينه ومدى ممانعتها وتصديها لكل ألوان الهيمنه والأستغلال للشعوب الأخرى، من هنا علينا معرفة طبيعة الحروب الحديثه والتي تدعى بحروب الجيل الرابع والخامس والتي تعتمد على العامل الثقافي وأستخدامه في أستباحة الشعوب وتركيعها، بدون أطلاق طلقه واحده، بل سيكون أحتلال هذه الشعوب بترحيب أبناءها المخدوعين بما سُرب لهم من ثقافه مزيفه، وتحمل آثار الأفيون، الذي يخدر شباب هذه الشعوب.

أن الثقافه التي يحاول خصومنا بثها بين أوساطنا، هي ثقافة التسليه، وهي ثقافة لهو يمتزج فيها اللهو البري والغير بريء . تقوم على أساس أدخال مفردات الأدمان على الأستهلاك، والغرق برغبات المتعه العابره، واللذه السريعه، وهذه مفردات أن أستبدت بك ستضعف عندك أي حالة تحدي في مسيرة حياتك، لأنها تحبب لك حياة الترف والدعه والميوعه والحياة المخمليه الناعمه، في حين نحن شعوب، وخاصه من عاشت حروب طويله في أمس الحاجه الى العمل الجاد، وأمامنا تحديات كبيره وعصيبه علينا تجاوزها بالمعارف الراقيه والسواعد الخشنه .، فالبلدان لا تبنى بالأماني، والأحلام، ولا ننتظر أن يأتي الأخر البعيد فيبني لك بالمجان.

نحن العراقين لمسنا دخول الثقافه التسلويه ألينا بعد السقوط، والتركيز عليها، ومن مظاهرها كثرة بناء المولات والفنادق الفارهه والمطاعم الكبيره، وترويج أقتناء السيارات الفخمه، والسفر الكثير، وكل مظاهر الهدر المالي الغير مبرر، ولكن شاهدنا وبأم أعيننا كيف أدى ذلك الى شيوع الجريمه، وأنحلال الأخلاق، والرغبه بعدم العمل، والأتجاه لسهر الليالي الحمراء والماجنه، وكلنا لمس التطور اللاأخلاقي في مجتمعنا ونزوعه للرذيله، فقد أنهارت القيم بشكل سريع، وبخطى مخيفه، بحيث أدخلت الرعب الى قلوب الجميع، وأصبح الأمن في خطر، وتعرض المجتمع الى حاله من التصدع غير معهوده، ودخلت عادات وأخلاقيات غريبه عن منظومتنا الأخلاقيه.

لاشك أن ثقافة التسليه لها قوة جذب أقوى، وأكثر أغراء من ثقافة الوعي، وخاصه عندما تأتي بعد فتره طويله من الحروب والحصار، فالنفوس تكون متعبه وتواقه للتسليه والترفيه، فالأستمتاع بها لا بأس به، عندما تكون بحدود معقوله ومقبوله، كحاله يُستفاد منها للتنفيس، حيث يستجمع الأنسان من خلالها قواه، ويعيد توازنه النفسي، وخاصه بعد معانات وحرمان طويل من جراء الحكم الشمولي والديكتاتوري البغيض . فمن المستحسن أن تجتمع ثقافة الوعي والتسليه لكي تغذي الروح والعقل، وتريح النفس معاً، كما الحذر كل الحذر من الأستغراق بالتسليه الى حد الثماله، فهذا النوع يفسد الذوق وخاصه الأستماع مثلاً للموسيقى والأغاني المبتذله والرخيصه، كما أن أرتياد كازينوهات القمار والمراقص يولد خشونة الطباع، ويخلق نوازع الشر في النفوس والعقول، لذى فالثقافه تدخل في صلب حياة الفرد والمجتمع، وهي من تصوغ شخصيتهما، وترسم طبيعة حياتهما، وهي من تقرر درجة الأمان المجتمعي . أن ثقافة التسليه لم تخلق الا شعباً فارغاً، وينحو نحو العبث والفوضى، ولا يستسيغ العمل الجاد، ولا يحترم قيم العمل، لذى ترى هناك من يدفع مجتمعنا الى تكريس ثقافة التسليه، كما من الضروري الأشاره الى عنصر غايه في الخطوره، الا وهي أشاعة ثقافة الشعوذه، عبر برامج تلفزيونيه يقدمها مشعوذين يلعبون بعقول الناس، عن طريق أقناعهم بقراءة المستقبل، حتى أني أرى الأستغراق في مشاهدة كرة القدم، واحده من الممارسات التي تقتل الكثير من الوقت وتستهلك الكثير من الجهد، وقد أشار أحد الباحثين الى دور أغاني أم كلثوم، ومدى تأثيرها على المجتمع المصري، وأشاعتها للأسترخاء فيه، في وقت يكون المجتمع المصري بأمس الحاجه الى اليقظه والحذر من العدو الأسرائيلي، فَنُسبت الى أحد أسباب نكسة حرب ال1967 تأثير أغاني أم كلثوم على المجتمع المصري في أشاعة اللهو والترف والفع بأتجاه الأسترخاء، والأبتعاد عن كل ما هو جاد، ومن مأساة مجتمعنا حتى الطبقه المثقفه لا تتصف أغلبها بالجديه، فتراها تجير الكثير من المؤتمرات واللقاءات الثقافيه الى مهرجانات للترفيه والمتعه والتسويق لأنفسهم .

 

أياد الزهيري

 

قراءة في كتاب جمهرة الألفاظ العامية العراقية

التفاصيل
كتب بواسطة: نبيل عبد الأمير الربيعي

نبيل عبدالامير الربيعيللباحث والمترجم صلاح السعيد

صدر عن دار الفرات في مدينة الحلة بالاشتراك مع دار سما للكاتب والباحث والمترجم صلاح السعيد كتابه الموسوم (جمهرة الألفاظ العامية العراقية) الطبعة الرابعة مزيدة ومنقحة، الكتاب تضمن 352 صفحة من الحجم المتوسط ذات غلاف وطباعة جيدة، وقد تمت فهرست المفردات حسب الحروف الأبجدية مع الإهداء والمقدمة وما كتبه الكتاب حول الكتاب من اعجاب واستحسان، ويعد الكتاب مرجعاً مهماً للمفردات والألفاظ العامية العراقية. وقد اضاف السعيد لهذه الطبعة 765 مفردة عامية جديدة إضافة للمفردات السابقة ليصبح الكتاب يحتوي على 1930 مفردة عامية عراقية مستخدمة في الوسط الاجتماعي. والكتاب ممتع وقد تضمن الكثير ومن الأمثال الشعبية وأبيات الشعر الشعبي العراقي.

الكاتب والمترجم صلاح مهدي السعيد الحلي تولد مدينة الحلة عام 1945م، حاصل على شهادة البكالوريوس في كلية الآداب قسم اللغة الانكليزية، عمل مدرساً داخل وخارج العراق، وهو عضو نقابة الصحفيين العراقيين وعضو جمعية المترجمين العراقيين ورئس اتحاد أدباء وكتاب بابل، وقد ترجم الكثر من المقالات وصدر له أكثر من (20) مؤلف بين الترجمة والبحث والتأليف، وحائز على الجائزة الأولى لوزارة الثقافة العراقية لعام 2022م في مجال بحوث العقائد والانثرولوجيا عن كتابه الموسوم (طقوس وعقائد).

تمكن الباحث من جمع الكثير من المفردات العامية العراقية وتعتبر هذه المفردات مدخلاً لديباجة المعجم اللساني العراقي، وقد سلط الضوء الباحث على المفردات التي تطورّت وتشعّبت ونمت وتنقّلت وتبدّلت، وكأنها تحاكي روحاً وحالة عضوية قائمة، بما يوحي لنا بأن ما نقله ووثقّه السعيد هو علم يُعتّد به، ويُفخر بمكوثه. وهي مفردات نتداولها من خلال الاسترسال التراكمي من الحراك اللساني الممتد في عمق التاريخ، بعض أصول المفردات الماكثة من ألسنة لعدوّ أو محتّل سابق أو لاحق بصيغ مركبّة أو محرّفة أو مختزلة، لا تشكّل انتقاصاً من تاريخنا، لكن التوثيق يؤكد بعدم سلامة لهجاتنا من العجمة، ويمكن أن نقتبس بعض المفردات ليس للحصر مثل، أوجاغ، آهين، جادّة، جغان، عافرم، جطل، جشمجي... الخ. ونقرّ هنا أنه لا توجد لغة في الدنيا خالية من الاستعارات والتلاقحات حتى النائية منها، فالمفردات حُبلى بكلمات اللغات القريبة والبعيدة، وحتى من مصادر اللغات العراقية القديمة والعربية.

نجد إن اللغة العراقية الحالية منجم لغوي يمكن من خلاله الوصول إلى كثير من خفايا التاريخ اللساني البشري، وأن خامته تشرَئب إلى السومرية والأكدية، أو ربما أبعد من ذلك حتى اللغات الفراتية الأولى.

فإن دور الباحث السعيد في تدوين الألفاظ العامية العراقية سمّة لبيبة، يخشى البعض عن ضياعها وكذلك الباحث، وكم أنا ممتن للأستاذ صلاح السعيد للريادة التي قام بها في معجمه هذا (جمهرة الألفاظ العامة العراقية) التي تم اصدارها بأربع طبعات. لكن اليوم هناك مفردات دخيلة دخلت على المفردات العراقية العامية لم يسمع بها جيلي من قبل  ولا الباحث صلاح السعيد ومنها : علاس، خمط، نگري، حواسم، دفتر، بوري. فقد حدثت انقلابات جذرية في مفردات العامية العراقية، فالطبقة الحاكمة اليوم لا تأتي بعاداتها وتقاليدها فحسب، بل تأتي بلغتها ولهجتها وألقابها أيضاً، وتفرضها على المجتمع بمرور الوقت حتى يصبح الشارع صدى كلام هذه الطبقات، وثمّة من يسخر من هذه وتلك، فيحصل خلط وعجب عجاب، كما هو حاصل اليوم. فقبل عام 2003م كان الحاكم البدوي قد حوّل الشارع العراقي إلى ثكنة عسكرية ترطن بمفردات الصحراء والسلاح، واليوم جاء الفلاح بكل ترسّبات الريف، وألقى حمولته اللغوية بلهجتها الثقيلة والصادمة في الطريق. حيث يقال اليوم في الشارع العراقي للمرأة الجميلة (صاكة)، وهي مفردة عامية تطلق على الأشياء المسبوكة جيداً، و(صكه) أي صفّاه جسدياً، و(المصكوك) المغتال أو القتيل. فضرورة تدوين كل تلك التخرّصات والشطحات لتشكّل سمة مرحلة تفيد الدارسين مستقبلاً. ودراسة الكلمات تصّب في فهم سمات الناس وطبيعة زمانهم وخصوصيتهم العقيلة.

وأخيراً نقول كثرة المفردات العامية التي جمعها الباحث صلاح السعيد لرمزية ثرائها وتراكم تجاربها وما اضاف لها من أمثال وقصائد شعبية تشكل متعة للقارئ والمتابع. وفي السابق نجد كلمة (حريشي) المتداولة في الجنوب العراقي تعني بالآرامية (السكوت أو الخرس) وتعدّ من الشتائم كدعوة للخرس، ونجد إحدى عشائر الجنوب (الحريشية) التي تعني الخرسان. وما زلت أتفحص باستغراب وفضول المفردات والأمثال التي ذكرها الاستاذ السعيد أجد بعضها سومري أو آرامي أو مندائي أو تركي أو فارسي، وحري القول بأن للكلمات روحاً ومدىً، مثلما هي الكائنات، فإن كُتب لها البقاء، فهي ماكثة، وإن وهنت، فهي فانية وبائدة، ووراء ذلك أسباب تتعلق بالجهد البشري. وتمكث المفردات رهينة يُبذَل من طرف أهلها، ولا يمكن لها أن تُعين نفسها بنفسها، وتقف شامخة دون تدخل بشري.

وقد ذكر الباحث في ص17 من الكتاب قائلاً: "اللهجات الدارجة نجدها في كل لغات العالم تقريباً"، وهذا ما نجده في اللغات الأخرى من التركية والانكليزية والالمانية والدنماركية والسويدية، فهناك اللغة الفصحى وهناك اللغة الدارجة كما هي في اللهجات العراقية العامية.

وثمة من يجد في الاختلاف بين اللهجة والفصحى مثلبة، وأنا أجدها مكرمة، أولها أن العامية حافظت على الموروث، والثانية أنها تضطلع على اسلوبين للتفكير يساعدنّ على تطوير ملكات العقل، كما هو حال من يتعلم لغتين، أو يعرف ثقافتين، بالرغم من أن الفرق فيما بينهما بسيط، وعن المثقفين يقلّ حتماَ، حتى تتطابق عند البعض، وهنا نقرّ أنه لا توجد لغة في الدنيا إلى صنفين إحداهما مثقفة والأخرى عامية، لذا فمن يتعلم إحداهما يفهم الأخرى.

لكن هناك بعض الملاحظات على بعض المفردات العامية التي استخدمها العراقيون في حياتهم اليومية، وقد شرحها الباحث صلاح السعيد بغير ما هي معروفة لدى الآخرين ومنها: أستكان وهي لفظة انكليزية وتعود إلى الانكليز والهنود ومع الاحتلال البريطاني للعراق وما زالت بعض المناطق شمنال العراق تسمي الاستكان (بيالة)، لكن بعض الجنود الانكليز كانوا يتناولون الشاي بالكوب، وهو الفنجان الزجاجي الكبير، وتميزاً لقدح الشاي الهندي (البيالة) عن الكوب الانكليزي اطلق هؤلاء على القدح اسم استكان، وهذا ما اكده د. علي ثويني في كتابة (الألسنة العراقية) ص 318.

كما اعتقد أن الباحث فد ترك سهواً بعض المفردات استخدمت في الالفاظ العامية العراقية مثال ذلك مفردات (أيجّات) وهي بمعنى الخيول المعمرة في سباق الخيول (الريسز) و(أيجه) تُطلق على المرأة التي تجاوزت فترة الشباب كذلك. فضلاً عن مفردات من الممكن إضافتها للكتاب منها: أطرقجي (بائع السجاد)، بازهر (طارد السم) وهي كلمة فارسية، بخّ بمعنى الذبح، برجم وهي كلمة تركية بمعنى (المسامير الحديدية المقببة، برداغ أي بمعنى كوب الماء وهي من لغات الشرق القديم، بلشتي (الحيلة) وقد اشتقّت من كلمة بلشفي، بلشه (ورطة)، بنجرجي، تنباك وهي لفظة هندية تلفظ على النحاس وفي التركية تعني تبغ النرجيلة، توثية (عصا)، جام كلمة تركية بمعنى الزجاج وكذلك هي كلمة من لغات البلقان، جراويّة أي غطاء الرأس وقد استعملها السوريين، جرخجي أي الحارس، جفجير، جفيان، جلاق، جلبي، جلّت أي بمعنى كلّت أو اكتفت، جمالة، جيب، جيجان بمعنى الشيشان الذين جاؤوا إلى العراق أيام الاحتلال العثماني، حايط انصيص، حبنتري، حسوه من الحساء، حمامجي، حسجة، الحرمدان أي حقيبة السفر، الجزدان كلمة تركية، البازبند وهي كلمة فارسية، خاتون وهي السيدة من اصل تركي ومغولي، خازوق من اصل تركي ويعني الوتد، خاصكي أي حاشية السلطان، خراب البصرة، خرگة ويقال للرجل خرگة وخنيوة وخنجة، خوجة أو خواجة، خنده وهي فارسية بمعنى السيد، دامرجي، داية ، الدربند فرسة بمعنى سنبلة من الحديد، درو فارسية بمعنى الألم، وهكذا هناك الكثير من المفردات بالإمكان للباحث اضافتها للكتاب ليعتبر معجم للألفاظ العامية العراقية.

مع كل ما ذكرت سابقاً أنا اشكر الباحث صلاح السعيد لهذا الجهد الذاتي الذي بذله لإخراج هذا الكتاب الذي يضم مفردات عامية قد تندثر ويطويها الزمان على النسيان.

 

نبيل عبد الأمير الربيعي

 

 

المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (199): الإيمان والأخلاق

التفاصيل
كتب بواسطة: صحيفة المثقف

majed algharbawiصادق السامرائيخاص بالمثقف: الحلقة التاسعة والتسعون بعد المئة، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، رئيس مؤسسة المثقف، حيث يجيب على أسئلة الأستاذ الدكتور صادق السامرائي:

 

الإيمان والأخلاق

ماجد الغرباوي: المهم في هذا البحث دراسة الإيمان كسلطة مؤثرة في توجيه وعي الفرد والتحكم بإرادته. والإيمان مشاعر نفسية عميقة، ذات مرجعية عقدية ترتبط بالرؤية الكونية للإنسان وفهمه للذات والآخر، وكيفية انعقاد الإيمان في أعماق النفس البشرية. وهي آلية معقدة، يصعب تفسيرها، خاصة الإيمان بالخرافات واللامعقول وكل ما يتعارض مع منطق العقل. وهذا يؤكد ارتباط الإيمان بمشاعر الإنسان وأحاسيسه وجهازه العصبي وقناعاته ومستوى وعيه وقوة إدراكه ووعيه لذاته. وبشكل أدق، إن الإيمان عنوان لسلسلة عمليات شعورية ولا شعورية، ترتهن إرادة الفرد وقراراته. فالإيمان لا يخضع لصرامة العقل دائما، بل الغالب ينعقد بغفلة منه، بفعل الخطابات العاطفية والمشاعر المؤثرة والظواهر السحرية وقوة إيقاع الكلمات على ذهن السامع، وكيف تخترق النفس لتهيمن على مشاعره، حيث تترسب تدريجيا في أعماقها، ثم تتراكم مع كل خطاب أو مشهد عاطفي جديد، وهذا أحد أسباب رسوخه، وتمرده على العقل وقوانينه، فتجده أكثر إخلاصا لقناعاته النفسية، رغم تزامن العقل والعاطفة في تلقي المشاعر، غير أن النفس تتفاعل مع العواطف لا شعوريا، خاصة وهي تُلهب مخيلة السامع، وتحلق به عاليا في عوالم الأوهام السحرية، خلافا لمنطق العقل الذي يستدعي جهدا تأمليا لإدراك حقائق الأشياء، ويتوقف أمام كل معلومة ليتأكد من صحتها، وهو أمر صعب، خاصة مع تواضع الوعي، فتتماهى النفس مع مشاعرها وتصوراتها، وتعيش دفئا إيمانيا يضفي معنى على تجربته الروحية، ويبعث فيها روح الطمأنينة، خاصة إبان الازمات ومواجهة التحديات.

لا ريب أن الإيمان مظهر بشري محير، حينما نعجز عن تفسير تجلياته، وهو يخاصم عقله، ويتماهى مع معتقده، بل ويغيب أو ينكص عند تلقي الخطابات العاطفية، وما توحي به الطقوس والأمكنة من دلالات رمزية وقناعات، تغزو اللاشعور وترتهن إرادته، فينقاد لإيمانه، غير مبالٍ لتداعيات عمله. وقد ينساق الفرد مع إيمانه حد التضحية بالنفس وفاء له. لذا توظف الأيديولوجيات خطابات عاطفية للتأثير مباشرة على مشاعر الإنسان، وتلهب الخيال، بعيدا عن العقل ورقابته، حد التمرد والانسياق وراء النفس ومقاصدها. فالإيمان ينسج منظومة معرفية وفقا لموازينه وقناعاته، توجه سلوك الفرد.

وأقصد بالإيمان مفهومه العام الذي تقدم بيانه. مصدره تراكمات شعورية ولا شعورية، نفسية – ثقافية، هي سر نسبيته وتفاوته بين شخص وآخر، رغم وحدة العقيدة أحياناً. يبدو هذا واضحا من تجلياته النفسية والسلوكية وردود الأفعال. فالإيمان هو المحرك الحقيقي لوجود الفرد، خاصة العلاقات الاجتماعية، وقد شاهدنا جميعا كيف يدفع الإيمان بعض الناس لتفجير نفسه بيقين راسخ. بل حتى الطموح الفردي ينطلق من إيمان يسبقه تصور عقدي، وهذا يعطي راهنية لعلاقة الإيمان بالأخلاق، من خلال التركيز على دور الإيمان في إحياء ضمير الإنسان، وديمومة رقابته التي يرتهن لها الفعل الأخلاقي. ولما كانت مناشئ الإيمان متعددة فيمكن تطوير الرؤية الإيمانه من خلال ذات المناشئ، التي يمكن تقسيمها إلى نفسية وثقافية، تتوالى على بناء وصياغة إيمان الفرد. سواء كان موضوعه فكرة أو أسطورة أو كائنا أسمى أو الخالق تحديدا. وهذا يتوقف على فهم الضمير، لنفهم كيف يمكن للإيمان بشكل خاص والدين كخطاب روحي وأخلاقي التأثير فيه؟.

تقدم أن الضمير "وازع نفسي، ورقيب ذاتي، يضبط الأداء السلوكي للفرد"، فهو يشترك مع الإيمان بوصفهما حزمة مشاعر ضاربة في أعماق النفس، تشتبك مع الأنساق الفكرية والعقيدة والثقافية المضمرة. وتتزود من الصفات النفسية والوراثية. وتتأثر بإيقاع الخطاب الوعظي والإرشادي. وكلاهما انفعال نفسي تستجيب له مشاعر الإنسان. يتأثران بالبيئة والثقافة والاجواء السياسية والاقتصادية، والاستعدادات الذاتية للفرد، فثمة شخص متمرد بطبيعته، تلاحقه الشكوك والأسئلة المصيرية، وآخر بطبيعته، بسيط، وربما ساذج أو خامل، ينطوي على طيبة فائقة، تجعله يصدق كل شيء. وبالتالي فإن وحدة الطبيعة البشرية رغم اختلاف خصائصها، تقتضي تأثير الإيمان في يقظة الضمير، ولو نسبياً. وتؤكد قدرة الأديان على حمايته، من خلال تزكية النفس، وتهذيبها، وكلما صلحت نفس الإنسان صلح ضميره وقيمه الإنسانية. ولا يقتصر صلاح النفس على الأديان، ويمكن للفرد تولى تهذيب نفسه بنفسه، لكن للدين خصوصيته التي لا ينافسه أحد عليها، وهي قدرته على شد الفرد بالغيب والمطلق، وهيمنته عبر التجليات اللاشعورية للمقدس. أي قدرته على خلق أجواء نفسية وروحية ترتهن إرادة الإنسان ومشاعره، فينشدُ لا شعوريا للغيب، ويتمثل عوالمه، التي تقوم بدورها – أي التمثلات – بخلق أجواء إيمانية، تتفاوت من فرد لآخر، لاشتراك الخيال بالتمثّل. كما يتصف الخطاب الديني بقوة إيقاعه وتأثيره، وقدرته على تمرير رسالته، وإقناع المتلقي بمضمونها. بل يمتلك القلوب، ويُلهب المشاعر. ومن يمتلك القلوب، يمكنه إعادة تشكيل الوعي بسهولة، وبرمجة إرادة معتنقيه على وفق مقاصده، عبر نصوص قدسية ومتعالية ومعطى نهائي، يقتصر فيه دور الفرد على التأويل والتبرير، بهذه الطريقة يضمن ولاءهم وانقيادهم. فالدين سطلة هائلة، وعنصر أساس في تشكيل هوية المجتمعات الدينية. وهذه الخصائص هي التي تدفع الناس للالتزام بتعاليمه. فيمكن للدين بمعنى الإيمان والقيم الأخلاقية والروحية حماية الضمير الإنساني، ومساعدته على الصمود أمام مطلق التحديات، النفسية والخارجية، عبر خطابي الترغيب والترهيب. والكلام هنا عن الضمير وحمايته ليبقى رقيبا صارما، يمارس سلطته. محفزا على الخير ورادعا عن الشر. شريطة أن يكون ضميرا حيا، متوثبا، يقظا، نابضا بالحياة. ومع غفلة الضمير أو تراخيه، يزيغ الفعل الأخلاقي عن مقصده، ويتخلى الفرد عن قيمه في لحظة ضعف، فإما الندم وتوبيخ الضمير، أو التهاون والتراخي واستسهال تداعيات الفعل. وفي كل مرة يتهاون مع نفسه، يفقد الضمير قدرته على الردع. فيلجأ للتبرير بادئ ذي بدء، ثم يسحق ضميره فيما بعد، وينسلخ عن قيمه وأخلاقه، يفعل ما يحقق رغباته، وأول عمل يقوم به الحط من قيمة الإنسان عندما يجعل منه وسيلة لتحقيق مآربه، حداً يغدو اقتراف الجرائم أمرا عاديا مستساغا، مادام يحقق مصالحه. والسبب هو انقلاب موازين الخير والشر، بفعل التمادي في الجريمة، فيصف القرآن هذه الحالة بقوله: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ). مما يؤكد تداعيات الشر على نفسية الإنسان ومشاعره وضميره، حداً يصاب بضبابية الرؤية: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ).

وبهذا نفهم أن الفعل الأخلاقي يتوقف على شرطه، الذي تقدم الحديث عنه مفصلا، وكلامنا هنا عن الضمير، كيف يمكن تحفيزه وحمايته؟. وهل يستطيع الدين أن يلعب دورا في إحيائه، واستعادة دوره الرقابي؟.

حياد الإيمان

لا ريب بجدوى الإيمان لحماية ضمير الفرد، وضمان صموده، خاصة الإيمان الديني المعروف بقدرته على ربط الإنسان بالغيب والمطلق والمقدس، وتمكنه من إعادة تشكيل الوعي. غير أن الإيمان ليس بريئا، وليس محايدا، وينحاز لموضوعه ومعتقده ويقينياته، فكيف نحرز استقلاليته وحياديته، وهو يُملي قناعاته على الضمير الذي نتطلع لحياديته وإنسانيته وتعاليه على جميع الخصوصيات؟. ومثالها لو تخلى الضمير عن مسؤولياته أمام اضطهاد الآخر، المختلف دينيا، وهو أمر متوقع، مع سطوة الأيديولوجيات الدينية التي تربط مصير الفرد بمواقفه وسلوكه، وتعتبر الموقف من الآخر مقياسا لإيمان الفرد ومدى إخلاصه لعقيدته وأيديولوجيته. بل أن الدين هو ضرب من الأيديولوجيا، فكيف نتوسل به لضمان يقظة الضمير، وعدم انهيار منظومة القيم الأخلاقية؟.

مرًّ بنا، أننا مع استقلال الأخلاق عن الدين بمعنى التشريع، على خلاف الأشاعرة. ويمكن للدين أن يلعب دورا حاسما في موضوع الأخلاق من خلال ضمير الإنسان. لكن يبقى الإشكال حول حيادية الدين، ونزاهة الإيمان. فكيف نستفيد من الطاقة الروحية للدين في استتباب القيم الإنسانية والأخلاقية، دون الإخلال بالشرط الأخلاقي؟. وهل سيتأثر ضمير الإنسان بالقيم الدينية في موقفه من الفعل الأخلاقي؟. وهل يقف مع الدين أم يتمرد عليه إذا اقتضى الموقف الأخلاقي الانتصار للآخر، باعتباره إنسانا، بغض النظر عن خصوصياته؟. وفي هذه الحالة سيفقد الدين تأثيره إذا تمرد عليه، أو يفقد الضمير صدقيته، إذا تخلى عن وظيفته. وهذه هي إشكالية العلاقة بين الدين والأخلاق. فكيف يمكن تسويتها، والاستفادة من الطاقة الروحية للدين دون الإخلال بشرط الفعل الأخلاقي؟.

ورغم أنها إشكالية معقدة لكنها ليست مستعصية، بل يمكن تسويتها من خلال فهم جديد للدين. فما هو مفهوم الدين الذي نتطلع لاستثمار طاقاته الروحية؟ هل الدين بمعنى التشريع، وقد قلنا باستقلال الأخلاق عنه؟ أم الدين بمفهوم آخر؟.

سبق أن ذكرت رأيا حول مفهوم الدين، أجده مناسبا لحلحلة الإشكالية، والتمهيد إلى تسوية عملية، دون التفريط بأي من القيم الأخلاقية والدينية. قلت في كتاب الفلسفة النسوية:

(الدين تجربة روحية تروي ظمأ الإنسان المتعطش للمطلق، والمرتهن للغيب والمقدس. يغمره قلق مصيري لا شعوري، وتوق جنوني للسمو يستبد به وهو يعيش تجربته، فتنعكس آثارها على سلوكه ومشاعره ومواقفه. والدين بهذا الفهم الصوفي يساهم في تعميق قيم التسامح والسلم الأهلي، حينما يضفي الدين معنى لحياته وتضحياته، ويرفد المجتمع بقيم المحبة والسلام، ويساهم في تماسك الأواصر الاجتماعية، والحث على العمل الصالح. وعدم التآمر ضد مصالح شعبه ووطنه. لا يسود الاستقرار والأمن، ولا تحقق المواطنة أهدافها من خلال القوانين وقوة القضاء، بل ينبغي وجود ثقافة موازية تثقف الشعب على القيم والمبادئ الكفيلة باستقرار الشعب. والدين بالمعنى المتقدم يلعب دورا إيجابيا عندما يخلق وازع التقوى، وحب الخير، وحينئذ سيلتزم بالأنظمة والقوانين حتى في خلواته بعيدا عن عدسة الرقيب الأمني. وهذا النمط الديني يعارض منطق الفرقة الناجية، ويفتح باب النجاة أمام الجميع، ويحول دون دعوى احتكار الحقيقة، وسيادة منطق التكفير). بهذا غدا واضحا أننا نتوسل بمفهوم مغاير للدين، ونتطلع لدور يقوم به الدين بمفهومه الإنساني، الذي يرتكز في مشروعه السماوي على الإنسان بما هو إنسان، بغض النظر عن خصوصياته. يؤكد هذا ما ذكرته أكثر من مرة أن الأحكام الأخلاقية في القرآن، أحكام إرشادية، ترشد لحكم العقل العملي من الأخلاق. بل وفقا لهذا لا يمكن للدين الوقوف ضد الفعل الأخلاقي، لأن قوانين العقل لا تخصص، والفعل الأخلاقي من مدركات العقل العملي، كما تقدم بيانه، لا فرق بين شخص وآخر، بما في ذلك الانتماء الديني. فالعدل حسن والظلم قبيح يحكم بهما العقل، بغض النظر عن موقف الشرع منهما. وقد ذكرت شواهد من القرآن، كموقف موسى النبي الذي استفزه قتل الغلام من قبل العبد الصالح، واصفاً عمله بالظلم: (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا).

مركز اشتغال الدين

تقدم أن مركز اشتغال الدين هو الضمير، وليس الفعل الأخلاقي. أي أن الدين لا يفرض على الفعل الأخلاقي شرطه وقناعته، لاستقلالية الأخلاق عن الدين، لأنها من مدركات العقل العملي. وحتى لو أرجعنا الأخلاق لله، فإن المراد بلفظ الجلالة الخالق، خالق كل شيء: (الإنسان وفطرته وطبيعته وعقله). وهذا لا يغير من الحقيقة شيئا، ويبقى الحُسن والقُبح عقليان لا شرعيان. وأن الحسن حسن بذاته، لا ما حكم الشرع بحُسنه. والقبيح قبيح بذاته، لا ما حكم الشرع بقبحه. وقد بينت أسباب ذلك، وقلت: إذا نفينا حجية العقل العملي في مجال الأخلاق فإنه يلزم التبعيض في أحكامه، واحكامه الأصيلة والأساسية مطلقة وكونية لا تخصص. كما لا يمكننا إدراك مقاصد الدين البعيدة في بعض المواقف التي نعتبرها، وفقا لمقاييسنا، أفعالا لا أخلاقية كقتل الغلام من قبل العبد الصالح، أو عندما همَّ إبراهيم النبي الكريم بقتل ولده استجابة لرؤيا رآها. كما أن أحكام الشريعة متحركة، تستيجب لمتطلبات العصر والزمان والظروف السياسية والاجتماعية المحيطة بها: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم). بينا الدين بالمفهوم الذي تقدم ثابت: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)، (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ). (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ). فالإسلام بمعنى التسليم هو الإطار العام لجميع الأديان، رغم اختلاف شرائعهم، وكل منها يعد طريقا للنجاة بنفسه. ولا ريب في دلالات الآية، ومن يدعي النسخ عليه أن يأتي بدليل قرآني، صريح، واضح لا لبس ولا شبهة فيه. فتبقى الآية أصلا في علاقة المؤمنين مع بعضهم.

الدين لا يناوئ العقل، وأحكام العقل ثابتة وكونية، لذا نتوسل بطاقته الروحية، لإحياء ضمير الإنسان، وتحصينه، وتثبيته على الصراط المستقيم. والنصوص الدينية في جميع الأديان ليست نادرة. وثمة دعوات واضحة لإحياء النفس، وليست النفس سوى الضمير الحي للإنسان، بما هو إنسان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). والنفس هنا شاملة للضمير الإنساني، فهو يتشكل في أحضانها، وتنعكس عليه صفاتها وخصائصها. وفي الآية التالية إشارة وإن كانت بعيدة، لكنها ملهمة لمن يطيل التأمل فيها: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا). ولا يكفي أنك تحييها جسدا، بل حياتها الإنسانية التي هي مركز المشروع السماوي. فالإنسان إنسان بروحه وضميره وعقله: (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ). وبالتالين الدين يرفد الضمير بطاقة روحية من خلال تزكية النفس، وتزويدها بقيم ومفاهيم إنسانية، لذا تخاطب الآية الإنسان: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى). وهي مهمة الضمير حصرا، فالضمير بعد أن يتشبع بالمعاني الإنسانية، يمارس دوره الرقابي، وينهى النفس عن الهوى.

بهذا نفهم سبب تأكيد الفلاسفة على الإيمان والدين رغم قولهم باستقلال الأخلاق عنه. ابتداء من سقراط إلى كانط مرورا بأفلاطون. فقد اعتبر سقراط الإيمان مكملا للأخلاق، لكنها لا ترتكز عليه. وجعل أفلاطون للدين مكانة في الأخلاق أكثر مما فعل سقراط، فالفضيلة لا ترجع إلى الحكمة بل إلى بصيرة ملهمة مشربة بنفس ديني. واعتبر كانط الدين ضرورة للأخلاق رغم استقلاليتها عنه. وبالتالي فالدين لم يغب عن تفكير الفلاسفة، وقد أولوا إهتماما كبيرا له، بل بأنفسنا نشعر بقيمة الدين وضرورته لتقويم الأخلاق.

لكن السؤال كيف يؤثر الدين على ضمير الإنسان؟ وما هي وسائله؟

يأتي في الحلقة القادمة

 

............................

للاطلاع على حلقات:

حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي

للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه

almothaqaf@almothaqaf.com

 

منظرو الاقتصاد (17): آرثر پـيگو

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. مصدق الحبيب

مصدق الحبيب(1877 – 1959) Arthur Pigou

هو الاقتصادي الإنگليزي الذي تتلمذ على يد مارشل والذي ربما كان تلميذه المفضل لذكائه وتفوقه بحيث أن مارشل أعطاه الفرصة ان يحاضر في قسم الاقتصاد مباشرة بعد تخرجه وهو بسن الرابعة والعشرين. كما انه جعل منه خليفته في رئاسة القسم وهو في الثلاثين من عمره. عُرف بالتصاقه بمنهج مارشل واخلاصه لفلسفته في التدريس والبحث فكان يردد غالبا على طلابه "أي شئ تسألون عنه في الاقتصاد سترون جوابه عند مارشل". وكما كان وفاؤه لمارشل فقد اهتم بطلابه وتخرجت على يده نخبة بارزة من الاقتصاديين الذين قادوا مسيرة الاقتصاد في القرن العشرين. وقد ساهم حماسه وحماس طلابه في زرع البذرة الاولى لما سمي فيما بعد بمدرسة كمبردج في الاقتصاد.

ولد آرثر في رايد الواقعة في جزيرة وايت في الجنوب البريطاني. كان أبوه ضابطا في الجيش وأمه منحدرة من عائلة بارونات معروفة. دخل مدرسة هارو الاهلية العريقة في لندن فكان تلميذا مجتهدا مهذبا فاز بجوائز مدرسية عديدة اضافة الى نشاطه الاجتماعي. كانت دراسته الجامعية في الفلسفة والاخلاق، ثم تفرغ لدراسة الاقتصاد في كلية الملك بكمبردج وبدأ التدريس فيها عام 1901. ثم اصبح زميلا في الكلية بعد عام واحد فقط أي في 1902، وفي العام التالي فاز بجائزة آدم سمث لعام 1903. بعد ذلك حصل على درجة الاستاذية عام 1908 فاستلم مباشرة رئاسة قسم الاقتصاد، خلفا لمارشل الذي تقاعد من عمله الجامعي في ذلك العام.

كان آرثر رجلا مبدئيا مخلصا في عمله ومعروفا بقيمه الاخلاقية العليا التي غالبا ما كانت سببا لمتاعبه الشخصية التي تحملها نظرا لالتزامه بمسؤوليته. فحين اندلعت الحرب العالمية الأولى رفض الانخراط في القوات المسلحة البريطانية لانه كان رافضا للحروب ولفكرة القتال ضد ابناء جنسه  والتي لاتجلب الا الموت والخراب. لكن انصياعه للواجب الوطني جعله يقبل ان يصبح سائقا لسيارات الاسعاف مع الاحتفاظ بعمله كأستاذ جامعي. وفي هذا الصدد كان كارها لعمله في اللجان الوطنية العليا. فقد انتدب للعمل في لجنة كونليف الوطنية للتبادل التجاري لعامي 1918 و1919 واللجنة الملكية لضريبة الدخل لعامي 1919 و1920 ولجنة چيمبرلن للنقود والبنوك لعامي 1924 و1925. فلم ير لنفسه المكان المناسب في هذه اللجان عالية المستوى لما يسود فيها عادة التدخل السياسي والنفاق والتدليس. وحتى الاكاديمية البريطانية التي منحته عضويتها عام 1925 استقال منها. ومع تركه العمل في كل تلك اللجان فضل ان يبقى اكاديميا مستقلا منصرفا للتدريس والبحث.

2175 بيكوكان آرثر پيگو من الاكاديميين الاوائل الذين استهوتهم فكرة ان لعلم الاقتصاد رسالة انسانية هي خدمة المجتمع وتحسين احوال معيشة الناس،  فهو القائل بأن الاقتصاد عبارة عن نشاط يحمل ثماره الطيبة معه. ولذا فقد اشتغل على عدة محاور اقتصادية كالدورة الاقتصادية واقتصاد المالية العامة والتبادل التجاري والارقام القياسية وطرق تقدير الناتج القومي، لكن جهوده تركزت على مجالين اصبحا فيما بعد الموضوعان اللذان يشيران لمساهماته المتميزة، وهما اقتصاد الرفاه ونظرية العمالة. ولابد لي هنا ان اشير الى الترجمة العربية التي ورثها تلميذ الاقتصاد والقارئ العربي لهذين المصطلحين التي لا أراها ترجمة دقيقة. فاقتصاد الرفاه في هذا الصدد Economics of Welfare لايقصد به اقتصاد السعادة والترف، انما اقتصاد الصالح العام، حيث يقول التعريف الانكليزي بانه فرع الاقتصاد الذي يعالج ما يجنيه المجتمع من الفوائد والاضرار المترتبة على تبني القرارات والسياسات الاقتصادية من قبل الحكومات والمؤسسات، العامة والخاصة. أما ترجمة  Employment  بـ "العمالة"   فهي الأخرى ترجمة غير موفقة لانها تعطي الانطباع المباشرعن الاشتغال كعميل لجهات اجنبية ! فيهمل القارئ انها مشتقة من "عمل، يعمل، فهو عامل، وليس عميل". أعتقد ان الترجمة الأدق هي الاستخدام، والمقصود به استخدام عنصر العمل كواحد من عناصر الانتاج، وهي بهذا متوافقة مع الاستعمال الشائع لمفهوم استخدام الموارد الاقتصادية.

في عام 1912 نشر پيگو كتابه الموسوم "الثروة والرفاه" والذي أصدر نسخة منقحة وموسعة منه عام 1920 بعنوان "اقتصاديات الرفاه" الذي أصبح الكتاب -الهوية  له بما شمل  من طروحات جديدة اُعتبرت كمساهمات قيمة لأدب النظرية الاقتصادية. في هذا الكتاب أولى پيگو اهتماما خاصا باعادة صياغة وتوسيع وتطوير مفهوم مارشل الـ  Externalities والمقصود به الآثار الجانبية، الايجابية والسلبية، الناتجة عن تطبيق القرارات والسياسات الاقتصادية.  فبدلا من أن لايعير لها اهتماما متخذو القرارات وراسمو تلك السياسات ولا ينتبه اليها المجتمع،  أشار پيگو الى اهميتها واهتم بمعالجتها. وتماما كما تعالج الادوية في الغالب عرضا مرضيا رئيسيا ولا تأبه بالاعراض الجانبية، يحدث هذا على صعيد الاقتصاد نتيجة لاتخاذ أي قرار اقتصادي.   والتعريف الرسمي لهذه الآثار الاقتصادية الجانبية هو الكلفة المفروضة أو المنفعة المتحققة للاخرين والتي لم يُحسب لها حساب عند من سببها وهو يخدم غرضا معينا لمشروع ما.

لنفترض اننا نتحدث عن بناء مطار في مدينة ما. فلهذا المشروع، اضافة لمنفعته الاصلية بتوفير خدمات النقل الجوي، اضرار وكذلك فوائد جانبية غالبا ما لم تؤخذ بالحساب الاقتصادي. فمن الاضرار الرئيسية التأثير على نقاوة الجو في المنطقة المحيطة بالمطار بسبب الكم الهائل من الغازات المنبعثة من محركات الطائرات، وكذلك ما يترتب على الضوضاء الناتجة جراء اقلاع وهبوط الطائرات من ازعاج، اضافة الى ضغط المرور الاضافي على الطرق والجسور وماينتج عنه من ازدحام واختناقات. أما الفوائد فقد تكون في هيئة الانتعاش الاقتصادي للمنطقة المتمثل بالحاجة الى المزيد من الفنادق والمطاعم والمحلات التجارية وشركات النقل والسياحة والاتصالات وغيرها. ولابد ان تكون تلك الاضرار مكلفة، فمن يتحمل مسؤوليتها؟ كما ان  الفوائد ينبغي ان تـُشجع وتـُدعم لتخرج من نطاقها الفردي الى نطاق المجتمع الاوسع. وهنا يقترح پيگو بأن الكلفة ينبغي ان تدفع على شكل ضرائب اضافية تفرض على مشروع المطار وبذلك ستتجنب المدينة او الولاية تحملها. أما الفوائد فينبغي ان تدعم من قبل الحكومة شريطة ان تتوسع ليجني المجتمع الاوسع ثمارها. وهذه الضرائب والاعانات المقترحة هي التي عرفت فيما بعد بـ :

Pigouvian tax and Pigouvian Subsidy.

امثلة اخرى على هذه الآثار الاقصادية الجانبية ومعالجتها بالضرائب والاعانات تبعا لسلبيتها أوايجابيتها، منها مثال حول حريق في غابة يندلع بسبب الشرار المنبعث من ماكنة القطار المارعبر الغابة! فمن المسؤول ومن ذا الذي يدفع الكلفة؟ مثال آخر حول مصنع للورق يُنشأ على ضفة نهر ليطرح فضلات الانتاج في النهر علما ان النهر هو المصدر الوحيد لماء الشرب للقرية القائمة على ضفتي النهر وعلى مسافة ليست بعيدة من المصنع. هاذان المثالان يركزان على  الآثار السلبية التي تفوق بكثير اي آثار ايجابية،  لو وجدت.

كما يعطي پيگو مثالا عن الآثار الايجابية التي قد تنفرد بنفسها والتي تتمحور على التمييز بين المنفعة الفردية والمنفعة الاجتماعية. فيأخذ طالبا يمول ذاتيا تعليمه الاولي من اجل هدف واحد هو حصوله على عمل يعيله. يقول پيگو ان الطالب يتعلم لهدف فردي وربما لايدري ان المجتمع سيستفيد من ذلك ايضا، وبذلك يستطيع المجتمع ان يدعم ويشجع هذا الطالب وطلاب اكثر ان يزيدوا من مستوى تعليمهم او يتلقوا برامج تدريب اضافية من اجل ان تزداد الفائدة الجمعية. وينبغي ان يحدث ذلك عن طريق تقديم الزمالات والبعثات والمنح الدراسية التي تمول ذلك التعليم الاضافي من اجل المنفعة الفردية والاجتماعية معا.

يرى پيگو ان الآثار الاقتصادية الجانبية تقدم التبريرالمفحم لتدخل الحكومة والالتزام بمسؤوليتها تجاه المجتمع برسم السياسة وتنفيذها وتمويلها وادارتها ومراقبتها. وذلك عندما تبرز الحاجة في الحالتين: الآثار الاقتصادية الجانبية السلبية    Negative Externalities  التي تعالج بالضرائب، والآثار الاقتصاددية الجانبية الايجابية  Positive Externalities  التي تعالج بالاعانات. وهو هنا يخرج عن فلسفة الـ  Laissez Faire  واليد الخفية التي تنظم شؤون اقتصاد السوق الحر الذي ينبغي ان يترك لوحده دون اي تدخل حكومي. و پيگو كغيره من الاقتصاديين الذين خرجوا عن هذه الفلسفة يرى ان اقتصاد السوق الحر لابد ان يخفق هنا وهناك، وحين يخفق في أمر ما سيكون من واجب الحكومة التدخل لمعالجة الخلل. ةالغرض الاول من ذلك هو ارجاع التوازن الذي قد يتطلب عدالة التوزيع باستخدام الضرائب والاعانات كأدوات تسوية بيد الدولة من اجل اعادة التوزيع أو تحفيز الانتاج وزيادة الاستخدام.  وهذا الاعتقاد ناجم عن ايمان آرثر بمبدأ ان الدولة، وباستشارة الاقتصاد، تستطيع رفع الحيف عن المواطنين وتحسين حالتهم الاقتصادية واحلال العدالة الاجتماعية. وما على الاقتصاديين الا ان يرسموا الطريق الصحيح ويحددوا الخطوات والادوات لتحقيق ذلك.  پـيگو يعتبر هذا الهدف بالنسبة له أسمى من الانشغال بالتنظير لمجرد تسجيل المساهمات الابتكارية في النظرية الاقتصادية. ومن الجدير بالذكر هنا هو الاشارة الى اختلافه في هذا المجال مع صديقه القريب جان مينرد كينز حول دور الدولة في الاقتصاد! أو ربما بمعنى أدق دور الاقتصاد في الدولة.

ومما ينبغي ذكره هنا هو ان اقتصاديي الرفاه الذين برزوا بعد الكساد العالمي تجاوزوا طروحات پـيگو حول الآثار الاقتصادية الجانبية ومعالجتها بالتدخل الحكومي عن طريق استعمال الضرائب والاعانات كأدوات لتصحيح الانحرافات المتأصلة في اقتصاد السوق. المثال الابرز على ذلك هو مقالة الاقتصادي رونالد كوس الحائز على جائزة نوبل الموسومة "مشكلة الكلفة الاجتماعية" والمنشورة عام 1960 والتي تضمنت انتقادا صريحا لنظرية پـيگو في الآثار الاقتصادية الجانبية ومعالجته المقترحة لها. يعتقد كوس انه لا داعي ابدا الى التدخل الحكومي لمعالجة تلك الآثار! اذ ان من المثمر ان تدخل الاطراف المعنية في المفاوضات وتصل الى التسوية دون جر الحكومة الى هذا الامر. ويأخذ مثال پـيگو حول مصنع الورق فيقول لو يعطي نظام اقتصاد السوق الاهمية لتوزيع الملكية وتنظيمها لاصبحت حلول هذه المشاكل بسيطة. فمثلا لو ان كل ضفاف النهر معلومة الملكية والحقوق مسجلة لاصحابها لاصبح موضوع انشاء مصنع الورق على ضفاف النهر قضية قانونية يترافع فيها الطرفان بموجب القانون فتكون ادارة المصنع امام حقوق استخدام ماء النهر العائدة للسكان. هذا اذا لم يصل الطرفان الى تسوية خاصة بالتفاوض بينهما.  فاذا شعرت ادارة المصنع ان طلبات السكان باهضة ولايمكن تحملها سيعزفون عن تنفيذ خطة بناء المصنع في ذلك الموقع. وواضح ان كوس ومن يؤمن بطروحاته هم اولئك الذين يقفون ضد التدخل الحكومي وسن القوانين والقواعد والاجراءات العامة المعروفة بـ Regulatory policies. الاتجاه الذي اتسع خلال الستينات من القرن المنصرم وبعدها، والذي أدى الى ظهور مدرسة الخيار العام  Public Choice School في الاقتصاد التي تعترض على رمي كل الامور بيد الدولة، خاصة وإن اصحابها يعتقدون ان نصيب فشل الحكومات في حل المشاكل الاقتصادية لا يختلف كثيرا عن نصيب القطاع الخاص، بل ربما كانت دوائر الحكومة أقل كفاءة.

الموضوع المهم الثاني الذي تميز به پـيگو هو نظرية الاستخدام والبطالة. في عام 1913 نشر پـيگو بحثه عن البطالة، والذي نقحه وطوره ووسعه خلال العشرين سنة اللاحقة فنشره عام 1933 بعنوان "نظرية البطالة"، والذي تضمن آراءه الاساسية في هذا الموضوع.  ورد في موسوعة العالم الجديد ان نظرية پـيگو هنا تستند على أساسين هما:

- ان الاجور ينبغي ان تساوي الناتج الحدي للعمل

- وان منفعة او قيمة الاجور للعامل عند قبوله العمل تساوي المنفعة او القيمة الحدية فيما لو لم يقبل العمل. وبتعبير اوضح ان قيمة الاجر بالنسبة للعامل يجب ان لاتنخفض دون الحد الادنى المقبول لديه في ذلك الظرف. اذ انها لو انخفضت عن ذلك فلا يكون للعامل الحافز لقبول ذلك العمل.

وقد تحدث پـيگو عن مرونة العمل، وبالاخص مرونة الطلب على العمل من قبل اصحاب العمل والشركات والمصانع.  والمرونة هي المفهوم الذي يصف مدى استجابة كمية العمل المطلوبة تبعا للتغيير في معدلات الاجور. تكنيكيا يمكن حساب هذه الاستجابة بقسمة نسبة التغيير المئوية في كمية العمل المطلوبة على نسبة التغيير المئوية في الاجور، زيادة ونقصانا. وبموجب النتائج الرقمية فقد جرى تصنيف المرونة تبعا لقيمتها. فاذا كانت قيمتها اكثر من واحد، فهي توصف حالة الاستخدام او التشغيل بانها "مرنة". وهذا يعني ان الطلب على تشغيل العمال يستجيب بشكل ايجابي واكبر من معدل انخفاض الاجور، كما يستجيب بشكل سلبي واكبر من معدل ارتفاع الاجور.أما اذا كانت قيمة المرونة اقل من واحد  فان الطلب على التشغيل سيوصف بانه "غيرمرن".  لنأخذ مثالا رقميا نفترض فيه ان العمال في مكان ما سيقبلون اجورا اقل من ذي قبل بنسبة 10%، فماذا ستكون استجابة اصحاب العمل بالنسبة لتشغيل العمال؟  فاذا اقبلت ادارة العمل على زيادة التشغيل بنسب اكثر من 10% فان مرونة الطلب على العمل تكون "مرنة"، والعكس صحيح، اي اذا كانت استجابة الادرة هي زيادة التشغيل بأقل من 10% ستكون مرونة الطلب على العمل "غير مرنة".

وقد قام پـيگو فعلا بتقدير مرونة الطلب على العمل في بريطانيا فوجدها بين 3 و4 %. كما كان من دواعي الصدف ان يحصل الاقتصادي الامريكي پول دگلاس على تقديرات مشابهة عن مرونة الطلب على العمل في أمريكا. ان ماتعنيه هذه المرونة هو انه لو اُ تخذ قرار برفع اجور العمال بنسبة 1% فان رد فعل اصحاب العمل سيكون تخفيض عدد العمال او ساعات العمل بنسبة 3-4 %، وبذلك سيُحبط قرار زيادة الاجور بالمعنى الاجمالي وسوف لن يتحقق هدف رفع الحيف عن العمال والكادحين ورفع مستوى معيشتهم. والعكس سيحدث ايضا فلو فرضنا ان العمال وافقوا على تخفيض اجورهم بنسبة 1% فسيندفع اصحاب العمل لزيادة التشغيل بنسبة 3-4% من اجل انتهاز فرصة تخفيض كلفة الانتاج وتحقيق ارباح اكثر.

كان پـيگو صديقا حميما لكينز. ورغم اختلافه الفكري معه فقد حافظ على روح الاحترام والتعاون حتى انه ساعد كينز بمبالغ كبيرة اثناء بحثه ونشره لنظرية الاحتمال. لكن كتاب كينز " النظرية العامة للعمالة والفائدة والنقود" المنشورعام 1936 والذي احدث تغييرا كبيرا في السياسة الاقتصادية، ليس فقط في بريطانيا بل على المستوى الدولي، انتقد فيه كينز بشكل واسع طروحات پـيگو حتى انه ذكر پـيگو 17 مرة في معرض نسف افكاره في الاستخدام والبطالة والنقود والتدخل الحكومي. وقد رد پـيگو على ذلك عدة مرات وفي مناسبات مختلفة.  ومن موقفه المخالف لكينز عرفنا ما سمي ب "تأثير پـيگو" Pigou Effect  المقصود به تحفيز الناتج الوطني ورفع مستوى الاستخدام والاستهلاك في اوقات الانكماش وانخفاض الاسعارDeflation والذي اوضح من خلاله پـيگو علاقة الاسعار بالانتاج والتشغيل والاستهلاك حيث يعتقد پـيگو بأنه في وقت الانكماش وانخفاض الاسعار،  سيعود الاقتصاد الى حالته الطبيعية وسيكون متوازنا اكثر مما يتوقع كينز. اذ ان مستويات الاسعار المنخفضة ستعني زيادة عرض النقود وارتفاع الميل الحدي للادخار والاستثمار الذي سيؤول الى زيادة التشغيل وبالتالي زيادة الانتاج وتوزيع اكثرللدخول التي سيذهب اغلبها الى الاستهلاك ! وبخلافه، فعندما ترتفع الاسعار للمستوى التضخمي، ينخفض الميل الحدي للادخار ويهبط الاستثمار والانتاج وتنخفض معدلات التشغيل اكثر وكذلك الاجور والدخل الاجمالي فيصبح المجتمع غير قادر على شراء السلع المتوفرة في السوق.

من الموضوعات التي اهتم بها پـيگو هو موضوع التفريق بين مفهومي صافي الناتج الخاص الحاصل نتيجة للقرارات الاقتصادية التي يتخذها الافراد وصافي الانتاج الاجتماعي الحاصل نتيجة للقرارات الاقتصادية التي يتخذها المجتمع. وكذلك بين الناتج الحدي الخاص والناتج الحدي العام. واوضح ان في اقتصاد السوق والمنافسة الحرةغالبا ما تتخذ القرارات الاقتصادية العامة من اجل تعظيم المنفعة الفردية المختلفة عن المنفعة العامة. وهذا ماينبغي معالجته من قبل الدولة. فمثلا احدى وسائل تحقيق الصالح العام هو تحويل جزء من دخول الاغنياء الى الفقراء عن طريق الضرائب والذي له اثر مضاعف حيث ان القيمة الحدية للدولار عند الفقير تكون اعلى من قيمتها الحدية عند الغني مما يسفر عن الاستخدام العقلاني للدخل وتحسين الحالة المعاشية للكادحين والمعدمين الذي سينسحب على تحسين الانتاج عموما وزيادة الانتاجية والمنفعة العامة للجميع. كان پـيگو متأثرا تأثيرا كثيرا بلبرالية جيمس مِلْ، حيث آمن بالفرد الذي تقيمه عقلانيته وموضوعيته وسعيه واحترامه للقانون. وكلما تهذب الفرد تهذب المجتمع وكلما كان المجتمع مهذبا كانت حكومته كذلك لترتقي الى مسؤوليتها العليا في حماية المجتمع والعمل الجاد من اجل الرفاه العام.

كان لپـيگو اصدقاء كثيرون تربطهم علاقات المودة والانسجام والتعاون المشترك لكنه لم يتزوج ! وكانت هوايته المفضلة تسلق الجبال مع مجموعة من الاصدقاء، وهي الهواية التي لم يعد قادرا على ممارستها بعد ان اصيب بمرض القلب واصبح ملازما لبيته. استقال من رئاسة قسم الاقتصاد في كمبردج عام 1943 لكنه بقي يحاضر هناك كلما استطاع ولحين وفاته عام 1959.

 

ا. د. مصدق الحبيب

 

تصادم الحقوق.. النفعية مقابل نظرية جون رولز

التفاصيل
كتب بواسطة: حاتم حميد محسن

حاتم حميد محسنعند الحديث عن "ثورة الحقوق" تبرز مشكلة إمكانية التصادم بين تلك الحقوق، واننا نحتاج لمعرفة الكيفية التي نحكم بها بين مختلف انواع الحقوق المتنافسة. للقيام بهذا، نحتاج معرفة نوع الحقوق التي نتحدث عنها، والاسس التي تقوم عليها. سنناقش هنا طريقتين في تأسيس الحقوق وهما: الطريقة التعاقدية والطريقة النفعية.

الأساس النفعي للحقوق

أحد الرواد البارزين الأوائل للنفعية Utilitarianism هو جون ستيوارت مل، الذي يعرض في كتابه (حول الحرية) دفاعا نفعيا للعديد من الحريات المدنية الأساسية التي نعتبرها اساسية للدولة العادلة. تقوم نظرية النفعية على اساس تقديم اكبر منفعة لأكبر عدد من الناس . يعتقد مل ان الناس عموما يكونون أسعد حالا وأفضل قدرة على الازدهار عندما يُمنحون حريات أساسية معينة. جون لوك ايضا أعطى تبريراً نفعيا لحرية التعبير. وبما اننا جميعنا عرضة للنقص، فان لوك جادل باننا يُحتمل جدا ان نصل الى الحقيقة عندما نسمح بالتحقق في مزيد من النظريات في مجتمع متحرر من تهديد الرقابة. ورغم ان البعض سخر من نظرية دارون في التطور، لكنها الآن نالت القبول الواسع من البايولوجيين. ان حقل التطور البايولوجي ربما لم يُسمح له ابدا ليتطور لو ان نظرية دارون مُنعت على اسس دينية.

ورغم ان لوك يتعامل بشكل صريح في سعيه للحقيقة، لكننا نستطيع قول نفس الشيء حول الجمال، والذي قد يرغب المرء تضمينه في الخير الأسمى او الأشكال المثالية للنفعية. ما اُعتبر إهانة لكرامة الانسان او انه قيمة فنية مشكوك فيها هو الآن تعبير فرنسي مقدس. وبالرغم من هذه الاصول التاريخية، نميل الان للاعتقاد في النفعية كشيء مخالف اساسا لنظرية الحقوق.

مثال الاستنساخ وقوانين براءة الاختراع اُستخدم كتوضيح للموقف عندما يميل المرء لإعطاء تبرير نفعي للحق. الاعتراف بان ليس كل شخص يتحفز فقط بالمكافأة الداخلية للاكتشاف، يعني اننا نريد ان نخلق حوافز للابتكار. افرض، مثلا، ان التقدم الطبي يُحتمل جدا ان يتحقق لو سُمح لشركات الأدوية بعمل ربح من بحوثها، وان هذا سوف يحدث فقط لو امتلكت تلك الشركات الحق في الملكية الفكرية. ايضا، ان الشركة ذات الاحتكار في اسواق معينة ليس لديها حوافز لزيادة الفاعلية او تقليل التكاليف، وهذا شيء لايفيد لجمهور العام الذي ربما يكون بإمكانه الانتفاع من زيادة الفاعلية الناتجة عن المنافسة. النفعية، عندئذ، سوف تحاول صياغة قوانين البراءة التي توازن على امثل وجه بين هذه الرغبات المتنافسة: الحوافز مقابل الفاعلية. بالطبع، هذه ليست العوامل الوحيدة الداخلة في العملية، وانما الشخص النفعي سوف يسمح بالاعتبارات المماثلة القائمة على المنفعة كي تؤخذ في الإعتبار اثناء النقاش.

المشكلة الاساسية في الأساس النفعي للحقوق هي انه له حدوده. كما لوحظ في مشكلة الأيادي القذرة(1)، انها قد تجيز ممارسات ومؤسسات معينة كالعبودية، التي نشعر انها غير أخلاقية. ان حق حرية الفعل والملكية الذاتية، مثلا، هي ربما اكثر جوهرية من اي اعتبارات للمنفعة. السؤال، اذاً، هو ما اذا كانت هناك طريقة اخرى لتأسيس هذه الحقوق الأكثر جوهرية؟

الأساس التعاقدي لرولس

الشخص التعاقدي يرى ان الحقوق يجب ان تتأسس على اتفاقات متبادلة بين الأطراف على عقد اجتماعي. العقد الاجتماعي ليس كأي اتفاق على وثيقة كما في العقد في قانون مسؤولية الضرر، وانما هو فرضية نظرية. السؤال الملائم هو ليس حول ما اتفقت عليه الأطراف في العقد وانما حول ما يتفقون عليه في موقف افتراضي. جون رولس طوّر واحدا من اهم أنظمة التعاقد الاجتماعي للعدالة.

ان أي نظرية تعاقدية ستواجه مشكلة كيف تجعل الاطراف المتعاقدة تكوّن افضليات لتصورات العدالة بطريقة موضوعية وغير منحازة. لهذه الغاية، رولس جعلنا نتصور الاطراف المتصارعة وراء "قناع من الجهل"، فيه ينسلخون من أي معرفة بالاحوال الطارئة عن انفسهم. بمعنى، ان الاطراف المتعاقدة لاتعرف عرق اي منها ولا الدين ولا ما اذا كان المرء ولد من عائلة ثرية او فقيرة، او كان لديه عجز بدني او ذهني، وهكذا. ومن ظروف الجهل هذه، تتفق الاطراف على مبادئ العدالة.

التبرير العقلاني للوقوف وراء حجاب هو لمنع الافراد من محاولة الحصول على امتيازات غير عادلة لأنفسهم. اذا انت لا تعرف منْ يملك رأس المال، عندئذ من الصعب معرفة ما اذا كان سيخلق مزايا للمرء كما يشير رولس:

الفكرة هنا هي لكي نجعل من المهم لنا ان القيود التي نفرضها على حجج مبادئ العدالة، ومن ثم على هذه المبادئ ذاتها تبدو معقولة. وهكذا، يبدو معقولا ومقبولا بشكل عام انه لا احد يُفضّل او يتضرر من الحظ الطبيعي او الظروف الاجتماعية في اختيار المبادئ .. كل شخص يتجرد من المعرفة بتلك الاعراض الطارئة التي تضع الناس في خلاف وتسمح لهم ليسترشدوا بتحيزاتهم. في هذا الاسلوب، قناع الجهل يتم الوصول اليه بطريقة طبيعية.(ص18-19).

حالما يتم استبعاد المعرفة "بالحالات الطارئة"، فان ما يتبقى من الافراد هم منْ يشير اليهم رولس بـ "الشخصيات الاخلاقية"، الذين تكون افضلياتهم غير متحيزة بمثل هكذا طوارئ وبهذا لن تحمل اية سلطة. بكلمة اخرى، في الموقف الأصلي هناك مساواة أخلاقية أساسية بين الافراد . لا فرد ولا افضليات فرد تُعامل كمتفوقه فطريا على الآخرين.

كون الأطراف المتعاقدة تجردت من كل هذا، يحتاج رولس لإعطاء تلك الاطراف شيء ما للتبرير به. هو لهذا يضيف التأملات التالية لإجراءات المساومة في الوضع الأصلي (ويشار اليه احيانا بقناع الجهل). ان الاطراف المتعاقدة تدرك ان "ظروف العدالة" ستُطبق على دولتهم وهكذا هم يحتاجون الى تصوّر للعدالة. كذلك، هم يعلمون بأن سيكون هناك نقصا بالموارد وان قدرات الناس محدودة، لذا هم يحتاجون الى مبادئ لتحكم في المنافسة على الموارد النادرة.

اخيرا، بينما الاطراف في الوضع الأصلي ليس لديهم معرفة بالمحتوى الخاص لرغباتهم او تصوراتهم عن الخير، لكنهم حقا يعرفون شيئا ما حول رغباتهم. هم يعرفون انهم يريدون ضمان العديد مما يسميه رولس"الخيرات الاساسية" primary goods (2) قدر الامكان. هذه الخيرات تتضمن: الحقوق والحريات والفرص والسلطات واحترام الذات. نحن نستطيع الاستنتاج ان جميع الاطراف سوف تمتلك هذه الحاجات لأنها الشرط الضروري لإنجاز اي تصوّر عن الخير. بمعنى، بغض النظر عما سننتهي به حالما يُرفع القناع، انك تدرك انه لكي تتابع الحياة التي تعكس تلك القيم، يجب عليك ان تمتلك اقل مقدار معين من الخيرات الاساسية. وفي ضوء كل ما تقدم، يعتقد رولس اننا سوف نصل الى اثنين من المبادئ الاساسية للعدالة:

1- "كل فرد ان يمتلك حقا متساويا باكثر الحريات شمولا بالانسجام مع حرية مشابهة للآخرين".(ص60)

2- "اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية يتم ترتيبها لكي تكون (أ) متوقعة عقلانيا لتكون لمصلحة كل شخص- وبالذات لمصلحة الاشخاص الأقل حظا، و (ب) تتصل بوظائف ومناصب مفتوحة للجميع"(ص60).

الفكرة الاساسية هنا هي ان الناس يجب ان لا يُحرموا من الخيرات الأساسية، ومن ثم من إمكانية السعي الدائم في تصورهم للخير، نتيجة لعوامل غير ملائمة أخلاقيا.

رولس يعترف ان الحقيقة الاساسية في ظروف الانسان هي ان هناك لامساواة في المواهب الطبيعية. وبدلا من محاولة المساواة – والتي يمكن فقط انجازها عبر اسقاط الموهوبين بالفطرة – نحن يجب ان نستخدم تلك اللامساواة لمصلحة الجميع. وكما يشير رولس:

لا احد يستحق قدرته الطبيعية الأكبر ولا مكانه الأول المفضل في المجتمع . ولكن ذلك لا يعني وجوب ان نزيل تلك الاختلافات. هناك طريقة اخرى للتعامل معها. الهيكل الاساسي يمكن ترتيبه لكي تعمل تلك "التمايزات الطارئة" لمصلحة الأقل حظا. وهكذا نحن نُقاد الى مبدأ الاختلاف لو رغبنا ببناء نظام اجتماعي لكي لا احد يكسب او يخسر من مكانه العشوائي في توزيع الاصول الطبيعية او موقعه الأصلي في المجتمع بدون إعطاء او استلام حقوق تعويضية مقابل ذلك(ص102). هناك نقطتان مركزيتان هنا:

1- ان اللامساواة يجب، قدر الإمكان، ان تعكس الاختلافات الملائمة أخلاقيا – على سبيل المثال، نحن نستبعد هيكل طبقي صريح.

2- ان نحاول ضمان ان اللامساواة تعزز الرفاهية حتى بالنسبة الى الأقل حظا.

ولكي نضع اللامساواة في عبارات اقتصادية: يجب علينا ان لا نتجاهل قوة الحافز للربح. بافتراض ان حقيقة ساسكولوجيا الانسان هو انه يتحفز بالسلطة والنقود والتي هي غير متساوية فطريا، سيكون من الخطأ تجاهل هذا. الوسيلة اذاً، هي ايجاد توازن بين برنامج الحوافز للعمل الشاق والابتكار دون حرمان الناس من الخيرات الاساسية الضرورية لوجود انساني ذو معنى.

كذلك يجدر التأكيد على ان المبادئ التي تأتي من هذا الإجراء تعمل كقيود على نظام العدالة، انها لاتحدد أي نظام عدالة على وجه التحديد. ذلك ان هذه المبادئ لا تحدد بالضبط كيف نصوغ ضرائبنا او مسؤولية التقصير اوالقوانين الجنائية والادارية. ولا هي تحدد ايضا بالضبط كيف نصوغ حقوقنا – القانون الكندي ولائحة حقوق الانسان الامريكية هما متساويان من حيث الشرعية. ما توفره هذه المبادئ هو نوع من الحماية من رغبة الأغلبية الديمقراطية او من الحكومات اللاديمقراطية. غير ان تحديد نظام للعدالة يجب ان لايخالف المبادئ الاساسية التي تأتي من مساومات الوضع الأصلي.

 

حاتم حميد محسن

.......................

الهوامش

(1) مشكلة الأيدي القذرة تشير الى المواقف التي يُطلب فيها من الفرد(وعادة يكون قائد سياسي) مخالفة مبادئه الاخلاقية العميقة من أجل مصلحة أكبر وأهم، كما في حالة اصدار اوامر بقصف مناطق سكنية من اجل تركيع الخصم.

 (2) هذه الخيرات كما يرى رولس يُفترض انها مرغوبة لكل الناس، بمقدار ماهي مفيدة لهم. وهكذا فان الخيرات الاساسية هي الأساس المشترك للاختيار بالإجماع لمبادئ العدالة في الوضع الأصلي. الخيرات الاساسية تتألف من نوعين: 1- الخيرات الاساسية الطبيعية وتشمل القدرات الذهنية والجسدية الاساسية من صحة وقوة وذكاء وذاكرة وغيرها و 2- الخيرات الاساسية الاجتماعية وتشمل حرية الاعتقاد وحرية الضمير والحريات السياسية وحرية الانتماء والحركة والمهنة. رولس يرى ان هذه الحاجات يجب ان تؤخذ بالاعتبار وبحرص شديد بحيث ان أي نظام قانوني يجب ان يقبل هذه الخيرات الاساسية كمظهر للعدالة الطبيعية. هدفه هو ان مبادئ العدالة تتعلق بالبناء الأساسي للمجتمع كـ "طريقة تنسجم فيها جميع المؤسسات الاجتماعية والسياسية الرئيسية للمجتمع مع نظام واحد للتعاون الاجتماعي".

 

 

ديمقراطية تعدد الأحزاب!!

التفاصيل
كتب بواسطة: د. شاكر كريم القيسي

شاكر كريم القيسيبعد 16 عاما تقريبا على أول تجربة انتخابية بعد الاحتلال، شعب العراق ارتضى في بادئ الامر هذا التنوع في نسيجه من مختلف الأحزاب، رغم ما يراه البعض منهم خطورة هذا التنوع الذي قد يهدد وطنيتنا واستقرارنا  ووحدة وطننا  وصيانة كرامة المواطن وعدالته وحريته،وهذا ما أكد صحة  رأي هذا البعض الذي عارض تعدد الأحزاب لاختلافها سياسيا وفكريا وعقائديا وحتى وطنيا . وكما ان ديمقراطيتنا المسلفنة لايضرها نقد علماني  او إسلامي ، الا إنها تضرها المبالغة بالتنازلات التي تمارسها الحكومات بزعم طلبا للسلم الاجتماعي وتحقيق الأمان والازدهارو العدالة والمساواة ، حين تحاول إرضاء الحزب الفلاني على حساب الحزب الأخر حتى لوكان الثمن ضياع هيبتها كسلطة. حيث لايوجد استيعاب حكومي عقلاني لهذه المتناقضات من الأحزاب والكتل، وليست الحكمة في محاولة جعلها أحزابا وسطية معتدلة، في حين أنها أحزاب نجحت بها الطائفية والقبلية والعرقية والمصالح الخاصة .

 والسلام الحقيقي الذي تبحث عنه الحكومة جاهدة، لن يأتي دون أن تكون لها مرجعية منطقية موزونة بميزان العقل والحكمة، تؤول إليها في كل ما تصدره من قرارات، ولابد من قانون لإشهار الأحزاب وتنظيمها ،وهو ان يؤسس الحزب على برامج وطنية مدنية، ويمنع بقانون إنشاء حزب على أساس قبلي أو طائفي او عرقي، ثم لا حزبية بلا حرية، ورغم ذلك فشلت الحزبية في هذا البلد الجريح، وهذا مرده ان الغالبية منها أسس على أساس عائلي أو عرقي او طائفي، وان تسمّت بأسماء براقة كالإسلامية والوطنية، لكنها بالمحصلة تجمع عائلي أو طائفي بالغالب يستغلها من له أجندة خارجية او مصلحية عائلية أو طائفية، ومن خلال التتبع الدقيق لسير مختلف مراحل العملية الانتخابية يمكن رصد جملة من الاختلافات البنيوية والوظيفية التي ادت الى حدوث انتكاسة حقيقية في المسلسل الديمقراطي الذي يزعمونه  بفعل سطوة المال الانتخابي والفساد المتعدد الاشكال والتزوير، والخاسر الأكبر شعب العراق  ومصالحه وحرياته والوطن وكيانه وازدهاره، وهذا لا يحتاج الى شرح بل يرى بالعين، كم من القوانين التي حققها من برنامجه الذي لأجله تم اختياره. ونتخلص من هذه التشرذمات المسماة كتلا وأحزابا بعد ان تحولت إلى دكاكين، والتخلص من الاختيار الشخصي الذي تفشت بسببه الواسطة والتجاوز على حقوق الآخرين وتكديس الناخبين في الوزارات، لهدر الجهد والمال نتيجة تعيينات الأحزاب وتابعيها في الوزارات التي هيمنت عليها، نتيجة المحاصصة الطائفية المقيتة ، ليس الا ليوم الانتخاب!

 وان كان يوجد أقلية تحمل فكرا ومشاريع، لكن السؤال هل تملك أغلبية لتمرير أي مشروع إلا بتشويهه بتكتيكات تفقده محتواه؟

 وهكذا أربع سنوات تلتها أربع واربع  ضاعت بلا مشاريع وتنمية، ومزيد من الحريات بل مزيد من التراجع والتخلف التشريعي والسياسي واختلاق الأزمات وترحيلها الى اربع سنوات قادمة وهكذا.

 ان اختلاف الاحزاب وتطاحنها يؤدي عادة الى الفرقة والتنابذ والتفكك. وكما يقول افلاطون:" ان لاشر لحيق بمدينة اكبر من ذلك الذي اذا نزل بها مزقها شيئا وأحزابا ولاخير تنعم به مدينة اعظم من ذلك الذي حل فيها  ربط اجزائها بعضها ببعض وجعل منها وحدة متماسكة".

ان  تعدد الأحزاب  والروح الحزبية  بهذا الكم الهائل في العراق بات واضحا تفضيل الصالح الحزبي على الصالح الوطني العام.

من هنا نؤكد ان ارتفاع جديد بعدد الأحزاب والتكتلات السياسية التي تستعد للمشاركة في الانتخابات القادمة ،سواء كانت مبكرة او في موعدها المقرر وفق القانون و في ظل غياب قانون واضح ينظم ذلك. فان هذا العدد الذي تجاوز400 حزبا وتشكيلا ،غايته التشويش على الناخبين ،وان ذلك يمثل ظاهرة سلبية وأظن ان بعض الأحزاب المسجلة هي مرحلة تلاشي بعد الانتخابات ،وان الأحزاب الكبيرة التي فشلت طيلة 18 عاما تتجه اليوم الى سرقة" تظاهرات تشرين" على الرغم أنها حاربة تلك التظاهرات بكل قوة ،ولكنها تهدف لسرقة أصوات الناخبين المؤيدين لانتفاضة تشرين.

 وعليه فان ان تلك الأحزاب لن تنجح في سرقة الجهود، عبر أحزاب وهمية لم تشارك بشكل فعلي في حراك تشرين . من هنا  يجب دعم الشباب الثائر الواعي لان يأخذ فرصته للظهور، كونه الحامل لمبادئ وافكار وقيم وطنية صادقة، من خلال التضحيات التي قدمها في انتفاضة تشرين المباركة . فما زال العراق في حاجة ماسة الى هؤلاء الشباب وطروحاتهم وتضحياتهم من قبيل العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية والكرامة الإنسانية لا الى الاستجداء المخجل لمناصب حكومية غير مستحقة!!

 

 د. شاكر كريم عبد القيسي

 

 

جان فالجان في البوسنة والهرسك

التفاصيل
كتب بواسطة: ناجي ظاهر

ناجي ظاهرتعيدنا رواية "رحلة الهامي الى الموت"، للكاتب اليوغسلافي رشاد قاضيتش، الى فترة تاريخية عصيبة من التاريخ الوغسلافي في منطقة البوسنة والهرسك خاصة، وتقدّم صورةً للشيخ الشاعر المسلم التقي النقي، ما يذكرنا بشخصية جان فالجان المليء بالقيم العليا والايمان المسيحي الحقيقي، في رواية البؤساء للكاتب الفرنسي ذائع الصيت فيكتور هيجو.

صدرت الترجمة العربية لهذه الرواية بعد ان قام الدكتور جمال الدين سيد احمد، بنقلها الى العربية، عن دار سعاد الصباح عام 1993، ولعلّ هذه مناسب للإشادة بهذه الدار وبدورها الرائع الذي قامت به في رفد الادب العربي بروائع من الآداب الاجنبية المترجمة، وبروائع من ادبنا العربي ايضا، ومن المؤسف ان تتوقّف دار نشر بهذه العظمة وهذا الالق، لتكف عن عطائها الثرّ ولتختفي بالتالي تاركةً افضل الاثار والذكريات، اما صاحب هذه الرواية رشاد قاضيتش فانه من ابناء العاصمة اليوغسلافية سراييفو، وقد ولد عام 1912، وابتدأ حياته الادبية وهو لمّا يزل على مقاعد الدراسة وكان نتاجه الاول في الادبيات الدينية فكتب قصيدة اشتُهرت وطُبعت في بلاده اكثر من عشر مرات في مدح الرسول العربي. عمل في الصحافة ردحًا مديدًا من عمره.

صدر له عددٌ من الروايات حملت اولاها عنوان " الرسالة الاخيرة لباشيسكي"، تلتها رواية حملت عنوان " الحاج لويو"، وفاجأ قراءه بين عامي 1960 و1070 بإصداره عشر روايات من ادب الخيال العلمي، وتُعتبر روايته " رحلة الهامي إلى الموت" التي نتحدث عنها، من اشهر رواياته وقد استلهمها من احداث التاريخ الماضية، واسسها على شخصية تاريخية معروفة في بلاده عاشت ذاتها بصدق وواجهت مصيرها المؤسي بسبب قصيدة احتجاجية نقدية، وجهت فيها سهام نقدها الى مستعمري بلادها من الاتراك، علمًا ان هؤلاء حكموا تلك البلاد منذ بداية القرن الخامس عشر حتى اواخر القرن التاسع عشر، واتصف حكمهم بالفظاظة والقسوة، وهو ما يتطرّق اليه كاتبُنا في العديد من المواقف والاحداث في روايته هذه.

الهامي هو إمام مسجد يكتب قصيدة يصف فيها ما رسفت فيه بلاده من ظلم الاتراك يقول فيها:

حل زمانٌ غريب/ اصبح كل شيء شرًا/ ماذا نتوقّع بالله عليكم؟

لقد تلاشت الطاقة/ اصبح كل شيء سيئًا/ اختفى الناس الطيبون/ ماذا نودّ بالله عليكم؟

ليس هناك عملٌ للتركي/ فقد طمس الظلم العدل/ وأبيدت العدالة.

تبلغ اخبار هذه القصيدة الحريفة مسامعَ الوالي التركي ويُدعى الجيلالي، فيبعث في طلب الهامي، فما يكون من هذا إلا ان يستجيب لدعوته فيسعى إليه في بلدته البعيدة، وهو يعرف انه سيلاقي هناك حتفه. يشرع الهامي في رحلته ويتعرّض لأحداث تُرينا كم هو رجلٌ طيب وانسان منزّه ويمكن اعتباره قدوةً طيبةً لكل من يعرفه ويلتقي به، حتى انه يعطف على كل من يلتقي به، فيقدّم الطعام لكلبةٍ تلد ويوصي من يلتقي بهم من الغجر بها خيرًا، ويقدّم جبّته الجديدة نوعًا ما مستبدلًا اياها عن طيب خاطر ومحبة في العطاء مع امام اخر يلتقي به وينزل ضيفًا معزّزًا مكرّمًا عنده. الرواية حافلة بالكرامات الانسانية التي تذكّرنا بالأتقياء والصدّيقين وتعيد مآثرهم الانسانية الصغيرة في حجمها الكبيرة في معناها الانساني، واعتقد ان هذا أحد اسباب إقبال القرّاء عليها، اضافة إلى ان الرواية مكتوبة بقوة تخييلية تخلق زمنها الروائي وبالتالي احداثَها الخاصة بها.

حتى عندما يصل الهامي ويقف في حضرة الجيلالي فانه يرفض شفقته عليه ويصرّ على احقيته في قول رأيه في وجه الوالي الظالم، ومن وقف وراءه في العاصمة التركية، المقصود الامبراطور التركي تحديدًا. اللقاء بين الاثنين الهامي والجيلالي يرينا كم هو قوي من يعتقد أن الحق إلى جانبه وكم هو ضعيفٌ من ينفّذ الاوامر فحسب. وتنتهي الرواية بأن يتمّ اعدامُ الهامي لينضم إلى قائمة الاتقياء والصدّيقين، في حين يلقى الوالي الجيلالي مصيره المتوقّع فيموت شرّ ميتة، وسط اعتقاد البعض أنه إما انتحر او مات مسمومًا.

اللافت في هذه الرواية، إضافةً إلى ما سبق وقيل، هو هذا الاصرار على الحقّ والايمان به عملًا لا قولًا فحسب، وما يثير الاعجاب بشخصية الهامي هو هذا الايمان العميق بعدالة قضيته، والجرأة في مواجهة قدره ومصيره، ذلك ان اكثر من فرصة للنجاة تتوفر للهامي خلال رحلته إلى الموت، إلا أنه يرفض أن يفر ويفضّل المواجهة، بالضبط كما فعل سقراط عندما فضّل شرب كاس السم وما فرّ.. ليتحوّل إلى ايقونة يفاخر شعبه بها ويرفعها عاليًا كلّما لحقت به المصائبُ وحاقت به المحن.

"رحلة الهامي إلى الموت"، رواية ادبية ترقى إلى مستوى إنسانيٍّ رفيع.. ويمكن قراءتُها في كل زمانٍ ومكان، مع أنها استمدّت أحداثها الأساسية من حادثةٍ واقعية.. فقد مكّنها التخييل الخلّاق من دخول ملكوت الرواية باقتدارٍ ودراية.

 

بقلم: ناجي ظاهر

 

 

أيام مملة ومستقبل مجهول في رواية: أصناموفوبيا

التفاصيل
كتب بواسطة: قاسم ماضي

قاسم ماضيللكاتب والروائي راسم عبد القادر

والرواية هي إبراز الخلل وإظهاره في محاولة للتنوير .

دأب الكاتب والروائي العراقي "راسم عبد القادر" على حياكة ما يكتبه في أعماله الروائية والقصصية التي نشرها في عدة دور نشر عربية وعراقية، وهو يعمل على منجزه الإبداعي بطريقة مغايرة عن الكثير من الذين سبقوه والذين زاملوه في هذا المجال الصعب من الكتابة ولأن أسلوب " الشللية " المتعارف عليه في معظم أوساط المثقفين من العرب وغير العرب يلعب دوراُ مهما فيما بينهم على أساس هذه الشللية وكما يقال "شيّلني وأشيلّك " من أجل تقاسم المنافع فيما بينهم، ومن هنا يقول على لسان شخوصه. لمن أقرأ ولمن أكتب؟ لا أحد يقرأ الآن ! ص179

 وحتى لا يغيب عن بالنا وعن بال الكثير من المعنيين بالكتابة، فالكتابة هي وظيفة أرشيفية تقوم بوظيفة الذاكرة فتخزن كلما يخص الإنسان .والمشتغلون في هذا المجال وأقصد "الكتابة الروائية " يعملون من أجل ردم الهوة الحاصلة بين الوعي واللاوعي في هذه الحياة .بإعتبارها هي جنس أدبي نثري، يقوم على الحكي القصصي المرتكز على الخيال، وتصدت الرواية لتلك الأحداث التي عاشها شعبنا العراقي بعد الغزو الأمريكي على شكل شخصيات معينة ومقسمة على أحداث رئيسية .

" ظهرت اليوم المعادن لبعض الناس " ص11

 حياته اليومية،وكذلك بياناته الشخصية، والتي حرص عليها رغم تعب الحياة التي عاشها في بلده، وأقصد هنا الروائي "عبد القادر". وهو الداعي إلى تفعيل وتطوير شخصية الإنسان والنهوض به روحيا ً ونفسيا، من خلال كتاباته التي تشكل لديه محطات هامة في رحلة الكتابة، وهي متميزة بالموضوعات والثيمات التي تعالجها .

"المشكلة في أحزاب السلطة ذات التوجهات الدينية ص121

 عايش تلك الأحداث بين ما حصل وبين المتخيل،وهو ينصت بكل كيانه، وتاريخه وذاكرته وأيامه الماضية، وكذلك يهتم بتوظيف مفاهيم التداولية لضبط خطابه الروائي، وهو بهذا استطاع أن يصوغها " القادر " في سرده الممتع والمفعم بالقيم الجمالية الخالية من الإسفاف والتشرذم،ولم يتخل َ السارد " القادر " عن مظهره الجمالي في مجمل عوالم هذه الرواية " أصناموفوبيا"

"المتغيرات وفي كل الأزمان "ص5

2173 راسم الحديثي

وعدم تبعثر رؤاه التي حافظ عليها طوال نسيجه الروائي، وهو متمرس بهذه الصنعة منذ انطلاق روايته الأولى المعنونة " دائرة الخوف " والتي صدرت عام 2012، والتي حولها من مبدأ أثارة الأسئلة التي تخص التعدد، والتعايش، والتنمية، والحريات وحقوق الإنسان "إلى أن هناك ضرورة لازمة لعدم اعتبار أي دين أسير زمن نشوئه،فثمة عوامل تاريخية اجتماعية وثقافية تسهم بإنتاج مفاهيم جديدة للأديان،تجعلها حية ومتفاعلة مع كل المتغيرات وفي كل الأزمان "

" لم تكن الأديان يوماً خياراً، هكذا وجدنا أنفسنا قد اخترنا وانتهى "ص61

وهو يضع نصب عينيه كل هذه الأسئلة، محافظاً على منجزه الثري والمتعدد على الدوام لمراقبة ما يحدث في بلده، حيث يرسم شخوصه التي عايشها من خلال واقعهم المشتعل بالطائفية التي أجّج جوانب كبيرة منها الاحتلال الذي إجتاح البلاد، لهذا إنطلق " راسم عبد القادر " بشخوصه وهو يُعبّر عنهم تعبيرا دقيقا مدروسا وبشكل موضوعي دون تطرف أو إنتماء لعقيدة أودين، فهو مدرس مادة الكيمياء ودخل أثناء دراسته في مختبراتها كي يعطي دواءًا صالحاً إلى هذا العالم الضاج بالحروب والفتن،فهو يعمل بحرص وجد , من أجل إشعال شمعة في وسط هذا الظلام، وفي هذا المتخيل الواقعي في حدود ما هو واقعي، وهو ما حصل ويحصل في هذا المجتمع .

" موضوعنا لهذا اليوم هو الشد الطائفي " ص47

 لأنه صوّرَ لنا كارثة الحرب الطائفية " وهو بهذا يطرح العديد من أسئلته المتعبة والتي تحمل في طياتها الكثيرمن الطيبة والمحبة لهذه الناس التي تعايش معها خلال فترة حياته، فجاء العنوان مُلازماً لمفاهيم هذه الرواية التي تحمل في طيات صفحاتها، إدانة لهذه الأفكار الخاطئة التي حملها البعض في فلسفته المريضة، وهو يظهر ويبرز الخلل على عدد الصفحات الممتلئة بالمنغصات التي زرعها الاحتلال الأمريكي بين أبناء الشعب .وهو يتجدد بطرحه، هذا الروائي الذي أمعن كثيرا في كتابة هذه الرواية، إذ تتجسد أمامنا نص بتركيبة فنية ونظام سردي وجمالي سلس .

" نعم يا أختي، هم وراء صراع أية سمكتين في محيط البحر، ولكن هناك علة فينا أيضاً "ص179

وهنا يأتي العنوان " أصناموفوبيا " مخيفاً من حيث فلسفة هؤلاء المصابين بعقدة الخوف وهو الخوف من الصنم "فوبيا " وهو رجل الدين المتطرف الذي لا يقبل غيره، لا بل يُكفّره وبالتالي يقتله "

" هل سمعتم بالحرب الطائفية التي حصلت في كثير من البلدان؟

وهو ظل يحكي عنهم ملمحا ً عن ما تعرضوا إليه في هذه الحرب الطائفية من عام 2003 إلى عام 2007،حتى شخوصه التي رسمها وعمل عليها ظلت أسيره ذاكرته في تلك الفترة الصعبة، ومنهم " اللواء الركن عبدالواحد + منى + مقدم قصي + سرمد + زهير " وهو يشتغل بسرده هذا على فك طلاسم هذا الواقع المزري والمتشظي بفعل الحكومات التي توالت على شعبنا العراقي، وهي طلاسم ملغزة،فجاء هذا "الحكي " ومن خلال روايته التي طبعت في دار الجواهري وهي من القطع المتوسط وتقع في صفحة 179 . وقلقه الآخر وهواجسه إزاء ما يحدث في واقعه العراقي المُخيّب إلى الآمال والتطلعات كما بقية الشعوب

" هل نعترض على الأخذ بثأره ؟ص100

وهنا إستذكر قول الكاتب الشهير " انطوان تشخيوف " أيام مملة ومستقبل مجهول ونوم غير منتظم، جسد مرهق وأمنيات تترتب تحت الوسائد،والأيام تمر، ولا شيء جديد "

 لعنك الله مقدم قصي " ص171

 والكتابة هي إحدى أهم وأبرز طرق التواصل بين الناس، وهي وسيلة مهمة للتعبير عن المشاعر الدفينة للآخرين في محاولة لتقريب المسافات، ونحن نفهم بأن السرد نقل الحادثة أو الحوادث من صورتها الواقعية، لأي صورة لغوية تفيد " الحكي " مستخدماً لغة ناطقة بالشخصيات مكثفة الأحداث، محاولأ بذلك توفير المتعة الإضافية مع المحاسن الفنية، يتجسد ذلك في طريقة نسج الروائي راسم للبيئة المحلية والشخصيات التي تخوض غمار الأحداث وطريقة تصرفاتهم ومحادثاتهم .

" اعتقلت المجموعة التي كانت وراء قتل العتابي . ص138

تقول عنه الناقدة " اشواق النعيمي " تقدم الرواية في الخاتمة أجوبة مقترحة لبعض الأسئلة التي أثارها النص ويكتشف للقارئ عما اختزله العنوان من شفرات سردية وسؤال راوده قبل القراءة، من هم الأصنام المخيفة ؟

ولعل اشتقاق عنوان الرواية من مفهوم (الإسلاموفوبيا ) الذي راج إعلاميا في الغرب بعد أحداث الحادي من سبتمبر 2001 كان خطوة موفقة للتعبير عن فوضى التعصب الناجم عن الجهل والتدخل الخارجي، ويحمل دلالة مهمة في التعبير عن المتطرفين الذين باتوا عبيدا لتلك الاصنام التي كانت ولا تزال تحرك مارد العنصرية والطائفية لديهم .

مبررات العمل يتطلب قتل أخيك إذا كان وجوده حيا يضر بعملنا ص117

بقى أن نذكر الروائي " راسم عبد القادر الحديثي " صدرت له رواية بعنوان " دائرة الخوف " عام 2012، صدرت له رواية " أولاد حمدان .

 

قاسم ماضي – ديترويت

...............

* صدر له "مسارات الحداثة في الفكر الوطني والقومي" عام 2016

 

كتاب: عيلبون.. التاريخ المنسي والمفقود

التفاصيل
كتب بواسطة: نبيل عودة

نبيل عودةمن تأليف عيسى زهير حايك

يستعرض عيسى حايك في كتاب من الحجم الصغير تاريخ احدى قرانا الفلسطينية، قرية عيلبون، معتمدا على نصوص (مخطوطات) صاغها المرحوم جمال حنا عيد وهو من مواليد عام 1911 

يطرح الكاتب حسب المخطوطات تفاصيل عن تاريخ نشوء القرية التي تعرف اليوم باسم عيلبون.

جاء في الكتاب:عرفت عيلبون في زمن الكنعانيين باسم "ايلانو" وكانت قرية يسكنها رغاة الأغنام والمواشي وان مسكنهم كانت الكهوف المجاورة، التي لجأوا اليها في زمن خراب هيكل سليمان الثاني عام 70 ميلادية وكان احد علماء الهيكل ماتيا بن حراش احد أولئك اللاجئين الذين لجأوا الى عيلبون. اذ قام بتأسيس مدرسة وبناء كنيس بعض البيوت وسما عيلبون ب "عيلبو" او " ايلبو"، وعند هجوم الرومان على المستوطنات اليهودية اختبأ ماتيا بالكهوف المحيطة بالقرية ومات فيها .

ويشير الكاتب ان عيلبون الحديثة لا يزيد عمرها عن 300 سنة، اذ سكنها احد ولاة السلطنة العثمانية وهو درزي من جبل الدروز في سوريا، وان معظم سكان القرية كانوا من الهاربين لأسباب مختلفة من القرى والمناطق المجاورة، ومن لبنان وسوريا أيضا.

ويكشف الكتاب ان اول عائلة قدمت الى عيلبون كانت عائلة الدروبي وثم عائلة حداد وعائلة أبو درويش(عازر) وعائلة القدسي وعائلة الخروف وعائلة الأشقر، ومع الزمن جاءت عائلات أخرى. فأصبحت عيلبون قرية صغيرة تسكنها بضعة عائلات.

هذا التمهيد هو العرض الأساسي لتطور قرية عيلبون، ثم يطرح الكاتب واقع القرية من حيث الأراضي التي كانت قليلة بسبب انتشار الأحراش، ويشرح كيف كانوا يسرقون اشجار الزيتون لزراعتها في أراضيهم.

يذكر الكتاب ان الأب بولص الأشقر كان اول زعيم روحي في عيلبون وانه مؤسس عيلبون الحديثة وواضع حجر الاساس للقرية.

يشير الكاتب الى ان رجال الدين كانوا عادة هم الزعماء لسبب وجيه انهم الأكثر علما وثقافة ومعفيين في ذلك الزمن لتي سادت فيه تركيا على بلادنا من التجند للقتال في الجيش العثماني في حرب السفر برلك/ أي الحرب العالمية الأولى.

2174 قرية عيلبونيشمل الكتاب أيضا سجل ذكريات للخوري يوحنا ابن داوود المعلم وهو أصلا من ديرحنا. وخلفه ككاهن ابنه مرقص المعلم المعروف بشجاعته والذي لعب دورا هاما في فترة النكبة واحتلال إسرائيل للقرية، فقابل الجيش والصليب الأحمر وراسل كل الدوائر المختصة لإعادة اهل عيلبون الين غادروا القرية هربا من القتل من جرائم القتل. واستطاع اهل القرية العودة لقريتهم. ويقدم الكاتب وثائق صيغت بتلك الفترة وكانت موجهة لمدير الشرطة في طبريا، لوقف التنكيل وإعادة الأهالي الهاربين.  كذلك كتب لوزير الداخلية الإسرائيلي شارحا الجرائم التي ارتكبت بدون سبب وجيه وسقط نتيجتها 12 شابا من اهل عيلبون.  وارتكاب جرائم أخرى وسرقة أموال وحلي النساء واعتقال العشرات وارسالهم الى المعتقل، ثم قذفهم على جدود لبنان وكانوا قد قضوا أياما بلا طعام ومعهم أطفالهم.

يستعرض أيضا استباحة جيش إسرائيل لبيوت الفرية ونهب كل ما هو خفيف الوزن ومصادرة الحبوب بانواعها واثاث البيوت حتى لم يبق شيئا للطعام او للغطاء او للكسوة وغالي الثمن الى جانب اخذ الحيوانات بكل اصنافها، وأكثر من ذلك احضروا من يقطف ثمار الزيتون وتحميلها.

وبقدم الكاتب وثيقة بأسماء الرجال المعتقلين من قرية عيلبون.

يقدم الكاتب مسحا لواقع القرية، بيوتها وعدد الأفراد في كل منزل، والحياة اليومية والغذاء والمعيشة وتربية الحيوانات والدواجن وأنواع المزروعات/ كذلك يستعرض اشكال التمريض والعلاج البدائية في ذلك الزمن وطريقة الولادة وتربية الأطفال، وغير ذلك من العادات والتقاليد. ويروي أسلوب الزواج والأعراس والأعياد، وعادات الموت والدفن، والمدارس والتعليم وغير ذلك من التقاليد.

الكتاب سجل مثير لتاريخ قرية لها مكانتها في الواقع العربي الإسرائيلي اليوم، فهو يسجل الذاكرة الجماعية لأهل قرية من قرانا بكل التفاصيل، وليت هذه الذاكرة الجماعية تسجل أيضا من نشطاء آخرين في قرانا المختلفة لما لها من أهمية.

 

بقلم: نبيل عودة

 

مصطلح أديب

التفاصيل
كتب بواسطة: د. يسري عبد الغني

يسري عبد الغنياسماعيل مظهر(1891-1962) هو مفكر مصري ليبرالي تقدمي. ولد بالقاهرة لأسرة ذات أصول عديدة. يُعتبر أحد رواد النهضة العلمية المعاصرة في مصر والعالم العربي، وأحد رواد الفكر والعلم والترجمة. درس علم الأحياء ثم ‏تحول إلى الأدب. قام بترجمة كتاب "أصل الأنواع" لتشارلز داروين ونشره عام 1918، وأعيد طبعه عام 1928. كما ترجم كتاب "نشوء الكون" و"حياة الروح ‏في ضوء العلم". وعمل بالتأليف وأصدر مجلة "العصور" عام 1927، وترأس تحرير "المقتطف" ما بين عام 1945 و1948، ومن مؤلفاته: "قاموس الجمل ‏والعبارات الاصطلاحية الإنجليزية والعربية" الذي نشره عام 1951، و"قاموس النهضة : انجليزى -عربى" عام 1954 و"معجم مظهر ‏الانسيكلوبيدي" وقد طبع منه ثلاثة أجزاء. يقول عنه ابنه جلال في مقدمة كتابه "رسالة الفكر الحر" أنه "كان ناقدًا ومفكرًا ومصلحًا اجتماعيًا وأن أفكاره دارت حول ‏معنيي الحرية الفردية والمثل الأعلى"، وأنه كان مخلصًا دفع كل شيء ماله وأعصابه وجهوده، وأن أهم مواقفه دعوته عام ‏‏1929 إلى تكوين حزب اجتماعي سماه "حزب الفلاح" أو "حزب العمال والفلاحين"، لأن الريف عنده هو مصر ومصر هي ‏الريف".

نادى عام 1929 بضرورة الإصلاح الاجتماعي، وكان ‏الحل في رأيه هو تكوين حزب سياسي جديد، فلجأ لتحقيق هدفه إلى ‏حزب الوفد وهو حزب الأغلبية، ولكن مصطفى النحاس رفض ذلك، واتخذ من إسماعيل موقفًا سلبيًا. أما حزب الأحرار الدستوريين فوقف منه موقفًا عدائيًا وهاجمه واتهمه بأنه "يثير حرب الطبقات وأنه شيوعي ومتصل بموسكو"، وقبض عليه عندما ‏تولى هذا الحزب الحكم ولكن لمدة ليلة واحدة. وفي أعقاب أزمة 1931 اضطر إلى إيقاف مجلة "العصور" وإلى وقف نشاطه ‏الاجتماعي، وابتعد عن الحياة العامة وبدأ بتأليف المعاجم والقواميس، غير أنه لم يتوقف ‏عن الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي.‏ دعا إسماعيل مظهر إلى الفكر الحر وإلى نظام اقتصادي سماه "التكافل الاجتماعي" ليحل محل الاقتصاد الحر بتوفير ‏فرص متساوية للجميع، في ظل نظام من الحرية المضمونة من شأنه أن يحد من استغلال الفرد للمجتمع ومن اضطهاد ‏المجتمع للفرد.

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

الشخصية العراقية.. بعد التغيير

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. قاسم حسين صالح

قاسم حسين صالحاثارت "الشخصية العراقية" اهتمام الباحثين والمؤرخين والمحللين السياسيين، ونعتوها بصفات فيها من التناقض ما لا تجد في حدّته ما وصفت به شخصيات اخرى عربية كانت ام اسلامية ام اجنبية. فهنالك من يعظّمها ويرفع من شأنها بما يوحي لك انها تتفرد بما هو جميل من المزايا، وهنالك من يذمّها ويصفها بأقبح ما في البشر من صفات.

ولهذا الاهتمام بالشخصية العراقية والتناقض الحاد في وصفها او تحليلها اسباب سياسية ومنهجية.والمشكلة ليست في الاسباب السياسية لأن امرها معروف، فمن اراحها من السياسيين امتدحها، ومن اتعبها ذمها، فضلا" عن ان الكتابات من هذا الصنف تفتقر الى العلم، وان الغالب على الباحثين الذين " حللوها " كانوا يكتبون ما يرضي السلطان أو الحاكم، وهذا أمر أنتم أدرى به. لكن الاشكالية في هذا التناقض تكمن – برأينا – في الاسباب المنهجية، اي طريقة البحث العلمي التي تتطلب الموضوعية واستخدام ادوات البحث التي تفي بشرطي الصدق والثبات، وان يكون القائم بها متمتعا" باخلاقية البحث العلمي، لاسيما التجرد من الميول والاهواء، وان يكون متخصصا" في " علم نفس الشخصية " أو ملمّا" بنظرياتها واساليب البحث فيها.

لقد كشفت سنوات ما بعد التغيير (2003) صفات جديدة عن الشخصية العراقية بعضها ما كان موجودا فيها بنفس الحّدة، وبعضها كان يعد عيبا اجتماعيا وصار ظاهرة شائعة جسدتها سلوكيات او مواقف العراقيين في اهم حدث ميداني قدمت لنا نتائجه تشخيصا لخصائص الشخصية العراقية لا تقدمها بحوث ميدانية، لأن الحدث يتعلق بالوجود الانساني للفرد، ومسؤولياته الأسرية، والاجتماعية، والوطنية.. نوجزها

في هذه الحلقة بثلاث صفات، هي:

اولا: التعصب للهوية

التعصب بمفاهيم علم النفس الاجتماعي والسياسي هو (اتجاه سلبي غير مبرر نحو فرد قائم على اساس انتمائه الى جماعة لها دين او طائفة او عرق مختلف، او النظرة المتدنية لجماعة او خفض لقيمتها او قدراتها او سلوكها او صفاتها، او اصدار حكم غير موضوعي قائم على تعميمات غير دقيقة بشأن جماعة معينة).. انتهى التعريف العلمي له.

في المجتمع العراقي قبل التغيير، أخذ التعصب ثلاثة أنواع:

أ- التعصب الاجتماعي. ويحصل في محدودية التزاوج القائم على اساس العرق او الدين او المذهب، وهذا هو الغالب على صعيد الزواج بشكل خاص، لدرجة ان عوائل تحصر الزواج بمن ينتمي لنسبها ولن تعطي امرأة منها (لغريب) حتى لو تبور.

الثانية: التعصب المؤسسي. ويقصد به احتكار مواقع اتخاذ القرار في السلطة والمراكز الحساسة والمؤثرة في مؤسسات الدولة العراقية لطائفة معينة.

والثالثة: التعصب السلطوي.وفيه يأخذ شكل الحروب التي تصل أحيانا إلى حدَّ الإبادة البشرية، كالتعصب العرقي ضد الكرد، الذي مورس من قبل السلطات العربية التي توالت الحكم على العراق، والتعصب الطائفي بإبادة آلاف الشيعة التي كشفتها المقابرالجماعية.

هذا يعني ان التعصب موجود في مجتمعنا قبل التغيير لكن اعراضه ما كانت حادة الى عام 2005 حيث انفجر بعنوان جديد هو صراع الهويات.. الأمر الذي يحتاج الى تحديد مفهوم (الهوية). فالشائع اعلاميا تداول السياسيين والمثقفين مفردة (الهوية)كما لو انهم يحملون عنها مفهوما مشتركا محددا فيما يشير واقعهم الى انهم يختلفون في دلالاتها ومعانيها.

وللتوضيح فان الهوية على اربعة انواع: الهوية الشخصية.وتعني الافكار والقيم الثابتة نسبيا التي يحملها الفرد بخصوص نفسه ودوره وفئته الاجتماعية والاحساس بكينونته وصفاته الفردية .والهوية الاجتماعية الفئوية وتعني الشعور بانتماء الفرد لجماعة معينة لها تقاليد ومشاعر خاصة، ، وهي في المجتمع العراقي على نوعين: المذهبية (الطائفية)وتتمثل بطائفتي السنّة والشيعة، والهوية العشائرية، وتتمثل بالعشائر الكبيرة. والهوية القومية وتعني احساس الفرد بانتمائه لجماعة كبيرة او شعب يشتركون في تاريخ واحد وقيم وعادات (العرب، الكرد، التركمان.. ). والهوية الوطنية وتعني احساس الفرد الفرد بانتمائه الى وطن واحد تعيش فيه مكونات اجتماعية متعددة الهويات وشعور مشترك بالاعتزاز بوطن عاشوا على ارضه تاريخا طويلا واكتسب اسم دولة لها علم واحد يميزها بين الدول.. فضلا عن هويات اخرى من قبيل الهوية الثقافية، الدينية، والجندر.

والمسألة المهمة هنا هي ان للهوية الدور الاكبر في تحديد اهداف الفرد وتوجيه سلوكه ونوع العلاقة التي تربطه بجماعة اجتماعية معينة او جماعات لاسيما في اوقات الازمات.. وهذا ما حصل بين عامي 2006 و2008 في العراق في احتراب راح ضحيته عشران الالاف من العراقيين وصل الى مائة قتيل في اليوم في تموز 2007.

ثانيا: الوصولية:

تعني الوصولية ان الفرد يسعى للوصول الى هدف او غاية باستخدام اساليب غير لائقة او غير اخلاقية.. جسدتها تصرفات عدد كبير من المرشحين في استمالة الناخبين للتصويت لهم. والمؤذي هنا، اخلاقيا، ما احدثته هذه التصرفات في الناس.. وأوجعها بيع الضمير الوطني بثمن بخس، واحداث تخلخل في المنظومة القيمية للفرد والمجتمع، بخفض مرتبة قيمة المبدأية ورفع قيمة الوصولية في الهرم القيمي للشخصية العراقية.. وهذا يعني ان الشخصية العراقية ستصبح (ميكافيلية) تعتمد مبدأ الغاية تبرر الوسيلة.. وهذا من اسوأ وأخطر ما حصل للقيم في المجتمع العراقي ويتحمل السياسيون في السلطة مسوؤلية تاريخية عن تهرؤ اخلاق ستحتاج زمنا طويلا لأصلاح ما افسده وصوليون احتلوا المراكز التي يفترض فيهم ان يكونوا القدوة.

ثالثا: التخلي عن القيم الدينية:

معروف عن الشخصية العراقية انها تلتزم بالعبادات(صلاة، صوم.. )لكنها لا تلتزم بالقيم الدينية من قبيل الصدق والاستقامة مثلا.غير ان عدم الالتزام هذا كان يمارس على استحياء، فيما صار يمارس علنا بعد التغيير.ولهذا سببان رئيسان:

الأول: ان الحكومة والبرلمان اشاعا فسادا فاحشا وصيروه من فعل كان يعد حراما في القيم الدينية الى شطارة وانتهاز فرصة.

والثاني: ان اصحاب عمائم وملتحين في البرلمان والسلطة كانوا يتبادلون تهما تدينها القيم الدينية وترتب عليها عقوبات دنيوية وتعد مرتكبيها بحساب عسير.ولأن عامة الناس وجدوا (أن اولي الأمر) وشخصيات دينية لها حضور سياسي واجتماعي ترتكب ما يناقض القيم الدينية فانها احلت لنفسها عدم الالتزام بها.والذي حصل بعد التغيير انها تخلت اكثر عن هذا الالتزام.. وهذه قضية خطيرة لأن المجتمع، خاصة الاسلامي، الذي لا تسوده القيم الدينية فانه يبيح لأفراده ارتكاب الافعال التي تؤذيه وتفككه.

ان السبب الرئيس لعدم الالتزام هذا هو تبادل الاتهامات بالفساد بين رجال دين صاروا مسؤولين، وتورط رجال دين آخرين باعمال تحسب على الارهاب، وتناقض افعال مسؤولين (دينيين)في السلطة مع اقوالهم، وعدم امتثالهم لتوجيهات ونصائح المرجعيات الدينية.. اوصل الفرد العراقي الى حوار داخلي مع النفس: (اذا كان اهل الدين ومن يفترض بهم ان يكونوا قدوة، غير ملتزمين بالقيم الدينية فما الذي يدعوني انا الانسان البسيط الى الالتزام بها.. وقد ضاقت بنا سبل الحياة؟).ما يعني نفسيا، ان الشخصية العراقية وجدت التبرير العملي لأن (تخدّر، تميت )الوازع الديني وتبيح لنفسها عدم الالتزام بالقيم الدينية، أدى الى شيوع الكذب، النفاق، التزلف، واللاحياء.

والتساؤل: هل ستبقى هذه الصفات الذميمة في الشخصية العراقية؟.

الجواب.. ذلك يتوقف على نتائج الأنتخابات المبكرة، فان احدثت تغييرا ايجابيا مؤثرا في العملية السيايسية، فان تلك الصفات الذميمة ستضعف.. انطلاقا من حقيقة: ان نوع النظام السياسي في المجتمع هو الذي يحدد صفات وأخلاق أفراده.

*

أ. د. قاسم حسين صالح

 

 

اوراق كامل شياع.. عمق التوجهات والأفكار النقدية

التفاصيل
كتب بواسطة: د. جمال العتابي

جمال العتابيبمثل هذا الأثر الأدبي الواسع المعالم يقدم لنا كامل شياع ملامح جديدة من قراءات في الشأن الثقافي والرواية والفن والشعر، في كتاب صدر له مؤخرا 2021 عن دار المدى، من إعداد شقيقه فيصل عبد الله، وإذا كان فيصل قد أفلح في إختيار عنوان الكتاب (أوراق كامل شياع)، فإنه قد أفلح في التعريف بكاتب لم نعرف عن كتاباته قبل عقدين أو أكثر من عام 2003، أي منذ أن غادر كامل العراق، يوم صارالوطن مجمرة، والموت حارس البوابات الشرقية.

أوراق كامل بمجموعها تمثل المقالات التي كتبها ونشرها منذ بداية تسعينات القرن الماضي في الصحف والمجلات التي تصدر في لبنان وسوريا، أو في بلدان أوربية، يرصد فيها الفنون المجاورة للأدب، و من المؤكد ان كامل شياع هو أحد الكتاب الذين يثيرون لدى القارئ فاعلية الجدل، حين يتناول الموضوعات الساخنة والحميمة التي تطالعنا في أجناس مختلفة ومتعددة في ميادين الإبداع، ليس بوسعنا في هذه المقالة أو الخلاصة أن ننقل سحر هذا العمل وألقه، انه تفاعل يقظ ومدهش، قادر على التجاوز، وكامل قادر على التجاوز وان يعطي معاني جديدة للأشياء، فالكتابة عنده متعة ومعاناة، والفكرة شاغل مستمر في عقله، تستحق المزيد من التفكير والتأمل.

أقول دون مبالغة: ان كامل نمط من المثقفين لا خيار لهم إلا الإشتغال بالكلمة والمعرفة والحوار، تجربته الفريدة تلخص لنا عالماً من الإنتماء الى هذا العالم ومحيطه، تجربة تعيد صياغة معنى الثقافة لتسمو بها اليوميات، يجد في فهمه للثقافة إكتشافاً للمعاني الإنسانية، عبر ما أنتجته عقليته النيرة، هو من القلة القلائل الذين يجيدون التحدث بست لغات ويكتبون فيها، لتعميق صلته بالمعطى الفكري والإبداعي العالمي، ومن صفوة المثقفين الذين  تخصصوا في الكتابة عن الموسيقى والسينما والتشكيل  والإجتماع والسياسة، فضلاً عن الكتابة في المسائل الأدبية الأخرى، مع تفوقه في تخصصه الدقيق في الفلسفة، إذ قدم إطروحته للماجستير بعنوان (اليوتوبيا معياراً نقدياً). وهو أبرز المشتغلين في هذا المجال، وله إجتهاداته الخاصة في هذا الميدان.

في أوراقه يعمّق كامل توجهاته النقدية، ويعطي مفهومي الادب والنقد بعداً فلسفياً عميقاً، يجد فيهما ضرورة فكرية وحاجة إنسانية، النقد كما يعتقد حالة مختلفة عندنا، لم يتأصل حامله الذي هو العلم، أو بالأحرى الروح العلمية كمرادف للتجرد، وشياع يكتب بتجرد ونبل وتواضع، مؤمن بإمتياز بالحداثة في اللغة والترجمة والخطاب، مؤمن بالعقل والتنوير والحرية، والتوق الى الحقيقة، والتحضر بأشمل معانيه وأرقاها، هذا النزوع يضطرم في عقله وقلبه ووجدانه، صادراً عن تنبه وتيقظ، كضرورة ثقافية وإنسانية، لقد إكتسب كامل مناعة خاصة ميزته عن الآخرين في نظرته للثقافة بشكل عام وللثقافة العراقية على وجه الخصوص، في مناقشاته لافكار سمير أمين وادور سعيد ومحمود صبري، الثقافة بنظره جهد حضاري ومشاركة لفعل ابداعي، لا تسمح بالإنطلاق نحو الخيالات والأوهام، ويُسجل لكامل شياع موقفه المختلف المعارض لإولئك الذين راهنوا على الحرب الأمريكية قبل 2003، إذ يقول:  لا أتفق مع هؤلاء لحل الأزمة العراقية، وأجد موقفهم كموقف من يرى الأشجار دون الغابة، لا أتفق مع حججهم الذرائعية، جلّ ما أخشاه في مهادنة مثقفينا للأمر الواقع من منظور يتناسى أيديولوجية ودوافع الإدارة الأمريكية.

وفي لقاء مع فؤاد التكرلي، يصفه بيتيم بغداد المريض بالأمكنة، في الإجابات ما يدعو للتوقف عند تبرير التكرلي لابتعاده عن السياسة في بلد مشحون بالصراعات السياسية، بوصفها محض تهويش وإدعاء، والنأي عنها يأساً واحتفاظاً بالكرامة الإنسانية. ويشير كامل إلى التجارب الجديدة في الفن التشكيلي المعاصر، من خلال تجربتين لكل من عباس الكاظم، وعلي عسّاف، وثالثة لجنان العاني. وفي محور الشعر، يناقش كامل كتاب الروح الحية لفاضل العزاوي، ومنجزات الجيل الطليعي الستيني من أدباء العراق، ويختتم شياع أوراقه بحوار مثير عن الشعر مع فوزي كريم، مؤكداً على الصدق كشرط لازم للعمل الفني كي لا يتحول إلى لعبة بيد محترفي الكلام. هذا الصدق يعبر عنه حين يرمي كامل بالمجاملات الادبية جانباً، ليفاجىء فوزي برأيه الصريح الشديد الوضوح إذ يخاطبه: حين أتأمل أفكارك عن الشعر وكتاباتك النقدية أجدها غير بعيدة عن تراث الرومانتيكية الأوربية في بداية القرن التاسع عشر، فأكثر ما يجذبك من الحياة جانبها المظلم المثقل بالحزن واللوعة والبلاء. هذه الأراء كانت دفقاً في تمتين أواصر العلاقة بين كامل وفوزي، إذ تقبلها الأخير بما أوتي من حكمة وعقل مستنير.

إمتياز كامل انه يمتلك بعد نظر في ما سيحصل من أحداث، لا أقول انه هاوي نبواءت، حتى تلك التي تتعلق بإستشهاده، انما هو إستشراف المستقبل بالمعرفة، لذلك لم يشاطر البعض تفاؤلهم بأن إسقاط النظام في بغداد سيعود بالعراق الى حالته الطبيعية المتخيلة، على المثقف ان لا يكون داعية سياسية عسكرية عدوانية.

ثمة معاني من الإفصاح والإشراق في هذه النصوص، تبقى تحتفظ بأثرها الحي، فهو يتواصل معنا قارئاً نقدياً واعياً، واضح الجملة، في نص جميل ورائع (تنبيهات غائب) عن روايته (المرتجى والمؤجل)، وتتنوع أراء كامل في النصوص، ويقدم نفسه ناقداً روائياً بإمتياز، وهو يراجع الرجع البعيد لفؤاد التكرلي، وفيصل دراج في كتابه (نظرية الرواية والرواية العربية)، وفولتير في اقصوصة (كانديد)، وكونديرا في الفن الروائي، وتقييم محاولة جورج طرابيشي في (شرق وغرب)، وأهم القراءات تلك التي قدم فيها مرثية لليسار العربي، في (وليمة) حيدر حيدر. ان مجمل أراء كامل في الرواية تهتم بالفن الروائي رفيع المستوى، قيمته الأساس تكمن في عمقه ودلالاته وتعبيره الصادق عن الإنسان، انه ينطلق بالكلمة بإتجاه كل الفضاءات. وهي المسافة التي ذاتها التي ينحاز اليها الكاتب في تناوله للموسيقى والتشكيل وفن الأوبرا، والسينما، والشعر في أعمق نداءاته الإنسانية.

أوراق كامل شياع تقودنا إلى طرح السؤال التالي: كم من الوقت إستطاع كامل وهو في عمر الشباب أن يؤسس لهذا الخزين من المعرفة والتجارب، وتعلم اللغات ، وتحقيق حضوره الإبداعي في الوسط الثقافي بوقت مبكر من حياته، كم أمضى من السنوات وهو يبحث في الآمال الكبيرة، والرؤى وافكار الحداثة، كما تعبّر نصوصه المكثفة المتوغلة عميقا عن الحس الداخلي للإنسان.

 

جمال العتّابي

 

 

قراءة في مجموعة (مواعيد آثمة) القصصية للكاتبة زهرة الظاهري

التفاصيل
كتب بواسطة: جمعة عبد الله

جمعة عبد اللهبراعة في فن السرد وتقنياته في تسليط الصورة على الواقع الاجتماعي، بمفرداته الظاهرة والباطنة، في براعة الكشف الرصين والهادف، بالفهم العميق لتفاصيل الواقع الاجتماعي . في النظرة الراصدة في العمق، وفي الصياغة الواقعية للخيال المتخيل الفني في صياغة الحدث واغناءه بالتعبير الدال، بالمواضيع والقضايا الحساسة، التي تحرك دفة الحياة الاجتماعية، في اطار السرد الفني وبراعته في الكشف الواضح . هناك مثل شائع يحمل وجاهة محترمة في الرأي، يقول: لا يعرف عالم المرأة إلا المرأة، في الخبرة والتجربة والمعاناة، ومن هذا الانطباع تنطلق الكاتبة (زهرة الظاهري) من هذه الفرضية في عالم المرأة، لتصوغ موضوعاتها بالتناول بجوانب شتى ومتعددة بما يخص عالم المرأة ومحيطها المكون الداخلي والخارجي، في التناول والطرح بكل جرأة . بهذا الشكل جاءت المجموعة القصصية (مواعيد آثمة)، في دقة الرصد والملاحظة والنظرة الفاحصة لجوانب الحياة الاجتماعية . وكل نص سردي يملك خصوصية، في الموضوع والحدث، لتشكل المرأة المحور الاساسي من خلال ثلاثين نصاً قصصياً احتوتها المجموعة القصصية . تحمل حكايات سردية، وتحمل أثارة وشحن في نسيج الصياغة في السرد الشفاف والمشوق، وقد تطرقت الى مواضيع شتى . موضوعات . الحب وشجونه ومشاكله بين الحلم والطموح، بين البراءة والخيانة، بين الوفاء والتنصل . موضوعات الاغتراب الحياتي داخل المرأة . وكذلك قضايا الحب المحرم في تعاطي الدنس والرجس المحرم . كذلك مواضيع في غاية الاهتمام النفاق السياسي بالمتاجرة والمخادعة . يعني يمكن القول بأن المجموعة القصصية (مواعيد آثمة) تمثل بانوراما اجتماعية، تدور احداثه بصخب وضجيج الحواس بالمشاعر المرأة . ولكنها في النتيجة، تؤدي الى الاحباط والخيبة والانكسار. لابد أن نأخذ عينة من هذه البانوراما الاجتماعية:

 1 - قصة (مساحة الحلم): تعودت ان تطل من شرفتها في الوقت والموعد المحدد، لتطل على زواية معينة من الشارع، فتجده واقفاً يدخن سيجارته، ويتبادلان النظرات الصمت بينهما . ولكن فجأة اختفى عن وقفته المعهودة . وانطفئ ضجيج الأمل بسرعة، كأنه حلم برق وتلاشى .

2- قصة (رسالة أخطأت عنوانها): تبادلا الحب والعشق معاً، واصبحت هذه الكلمات طرية معتادة على الشفتين (أعشقكِ) و(وكم احبكَ) وكان يراهنان على حبهما بالصمود والبقاء . وكأمرأة عاشقة يأخذها الحلم في البعيد، بالحب المطرز بالازهار الموعودة . ولكن حينما هاجر ورحل، ترك حبه في سلة النسيان . ويبخل عليها حتى في ارسال رسالة واحدة .

3 - قصة (رئيس الحزب) كل اهتمامه منصب بمشاغله السياسية والحزبية . ولم يعر أية اهمية الى البيت الاولاد الزوجة . مما يصبح البيت عبارة عن اغتراب كل واحد في مشاغله الخاصة وعالمه الخاص، منفصلاً عن الآخر، الاولاد في حواسيبهم وهواتفهم الذكية، الام في مشاغلها الخاصة الزينة والعطور والمواعيد النسائية، . كأنهم في بيوت منفصلة عن بعضها البعض . الزوج يبحث عن مركز سياسي وحزبي مرموق . الاولاد في مشاغلهم الخاصة، الام في مشاغلها الخاصة في ظل هذا الزيف الحياتي .

4 - قصة (مواعيد آثمة) حملت عنوان المجموعة : تشعر بوطئة الوحدة ووحشتها على الحواس وضجيجها في البيت الزوجي، الزوج بعيداً عن الحنان وترف بالحب، وتحول البيت عبارة عن اعلان وجبات الطعام يعدونها الطباخين في البيت العامر في امكانياته المادية والمالية الوفيرة، لكنه فقير جداً في امكانياته الروحية . تشعر بثقل هذا الواقع المؤلم وتراودها خواطر في كسر اغلال هذا الطوق الثقيل والمرهق، بأن حياتها اصبحت منسية ضمن جدران البيت، وتفكر بكسر هذا الطوق، في المضيء في طريق مواعيد أثمة . لانها وصلت ان تختار الموت افضل من الحياة التي تعيشها . لكن يؤنبها ضميرها في الاخلال بالوفاء الزوجي . وتشعر بالندم، وتسير مرفوعة الرأس رغم ضجيج الالم ونواح الحياة، فلم تفرط بالحب والوفاء .

5 - قصة (خلف الابواب الموصدة): تتناول مسألة غاية الاهمية والحساسية في واقعنا الاجتماعي . أفراد العائلة (الاب والزوجة والابن والابنة) في غرفة واحدة وعلى فراش واحد . زوجها مفتون بالشبق الجنسي، رغم معارضة زوجته، بأن تقول له دع الاولاد ينامون اولاً حتى لايسمعوننا، ولكن لم يرضخ لطلبها، مما تسمع الهمسات والاهات الجنسية يسمعها الاخ واخته . ويتحرك الاخ ليلتصق بشقيقته، في عممة وهمسات جنسية، ويلتقطها الاب هذه الحركات المريبة، وينتفض بعنف ويزيح غطاء الفراش، ليجدهما بالفعل المدنس .

6 - قصة (الوطن): تمثل الازدواجية المنافقة والمزيفة بالتعامل السياسي المخادع . يصدح في خطاباته الرنانة للوطن والنضال والشهادة والكبرياء الوطني، والايمان بقول الحق والعدل ليزهق الباطل . ويلهب الجموع الغفيرة بالحماس والتصفيق الحار على اناشيد الوطن المفدى . ولكن هناك أمرأة تتسلل من بين الحشود الغفيرة عبر الزحام، تأخذ مكبر الصوت وتلهج في كلامها وسط صمت القاعة والجمهور الحاشد (كيف لرجل لم يحفظ عهد أمرأة أن يحرس وطناً ؟ كيف لرجل عض اليد التي أنتشلته من براثن العتمة الى حيث يصدح النور، أن تستأمنوه على وطن ؟ كيف لرجل وعد ونكث كل العهود أن يبرم تصالحاً مع الوطن ؟ كيف لرجل له مكر ذئب خائن أن يصون عهداً ويذود عن الوطن ؟ كيف لرجل تسلق جدار المجد على عاتق أمرة ثم رماها كما يرمي علكة من فمه بعد أن لاكها طويلاً، أن يطهر الوطن من أردانه؟ أيها الشعب العظيم ألا تعلمون أن من خان مرة يخون ألف مرة ؟) .

7 - قصة (الاغتصاب): ثلاثتهم يعيشون في غرفة واحدة (الزوجة والبنت والزوج) الزوجة تزوجت في عمر صغير لم تتجاوز السن السادسة عشرة، ولكن الزوج توفي في حادث مرور، ولم تنجب منه سوى أبنة واحدة . وظلت ترفض الزواج، ولكن بعد ثلاثة عشرة عاماً، تكاثر عليها القيل والقال، حتى بمس شرفها وكرامتها، اضطرت بالقبول بالزواج، رغم انها كانت تصر على الوفاء لزوجها المتوفي في تربية أبنتها . ولكن هذا الزوج، استغل أحدى المرات غياب زوجته بالتقرب الى ابنتها ومحاصرتها من اجل فعل المحرم (الزنى) بهوس معتوه (أريدك الليلة لي . سأكون لطيفاً معكِ . كيف لم أتفطن قبل هذا اليوم لكل هذا الجمال، مالي وأمك التي هدتها السنين والهموم؟) واغتصبها بعنف معتوه، فأستسلمت الصبية الى هوسه الجنسي غصباً عنها بالفجور المحرم . ولكن في الصباح استيقظ الجيران على صراخ ونحيب الزوجة، فقد كانت رقبة البنت تتدلى من غصن الشجرة . وزوجها غارقاً في بركة من الدماء .

 

جمعة عبدالله

 

موسكو تحتفل بمئوية الموسيقار باباجانيان

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ضياء نافع

ضياء نافعسألوه مرة – اين تعيش؟ فأجاب – انا أسكن في موسكو ولكني أعيش في ارمينيا . انه الموسيقار الارمني السوفيتي ارتو  باباجانيان، الذي ولد في مدينة  يرفان عاصمة ارمينيا بتاريخ 22 / 1 / 1921، والذي احتفلت موسكو بالذكرى المئوية لميلاده  بشكل واسع جدا في وسائل الاعلام الروسية كافة من صحف وتلفزيون وراديو ...الخ، وقد بثّت قنوات التلفزيون الروسية المختلفة، بما فيها قناة كولتورا (الثقافة، والمتميّزة بين كل القنوات الاخرى) برامج متنوعة عن هذا الموسيقار الكبير، تضمنت لقاءآت عديدة ومتنوعة معه ومع اصدقائه ومعارفه وعائلته والمتابعين لابداعه والمعجبين به، وكذلك عرضت  افلاما كتب هو موسيقاها، وحفلات للموسيقى السمفونية التي ألّفها، والاغاني التي لحّنها (وما أكثرها)، ومعظم تلك الاغاني مشهورة ومعروفة جدا للمستمعين الروس، اذ كتب كلماتها كبار شعراء روسيا آنذاك مثل يفتوشينكو و فوزنيسينسكي و رشديستفينسكي وديمنتيف ..الخ، ومن اداء مغنين سوفيت معروفين جدا ، مثل المغني السوفيتي الاذربيجاني الشهير مسلم ماغومايف وغيرهم . وفي عروض الافلام التلفزيونية  الوثائقية  تلك (او التسجيلية كما يسميها البعض) كانت تظهر لقطات تعرض الزعيم السوفيتي الشهير نيكيتا خروتشوف وهو يقول جملته الشهيرة عن الحان باباجانيان لعدد من الاغاني وبشكل حاسم جدا – (موسيقى جاز؟ وفي موسكو؟ كلا)، حيث منعها خروتشوف رسميا (رغم ان باباجانيان كان عضوا في الحزب  الشيوعي السوفيتي،  بل و حائزا على جائزة ستالين للفنون)، ولكن بعد تنحيته (اي خروتشوف) من السلطة عام 1964، سمح السكرتير الاول للحزب الشيوعي السوفيتي آنذاك  ليونيد  بريجنيف باعادة تلك الاغاني الى البث العلني في الاتحاد السوفيتي، لانه كان معجبا جدا بالمغني مسلم ماغومايف وبكل الاغاني التي يؤديها وبغض النظر عن نوعيتها، (كم يبدو الأمر مؤلما ومضحكا ايضا، عندما يقرر الحاكم الاول في البلد وحسب ذوقه الذاتي الخاص مثل هذه القضايا !!!)، وهكذا عادت هذه الاغاني الى الحياة السوفيتية  عندئذ، و التي كان المستمعون السوفيت قاطبة يستمعون اليها ويحبونها، وكانوا يرقصون على انغامها وهم يستمعون اليها، و يمكن القول – وبكل ثقة – انها لازالت حيوية ومحبوبة الى الوقت الحاضر في روسيا الاتحادية اليوم، و من المؤكد ان الطلبة الاجانب في الجامعات السوفيتية وبضمنهم الطلبة العرب  في تلك المرحلة (اي نهاية الستينيات من القرن العشرين) يتذكرونها، اذ  كانت كل الفرق الموسيقية تعزفها في كافة الحفلات  الطلابية والشبابية آنذاك .

ولد ارتو  باباجانوف في عائلة ارمنية  مثقفة، اذ كان والداه  مدرسين، ولاحظ جميع من كان حول هذا الطفل ميله للموسيقى وشغفه بها، واستطاعت عائلته ان تنظم لقاء هذا الولد المتميّز بالموسيقار الارمني المشهور عالميا ارام  خاتشاتوريان، وقد أشار الموسيقار الكبير الى ضرورة تسجيله في مدرسة الموسيقى التابعة  لكونسيرفاتوار العاصمة الارمنية يريفان، وهذا ما حدث فعلا، وقد ألّف الصبي باباجانيان مقطوعة موسيقية عندما كان  طفلا ليس الا، وفاز بجائزة للعزف عندما كان عمره 12 سنة فقط، وكان هذا الفوز  بداية طريقه الفني طبعا . انهى الدراسة الموسيقية في يرفان وانتقل للدراسة في موسكو، ورغم بداية الحرب العالمية الثانية وظروفها الرهيبة، استمر باباجيان بمسيرته الابداعية، وساهم لاحقا في كتابة السمفونيات وتلحين الاغاني وبقية النشاطات الموسيقية الاخرى، متعاونا مع ابرز المبدعين السوفيت، وقد توقفت وسائل الاعلام الروسية كثيرا عند الثلاثي الذي تبلور آنذاك من الشاعر  رشديستفينسكي والمغني  ماغومايف وهو، وقد علّق أحد  معارفي الروس قائلا، ان هذا الثلاثي الروسي – الارمني – الاذربيجاني هو صورة رائعة لواقع الفن آنذاك، وانه تذكّر قول دستويفسكي الخالد  – الجمال ينقذ العالم، وقال بحسرة، لو استمر هذا الثلاثي الاممي لما حدثت الحرب الاذربيجانية – الارمنية حول ناغورني قره باغ قبل فترة، لان هذا الثلاثي الجميل كان سيحل الموضوع بالشعر والموسيقى والغناء، وعندها كانت ستتحقق مقولة دستويفسكي فعلا ...

اختتم هذه الخواطر والتخطيطات السريعة حول احتفالات موسكو بمئوية باباجانيان (1921 – 1983) بمقطع  صغير من قصيدة الشاعر روبرت  روشديستفينسكي، والتي أعادت نشرها جريدة (ليتيراتورنايا غازيتا) بتاريخ 20/1/2021على صفحتها الاولى وتحت صورة كبيرة للموسيقار باباجانيان وهو يكتب النوتة الموسيقة . القصيدة بعنوان – (الاغنية الاخيرة لارو  باباجانيان) –

....حتى لو أسقط فجأة...

...فاني في الارض لن أذهب...

....في الاغنية...

...سأذهب...

***

أ.د. ضياء نافع

 

 

هل وعد الله بني إسرائيل بأرض فلسطين؟!

التفاصيل
كتب بواسطة: د. منى زيتون

منى زيتونكان بيان ترامب الأربعاء 6 ديسمبر 2017 بتنفيذ قرار نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس ضربة قاسية لجميع العرب، وإن لم تكن مفاجئة.

يدّعي الإسرائيليون أن القدس هي عاصمتهم الأبدية، وأن ما يُعرف بأرض فلسطين هي أرض كتبها الله لهم، ولا مجال للتشكيك في ذلك، فهو مسطور في التوراة، بل وفي آيات القرآن أيضًا. فما هي حقيقة تلك المزاعم؟

في موضع واحد من كتاب الله ذكر الله تعالى أنه كتب الأرض المقدسة لبني إسرائيل. ففي سورة المائدة، يقول الله تعالى قاصًا علينا حوارًا بين الرب سبحانه وتعالى وموسى عليه السلام وبني إسرائيل:

﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ، يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ، قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [المائدة 20: 26]

والحوار القرآني يوضح لنا أنهم خالفوا أمره تعالى ولم يمتثلوا لنبيهم موسى عليه السلام بالعودة إلى الأرض المقدسة "أرض فلسطين" التي كانوا يسكنوها زمن أبيهم يعقوب عليه السلام قبل أن يتركوها ويدخلوا مصر زمن يوسف عليه السلام، وحل محلهم فيها العمالقة. ورغم أن موسى عليه السلام حذرهم من تبعات عصيان أمر الله تعالى وأنهم إن لم يفعلوا ما أمر الله به سينقلبوا خاسرين، فقد تجاسروا على الله تعالى وكليمه عليه السلام، فما كان منه تعالى إلا أن عاقبهم بالتيه أربعين سنة، حتى مات آخر هؤلاء العُصاة، ونشأ من بعدهم جيل آخر دخل أرض فلسطين على يد يوشع بن نون، الذي خلف بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام، وبعد مدة بعث الله لهم طالوت ملكًا، الذي حارب والمؤمنون معه العماليق بقيادة جالوت، ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [البقرة: 251]. وتكونت مملكة بني إسرائيل في بلاد الشام كلها، وليس فقط في غربها "أرض فلسطين"، على يد نبي الله داود.

جاء في سورة الأعراف وصفًا لحال بني إسرائيل بعد أن بُعث فيهم النبي الملك داود. يقول تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ [الأعراف: 137].

قال الإمام الطبري في تفسير الآية: "يقول تعالى ذكره: وأورثنا القوم الذين كان فرعون وقومه يستضعفونهم, فيذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم, ويستخدمونهم تسخيرًا واستعبادًا من بني إسرائيل مشارق الأرض الشأم، وذلك ما يلي الشرق منها، ﴿وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾، يقول: التي جعلنا فيها الخير ثابتًا دائمًا لأهلها. وإنما قال جل ثناؤه: ﴿وَأَوْرَثْنَا﴾، لأنه أورث ذلك بني إسرائيل بمهلك من كان فيها من العمالقة"أهـ.

والملحوظ هنا تغير الصياغة التعبيرية بين دعوة موسى الأولى لهم لدخول الأرض المقدسة، بقوله تعالى: ﴿كَتَبَ﴾، وتقرير حالهم بعد عقوبتهم ثم مبعث داود بقوله تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا﴾. فما الفرق بين "كتب" و"أورث"؟

"كتب" في العربية أصلها من كتب البعير أي قيّده، ثم استخدمت الدلالة المعنوية للكلمة وغلبت على الدلالة الحسية، حتى لم يعد يعرف الدلالة الحسية للكلمة إلا قليل. وفي "المصباح المنير" كتب أي حكم وقضى وأوجب.

و"كتب" تُستخدم لتقرير أبدية الحكم ما لم يُنسخ، فنجد الأحكام القرآنية تستهل عند تقريرها بـ ‏﴿‏كُتِبَ﴾، مثل: ‏﴿‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183] و﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ [البقرة: 178] و﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ [البقرة: 216]. والله تعالى يخبر عن نفسه ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: 54].

فأي تقرير يبدأ بـ﴿كَتَبَ﴾ أو ‏﴿‏كُتِبَ﴾ فهو حكم أبدي ما لم يُنسخ، كآية الوصية ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 180]، والتي يكاد يجمع العلماء أنها نُسخت بآيات المواريث.

وكذا الحال فيما يخص حكم الأرض المقدسة بالنسبة لبني إسرائيل، فقد نُسخ حكم كتابتها لهم، والنصوص القرآنية تؤكد أنهم انقلبوا خاسرين، عقابًا على عدم امتثالهم أمر الله وأمر نبيهم موسى، وأنه حتى بعد أن نشأ منهم جيل آخر استجاب وحارب العماليق، فقد وهبهم الله تعالى كامل أرض الشام وليس غربها المقدس فقط، ولكنها كانت ميراثًا، والميراث يدور بين الناس، ولا يبقى حكمًا أبديًا لأحد.

فلِم الاستمرار في الكذب على العالمين يا بني إسرائيل؟! فهذا ما جناه آباؤكم عليكم بعصيانهم، ولم تجف أرجلهم من ماء البحر بعد!

 

د. منى زيتون

 

 

حفني بدقة.. المعلم المثالي والشاعر المرتجل

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمود محمد علي

محمود محمد علييعد الأستاذ “حفني محمود ابراهيم بدقة” الشهير بحفني بدقة هو ذلك الرجل البسيط الذي لم يحصل علي أعلي الشهادات الجامعية لا الليسانس أو الماجستير ولا الدكتوراه، ولكن حاصل فقط على دبلوم المعلمين بنظام الخمس سنوات، ولكن كان هذا الرجل أسطورة، فهو نموذج للمعلم الناجح في عمله، فهذا الرجل يتميز بثقة كبيرة في النفس فهو يقوم بأداء العمل ولا يكون شغوفاً برد فعل المستمعين من الطلبة والتلاميذ ولا ينتظر شكراً أو ثناء من أولياء أمور طلابه، كما يتسم بالوضوح في العمل والبساطة، وله أسلوب معروف ومحدد يستطيع أن يلتمسه الجميع من طلابه وتلاميذه. كما يتميز يتوسط في الاستماع للطلاب فهو دائما ما يكون متوازن بين الاستماع والتجاهل، حيث إن استماعه الجيد لطلابه جعله نموذج للمعلم الذي يحظى بثقة طلابه وتقديرهم.

وحفني بدقة قمة في التواضع، فهو الإنسان بكل ما تحمله كلمة الإنسان من معاني ودلالات، فلقد وهب حياته كلها لطلابه: تعليماً وتعلماً، وظل اهتماماته الرئيسية هي اهتمامات معلم بسيط للغاية يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن، ومن هنا فإنه يمثل القدوة والريادة وسيظل تفانيه في العمل تمثل المنارة التي يهتدي بها زملائه وتلاميذ في الظلام تمثل الشعلة الخالدة، شعلة التعلم، وما أعظمها من شعلة.

والأستاذ حفني بدقة من مواليد الثاني والعشرين من شهر ديسمبر لعام 1946م، حيث نشأ في أسرة فقيرة جدا في صعيد مصر بجمهورية مصر العربية؛ وبالأخص محافظة سوهاج – مركز أخميم، حصل علي لقب المعلم المثالي أكثر من مرة ؛ منها المعلم المثالي على مستوى سلطنة عمان الوافدين، والمعلم المثالي في عيد تكريم المعلمين، ورائد مثالي على مستوى الجمهورية، ثم مديرا لإدارة المعهد الوطني لعلوم الحاسب بسوهاج، والدارس المثالي بدورة القيادة الطبيعية، والمعلم المثالي لعام 1998م، 2005م،2013م . وبعد تقاعده سن المعاش أبي هذا الرجل أن يركن إلي البيت كما يفعل كثير من المدرسين، بل نزل إلي ميدان العمل يجد ويجتهد ويعمل حيث وكل إليه إدارة مدرسة العمرى الابتدائية بسوهاج، ثم مدير مدرسة جيل المستقبل الخاصة بسوهاج، ثم مدير عام مدرسة المناهل الخاصة.

وكان الأستاذ حفني بدقه يرتجل الشعر بدرجة تفوق الخيال، ومن مواهبة الشعر قوله: عندما تصبح رقيقا.. نعم من أجل عيشك قد تهاجر.. أبصر كل أفاك وفاجر.. وتلقي البعد يطعن فيك طعنا.. وتنسي كل طعنات الخناجر.. وتبصر في صحاري الناس ورداً.. وتقتل كل صيحات الحناجر.. تميت القلب في دنياك حقا.. وتصبح سلعة في كف تاجر.

وفي شعر آخر يرتجل يقول: أعيدوني إلي وطني الجميل..ونيل ماؤه كالسلسبيل.. أعيدوني إلي وطني المفدى.. ولو أحيا براتبي القليل.. فما في الأرض والدنيا جميعا.. علي مدي العمر الطويل.. يقولون الغني في غير مصر.. غناك بها ضروب المستحيل.. فقلت أما كفي فها نسيم يعيد الروح للصدر العليل.. وهل ينسى ضفاف النيل يوما هنالك شاعرا فيها مثيلي.. بها أهلي وأصحابي وحبي.. وهل في سواها للخليل.. أأرمي بالسعادة قصد مال..لأحيا بين كثبان مهيل.. فيا ربي وقد قدمت بعدي عن الأحباب في اليوم الجميلي.. هجرت أحبتي وتركت أهلي وغبت.. وغاب عن عيني دليلي.. وما ترضى إلهي أتراني وقد أصبحت في الثوب الذليل .

ومن أشعاره المرتجلة قوله: تسليني بأنواع التسالي.. وتغريني بدولار ومالا لتنسيني.. هنا في مصر أهلا وزوجا قد تركت لها عيالي.. وقريتي التي قد عشت عمرا.. بها بين الأحبة من رجالي.. وزرعا أخضرا فيها نظيرا.. جميل الطلع ممتد الظلال.. وماء جاريا في حضن نيل.. جري فيضانه من سد عالي.. وأسماء تداولها لساني.. أرق من التصور والخيال.. جميل كل ما في مصر حقا وغال شعبها والله غالي.. تراب كله ذهب يباهي.. به أغلي النفائس واللالي.. وليلا ساهر في نور بدر يريك الأنس في جنح الليالي .

وكذلك من أشعاره التي يرتجل فيها: لا تسلني عن حياتي من جديد.. بعد أن ودعت في مصر الوليد.. لا تسلني بسمة من شفتي.. ابتسامي صار من ثغري بعيد.. لا تقل لي أنني أحيا سعيد.. ما غريب عاش في الدنيا سعيد.. لا تسلني يا صديقي عن حياتي.. لا تسلني عن وجودي من جديد.. كل يوم مر في الدنيا دوني بهموم كل ما فيها جديد.. كل أمالي التي عشت فيها.. هي أن ألقي خطابا في بريد.. كل أحلامي التي أملتها أن أري بعيني الدلتا والصعيد..أسأل الليل أناجي بدره عله يكتب عن قلبي الشهيد.. لا تسلني أن أقول الشعر يوما.. كل شعري ضاع في تلك الرياح.. لا تقل لي تلك شمسا بعدما.. أظلم الكون وجافاني الصباح.. لا تقل لي ذاك وردا أنني لم أعد أبصر في وردي انشراح.. كل وردا.. كل زهر.. صار عندي رمز سهد و مآسي وجراح.. مصر كانت ملء قلبي ومضت.. مثل حلم بعده طال النواح.. أي ماء بعدها لا ينبغي لي أي ماء غيري يستباح..إنما النيل من الله شربناه.. فكان الري والماء القُزاح.

وأيضا من أشعاره: حديثا ولكن ليس بين حديد.. غني ولكن عاش غير سعيد.. يعاني من الآلام طيلة عمره ويشكو بلا دمع لكل بعيد.. يراسل كل الناس يكتب أنه علي لذة ليست بصور مريب.. ويلبس أثوابا رقيا لباسها.. ويحيا بفكر في الجبال شريد.. ويظهر فيه الخير في غربة النوى.. وينظر للآمال شبه زهيد.. وإن عاد يوما حيث كان وجدته تزينا بثوب لامعا وجديد.. يسير كأن الأرض ثمة ملكه.. وفوق ثراها سار شر عبيد.. يواري وراء الثوب باعا ملازما.. ولولا التشفي صار شبه قعيد.. يظن بأن الناس صاروا أَضاحيا.. فليس من الأثواب غير زهيد.. ولو كان يدري الأمر راح مسارعا يودع دنياه بكل برود.. فما نال فقدانه سواه على المدى.. فقد عاش لكن عاش شبه وئيد .

وأختم مقالي بتلك الأشعار التي يرتجل فيها أيضا: ليل طويل.. يا يوم مالك لا اريد طلوعا.. و بزوغ شمسك قد غدا ممنوعا.. عجبي لمثلك هل تريد لي الوري سيرا لتقتل قلبي المخلوعة.. إني أري يا شمس فيك وضاءة.. وأري بليلك حسرة و خنوعا.. لو أن دمعي مرجعا لي بلدتي لملئت وديان الجبال دموعا.. أو أن شكواي الحزينة خفقت.. عني شكوت لمن أراه سميعا.. بئس التغرب في الحياة وإن يكن نهاجا كفرت به ولو تشريعا.. والله لولا هجر الأحبة سنة للناس ما كنت الغداة مطيعا.. أو أنهم قد قرروا مناهجاً كرهته ورفضته موضوعا.

ويطول بنا المقال غير أني لا أملك في نهاية حديثي عن الأستاذ حفني بدقة إلا أن أقول تحية طيبة لهذا الرجل البسيط العصامي الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمعلم المثالي والشاعر المرتجل الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به و يسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

أستراتيجية للتعامل مع الكورونا الطويلة المدى

التفاصيل
كتب بواسطة: د. عامر هشام الصفار

عامر هشام الصفاريؤدي فايروس الكوفيد -19 في عدد من المرضى المصابين به إلى تأثيرات طويلة المدى يمكن أن يكون لها تبعات كبيرة على نمط الحياة. فوفقًا لمكتب الإحصاء الوطني البريطاني، تظهر على حوالي واحد من كل خمسة أشخاص مصابين بفيروس الكوفيد 19 أعراض قد تستمر لمدة خمسة أسابيع أو أكثر. وهذا بالتأكيد يمثل تحديا للتعامل الأفضل مع الوباء، وسبل رعاية المرضى المصابين والذين قد لا يحتاجون الدخول الى المستشفيات. ولا يوجد لحد الآن تعريف سريري متفق عليه لفيروس كوفيد -19 طويل الأمد، كما لا يوجد تعريف واضح لمسار العلاج. ولمساعدة الأطباء، قام المعهد الوطني البريطاني للتميز في الرعاية الصحية أو نايس، وشبكة الإرشادات الأسكتلندية المشتركة بين الكليات الطبية، والكلية الملكية لأطباء العائلة في نشر الدليل العلمي للتعامل السريع مع الآثار طويلة المدى من فايروس الكورونا.

ويقدم الدليل التعريف السريري لتأثيرات كوفيد – 19 على المرضى وفي أوقات مختلفة، كما يقدم المشورة بشأن التشخيص والعلاج بناءً على أفضل الأدلة المتاحة، ومعرفة وخبرة لجنة الخبراء. وسيخضع الدليل المشار أليه  لنهج "تفاعلي حي"، مما يعني أن المجالات المستهدفة من الدليل ستتم مراجعتها أسبوعياً وتحديثها، أستجابة للأدلة الناشئة، وتجربة الخبراء المتطورة. ونلخص هنا التوصيات الإرشادية المنشورة حديثا، مع التركيز بشكل خاص على الرعاية الأولية.

 يعرّف الدليل الإرشادي كوفيد -19 الحاد، وفيروس كوفيد -19 المستمر بأعراضه، ومتلازمة ما بعد كوفيد -19، وفقًا لمدة الأعراض المرضية التي تظهر على الشخص المصاب. ويقر الدليل الإرشادي بالأستخدام الشائع لعبارة الكورونا الطويلة المدى، أو

LONG COVID

تعريفات الكوفيد 19

العدوى الحادة: تعني المعاناة من علامات وأعراض مرضية لمدة تصل إلى أربعة أسابيع.

أستمرار ظهور أعراض مرض كوفيد19: يعني أستمرارية هذه الأعراض لمدة زمنية من أربعة أسابيع وحتى 12 أسبوعًا.

متلازمة ما بعد الحادة من الأصابة بالكوفيد 19: ويعنى بالعلامات والأعراض المرضية والتي تظهر أثناء أو بعد الإصابة الحادة المتوافقة مع الكورونا. وتستمر لأكثر من 12 أسبوعًا ولا تُعزى إلى التشخيصات البديلة الأخرى.

متلازمة ما بعد كوفيد -19

يقدم المبدأ التوجيهي توصيات لأخصائيي الرعاية الصحية من الذين يهتمون بالأشخاص الذين أشتبهوا في الإصابة بفيروس كوفيد -19 الحاد بغض النظر عما إذا كانوا في المستشفى أو خضعوا لفحص إيجابي أو سلبي (تفاعل البلمرة المتسلسل، مستضد، أو جسم مضاد). ويؤكد المبدأ التوجيهي على توفير المعلومات لتمكين الناس من فهم أعراضهم، ومعرفة متى يطلبون المساعدة.

ولابد من القول أن وقت الشفاء من الكورونا يختلف من شخص لآخر، ولكن بالنسبة للعديد من الأشخاص فلابد أن تختفي الأعراض بحلول 12 أسبوعًا. ولا يُعتقد أن أحتمالية الإصابة بأعراض الكورونا المستمرة أو متلازمة ما بعد الحادة، مرتبطة بشدة المرض الحاد نفسه. فإذا ظهرت أعراض جديدة أو مستمرة، فيمكن أن تتغير بشكل غير متوقع، مما يؤثر على الأشخاص بطرق مختلفة وفي أوقات مختلفة.

وبالنسبة للأشخاص الذين يشعرون بالقلق إزاء الأعراض الجديدة أو المستمرة بعد أربعة أسابيع أو أكثر من الإصابة بفيروس كوفيد -19 الحاد، فلابد من تقديم استشارة أولية، وأستعمال تقنية التحدث مع المريض عبر الفيديو أو الهاتف أو شخصيًا أذا كان ذلك ممكنا.

ولابد من التأكيد على ضرورة دعم الأشخاص في الفئات المحرومة أو الفقيرة في المجتمع للوصول إلى التقييم والرعاية عن طريق (على سبيل المثال) زيادة الوعي بالآثار طويلة المدى لفيروس كوفيد -19، وتوفير وقت إضافي أو دعم إضافي (مثل مترجم أو محامٍ) أثناء الأستشارات الطبية.

ومن نافلة القول أن لابد من تقييم الأشخاص الذين يعانون من أعراض جديدة أو مستمرة بعد الإصابة بفيروس كوفيد -19 الحاد.

أن أكثر الأعراض شيوعًا نتيجة الكورونا بعيدة المدى هي التعب وضيق التنفس.. وقد تكون الأعراض فردية أو متعددة أو ثابتة أو عابرة أو متقلبة، كما يمكن أن تتغير في طبيعتها بمرور الوقت. ويجب أن يشمل التقييم الأعراض الجسدية والمعرفية والنفسية، بالإضافة إلى القدرات الوظيفية للشخص المصاب نفسه.

الأعراض المحتملة بعد الإصابة بفيروس كوفيد -19 الحاد

اما الأعراض المرضية الأخرى فهي متغيرة للغاية وواسعة النطاق. وتشمل الأعراض الأكثر شيوعًا (على سبيل المثال لا الحصر):

أعراض عامة:

الحمى

الأعياء

أعراض الجهاز التنفسي:

ضيق التنفس

سعال

أعراض القلب والأوعية الدموية:

ضيق الصدر

ألم صدر

الخفقان 

الأعراض العصبية:

ضعف الإدراك ("ضباب الدماغ ،" فقدان التركيز أو مشاكل في الذاكرة)

صداع الرأس

أضطرابات النوم

أعراض أعتلال الأعصاب المحيطية (وخز وإبر وتنميل)

الدوخة

الهذيان (عند كبار السن)

أعراض الجهاز الهضمي:

وجع بطن

غثيان

إسهال

فقدان الشهية وانخفاض الشهية (عند كبار السن)

أعراض الجهاز العضلي الهيكلي:

ألم المفاصل

ألم عضلي

أعراض نفسية:

أعراض الأكتئاب

أعراض القلق

أعراض الأنف والأذن والحنجرة:

طنين الأذن

ألم الأذن

إلتهاب الحلق

فقدان حاسة التذوق و / أو الشم

الطفح الجلدي

ولابد بعد ذلك من الأهتمام بالتاريخ السريري الشامل للمريض حيث يشمل ذلك :

تاريخ الإصابة بفيروس كوفيد -19 الحاد المشتبه به أو المؤكد.

طبيعة وشدة الأعراض السابقة والحالية.

توقيت ومدة الأعراض منذ بداية كوفيد -19 الحاد.

وجود تاريخ من الحالات الصحية الأخرى.

 ولابد من مناقشة كيفية تأثر حياة الشخص وأنشطته، ومن ذلك عمله أو تعليمه وتنقله وأستقلاليته بأعتماده على نفسه، نتيجة أستمرار أعراض مرض كوفيد -19 أو متلازمة ما بعد كوفيد -19 المشتبه بها.

والأستماع لتجربة الشخص مع أعراضه المرضية كما لابد من السؤال عن أي شعور بالقلق أو الضيق، اضافة الى الأستماع والأنتباه إلى مخاوف المرضى بتعاطف وأعتراف بتأثير المرض على حياتهم ونشاطاتهم اليومية، ومشاعر العزلة الاجتماعية، أضافة الى تأثير المرض على العمل والتعليم.

كما لابد عند أجراء التقييم الطبي في الأسباب المحتملة للأنخفاض الوظيفي التدريجي، أو عدم القدرة على التكيّف، أو تفاقم الضعف أو الخرف، أو فقدان الأهتمام بتناول الطعام والشراب لدى كبار السن، على أن يضع الطبيب في الأعتبار أن هذا كله يمكن أن يكون دلالة على أستمرار أعراض كوفيد -19 أو متلازمة ما بعد كوفيد -19 المشتبه بها.

وقد يسبب الكوفيد 19 مضاعفات مثل ألتهاب عضلة القلب وأنخفاض ضغط الدم الوضعي مما يجدر بالأنتباه أليه.

ومن الفحوصات المختبرية الضرورية التي يشير اليها الدليل الطبي الخاص بالتعامل مع مرضى الكورونا الطويلة الأمد:

* أختبارات الدم، والتي قد تشمل تعداد الدم الكامل، ووظائف الكلى والكبد، والبروتين التفاعلي، والفيريتين، والببتيد الناتريوتريك من النوع بي ووظيفة الغدة الدرقية.

* أجراء الفحص الشعاعي للصدر في حالة أستمرار الشخص بالمعاناة من أعراض تنفسية مستمرة كضيق التنفس مثلا أو السعال الجاف.

* وإذا كان ذلك مناسبًا، فلابد من أختبار تحمّل التمارين بما يناسب قدرة الشخص (على سبيل المثال، أختبار الجلوس للوقوف لمدة دقيقة واحدة). ولابد أثناء اختبار التمرين من تسجيل مستوى ضيق التنفس، ومعدل ضربات القلب، وتشبع الأكسجين.

وبالنسبة للأشخاص الذين يعانون من أعراض تتعلق بوضعية الجسم، مثل الخفقان أو الدوخة عند الوقوف، فلابد من إجراء تسجيلات ضغط الدم أثناء الوقوف ومعدل ضربات القلب (أختبار الوقوف النشط لمدة 3 دقائق ، أو 10 دقائق إذا كنت تشك في متلازمة تسرع القلب الوضعي،  أو أشكال أخرى من الخلل الوظيفي اللاإرادي.

ولابد وبعد استبعاد المضاعفات الحادة أو التي تهدد حياة المريض وأستبعاد التشخيصات البديلة، من أن يضع الطبيب في أعتباره إحالة الأشخاص إلى خدمة العيادة الخارجية الخاصة بتقييم متكامل ومتعدد التخصصات (إن وجدت) في أي وقت ابتداءً من أربعة أسابيع بعد بدء الإصابة بفيروس كوفيد -19 الحاد.

أعادة التأهيل

وبعد هذا التقييم الشامل، لابد من المناقشة والأتفاق مع الشخص (وعائلته أو مقدمي الرعاية، إذا كان ذلك مناسبًا) بشأن الدعم وأتباع أسلوب إعادة التأهيل الذي يحتاج إليه وكيف سيتم توفير مستلزماته، حيث من المتوقع أن يشمل ذلك :

الدعم من الرعاية الأولية المتكاملة والمنسقة، والمجتمع، وإعادة التأهيل، وخدمات الصحة العقلية.

الإحالة إلى خدمة تقييم متكاملة متعددة التخصصات.

الإحالة إلى رعاية متخصصة لمضاعفات محددة.

وهنا لابد من التفكير في التأثير الكلي للأعراض المرضية على حياة المرضى أنفسهم، حتى لو كان كل عرض فردي وحده قد لا يستدعي الإحالة الطبية.

كما ينصح الدليل بالأنتباه إلى المسار العام لأعراض المرضى، مع الأخذ في الأعتبار أن الأعراض غالبًا ما تتغير وتتكرر، ولذلك قد يحتاج المرضى إلى مستويات مختلفة من الدعم في أوقات مختلفة.

العلاج

تقديم المشورة والمعلومات للمرضى حول القابلية على رعاية أنفسهم بأنفسهم، وخاصة للأشخاص الذين يعانون من أعراض مرض كوفيد -19 أو متلازمة ما بعد كوفيد -19، بدءًا من تقييمهم الأولي. على أن يشمل ذلك:

* طرق للتحكم الذاتي للمرضى في أعراضهم المرضية، مثل تحديد أهداف واقعية لما يمكن لهم أن يقوموا به يوميا.

* التوجيه بمن يمكن لهم أن يتصلوا إذا كانوا قلقين بشأن أعراضهم أو كانوا بحاجة إلى دعم في معالجة أنفسهم بما يستطيعون.

وأتفقت اللجنة المشرفة على الدليل الخاص بالتعامل مع حالات مرضى الكورونا الطويلة الأمد على أساس أن فرق إعادة التأهيل متعددة التخصصات يجب أن تعمل مع المرضى أنفسهم، لوضع خطة لإعادة تأهيلهم، بمجرد التأكد من عدم وجود ما قد تؤثر على سلامة إعادة التأهيل. كما يجب معالجة الجوانب الجسدية والنفسية لإعادة التأهيل، مما يعتبر ضرورويا للنجاح. حيث أظهرت الأدلة أن ضيق التنفس، والتعب، و"ضباب الدماغ" هي من بين الأعراض طويلة المدى الأكثر شيوعًا والمبلّغ عنها، لذا يجب أن يكون التعامل مع هذه الأعراض جزءًا من خطة إعادة تأهيل الشخص.

 

د. عامر هشام الصفار

 

الإبيجرام الشعري بين التراثِ والمعاصرةِ

التفاصيل
كتب بواسطة: حسني التهامي

حسني التهاميليس فن الإبيجراما الشعري مستحدثا في حقل الإبداع العربي، على غير ما اعتدنا في  القصائد المختزلة  كالومضة والشذرة والهايكو التي لم تكن عربية المنشأ. وطبيعي أن تتلاقح  الشعوبُ مجالات الإبداع فيما بينها كما تتبادلُ أساليبَ الزراعةِ والصناعة والتجارة، ثم تبني على ما تأخذُه، وتصنعُ لها ألواناً إبداعيةً تتشكلُ بثقافتِها وبيئتِها الخاصةِ. فن الدراما مثلاً نشأ في اليونانِ وبلغَ ذُرْوتَه في القرنِ الخامس قبل الميلاد، كان سوفوكليس ويوريبيديس وايسخولوس رواد مسرح التراجيديا، وأريستوفان هو المؤسس الأول للكوميديا. ولولا هؤلاء لما نهضَ المسرحُ الرُومانيُ ولَما سمِعنا بعد ذلك عن كتابٍ مسرحيينَ أمثالِ كرستوفر مارلو ووليام شكسبير ووليم بيكيت وجورج برنارد شو وأوسكار وايلد وغيرهم في انجلترا، وموليير وإميل زولا وبلزاك وجون سارتر وغيرهم في فرنسا، ولَمَا ظهرت لنا مسرحياتُ عزيز أباظة و أحمد شوقي وتوفيق الحكيم وعبدالرحمن الشرقاوي وصلاح عبدالصبور وغيرهم.

كذلك فنُ الإبيجرام -شأنُه شأنُ المسرحِ- واحدٌ من الــفنــونِ الـــتي عُرفت في اليونان قديما. تعني كلمة "إبيجراما"باليونانية الكتابةَ المنقوشةَ على القــبور والــتماثيلِ والآنيةِ بعباراتٍ مُختصرةٍ يَغلبُ عليها طابعُ الحكمة. وقد تأثرتْ بالفنون الأخرى مثل الملاحمِ والفن الإليجي والشعرِ الوجداني. برزَ في هذا الفنِ من مبدعي اليونانِ عمالقةٌ وصلوا بهذا الفن إلى مستوىً رفيعٍ، منهم ملياجروس السوري وكاليماخوس الذي كان مَسْئولاً عن مكتبةِ الإسكندريةِ، ثم انتقلت الإبيجراما إلى روما بعدما أَفَلَتْ شمسُ أثينا، تحولت في عصرِ الرومانِ إلى فنٍ أدبيٍ يقومُ بالدرجةِ الأولى على التركيز، ثم ينتهي نهايةً هجائيةً لاذعة. كان النصُ يتكونُ من بيتينِ ولا يزيدُ عن الستةِ أبيات.  كتبَ كاليماخوس العديدَ من إبيجرامات الرثاءِ، كالتي في رثاءِ صاحبةِ هيراكليتوس وهي من أفضلِ إبيجراماتهِ في الرثاء:

"إيه هيراقليطوس، لقد نبأني رسولٌ بموتك وأغرقني في دموعي. تذكرتُ كم من مرةٍ بقينا في قاعة المناقشةِ وطال حديثُنا حتى غياب الشمس واحسرتاه! فأغلبُ ظنى أنك قد صرتِ منذ زمن طويلٍ رماداً واحسرتاه! يا صديقى الهاليكارناسي. لكن تغاريدَ عندليبكِ ستظلُ تحيا بيننا ولن يمسَّها هاديسُ خاطفُ الجميعِ بسوء" (1)

كذلك قدّم إبيجرامات عن الحبِ  كتاب متميزون كجون دون وأوسكار وايلد وأصبح لها سماتُها الخاصة. عرَّف الشاعرُ الرومانسي الشهيرُ كوليردج فنَ الإبيجرام بأنه "كِيانٌ مكتملٌ وصَغيرٌ ... جسدُه الإيجازُ،والمفارقةُ  رُوحُه" (2)

المُسمى العربيُ:

على مدى عصورِ الأدبِ العربي لم يُعرف فنُ الإبيجرام بهذا الاسم، فقد كان يُطلق عليهِ  فنُ التوقيعة خاصةً في العصر العباسي. كانت التوقيعةُ عبارةً موجزة بليغةً، في الغالبِ كان يخُطُها الخليفة أو الوزيرُ أو الوالي رداً على مسألةٍ أو شكوى، قد تكونُ آيةً قرآنية، حديثاً نبوياً، بيتَ شعر، حكمة أو قولاً مأثورا. لننظرْ إلى التوقيعة التي كتبها هارونُ الرشيد إلى صاحب خراسانَ، عندما  بدأت الرعيةُ تشكو منه : (داوِ جُرحك، لا يتَّسع) (3). عبارةٌ مُوجزةٌ لكنها مُعبرةٌ ومُوحية. يذهبُ الدكتور شوقي ضيف إلى أن العباسيين حاكوا ملوكَ الفُرس ووزراءَهم في توقيعاتِهم على ما يُقدمُ إليهم من تظلماتِ الأفرادِ في الرعيةِ وشكاواهم. بينما يذكرُ الدكتور طه حسين في كتابه " جنة الشوك" أنَ هذا الفنَ  لم يكنْ معروفاً في العصرِ الجاهلي أو في صدْرِ الإسلام، لكنه ازدهر بالعراقِ في العصرِ الثاني من عصورِ الحضارةِ الإسلاميةِ، ثم اختفى هذا الفنُ في عصورِ الضعفِ الأدبي. في مطلعِ عصرِنا الحديثِ دأب الشعراءُ على تقليدِ الشعراءِ الجاهليين ولمْ يحْفلوا بهذا النوعِ من الفن.

حفل الشعر العربي  قَبل العصرِ العباسيِ  أيضا بتلكَ التوقيعاتِ، رغمَ أن الشعراءَ لم يضعوا لها مُسمىً أو تعريفاً مُحدداً، مثالُ ذلك بيْتا الحُطيئةِ في هجاءِ نفسِه:

أَبَتْ شَفَتايَ اليَومَ إِلاّ تَكَلُّمًا                  بِشَرٍّ فَما أَدري لِمَن أَنا قائِلُه

أَرى لِيَ وَجهاً شَوَّهَ اللَهُ خَلقَهُ                فَقُبِّحَ مِن وَجهٍ وَقُبِّحَ حامِلُه (4)

وأيضا قولُ بشارَ بن بُرد :

قالوا: العَمى مَنظَرٌ قَبيحٌ ...  قُلنا: بِفَقدي لَكُم يَهونُ

تَاللهِ ما في البِلادِ شَيْءٌ ...  تَأْسَى عَلى فَقدِهِ العُيونُ (5)

وغيرها من أشعارِ كبارِ الشُعراءِ التي تتسمُ بالإيجازِ الشديدِ، وتحملُ في طياتها معاني السخريةِ والهِجاء.

في العَصْرِ الحديث:

كان للدكتور طه حسين السبق في خوض غمار تجربة الإبيجراما الشعرية، حيث قدمَ له في كتابهِ " جنة الشوك" ثم أتبعَ المقدمة بنُصوصٍ نثريةٍ ينفي تطابقَها مع فن الإبيجرام الدكتور ابراهيم عوض، لأنها تفتقدُ للإيجازِ والتكثيفِ، ولم تكن قفلاتُ نصوصِه كـ"النصلِ الرقيقِ"، إنما مضتْ على نحوٍ رتيبٍ خالٍ من المفارقةِ التي هي روحُ فن التوقيعة، نلحظُ ذلك في نصٍ بعنوان " حرية ":

" قال الطالبُ الفتى لأستاذهِ الشيخِ: ألم ترَ إلى فلانٍ وُلد حُراً وشَّبَ حراً وشاخَ حراً، فلما دنا من الهِرم آثرَ الرِقَ فيما بقي من الأيام على الحريةِ التي صحبها في أكثر العمر؟!"

قال الأستاذُ الشيخُ إلى تلميذِه الفتى: أضعفته السنُ فلم يستطعْ أن يتحملَ الشيخوخةَ والحريةَ معا، وأنت تعلمُ أن الحريةَ تُحمِّلُ الأحرارَ أعباءً ثِقالاً".(6)

على الرغم من ذلك، يُحسبُ لعميدِ الأدبِ العربيِ السبقُ في التنظير لهذا الفنِ في عصرِنا الحديث.

يحملُ ديوانُ الدكتور عز الدين اسماعيل " دمعةٌ للأسى .. دمعةٌ للفرح" ملامحَ الإبيجرام الشعري. يتفجر الكتاب بمفرداتٍ شاعرية وصور تتسمُ بالحيويةِ والجمال. تناولت معظم نصوصه عبثية الحياةِ من خلال إثارة أسئلةٍ حائرة متشائمة لا تجد أجوبةً على المطلق:

أعرف أن الجسم النابض يخرسه الموت

يتحول في القبر ترابا

فإلام تؤول ملايين ملايين الأفكار

اللائي كن يجلن قبيل الغفوة

بعقول ملايين الموتى في صمت؟(7)

يعرض النص حقيقة الحياة والموتِ ويكشف عن كنههما، ثم ينتقل إلى تساؤلٍ حائرٍ مُترتبٍ على الحقيقةِ التي كشفها في البيتين الأولينِ، تكتملُ الحيرة وتصل ذروتها في هذا السؤالِ : "فهل كانت لحظة ميلادي المبهم هي لحظة موتي المرجأ؟"

في ( فصل الحجارة) انتقل الشاعر بثورتهِ إلى الهم الإنساني والعربيِ عندما تناول  انتفاضةِ الشعب الفلسطيني، يقول الشاعر في قصيدةِ: " صرخة":

"كان مقدوراً علينا منذُ آلاف السنين

أن يصفونا لكي نصنعَ جدراناً لبيت

أو سياجاً حولَ دار

غيرَ أنَّا اليوم صرنا في أكفِ الأبرياء

صرخةً تصنعُ بنياناً لأمة" (8)

يمتلكُ ديوان "دمعة للأسى .. دمعةٌ للفرح" تلكَ "السِمة الانفجارية في التأمل والدلالةِ والإيحاء" ، ونستشعر في قراءة الديوان بأن عز الدين اسماعيل تنحى كلية عن الرؤية الواعيةِ كناقدٍ بصيرٍ وتراءت له الأشياء فبصرها بعينِ الشاعرِ المهمومِ، وتفجرتْ بداخلهِ جمرةُ المشاعر والأحاسيسِ.

في عامِ 1964 كتبَ الشاعرُ عز الدين المناصرة قصيدةً عنوانها "توقيعات"، قرأها في ندوةٍ أدبية بمقر "الجمعية الأدبية المصرية" بعابدين، في حضور الشاعرينِ صلاح عبد الصبور وعز الدين إسماعيل. توالت قصائدُ التوقيعاتِ في معظم أعمال عز الدين المناصرة الشعرية تحتَ ذاتِ العُنوان "توقيعات". في ديوانه الأول "يا عنبَ الخليل،1968" نجدُ قصيدةَ "نقوش كنعانية"، ينطبق هذا الاسمُ تماماً على المسمى الأجنبي "الإبيجرام" أي النقشُ على الأشياء. يعدُ المناصرةُ واحداً من هؤلاءِ الشعراء الذين كانوا يعشقون التجريبَ للأنماط الغربيةِ وإعادة تشكيلِها في إطارٍ شعريٍ عربي.

لقد استفاد المناصرة من التوقيعات العباسيةِ النثرية وقصيدةِ الهايكو اليابانية والإبيجرام اليوناني. ويرى المناصرةُ أن "كل توقيعةٍ قصيدةٌ قصيرة جدّاً، لكن ليست كلُ قصيدة قصيرة توقيعة". يعتقدُ أن هذا النوعَ  الشعري يرتكزُ على الإيجازِ والتكثيف وعمق المعنى والإيحاء. يمكنه من خلال هذه القصيدة القصيرة أن يوصل للمتلقي رسالةً موحيةً  تثيرُ انفعالاتِه وتحركُ مشاعرَه :

"رجعتُ من المنفى في كفّي خُفُّ (حُنَيْنْ)

حين وصلتُ إلى المنفى الثاني

سرقوا منّي الخفّيْنْ" 1964.  (9)

في قصيدة " هوامش على دفتر النكسة" يقول نزار قباني في هامش "2":

"مالحةٌ في فمنا القصائدُ

مالحةٌ ضفائرُ النساء

والليلُ، والأستارُ، والمقاعد

مالحةٌ أمامنا الأشياء" (10)

تتكون القصيدةُ من عشرينَ هامشاً، كل هامشٍ بمثابة توقيعة تتسمُ بالإيجازِ الشديد وتنتهي نهاية أشبه بالنصلِ الحاداد والخاطفِ على حد تعبير الدكتور طه حسين.

أحيانا تأتي التوقيعة نهايةِ نصٍ طويل يسيرُ في تسلسلٍ وهدوء حتى يحدثُ توتر شعري في جزئية التوقيعة، وهذا هو شرطُ الشعرية. يتضمنُ هذا النوع من التوقيعةُ مفارقةً تُحدثُ الإدهاش والمتعةَ لدى القارئ . لا تكونُ القصيدةُ القصيرةُ توقيعةً إذا خلت من التكثيفِ والإيحاء. تعتبر الإبيجرام من القصائدِ التي تحتاجُ إلى خُصوصيةٍ شديدةٍ في كتابتِها، حتى في قراءتِها، لا يكتبُها إلا كبارُ الشعراء الذين يمتلكون الحِنكةَ اللُغويةَ في رأي  العلامةِ والفيلسوف اللغوي تشومسكي.

لقد دأب كبارُ الشعراءِ خاصةً المجددين منهم على أن ينقبوا عن الأنماطِ الإبداعيةِ الجديدة كي يظلَ صوتهم الشعري متجددا ومتفرداً، رغبة منهم في التجريبُ لأنه أداتُهم الفريدة في تشكيل طريقهم نحو التجديد، معتمدينَ بذلك على تنوعِ ثقافاتِهم وخبراتهم الحياتية. لعلَّ من أهم الأسبابِ التي دفعت طه حسين وعز الدين إسماعيل وعز الدين المناصرة إلى التشبثِ بقصيدة الإبيجرام، تلكَ التحولاتُ الفنية والفكريةُ في تجربتهم الإبداعية، رغبتُهم في التخلصِ من المُباشرةِ والخِطابيةِ إلى الإيحاءِ المُكثفِ، وحرصُهم على مجاراةِ نمطِ عصرِنا المُتسارعِ والمُتشابكِ. يعُبرُ الشاعرُ يوسف الخال عن هذا التوجهِ بقولهِ: «نحنُ نجدّد في الشعر، لا لأنّنا قرّرنا أن نجدّد، نحنُ نجدّد لأنَّ الحياةَ بدأت تتجدّد فينا، أو قُل تُجددنا. " (11). لم تعد القصيدةُ المُطولةُ في ظلِ الأحداثِ المُتواترةِ التي لا تسْمحُ للقارئِ إلا بقدرٍ ضئيلٍ من الوقتِ لالتقاطِ أنفاسِه للقراءةِ والإطلاع. لذا ارتأى الشعراءُ مجاراة هذا الإيقاعَ السريع اللاهثَ اعتقادا منهم في أنه الأنسب للذائقة العصرية وأنه  سينطلقُ بهم إلى آفاقٍ رحْبةٍ يُعبِّرون من خلالها عن انفعالاتِهم بشكلٍ مُقتضبٍ ومُوحٍ بعيداً عن التأنقِ اللفظيِ والابتذال. بالإضافة إلى أن معظم الألوان الشعرية القصيرة يجمع بينها عنصر المفارقةِ التي تثيرُ ذهنَ القارئ وتحركُ عاطفتَه ودهشتَه.

الإبيجراما والومضة:

لفنِ الإبيجراما سماتٌ متعددةٌ، منها الجنوحُ إلى واقعيّةِ المضمونِ الشعري، الإيجاز اللفظي مع التّكثيف الدلالي، البساطةُ في التركيب البنائي للنص، الدهشةُ المنبثقةُ عن المفارقة، وإحداثُ فجوة توترٍ شعري قادرةٍ على التأثيرِ في المتلقي. تلك الفجوةُ سِمةٌ شعريةٌ، لا نكادُ نجدُها إلا في النصوصِ المُبدعةِ القادرةِ على التحليق. من الواضح أيضاً أن الذاتَ الشاعرة في التوقيعةِ تتجسدُ عبر الضمائرِ الدالة علي ذاتِ الشاعر، كما نلحظُ حضور الأسطورةِ بكثافةٍ داخل القصيدة عن طريق المزجِ بينها وبين الأحداثِ المُعاصرةِ المُرتبطةِ بالواقعِ الذي يُحيطُ بالشاعرِ ويشكّل عالمَه وتجربتَه ورؤيتَه الشِعريّة.

هناك نوعٌ من القصائدِ القصيرةِ لا تكونُ نهايةَ مقطع يطلقُ عليها "قصيدةُ ومضةٍ مُكثفة، خاتمتُها مفتوحةٌ على تأويلات تُمثلُ مُفارقةً شعرية"،هي أشبَهُ بالبرقية، تقدمُ صورةً واحدة أو انطباعاً واحداً باقتضابٍ شديدٍ، يهدفُ الشاعرُ من خلالِه إلى إحداث تأثيرٍ جمالي لدى المُتلقي. تُقدم هذه القصائد لقطةً سينمائية درامية تهتم بالإيقاع الموسيقي في التشكيل الفني". لقد عرَّفَ الشاعرُ عز الدين المناصرة الومضة  بأنها "قصيدةٌ قصيرةٌ مكثفة؛ تتضمنُ حالةَ مفارقةٍ شِعريةٍ إدهاشية، ولها خِتام مُدهشٌ مفتوح، أو قاطعٌ حاسمٌ، وقد تكونُ قصيدةً طويلةً إلى حدٍّ معين، وتكونُ قصيدةَ توقيعة إذا التزمت "الكثافة والمفارقة، والقُفلة المُتقنة المُدهشة" (12)

تعتبر الومضةُ الشعريّة تصويراً للحظةٍ أو مشهدٍ يعبرُ عن إحساس شعريّ خاطفٍ يمّر في مخيلةِ الشاعرِ  فيصوغُهُ بألفاظٍ قليلةٍ وموحية. تعتبر قصيدة الومضة وسيلةً من وسائل التجديد الشعري، أو شكلاً من أشكال الحداثة التي تعبرُ عن روح العصر بتشابكاته وتعقيدات أحداثه. تكون الومضة ملائمة للروح العصرية، لأنها تنجحُ في التعبير عن هموم الشاعر وآلامه، كما أنها تلائمُ في شكلها مبدأ الاقتصاد الذي يهيمنُ على حياتنا اليومية. ساعد على نشوءِ هذا النوع من الشعر ورواجهِ ذلكَ التحولُ الفكريّ والفنيّ والإطلاع على الأنماط الشعريةِ الأجنبيةِ. على الرغم من أنَّ قصيدة الومضةِ أو التوقيعة تفتقرُ إلى عُنْصري الوزنِ والقافيةِ، إلا أنَّها تُبقي على الإيقاعِ الداخليِ الذي يتشكلُ في نسيجِ اللغةِ وتناغم المعانى.

مختتم

لم يقتصر شعرُ التوقيعة في الأدب العربي على التجاربِ الإبداعية التي قدمها طه حسين وعزُ الدين اسماعيل والمناصرة ولا حتى على توقيعاتِ محمود درويش وأحمد مطر ومُظفر النواب ونزار قباني، لكِنَّ مُعظمَ كتابِ قصيدةِ النثرِ آثروا هذا الفنَ الشعريَ، لاحتوائه على حقولٍ دِلالية متعددةٍ يمكنُهم التعبيرُ عنها بشكلٍ مُوجزٍ ومُوحٍ يُدخلُ القارئَ في حالةٍ من الدهشةِ من خلالِ المفارقةِ التي تُحدث نوعاً من التوتر الشِعري، تجعلهُ في تأهبٍ دائمٍ للوُلوجِ إلى عالمِ الشاعرِ، وتقصي أبعادِ النص، فيما يُشبهُ الرحلةَ المُضنيةَ والممتعةَ في آنٍ واحد.

 

حسن التهامي

....................

المراجع:

(1) القصيدة العاطفية عند شعراء المدرسة الأيونية

https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B5%D9%8A%D8%AF%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D8%B7%D9%81%D9%8A%D8%A9_%D8%B9%D9%86%D8%AF_%D8%B4%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D8%A1_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D8%B1%D8%B3%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%8A%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%A9

 (2 ) نضال القاسم، النص الإبداعي بين السيري والمتخيل الشعري 2015 ، ص 184

(3) جرجي زيدان، تاريخ التمدن الإسلامي - الجزء الأول، دار القلم للطباعة و النشر و التوزيع - بيروت / لبنان, ٠٦‏/٠٦‏/٢٠٢٠، ص 263

(4) https://www.aldiwan.net/poem22063.html

(5) الموسوعة العالمية للشعر العربي

http://www.adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=shqas&qid=8938

(6) طه حسين، جنة الشوك،  مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة ، 2013، ص18

(7) جهاد فاضل/ الفكر والإبداع ، السبت 6 ربيع الاخر 1434 هـ - 16 فبراير 2013م - العدد 16308

(8) شكري عزيز الماضي، دمعة للأسى .... دمعة للفرح ...إشكالية مصطلح «الإبيجراما» إلى روح الراحل الكبير عز الدين اسماعيل، جريدة الدستور، فبراير 2007

(9) توقيعات شعر:عز الدين المناصرة، دنيا الوطن، 2017،

(10) د. عصام شرتح,،  دار الخليج  نزار قباني - دراسة جمالية في البنية والدلالة، 2017 ص 24.

(11) عرض وتقديم : حواس محمود ، أحمد بزون، قصيدة النثر العربية الإطار النظري، الناشر: دار الفكر الجديد الطبعة: الاولى 1977.

(12) أ.د حفناوي بعلي، داراليازوري العلميه للنشر والتوزيع راهن الشعر في نهايات القرن: أصوات الملحمة وأصداء التوقعية والصوفية، 2008 ، ص 9

 

 

صِناعةُ الظّل

التفاصيل
كتب بواسطة: نور الدين حنيف

نور الدين حنيفلا يتحدد مفهوم الظل إلا في مرجعية ضوئية، أي في وجود مصدر للضوء، تبعا لشرطٍ هندسي يقبِضُ على المنطقة المعتمة، ثمّ يصفُها ويُقدِّم في حدودها الفيزيقية مفهوماً للظل، بحيث يتعذّر على الناظر أن يُفلتَ من بصرِهِ وجود الشجرة في غياب ظلها مثلا، أو العكس، طالَما أن الضوء في زاوية المرجع . هذا الظل الفيزيائي لا يختبئ ولا يتوارى في وجود مرجعيته، بخلاف الإنسان، الذي قد يختبئ وراء ظله أو قد يتماهى معه أو قد يذهب إلى أقصى من ذلك، فيكون هو الظلَّ نفسَه، أو يكون بلا ظل، مجازاً يمكر بحقيقة التصوير .

تكونُ الموجوداتُ في علاقتها بعضها ببعض، حالاتٍ مختلفةً من تبادل أدوار الظل . فمرة، وغالباً واطّراداً، نكون نحن الضوء، لا في مفهومه الإشعاعي المسلِّط قوته الفاضحة للظل، ولكن في مفهومه المرجعي، بحيث يكون وجودنا سببا في وجود الظل، وغيابنا عاملا في غيابه ... من ثمّة يتحول الموجود الآخر إلى كينونة قادرة على إلغاء فعل الضوءِ وإثباته تبعاً لحجم قوّتنا في الظهور والخفاء . ومعنى ذلك أننا نحن من يصنع ثقافة الظل في مفهومها السلبي المدمّر لنسغ العلاقات الإنسانية الموسومة بالعمار الحضاري . إننا بخوفنا وتأويلنا لسلطة الآخر تأويلا يوهيمرياً 1، نصنع الهالة المُضخّمة لجسد الآخر أو لظلّه، وندفعه – مستسلمينَ لخوفنا اللامفسّر – إلى أن يكبر ويتعملق حتى يعانق ظلّه في ميلاد ثقافة مُفارِقة تُهرِّبُ المسؤولية إلى هناك حيث الظلّ قادر على امتصاص كلّ أشكال التهمَة لِيخرج من دوائر الإدانة بريئا مثل الذئب والقميص ويوسف ... مُخرِجاً معه بريئاً أيضاً ذلكم الجسد القمين بكلّ الإدانات .

نحن الضوء إذن، لكن في خفوتٍ غير مبرّر وغير مقنِع، ومع ذلك نحن الضوء القادر على أن يصنع مفهوم الظل في لبوسه الماسخ، والذي يحوّل الجسد المرئي إلى خفاءٍ لا يُلغي وجود الجسد ولا يُلغي قدرته على الممارسة والتأويل والتحكم، بقدر ما يُحجّم من تغوّل هذه الممارسة والتأويل والتحكم . وبالمقابل، نكون قد صنعنا من ضوئنا ظلالاً أخرى خائفة بالفطرة ومنقادة، وفرحة بهذا الخوف وبهذا الانقياد، في تجلٍّ غريب لما يسمّى بالهوى في شقّيْهِ المتباعدين اشتقاقاً والقريبيْنِ دلالاتٍ، وأقصد الهوى من هوى أي سقط، والهوى من هوى أي عشق .

إنها نظريةٌ للظلّ إن أمكن التعبير، تنسج خيوطها العنكبوتية بمهلٍ وتؤدةٍ شديدين، على مرأى من العيون وفي تغييبٍ كلّي لها . لكنّها نظرية لا تفعل في الدرس الأكاديمي فعلها التنويري والمعرفي كي تأخذ مقعدها المناسب في مدرجات البحث العلمي الجدير بالبناء . إنها نظرية بمفهوم آخر، تقترب من النزعة المُغْرِضة القابلة للترويج بغير اسم كأنها اللقيطة المفعمة بالإثارة والجاذبية في غير مسؤولية، تستثمر كيدياً ثقافةَ الحق المشاع الذي يبدو لغير ذي بصر رأياً عارياً من الإدانة فيما هو تهريبٌ خفيّ لثقافة مرفوضة عن طريق التمييع قصد شرعنتها رغم أنف البداهة الرافضة لها .

إنها نظرية للظل، يمجّها العقل السليم ويهواها المنطق الخفيّ الدافع إلى تركيم أرباح الظل على حساب الضوءِ \ المرجع، وعلى حسابنا نحن الموجودات الجسدانية الخائفة . ونهواها نحن أيضاً من حيث إنها ظلالٌ تبشّر وتحمل في أوراقها الغد المعسول الماثل أمامنا بديلاً لقهرنا الاجتماعي اليومي الغشوم . وهو القهر الذي علّمنا أن نُواريَ سوءاتِ من يحبّون العيش خلف الأضواء وخلف أعين الناس حتّى لا يطالهم ما يطالُ القاطنين في الواجهات . لهذا تجدهم يخافون من أبسط أضوائنا أن تتكشّف عوراتهم وخاصّة إذا كان السياق قانوناً جريئاً يُصَادِر كل أوراق التوت خارج المشهد .

تذهبُ نظرية الظلّ والظلال إلى أبعد من هذا وذاك، إذ لا تَني تُعلّم أبناءها البررة تعاليم الخفاء والتجلّي عبر تبنّي عقيدة الظلام . وحيثُ إن الظلامَ نفيٌ للضوءِ وإلغاءٌ له، فإنّ المرتعَ الحقيقي والمناسب لهذه النزعة الهيولانية هو الظلامُ عينُه الذي يتبدّى مقولةً بوجهين : وجه الإعتام الخائف من أبسط شررٍ من الضوء . ووجه الإعتام الطافحِ والكاسح بظلامه الممتد والمميَّز بالقدرة الخارقة على التكتم والتبييضِ والتمويه والمراوغَة .

هكذا، نصبح – نحن الضوءَ – موضوع إشكالٍ لهذه الكائنات المشتغلة بليل، والمخططة بليل . ونصبح مصدر إزعاج لدعتها ومصدرَ تهديد لأمنها . ونتحوّل بفعل إيغالها في الظلامية إلى  منهج مضادّ يقضّ مضاجعها ويُربك برامجها في حالٍ واحدة : هي حال إدراكنا مصدر قوّة ضوئنا . خارج هذا الشرط، تبقى الهيمنة للظلام الممنهج، ولأصحابه المُقدَّمينَ إلى الرأي العام باعتبارهم صوراً نموذجية للقيم الإيجابية .

إن الحديث عن القيم في لعبة التبنّي المشروط والتبنّي اللامشروط، يجرّنا إلى الحديث عن أدوار الظل في خلخلة المفاهيم داخل حقل القيم . ولفهم ذلك نتساءل عن طبيعة الوجود الإنساني داخل نظرية الظل ...

يمارس الإنسان في علاقته بالظل وجوديْنِ، وجودٌ فيزيقي يحدده الإطار الهندسي في علاقة الجسم بالضوء . ووجودٌ سياسي يمتد فيه الجسد بسيطاً يحلم بالاعتلاء ليصير مُرَكّباً يُسْلِم الزّمام للظل كي يكبر على الجسد لا في قطيعة ولكن في التحام من نوع آخر، يبدو فيه التخلي وجها للعلاقة فيما العلاقة مبنية أساساً على الحماية . يتحول الظل إلى وجودٍ موازٍ ومحصّن يحمي الجسد من الموجودات الأخرى .

و يتبدّى هذا الأمر واضحا في مثال السياسي الذي يدخل باب السياسة من أجل قشور السياسة لا من أجل السياسة ذاتِها . والقشور هنا لا ترتبط بالفضْلات المتلاشية عن فاكهة الزمان، وإنما هي الفضُلاتُ المفضّلاتُ التي يجود بها الزمان، وقلّ أن يجود بها، وهي القمينة بتحويل الرعاع إلى أعيان، والأعيان إلى كائنات فضائية . وهنا وتحديداً هنا، يكون الاعتلاء للمواقع أمراً محسوم الإسناد للظل . فهو وحده القادر على تحويل الموازين المادية، من الفقر إلى الغني ومن الغنى إلى الغنى الفاحش ... وهو القادر أيضاً على تحويل القناعات من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين ومن التديّن الشديد إلى الانفتاح الأشدّ .

من يعقِلُ الظلّ إذن ؟ ومن يفكّر فيه بشكل مُراود أكثر من هذه الكائنات الرمادية التي تحبّ أن ترتع بين البياض والسواد . وهي في ديدنها هذا، تُروّج للثقافة النكوصية القاضية بالخوف دائما ممّا خلف الظل من موجوداتٍ تشبه العفاريت، لا في حضورها الخرافي المرتبط بطفولتنا المرتعبة من الظلام، ولكن في حضورها السياسي القائل بقدرة هذه العفاريت على الممارسة واحتكار الممارسة والتخطيط لها بشكل يمنع الضوء من الخروج والتجلّي حتّى لا يعيق أي قبس مهما صغُر، مشروعها الظِّلالي والضَّلالي القابع في زوايا إراداتنا المشلولة بفعل تغوّل مثل هذه الثقافة .

تُطيل هذه الثقافة من أعمار الظل وأصحابه، وتُعطّل مشروع النقيض الذي قد يولد في أيّ لحظة يقرر بعض الضوء أن يعقِلَ الضوءَ في ثقافة جديدةٍ، تدرِكُ أنّ الشمس لها تاريخ ولها استشراف، كما تُدرك أن كلّاً من التاريخ والمستقبل مقولاتٌ مفعمةٌ بالنور .

 

نورالدين حنيف - الدارالبيضاء

في 24 يناير 2021

..........................

هوامش:

1 - تفترض اليوهيمرية نسبةً إلى يوهيميروس أن الروايات التاريخية تصبح أساطير عندما يُبالَغُ في إعادة سردها .

 

 

قراءة في كتاب علم النفس السياسي تأليف: دايفد باتريك هوتون

التفاصيل
كتب بواسطة: مجاهد منعثر منشد

مجاهد منعثر الخفاجيالمؤلف البرفسور دايفد باتريك هوتون أمريكي الجنسية من أصل بريطاني، أستاذا في جامعة وسط فلوريدا في الولايات المتحدة، وعمل قبل ذلك في جامعات بريطانية وأميركية. له ستة كتب وعدة مقالات منشورات في دوريات علمية محكّمة. كتابة علم النفس السياسي ترجمته الأردنية د. ياسمين حداد .

قبل الخوض في تفاصيل قراءة كتاب علم النفس السياسي، لابد لنا من موجز يوضح للقارئ الكريم من المستهدف في علم النفس السياسي؟

هذا العلم مجال أكاديمي متعدد الاختصاصات، يقوم على فهم السياسة والسياسيين والسلوك السياسي من منظور نفسي وتعتبر العلاقة بين السياسة وعلم النفس ثنائية الاتجاه؛ فيستخدم العلماء علم النفس كمرآة لفهم السياسة، وكذلك السياسة مرآة لعلم النفس، ويعد هذا العلم مجال متعدد الاختصاصات، لأنة يأخذ مادته من مجموعة واسعة من التخصصات الأخرى، بما في ذلك علم الإنسان، وعلم الاجتماع، والعلاقات الدولية، والاقتصاد، والفلسفة، ووسائل الإعلام والصحافة بالإضافة إلى التاريخ.

ويعرفه مورتون دويتش بأنه: “دراسة تفاعل علم السياسة مع علم النفس، خاصة أثر علم النفس في السياسة”.

تتصف الطبيعة البشرية بخصال عديدة ومتباينة، فتجد فيها الأنانية والقسوة وترى الكرم والنزاهة والطموح إضافة إلى الحماقة وغرابة الأطوار، بذلك هي خليط معقد من الخير والشر كما أنها تمثل معجزة التطور .

ومهمة علم النفس البشري تفسير تلك الطبيعة الإنسانية واختلاف الطبائع البشرية من فرد لآخر وأثر البيئة المحيطة الخارجية بالبيئة النفسية الداخلية للفرد.

أما على مستوى العلاقة بين علم النفس الإنسان وعلم السياسة فسنجد أنه فروع هذا العلم تتنوع إلى نظريات سياسية وعلاقات دولية ونظم سياسية وسياسيات عامة وخارجية وتنظيمات وقوانين دولية وغيرها من الفروع المختلفة التي يتطرق إليها علم السياسة.

وإذا ألقينا نظرة عامة وشاملة على هذه المجالات ندرك أنّ الفاعل الأساسي في كل هذه التخصصات هو “الإنسان“، والتفاعلات المختلفة من سلام وحروب أو تعاون وتنافر بين الدول والشعوب فهى تقوم على دوافع معينة تصدر من النفس البشرية.

يلخص الكتاب بنمطين أساسيين من المقاربات لفهم السلوك السياسي الإنساني: أوّلهما مقاربة موقفية تعدّ البيئة أو الموقف المحيط بالفرد، أكثر أهمية في تشكيل سلوك الفرد أو دوره في المجال العام من نزعاته أو خصائصه الشخصية أو انتمائه الحزبي؛ و الأخرى المقاربة النزوعية التي ترى أنّ شخصية الفرد وما لديه من اعتقادات وقيم أو حتى موروثات جينية، أكثر تأثيرًا في هذا المضمار. بل يمكن، على العموم، النظر إلى السلوك السياسي على أنّه حدث مدفوع بأسباب داخلية أو مؤثرات خارجية، أو بمزيج من هذين النوعين.

في هذا الكتاب يجيب المؤلف على سؤال جدلي من أكثر الأسئلة الفلسفية تعقيدًا حول سلوك البشر، وهو في ما إذا كان سلوك الفرد نابعًا من خصائصه النفسيّة الفرديّة -أي مدفوعًا بأسبابٍ داخلية -أم ناتجًا عن أسباب خارجية بمثل الظرف المحيط، والموقف الذي وُجد فيه الفرد (قوى موقفية).

وأن السؤال المحوري الذي يطرح هوتون والقضية التي تدور حولها موضوعاته في الكتاب، ما الذي يُحدّد سلوكنا؟ أو لماذا يفعل الناس ما يفعلونه؟

إن معظمنا يحمل نزعات إضافة إلى قيم واعتقادات نفترض بأنها تحول دون قيامنا بأفعال مشينة، إلا أن قوّة الموقف المحيط، وضغطه، قد يطغيان في أحيان كثيرة على هذه القيم والمعتقدات، ويجعلاننا نتصرف بما يخالفها.

ولكن إذا كان الموقف أو المحيط هو كل شيء، بحسب بعض علماء النفس الاجتماعي، وأنه المُحدّد الرئيس لسلوك البشر، فهل نتعامل مع الأفراد كأنهم يولدون «صفحات بيضاء فارغة» وغير مسؤولين عن سلوكهم؟ ألم نولد ونحن نحمل في داخلنا نزعات معيّنة تحدد سلوكنا؟ أليست لدينا القدرة على الاختيار؟ أليس لحالاتنا الذهنية والنفسية أهمية كبيرة في تحديد سلوكنا؟ ألا يحق لنا أن نتساءل عن أسباب استجابة الأفراد للموقف الخارجي الواحد بطرائق مختلفة؟ فما هو إذًا هذا الشيء في داخلنا الذي يُكوّن هذا الاختلاف في السلوك؟.

من خلال الإجابة على الأسئلة المطروحة أعلاه يريد دايفد هوتون فهم السلوك السياسي، فيعرّف هذا السلوك بأنّه “أي نشاط يومي يرمي إلى تحقيق غاية سياسية، ويشمل ذلك نطاقًا واسعًا من النشاط السياسي الذي يزاوله البشر، من السلوك المتطرف كالإرهاب والحرب إلى السلوك العادي المألوف كالتصويت في الانتخابات. ويتضمن ذلك صنع القرار – في مستوى الأفراد المصوتين، ومستوى النخبة في الحكومة- وما يتعدى ذلك.

في الكتاب مقدمة وثلاثة أبواب رئيسة. وجاءت المقدمة في فصلين، وضع فيهما المؤلف موجزًا لما سيتعرف إليه القارئ في الكتاب، إضافة إلى نبذة حول علم النفس السياسي وتاريخه. أمّا الباب الأول، فعنوانه: الموقف، وضمّ الفصول من 3 إلى 6. وفيه يفحص المؤلف مناحيَ متنوعة من المقاربات القائمة على علم النفس الاجتماعي، والتي تؤكد أهمية الموقف قياسًا بدور الأفراد وخصائصهم في توجيه السلوك، بادئًا بالتحليل الموقفي الأكبر، وهو السلوكية والتي كانت شائعة في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، لينتقل بعدها إلى وجهة نظر سكينر القائلة إنّ الدول تحسن صنعًا إذا عملت على إشراط مواطنيها (أي تعلمهم بالثواب والعقاب) على الأخذ بالسلوك "المرغوب فيه اجتماعيًا" وتجعلهم أفضل حالًا. وفي الفصل الرابع يتناول المؤلف تجارب ستانلي ميلغرام، والتي تعدّ من أبرع التجارب التي أجريت في علم النفس، محاولًا أن يطبق الاستنتاجات التي يخرج بها من هذه التجربة على فكرة الإبادة الجماعية، وخصوصًا تلك التي حصلت في ثلاثينيات القرن المنصرم. أمّا الفصل الخامس، فيستعرض تجربة مناظرة لتجربة ميلغرام، وهي تجربة ستانفورد الشهيرة على سلوك السجناء والسجّانين. وسيكون التركيز على متطلبات الموقف وكيف أنّ الأدوار المحددة اجتماعيًا يمكن أن تكوّن سلوكنا. ويختتم الباب بالفصل السادس المخصص لفكرة سلوك الجماعة. ويتناول بصورة خاصة أعمال إيرفنغ جانيس عن كيفية تغيّر سلوك الفرد استجابةً لضغوط الجماعة.

وفي الباب الثاني، الفرد، وهو الباب المخصص لوجهة النظر النزوعية، ويضمّ الفصول من 7 إلى 11، يبحث في النظريات النفسية القائمة على أساس فردي. والجدير بالذكر أنّ هذه النظرية ذات تأثير أكبر في علم النفس السياسي من وجهة النظر الموقفية. وفي الفصل السابع، يوضح المؤلف ما للمقاربات القائمة على التحليل النفسي من أثرٍ كبير في تطور علم النفس السياسي، ويَجري في الفصل الثامن بحث كتاب الشخصية الرئاسية لجيمس دايفد باربر. أمّا الفصل التاسع، فيتناول ما يسمى "الثورة المعرفية" لفترة الثمانينيات والتسعينيات. وهي الحركة التي عمدت إلى طمس آثار المقاربات الفرويدية الطابع وإن ظلت تحافظ على منطلقٍ نزوعي في الأساس، ونقلت بؤرة الاهتمام إلى البنى المعرفية القائمة في الذاكرة الإنسانية وكيفية تأثيرها في تكوين السلوك. في حين يتحدث الفصل العاشر عن التركيز التعويضي على العواطف والانفعالات، والذي حدث لعلماء النفس، بعد مرحلة التركيز على العمليات المعرفية الباردة التي سادت في الثمانينيات والتسعينيات. ويتحدث الفصل الأخير عن دراسة الانفعال، والتي تعد بتطورات على صعيد المقاربات النظرية ذات العلاقة بالسياسة.

أمّا الباب الثالث والأخير، ربط الاثنين معًا، والذي يشمل الفصول من 12 إلى 17، فهو أكثر إمبريقية (من حيث إنّه يتناول ظواهر خضعت للدراسة العلمية القائمة على الأدلة الملاحَظة)، ساعيًا قدر الإمكان إلى التوفيق بين النزوعية والموقفية، ومتطرقًا كذلك إلى نظريات القومية والصراع العرقي، والعنصرية وعدم التسامح السياسي، وسلوك الانتخاب، والأمن الدولي، ويسأل في كلّ حالة إذا ما كانت المقاربة الموقفية تقدّم التفسير الأفضل للسلوك موضوع البحث أم المقاربة النزوعية.

 

بقلم / مجاهد منعثر منشد

 

 

قراءة في رواية: الأم

التفاصيل
كتب بواسطة: السعيد بوشلالق

السعيد بوشلالقتأليف مكسيم غوركي Maxim Gorky

النسخة التي بين يدي طبعة 1990. عن دار الأنيس موفم للنشر – الجزائر. تتكون من 458 صفحة من الحجم المتوسط.

- «الكتب الممنوعة تنطق بالحقيقة».

- « ساعدني. أعطني نوعاً مِن الكُتُب لا يعرف أيّ إنسان طعم الراحة بعد أن يقرأها. يجب أن نضع قنفذاً تحت كُلّ جمجمة، قُنفُذاً يُحسن الوخز». ص176. 

- «عظيم أيتها (الأم)، ليتكِ تعلمين كم هو مُدهِش هذا.. إنه بكُلِّ بساطة شيءٌ رائع..» - الأم ص90.

- «وإنه لرائع أن تمشي أُمٌ وابنها جنباً لِجنب..» - الأم ص445.

يقول مكسيم غوركي نفسه «قلب الأم زهرة لا تذبل.»

إنّ هذا قليلٌ مِن كثير مما يمكنني الخروج به مِن انطباعاتٍ بعد قرأتي لهذه الرواية الرائعة «الأم».

في رسالة كتبها فرانز كافكا في 1902 إلى صديق الطفولة وزميل الدِّراسة الناقد والمؤرخ التشيكي أوسكار بولّاك (1883 - 1915)، يتسأل عمّ يجعل كِتابًا ما جديرًا بالقِراءة، يُجِيب كافكا بِعِبارة تحولت إلى أيقونة حول موضوع اختيار القراءة، تقول: «أعتقد أنه يجب علينا فقط قراءة الكُتب التي تُدمينا، بل وتغرس خناجرها فينا، وإذا كان الكِتاب الذي نقرؤه لا يوقظنا من غفلتنا، فلِمِ نقرؤُه أساسًا؟ الكُتب التي تُحزننا بعمق مثل وفاة شخص نُحِبُّه أكثر مِن أنفُسِنا، مثل أن نُنفى بعيدًا في غابة بِمنأى عن الآخرين، كأنه الانتحار. يجب أن يكون الكِتاب هو الفأس التي تكسر جمودنا، هذا هو اعتقادي.».

- يلزمني كتابٌ واحد من هذه الكُتُب الممنوعة، كِتابٌ لاذِع جِداً.. ص172.

إنّ هذا الكِتاب ينهال على أرواحنا كالحظ العاثر، فيضغط علينا ويؤثر فينا بِعُمق، مثل مطرقة تكسر الجليد المُتجمد فينا..

- ليت لي الألفاظ التي أستطيع أن أُعبر بها عمّا في قلبي لـ (الأم).

- أحداث الرواية:

الرواية تتكون من قسمين:

1 - في القسم الأول؛ تبدأ الرواية بوصف الحالة المزرية التي كان يعيشُها العُمال في روسيا القيصرية قبل الثورة البلشُفية، حياة كريهة وكئيبة: (إنها الحياة، كالماء العكر تنساب رتيبة بطيئة، سنة بعد سنة، وكل يوم يمر، يمر وهو يحمل نفس العادات القديمة اللازبة، في التفكير والعمل، وما من أحد يستشعر رغبةً للتغيير فيها..) ص05. (كانوا وقد تعودوا أن تسحقهم قوة ثابتة لا تتغيّر، لا يتوقعون أي تحسن في حياتهم، بل يعتقدون أن كل تغير قد يطرأ على هذه الحياة، لن يكون إلاّ وسيلة تجعل نيرهم أشد وطأة..) ص06. ويتخذ مكسيم غوركي من تلك البداية أرضيةً لتوصيف حياة (ميخائيل فلاسوف) والد بطل الرواية (بافل فلاسوف)، ومدخلاً لتشريح الواقع المعيشي الذي كانت تعيشه أسرته، وتأثير ذلك فيه، وفي نضجه وتحوله الفكري والعقدي. فقد كان والده رجلاً لا يُعاشر، مات بعد أن بلغ (بافل) ستة عشرة سنة، واستراحت من عنفه زوجته الأم الطيبة (بيلاجيا نيلوفنا) البطل الحقيقي للرواية؛ التي يرتكز عليها السّرد. لم تبكه زوجته كثيراً ولم يسفح عليه (بافل) دمعة واحدة.

لا شيء يتردد في تلك الضاحية البائسة سوى صافرة المعمل، يبدأ النّهار بهذا الصّوت الكئيب، وينتهي به، يخرج العُمال من المعمل إلى الحانة، يملؤوا بطونهم بالفودكا ليعودوا آخر المساء إلى بيوتهم فيستفرغوا في زوجاتهم ضرباً وعُنفاً.

في هذا الجو العائلي والاجتماعي العنيف والكئيب نشأ (بافل فلاسوف)، لكن برعاية أمٍّ حنون رغم شظف العيش. وفي يوم أحدٍ، وبعد وفاة أبيه بخمسة عشر يوماً، عاد (بافل فلاسوف) إلى المنزل ثملاً، (وتناهى إليه صوت أمه: - كيف ستتمكن من إعالتي، إذا ما بدأت تُدمن الشراب؟ فأغمض عينيه وأجاب: - إن الجميع يشربون. وتأوهت (بيلاجيا) وهي تعلم أن الرِّجال لا يجدون مكاناً آخر سوى الحانة، ينشدون فيها المُتعة، ومع ذلك فقد أجابته: - أما أنت فيجب ألّاَ تشرب؛ لقد شرب أبوك كثيراً بالنيابة عنك؛ وعذبني كثيراً، وباستطاعتك أنت أن تُرفق بأمك.) ص11. وأصغى (بافل) إلى كلمات أمه الحزينة الوادعة، وتذكر كيف عاشت أمه في الصَّمتِ، والنِّسيان، يُعذبها الانتظار الممزق، انتظار الصفعات، فقد كان لا يمكث في البيت إلاّ قليلاً تجنباً للقاء أبيه.. وبتأثر بدأ التحول في حياة (بافل)، وأخذت الحياة في منزل آل فلاسوف الصغير تتابع سيرها أكثر هدوءاً وسلاماً من ذي قبل، ومختلفة بعض الشيء عمّا هي عليه في المنازل الأخرى.

كان (بافل) يشتغل باندفاع دون تغيب عن العمل، وكان كثير الصَّمت، عيناه تعبر عن عدم رضاه، نظرته أكثر صرامة، وكان يبدو كمن ملأه غيظ أخرس. كان رفاقه من قبل يأتون إليه، أما الآن فقد انقطعوا عن زيارته، لأنهم لا يجدونه أبداً في البيت. وكانت أمه تلحظ بكثيرٍ من الغبطة أنه لا يُقلد أترابه في المعمل، ولكن إحساساً بخطرٍ مجهولٍ كان يجتاح قلبها. عندما كانت تلمس عناده وتهربه من الانتظام في تيار الحياة العامة. ولاحظت أنه أخذ يحمل كُتُباً ويقرأها في الخفاء ثُم يُخبئها في مكانِ ما.

كانت الأم (بيلاجيا) تعرف أنه يذهب إلى المدينة، ويتردد على المسرح، ولكن أحداً لم يعد من المدينة ليُخبرها أنه رآه. كان يُخيل إليها أن ابنها يغدو على مَرِّ الأيام أقلّ ثرثرة، ويستعمل ألفاظاً جديدة لا تفهمها، واختفت من لغته التعابير الفجّة القاسية، وتغيّر في سلوكه، فأصبح مظهره أكثر بساطة ورقّة، ومشيته أشدّ اطمئناناً وتحرراً، وأصبح يُساعدها في أشغال البيت، ويُخفف عنها عبء مشاغلها، ولم يكن في الضّاحية كلها من يتصرف مثل هذا التّصرُف.

كان عدد الكُتُب عند (بافل) يزداد باطراد، وأصبح يُخاطب الأم بحُبٍّ واحترامٍ وتبجيلٍ وتعظيمٍ، لكنها استشعرت القلق عليه عندما يُفاجئها متردداً: لا تقلقي يا أُماه فسأعود مُتأخراً. من خلال هذه الكلمات كانت الأم تستشعر أنه ينطوي على شيء قوي وجاد. وكان القلق يُداخلها فتُفكر(إن الآخرين يعيشون كرجال، أما هو فيحيا كراهب، إنه مُسرف في الجدية والاتزان وهذا ما لا يتلاءم وسنه.) ص15. سنتان ومشاعر الخوف والقلق تنمو بلا انقطاع.. وأدركتْ الأم أن ابنها قد وهب نفسه إلى الأبد لأمرٍ غامض رهيب ليعرف الحقيقة.

كانت الغرفة الصّغيرة في بيت آل فلاسوف مقراً لاجتماعات (بافل) ورفاقه في أمسية كل سبت، يتناقشون ويتجادلون على مرأى من الأم (بيلاجيا) التي كانت تقدم لهم الشّاي وتنصت إلى أحاديثهم، إلى أن صدمتها كلمة (اشتراكيون) التي لم يستوعبها عقلها. (كانت الأيام تنزلق يوماً بعد يومٍ كحبات السّبحة، وانجمعت أسابيع وأشهرٍاً، وفي كل سبت، كان رفاق (بافل) يجتمعون في منزله. وكان كل اجتماع من اجتماعاتهم كدرجةٍ في سُلّم ٍ طويل. هين المُرتقى، يُفضي إلى البعيد البعيد، دون أن يدري أحدٌ إلى أين؛ سُلّمٌ يرفع ببطء أولئك الذين يتسلقونه.) ص37. وأخذت وجوهٌ جديدة تظهر في تلك الاجتماعات، حتى ضاقت بهم غرفة آل فلاسوف الصغيرة. (كانت حياتهم تزداد حركة وحرارة، وكانوا ينتقلون بِسُرعة مِن كِتَابٍ إلى آخر، كما ينتقل النّحل مِن زهرةٍ إلى زهرة.) ص45. (ولفت البيت الصّغير في طرف الضّاحية انتباه النّاس، فراحت الأبصار المرتابة تخترق جدرانه، وأخذت تحوم فوقه أجنحة الشّائعات من كلِّ لونٍ، وكان النّاس يُحاولون أن يكتشفوا السِّرّ الغامض الّذي يُخفيه.) ص46. وانتشر الحديث في الضّاحية عن الاشتراكيين الّذين ينثرون في كلِّ مكانٍ وريقاتٍ مكتوبة بالحبر الأزرق تفضح بعنفٍ ما يدور في المعمل، وتتحدث عن الإضرابات العمالية، وتهيب بالعمال إلى الاتحاد والنضال من أجل مصالحهم. كانت الأم تعرف أن هذا كلّه مِن صُنع ابنها، وترى النّاس يتألبون حوله، فتختلط مخاوفها على مستقبله بزهوها في أن تكون أُمّاً لمثله. ويُعتقل الابن (بافل فلاسوف) ورفاقه، ويُزجُ بهم في السِّجن بِتُهمة توزيع منشوراتٍ محظورة وتحريضية على الأمن العام، ويتحول الدّور إلى الأم الصّغيرة (بيلاجيا) ويتحول بيتها الصّغير إلى مركز لجمع وتوزيع المنشورات، وتتمكن مِن إدخال تلك المنشورات إلى داخل المعمل بواسطة العربة التي تجرها لبيع المأكولات للعمال. (أندريه) يخرج مِن السِّجن ويقيم  في بيت الأم الصّغير (بيلاجيا)، ويعاملها كأم له، وتتمكن الأم مِن زيارة ابنها (بافل) في السِّجن، وبعد مدة يغادر (بافل) السِّجن، ويقترب يوم أول ماي/أيار، ويُقرر (بافل) حمل  العلم الأحمر، علم الثّورة، رغم عدم رِضا (ساندرين) و(الأم) و(أندريه). يحل أول ماي/أيار، ويقود (بافل فلاسوف) مظاهرات العمال الكادحين حاملاً راية الحُرية العلم الأحمر، ويتم اعتقاله ورفاقه، ويظهر دور الأم (بيلاجيا) وهي تحمل ما بقي من السّارية والعلم الأحمر الممزق. وهنا يمكن التساؤل: ألهذا أطلق (مكسيم غوركي) على روايته هذه اسم (الأم)؟ وتتجلى رمزية اسم (الأم) فالأم هي: الحرية، الأرض، الوطن، الشّرف، التّضحية...

2 - وفي القسم الثاني من الرِّواية وبعد اعتقال ابنها (بافل) ورفاقه، تقف الأم (بيلاجيا) وحيدة حائرة وعيناها مسمرتان على اللاشيء، وملأ صدرها كالسحابة القاتمة، تبلد مغموم ضيّق عليها أنفاسها، وظلت على هذه الحال، إلى أن أخذتها غفوة، فغرقتْ في سباتٍ عميق كأنما قد لفها إعصار، ورأتْ في المنام ابنها (بافل) وهو ينشدّ: - أيُّها المعذبون في الأرض هُبُّوا.. كان هو يُغني فيطغى صوته على كلِّ ضجيج، وكانت هي تسير في أثره، فزلّتْ بِها القدم فجأةً، وهوت إلى حُفرةٍ لا قرار لها، وكانت هذه الهوة تعوي كلما اقتربت منها. وأفاقتْ مِن حُلمها تُزلزلها رجفة، كأن يداً ثقيلة غليظة قد أطبقت على قلبها فعصرته في لعبة قاسية. وجاء الرفيق (نيقولا إيفانوفيتش) ليأخذها للإقامة عنده في المدينة كما اتفق مع ابنها (بافل). كانت حياةٌ أخرى قد بدأت للأم، وعهداً مليئاً بالأحزان. (لاحظت بيلاجيا أن نيقولا كان يسير حتى في منزله الرّغيد بحذرٍ وشرود، كأنّه غريبٌ عن كلِّ ما يُحيط به، وكان وهو يُركز نظارتيه بأنامل يده اليمنى الدقيقة، يُدني وجهه من الأشياء التي يراها، ويرنو إليها بطرف عينه، ثم يُجمد بصره، في استنطاقٍ أخرس، على ما كان يثُير اهتمامه منها.) ص226.

وفي حوارها مع (صوفيا) أخت (نيقولا إيفانوفيتش)، كانت الأم (بيلاجيا) تتسأل عمّا سبب لها الحيرة: (آه... إنّه ذلك النّهار، أول أيار، الذي سبب لي الاضطراب... فأنا أشعر أني لست على ما يُرام، كما كنت أسلك طريقين مختلفين في آنٍ واحد: تارةً يُخيل إليّ أني أدرك كلّ شيء، وتارةً أخرى أجد نفسي فجأةً كأني أغرق في الضّباب.) ص232. وقال (نيقولا) لأخته: (سيكون هناك مهمة جديدة تنتظركِ يا صوفيا؛ فأنتِ تعلمين أننا قررنا إصدار صحيفة خاصة بالرِّيف، ولكننا فقدنا بسبب الاعتقالات الأخيرة، الصِّلة المُباشرة، وليس بمقدور أحد سوى بيلاجيا أن يعثر لنا على الشّخص الذي سيتولى مهمّة التغلغل في الريف. وعليكِ أنتِ يا صوفيا أن تُرافقيها..) ص233. (وبعد أربعة أيام وقفت كل مِن الأم وصوفيا أمام نيقولا وهُما ترتديان أسمال امرأتين فقيرتين مِن سُكانِ المدن... وخرجت المرأتان في صمت إلى شوارع المدينة، ومنها إلى الحقول... وراحتْ صوفيا تتحدث بمرح عن نشاطها الثّوري، وكأنها تروي نزوات طفولتها، لقد عاشتْ بأسماء مختلفة وأوراق مزورة، وكثيراً ما تنكرتْ كي تفلتْ من الجواسيس، كما نقلتْ قناطير مِن الكُتُبِ غير المشروعة مِن مدينة لأخرى، ونظمتْ هرب كثيرٍ مِن الرِّفاق مِن المنفى، واجتازتْ بهم الحدود ورافقتهم إلى مدن أجنبية.) ص241. حلت المرأتان في المكان المحدد بلوغه لإيصال الكُتُب والمنشورات، وهناك أشار الرفيق (ريبين) لرفاقه إلى الأم، لقد انتزعوا مِنها ابنها مِن بين الصُّفوف، فأخذت أمه مكانه.. وأما (صوفيا) فقد ألّهبتْ نار الثَّورة في الرَّيف، فراحت تتحدث عن معركة الشُّعُوب في العالم من أجل حق الحياة، وسيأتي اليوم الذي يرفع فيه الكادحون رؤوسهم.

واستمرت الأم بيلاجيا في نقل وتوزيع الكُتُب والصحف والمناشير الممنوعة، وأخذت نظرتها إلى الكنيسة تتغير تماماً. فقد (كانت ترى الخيرات موفورة على الأرض، وترى الشّعب مع ذلك يعيش في العوز والحرمان. إنّه نصف جائع إلى جانب ثرواتٍ هائلة لا يُمكن حصرها. وفي المدن تقوم معابد تعجُّ بالذهبِ والفضّة، ويحار ماذا يفعل بهذه الكنوز، في حين يحتشد البؤساء في ساحات هذه المعابد وهم يرتجفون، وينتظرون أن تدس في أكفهم الممدودة سحاتيت الإحسان. وكانت قد رأت من قبل هذا المشهد، رأت الكنائس وحلل الكهنة الموشاة بالذّهب، وأكواخ المعدمين، وأسمالهم المُخزية، ولكن ذلك كان يبدو لها أمراً طبيعياً، أما الآن فإنّها تجد هذا الوضع شيئاً مهيناً لا يُطاق، ولا يرتضيه الفقراء الذين يُحِبُّون الكنيسة، أكثر مما يُحِبُّها الأغنياء، ويرونها ضرورية لهم أكثر مِن أولئك... لقد استخدموا حتّى الله لكي يخدعونا.) ص277، 278. وكانت الأم تعود من رحلاتها هذه سعيدة متأثرة بما رأتْ وسمعتْ خلال الطّريق، ويبعثُ فيها الشّجاعة وحُسن الرِّضى، شعورها بأنها قد قامتْ بِعملها على خير وجه، وكانت تقول لنيقولا: (جميل أن يُسافر المرء إلى كل مكان، وأن يرى كثيراً من الأشياء. إنه بذلك يدرك كنه الحياة، لقد عُزِل الشّعب ونُحي جانباً، فأقعى مهاناً، ولكنه لم يتقبل ذلك مختاراً، فهو يسائل نفسه، لِمَ يُرِاد لي أن أظل معزولاً؟ لِمَ أجوع والخير دافق؟ لِمَ أنا بهيمٌ جاهل؟ في حين تنتشر المعرفة في كلّ مكان؟ .. لقد بدأ الشّعب يثور شيئاً فشيئاً على الحياة التي يحياها؛ إنه يشعر أن الجور سيخنقه إذا لم يأخذ هو بنفسه قضيته بين يديه..) ص279.

وتتوالى أحداث الرّواية في تصاعد درامي بفرار (نيقولا فيسوشيكوف) من السِّجن، وموت (إيغور) في المستشفى، والصدام مع البوليس في تشييع جنازته.. وتزور الأم (بيلاجيا) ابنها (بافل) في السجن وتطمئن عليه وعلى رفاقه. وتكلف الأم مرة أخرى بنقل المنشورات إلى الرِّيف. وفي طريقها إلى الرِّيف كانت الأم تتلقف كلمات الحوذي وهو يلسع بسوطه ظهر الحصان كأنها في حلم، (كانت ذاكرتها تستعرض أمامها سلسلة الأحداث الطّويلة التي عاشتها في سنواتها الأخيرة. لقد كانت الحياة مِن قبل تبدو لها خارجية نائية، لا يدري أحدٌ مَن صنعها، ولماذا صنعها؟ أما الآن، فإن كثيراً مِن الأشياء تتكون تحت سمعها وبصرها، وبِمؤازرتها؛ وكان هذا يوقظ فيها إحساساً مُشوشاً يمتزج فيه الشّك بشعور الرِّضى عن الذّات، والحيرة بالحزن الهادئ.) ص325. بعد الظهر بلغت (بيلاجيا) قرية كبيرة تُدعى (Nikolskiè) وهي مُنهكة القوى ترتعش مِن البرد، وفجأةً (أبصرت الرفيق (ريبين) يقتاده حارسان؛ ويداه مكبلتان وراء ظهره.. وتولاها الذّهول فلم تحول بصرها عن (ريبين)؛ وكان هو يتكلم؛ وكانت هي تسمع صوته، ولكن كلماته كانت تُحلق بلا صدى في فراغ قلبها المظلم المرتعد. وعادت إلى نفسها... وتوقف الحارسان أمام الجمع الذي كان يتضخم بلا انقطاع وهو محتفظٌ بِصمته، وارتفع فجأةً صوت (ريبين) الممتلئ: - أيُّها المسيحيون: سمعتم بتلك الأوراق التي رويت فيها الحقيقة عن حياتنا كفلاحين؟ إنّهُمْ مِن أجل هذه الأوراق يضطهدونني لأنني أنا الذي وزعتها على الشّعب... أيُّها الفلاحون: ثِقُوا بِما تقوله هذه الأوراق، فقد يقتلونني بسببها. لقد ضربوني وعذبوني... وسأتحمل كل شيء لأن الحقيقة قد سُطِّرت في هذه الأوراق، والحقيقة يجب أن تكون أغلى لنا مِن الخُبز!... أيُّها الفلاحون: ألَا ترون كيف تعيشون؟ ألَا تعرفون أنهم يسرقونكم، ويخدعونكم ويمتصون دمائكم؟ إن كلّ شيء يتوقف عليكم؛ فأنتم القوة الرئيسية على الأرض، ومع ذلك ما هي الحقوق التي تملكونها؟ إنّ حقكم الوحيد الّذي تملكونه هو أن تنفلقوا مِن الجوع!... أيُّها الفلاحون. فتشوا عن تلك الأوراق واقرؤوها، لا تصدقوا السلطات والكهنة حين يقولون لكم إن أولئك الذين يحملون لنا الحقيقة ليسوا سوى كفرة عصاة، إن الحقيقة تتسرب إلى العالَم كله خفية، وتبحث عن أعشاش لها في ضمير الشّعب. إنها بالنسبة للسلطات كالسِّكِين، كالنّار، إنهم لا يتقبلونها لأنها ستذبحهم وتحرقهم. إن الحقيقة بالنسبة لكم خير صديق، ولكنها بالنسبة لهم عدوٌ أشِر... وهي من أجل ذلك تتخفى.) مِن ص328 إلى ص332 بتصرف.

نجحت الأم في رحلتها إلى تلك القرية، (كان يَسُرُّ الأم أن تحقق رغبتها في النهاية، أنْ تُحدث النّاس عن الحقيقة بنفسها. يستطيع الشّعب أن يسير مع أصدقاء كهؤلاء، أصدقاء لا يُلقون السِّلاح مُكتفين بمكاسب ضئيلة، ولا يتوقفون عن الكفاح قبل أن يدحروا الخداعين، والأشرار، والطّماعين جميعاً..) ص353. وعادت الأم إلى المدينة.. فتح (نيقولا) لها الباب، وفوجئ بأن الحقيبة كانت فارغة تماماً، فقد وزعت الأم كل ما كان فيها من صحيفة في الرِّيف. (وتحدث نيقولا طويلاً عن رفاقه الذين كانوا يعيشون في المنفى، وعن أولئك الذين فروا منه، واستأنفوا عملهم تحت أسماء مستعارة... قصص الأبطال المتواضعين، المتجردين عن كل نفعٍ، والذين يكرسون قواهم كلها للعمل العظيم، لإصلاح العالم. وكانت ظلال ناعمة ودودة تكتنف الأم، فتملأ قلبها عطفاً حاراً على هؤلاء المجهولين الذين كان خيالها يختزلهم جميعاً في كائنٍ واحد عملاق، لا تنفد قدرته ولا تغيض شجاعته. كان هذا الكائن يُرود الأرض ببطء، ولكن بهمة لا تعرف الكلل، فينتزع منها بيديه الممتلئتين عفن الدجل الذي راكمته العصور، ويكشف لأعين النّاس الحقيقة البسيطة المُتألقة، حقيقة الحياة.) ص371.

تتواصل السردية بتدبير الرفاق خطة لهروب (بافل) مِن السِّجن، تخبره أمه بذلك أثناء زيارتها له في السِّجن، لكنه يرفض الهروب؛ يُسلمها ورقة مكتوب عليها: (لن نهرب أيُّها الرِّفاق فنحن لا نستطيع ذلك، ولا يستطيعه أحدٌ مِنا، لأننا أن نفعل نفقد احترامنا لأنفسنا...) ص384. وتقام محاكمة (بافل) ورفاقه، وجاء الدور على (بافل) فكانت كلماته على صلابتها مشعة ومحرقة. موجهاً خطابه لهيئة المحكمة الصورية المزيفة، مُرافِعاً بصوت واضح وهادئ: (- نحن ثائرون، وسنظل كذلك ما دام البعض يأمرون والآخرون يعملون. نحن نكافح ضد مجتمع أمرتم بأن تحموا مصالحه، مجتمع نحن خصومه الألداء وخصومكم، ولن يحل بيننا الوئام إلاّ حين ننتصر. وسننتصر نحن العمال.. وأنتم في الحقيقة، أنتم جميعاً أيُّها الأسياد. عبيد أكثر مِنا. إن عقولكم هي المستعبدة، أما نحن فلسنا عبيداً إلاّ بأجسادنا. إنكم لا تستطيعون أن تتحرروا من نير الأغراض والتقاليد التي تقتلكم معنوياً، أما نحن فلا شيء يمنعنا من أن نكون أحراراً في ذواتنا. والسُّموم التي تنفثونها فينا هي أقل خطراً من الدواء الشّافي الذي تهرقونه في وجداننا دونما إرادة منكم، وهذا الوجدان يكبر وينمو بلا انقطاع، ويزداد دوما تأججاً.. إنكم لا تجدون شخصاً واحداً يستطيع أن يُناضل إيديولوجياً باسم سلطتكم، فلقد استنفدتم حججكم كلها، هذه الحجج القميئة بأن تحميكم من هجوم العدالة التاريخية، كما أنكم لا تستطيعون أن تأتوا بجديدٍ في نطاق الفكر، إنكم أُبتُليم بالعقم فكرياً، أما أفكارنا نحن، فإنها تنمو وتتأجج وتزداد إشراقاً، وتكتسح جماهير الشّعب، وتنظمهم في نضالهم مِن أجل الحرية.. ومِن المستحيل عليكم أن توقفوا عملية تجدد الحياة إلاّ بالقسوة والخداع..) ص415، 416. أما الأم فلم يكن ما قاله ابنها جديداً عليها، فقلد كانت تعرف أفكاره، ولكنها كانت لأول مرة تحس قوة إيمانه الجارفة. وكان هدوء (بافل) يصعقها، وخطابه يتكثف في صدرها، في حزمة مشعة من يقين مضئ..

قررت المحكمة نفي (بافل) ورفاقه إلى سيبيريا، كان القرار منتظراً من الجميع إما النفي أو الإعدام.. وأومأت الأم إلى ابنها ورفاقه وكان بودها أن تنتحب، ولكنها كانت تخجل من دموعها. ولم يزدها هذا القرار الظالم إلاّ يقيناً وإيماناً بمواصلة ما بدأه ابنها ورفاقه.

وأخيراً تختتم الرواية بضبط واعتقال الأم (بيلاجيا نيلوفنا) وهي تحمل وتوزع خطاب مرافعة ابنها في المحاكمة. وكانت تردد إنكم لن تخنقوا الحقيقة في أعماق بحار من الدّم...

 - نقاط على هامش الرواية:

- بدأ مكسيم غوركي في كتابة رواية (الأم) في يوليو 1906 وأتمها في ديسمبر من نفس السّنة في إيطاليا، وتُرجمتْ إلى عدة لغات. ولم ينفك المؤلف يعدل روايته إلى أن استقرت على شكله النهائي في سنة 1922.

- لقد كانت نية مكسيم غوركي أن يجعل من هذه الرواية أداة تجنيد، وذلك ما حمله على الإسراع في تأليفها وإذا بلينين يُخاطبه قائلاً: (لقد أحسنت صُنعاً إذ عجلت به. إنه كتاب مفيد علماً أن العديد من العُمال انظموا في الحركة الثورية وهُم بلا وعي حقيقي. والآن إنهم سيقرؤون (الأم) مِن تلقاء أنفسهم وتحصل لهم فائدة جمة ممِن ذلك.. إن الكتاب هذا لجدّ مواةٍ لوقته.) وبعد مرور أكثر من قرن على تأليف هذه الرواية نقول وإنه لا يزال كذلك.

- رواية (الأم)؛ فيها وصف لتطور العلاقات الطّبقية، وتطور تفكير شخصياتها وخاصة شخصية الأم (بيلاجيا نيلوفنا) التي تحولت من امرأة خانعة مستسلمة لزوج عنيف لا يكاد يمر يوم إلاّ وهي تتعرض للضرب والاحتقار والإهانة،  فتتحول تدريجيا بعد وفاة زوجها، واعتناق ابنها (بافل فلاسوف) للنضال العمالي والعمل الحزبي الشيوعي، وترتقي في سلم السرد إلى امرأة  مناضلة على استعداد للعمل والتضحية في سبيل القضية ضد الظلم واللاعدالة في حكم روسيا القيصرية.

- يمكن تصنيف رواية (الأم) لـ مكسيم غوركي على أنها رواية دعائية للعمل الحزبي الشيوعي ولهذا استحسنها لينين وأشاد بها وبكاتبها.

- مَنْ يقرأ مرافعة بول فلاسوف في المحكمة في متن رواية (الأم) من ص414 وإلى ص417. سوف يتأكد مِن أن إعجاب الزعيم فلاديمير لينين برواية الأم وثناؤه على كاتبها مكسيم غوركي؛ كان مرده إلى تلك المرافعة.

- تأتي نهاية الرواية على درجة عالية من القوة والتضحية. فهي حتى وإن كانت تنتهي بإدانة بول وأندريه واعتقال الأم؛ لكنها لا تعبر عن إخفاق أو سلبية، ولا تقلل في شيء من حتمية انتصار ما يحمله أولئك الأشخاص من قيم العدالة والإنسانية. فلقد كان أولئك في الواقع يعلمون أن مصيرهم المعتقل أو المنفى. وعلى خلاف ما قد يظنه بعض القراء من أن نهايتها كانت سلبية ومحبطة، فعلى العكس تماماً لقد كانت خاتمة الرواية ايجابية ومتفائلة.

- اقتباسات من رواية: «الأم» لـ مكسيم غوركي Maxim Gorky 

- أنا لست بِحاجة لأن أعرف كيف كان النّاس يعيشون مِن قبل، ولكنني بِحاجة إلى أن أعرف كيف ينبغي أن يعيشوا اليوم. ص 32

- إن أولئك الذين يقولون بأنّه ينبغي لنا أن نعرف كُلّ شيء هم المصيبون. إن نور العقل يجب أن يهدينا، وإذا كُنّا نود أن نمد بالنور أولئك الذين يغرقون في الظلمات، فيجب أن يكون باستطاعتنا الرّد بشرفٍ وأمانةٍ على كلّ الأسئلة، يجب علينا أن نعرف الحقيقة كُلّها، والبهتان كُلّه. ص 33

- عندما تحين ساعة المعركة، لا يبقى هناك من وقتٍ لتنظيف الأظافر. ص 33

- رفّ، كفراشة ليل عمياء مهيضة الجناح. ص 36

- أهناك فوق سطح الأرض اُمرؤٌ لمْ يُذلّ؟ لقد اُذِقْتُ الهوان حتّى لمْ يعُد الهوان يثير حنقي. ص 55

- إن دُموع الأمهات لا تنضب فعندهن منها ما يكفي... وإذا كانت لك أمٌّ فهي تعرف ذلك جيدًا. ص 62

- إنهم يُعذبون الرُّوح، وهذا العذابُ أشد إيذاءً وألمًا حين تقترفه أيديهم القذرة. ص 64

- يجب أن يُجدد الإنسان. إذا كان جَرِبًا فَقُدهُ إلى الحَمّام، أغسله وألبسه ثيابًا نظيفة، فإنه سيشفى... ولكن كيف ننظف الإنسان من الدّاخل؟ هذه هي المشكلة. ص 68

- إنهم يخدعوننا حتّى في الله؟. ص 68

- عندما تتحدثون عن الله تعالى، يجب أن تكونوا أكثر حذرًا. ص 69

- لم أكن أتحدث عن الله الطيب الرحيم الذي تؤمنون به، بل عن الله الذي يُهددنا به الكهنة، كما لو كانوا يُهددوننا بعصى، عن إله يُراد باسمه أن يخضع العالم كله للإرادة القاسية، إرادة البعض... لقد زيفوا لنا حتى الله. ص 69

- ليس العقل مرتكز كلّ شيء، بل القلب، فالعقل منطقة في الإنسان، لا ينبت فيها شيء آخر.. أبداً. ص 70

- إن المكان المُقدّس يجب أن لا يظل فارغاً، وأن نفسنا نقطة حساسة، إنها المكان الذي يسكنه الله. فإن يهجرها يشق فيها جُرحًا، وعلينا أن نكتشف إيماناً جديداً، أن نُبدع إلهًا يكون صديقًا للنّاس. ص 70

- إن الله هو في القلب ، وفي العقل، وليس في الكنيسة. الكنيسة هي قبر الله. ص 71

- عندما يتحرر الشّعب يُقرر نفسه ماذا يحسن به أن يفعل. إنهم يحشون رأسه بأشياء لا يُريدها، وهذا يكفي ليختبر نفسه. فلرُبّما كان يود أن يرفض كلّ شيء، الحياة كلّها، والعلوم كلّها، ولرُبّما رأى أن كلّ شيء موجه ضده، كإلاه الكنيسة مثلاً، وليس لكم أنتم إلاّ أن تضعوا بين يديه الكُتُب كلها، وسيجيب هو بنفسه جيداً. ص 71

- إن النّاس ليسوا معصوبي العيون كلهم، بل هناك من يعصب عينيه بنفسه. ص 72

- نحن أول من يعمل، وآخر من يعيش. ص 77

- لا تُعلن الإضراب، فالشعب مُتعطش إلى الرِّبح ولكنه جبان.. إننا لا نستطيع أن نُزيح مزبلة كهذه بمذراةٍ واحدة. ص 82

- إنك تتكلم جيدًا، هذا صحيح، ولكنك لا تمس القلب، والشرارة يجب أن تُلقى في أعماق القلب. إنك لن تُقنع النّاس بالمنطقِ، فالحذاء لطيفٌ جدًا ولكنه شديدُ الضّيق على أقدامهم. ص 82

- إن النّاس لا يُصدقون الكلام المُجرد العاري، بل يجب أن تتألم ليُصدقوك، وأن تغمس كلماتك بالدّم. ص 82

- بعضهم ينهمك في حلب الشّعب، في حين يُمسك الآخرون بِقُرونه. ص 86

- إنّه لجدوى لكم أن تقبضوا على اللصوص، لا أن تُطاردوا الشُّرفاء. ص 94

- لقد أفلت منِّي كُلّ شيء وباتت نفسي مُغلقة كمنزلٍ مهجور. إنّها عمياء صماء.  ص 110

- إنّك لا تُصبح قسيسًا بمجرد التّطلع للأيقونات. ص 116

- عندما يكون المرء شاباً يسهل عليه كُلّ شيء... ولكنه يغدو كلما تقدم في السِّن، غنياً بالأحزانِ، فقيراً بالقوى، وبالعقل... ثم لا يعود يملك شيئاً. ص 118

- الضربة تظل أقل إيلاماً حين يتلقاها المرء من عصاه. ص 131

- الوجه مرآة النفس. ص 137

- الحياة ليست حصاناً، ولا يمكن حملها على الجري بالسياط. ص 137

- يجب أن نُسلح الرأس أولاً... ثم نسلح الأيدي بعد ذلك. ص 138

- إن الهباب يتكدس في القلب إذا كانت إذا كانت جذوته لا تشتعل بصفاء. ص 138

- يا إلهي. ما أكثر البشر في هذه الدُّنيا... ومع ذلك فكلهم يشكو على طريقته. فأين إذن أولئك الذين يعرفون الغبطة؟. ص 139

- كصيادٍ اقتنص صُدفةً طائراً جميلاً. ص 146

- أيُّها الرِّفاق، إن تغيير النظام الرّاهن عمل عظيم، ولكن؛ يجب أن أشتري حذاءً جديداً لكي يتحقق هذا العمل السريع. ص 149

- إن أكثر النّاس مزاحاً هم أشدهم عذاباً. ص 151

- إن النِّساء يحببن البكاء، فهن يبكين من الفرح كما يبكين من الحزن. ص 158

- إننا مرغمون على كره الإنسان لكي نستعجل اليوم الذي نستطيع فيه أن نقدره دونما تحفظ. يجب أن ندمر مَن يعرقل سير الحياة، مَن يبيع الآخرين بالمال ليضمن لنفسه الراحة والأمجاد. ص 163

- عندما تسير في الطّليعة يجب أن تقاوم حتى نفسك، يجب أن تعرف كيف تضحي بكل شيء، أن تضحي بكل قلبك، وليس بالأمر العسير أن يكرس المرء حياته لقضيته، أن يموت مِن أجلها. إبذل ما استطعت البذل، ضحِّ بما هو أغلى مِن الحياة، يتنامى بقوة أعز ما هو فيك، تتنامى حقيقتك. ص 164

- هذه هي الحياة. أرأيت كيف أن النّاس مهيؤون ليقف بعضهم في وجه البعض الآخر؟ وسواء كان ذلك باختيارهم أو على كره منهم ، فإنهم مجبرون على أن يضربوا. ومَنْ؟ رجلاً مغتصب الحقوق مثلهم، وأشد شقاءً منهم لأنه حيوان. إنّ رجال البوليس والدّرك والجواسيس هُم جميعاً أعداء لنا، ومع ذلك فهُم بشرٌ مثلنا. إنهم يُرهقون لدرجة ينضحون معها دماً وعرقاً، ولا يُعاملون كبشر. وهكذا يُستعدى النّاس بعضهم على بعض وتُسمل أعينهم بالغباوة والخوف، وتُوثق أيديهم وأرجلهم، ويُضطهدون ويُستغلون، ويُسحقون، ويُضرب بعضهم بيد البعض الآخر. لقد مُسِخوا بنادق ومطارق وبلاطاً. ثُمّ قيل: هذه هي الدّولة!. ص 169

- إنّ الحياة نفسها لا تمزح أبداً؛ والكلب في الوقار الحقير ليس كالكلب في الحظيرة... ولكل سربٍ مِن الكِلاب طريقته في النُّباح. ص 175

- إنّ الفلاح والسّيد يختلفان في طبيعتهما، فعندما يأكُل الأول كفافه لا ينام الثاني ليله مِن التُّخمة. مما لا شكّ فيه أنّ في كُلِّ طبقة فئةٌ سافلة. ص 175

- لقد انغرزت المهانة في قلبي كسكين.. مِن أجل ذلك.. يرتعشُ قلبي. ص 176

- ساعدني. اعطني نوعاً مِن الكُتُبِ لا يعرف أيّ إنسان طعم الراحة بعد أن يقرأها. يجب أن نضع قنفذاً تحت كُلّ جمجمة، قُنفُذاً يُحسن الوخز. ص 176

- لِنُدَاوِ الموت بالموت.. ومعنى ذلك أنّه يجب أن نموت ليُبعث العالَم، أن تموت الألوف لتحيا الملايين في الأرض كُلّها. وإنّه ليسيرٌ أن يموت النّاس، إذا كانوا سيبعثُون، إذا كانوا سينتفِضون مِن قبورِهم. ص 176

- إنّ الفلاح لا يهمه أن يعرف مِن أين جاءت الأرض، بل يهمه أن يعرف كيف توزعت؛ وكيف انتزعها الكبار مِن تحت أقدام الشّعب؛ وسواء كانت هذه الأرض تدور أو لا تدور، فلا أهمية لذلك؛ لأنك تستطيع أن تُعلقها بحبل، أما المُهِم فهو أن تُعطي ما يُؤكل، أن تُغذي البشر الذين يعيشون عليها. ص 178

- يكفي أن تنفخ مِزمار ليرقص على صوته أولئك الذين لا تنغرس أرجلهم في الأرضِ، فنحن لا نحس الأرض تحت أقدامنا، ويجب أن لا نحسها، لأننا نحن المهيؤون لدفعها إلى الحركة، سنهزها مرةً واحدة فينقلع النّاس منها، ثم نهزها ثانية فينقلون منها أيضاً. ص 182

- يجب أن يسير المرء مع الحقيقة حتى ولو كان على حافة قبره. ص 192

- أيها الرِّفاق، يُقال أن الأرض تحمل على ظهرها كل أنواع الشُّعُوب؛ ولكني أنا لا أصدق ذلك، فليس على ظهر الأرض سوى شعبين، سوى عرقين لا انسجام بينهما أبداً، هما: الأغنياء والفقراء. ص 193

- كان الحشد كطائرٍ أسود ينشر جناحيه واسعين ويقف متربصاً متأهباً للارتفاع والتحليق، وكان بول هو منقر ذلك الطائر. ص 201

- شربت؛ ولكن الماء لم يُطفئ غلتها، فهي لا تستطيع أن تُخمِد في صدرها تلك الجذوة المتأججة التي تذيبها، جذوة القلق والشُّعور بالمهانة. ص 215

- إنّ أبناءنا هم قُضاتنا، وسيُحاكموننا بعدل، لأننا تخلينا عنهم في هذا الطّريق. ص 216

- وعيناها مسمرتان على اللاشيء. ص 217

- سأمشي دون مللٍ صيفاً وشتاءً إلى أن أُلاقي حتفي كحاجٍ في طريقه إلى كعبته. ص 222

- إن أبناءنا الذين يحتلون في قلوبنا المقام الأعلى يُضحون بحريتهم وحياتهم، إنهم يقضون نحبهم دون أن يتحسروا على أنفسهم فهل أتوانى أنا كأم. 222

- وزفرت الأم... ودندن سائق العربة وهو يلسع بالأعنة ظهر الجواد: هيا... تقدم. ص 224

- إن الحقول خاوية كنفسها. ص 225

- لا أدري أين هو مكان رأسي، ولا أكاد أعرف نفسي، لقد كان عليَّ في الماضي أن أدور طويلاً حول النّاس، لأقول لهم شيئاً ما دون مواربة... أما الآن.. فإني أفتح صدري في الحال، وأبوح دفعة واحدة بأشياء لم أفكر بها من قبل. ص 231

- لا يمكن لامرأة إلاّ أن تفهم الموسيقى لا سيما إذا كانت معذبة. ص 236

- إننا نحن أبناء الشّعب، نحس كل شيء؛ لكننا نعاني صعوبة في التعبير عن إحساسنا. إننا نخجل لأننا ندرك، ولكننا لا نستطيع أن نبوح بذلك؛ وكثيراً ما نثور بسبب هذا الضّيق، ضد أفكارنا. إن الحياة نفسها تصفعنا وتثخننا جراحاً مِن كل جانب، ونحن نود أن ننعم بالرّاحة، ولكن أفكارنا تُحرِّمها علينا. ص 237

- يُخيل إلي إني أعرف الحياة كثيراً، وعندما اطلع عليها عن قرب، ليس في كتاب ولا في انطباعاتي الخاصة عنها، بل حين تنتصب هي نفسها أمامي. ص 240

- إنّ السّادة والفلاحين مثل القطران والماء لا يتمازجون. ص 255

- إن في الحياة لحظات طيبة نود ألا تؤمن بقذارة الإنسان وجنونه؛  لحظات، تأخذك فيها الشّفقة على النّاس جميعاً، غنيهم وفقيرهم. إن الغني أيضاً يضل الطّريق؛ إن أحدهما يُعميه الجوع، والآخر يُعميه الذّهب. فيا أيها النّاس، يا أيها الأخوة، احنوا الرؤوس قليلاً، وفكروا، ولا يُخيفنكم أن تُفكروا. ص 264

- الطيبة، قوة عظيمة. ص 267

- في بعض الأحيان يُحدثكِ أحد النّاس، يُحدثكِ فلا تفهمينه، إلى أن يتفوه بكلمة ما لا تدرين ما هي، كلمة بسيطة، ومع ذلك، لا شيء سوى هذه الكلمة يوضح لك فجأة كل شيء. ص 270

- إن المرء ليعيش الحياة عندما يرجو شيئاً فيها خيّراً، أما إذا تلاشى هذا الرجاء، فأي معنى يبقى للحياة بعد؟. ص 276

- الشّبع من الحياة يجر وراءه ضرورة الموت. ص 287

- إنّ حياة الرّجل الطّيب أليمة، وموته يسير.. فكيف ستراني أموت!. ص 296

- يبدو لي أننا نتسرع كثيراً حين نقول عن إنسان ما، أنه مات. لقد ماتت شفتاه، ولكن كلماته ما برحت حيّة، وستظل إلى الأبد، حيّة في قلوب الأحياء. ص 298

- إن القليل القليل من السّعادة كافٍ لكل إنسان، ولكن ليس هناك من يتمنى هذا القليل. وإذا كانت السّعادة كبيرة، فإنها تصبح رخيصة. ص 302

- ليس لي أن أختبئ مِن وجه حقيقتي، فحقيقتي تعيش فيّ . ص 331

- فتشوا عن الحقيقة، واحرصوا عليها، وثِقوا بمن يحمل إليكم الكلم الطيب، ولا تضنوا بقواكم من أجل الدِّفاع عن الحقيقة. ص 340

- اعملوا من أجل الحُرّية، فستهبكم الحُرّية الخُبز والحقيقة. ص 340

- حاسة شمٍّ جيدة، وهذا ما يميز أنوف النّاس الشُّرفاء، لأن هذه الأنوف في الحقيقة، لا تهيم في الشوارع طويلاً، وعلى غير هُدى. ص 348

- عليك أن تعرف، أنت نفسك، قيمتك لا بالنسبة إلى أعدائك ، بل بالنسبة إلى أصدقائك. ص 356

- يجب أن يعرف المرء كلّ شيء، أن يعرف كيف يخاف، وأن يعرف كيف يكون شُجاعاً. ص 357

- هناك حالات يفهم فيها الأمي أكثر من المتعلم، لا سيما إذا كان هذا المتعلم يأكل جيداً. ص 357

- إن قيمة الرّجُل هي عمله الشخصي. ص 362

- ذلك الألم الحاقد، ألم الذئبة، ألم الأم التي تبكي أولادها الرّاحلين. ص 363

- إن المرء ليغدو رغماً عنه ضارياً، في هذه الحياة الضارية. ص 365

- خِصاماً طيباً خيرٌ من سِلمٍ رديء. ص 370

- هذه هي الحياة، نضحك في النهار خمس مرات ونبكي مثلها. ص 378

- إن الحياة العائلية تضائل فعالية الرّجُل الثوري، تضائلها باستمرار: الأطفال، وفقدان الموارد، وضرورة العمل الدائب لكسب العيش، في حين أنه لا بد للثوري من أن يُنمي فعاليته بلا انقطاع، وفي كل اتجاه، وهذا يتطلب وقتاً. ومن الواجب أن يكونوا دائماً في الطّليعة، لأنهم هم الكادحين الذين اختارتهم قوة التاريخ لتهديم العالَم الهرم، وبناء الحياة الجديدة، فإذا ما ظلوا في المؤخرة، وإذا ما استسلموا للنّصَبِ، أو لإغراء مغنم صغير قريب، كان ذلك وبالاً، بل كاد أن يكون خيانة. ليس هناك من نستطيع أن نسير معه بنفس الخُطى، دون أن يُفسد علينا إيماننا، ومن واجبنا ألا ننسى أبداً أن مهمتنا ليست في تحقيق مغانم صغيرة، ولكنها فقط في تحقيق نصر كامل. ص 389

- إن القلوب الفتية هي دائماً أكثر قُرباً إلى الحقيقة. ص 407

- إنك إذا أهنتني فصفعتك، وكنت أنت الذي ستحاكمني مِن أجل ذلك، فإنني سأكون أنا المُخطئ بلا شك، ولكن البادئ من هو؟ إنه أنت. ص 408

- المجتمع الذي يعتبر الإنسان أداة لإثرائه هو مجتمع لا إنساني. ص 415

- إذا اضطر لأن يذهب إلى لقاء الموت، فسيُلاقيه بنفس البساطة ، وعندما يأتيه الموت، سيسوي نظارتيه ويقول له: «رائع»..  ثُمّ يموت!. ص 434

- وإنه لرائع أن تمشي أُمٌّ وابنها جنباً لِجنبٍ. ص 445

- العقل لا يُغرق بالدّم. ص 456

***

قراءة: السعيد بوشلالق

 

أرنست هرتسفيلد!!

التفاصيل
كتب بواسطة: د. صادق السامرائي

صادق السامرائيأرنست أميل هرتسفيلد، (1879 - 1948)، مستشرق ألماني ومهندس معماري، إختص بآثار بلاد الشام والعراق وإيران.

مؤلفاته: " النقوش البارزة على الصخور في إيران، رحلة أثرية في مناطق الفرات ودجلة، على أبواب آسيا، إيران في الشرق القديم " وغيرها.

قام بحفريات في سامراء، والمرجح ما بين (1911 - 1913)، ووضعها في كتاب من ستة مجلدات سماه  "حفريات سامراء" أو "تنقيبات سامراء".

إكتشف صحن سامراء (4000 ق.م.).

وتوجد الكثير من مكتشفاته في معهد سمثسونيَن في واشنطن، ومتاحف برلين ومعاهدها، ويدرسها المتخصصون بحضارة سامراء من أنحاء العالم.

مستشرق شاب من ألمانيا، تجشم عناء السفر والمخاطر وحلّ بسامراء في زمنٍ كانت وسائط النقل فيه بدائية، وخيّم خارج سورها لأسابيع وربما لأشهر، ينقب عن آثارها، ويعرف أنها موطن أولى الحضارات، وأكد ذلك بما عثر عليه من لقى تشير إلى حضارة قائمة فيها منذ العصور الحجرية وقبلها.

شاب ألماني شجاع يكتشف حضاراتنا، ولا يمكن إدراك معتى أن يمضي هذا الشاب الغريب أياما خارج مدينة كانت أبواب سورها تغلق عند الغروب، ومَن يبيت خارجها يكون عرضة لهجمات الوحوش والأخطار الأخرى المتنوعة.

لكنه تحدى وأفنى وقتا من عمره ينقب في ترابها ويُظهر للعالم معالم حضارة كانت مجهولة!!

وذات مرة كنت أحاضر عن تأريخ سامراء في المركز الثقافي في واشنطن، وإذا بين الحاضرين شاب ألماني يعدّ لرسالة الدكتوراه عن حضارة سامراء!!

هذا السلوك الإستكشافي يحاجة لوقفة تأملية تفكرية، ويثير أسئلة منها:

لماذا لم نكتشف حضاراتنا، والأجانب هم الذين إكتشفوها؟!!

لماذا لا يوجد في الأمة شخص فكر في البحث والتنقيب قبلهم؟!!

لا زلت أذكر قول جدتي " يمّه الإنكليز إينبشون بتل الصوان ليل نهار؟"

لقد إكتشفونا ولولاهم ما عرفنا تأريخنا!!

تلك حقيقة نحاول أن ننكرها أو نحسبها عدوانا علينا، وحتى اليوم لم نتمكن من إمتلاك مهارات التنقيب التي كانت عندهم في بداية القرن العشرين، ولا نزال لا نحترم آثارنا ونستخف بتأريخنا، ونهرب من ذاتنا وموضوعنا، ونلقي باللائمة على الآخرين.

ولابد من تقديم آيات الشكر والعرفان للآثاري الألماني (أرنست هرتسفيلد)، الذي إكتشف حضارة سامراء، وقدمها للعالم، وأوجد لها مكانا في قاعات متاحف الدنيا الكبرى، ولولاه لما عرفنا شيئا عن تأريخ المدينة، التي توجد فيها كلية للآثار وما قدمت لسنوات نسبة ضئيلة مما أنجزه في ذلك الزمن الصعب العصيب.

إينبشون: يحفرون وينقبون

يمّه: إبني أو ولدي

 

د. صادق السامرائي

 

أَلإِرهابُ لادينَ لَهُ

التفاصيل
كتب بواسطة: زعيم الخير الله

كَتَبَ الاستاذُ والاعلاميُّ المُتَأَلِقُ "محمد عبدالجبار الشبوط"، مقالَيْنِ مُهِمَّيْنِ حولَ الارهاب هما: " دينُ الإرهابِ"، والاخَرُ " الارهابُ... اسلامِيّاً "، ولا اختلفُ معَ الكاتبِ على مضمونِ مَقالَيْهِ، وانما اختلفُ معهُ على العباراتِ واستخدامِ الأَلفاظِ . أَنا لا أَرى انَّ عبارة " الارهابُ لادينَ لهُ" عبارةٌ مُضَّلِلَةٌ بل اراها عبارةً صحيحةً . وهنا يجبُ أنْ أُفَرِقَ بينَ الدِّينِ والْتَدَيُّنِ، والاسلامَ والتَّأسْلُم . ممارساتُ داعشَ واخواتِها ليست ديناً، بل تَدَيُّناً مُشّوَّهاً مريضاً اجرامِيّاً هو اسقاطٌ لنفوسهم المريضةِ، ولنزعاتِ الحقدِ والاجرامِ القابعةِ في نفوسِهم، وليستْ اسلاماً بل تَأَسْلُماً في فهمِ الاسلامٍ وممارستهِ، . سَلْ ايَّ انسانٍ مهما كان مستواه الثقافي، هل انَّ ماتمارسُهُ داعشُ ديناً؟ سيكون جوابُهُ لا كبيرةً وقاطعةً . ولذلك يجب أَنْ أُفَرِّقَ بينَ الدينِ الذي هو نصوصٌ يعتقدُ من يدينُ بها أَنّها مُقَدَّسَةٌ وبينَ الْتَدَيُّنِ الذي هو فهمُ وَممارسَةُ الدين . فهمُ داعشَ للدينِ وممارستُها لهُ ليس ديناً . الدينُ برئٌ من فهمِ داعشَ وممارساتِها الاجراميةِ . نعم : لداعش مرجعية ولكنها مرجعيّة تدينيّة أنشأها هذا الفهم المشوه للدين .هذا التمييزُ بينَ الدينِ والتديّنِ ضروريٌّ جداً لتبرِئَةِ الدين مما يُنْسَبُ اليهِ.

فَهْمُ الْخَوارجِ للدينِ وممارستُهم لهُ ليسَ ديناً بل هو تَدَيُّنٌ مُشّوَّهٌ ؛ ولذلكَ النبيُّ (ص) أَخرجَ هذا الفهم َ المُشَوَّهَ والممارساتِ الاجرامية عن الدين، فقد وصف النبيَّ (ص) الخوارجَ بِأَنَّهُم:

(إِنَّ فيكُمْ قَوْمًا يَعْبُدونَ ويَدْأَبونَ، حتى يُعْجَبَ بهمُ النَّاسُ، وتُعْجِبَهُمْ نُفوسُهم، يَمْرُقونَ منَ الدِّينِ مُروقَ السَّهْمِ منَ الرَّمِيَّةِ) (رواه أحمدُ بسنَدٍ صحيحٍ). يمرقون من الدين اي: يخرجهم فهمُهم هذا وممارساتُهم تلك عن الدينِ .

فهمُ داعِشَ وممارساتُها الاجراميّةُ ليستْ اسلاماً بل هي تَأَسْلُمٌ ناتجٌ عن مرجعيتهم التأسلميّة في فهم وممارسة الاسلام .

واشارَ الاستاذُ الشبوطُ الى ارهابِ محاكمِ التفتيش ووصفه بأنّهُ " كانَ دينيّاً مسيحيّاً " واعتبر ارهاب طالبان في افغانستان بِأَنَّهُ :" كان دينيّاً اسلاميّاً سنيّاً"، في حين انّ ارهابَ محاكم التفتيش كان تديناً مشوهاً للمسيحيّةِ الكاثوليكيّة، وارهاب طالبان كان تديناً مشوهاً للاسلام السنيّ الذي اختطفته الوهابية وتدثت باسمهِ .

واحياناً من يمارسونَ الارهاب لاعلاقةَ لهم بالدينِ ولا بالتديّن، وانما يوظفون الدين اسوأ توضيفٍ لتحقيق اهدافٍ سياسيّة . فقادةُ الكيان الصهيوني لاعلاقةَ لهم بالدين ولابالتديّنِ ولكنَّهم يُوظفون التوراة والديانة اليهوديّة من اجل اهداف سياسية ومصالح ايديولوجية ضيّقَةٍ .

واحياناً يكون الارهابُ لادينيّاً، ليس لهُ مرجعيّة دينيّة، ولامرجعيّة تدينيّة، كإرهاب ستالين ومجازره، وارهاب ماوتسي تونغ وقمعه للحريّات، وارهاب هتلر لم يكن ارهاباً باسمِ الله ولاباسم الدين، وانما كان باسم الداروينيّة الاجتماعيّة، والتي هي رؤيةٌ كونيّةٌ تقوم على استبعاد الله من حياة الانسان . الداروينيّة ومبدأ تنازع البقاء وبقاء الاصلح وظَّفَها هتلُر في القول بتفوق الجنس الالماني على بقيّة الاجناس وتبرير قتل الضعفاء بحجة بقاء الاصلح . هذا الارهابُ لم تكن مرجعيتُهُ دينيّةً، فكيف يقالُ انَّ الارهابَ لهُ دينٌ ؟

 وفي الختام : الارهاب العالمي لاعلاقة له بالدين، وانما سببهُ التديُّنُ المشوه، وممارسات طالبان والقاعدةُ وداعش ليست اسلاماً وانماهي تأسلماتٌ أَفرزَها الفهمُ السقيمُ وَأَدّتْ الى ممارسات اجراميّة، الاسلامُ بريءٌ منها ولايتحملُ مسؤوليتها .

 

زعيم الخيرالله

 

الصفحة 1 من 148

  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • ...
  • 6
  • 7
  • 8
  • 9
  • 10

hewar2

(196)،(197)،(198)،(199)

84 mahmod mohamad ali200

اقرا ايضا

  • في ذكراه الثالثة.. زغلول الدامور زجل ماتع ومنبر رائع
  • العراق والمستقبل
  • د. عبد الجبار الرفاعي يفوز بجائزة البطريركية الكلدانية في العراق
  • الفنان ليوناردوا دافنشي.. عالماً طبيعياً!
  • أزمة العراق سيادياً
  • المراجع النقدية
  • التجربة السياسية الشيعة في العراق
  • قراءة في المجموعة الشعرية (صَحِيفَةُ الْمُتَلَمِسّ)
  • فيرجوالية.. رواية الحداثة والتجريد
  • اساطير الاولين.. الاسطورة والمعجزة

القائمة البريدية



العدد: 5259 المصادف: الخميس 28 - 01 - 2021م


العودة لأعلى

تابعونا على:

الحقوق محفوظة صحيفة المثقف 2006 - 2021 ©

تابعونا على: