الدَّوْلَةُ الإِستِبْدادِيَّةُ وَمَفْهُومُ الدَّوْلَةِ
- التفاصيل
- كتب بواسطة: زعيم الخير الله
هَلْ الدَّوْلَةُ الاستبداديّةُ من افرادِ مفهومِ الدولَةِ الواسع أم أَنَّ مفهومَ الدَّوْلَةِ لايَتَّسِعُ لها؛ فهي خارجِةٌ تَخَصًصاً عن مفهومِ الدَّولَةِ؟ وهل تعريفُ الدَّولَةِ ينطبقُ عليها أم لا؟ وهل هناك ضرورة للدولة؟ وهل هناك مجتمعات لم تَعْرِفْ فكرةَ الدَّوْلَةِ؟ .
فَهْمُ هذهِ الاسئِلَةِ، يُقَرِّبُنا من معرفة دخول الدولة الاستبداديّةِ في مفهوم الدولة وتعريفها أم لا؟
إِذا كانَ التعريفُ الماهويُّ للدولةِ هو تعريفُها بأَجزائِها وَمُكَوَناتِها، بالشعب والارض والحكومة، فالدَّوْلَةُ الاستبداديّةُ داخِلَةٌ في تعريفِ الدَّولةِ؛ لانَّ التعريفَ يجب ان يكونَ جامعاً مانعاً، اي تدخل كل اجزاء ومكونات الدولة في التعريف، ويخرج من التعريف كل مالاعلاقة له بالدولّةِ، وحسب تعبيري عن جامعية التعريف ومانعيته، انه لايُخرِجُ الداخلَ ولايُدخِلُ الخارجَ .
الاجزاء الداخلةُ في تعريفِ الدَّوْلَةِ هي الارض، الشعب، والحكومة، أَمّا الاعترافُ الدَّوليُّ فهو ليس جُزءً من مكونات الدولةِ، وانّما هو شرطٌ في تحقيق الدولةِ لوجودها على ارض الواقع، والشرطُ أمرٌ خارجٌ عن الماهيّةِ . على سبيلِ المثالِ، الصلاة كمركب اعتباري يمثِّلُ الركوعُ جزءً من ماهيتِها الاعتبارية، اما الوضوء فهو ليس جزءً من اجزاء الصلاة، ولا داخلاً في مركبها الاعتباري، وهو امرٌ خارجٌ عن ماهيتها الاعتبارية؛ فهو لايدخلُ في تعريفِ الصلاة، وانما هو شرطٌ في صحتها .
الدَّوْلَةُ الاستبداديَّةُ هي دولةٌ داخلةٌ في تعريفِ الدولة، الاّ انَّها دولةٌ تعاني من ازَماتٍ بنيويّةٍ حادَّة . انّها دولةٌ تعاني خللاً في مركبها الحضاري حسب تعبير الاستاذ محمد عبدالجبار الشبوط . وعمليةُ الاصلاح تعني انَّ هناك دولةً قائمةً، ولكنّها دولةٌ مختلة تعاني من أَزَماتٍ بِنْيَوِيَّةٍ حادّةٍ، وهيَ بحاجَةٍ الى اصلاحٍ. والدول انواع، دول فاشلة ودول هشَّة ودول فاعلة، كلها ينطبق عليها مفهومُ الدولةِ؛ لانَّ مفهومَ الدولة مفهومٌ مُشَكِكٌ يشترك مع افراده في الوجود ويختلفُ في مراتِبِ الوجودِ .
نعم، مناقشةُ مضمونِ الدولةِ أمرٌ هامٌّ للغايةِ، ونحنُ نحتاجُ دولةً بمضامينَ راقيّةٍ، وتَحُفُّها منظومةُ قِيَمٍ تحترمُ مواطنيها وتضمن حقوقَهم . ولكنَّ مضمونَ الدَّولةِ ومنظومةَ القيم هذه لاتدخل في تعريف الدولة، وانما تُحدد اتجاهات الدولةِ ومساراتِها؛ والاّ فالدولةُ الاستبداديّةُ دولةٌ الاّ انها تفتقرُ لمنظومةِ قيمِ حقوقِ الانسان والحُرِّيّاتِ.
ضرورةُ وُجودِ الدَّولَةِ
الدَّوْلَةُ ضرورةٌ مجتمعيّة لاغنى للمجتمعات عنها، وهذا ما أشار اليه امير المؤمنين علي عليه السلام: (لا بد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفئ، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح به بر ويستراح من فاجر). (نهج البلاغة، ج1، ص 91) . وحقيقةُ الامرِ انّ الامامَ عليّاً يتحدث عن ضرورةِ وجودِ سلطةٍ وحكومةٍ مهما كان شكلُها لحفظِ الامنِ المجتمعيِّ . وما تحدثت بهُ المدارس التي تتبنى الفوضوية والاتجاهات الماركسيّة من ان الدولةَ ضرورةٌ أوجدها الصراعُ الطبقيُّ، فاذا اختفى هذا الصراعُ عند الوصول الى الشيوعيّة ستختفي الدولة، وان الدولةَ اداةٌ قمعيّةٌ بيد الطبقة الحاكمة لقمع الطبقات المحكومة . كُلُّ هذا الكلامُ يتعلقُ بالسلطةِ والحكومةِ لا بالدولةِ التي هي موجودةٌ وراسخةٌ بوجودِ ورسوخِ عناصرها ومكوناتها.
الحكومةُ هي روحُ الدولة وهي التي تطبقُ القوانين وتحمي امنَ مواطنيها في الداخلِ والخارج .
الدولةُ بحاجة الى العُنف، وهي تحتكر العنفَ المشروع حسب تعبير ماكس فايبر الذي عَرَّفَ الدولةَ بانها: (منظمةٌ سياسيةٌ إلزاميةٌ مع حكومة مركزية تحافظ على الاستخدام الشرعي للقوة في إطار معين من الأراضي). الدولةُ تحتكرُ العنفَ وتحتكرُ السلاحَ وتحتكر ادارة المال العام وكل امرٍ كليٍّ جامع . الدولة الاستبداديّة لخللٍ في بِنيتِها تتجاوزُ حدودَها في تكريس القمع، وتتغولُ على مواطنيها .
كلُّ المجتمعات عرفت فكرةَ الدولَة، وعرفت كيف تدير شؤونها وتحل خلافاتها وهناك مرجعية تحتكم اليها في فض النزاعات، ومارست العنف في تطبيق بعض الاعراف والقواعد لحسم النزاعات . ولكنها كانت افكاراً بسيطةً نتيجة لبساطة هذه المجتمعات وعدم تعقيدها .
وفي الختام، لايمكن ان نصف الدولةَ الاستبداديّةَ بأنَّها لادولة، بل هي دولةٌ مختَلَّةٌ وتعاني من ازمات بنيوية حادة ومن خلل في مركبها الحضاري . هي دولةٌ، ولكنَّها ليست الدولة التي يطمح الانسانُ الى تحقيقها، انما يطمح الانسان الى دولة تستجيب لطموحاته وتحقق العدلَ والحرياتِ والحقوقَ والكرامةَ الانسانيَّةِ .
زعيم الخيرالله
هل لا زال لدى الولايات المتحدة اقتصاد؟
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عادل حبة
Does the US Still Have an Economy?
الدكتور پول گريك روبرتس*
ترجمة: عادل حبه
يريد الناس أن يعرفوا إلى أين يتجه الاقتصاد الأمريكي. وهم يسألون هل مازال لدى الولايات المتحدة اقتصاد؟ جوابي هو كلا، ليس لدينا إقتصاد. وسأشرح الأسباب.
لقد أشرت على مدى ربع قرن إلى التأثير المدمر لنقل الاستثمارات والوظائف الأمريكية إلى الصين ونقاط أخرى في العالم. إذ قدم النقل إلى الخارج خدمة لمصالح المديرين التنفيذيين في الشركات وأصحاب الأسهم. وأدى انخفاض تكاليف العمالة إلى زيادة الأرباح، وبالتالي ، إلى تقديم المكافآت للمديرين التنفيذين وحملة الأسهم ، مما أدى إلى مكاسب رأسمالية للمساهمين فحسب.
ولكن هذه هذه الفوائد لم تصب إلاّ لصالح فئة صغيرة من السكان. أما بالنسبة للآخرين، فقد فرضت هذه الفوائد المقيدة تكاليف خارجية ضخمة تفوق عدة مرات زيادة الأرباح. وتضررت القوى العاملة في الصناعة الأمريكية، وكذلك القاعدة الضريبية للمدن والولايات والحكومة الفيدرالية. وتقلص عدد الطبقة الوسطى، وانخفض عدد سكان سانت لويس وديترويت وكليفلاند وبيتسبيرج وساوث بيند وغاري إنديانا وفلينت ميتشيغان ومدن أخرى بنسبة تصل إلى 20٪. وتحطمت آمال وتطلعات ملايين الأمريكيين. أصبحت المدن الأمريكية المزدهرة في يوم من الأيام على حافة الإنهيار. وانهارت سلاسل التوريد وقيم العقارات (انظر إلى كتاب"فشل رأسمالية ليزيه فير بقلم پول گريك روبرتس"
(Paul Craig Roberts، The Failure of Laissez Faire Capitalism، Clarity Press، 2013).
ومع انخفاض دخول غالبية المواطنين الأمريكان، ارتفعت المداخيل بنسبة واحد بالمائة، وتركزت مكاسب الدخل والثروة في القمة، مما أدى إلى أن تصبح الولايات المتحدة اليوم أحد أكثر البلدان ذات التوزيع غير المتكافئ للدخل والثروة في العالم.
وبالنظر إلى نقل المرافق ذات الإنتاجية العالية إلى الخارج، فقد أدت وظائف التصنيع ذات القيمة المضافة العالية إلى خفض الدخل الأمريكي، وإلى أن يتأثر سلباً إجمالي الطلب المحلي في الولايات المتحدة وإلى انخفاض النمو الاقتصادي. وقام الاحتياطي الفيدرالي بتوسيع الائتمان واستبدال الزيادة في ديون المستهلك بالنمو المفقود في دخل المستهلك. وأدى ذلك إلى تفاقم المديونية، التي أكد الاقتصادي مايكل هدسون بشكل صحيح أنها تستنفد دخل المستهلك لدفع خدمة الديون من الرهون العقارية ومدفوعات السيارات وبطاقات الائتمان وديون قروض الطلاب، مما يترك القليل من الدخل التقديري أو لا يترك أي دخل تقديري لدفع عملية النمو الاقتصادي.
لقد أكد هدسون ، الذي عمل على تحليل الاقتصاد المتآكل في أمريكا لفترة طويلة، أن الاقتصاد الأمريكي لم يعد اقتصاداً منتجاً أو صناعياً، بل هو اقتصاد ممول لا يستخدم فيه الإقراض المصرفي للمصانع والمعدات الجديدة، بل من أجل تمويل عمليات الاستحواذ على الأصول الموجودة سعياً وراء الفوائد والرسوم والمكاسب الرأسمالية، وما يسميه الاقتصاديون الكلاسيكيون الدخل غير المكتسب أو "الإيجار الاقتصادي". وباختصار، يوضح هدسون أن الاقتصاد الأمريكي لم يعد اقتصاداً منتجاً. إنه محظ اقتصاد يسعى إلى الريع.
ويشير هدسون إلى أنه مع تزايد تمويل الاقتصاد، يتحول النهب إلى خصخصة الأصول العامة. والأمثلة لا حصر لها. ففي المملكة المتحدة ، تمت خصخصة مكتب البريد بجزء بسيط من قيمته، إلى جانب الإسكان العام والنقل والهاتف البريطاني، مما أدى إلى مكاسب ضخمة للقطاع الخاص. كما خصخص الفرنسيون الممتلكات العامة. وفي اليونان، تمت خصخصة الموانئ والمرافق البلدية وشركات المياه مع الجزر اليونانية المحمية. وفي الولايات المتحدة، تتم خصخصة قطاعات من القوات المسلحة، إلى جانب السجون. وباعت شيكاغو لمدة 75 عاماً رسوم عداد مواقف السيارات إلى كيان خاص دفعة واحدة. ويتم في كل مكان بيع الأصول العامة، بما في ذلك الخدمات، لصالح القطاع الخاص. ففي فلوريدا، على سبيل المثال، يتم تقديم إصدار بطاقة رخصة السيارة السنوية من قبل القطاع الخاص. عندما لا يتبقى شيء للخصخصة، فمن ستمول البنوك؟
يلاحظ هدسون أن الاقتصاديين الحقيقيين، الكلاسيكيين منهم، ركزوا على فرض الضرائب على الريع الاقتصادي غير المكتسب، وليس على دخل العامل والنشاط الإنتاجي. ولا يستطيع الاقتصاديون الليبراليون الجدد اليوم التفريق بين الريع الاقتصادي والنشاط الإنتاجي. وبالتالي، يفشلون في تحليل الناتج المحلي الإجمالي في الكشف عن تحول الاقتصاد من اقتصاد منتج إلى اقتصاد ريعي. ويسمي هدسون الاقتصاديين النيوليبراليين بـ"الاقتصاديين غير المرغوب فيهم"، وأنا أتفق معه في ذلك. في الأساس، فهذه الأموال موجهة للقطاع المالي والشركات التي تدفع لهم مقابل الجمع بين العمل والاستثمار في الخارج مع الإستثمار في التجارة الحرة.
أنني على قناعة بأنه إذا تم محو الاقتصاد النيوليبرالي بالكامل فلن يفقد أي شيء قيمته. ويقف الاقتصاديون، ولا سيما الاقتصاديون الأكاديميون، على درب الحقيقة. فالإقتصاديون الليبراليون يعيشون في عالم خيالي ابتكروه بافتراضات ونماذج لا وجود لها على أرض الواقع.
وإنني على معرفة بالجامعات والاقتصاديين الأكاديميين. فقد تخرجت من مؤسسة هندسية وعلمية - Georgia Tech - ثم أصبحت طالب دراسات عليا في الاقتصاد في جامعة فيرجينيا وجامعة كاليفورنيا وبيركلي وجامعة أكسفورد. وكان لدي أربعة بروفسورين من الحائزين على جائزة نوبل كأساتذة. ولدي شهادة دكتوراه في الاقتصاد. وقدمت مساهمات في المجلات الرئيسية في الاقتصاد ولغيرها من خارج المجال، ولدي 30 مقالة منشورة قبل مغادرتي الأوساط الأكاديمية. وعملت لسنوات كمرجع لمجلة الاقتصاد السياسي مع التمتع بسلطة إقرار نشر البحوث المقدمة.
لدي كتب تمت مراجعتها من قبل الزملاء من مطبعة جامعة هارفارد ومطبعة جامعة أكسفورد. لقد ناقشت الفائزين بجائزة نوبل أمام الجماهير المهنية. وعملت كمحرر في وول ستريت جورنال وكمساعد لوزير الخزانة الأمريكية، وشغلت العديد من المناصب الجامعية. كما يتمتع مايكل هدسون أيضاً بخبرة حقيقية في العالم في المؤسسات المالية الكبرى والمنظمات الدولية والحكومات، بالإضافة إلى العمل كأستاذ في المعاهد الأمريكية والخارجية، والمساهمات في المنشورات الأكاديمية بالعديد من اللغات.
بعبارة أخرى، نحن نعلم ما نتحدث عنه. وليس لدينا مصلحة في خدمة أي طرف سوى الحقيقة. ولا يدفع أحد لنا أجراً مقابل هذه الخدمة. ولكن لدينا صوتان فقط. قبل عقدين من الزمان، عُرض عليّ احتمال حدوث زيادة كبيرة في تضخيم صوتي بشأن الآثار الضارة للنقل إلى الخارج. في كانون الأول عام 2003 تلقيت مكالمة هاتفية من السناتور الأمريكي تشارلز شومر، الديمقراطي عن ولاية نيويورك. كان السناتور شومر يقرأ أعمدتي التي قدمت فيها قضية أنه تحت ستار التجارة الحرة، تم نقل الوظائف والاستثمار إلى الخارج على حساب النجاح الاقتصادي للولايات المتحدة. شارك السناتور شومر قلقي وتساءل عما إذا كان مسؤول وزارة الخزانة في إدارة ريغان سيوافق على المشاركة في تدوين مقال لصحيفة نيويورك تايمز يثير مسألة ما إذا كان نقل الوظائف إلى الخارج في مصلحة أمريكا.
...................
* معهد الاقتصاد السياسي الأمريكي
* المصدر: Global Research
*الدكتور بول كريگ روبرتس ( Dr. Paul Craig Roberts ) من مواليد 3 أبريل 1939، اقتصادي ومؤلف أمريكي. شغل سابقًا منصبًا وزاريًا فرعيًا في الحكومة الفيدرالية للولايات المتحدة بالإضافة إلى مناصب للتدريس في العديد من الجامعات الأمريكية. وهو مروج لاقتصاديات جانب العرض ومعارض للسياسة الخارجية الأمريكية الأخيرة. حصل روبرتس على درجة الدكتوراه من جامعة فيرجينيا. درس لاحقًا في جامعة ستانفورد وجامعة نيو مكسيكو قبل أن يذهب للعمل كمحلل ومستشار في كونغرس الولايات المتحدة حيث كان يُنسب إليه باعتباره المؤلف الرئيسي للمسودة الأصلية لقانون ضريبة الانتعاش الاقتصادي لعام 1981. وأصبح مساعد وزير الخزانة الأمريكي للسياسة الاقتصادية في عهد الرئيس رونالد ريغان - وبعد ترك الحكومة - شغل كرسي ويليام إي. سايمون للاقتصاد في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية لمدة عشر سنوات، وعمل في العديد من مجالس إدارة الشركات. محرر مشارك سابق في صحيفة وول ستريت جورنال ، ظهرت مقالاته أيضًا في النيويورك تايمز وهاربر، وهو مؤلف أكثر من عشرة كتب وعدد من الأوراق. في عام 1987 ، حصل روبرتس على وسام جوقة الشرف برتبة شيفالييه (فارس) من قبل رئيس فرنسا فرانسوا ميتران. وهو حاصل أيضًا على جائزة الاستحقاق من وزارة الخزانة الأمريكية وجائزة الصحافة الدولية للتحليل السياسي من نادي الصحافة المكسيك.
الشاعر حينما يرسم جراحات وطن
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ظاهر حبيب الكلابي
دراسة في سرديات الروائي شلال عنوز رواية وكر السمان ...
من يطالع رواية وكر السلمان للشاعر والروائي شلال عنوز الصادرة عام ٢٠٢٠ يتلمس وعبر اللغة الشعرية الطافحة بالخيال والمستوعبة لجماليات وشرائط الكتابة السردية انه يكتب عن رحلة وطن أثخنته جراحات الحروب وأنهكته صبيانية الهوس الطاغي في رؤوس مجانينها وفراعنتها ذلك الهوي الذي أسس توالي النكبات وتاريخ طويل من المآسي والفجائع بحيث كانت تلك الحروب مسارح لتجليات القرف ونفاط شروع الجرائم على الوطن والإنسان والمصير فلغة الرواية وأحداثها وشخصياتها مرموزات مضمرة للفضح ومرايا ساطعة لكشف الورطة التي كبلت الوطن والمواطن بشتى قيود القلق والجريمة والإقصاء فبطل الرواية نعمان الشخصية الإشكالية بتاريخها ومصيرها وواقعها هذه الشخصية قد نجح الروائي في تقديمها للقاريء بإضطرابها النفسي وقلقها الوجداني وعشوائية قراراتها
وإقترب كثيرا من إظهار مرضها النفسي وإنفصامها وعقدها وجعل من هذه الشخصية مظهرا فاضحا لزيف الحرب ونقلها من جبهات الموت وسوح القتال الى جبهات جوانية وعقد نفسية وإضطراب يعتلي الشخصيات التي ذاقت وبالها وتشوهت رجولتهم بفعلها وغدر مشعلوها بضحاياهم فالطغاة لايفكرون أبدا بضحاياهم وما نعمان الا طاغية صغير إنتقلت اليه عدوى الفرعنة والطغيان وهوس القتل والتلذلذ بالضحايا من فراعنة الموت الكبار وصناع الخراب المتوالد فالبطل نعمان قام بإستدراج أصدقاء الأمس الى وكر الموت في نكرة السلمان قرب مدينة السماوة جنوب العراق وهو السجن المشؤوم في ذاكرة الكائن العراقي ليكون ذلك القبو ملاذ الجلاد في إصطياد فرائسه ومسلخه المجاني للذبح وتصفية حسابات النفس مع رغباتها وشهواتها الإجرامية بل حتى الحبيبة والخطيبة سناء لم تسلم من سكاكين مسلخ السلمان وهذيانات العاشق نعمان المستهام بالعشق حينا وبالدم المراق أحيانا كثيرة حيث كانت أجمل الحورات وأكثرها توجعا وعتابا تلك الحوارات على مسرح جريمة السلمان بين سناء المصدومة بجنون العاشق وهذياناته بالموت وخسران الحبيبة وبين توسلاتها له بالمحبة والنجاة
وتواصل الوفاء حيث إشتغل السارد بتأجيج الإنفعال وشحن الموقف بطاقات متصادمة نفسيا مؤججا لفعل التوقع المضطرب في نفسية البطل نعمان وتردداته بين الإنتصار للحب أو الإذعان لمخلب الحرب وعرقها الضارب في نفسية البطل المخصي بضراوتها ومحرقتها والمخصي اليوم عن نزعاته الإنسانية والوجدانية فالسارد كان يدير اللعبة من وراء السرد بطرف خفي وبضمير الحاضر والمخاطب حيث كان الحوار قاسيا وجالدا للذوات وكان الخطاب يترجم لقطات كبيرة وحادة بين رغبتين جامحتبن رغبة بالقتل ورغبة بالخلاص لوجهتي البطلين بهاجس الترقب وسطوة الموت وإنتقالات خيال وعيون القاريء بلقطات سريعة نجح الروائي في توظيفها مع حركات القطة التي عجلت بفعل التوقع عند القاريء وجعلته يعمل مونتاجا متسارعا متنقلا بين وجوه الأبطال وحركة القطة التي أفصحت بالكثير من نزعات الشر وشاهدت العديد من مراسم الذبح والفجيعة وكشفت أخيرا للسلطات عن مكان الجريمة .
لقد كانت الرواية بلغتها الشعرية الشفيفة وموضوعتها تركات الحرب وثيقة جمالية و قانونية وإجتماعية ورحلة وطن في أتون المتاعب والمطاحن ومسلسلات الخراب نجح الروائي في إيصال رسائلة لمن يطالع التاريخ ويحاسبه
ما له وماعليه فعليه ان لايتغافل عن تركات الحروب ومآسيها فهي وان توقفت طواحينها المسموعة في الخارج ولكن طواحين خرابها في النفوس لم تنفد بل هي متوالدة الى أجيال قادمة وما شخصية نعمان الا ضحية ذلك الهوس وترجمان ذلك الجنون الذي طالما تغنو به الطغاة بكونه شارة نصر وبوابة تحرر وماهو الا بوابات للجحيم في كل ذات إكتوت بذلك الجحيم تنتظر صنع أحلامها على مدية من رماد الحروب في أوكار وأقبية دامية.
ظاهر حبيب الكلابي
شيوخ العشائر.. والتملق للحاكم
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. قاسم حسين صالح
يحدثنا التاريخ ان الانكليز هم الذين أدخلوا شيوخ العشائر ميدان السياسة. ففي التقرير الذي رفعته (المس بيل) إلى لندن عام 1923، اوضحت أن أصلح طبقة لحكم العراق هم شيوخ العشائر، فأشركوهم في المجالس النيابية المتعاقبة بعدد كبير زاد على ثلث أعضائها، وصاروا أصحاب ثراء وجاه واعتبار اجتماعي وسلطة يستعان بها في إدارة البلاد وضرب المعارضة السياسية.
وكانت (المس بيل) اول من درس شخصية رؤساء العشائر العراقية..علميا وعمليا.كانت تتعشى معهم في مضائفهم واحصت عنهم كل صغيرة وكبيرة بما فيها عدد الزوجات والخيول والمواشي...التي يمتلكها كل واحد، فضلا عن قيمهم وعاداتهم.وكان هذا العقل البريطاني الاستخباراتي الذي امتاز بالذكاء والدهاء يرفع تقاريره الى الحكومة البريطانية فتوافق عليها مع الامتنان.
ومع أن العشائر العراقية قامت بثورات وتمردات ضد سلطات الحكم العثماني، إلا أن أبرز دور لها هو اشتراكها بثورة العشرين، إلى جانب رجال الدين الذين رفعوا شعار (إخراج الكافر الأجنبي من البلاد) بوجه القوات البريطانية التي دخلت العراق عام 1917.ويحسب لها أنها أسهمت من خلالها بتعميق الحس الوطني ومناهضة السيطرة الأجنبية، وإضعاف الروح الطائفية التي جعلت بغداد ساحة احتراب طائفي في فترة الحكم العثماني.
والواقع إن عشائر وسط وجنوب العراق تختلف عن عشائر المنطقة الغربية، في أن الأولى تتحكم بها قيم المرجعية الدينية فيما تتحكم القيم البدوية في الثانية.غير أن كلا الفريقين تجمعهما "العصبية القبلية" بوصفها الوسيلة التي تلزم الجميع بحماية كيان العشيرة لقاء تأمين حاجة أفرادها الى الشعور بالأمان، التي تجسدت عام 2003.فحين سقطت الدولة وتعطّل القانون، برزت لدى الفرد العراقي سيكولوجيا الحاجة إلى "الاحتماء" فكانت العشيرة هي ملاذه الأول.
والتاريخ يحدثنا ايضا أن شيوخ العشائر يقفون مع الأقوى.ففي التقرير الذي أعدته دائرة الاستخبارات البريطانية في العراق عن مشايخ ولاية بغداد سنة 1917، يذكر مترجمه عبد الجليل الطاهر أن بعض شيوخ العشائر كانوا متعاونين مع الإنكليز، وأنهم كانوا يحصلون منهم على الرشوات، وأن الإنكليز استعملوا أساليب الإغراء وتلويث الضمائر واستطاعوا شراء ذمم بعض شيوخ العشائر.
والمفارقة ان الدكتاتور صدام حسين والطائفيين (الديمقراطيين) اعتمدوا نفس الاسلوب الانكليزي.فلقد شجع النظام السابق على استيطان عشيرة الجنابيين في الشريط الواقع جنوب بغداد لتكون حائلا بين بغداد والمدن الشيعية.ويذكر علي عبد الأمير علاّوي بكتابه (احتلال العراق) أن رؤساء الأفخاذ العشائرية الجنابية منحوا أراض زراعية خصبة في اللطيفية واليوسفية والمحمودية..التي صارت تعرف فيما بعد بـ"مثلث الموت".
وعمد صدام إلى تشكيل (شيوخ أم المعارك)..كثيرون منهم رؤساء عشائر شيعية اشترى ذممهم بدفع هدايا مالية ومسدسات وامتيازات، لقاء قيامهم بالسيطرة على أفراد عشائرهم وأن يكونوا عيونا للسلطة.واستجاب عدد منهم طمعا بـ(التكريم)أو دفعا لشرّ طاغية لا يرحم.والشيء نفسه قام به الطائفيون، إذ التقى رئيس الوزراء السابق (نوري المالكي) بعدد من الشيوخ بقصد كسب أصوات أتباعهم في الانتخابات وتأييدهم لشخصه.ويذكر لي احد شيوخ الناصرية انه قبيل انتخابات 2010 زاره ممثلان عن حزبين شيعيين في السلطة طلبا منه أن يمنحاه أصوات أفراد عشيرته، ولأنه لا يريد أن "يزّعل "احدهما فإنه أخبرهما بأنه سيجعل أصوات جماعته مناصفة بينهما!
ولأول مرّة في تاريخ الحكومات العراقية يكون سوء إدارة الحكومة لشؤون الناس والبلاد سببا في بعث الروح الوطنية وخفض العداء الطائفي بين شيوخ عشائر في الطائفتين السنّية والشيعية.فبعد اندلاع التظاهرات في الأنبار بالأسبوع الأخير من عام 2012، وظهور شيوخ عشائر سنّية تشكو ظلم الحكومة وتؤيد مطالب جماهير انتظمت في تظاهرات عفوية سخر منها رئيسها بوصفها (فقاعات)، عُقد في البصرة مجلس ضم شيوخ عشائر بأغلبية شيعية، أعلنوا فيه تضامنهم مع المطالب الشرعية للمتظاهرين في المدن ذات الأغلبية السنية.وفي اليوم نفسه أقام شيوخ عشائر مجلس عزاء بمدينة النجف لشيخ عشائر الجبور (محمد طاهر العبد ربه) الذي اغتيل في الموصل وعدّوه رمزاً من الرموز الوطنية.
بالمقابل، نظمت وزارة الداخلية باليوم نفسه مؤتمرا موسعا لرؤساء عشائرمن الطائفتين.ومع انه دعا إلى تشكيل لجنة من رؤساء العشائر لتوحيد مطالب المتظاهرين، إلا أن الهدف الرئيس له هو خطب ودّ شيوخ عشائر ليكونوا مع الحكومة..التي قامت بتوزيع (استمارات خاصة بحيازة وحمل السلاح لأكثـر من (150) من شيوخ العشائر بينهم زعماء قبليون من الأنبار، ودعتهم إلى التدخل لوقف التظاهرات.وهذا حال كل الحكومات العراقية..إنها تستميل إليها شيوخ العشائر حين تشعر بخطر يتهددها، وتجزل العطاء لمن يتعاون معها، وإن عددا من الشيوخ يستجيبون حتى لو كانوا يعلمون أن الحكومة على باطل.
ان قراءتنا السيكولوجية التاريخية تكشف عن صفة ثابتة في شخصية شيخ العشيرة، هي أن الحمية على وطنه لا تأخذه قدر ما تأخذه الغيرة على الشرف، بمعنى أنه يغلّب قيمه العصبية ومصالح عشيرته على مصلحة الوطن، وانها ميالة إلى التباهي بما تملك من ثروة وخيول وأبقار وأغنام..ونساء!.وقد توفرت الفرصة لعدد من الشيوخ أن يجمعوا بين رئاسة العشيرة والعمل كرجال أعمال، اذ يذكر علي علاوي بكتابه(احتلال العراق) أن بعض رؤساء العشائر اندفعوا للتعاون مع سلطة الائتلاف الموقتة لأسباب مالية صرف.
الحدث الأكبر الذي حسم موقف شيوخ العشائر هو انتفاضة تشرين 2019 ، اذ فرزتهم الى فريقين، كثرة وقفت الى جانب المتظاهرين، وأقلية مع قيادات أحزاب السلطة.وكان الحدث الذي كشف حقيقة شيوخ العشائر هو انتكاسة انتفاضة تشرين وواقعها في 2021 بعد ان تم استهداف رموزها ونشطاء فيها بالقتل او الأختطاف من قبل ميليشيات وعصابات ومرتزقة تابعة لأحزاب السلطة. فمن غرائب ما حصل أن شيوخ عشائر كانوا في 2019 الى جانب المتظاهرين المطالبين ب(استعادة وطن ) انحازوا في 2021 الى قادة احزاب يعرفون انهم فاسدين وفاشلين سياسيا وأخذوا يتملقون لهم..والتملق يعني التودد والتلطف باظهار في اللسان ما ليس في القلب..مع انه يفترض في شيوخ عشائر الوسط والجنوب ان يلتزموا بموقف المرجعية الموقرة التي بح صوتها من نصح حكّام شيعة فاسدين.
ان ما حصل يجعلنا نستنتج بان ازدواجية مواقف جمع كبير من شيوخ العشائر تبقى يحكمها عامل التملق بالتودد للسلطة للحصول على منافع وسلطة وجاه، وان العصبية القبلية تبقى تتحكم بهم وتكون هي الأقوى في أوقات الأزمات..ومع ذلك فان بينهم جمعا اكبر يبقون اصلاء (ينحطون عالراس) لأنهم ظلوا بعيدين عن سلطة اثبتت احداث (18)سنة انها فاشلة سياسيا، ويدركون ان شيخ العشيرة يسقط في نظر ابناء عشيرته ان تملق لحاكم فاشل وفاسد.
*
أ. د. قاسم حسين صالح
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (202): مأسسة الأديان والأخلاق
- التفاصيل
- كتب بواسطة: صحيفة المثقف
خاص بالمثقف: الحلقة الثانية بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، رئيس مؤسسة المثقف، حيث يجيب على أسئلة الأستاذ الدكتور صادق السامرائي:
مأسسة الأديان والأخلاق
ماجد الغرباوي: إن استقلال الأخلاق عن الشريعة، لا يفقد الدين بمعنى الإيمان دوره الأخلاقي، وسيكون الضمير، كما أكدت، رقيبا صارما يضمن لنا أداء أخلاقيا يأتي به الفرد بدافع الواجب الإنساني، وهذا يستدعي وعيا إنسانيا لمعنى الأخلاق ودورها في بناء مجتمع الفضيلة. وهنا يأتي دور الدين بمعنى الإيمان عندما يكون الضمير مركز إشتغاله. فيلعب دورا مؤثرا في تقويم الأخلاق وترسيخ قيم الفضيلة، من خلال رعايته للضمير تحفيزا وتحذيرا، دون أي ارتهان لتوجهاته الإنسانية، وهذا مبرر لاستقلال الأخلاق عن التشريع. مستوحيا، أي الإيمان، من حاجة الإنسان الفطرية والروحية له. ومن قداسة الدين وهيمنته اللاشعورية على المشاعر البشرية. فثمة خاصية تتفرد بها الأديان، هي قدرتها على ربط الناس المطلق، وخلق شعور عميق ينصت للغيب ويتمثل حقائقه، فيزداد يقينه وتترسخ قناعاته بتعاليمه وخطاباته مع كل ممارسة طقوسية أو تأملية حتى يغدو يقينا مطلقا لا يراوده الشك، خاصة والدين يضفي معنى للحياة، ويقدم أجوبة مقعنة للأسئلة الوجودية الكبرى، ويمنح الطمأنينة ويفتح آفاقا للأمل واسعة. وعندما يبلغ المرء مرحلة اليقين ينشغل بتزكية نفسه وحماية ضميره. الدين أكثر وقعا في صدقيته من أي جهة رمزية أو معنوية، لقوة إيحاءاته ورمزيته، وما يعد به ويحذر منه. من هنا يمكن استثمار نصوصه الملهمة ذات الطابع الإيماني والأخلاقي والعقلائي، لتنمية الروح الإنسانية، وتقويم الضمير. وأقصد بالنصوص الدينية خصوص الآيات، وخطابات الكتاب القائمة على منظومة القيم الأخلاقية، وقدرتها على تزكية النفس وتحفيز الضمير. وهذا يقتضي استثناء بعض النصوص لتفادي أي التباس وخلط بين المصادر النصوصية الملهمة وغيرها. بل إن بعضا يكرّس ما يتنافي مع المنطق الأخلاقي. تلك النصوص التي ترفع راية الدين وتحرض على الكراهية والعنف وإقصاء الآخر.
وبالفعل سبق أن استثنينا من النصوص القرآنية آيات التشريع، التي تخص الآخر، كما في آيات القتال. أو مطلق الآيات الإقصائية، التي ينبغي فهمها ضمن سياقاتها التاريخية، ومبررات صدورها. وكذلك غرائبيات الأحكام كقتل الغلام من قبل العبد الصالح، ووثوب إبراهيم لقتل إبنه. وهو أول اسثناء تطرقنا له. وأما آيات الشريعة التي رسمت حدود علاقات الفرد والعلاقات العامة. والآيات التي حثت على الأعمال الصالحة، أو مجموعة الآيات الأخلاقية، فسيأتي الحديث عنها ضمن موضوع الأخلاق والأوامر الإلهية. وهذه نقطة ينبغي التنبيه لها، تحتاج لتوضيح كافٍ. كي لا يلتبس الموضوع. فالكلام حول مصدر الأخلاق، وقلنا أنها لا تقوم على الدين بمعنى الشريعة، وأنها من مدركات العقل العملي. وهذا لا يعني إقصاء الآيات الأخلاقية. وسيأتي الحديث. ولنبقى هنا مع الدين بمعنى الإيمان، طاقة روحية يمكن توظيفها لحماية الضمير الإنساني، ليمارس دوره الرقابي بصرامة، وبهذا نتوفر على مصدر ديني، يحول دون خمول الضمير أو تقاعسه، ويبقى يقظا، خاصة مع تزوير الوعي، وتراخيه أو نكوصه أمام الإغراءات المادية والدنيوية. فالإيمان يساعد على ترشيد الوعي وكبح النزعات الشيطانية ويهذب النوازع المادية، من خلال طرح بدائل تعويضية، وخطاب يقوم على الترغيب والترهيب، يشكل حصانة حديدية أمام النزعات المادية، والتهاون مع السلوكيات اللا أخلاقية، شريطة الإلتزام الديني، كي لا يرد علينا سؤال البحث الأساسي، عن مدى قدرة القرآن على تهذيب أتباعه، وقد سبق الحديث عنه مفصلا..
للدين وسائله الخاصة، التي يستيطع من خلالها تزكية النفس البشرية، ويمنحها قدرة على التعفف أمام المغريات والنزعات المادية. وبالتالي فالقرآن هو المدونة الدينية التأسيسة، والمرجع الأول لمفاهيم الدين وتعاليمه وأحكامه. لم يجعل الله فيها ولاية تشريعية فضلا عن تكوينية لأحد من خلقه، وما تسمعه عن حجية السيرة النبوية لا يعدو اجتهادات ووجهات نظر مرّ تفصيل الكلام عنها بما يكفي. فتبقى وظيفة السُنة النبوية، كما ذكر الكتاب الكريم، بيانا وتوضيحا وتفصيلا. فالبيانات النبوية للقيم الأخلاقية، هي بيانات إنسانية، تأتي في طول آيات الكتاب، وهكذا بالنسبة لسيرته باعتباره مثلا للأخلاق: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍۢ). وأيضا مرّت تفاصيل كافية عن الموضوع.
وبما أن مفهوم النصوص الدينية مفهوم عام، فقد يتبادر للسامع أنها تشمل إضافة لآيات الكتاب وسيرة الرسول، سيرة من جاء بعده: الصحابة لدى مدرسة أهل السنة. وأئمة أهل البيت لدى مدرسة الشيعة، بل وقد تمتد لفتاوى الفقهاء فيشملها العنوان باعتبارها قائمة على أدلة لفظية قرآنية ونبوية، وغير لفظية سيرة النبي ومن جاء بعده، بهذا يشملها مفهوم النص الديني. وبعض يتحفظ فيقول: أدلة شرعية وفتاوى فقهية. لذا كإجراء احترازي استثنيت فتاوى الفقهاء من النصوص التي يمكن أن تكون مرجعية ملهمة لحماية الضمير، كرقيب أخلاقي. وهو الاستثناء الثاني بعد استثناء آيات التشريع. وبالتالي ففتاوى الفقهاء حكم مستنبط من آيات وروايات التشريع، فتشملها استثناءات أحكام الشريعة. إضافة لانحيازها، كما مرَّ الكلام.
الاستثناء الثالث: تعليمات المؤسسات الدينية
يلحق بفتاوى الفقهاء، استثناء ما يصدر عن المؤسسات الدينية من فتاوى وقرارات وتعليمات تستجيب لضروراتها، وتكرّس مصالحها السياسية والطائفية، ولو على حساب الدين وغاياته ومقاصده، فيكون التحيز قدر هذا اللون من الفتاوى. وبالتالي ما يبرر استثناءها خصوصية الإفتاء وتحيزها لصالح الدين المؤسساتي. كما لو اقتضى الموقف من الآخر التشهير به، وهو عمل لا أخلاقي، يفقد معه الدين قيمته الأخلاقية، وطاقته الروحية التي نرتهن لها في تحفيز وحماية الضمير الإنساني. بل ويفقد الضمير إنسانيته ليغدو مؤدلجا، ينظر للحق والباطل من منظار طائفي، تمسكا بحديث الفرقة الناجية. وهذا لا نقصده عندما نتطلع لدور إيماني لحماية الضمير، بل نقصد جوهر الدين، عاريا من أي تفسيرات طائفية. أي الدين الخالص والمحض، تعرفه من استجابتك الفطرية وردة فعلك. ما نريده ونسعى له الاستجابة الأخلاقية. ونتطلع أن يلعب الإيمان دورا في تحفيز الضمير وتفادي خموله أو انهياراته ليمارس دوره الرقابي الصارم. بهذه تتضح الحدود بين العقل والدين في المسألة الأخلاقية. فتكون الاستجابة للفعل الأخلاقي بدافع الواجب الإنساني. شريطة الحرية والإرادة والقدرة. بينما تسلب المؤسسات الدينية إرادة الفرد، وتكرّس حريته باتجاه مصالحها. مباشرة أو بشكل غير مباشر. ويفقد الفعل الأخلاقي شرط فعليته، بفعل هيمنة سلطة المؤسسة، التي تسلبه حريته حينما ترتهن خلاصه بطاعتها، حداً يتقرب لله بموالاتها وامتثال أوامرها. ويحسب أنه على حق مطلق وغيره على باطل مطلق. فانقلاب الوعي يفقد الفعل صفته الأخلاقية. وما نريده فعلا أخلاقيا بدافع الواجب الإنساني، وإيمانا يتفادى خمول الضمير وانهياره. فاستثناء فتاوى وتعاليم المؤسسات الدينية مبرر، ويكفي هيمنتها التي تفقد الفرد حريته وإرادته وقدرته على تشخيص الحقيقة، عندما تتولى فهم الدين نيابة عنه، وتوجيه وعيه وسلوكه وفقا لأهدافها.
مأسسة الدين إغتيال الوعي باحتكار الحقيقة، عندما تعيد المؤسسة وتعاليمها تشكيل العقل بدوافع طائفية وسياسية، يتماهى معها المرء باعتبارها معطى نهائيا مقدسا بمختلف العناوين ابتدءا من الأحكام الولائية حتى ولاية الفقيه مرورا بالفقه السلطاني، مشيخة الإسلام السنية، شيخ الإسلام الشيعي، المؤسسات الدينية والكهنوتية في جميع الأديان والمذاهب. المأسسة كانت وماتزل وراء ارتهان الوعي، وتكريس الحس الطائفي، والهيمنة السياسية، والسبب وراء تشتت القوى، وزعزعة الثقة بين أبناء الطوائف الدينية، وتكوين يقين سلبي، يزدري العلم، ويمجد الخرافة، ويحتفي باللامعقول كمهيمن ثقافي يعيق حركة الوعي الرسالي. ولعل في محاكم تفتيش القرون الوسطى في أوربا خير مثال عندما كانت تلاحق كل من يدلي بتصريح ولو كان علميا مادام يخالف تعاليمها. والمؤسسات الدينية الحديثة تمارس دورا مشابها لكنه يقتصر على الرموز والطقوس الدينية.
إن مأسسة الأديان أشد ما عانت منه الرسالات السماوية عبر تاريخها الطويل، وأفدح خسائرها جاءت بفعل هيمنتها، حداً فقدت الأديان قيمتها كمرجعية لتقويم سلوك الفرد بعد أن وُظِفت سياسيا واجتماعيا وطائفيا. وهذه المؤسسات تستمد شرعيتها من تاريخها، واحتكارها لتفسير النص الديني، واستملاكها للرأسمال الرمزي، والرصيد المعنوي، وقيمومتها على الدين ومصادره المالية، وانقياد العقل الجمعي لإرادتها. بل أن روح العبودية والطاعة المطلقة رهانها الأول في مشاريع الهيمنة، وربط سبل النجاة بطاعتها. وعلى هذا الأساس كانت تبيع الكنيسة صكوك الغفران. فثمة وعي بدائي يؤمن بها ويتقبلها أفرز إيمانا "قروسطيا" يؤمن بالخرافة سبيلا للنجاة، ومازال هذا الإيمان يعشعش في عقول أدمنت الخرافة، تجد في العلم وكشوفاته شيطانا يهدر إيمانها. وهو وعي متخلف، ناتج عن خطاب مؤسساتي، يقصد تجهيل الناس لضمان طاعتهم، كرهان لنجاح مشاريعه السياسية والطائفية. وفي نفس السياق تأتي الشفاعة الطقوسية التي يهبط معها الدين من قيمة روحية سامية، إلى مؤسسة مبتذلة تحط من قيمة الفرد، وتعلو من سلطة الاستبدادين الديني والسياسي. وأعني بها ممارسة الطقوس وتبني الشعارات الطائفية شرطا لضمان الشفاعة يوم الخلاص. وفي كلا الحالتين يأتي سؤال الأخلاق، حيث يتعرض الفرد لتزوير الوعي. وهل يمكن لفتاوى المؤسسات الدينية وقراراتها وتعاليمها أن تكون ملهمة للأخلاق وبناء ضمير إنساني حي؟ وهذا هو مبرر استثناء فتاواها وتعاليمها من مصادر إلهام التقوى وحماية الضمير من الزيغ والانحراف. فهذه الفتاوى وهذه القرارات مكرسة لخدمة المؤسسة الدينية، فهي إجراءات متحيزة، ونحن نتطلع لروح إنسانية، بعيدة عن أي تحيز باستثناء إنسانية الواجب الأخلاقي. أو أنها تكرس الأخلاق لشرذمة المجتمع، وهذا خلاف الهدف المتوخى من الأخلاق. نحن نتطلع لأخلاق حميدة، سامية، إنسانية، وقرارات وفتاوى المؤسسات الدينية تقلب موازين الأخلاق، فيغدو إقصاء الآخر فضيلة، ومحاربة العلم فضيلة، وسيادة الوعي المزيف على أنه حقيقة، يستميت المرء في الدفاع عنها. المأسسة تكوين سلطوي لتكريس الهيمنة والاستبداد، لا تنسجم مع التوجهات الإنسانية.
لقد واجه المسيحيون اضطهادات شتى من قبل الإمبراطورية الرومانية وذلك من عام 58 م حتى 312 م بسبب رفضهم الاعتراف بعبادة الأباطرة، وهو تعبير آخر عن اعتزازهم بقيمهم الدينية والإنسانية. بل أن المسيحية قائمة على فصل الديني عن الزمني: (أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله). وعندما أنهى مرسوم الإمبراطور قسطنطين المسمى في التاريخ باسم "مرسوم ميلانو" عام 313 م مرحلة الاضطهادات شكل اعتناقه للمسيحية نقطة تحول هامة في التاريخ. وبدأت تتداخل السلطتان الزمنية والدينية، حتى ظهرت منافسة سياسية بين بطريرك القسطنطينية والبابا في روما حول زعامة العالم المسيحي. وبعد سقوط روما أصبحت البابوية مصدر استمرار للسلطة وسيطرته على المسائل العسكرية. (أنظر: ويكبيديا). وبهذا الشكل تولت الكنيسة السلطتين الزمنية والدينية، وخاضت معارك ضارية من أجل الهيمنة السياسية والدينية والروحية، فكانت مأسسة الدين المسيحي قد بدأت منذ توظيف المسيحية سياسيا، حيث بدأت سيادة الكنيسة الكاثوليكية وهيمنة السلطة الكهنوتية على مشاعر الناس، والتحكم بمستقبلهم السياسي والديني، وبات الإيمان والخلاص يتوقف على ولاء الفرد لسلطتها. أو أن الولاء شرط الإيمان والخلاص، وهذا يعني تبني جميع شعارات الكنيسة، والاقتصار عليها مصدرا وحيدا للمعرفة الدينية وطريقا للخلاص، حتى فقد الدين قيمته الروحية، وغدا مصفوفة طقوس، يمارسها المرء ليدخل الجنة، وتسقط عنه جميع ذنوبه مهما كان حجم الجريمة، عبر الاعتراف بين يدي الكاهن وشراء صكوك الغفران. وقد كلف الانعتاق من سلطة الكنيسة الشعوب الأوربية غاليا، حتى رأت النور في ظل العقل والعقلانية، بعيدا عن الكنيسة وسلطاتها الكهنوتية التي كانت ترمي بالهرطقة كل من يخالف تعاليمها، مهما أتى الدليل العلمي والعقلي من قوة. والهرطقة جريمة مؤسساتية، لا علاقة لها بالأديان، تتخذ منها الكنسية ذريعة لقمع المعارضين، واستعادة المتمردين لسلطتها. وهذا يحدث في جميع المؤسسات الدينية تارة ماديا كما في ظل سلطة الكنيسة والحكومات الدينية، وتارة رمزيا عندما ترتهن مصير الفرد وخلاصه بولائها، وتبني شعاراتها. وهذا مكمن الخطر الأول لمأسسة الأديان.
وكانت مأسسة الدين في الإسلام بدأت مع موقف قريش من السلطة، عندما فرضوا القريشية شرطا في الخلافة، ليكونوا الممثل الوحيد للسلطتين الدينية والزمنية، وكان هذا كافيا لمأسسة الدين، حيث تمسك الخلافة بزمام الأمور وتفرض فهمها وتفسيرها على النص الديني. بدءا من الأول حتى نهاية الدول العباسية. والمهم فترة التأسيس، عصر الخلفاء أو ما يسمى بعصر الراشدين، حيث لعب الإنتماء الطائفي دورا رئيسا في تكريس السلطة ومأسستها، بعد اختزال آية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)، (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) في مصداق واحد هم قريش. وليس سوى قريش يليق به القيادة، إنها ذات القيم القبلية تسربت في غفلة من الوعي الديني. أو لسكوته. فالمأسسة احتكار للحقيقة، وتوظيف سياسي للدين. مثاله زخم روايات الفضائل التي اختص بها الخلفاء الأربعة دون غيرهم من الصحابة إلا لمماً، واحتكرتها قريش دون العرب، والعرب دون باقي المسلمين، وهو تشويه للموقف الأخلاقي، القائم على وحدة الجنس البشري. والاستجابة الإنسانية للفعل الأخلاقي. ويتضح الأمر أكثر من خلال روايات التزكية المطلقة أو تلك التي تمنحهم حصانة دائمة، وتبرئتهم سلفا من كل ذنب، مهما كانت خطاياهم خلافا للمنطلق القرآني القائم: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ). وبشكل تدريجي راحت تفرض المؤسسة الدينية سلطتها من خلال فرض ولايتها على الدين مباشرة أو من خلال الفقه السلطاني، فكان فرض لغة قريش عند الاختلاف في قراءة الآيات، وإقصاء بعض النصوص القرآنية، بقرار عثماني، بداية بلورة سلطة المؤسسة الدينية، واحتكار السلطتين الدينية والزمنية. والسلطة إملاءات فوقية، أية سلطة كانت، والإملاء يفقد الفرد حريته وتحرره، وحينئذٍ لا يصدق على سلوكه ومواقفه مفهوم الفعل الأخلاقي، لأن شرط الأخير حرية الفرد، بمعنى التحرر من كل سلطة فوقية باستثناء ذات الفطرة والسجية الإنسانية المجردة والمحضة، حينما يرى في الآخر امتداده الإنساني، فيندفع لمد يد العون له مثلا بدافع الواجب الإنساني. وهذا يتنافى مع منطق السلطة القائم على التبعية والانقياد بما تمليه مصالحها العليا، وافقت أم تقاطعت مع المنطق الأخلاقي.
وبهذا الشكل أخذت المؤسسة أطوارا مختلفة، ولعل في صراع الدولتين العثمانية في تركيا والصفوية في إيران، وكيفية توظيف الدين وخصوص المذاهب الإسلامية مثالا لمأسسة الدين من أجل ضمان تحشيد شعبي بدوافع دينية، وهذا لا يتحقق إلا بسلطة دينية مؤسسية، فكان منصب مشيخة الإسلام في تركيا. في مقابل منصب شيخ الإسلام في السلطة الصفوية في إيران، وكل من مشيخة الإسلام وشيخ الإسلام لعب دورا مؤثرا في تحشيد الطاقات، عبر مباركة الطقوس والبدع، وشرعنة السلطة السياسية رغم استبدادها وفسادها. وكان كل من منصب مشيخة الإسلام ومنصب شيخ الإسلام مصدرا للكراهية، وتحريض الناس على إقصاء الآخر، بعد رميه بالانحراف وربما الفكر تمهيدا لجواز إزدرائه وقتله. ما كان لمنطق الموت أن يسود لولا وجود مؤسسات دينية تبرره وتبارك للسلطان فعله، باعتباره نصرة للدين أو المذهب. فهو قتل باسم الإله والدين، وهذا أوضح مصاديق تزيف الوعي الديني. كما أن كلا من المنصبين الدينيين في تركيا وإيران منصب سلطاني يمنحه الأخير لمن يشاء من الفقهاء. فيعيّن السلطان الفقيه، ويمنح الفقيه السلطان الشرعية. وفي ظل السلطان يمارس الفقيه أعماله مفتياً وصاحب سلطة دينية مؤثرة. وفي ظل الفقيه يمارس السلطان ما يشاء من الأفعال والممارسات. (أنظر كتابي: الشيخ محمد حسين النائيني منظّر الحركة الدستورية).
ثمة أمر مهم، أن الفقه السلطاني، كما في كتاب الأحكام السلطانية للماوردي وأبي يعلى، وغيرها من كتب المذاهب الإسلامية، هو فقه هيمنة، يكرّس سلطة المؤسسة الدينية، حينما تضع نفسها في خدمة السلطان، وتتولى شرعنته حكومته وضمان انقياد الناس لها، من خلال تزوير الوعي الديني. ولعل مثال حكومة ولاية الفقيه في إيران اليوم أوضح مثال لقوة وعمق واستبداد وهيمنة المؤسسة الدينية، مهما كات دستورية، حيث أن الإقصاء ودعوى الولاية المطلقة على الناس والقرار السياسي والتحكم بمصير الشعب والوطن، هو المنطق السائد.
نخلص أن ما يصدر من فتاوى وتعليمات عن المؤسسات الدينية، لا تصلح مصدرا لتزكية النفس والتقوى، وبالتالي فإن هذا اللون من النصوص خارج النصوص الدينية المقصودة. رغم قدراتها التعبوية التي قد تنفع لدرء الأخطار. الإيمان الذي نتطلع له، تلك المشاعر الإنسانية الشفافة التي تأبى الأدلجة والاحتكار، وتنظر للآخر نظرة إيمانية: (الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق). أو إنسانية تقوم على وحدة الروح الإنسانية ومشاعرها والتي نرتهن لها في وضع ضابطة أخلاقية نحتكم لها دائما في كل زمان ومكان. الإيمان تلك الومضة الروحية النابعة من أعماق الروح والتجربة الدينية، حينما تملأ فضاء النفس، وتهيمن على مشاعر الإنسان، فينسى عالمه المادي، ومغريات الحياة، وينظر إلى نقطة بعيدة يستلهم منها القوة والأمل، فيكون أرأف بنفسه، حينما يعمد لتزكيته وتطهيرها، وهذا لا يتحقق في إطار المأسسة القائمة أساسا على التعالي.
يأتي في الحلقة القادمة
............................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه
الخطاب وإنتاج المعنى.. مشكلة فلسفية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. سامي عبد العال
من حينٍ إلى آخر، تتصايح حناجر البعض بضرورة تجديد الخطاب الديني، ويرى آخرون أهمية تجديد خطاب التنوير، بينما يؤكد سواهم على مراجعة خطاب الفكر، حتى غدت الأصوات بضائع راكدةً على أسنة المنابر والمنصات العامة. كأننا في ورشة لغوية ضخمة بحجم الحياة تجاه الثقافة التي لم ولن تستقر. وقد يكون مطلوباً هذا التجريب والتمرين الواسعين على الذوات المتعقلة، غير أنَّ هذا يجري دون معرفة كيف نتحدث عن الخطاب، بالوقت نفسه الذي نتجه خلاله إلى قوة غائمة ومتواريةٍ خلف ركام الحياة، فقط نناشدها، نرجوها، نتضرع إليها، ننتظرها لأجل عمل ذلك. ولم تحدث محاولات مبتكرة لكسر طرائق التعامل مع الفكر واللغة معاً. فغدت مسألة التجديد- مثل الحرية والعقلانية والديمقراطية والتطور- مناجاة وطقوساً عبثية تستدعي أرواح الغابرين في الشرق والغرب. وبات قدح زناد العقل نوعاً من النداءات التي لن تجدي شيئاً كعبادة آلهةٍ لا تسمع ولا تُبصر.
لكن الفلسفة كفن للسؤال لديها حساسية قوية المراس تاريخياً وثقافياً حيال المشكلات، هي تضع أصابع نابضة بمصير الفكر على قضايا الحياة. فما بالنا إذا كانت قضية اللغة هي موضوع النظر والتقصي!! ليس هناك ما يمنع التفلسف من مباشرة مهامه قدر ما تكون السذاجة هي سيدة الموقف، وأنَّ وضعاً خطأ للقضية قد يجعلها عصية على الحل. إذن.. كيف هي مسألة الخطاب ابتداءً؟! وما هي إمكانية التعامل مع أفكاره؟ وماذا عن الوعي بأبرز قُوى اللغة؟!
ربما لا يُجدِي أيُّ تعريفٍ جاهز عندما نكُون بصدد الخطاب وانتاج معانيه. حيث لا تعريف هنالك في الغالب دون تحديدات مسبقة؛ أي دون معرفة تقيدّه، لعل الأهم هو انفتاح الفهم بلا قيودٍ سواء أكان من جانب تكويناته وتاريخه أم عمليات تأويله. فالخطاب يمثل أبنية لغوية ترتبط بسياق التواصل ومتغايرة أشد التغاير عكس ما نظن. كما أنَّ التعريف المُحدد قد يُقلِّص مفهومه حاصراً إياه في زاوية ضيقةٍ. أليس التعريف حدّاً مانعاً لسواه برأي علماء المنطق؟! عندئذ سرعان ما ندرك أنَّ هناك شيئاً أكثر رحابةً إزاء تحولات الخطاب. لأن كل خطاب (من أقصاه إلى أدناه ) تعتريه تحولات عميقة بحكم اللغة وفائض المعاني، فهو شيء أبعد من رص عبارات اللغة بجوار بعضها البعض كقوالب حجريةٍ، لدرجة أنه حتى مع وجود القيود، سيُثار الخيال الثقافي مثلما تطفُر المعاني فجأة ببلاغة الألفاظ والعبارات.
ـــ 1ــــ
يتطلب الخِطاب باختلاف مجالاته حاسة ثامنةً وتاسعة وليست سادسةً فقط. سْمِها ما شئت عكس المتعارف عليه. ذلك لأنَّه يفترض إحساساً بميلاد اللغة عبر أدق التفاصيل. واللغة تُولد سريّاً- بالرغم من كونها على الملأ- حيث المعاني المتجددة عبر جوانب الثقافة. إنَّ صياغة العبارات الدالة لا تقل عن ميلاد أي كائن حي له مخاضه العسير وحياته المتغيرة. فالمعاني المختلفة لا توجد هكذا واضحة وتامة على قارعة الثقافة... وإن كان الجاحظ في كتاب " البيان والتبيين" يؤيد هكذا فكرة باعتبار أنَّ المعاني مشاعٌ في الطريق يستحسنها العربي والعجمي والحضري والبدوي والقروي. لكن هناك جذوراً بعيدة وتفاعلات دلالية ليس أكثرها التلقي المباشر فقط. ولذلك يعقب الجاحظ أن المعاني في الشعر تعول على جودة اللفظ وقوة السبك وتخير الكلمات وصحة الصياغة وسهولة المخرج، فإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير.
لعلَّ الصياغة تشكيلٌ (فاعلية سبك) للكلمات بحيث تُتاح عبارتها لاستعمال جديدٍ. وتظهر في الواقع كدوالٍ حيةٍ مفتوحةٍ على المستقبل. بذات الوقت يُتَوقع في محيطها أنْ تضيف إمكانيةً لم تكن مطروقة. لعلَّها إضافة غير مُقدَّرة في جوهرها بسبب وجود أطراف عدةٍ في حركة اللغة. وبخاصة أن أية لغة ليست أحادية (ممارسةً وتاريخاً) إنما لا تُفترض آثار اللغة إلا بافتراض جماعةٍ ثقافية ما، أي توجد هناك جماعة تأويلية تحقق وجوها معينة لنشاط اللغة والفكر. حيث يسهم كلٌّ فيها بدرجةٍ أو أخرى كشأن عملية التواصل التي لا تتم فردياً، بل لابد من وجود آخرين. ففي التواصل يتوقف معنى الكلام على ما يطرحه الآخر، وعلى ما يفهمه، وعلى ما يصوغه. وإذا كانت تلك العملية نسبيةً حين يتواصل فردٌ مع غيره، إلاَّ أنها تضم تاريخاً وأفعالاً ثقافية خارج نطاقها، بل يراقبها المجتمع دونما أنْ يشعرَ الفردان في إطارهما المحدود.
اللغة نظام للتعبير وفق قواعد مرنة من خلال خلفيات الكلمات وصياغتها. وهي بذلك أعمق نظام إنساني يخترق عقول الأفراد بلا تفرقة، موضِحاً الرابطة القابلة للتداول ومُبرزاً الدلالة علي الأشياء والمعاني كما تتداول ثقافياً. ومع جوانب اللغة هناك المخاطَّب دوماً، هذا المتلقي للرسالة مهما يكن وضعُه. إنَّه النقيض والمشابه، الغائب والحاضر، الجمع والمُفرد. هو الرغبة بمجمل تقلباتها. فاللغة تطرح درجات للرغبة بما هي معرفة، بما هي حوار، بما هي هيمنة بواسطة التعبيرات على نحو غير مباشر.
والخطاب -من تلك الجهة- قدرة على الابلاغ وإيصال ما لم يكُن ليصل بسهولة. ومن ثم ينفتح المعنى ليشمل تبايناً وثراءً غير قابلين للاختزال. لأنَّه وليد هذا الصراع المنتج داخل سياقات الثقافة المتنوعة. إذ حينما ننشغل بمسألة نتحدّث إلى أنفسِنا. فيُقال- لو صادفنا أحد الأشخاص- يا للعجب... فُلان يكلِّم نفسه!! دلالةً على فقدان الانسجام ومكابدة التنازع نحو شيء ما. لهذا تتسع دوائر الصراع فردياً واجتماعياً من الأنا إلى الآخر ومن الآخر إلى الغير.
ولا يعني هذا اعتبار تلك الدوائر منفصلة (الأنا+ الآخر+ الغير+ النحن× الثقافة) لكنها دوائر وهمية الانفصال ووهمية الاتصال أيضاً. فاللغة تتيح إمكانية التداخل بينها بواسطة الحوار وتجاوز المسافات قلَّت أو أتسعت. كما أنَّ أصداءها تبقى داخل المعاني التي تُترك ضمن محيطها النشط. وإذا كانت ثمة تمييز بينها رجوعاً إلى اختلافٍ ما، فأنها تتشابك بقدر ما تتنوع. فالحركة قد تعبر عن صراع الخطابات طالما تعبر عن الانسجام من جهةٍ وعن الاختلاف من جهة أخرى. بلغة بور ريكور هناك تشابك خصيب للتأويلات حتى في أدق العبارات التي تحمل معنى نراه قريباً، فأي معنى مبني على نقائض وتحولات أخرى.
حيث تحتفظ صيغُ الخطاب مثلاً بمكونات الصراع وتمنحها فرصاً للظهور. هو ما يُعرف بقضية الفكر واللغة حين تتعدد الاتجاهات والرؤى. فالعلاقة بينهما كالعلاقة بين وجهي العُملة. إذا وُجِدَ أحدهما لا مناص من وجود الثاني وأكثر. إن اللغة فكرٌ منطوق والفكر لغة صامتة
language is a spoken thought, and thought is a silent language.
فهناك شيء معبر عنه على طريق المعنى. وتبقى اللغة على وعدها التاريخي بنقل المعاني حيث يؤثر الخطاب في الحياة الاجتماعية. فلم يعثر الإنسانُ طوال عصوره على نظامٍ أكثر بساطةً وتركيباً من اللغة. ولهذه الأسباب يطرح بها أفكاره.
أ- توفر اللغة اتساقاً نسبياً وهشاً للفكر عن طريق صيغ الخطاب والنصوص. حيث يأتي المعنى معبراً من رحم التناقض دون القضاء عليه.
ب- تعطي إمكانية للتفكير في الغائب، المجهول، المختلف. ولهذا يحاول الإنسانُ بواسطتها بناء عالمه، إذ أنَّ طرح الفكرة يُرهص بتحققها.
ت- تضمن، ولا تضيّع، الموروثات التاريخية بأنماطها المتنوعة. وتمدِّد العمل بها في أشد الحالات انقطاعاً عن الماضي. لذلك ضياع اللغة معناه ضياع التاريخ.
ث- اللغة إذ تختفي تُظهِر الأشياء والعلاقات والأحداث. فهي كالثقافة تعمل في خفاء كخفاء الموت لكنها( ولكنه) الإطار الوجودي لمعنى الحياة.
ج- تتيح فرصاً لفهم وتفسير كافة الأنظمة الدالة الأخرى مثل الرموز والإشارات والعلامات والشفرات اجتماعياً ووجودياً.
ح- تحقق تواصُلاً بين الإنسان وغيره أيا كان الاختلاف بينهما. وبذلك هي الحارسة - دون تكليف من أحد- لحركة المجتمعات ولمعاني الإنسانية.
ـــ 2ــــ
قد يُنظر إلى الخطاب على أنَّه تدبيج لكلمات منمقة كما هي تقاليد العرب. وأحياناً يُوصف بالكلام المغلف بالبلاغة خطفاً لآذان المستمع. أو كما يقول المتنبي "يُعطِيك من طرفِ اللسان حلاوةً ويرُوغ منك كما يرُوغ الثعلبُ". على هذا الطريق يجيء خطابا الفكر الديني والسياسي. هما خطابان كرنفاليان. الأول يحتفي بالحضور المقدس بفضل الرضا الإلهي على عبادِه أو هكذا يُردِّد. لذلك يرتبط اجتماعياً بالجموع وطقوس الطوائف وأصحاب المذاهب والنِحل. والثاني يحتفي بالمتلقين استناداً إلى تجاذب الرغبات وتوجيه اللاوعي العام.
الخطاب الديني يتذرع بالبلاغة كي يمتلك القداسة المفترضة التي يضعها صاغوه نصب العين والتلقي. لكننا سنجده في النهاية- كحال الكلام الديني الراهن- محض صور إنسانية مرصعةً بالأقوال المأثورة. ولن يفعل الكلام في النهاية غير ترك أثار الحضور المقوى لما يعتقد المتلقي. أما الخطاب السياسي فهو عجينةٌ بلاغية تتشكل مع الوهم الجمعي. فتبدو الكلمات كائنات تسعى مثلما سعت عصا موسى. الإشارة إلى هذين النمطين من الكلام لا يعنى حصر الخطاب فيهما غير أنَّهما يكشفان بجلاء استعمال اللغة بطرق مراوغة. كيف تُحقق المعنى وإلى أي مدى تتخلّق. ومع ذلك لا ندرك ماهية هذا التأثير بسهولة كما نظن. فلو تساءلنا كيف تتخلق فصول السنة، صيفاً وشتاءً وربيعاً وخريفاً، لن يدرك الإنسانُ إجابةً. لأنَّها تأتي من أعماق الطبيعة. ونحن ننسى ما هي الطبيعة لكوننا الشكل الحي منها.
في العادةِ نغْفل الكلام، ونُلقي به منصرفين حتى مع علاقتنا وجهاً لوجه. بيد أنَّه جزءٌ من ذاكرة حيةٍ. لعلَّه قابل للاستعادة متى كان الإنسانُ قادراً على ذلك. لقد أصبح حينئذ عُنصراً من كياننا، ولا نتوقع أيةَ إمكانية دونه. لو استطاع الإنسانُ المرور بما يُقال له وبما يتصوره وبما يجُول بخاطره، لأمكنه الحصول على تراكم لغوي غير متناهٍ. فأينما يذهب يواجهه كلامٌ آخر وراء الكلام، بل كثيراً ما يخضع لخطابٍ قيد الاتفاق الضمني. وحينما يهم الإنسان بإنجاز أمرٍ لا يفطن إلى أنَّه أمرٌ جاء في وثائق اجتماعية مخطوطة بعقول الآخرين.
وهنا يجب التنويه أنَّ الكلام والكتابة وثائق مدموغة في أرشيف الحياة اليوميةِ (أرشيف الثقافة). فأحداث الحياة تشكل - من أصغرها إلى أكبرها- وثائق بحروف ورموز نستغرق أزمنةً في فهمها. قد يستغرق شخص فيها بالتساؤل عما يجري حوله ولا يجد إجابةً، وربما يدور آخر معها بكثرة الثرثرة (هوس الكلام)logomania، بينما يطارحها شخص مختلف تبادلاً بالحوار والنقاش. وهناك غير هؤلاء من ينشغل بظلال الكلمات. إنَّ تفسيرات الدين، رؤى المجتمع، التراث، الأفكار، هي أحبارٌ سائلةٌ بين تلك الحروف، وهي مزيج من الخطابات التي تشكل أفقاً إنسانياً. فمنذ أنْ يخضع الكلام إلى رسالةٍ عامة يلتئم في محاولة لشمول المستمع، ويطرح أفقاً أمامه، وفوق هذا وذاك تستند صياغتُه إلى تاريخٍ من التصورات يتيح الوصول إلى غايتها. ولذلك ليس سهلاً بحال الخروج من متاهات القول بأفكار جديدةٍ ولا بمعانٍ مختلفة.
إذا كان ثمة خطاب مقدس (الكلام الإلهي) فهناك خطابات على منواله، كخطابات القوانين والأعراف والطقوس. وإذا كان هنالك خطاب مُراوغ والتفافي، كالشعر والنثر، فهناك خطابات إيقاعية تختزن موسيقى الحياة فرحاً وبهجةً. لو وجد خطاب صارم كالأخلاق والقيم، فهناك خطاب الحقائق إذ يحرص المجتمع على تعقُبها. وإن كان ثمة خطاب مهموس، كعبارات الشائعات والنميمة، فهناك كلمات النفس، تداعي الخواطر، معاني الخيال. أين اللغة من دون اللغة، أين الواقع من غير الوقائع؟! نقوش على أحجار عتيقةٍ، تسلخات وحزوز على لحاء أشجارٍ في غابة برية، رمية نرد تتراقص على كل الأوجه، ضربة ذيل على صفحات المياه لحيتان ضالة ومضطربة، قرقعة لهواء مكتومٍ يتنفس ويتسرب رويداً، آثار على رمالٍ تحت شمس حارقةٍ...، إنَّ ذاكرة التعبير بها كل تلك الصور والنقوش حتى وإن طواها الزمن. لأنها ستكون معبرةً لإنسانٍ ما يرسم بكلماته مسافة وعلامة لغيْرِه. فمكتوب بين عينيه كنظرات الموناليزا هنا يكمن المغزى، هنا ترقد أجداث الحقيقة. القضية من ثم نفس قضية منشأ الخطاب: أنْ ترسم مساحةً لآخر، أنْ تمنحه علامةً تقع منه على معنى لوجوده، هذا الوجود المادي أو الاجتماعي أو الفكري.
ـــ 3ــــ
أبداً ليست اللغةُ أداةً للتواصل فحسب، لكنها أيضاً كَوُن نتنفس خلاله وجودَّنا الحي. وأن هذا الكون الدلالي لا ينتهي في طياته وتحولاته. مثله مثل الحياه، مراحلَ وأزمنةً وبقايا وصراعاً وآثاراً. إذا أردنا التحدث فسرعان ما تمدنا اللغة بكلِ طاقات محتملةٍ ومذهلة. لأنها تعطينا مناسبةَ الحديث وزخم الفهم. اللغة هنا أكثر من مجرد ألفاظ بالمثل. عندئذ تعرفنا فكراً نعبر عنه وتختبر بالكلمات ما نعتقده يقيناً حين تُجسِده موضوعَياً خارج عقولنا. يجري هذا الأمر كما لو يري أصحاب اليقينُ أنفسهم لأول مرة منسلخين عن ذواتهم. لهذا سيجد اليقين نفسه قزماً وليس يقيناً كما كنا نمتلأ به. لنجرب مثلاً ترديد التصورات التي نعتنق صحتها بصوتٍ عالٍ، ولنسمع صداها مع ترديد العبارات. إذ ذاك ستفقد صلابتها، فاللغة تأخذ منا وتغذي الآخر داخلنا، هذا الذي ينازعنا الحقائق. وعندما ينطق الفكر أو يكتب أو يرمز إليه يتجسد عملاً. وضمن بناء الأفكار وتجسدها يتأرخ المعنى مع التعبيرات ويختزن امكانياته التي يَعد بها. وبواسطة الخطاب يتحول المعنى إلى لاوعي يصعب التحكم فيه. لقد تم تمثُله وتحوله إلى أصداءٍ، بالتالي يُمسِي قابلاً للانتشار مع عباراتٍ أخرى.
أما على مرمى الآخر البعيد، فتعد اللغةُ نظاماً رمزياً اجتماعياً، الخطاب أحد شفراته إذ يرمي بالأهدافِ (فردية وجمعية) حيث تُؤثِر. ويقع التأثير بمضمون المعاني الكامنة خلف العلاقات الإنسانية، لكأنَّما يجيء المضمونُ مؤشِراً وفاعلاً في عين الوقت. ومن هنا فإنِّ المعنى صُور تُضاف إليها مؤشرات أخرى مع التلقِي. فعندما نخاطِب شخصاً بوجوب مراعاة القواعِد الاخلاقية على سبيل المثال، يستهدف قولُنا تزامنَ الفعل عبر المضمون البعيد. ويستهدف ترادُف الدلالة على قبول القواعد، فضلاً عن سريانها إلى نهاية المطافِ. تبعاً لذلك، المعنى أشبه بنسيج اسفنجي يمتص الفهم والتأويل، ويعيد فرزهما مع ضغط الممارسة الاجتماعية، الثقافية، غير أنَّه يُثرِي تواصُلاً أياً كانت مستوياته، ويظل قادراً على البقاء طي التعبير.
ربما يكون القول (أي مراعاة القواعد الاخلاقية) كلاماً مُعاداً في غير مجالٍ، إلاَّ أنَّه بانتماء المضمون إلى المجتمع يكتسب هندسةَ القوى الفاعلة فيه. أي تلتقط المعاني توزيعات القوى واسعة الانتشار تماماً مثلما تكتسب الرياح قوى الضغط على خريطة التوزيع المُناخي. ألا نرى بلوناً هوائياً في سماء ملبدة بالغيوم، هكذا يسري الخطابُ، يسري توجُهه، ويترك بصماته. إنه نقش، إنه وَسْم على رقائق التعبيرات موصلةً الرسالة حيث يتهادى الهواء، يعصف، يعرْبد، يدوي... وقد لا يتوقف. فالخطاب من تلك الجهة يمثل مقصداً يأخذ تجلياته عبر التفاعل الاجتماعي. فهو الأرض الخصبة لنشوء الكلام ولإعادة بذره، وهو ذات التربة التي تنبت فيها أشجار الكلمات كأكمات ملتفة بالأعشاب. بالتالي لم يكن ممكناً التعرف على شيء، أي شيء، دون إنطاقه. بحيث يأتينا داخل شبكة من العلامات، ويتحول إلى حرف وصوت يأخذان مغزاهما مما يقال.
على سبيل التوضيح لم يكن المسيح حين ولد سوى كائن غُفل ومجهول بالنسبة للمحيطين به. وكم تمنت أمه أنْ تصبحَ نسياً منسياً كما جاء بالقرآن، لكنه تحول إلى خطابٍ حين نطق صغيراً. تكلّمَ عيسى بن مريم فأمسى علامة دالة: "فناداها من تحتها ألاَّ تحزني قد جعل ربُك من تحتك سريّاً" (مريم/24). ثم أصبح المسيح ذاته بمثابة حروف الخطاب للمتلقي مهما يكن اعتقادُه. لأنَّه تبرئة الأم مريم العذراء وحل اللغز الوجودي بات أمراً يخص الإنسان كإنسان. كيف تلد أنثى عذراء بدون ذكر؟! كان المسيح في الفكر الديني تعطيلاً وتنويعاً لنواميس الطبيعة البشرية والكونية معاً. من ثم جاءت الحادثةُ في حاجةٍ إلي خطاب مختلف، إذ لابد من النطق لأنَّ الطفل آية دلالية قيد اللغة.
وإنْ جاء الكلام من كائن مولود تواً، فالكلام الموجه للأم يتردد منذ الأزل فيما يبدو. أليس الله هو القائل بالسر، بجعل السر من تحتها؟ أي بصيغة الاستفهام: من ولماذا و ما ماهيته؟ ويذهب نفس الكلام إلى الأبد أيضاً بحسب الإيمان المترتب على القول. وعلى الرغم من أنَّ المناداة (وناداها من تحتها) تجاه الأم بالإفْرَّاد، غير أنَّ كلمات المسيح كانت موجهة للبشرية بصيغة الجمع الأنطولوجي بحكم أنه لا يوجد كائن دون علة من جنسه. فاللغز يهم الكائنات بلا استثناء حتى خارج الإنسان. إذن بموجب تلك القضية البسيطة (لا كائن دون أصل يبرر وجوده) كانت النتيجة على درجة من الخطورة كخطورة كسْر الناموس الطبيعي. وكان كلام المسيح نطقاً واستنطاقاً ثقافيين في الوقت نفسه. النطق من جهة التكلُم، لأنَّه لغة مفهومه على مستوى الابجدية المتداولة بمنطوق "ناداها".
هكذا جاءت المناداة بأساليب الكلام الاعتيادي، بدليل فهم الأم للتعبير وتواتر معاني الحزن كما فهمتها وفهمها المسيح الطفل (كما نطق). بينما مستوى الاستنطاق فهو الخطاب، لأنَّه يستنطق تاريخ الإنسانية وموجه إلى مستقبل الإنسان. وعلية سيكون كلام المسيح جديداً كذلك على أنماط الكلام المعروف للإنسانية، كيف تحدث من في المهد، بأية لغة؟ هل توقعنا فهماً له؟ بأي معنى سنحمله؟! من هنا كان المسيح هو الكلمة (في البدء كان الكلمة).
ـــ 4ــــ
من جانبٍ آخر، عبر تداخل الوسائط المعرفية بمعناها الثقافي، ومع حيل الطرح وأساليب التلقي، أصبحت آفاق الخطاب من أفعال اللغةِ. تلك اللغة الحاضنة لأخيلة الإنسان ونتاجاته. إنها العبارة والعلامة المشحونتان بأطياف القُوى لممارسة هذا الأثر في سياق تداولي pragmatic. وعليه فقد أخذ الخطاب أهميته على أهمية اللغة في حمل الفعل الإنساني خارج ذاته. فالعادات والتقاليد خطاب، العلاقات الإنسانية خطاب، الممارسة الحياتية خطاب، الفعل السياسي خطاب، ملامح الوجوه خطاب، الإفراز النفسي خطاب... إلى غير ذلك.
ها نحن في غير موقف نذكر جانباً خفياً من الكلام. وحرصاً على العناية به للتعامل مع الآخرين، نتحسب لنتائج حواراته مع الوقائع ومع تراكمه اليومي. ألسنا ننجز أعمالنا بأفعال الكلام، ألا تظل اللغةُ حاضرة حضوراً صامتاً؟! إذن يعتبر الخطابُ نطقاً للصمت، توجيهاً لشراع الفكر حيث يتفاعل على أكثر المستويات تأثيراً. فهناك مستوى التعبير إذ يحيل الخطاب إلى وسيط نكاد نلامسه مع المتلقي. ويُشار إلي التعبير على أنَّه جسد (لحم) اللغة flesh of language بالنسبة إلى المتلقين. هل يُفهم الكلام والكتابة دون جسد؟ لا يعني ذلك أنَّ التعبير هو الجسد فقط طالما أنَّ المعنى بمثابة الروح لو تصورنا ذلك. لكنه، أي التعبير، هو المادة والروح يداً بيد كعجينة واحدة. كذلك يوجد مستوى العلامة من اللغة، فالتعبير إذ يغدو مادةً بروحٍ وروحاً بمادةٍ ينتج الدلالة، ويمثل مخلباً بلاغياً له ماضيه وأنماطه في السياق الثقافي. لكل سياق مخالبه التعبيرية داخل المجتمع. وهي التي تنتزع صور التواصل ويجري فهمها ضمن الواقع المعيش. حتى إذا ما رأينا رُسوماً مع تأدية الخطاب، فإننا نعرف مدلولَ العلامة وكيف تفيض بما ورائها. من ثم يكون الخطاب أداءً بذات الدرجة التي كان بها عبارة ومعنى. فهذا المستوى المسرحي - إن جاز الوصف- لا يقل خطورةً عن غيرهِ.
وإذا كنا نحسب الخطاب نطقاً لحروف موضوعية فهذا محض تشويه. لأنَّه لا ينفصل عن فاعلية الأداء activity of performanceالمصاحب والمنتج للمعاني. وقد يجرنا هذا المستوى إلى اللهجة الخاصة بكل مجتمع على حدة. حيث لا تدل اللهجات بالضرورة على اللحن في النطق، لكن اللحن في المفاهيم والإجراءات المنطقية وطرح التبريرات كذلك. فكل خطاب يقف على عمليات من الأداء التمثيلي جنباً إلى جنبٍ مع النطق. وارتباط الذاكرة العربية بالشفاهية orality، إن لم تكن هي الحاضنة الأولى لها وما زالت، معناه الوقوع في أسر الأداء. إنَّ الحكي والسرد لا يقلان دلالة عن مبنى الكلمات وثراء المعاني. فهما اللذان قد يجعلان الخطاب نافذا كسهمٍ لا يفقدُ هدفاً.
د. سامي عبد العال
الفلسفة الحضارية للفكرة القومية عند قسطنطين زريق (4)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. ميثم الجنابي
ماهية القومية العربية
من الممكن العثور على الصيغة الأوسع والأكثر تدقيقا لرؤيته النقدية والبديلة لماهية القومية العربية ومقومات نجاحها في ما اسماه بشروط نجاح القومية. وأدرج ضمنها ستة شروط كبرى وهي:
- ضرورة بلوغ نوع من التطور والانسجام في الحركة القومية، وبدونها يستحيل نجاحها وتحقيق أهدافها،
- وعلمانية (دنيوية) الدولة،
- ومنافاة الإقطاع،
- والتطور الاقتصادي الحديث،
- وانتشار العلم والمعرفة،
- وأخيرا القضاء على القبلية والطائفية1.
على أن تكون هذه الشروط التأسيسية محكومة بفكرة الحرية، والوحدة، والثقافة الحضارية الحديثة. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه لا يمكن للحركة القومية العربية المعاصرة أن تنتصر دون أن تدرك وتحلّ إشكاليات التحرر والاتحاد والحضارة2 . وفي الوقت نفسه ربط هذه الشروط والأفكار الكبرى بنوعية القادة السياسيين الذين ينبغي أن ترتقي عندهم الفكرة القومية وغايتها إلى مصاف الفكرة الصوفية. بحيث نراه يتكلم عما اسماه بالحاجة للصوفية القومية. وكتب يقول، بأنه "إذا كان لابد من صوفية قومية في قلوب القادة وفي نفوس الشعب، فلتكن صوفية تضع القومية في نظامها الحضاري، أي كل ما يساهم في خلق إنسان عربي أقدر وأرقى ومجتمع متحرر"3 .
إن رفع الفكرة القومية إلى مصاف الفكرة الصوفية، يعني ضرورة تجريدها التام عما سواها. وهي الفكرة التي شاطرها الفكر القومي العربي الحديث عند مختلف شخصياته. وقد يكون الموقف من الدنيوية (العلمانية) هو محكها النظري والعملي المباشر. فقد كتب قسطنطين زريق منذ وقت مبكر في (الكتاب الأحمر) بأن الدولة العربية المنشودة دولة قومية لا دولة دينية، والأديان عندها هي سبيل المرء إلى خالقه في العبادات، فهي مصونة ومحترمة وفق ما يرد عنها في القوانين. ونعثر على نفس الفكرة بعد تدقيق جوانبها لاحقا عندما كتب يقول، بأن العلمانية ليست معاداة الدين والروحانية، أي "إنها لا ينبغي أن تتعارض مع الدوافع الروحانية أو الكفر بالله"4 . إن العلمانية (الدنيوية) ضرورية للقومية بحد ذاتها. وأعتقد زريق، بأن القومية علمانية بالضرورة. ووضع ذلك في استنتاج ملزم يقول: "إن القومية والأمة ينبغي أن تؤسس وتستند إلى ذاتها، أي أن تكون أمينة لذاتها وللقومية، بمعنى العمل بمنطق القوى التي أوجدت القومية في العصر الحديث"5 . وبما انه لا يمكن للقومية أن تنتصر دون تجانس تطورها لهذا "يستلزم كأول شرط علمانية الدولة"6 .
لم يكن هذا اليقين الجازم بصدد علاقة الدنيوية والقومية، سوى الوجه الآخر للرغبة الجامحة في تذليل بقايا البنية التقليدية في الوعي. وذلك لأنه لا إلزام منطقي ولا واقعي ولا حتمي لهذه العلاقة. فقد كانت هذه المرجعية جزءً من تقاليد التجربة الأوربية. كما أن التجربة الأوربية لم تذلل في الواقع العلاقة الخفية بين الديني والدنيوي بهذا الصدد. فصعود القومية، على الأقل في ميدان النزوع الأورومركزي والكولونيالي، كان وثيق الارتباط بالتراث الديني من حيث التمثل والاستغلال والتوظيف والتطويع. غير أن آراء قسطنطين زريق ومواقفه وأحكامه بهذا الصدد كانت تتمثل رحيق الفكرة القومية المجردة، والرغبة في تجسديها بوصفها فكرة منطقية. وهذا بدوره ليس إلا الصيغة النظيفة واللطيفة لبقايا وآثار الرؤية الأيديولوجية وأوهامها التاريخية الخلابة للعقل والضمير.
القومية والفكرة العقلانية
أوصل التحليل التاريخي واستشراف الواقع وآفاق العالم العربي الحضارية قسطنطين زريق إلى استنتاج مهم ألا وهو ضرورة العقلانية. ولا يغير من قيمة هذا الاستنتاج كونه كان أقرب إلى الحدس منه إلى منظومة فكرية لها حدودها الخاصة. فعندما تطرق إلى حالة العالم العربي المعاصرة له، فأنه اعتقد أن ما يميزها هو هيمنة الفكرة والحالة الثورية. ومن ثم لم يقف بالضد منها بقدر ما دعا إلى مهمة تحويلها إلى "ثورية عقلية"، أي ثورية تتخذ من العقل دليلا لها. لأن العقل هو الأكثر ثورية في التاريخ، كما يقول قسطنطين زريق. وبالتالي، فإنَّ استمداد هذه الثورية لروحها من العقل يجعلها الأكثر ثورية. وذلك لأنه يحررها من قبح الغوغائية والأهداف الآنية. إذ تكمن فيها ما اسماه قسطنطين زريق بضمانة الثورية اللازمة للشعوب العربية. بعبارة أخرى، إن "العقلانية" هي التي ينبغي أن تكون مضمون الثورية العقلية. ووضع هذا الاستنتاج في قوله "لا ندحة للعرب إن أرادوا النجاة والفوز في معركة الحضارة التي هي مصدر المعارك الأخرى ومحورها، من أن "تتعقلن"7 .
ووضع هذه الحصيلة في فكرة أوسع تقول، بأننا بالعقلانية ندرك أن مشكلتنا الأولية هي التخلف. وبها نقدم على محاسبة النفس، وعبرها يمكن السير في مضمار التحضر (التقدم). ذلك يعني انه حاول أن يعطي للعقلانية الثورية بعدها المناسب من خلال إبراز وإفراز أولوياتها النظرية والعملية. إذ لكل قومية وحضارة وتاريخ خصوصيته. فعندما تطرق، على سبيل المثال، إلى ما اسماه بطغيان الحضارة الغربية، فإننا نراه أيضا يكشف عن مبادئها الجوهرية، التي شكلت مصادر إيمانها ومعتقداتها وهي: الإيمان بالعالم الطبيعي وبأنه العالم الحقيقي، وأن الإنسان أهم كائن في هذا العالم الفعلي، ومبدأ العقل8 . مما حدد بدوره موقفه من الحكم على الحضارة الغربية. ذلك يعني أنه نظر إليها عبر جوهرية المبادئ الفاعلة والمحدد لكثير من خصالها، وليس من خلال ما يبدو على سطحها من مظاهر الاقتصاد والسياسة وغيرها. لقد حاول البحث عن مبادئ مرجعية فوجدها في ما أشار إليه. لكنه في الوقت نفسه اعتقد، بأنَّ انجازات الحضارة الغربية والمادية منها بالأخص تعاني من مفارقات عديدة. ومن بين اشد مفارقاتها إثارة بهذا الصدد اثنتين، الأولى وهي مفارقة التطور العلمي التقني والنظم السياسية والفكرية، والثانية هي مفارقة التطور العلمي التقني والأخلاقي.
مما سبق يتضح، بأن قسطنطين زريق أراد القول، بأنَّ لكل بديل عقلاني مقدماته الفكرية ومبادئه الكبرى وقواعده، أي كل ما يشكل أولويات عقله النظري والعملي. والأولويات التي ينبغي أن تختارها العقلانية الثورية العربية تقوم في مواجهة تحديات التخلف من خلال قواعد كبرى حصرها في سبع وهي:
- مصارحة النفس ونقدها بوصفه دليلا على النضج وبرهان على القدرة والثقة بالنفس،
- والحاجة إلى فيض من التوق الحضاري،
- وإيمان بالعقل وتوق إلى الحقيقة،
- والتطلع والتشوف للمستقبل،
- واكتساب الذهنية المنفتحة،
- وتنمية الثروات الطبيعية والقدرات الإنتاجية،
- وأخيرا العقلية الثورية 9.
وليست هذه المبادئ أو القواعد الكبرى للأولويات سوى الصيغة الايجابية لنقد الحالة العربية. فعندما تناول مقدمات النكبة والأسباب القائمة وراء هزيمة العرب آنذاك أمام بني إسرائيل، نراه يشير إلى أن السبب الجوهري يكمن في كون "مجتمعنا العربي والمجتمع الإسرائيلي الذي نجابهه ينتميان إلى حضارتين مختلفتين أو إلى مرحلتين متفاوتتين من مراحل الحضارة. وهو السبب الأساسي لضعفنا على كثرة أعدادنا وتفوقهم على قلة عددهم"10 . ذلك يعني أن مصدر التخلف بالنسبة له يكمن في فكرة المستوى الحضاري للمعاصرة ومقوماتها الأساسية وهي العلم والعقلانية. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن تفوق الحضارة الحديثة يقوم أساسا على انجازاتها العلمية النظرية والتطبيقية. وبما وراء هذه الانجازات من عقلانية متطورة11 . وبما أن العلم هو مصدر القوة في كل شيء بما في ذلك القوة الاقتصادية والسياسية، فإن السؤال المتعلق بكيفية حل هذه المشكلة في العالم العربي يفترض "قلب المجتمع العربي قلبا جذريا سريعا من مجتمع انفعالي توهمي ميثولوجي شعري إلى مجتمع فعلي تحقيقي عقلاني علمي"12 .
إننا نقف هنا أمام تحديد شكلاني شديد ومكثف لمتضادات ثنائية كبرى وهي ثنائية انفعال– وفعل، أوهام – وتحقيق، أسطورة – وعقلانية، شعري – وعلمي. وبغض النظر عما في هذه الصيغة من تبسيط مباشر وراديكالية مشحونة بحالة النكبة الثانية (1967) إضافة إلى استنتاجاتها السياسية ومقارناتها الحضارية المتسرعة المحكومة بأثر الهزيمة، إلا أنها تحتوي على نبض الفكرة الداعية للخروج من واقع الأزمة أو التخلف إلى ميدان الحداثة الحقيقية. وبهذا يكون قسطنطين زريق قد حاول جعل الفكرة التاريخية فكرة مستقبلية. وفي الوقت نفسه نظر إلى المستقبل بوصفه مشروعا بديلا بمعايير العلم والحداثة. وبهذا يكون قد سعى لإدراك التاريخ الذاتي بوصفه تاريخا واقعيا وعقليا يفترض البحث عن حلقة الربط بين الحداثة والمستقبل. ووجد هذه الحلقة في الرؤية الواقعية والعقلانية المتسمة بالاعتدال.(يتبع....).
ا. د. ميثم الجنابي
......................
1- قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص203.
2- قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص204.
3- قسطنطين زريق: في معركة الحضارة، ص393.
4- قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص37.
5- قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص38.
6- قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص203.
7- قسطنطين زريق: في معركة الحضارة، ص411.
8- قسطنطين زريق: في معركة الحضارة، ص355-356.
9- قسطنطين زريق: في معركة الحضارة، ص388-411.
10- قسطنطين زريق: معنى النكبة مجددا، بيروت، دار العلم للملايين، 1967، ص13.
11- قسطنطين زريق: معنى النكبة مجددا، ص13.
12- قسطنطين زريق: معنى النكبة مجددا، ص17.
في ذكرى اعدام سقراط.. ثنائية الحب والفلسفة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: علي عمرون
شويه فات سقراط .. مسلسلينه من القدم للباط.. ومتهم باليأس والإحباط
وبالعدم وبالزنا وباللواط وبكل كافة التهم.. وهو عابر للجحيم على الصراط
ينظر على الشعب التعيس ويبتسم إلى الجحيم للفلسفة
دنيا لا كانت يوم.. ولا حتكون فى يوم كويسة
عبد الرحمن الأبنودي قصيدة "أحزان عادية"
مدخل عام
تشير Monique Dixaut الى ان سقراط مات في نهاية شهر فيفري سنة399 ق.م، وقت الحج السنوي إلى "ديلوس" سقراط الذي لم يخط حرفًا ولم يترك أثرًا مكتوبا ظل الاعتماد في معرفة آرائه على ما نقله عنه تلميذاه أفلاطون وزينوفون، في مقابل ذلك تشهد الكتابة الفلسفية حركية في عصرنا هذا من خلال إعادة قراءة واكتشاف الشخصيات الفلسفية البارزة ومنها شخصية سقراط .
في كتاب الرجل الذي جرؤ على السؤال للدكتورة كورا ميسن أستاذة الآداب الكلاسيكية ركزت في على وصف ملامح سقراط الطفل وفق مقاربة تحليلية والتوغل في ثنائية المظهر والجوهر،الجسد المنبوذ والروح المتسامية لقد كانت » عيناه تجحظان كعيني ضفدعة، وشفتاه غليظتان، وأنفه أفطس، كانوا يسمونه في المدرسة وجه الضفدع«. لقد كان للقبح للمظهر تأثير على أسلوب تفكير سقراط ونظرته الى المستقبل ذلك الشاب المبتسم المحدق في السماء كان يطلب من الآلهة أن تهبه كنوز الحكمة، ونفسًا متزنة تحمل هذه الكنوز، كما دعاها أن تهبه البساطة، وأن يتفق مظهره مع مخبره» اجعليني جميلًا في داخلي «.
حياة وموت سقراط في اعتقادي مأساة ومحنة،هي مأساة الانسان الذي انزل الفلسفة من السماء الى الأرض ومحنة الفيلسوف الذي آمن بمشروعه الفلسفي متقاطعا مع افراد مجتمعه متميزا فكرا وسلوكا كان يملك الحكمة وفصل الخطاب،لقد أمسك بيد المبادئ الأخلاقية وباليد بالأخرى رسم لنا طريق الخلاص طريق التحرر،لكن في النهاية اعدم وادين من طرف الذين مارسوا الكذب والخداع باسم الدين وباسم ثقافة تستحضر الخرافة وتغيب العقل، ثقافة تتغذى من فكر سفسطائي ومال فاسد وسياسة تحركها الغوغاء.
ولد حوالي عام 470 ق.م، في بيت مغمور من بيوت الطبقة الوسطى، لا هو بالخطير أو الحقير، في مدينة أثينا، وكانت أمه تُدْعَى فيناريتي وأبوه يُدْعَى سفرونسكس، وكانت لفيناريتي — كما يذكر ابنها فيما بعد — سمعة طيبة عن مهارتها الفطرية وصبرها على توليد جاراتها من النساء، أما سفرونسكس فقد كان — على الأرجح — صانعًا، لم يتجاوز الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة حينما أخرجه أبوه من المدرسة سقراط كان يعرف كيف يتعلَّم لا من المعلمين والمدربين فحسب ولكن من كلِّ إنسان يقابله، كان يوجِّه الأسئلة عن الجمال منذ سنوات مضت، نصحه والده وهو منهمكم في نحت تمثال على صورة أسد قائلا عليك بادئ ذي بدء أن ترى الأسد كامنًا في الحجر، وتحس كأنه رابض هناك وأنعم سقراط الفكر في هذا القول، وذكَّره بحديث حدثته به أمه ذات مرة، وكانت الأم تشتهر بين جاراتها بمهارتها في توليد الحبالى من الأمهات، وسألها سقراط مرة كيف تقوم بهذا العمل فأجابته قائلة إنني في الواقع لا أفعل شيئًا، وإنما أكتفي بأن أعُين» : الطفل على الانطلاق«.
مشروع سقراط
دهشة السؤال وفضيلة الاعتراف بالجهل
مشروع سقراط الإصلاحي يقوم على مبدأ، ان المعرفة يجب ان تكون متاحة للجميع، وانه من الضروري إشاعة التفكير الحر المبني على النقد، وعلى حتمية تحمل المسؤولية والثبات في مواجهة المحن، وعدم الرضوخ لإغواء رجال المال والسلطة،فكان لابد من الانخراط في المعيش وممارسة السياسة كمعارض .
تبدأ القصة عندما يخبر نبي معبد دلفي سقراط بلغة الآلهة أنه أحكم الناس.يعتقد سقراط بقوة أن الآلهة لم تكذب، لذلك كان دائمًا مهتمًا بأسباب كونه الأكثر حكمة .فهم سقراط هذه الرسالة أن الكمال البشري في الاعتراف بالجهل فكل ما اعرف هو اني لا اعرف اشتغل بالاخلاق والسياسة التربية والفن والجمال متسلحا بسؤال المعرفة وبمنهج التوليد والتهكم كان هدفه دفع الناس الى مراجعة مايعتقدون انه حقيقة ومن ثمة تحطيم وهم امتلاك المعرفة تجول في الأسواق محاورا وناقدا كان يتصيد الفرص لمحاورة الناس وتشجيعهم على التفكير الحر كان يعتقد انه لا احد شرير بطبعه وان الطاغية اقل حرية بين جميع الناس رفض الثقافة السائدة في عصره .ثقافة تعتبر الفضيلة أو فن الحياة معرفة سهلة متاحة للجميع،جلب سقراط رسالة جديدة إلى اليونان.لقد أظهر أن طريقة الحياة يجب أن تُقيّم بعقل مستقل عن الأسطورة، وأن على كل شخص أن يتحمل المسؤولية الشخصية عن حياته، لا أن يتركها للآلهة.يمكن القول بحق أن سقراط كان والد التفكير النقدي. لقد تعلم أن الفضيلة الإنسانية تكمن في المعرفة، والمعرفة تعني تحليل وتقييم المعتقدات وبناء معتقدات خاصة بالنفس.
الفيلسوف الشاب
ثنائية الجنس والحب في حياة سقراط
ما الذي حوّل الشاب سقراط إلى فيلسوف؟ كيف كان يفكر عندما كان شابا؟ كيف أصبح الرجل الأكثر حكمة في أثينا ؟ ما الذي دفعه إلى السعي بمثل هذا الإصرار اإلى طريقة جديدة تمامًا للتفكير؟ والى تبني منهجا جديدا في التفكير والنظر الى الوجود؟ ما الذي دفع سقراط الى الاعتقاد أن الكلمة المكتوبة كانت شيئًا سيئًا للفلسفة والحياة؟ هل كان الارتباك الجنسي والتواء شخصيته بسبب تربيته غير المحببة الدافع الى تبني منهج التوليد والتهكم ؟
هذه الأسئلة طرحها العديد من الباحثين ونعيد طرحها في محاولة للاقتراب من شخصية سقراط وحبه للفلسفة لاسيما علاقته بالمرأة وهناك قول مأثور لسقراط حول المرأة والزواج :" في كلتا الحالتين، تزوج: إذا صادفت زوجة صالحة، فستكون سعيدًا ؛ وإذا صادفت شخصًا سيئًا، فستصبح فيلسوفًا، وهو أمر جيد للإنسان"
يجب ان نعترف منذ البداية ان حياة سقراط العاطفية، كانت ولازالت محل جدال تماما مثل شخصيته الفلسفية ورغم اننا نعود في الغالب الى ما كتبه أفلاطون وزينوفون عن سقراط -رغم انهما كانا أصغر من سقراط ولم يعرفوه إلا في الخمسينيات من عمره- الا ان هناك صورة أخرى كشف عنها كتاب سقراط في الحب D'Angour Diotima صورة سقراط الشاب: الذي أصيب بصدمة من قبل والده المتشدد (لدرجة أنه يسمع أصواتًا في رأسه)، وجنس أكثر من اللازم، محارب بطولي، ومصارع وراقص رياضي - وعاشق شغوف. وكان بارعا في المصارعة والرقص ولعب القيثارة لعدة سنوات، كان سقراط جنديًا، من جنود الهوبليت، وميز نفسه بشجاعته في إنقاذ حياة الكبياديس. أنقذ حياته في معركة بوتيديا عام 432 قبل الميلاد .كان سقراط ثنائي الميول الجنسية، وربما كان على علاقة بمدرس الفلسفة الأكبر له أرخيلوس هذا الشاب تحول إلى الفلسفة عندما وجد نفسه متحمسًا من قبل Aspasia of Miletus عشيقة بريكليس، ورغم انه تزوج من امرأة تدعى ميرتو قبل أن يتزوج زانثيبي الا انه اعترف بانه تعلم "حقيقة الحب" من امرأة ذكية. اسمها "ديوتيما" .
بعض المراجع اطلقت عليها اسم (أسباسيا) تنحدر من عائلة أثينية عالية المولد، مرتبطة بعائلة بريكليس، التي استقرت في مدينة ميليتس اليونانية في إيونيا (آسيا الصغرى) قبل عدة عقود. عندما هاجرت إلى أثينا حوالي 450 قبل الميلاد كانت تبلغ من العمر 20 عامًا تقريبًا. في ذلك التاريخ كان سقراط أيضًا حوالي 20 عامًا. أصبحت أسباسيا مرتبطة ببيريكليس، التي كانت آنذاك سياسية بارزة في أثينا - وكانت بالفعل ضعف عمرها. لكن تلميذ أرسطو، كليرشوس، يسجل أنه "قبل أن تصبح أسباسيا رفيقة بريكليس، كانت مع سقراط"
أحد أكبر التأثيرات على موقف سقراط الفلسفي جاء من لقاءه مع هذه المرأة. في حوار أفلاطون الندوة، والتي تتكون من محادثة حول طبيعة الحب، يقول سقراط إن ديوتيما علمه أن يفكر في الرغبة بطريقة جديدة: ليس كشهوة للأجساد المادية، بل سعياً وراء حقيقة أسمى. تعتقد D'Angour أن هي Aspasia مقنعة. ويعتقد أن سقراط ربما وقع في حبها.، مما دفعه إلى التحول من الجنس إلى الفلسفة.
تحدث سقراط عن طبيعة الحب من خلال ديوتيما: " أننا ننتقل في الحب من شخص جذاب معين، إلى حب الأشخاص الجميلين بشكل عام، إلى حب الجمال والخير نفسه في التجريد. سلم الحب هذا ينقلنا من الانجذاب الجنسي الخاص للغاية إلى الحب الأفلاطوني للخير
التقى سقراط بأسباسيا الذي رفضت بلطف تقدمه الجنسي، وقدمت له بدل ذلك "سلم الحب"، من مجرد المتعة الجسدية في أدنى الدرجات إلى "الحب الأفلاطوني" الإلهي في القمة. حيث تربية الروح، وليس إرضاء الجسد، هو الواجب الأسمى للحب ؛ وأن الخاص يجب أن يخضع للعام، عابر إلى الدائم، والدنيوي للمثل الأعلى.وبالتالي. هل كان من الممكن أن يقع سقراط وأسباسيا في الحب عندما التقيا وتحدثا لأول مرة في العشرينات من العمر؟
التفكير بالآيروس أو الحب العاطفي أو الرغبة. أوقع سقراط في الحب ولذلك كان السؤال الذي اشتغلت عليه أرماند دأنغور هو "ما الذي حوّل الشاب الأثيني، الذي يُزعم أنه من خلفية متواضعة وبوسائل متواضعة، إلى مبتكر طريقة تفكير وطريقة فلسفية كانت أصلية بالكامل في عصره ومؤثرة بشكل كبير بعد ذلك"؟ وجاءت الإجابة "انه حب واحدة من أكثر النساء إثارة وذكاء في عصره، أسباسيا ميليتس".
سقراط في المحكمة
ذهب سقراط إلى المحكمة عام 399 قبل الميلاد. هُزمت أثينا من قبل سبارتا لعدة سنوات، وحكمت سلسلة من الميليشيات التابعة لأسبرطة أثينا.في اليونان، كان من المعتاد أن يرفع الشخص دعوى أمام المحكمة، وكان على المتهم أن يدافع عن نفسه ضد عدد كبير من القضاة.تم اختيار أعضاء المحكمة بالقرعة، ويمكن لجميع مواطني أثينا أن يصبحوا أعضاء.كتب ثلاثة أشخاص لوائح اتهام لسقراط واقتادوه إلى المحكمة.واحد ميليتوس الشاعر، وآخر Nvtvs سياسي و Lvkvn ممثل المثقفين.
اتهم سقراط بانه ينكر آلهة المدينة و إنه يفسد الشباب.
كانت المحاكمة في أثينا تأخذ شكلين . فقد كان يتعين على هيئة القضاة أن تقترع على أمر إدانته أو عدم إدانته في البداية ومن ثم يصوتون على العقوبة. وفي إجراءات المحاكمة في أثينا كان الحكم يرمي إلى عقوبة والدفاع إلى أخرى . ولم تستطع هيئة القضاة أن تجد الفرق بين الاثنين. كان يجب أن تختار العقوبة الأولى أو الثانية وقد اختارت في ذلك الوقت عقوبة الموت . أفلاطون كان حاضرًا في المحاكمة. في ذلك الوقت كان يبلغ من العمر 28 عامًا وكان من أشد المعجبين بسقراط في عام 404 قبل الميلاد، قبل خمس سنوات فقط، هُزمت أثينا على يد الدولة المنافسة لها سبارتا بعد صراع طويل ومدمّر عرف منذ ذلك الحين باسم الحرب البيلوبونيسية. على الرغم من أنه قاتل بشجاعة من أجل أثينا أثناء الحرب، حكم عليه بالإعدام لإفساد شباب أثينا واتباع آلهة باطلة. كان متزوجًا من Xanthippe، الذي كان أصغر منه بكثير، وكان جدليًا. اعتذار سقراط أو دفاعه هو أحد روائع أفلاطون عن سقراط، ليس من الواضح تمامًا ما إذا كان هذا هو نص كلمات سقراط في المحكمة الأثينية، ولكن نظرًا لأنه كتب مباشرة بعد الحكم، فقد أخذ أفلاطون نص كلمات سقراط في الاعتبار عند كتابته.
في هذا الكتاب ينكر سقراط أولاً المزاعم الواردة في لائحة اتهام المدعين: "سقراط خطيب ماهر ويخدع الناس. "يستكشف الدنيوي والسماوي ويبرر الظالمين". يبدأ سقراط دفاعه على النحو التالي: "أهل أثينا! لا أعرف ما هي ادعاءاتي وما هو التأثير الذي أحدثته. كانت أقوالهم خادعة وآسرة لدرجة أنني كنت على وشك أن أتأثر وننسى من أكون. كانت جرأة سقراط في مجادلة السفسطائيين جذابة للشباب. لقد رأوا كيف أصبح الأساتذة الذين يتقاضون مبالغ كبيرة من المال مقابل التدريس غير قادرين على مواجهة سقراط .كانت شخصية سقراط جذابة أيضًا. كان بسيطًا جدًا ولم ينتبه للثروة، وكل هذه الخصائص أثرت في جاذبية شخصيته.
فناء الجسد وخلود الفكرة
عرض اقريطون على سقراط الهروب من السجن لكنه رفض ولم تكن المسالة تتعلق بالمخاطرة اذا كان يكفي رشوة الحراس وحسن التخطيط لعملية الهروب المسالة في نظر سقراط اعمق من ذلك انها تتعلق بالقيم والمبادئ الأخلاقية فلايمكن للكثرة او الراي العام ان يتحول الى مشرع للقيمة الخلقية وديمقراطية الكثرة هي ديمقراطية الرعاع ثم ان الأهم هو الحياة الطيبة الخيرة ولذلك كان فناء الجسد ضروريا لخلود الروح ولايمكن الفصل بين الخير والجمال والعدل ومن هنا كان ارتكاب الظلم شرا وعارا حتى وان تمت الإساءة لنا يقول سقراط :" انني طيلة حياتي كلها، وليس اليوم فقط،لا اطيع شيئا اخر غير الحجة التي تبدو لي الأفضل بعد التأمل "
لقد قضى سقراط في السجن شهرًا بأكمله. وبحسب رواية اقريطون، لم يلحظ عليه تغيرًا، بالرغم من أن الأصفاد لا بُدَّ أن تكون قد آلمت ساقيه، كما أنه لم يعتد أن يُحْبَسَ عن ضوء السماء، وكان السجان رحيمًا به على قدر ما يستطيع في هذه الظروف، وعندما عاد سمياس من طيبة يحمل مبلغًا جسيمًا من المال، وقال صديقه سيبيز الذي صحبه كعادته: إنه كان يستطيع أن يحصل على أكثر من ذلك لو دعت إليه الحاجة، وكان هناك كثيرون آخرون متحمسون للمساعدة، و الأمر كان يتوقف كله على موافقة سقراط، وكنت من أصدقائه حينما كان سمياس وسيبيز لا يزالان طفلين في مهدهما، وكنت أعرفه حق المعرفة، وكنت أعرف أنه لا يخجل البتة من الموت ولا يخشاه إلا قليلًا، وقد تلقاه كضرب من ضروب المغامرة التي ليس منها مفر، ولن يقف الآن ويفر منه إلا إن استطعنا أن نبين له أنه من الخير له أن يفر.
واختاروني لكي أحدثه، وفي تلك الليلة وفدت إلى أثينا جماعة من السفينة المقدسة قادمة من رأس سوينم، وذكرت أن السفينة إنما تنتظر هدوء الريح كي تدور حول الرأس، وأنها سوف تصل في اليوم التالي، وسيلاقي سقراط بالطبع موته في اليوم الذي يليه.
وكان السجَّان صديقي كما ذكرت، وقد سمح لي بالدخول في وقتٍ مبكرٍ في صبيحة اليوم التالي، وكان لا بُدَّ أن يعرف بوجه عام ما كنت أرمي إليه، وتركني في الغرفة وحدي، وكان ذلك قبل بزوغ الفجر، وسقراط لا يزال نائمًا.
وجلست إلى جواره برهة أراقبه وهو نائم، وقد استلقى ساكنًا لا حراك به، ثم تيقظ من تلقاء ذاته، وتولى أمر نفسه توًّا، وسألني لماذا أتيت، وعن الوقت، ولماذا أذِنَ لي السجان بالدخول، ولماذا لم أوقظه فور وصولي، وعرف في اللحظة الأولى نبأ السفينة، ولم يكن إخطاره بالنبأ أمرًا سيئًا، إنما كنت أخشى النوع الآخر من السؤال.
لقد قص سقراط على اقريطون الحلم الذي رآه في تلك الليلة رؤية امرأة جميلة حسنة الهيئة مرتدية ملابس بيضاء تناديه ياسقراط ثلاثة أيام والى فيثيا الخصبة تأتي .، وقد فسر ذلك بأنه سيموت بعد غده ولن يموت في غده، ثم تنحَّى عن الجدل وجعل قوانين مدينتنا تتحدث — وعندئذٍ عرفت أني قد هزمت، ذكر لي ما تنص عليه القوانين لو لاذ بالفرار — قال: إنها قد عنيت به منذ ولادته، ولما شب وأدركها خضع لها كذلك، ولم يحاول قط أن يفرَّ منها إلى مدائن أخرى أحسن قانونًا، كيف يستطيع أن يهدمها الآن؟! ولو هدمها فكيف يستطيع أن يتكلم عن الخير بعد ذلك؟
وألفينا سقراط على فراشه وسلاسله مفكوكة، وزانثب تجلس إلى جواره تحمل رضيعها، وقد لازمته طوال الليل، ولكنها بدأت الآن تبكي لما ذكرت أن ذلك اليوم كان آخر أيامه، وطلب إليَّ سقراط أن أبعث بأحد رجالي معها إلى البيت.
وحدث في الختام كذلك أمر لن أنساه، فقد أخذ يقص علينا قصة مؤداها أن العدالة والطهارة التدريجية قد تدركانه وتدركان كلًّا منا بعد الموت، ولم يستطع أن يلحَّ في تفصيل ذلك، ولكنه قال: إنها مخاطرة حسنة، وإنه يجب علينا أن نتشجع وأن نرعى أرواحنا خير رعاية، فنحليها بجمالها الخاص بها، من انسجام
فجالسنا بعض الوقت، لا يتكلم كثيرًا، حتى جاء السجان ليقول إن الوقت قد حان، ويستأذنه في هذا، ويبكي وينعته بأنبل وأرق وخير إنسان أتى إلى ذلك المكان، وتحدث إليه سقراط في رفق.
وذكرت لسقراط آنئذٍ أن الشمس ما برحت فوق الجبال، وأنه ليس بحاجة إلى تناول السم بعد، وكنت أخشى الحديث، ولكنه لم يخش شيئًا، وطلب إليَّ أن أصدر أمري؛ ولذا فقد جاء الرجل بالكأس.
ولم أستطع أن أحتمل المشهد بعد ذلك، فنهضت وسِرْتُ إلى الجانب الآخر من الغرفة، لكي أبكي هناك، وجاء معي فيدو الصبي، أما أبولودورس الذي بكى قليلًا طوال النهار فقد أطلق صرخة كادت أن تحطمنا جميعًا كل التحطيم، لولا أن سقراط قد أوقفها.
وقال في ثبات: «ما هذا الأمر العجيب الذي تفعلون؟! لقد كان ذلك سببًا من الأسباب الكبرى التي حفزتني إلى إبعاد النساء؛ كي لا يقعن في هذا الخطأ، لقد سمعت أن الرجل ينبغي أن يموت في صمت، فالزموا السكون وتمسكوا بالصبر.”
فانتابنا الخجل واستطعنا أن نكفَّ عن ذرف الدموع، ومشى سقراط إلى الخارج برهة طبقًا لما أمر به، ثم استلقى على السرير، وبعد برهة أزال الغطاء عن وجهه — وكانوا قد ألقوه فوقه — وقال — وكان ذلك آخر ما قال: «نحن مدينون يا أقريطون لإله الشفاء بديك، فهلا قدَّمته؟ لا تنس ذلك.”
وضحيت بالديك في اليوم التالي، وسوف يدرك إله الشفاء أي خير قصد من وراء ذلك سقراط، ودفنَّا جثته، وأظن أن سقراط نفسه لم يكن هناك، وأظن أن الخاتمة كانت خيرًا على أية صورة بات سقراط.
الخلاصة
أرسطو ديموس يقولون انه صاغ جملة عظيمة: " الإنسان ثروة "، ولا يوجد رجل فقير محترم ونبيل" . أو على حد تعبير هسيود: "يتبع الثروة نتوء صخري في جبل وهيبة" لكن العلاقة بين الغنى والفقر والسعادة مسألة لا تبدو بهذه البساطة في محنة سقراط لقد رفض أن يدفع له المال،فسقراط لا يتلقى المال ولن يدفع المال كرشوة، لقد رفض سقراط صراحة إطاعة أثينا التي من شأنها أن تمنعه من التفلسف، لكنه اطاع القيم الأخلاقية لقد ادرك ان العصيان معناه نهاية المدينة والعبث بالقيم الأخلاقية معناه نهاية الفلسفة. لذلك قرر أن يشرب الكأس المسمومة ويطيع القوانين التي تمنعه من التفلسف .
علي عمرون
الدكتور حلمي القاعود وأدعياء التنوير في مصر
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. أبو الخير الناصري
الدكتور حلمي محمد القاعود علم متميز من أعلام الأدب والفكر في الثقافة العربية المعاصرة، يعرف علمَه وفضلَه وتميزَه قراءُ أعماله العديدة المفيدة التي جاوزت سبعين كتابا في القصة، والرواية، والسيرة، والنقد، والدراسة الأدبية، والمقالة الفكرية والسياسية وغيرها من فنون القول وأنماط الكتابة والتعبير.
قُدّر لي أن أقرأ عددا من كتبه، فوجدتها تنطوي – إلى جانب قيمتها العلمية والأدبية – على قيم أخلاقية رفيعة من أهمها الصدق، والإخلاص لصوت الضمير، وإعلانُ الرأي صريحا في غير تقية ولا مراوغة. وتلك فضائلُ لا تصدر إلا عن الصادقين الذين لا تحركهم الأطماع الشخصية والأهواء المقيتة.
ومن السمات البارزة في مُنجَز الدكتور حلمي اعتزازُه بدينه، ودفاعُه عنه في كتاباته وأحاديثه وحواراته، وهذا ملمح تنطق به عناوينُ كثيرٍ من مؤلفاته في البلاغة والنقد والسياسة والفكر: "الأدب الإسلامي: الفكرة والتطبيق"، "محمد صلى الله عليه وسلم في الشعر العربي الحديث"، المدخل إلى البلاغة القرآنية"، "المدخل إلى البلاغة النبوية"، "القصائد الإسلامية الطوال في العصر الحديث: دراسة ونصوص"، "الواقعية الإسلامية في روايات نجيب الكيلاني"، "الرواية الإسلامية المعاصرة"، "العمامة والثقافة: دفاع الإسلام وهجوم العلمانية"، "التنوير: رؤية إسلامية"، "تحرير الإسلام"، "دفاعا عن الإسلام والحرية"، "مسلمون لا نخجل"...
ومن مميزاته في كتاباته انتصارُه للمظلومين في الساحة الثقافية العربية، وذَوْدُه عن المهمشين من الذين لم ينتموا إلى "قبيلة" تُناصرهم، ولم ينخرطوا في جماعة أو اتحاد أو رابطة تمدحهم ويُدبج أعضاؤها مقالات ودراسات في الثناء على أعمالهم ولو كانت خواءً أو كالخواء.
وحَسْبُك كتاباه "أعلام في الظل: رجال نبلاء"، و"المآذن العالية: رجال من ذهب"، لتقف على ما تنطوي عليه نفسُه من نبل، وشهامة، وانتصار للمظلومين والمهمشين، وترفّعٍ عن السير في المسالك التي يتهافت عليها طُلاب الشهرة، والمناصب، والدراهم ونحوها من المطالب التي أذلّتْ أعناق كثير من الرجال.
- 2 –
فاز الدكتور حلمي القاعود، منذ أشهر، بجائزة التميز في النقد الأدبي بمصر للموسم 2020/ 2021م، ووصفه اتحادُ الكتاب المصريين في قرار التتويج بأنه "من القامات المهمة في الأدب العربي الحديث، وأحد الرواد الذين أثروا الحياة الأدبية والفكرية".
لكن أدعياء التنوير والديمقراطية في مصر جُنَّ جنونُهم لفوز الرجل، وأطلقوا ألسنة السوء:
قال واحد من أشهرهم داخل مصر وخارجها "إن اتحاد الكتاب بهذا الاختيار يُشجع الاتجاهات الإرهابية في الأدب".
ودعا ثانٍ إلى قراءة "الفاتحة على روح الاتحاد".
وتساءل ثالثٌ مستنكرا: "هل تحول اتحاد الكتاب إلى مكتب الإرشاد؟".
ووصف رابعٌ فوز الدكتور حلمي بـ"السَّقطة الكبرى لاتحاد كتاب مصر".
وقال خامسٌ "إنني أرى أن هذه فضيحة".
وقال سادسٌ "كنا ننتظر أن يعتذر اتحاد كتاب مصر ويُعلن سَحْبَ جائزة التميز من حلمي القاعود".
وقال آخرون مثل قولهم. تشابهت أقوالهم وقلوبُهم، وكتبوا في محاولة تسويغ ما قالوا إن المُتوَّجَ إخوانيّ، وإنه يكتب في جرائد الإخوان ومجلاتهم ومواقعهم الرقمية، وإنه دائمُ الانتقاد لسياسات الدولة ومؤسساتها على عهد الفريق عبد الفتاح السيسي..وإنه لذلك ولِمِثْلِه لا يستحق هذه الجائزة.
ولو أن هؤلاء الكتابَ والشعراء سكتوا لكان خيرا لهم، ذلك لأن كلامهم كشف عقولا غَشِيَها الظلامُ، وحيل بينها وبين النور - بَلْهَ التنوير – فإذا بهم يستدلون بمقالاتٍ في السياسة على عدم استحقاق جائزة في النقد الأدبي !!
لقد كان جديراً بهؤلاء الغاضبين – لو حَسُنتْ مقاصدُهم وصدَقت غيرتُهم على الثقافة والنزاهة – أن يُوازنوا بين كتب د.حلمي في النقد الأدبي وبين كتب غيره من الذين رُشحوا لهذه الجائزة ولم ينالوها - إنْ وُجد مرشحون آخرون – وأن يبرهنوا بأدلة العلم ومعايير النقد الأدبي على أن غيرَه أحقُّ بها منه. وأنّى لهم أن يُقبلوا على قراءة المنجز النقدي للقاعود؟ وأنّى لهم أن يبتغوا العِلْمية والموضوعية وقلوبُهم تَغلي كالمِرْجَل حقداً على رجُل دائم النُّصرة لقضية عادلة هي شرعية حكم الرئيس السابق لمصر الدكتور محمد مرسي رحمه الله تعالى؟
إن الاستدلال بمقالاتٍ في السياسة على عدم استحقاق جائزة في النقد الأدبي دليلٌ صريح على تحامُل المستدلين، وتهافتهم، وبُعدهم عن التنوير وعن العدل والموضوعية في الحكم والتقويم.
كما أن هذا الموقف دليلٌ على أن أصحابه ليس لهم من الديمقراطية سوى الادعاء وانتحال الصفة، ولو أنهم صدقوا في ديمقراطيتهم لما اعترضوا على فوز مَنْ صَوّتَ لصالحه أغلب أعضاء المجلس والأعضاء كما صرّح بذلك الشاعر مختار عيسى نائب رئيس اتحاد كتاب مصر. لكنّ رفضَ الديمقراطية ليس بغريب على من فرحوا بانقلاب جنرال دموي على رئيس مدني منتخَب انتخابا حرا نزيها، فلقد أثبتوا يومئذ – مثلما يثبتون اليوم – أن الحقدَ عندهم مُقدَّم على الديمقراطية، وأنّ الحداثةَ والتنويرَ والإيمانَ بالاختلاف في كتاباتهم وخطاباتهم ليستْ سوى شعارات جوفاء تلوكها ألسنتُهم وأفئدتهم هواء.
- 3 –
ذلك، ومن المعلوم أن ليست هذه أول مرة يفوز فيها د. حلمي القاعود بجائزة داخل بلده، فقد نال جائزة المجمع اللغوي بالقاهرة في العام 1968م، ونال جائزة المجلس الأعلى للثقافة في العام 1974م.
وإنما أثار فوزُه بجائزة التميز في النقد الأدبي غضب الغاضبين لأنه صادقٌ في معارضة الانقلاب العسكري الذي به يفرحون وله يُطبلون، وصريحٌ في دفاعه عن الشرعية التي هم لها كارهون، وقويٌّ في نقد واقع الاستبداد والحكم العسكري الذي عن ظلمه يسكتون.
وإنّ من عجائب الأقدار أن يصدر للدكتور حلمي في العام 2004م كتاب عنوانه "الإسلام في مواجهة الاستئصال"، ثم يجد نفسَه، بعد أعوام، في مواجهة الاستئصاليين الذين يُمعنون، بهذه المواجهة، في الإساءة إلى أنفسهم وإلى تاريخ مصر التي أحببناها علما وفكرا وأدبا وتنويرا حقيقيا.
هنيئا للدكتور حلمي محمد القاعود فوزَه بالجائزة، وبارك الله له في صحته وعمره وعطائه المستنير، وجزاه سبحانه عن وطنه وأمته خير الجزاء.
أبو الخير الناصري
فوانيس عتيقة.. قصائد تجمع بين الفائدة والمتعة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: قاسم ماضي
للشاعر جاسم العلي
يبقى الحب قائما ًلدى الشعراء والأدباء حتى تناقلوه من جيل إلى آخر عبر قصائدهم التي ظلت عالقة في أذهان الكثير من محبي الشعر، وهو ركيزتهم الأساسية الحياتية التي أكدت وجودهم الإنساني والمعرفي بين التجمعات التي عاشوا بينها وانحدروا منها، وهنا نقول فموضوعة الحب التي إنطلق منها "العلي" لم تكن حكرا على عمر بن أبي ربيعة أو وجميل بثينة أو نزار قباني وغيرهم .
كيف؟
أحتويك عصفورة
في الروحِ لا تغادرني
يا رجفة أبدية تلامس عظامي
حد النخاع ص58 .
ويبقى تناوله من خلال قصائده حيث يمكن للقصيدة الواحدة أن تتناول أكثر من موضوع واحد وهذا ما وجدته في ديوان الشاعر "العلي" وثيمة " الحب" التي كررها لعدة مرات وجدتها في هذا الديوان، وهو يسير على طريقة من سبقوه ومهدوا له أو غيره من الشعراء، لأن أغلب من سبقوه راكموا نتاجهم و ترجموا شعرهم بقضايا مهمة ملاصقة لهموم الناس ومن المهم أن يكون الشاعر صاحب قضية، فالشاعر "العلي" أراد التعبير عن ذاته المتميزة و الطافحة بهذا الحب في كل ما نظمه من قصائد في هذا الديوان الذي سماه " فوانيس عتيقة " وهو من القطع المتوسط وصدرعن دار نشر مؤسسة ثائر العصامي -بغداد ويقع في 75 صفحة من القطع المتوسط،فقصائده التي كتبها ظلت شذرات موحية في باله وما يشده دائما إلى همه الأساسي،فالشاعر مؤثر في وسطه عبر قصيدته من أجل التأثير على واقعه المزدحم باليومي، وهو يختلف عن الكثير من الذين انتموا إلى ايدلوجيات شكلت عبئاً كبيرا ًعلى سجلهم الشعري وأدختلهم في قائمة الإبتعاد عن المواثيق الأدبية والإنسانية .
فتعالي أقبلك وسط الركام
وسط الزحام
على كومة رماد لوحشة حرب ص61 .
وانطلاقا من فلسفتهم العميقة والمتجذرة التي أكدوها في كتبهم والتي أصدروها عبر الأزمان والعصور،والتي جعلت الشاعر "العلي" ملتزما ً بكينونته والتعبير عنها عبر تطلعاته تجاه العالم بأسره وهذا ماتشهده قصائده لنا، وهو يرسم عبر عاطفته وحالته الوجدانية التي يعكسها الشاعر، وهو بهذا يتدفق في وجدان القارئ بيسر وسهولة، ولو كان هناك ماكنة اعلامية تسّوقه إلى القارئ كما غيره من الذين سبقوه أو عاصروه، وكما قيل سابقاً " ومن الحب ما قتل " لهذا كان الحب وما يزال مغروسا في فلسفة الكثير من المبدعين الذين تواصل معهم " العلي " وسار على طريقهم رغم الكثير من المنغصات الحياتية التي لاحقتهم في حياتهم وهو واحد منهم، هذا العوز، والفقر، والاضطهاد، والظلم،لكنهم استطاعوا بروح الدعابة أو التأمل يكونوا مصدر إلهام لكثير من المبدعين .
يقول " ابن عربي " أدين بدين الحب أني توجهت ركائبه، فالحب ديني وإيماني "
فكانت القصائد القصيرة التي كتبها "العلي" في هذا الديوان الشائك والذي يحمل عدة معان وإيحاءات، تسير وفق فلسفة بلاغية تهفو لقلة اللفظ من حيث إتساع المعنى "الدلالة" وفيها الإشارة والإلماحة والرمز.يقول
صرت ُ
أبحث ُ عن قبلة آدم
والأهواء
ريثما يدنو ريح التثاؤب
يحملُها بتأن
إلى ضفة نائمة تتكور للعبور ص67 .
ولو افترضنا أن الشعراء غيروا مسارهم الفكري والفلسفي واتجهوا إلى البغض والكره ! فماذا نريد أن نقول عنهم، وأين نضعهم، وفي أي خانة، وتلك هي الطامة الكبرى هل نسير وراءهم ونحفظ ما يكتبون من قصائد تحرك فينا الكثير من مشاعر البغض والكره،مما يفسد كينونة هذا الشاعر أو ذاك، أذن لابد للشاعر من نص يحسم فيه رؤيته للذات وعلاقاتها مع الآخرين .
أنا المتوزع دوماً
بين موتي
وحبي
وارتجافي ص58 .
فهو بالتالي وأقصد الشاعر " العلي" فهو شريك عام، يرسم لنا العديد من الخطوط في حياتنا التي هي " الكل يبحث عن نصفه " حيث جسد فلسفته كما صاغها الأوائل هي " محبة الحكمة " ولهذا جاءت الكثير من قصائده تنطوي على الحب في ثناياها، وهذا ما أراد قوله " وإن تكون في حالة حب يعني أنك في حالة تأمل التفكير" وهنا يقصد وهو يسبر أغوار قصائده التي لامست كينوته ذهنيا وهو يروم إخراجها إلى العلن بقوله " نحن متحررون من أي استلاب " ليضع إلينا أحكاما جدلية لها قوانينها التي رسمها عبر قصائده اللاذاعة لهذا الكم الهائل من البشر . يقول
أنغام المطر
على زجاج الشباك
ربما هي تلك
تفاصيل القصيدة ص64 .
و"العلي" يقتنص الجوهر والتقاط فكرته المكتنزة التي تحوي الحكمة، وتظهر في قصائده جودة الحبك وإتقان الصنعة، والصورة البكر، ولا يفوتنا أن الإيقاع المتناغم الذي استخدمه الشاعر "العلي" في الكثير من القصائد لدليل وعيه الذي رسمه في كتابة قصيدته التي إنطلق منها، والذي يتابع هذا الشاعر يجد الكثافة الموحية والمعنى الذهني في لمحة واحدة .فالكثافة الشعورية والجمالية في هذه القصائد القصار هي ما يميزها لعناصر النص الشعري الذي إنطلق منها، ولهذا نقول هكذا قصائد تجمع بين الفائدة والمتعة وهما أساسيان في العملية الإبداعية،
على زهرة ٍ ترقد ُ
فوق الطاولة
أيهما يوقظ ُ عطرها
في الفضاء ؟!ص14 .
يقول عنه الناقد "يوسف عبود جويعد" بالرغم من وجود قصائد قصيرة ولكن لها أكثر من وجه وأكثر من زاوية نظر، ويمكن للمقطع أن يمنحنا وحدة موضوع لوحده، وللقصيدة وحدة موضوعها، وسوف نكتشف من خلال متابعتنا لهذه المجموعة " ولهذا كانت له إلتقطات يومية مفعمة بالحب يلتقطها الخيال بيراعة فائقة ويعقد أواصر وثيقة ومنطقية تهز القارئ و بغرابتها وما فيها من عنصر مفاجأة .يقول
الزوال يأتي سريعا ً
غارقاً بالمعنى
وبشكل الوردة ِص 17
***
قاسم ماضي - ديترويت .
ماذا يحمل غد عين الشمس الحمئة؟
- التفاصيل
- كتب بواسطة: محسن الأكرمين
أيتها الشمس أُغربي وسنرى ماذا قد يحمله الغد من متغيرات؟ أُغربي لزاما من اليوم إلى الغد، و نكشف هل الغد سيحمل شمسا مشرقة أم رذاذ مطر غيمة؟ من صبح هذا اليوم قررت بألاّ أبحث عن منطقة الغروب، وألاّ أحكي عن جمالية شمس المغيب. قررت الصمت في منتهى مغيب العين الحمئة من مرقد الشمس. من الغد الغائب لن أفسد إيماني وأتصور أن الشمس على ضخامتها تنغمر انغماسا مثل كرة النار في ماء العين الحمئة، لكني اليوم أحكي لكم أن ذا القرنين توقف عند منتهى حد العين الحمئة واكتفى برؤية الشمس تمتد في نزول غروبها خلف تلك العين سقوطا عن نظرة الناظر المنتظر.
من بكرة الغد سأنظر إلى متسع سماء بدايات الغسق، وانتظار شروق كل فجر صبح بهي، وأصف لكم شمسي الناهضة بعد القيام من العين الحمئة منتشية.، أحكي لكم أن شمس لن ولا تغوص في غفوة نومها بالغطس في الماء البارد، ولم تكن يوما في كبد السماء مريضة بحمى ارتعاد البرد تنتظر لقاح التطعيم. أحكي لكم عن حلم الحياة بين مطر الغيمة الرخو وشمس الصفرة المائلة بالدفء.
قبل الغد تعلمت من الشمس ألاّ أمارس الدوران في حياة البحث عن مستوى الظل. تعلمت الثبات في موضعي منتصب القامة، والبقاء وفيا لنقط انطلاقة البسمة وحلم المستقبل. تعلمت من الغيمة أنها لا تحترم قوة الشمس ومرارات متكررة تمارسها سلطة ثورتها وتحجب خيوط نورها عن الأرض عنوة. تعلمت من تحول الغيمة الممطرة تشبيها لتك العيون التي كانت تبكي على صدري مطرا حارقا. تعلمت من أشعة الظل المتموجة بالتقطيع، أن ظلي مرات عديدة لا يساويني قياما، ولا حتى طولا في تفكير الواقع.
كم أنت أيتها الشمس المفزعة بالانفجار الكوني بئيسة القوة !!! حين لا أراك مشاهدة بينة بشد العينين، كم أنت ضعيفة لمرات عديدة ومتكررة حين تحول بيننا غيمة منخفضة ضعيفة التكاثف تبكي ماء على الأرض للإنبات. كم أنت أيتها الأرض الراضية المرضية تتحملين قسوة شمس الصحراء بلا مناجاة ولا اعتراض، ولا تمارسين الاستمطار الصناعي ولا الدعائي. كم أنت أيتها الأرض البريئة قد تعلمنا منك دفن الحياة من غراب قابيل وهابيل بعد القتل، كم أنت أيتها الأرض الآمنة كنت عطوفة حين سكن مروجك آدم وحواء بعد الخطيئة الكبرى. كم كانت غيمة السماء مورقة أرضا بالاخضرار، ومتعسفة بحجب نجم الشمس كرها. كم أنت أيتها الأرض تحبين التسامح والتوافق وتنظرين للشمس أنها هي من أنشأ الغيمة الممطرة بالرذاذ الضعيف، وتتجاوزين ممارستها للجفاف حين تصوب أشعتها نحوك بالموت، وحين "تبكي الشجرات، وبكى النرجس في الساحات".
أيتها الشمس أُغربي ونرى ماذا قد يحمله الغد؟ فمن حرارتك تقرع أجراس "النهر المنسي في الأحلام". منك علّمتنا النملة درس الصبر وتكرار محاولات التصويب و ربح نجاحات الحروب و السلم. منك تعلمنا أن الغيمة تمر لزاما بقرب بلادي ومدينتي، و ممكن أن تترك لنا دمعات بخاخ مطر رقيق من البكاء. تعلمنا منك أن البذرة حين تموت في تراب الدفن تنبت زهرة شجرة برية لا شرقية ولا غربية، لكنها تسر الناظر وردا ودما عند القطف.
محسن الأكرمين
شذرات فلسفية تحليل نقدي
- التفاصيل
- كتب بواسطة: علي محمد اليوسف
(1) دائما يقودنا تهويل أمور لا معنى لها زرع خرافات زائفة باذهاننا.فلسفة اللغة التفكيكية هي تجريد فارغ المحتوى ومبحث فلسفي خال من أية مسألة جديرة بالبحث الفلسفي،لأنها تقوم على تقويض النص والمعنى في عملية تشتيت ذهني وتفكيك نص وخطاب اللغة بلا جدوى وركيزته المحورية الإستراتيجية لا شيء خارج النص من حيث هو تفكيك تجريدي لغوي مقطوع الصلة نهائيا عن الانسان والحياة في حالة دائمية من الهدم والتقويض اللانهائي لخطاب اللغة في موازاة نمط الحياة في عدم المداخلة الجدلية معه. كما أن الفلسفة البنيوية حسب جياني فاتيمو تضع في أسبقية إهتماماتها بنية اللغة (النص) فقط بما هو نص مكتوب مدوّن، ولا أهمية عندها للمتلقي ولا تعير إهتماما للمستقبل الانساني. ألتفكيكية إستراتيج قائم على اللغة كنسق تجريدي لا يمكن تفسيره بمنطق سيرورة الواقع بل في مثالية عملية الهدم والتفكيك على صعيد اللغة فقط وليس خارجها.وأمام هذا الإفلاس الفلسفي في التفكيكية وفي الهورمنطيقا الى حد ما يذهب جورج مور قائلا: (أن التحليل الفلسفي للغة ليس هدفا في ذاته، بقدر ما هو وسيلة لتوضيح أفكارنا وتصوراتنا وقضايانا، والنظرية الفلسفية تقاس قيمتها بقدر إتساقها مع معتقدات الرجل العادي، فاذا جاءت النظرية متنافرة مع هذه المعتقدات حكمنا عليها بالإفلاس.) "نقلا عن ابراهيم طلبة سلكها".وفي تعميق نفس المنحى ذهب فنجشتين أنه (يتوّجب على الفلاسفة العودة الى اللغة العادية والإستخدام المألوف لها). بعيدا عن تفكيك نحوي وبلاغي في اللغة كمبحث لغوي نصّي تجريدي يخّص قضايا الأدب بما هو تجنيس أدبي لغوي وليس بما هومبحث تحليلي منتج في أثراء مباحث الفلسفة بنقد تاريخ الفلسفة لغويا وتاريخ الفلسفة يصفه فينجشتين أنه تاريخ نقد معنى اللغة.
(2)
الحياة ليست خطأ وخطيئة يتحمّلها وجود الانسان رغما عنه وحسب، بل الخطأ الأهم أن يعيشها الانسان مرغما يائسا بإنتظار حتمية فنائه بالموت. وفهم سارتر الوجود الإنساني بفلسفته أنه خواء مطلق مجرد من كل قيمة حقيقية، ويلازم العدم أي الموت الفاني الوجود الانساني كدودة داخل وجوده تعمل على تقويضه والتعجيل بفنائه. إن خلع صفة التشاؤم الفلسفي الذي يعدم سعادة الحياة وبهرجها تخريج ميتافيزيقي لا يغيّر من حقائق الوجود الإنساني الذي لا معنى فيه أن يعيش دورة حياته ويفنى،وأن الانسان عليه أن يعيش الحياة قدره الذي لا إرادة له فيها بكل غبطة وإنتشاء لا واقعي، لا يعدو حقيقته أنه كلام لا يلبث الانسان أن يصطدم بجدار حقيقة وجوده الخاطيء بالحياة الذي لا إرادة له به في صناعة بؤسه الأرضي.
(3)
ثبات الاشياء وموجودات الطبيعة نسبي مكانا وزمانا على الدوام وليس كما ذهب له كانط أن ثبات الاشياءهو السّمة اليقينية المستمّدة من إدراكنا لها بثبات كل من الزمان والمكان في أسبقيتهما على الوجود، وبخلاف كانط أن ثبات الزمان في إدراكه ثبات الأشياء الموهوم في وجودها الظاهري الحسّي أنما هو أي الزمان يدخل في علاقة جدلية في تغييره الاشياء دون أن يتغير، كما أنه يساعد العقل على الإدراك من دون أن يدرك هو بذاته ما هو، بل كل مانعرفه عن الزمان أنه حدس دلالي نتلمسه في ظواهر نتائجه في الإستدلال على وجود الأشياء بعد تخليق العقل لها وليس في إختراع وجودها.
(4)
إدراك وجود الاشياء في العالم الخارجي مكانيا – زمانيا، أنما هو في حقيقته ادراك زماني واحد فقط، فلا يمكننا أدراك الشيء مكانا من غير زمن لكننا نستطيع إدراك الاشياء زمانا من غير وجود مكاني متعيّن لها، فنحن ندرك الاشياء زمنيا في تفكيرنا الخيالي الذهني لموضوعات تستحدثها الذاكرة مادة لتفكير العقل لا وجود مكاني واقعي لها،وهي أي موضوعات الخيال ليست محددة وجودا مكانا في العالم الخارجي لكننا نحدسها من خلال تناول التفكير بها زمانيا.
(5)
الديالكتيك في المادية التاريخية قانون يحكم المادة والتاريخ والطبيعة، لكنه ليس حتميّة غائيّة في تحديد المراحل التاريخية التي يصلها ماركسيا بالضرورة. فالديالكتيك الذي يحكم المادة والوجود والتاريخ يشتغل على مسارات تحكم المادة وكل ظواهر الحياة بما لا حصر له، والتاريخ ومساره التطوري أحداها، فالديالكتيك قانون يعمل في الطبيعة مستقلا عن الانسان ورغائبه، وليس قانونا وضعيا من أجل الفلسفة أو تفسير تطور التاريخ مراحليا، فقد يعمل الديالكتيك في بلورة معطيات جديدة في الوجود والحياة ليس التاريخ من ضمنها كمرتكز محوري كما في المادية التاريخية، وأخيرا الديالكتيك ليس قانونا وضعيا أوجده فلاسفة مثل هيجل وفيورباخ وماركس وانما هو قانون يعمل في مجاله الطبيعة بمجملها قبل وبعد إكتشافه فلسفيا. من ألمهم معرفة جدلية تناقض الأضداد إنما يكون حدوثها داخل الأشياء والظواهر المتجانسة نوعيا وليس داخل علاقة ترابطية مفتعلة أن التضاد الجدلي يحدث بين أشياء وظواهر لا تجمعها المجانسة النوعية. بمعنى تبسيطي مخّل لا يوجد جدل مادي بين شجرة وإنسان.
(6)
الحواس تدرك وجود الاشياء في العالم الخارجي صوريا بالفكر، وليس صوريا باللغة قبل الفكر، وإدراك الشيء بالفكر لا يشبه تعبير اللغة خارجيا عنه، واللغة في تعبيرها عن وجود الاشياء تكون أولويتها سابقة على الفكر، فإدراك الاشياء بالفكرذهنيا هو أدراك صامت، والصمت لغة حوارية كامنة بالذهن غير مفصح عنها بالكلام أو الكتابة، في حين يكون تعبير اللغة عن الاشياء في وجودها الخارجي (صائتا) سواء أكان ذلك كلاما شفاهيا أو تعبيرا لغويا مكتوبا.
ويسبق الفكر الصامت في الذهن إدراكنا الاشياء والتعبير اللغوي عنها داخل العقل وليس خارج العقل، وأولوية التفكير العقلي في الذهن يسبق تعبير اللغة عن الموجودات خارجيا، على العكس من أن اللغة تسبق الفكر في التفكير خارج العقل فقط وليس داخله، اللغة تعبير والفكر محتوى، وجود الاشياء في العالم الخارجي تكون فيه الأولوية للتعبير عنه باللغة التي تعّبر عن الاشياء كناتج تخليق عقلي فكري لها.
صمت الفكر في إدراكه العقلي لوجود الاشياء وأن كان يلتقي مع صمت اللغة في حالتي الإدراك العقلي ذهنيا، وفي إلتقائهما في الإفصاح اللغوي – الفكري التعبيري عن وجود الاشياء، لكنما يبقى إدراك الفكر للشيء لا يطابق ولا يشابه تعبير اللغة عنه.وبذا لا يستطيع الفكر الذي هو نتاج عقلي كما هي اللغة أيضا، أن يتطابق مع اللغة في الإفصاح عن المعنى، ويبقى الفكر متخّلفا عن اللغة في عجزه أيجاد حقيقته الوجودية في منافسة اللغة له في التعبير عن الموجودات والأشياء. وتبقى عبقرية اللغة سابقة على تخليق الفكر العقلي في محاولته التعبير عن الوجود بملازمته اللغة أو بمفارقته لها كما في حال إنشغال الفكر في حدسه وتنظيمه إدراك ما تفرضه الذاكرة التخييلية من موضوعات مستمّدة خياليا من الذاكرة ولا علاقة للحواس في أي دور بنقل مواضيع الخيال الى العقل، فالمدركات الحسّية وظيفتها هي فقط نقل معطيات وجود الاشياء في ظواهرها بالعالم الخارجي وليس مواضيع الخيال التي مصدرها العقلي الادراكي لها هو الذاكرة فقط.
وبهذه الحالة تتراجع اللغة المنطوقة أو المكتوبة الى مراتب متأخرة أمام فاعلية العقل والفكر معالجتهما مواضيع الخيال في الذهن. وتكتسب اللغة أهميتها المتمايزة عن الفكر في التعبير عن تخليق العقل لمواضيع الخيال أمّا في محتوى وشكل لغة أدبية أو فنية أو جمالية حال خروج اللغة عن وصاية العقل عليها داخل الذهن المفكّر، وتنتهي وصاية العقل على الفكر واللغة بعد تعبيرهما عن الاشياء في العالم الخارجي.لأن اللغة والفكر يصبحان جزءا متداخلا متموضعا مع وجود الاشياء في التعبير عنها خارجيا، بعد أن كانا(الفكر واللغة) جزءا من التفكير داخل العقل بفكر ولغة صامتين.
(7)
يفهم كانط الزمان والمكان معطيان قبليان فطريان في العقل سابقان على وجود الاشياء وهما وسيلتا إدراك تلك الاشياء، ومن دون هذا الإفتراض لا يمكن للعقل والذات إدراك الاشياء في وجودها الخارجي، وجواهر وظواهر الاشياء لا تدرك من غير ثباتها في تجانسها مع ثبات الزمان والمكان في الذهن، كما أن ثبات الاشياء يتناسب طرديا توافقيا إدراكيا مع الزمان في ثباته، وبهذا يكون كانط أعفى العقل من مهمة إثباته ماهيّات وجواهر الاشياء في وجودها بذاتها أو حتى في ظاهرياتها المتغيرة على الدوام وبإستمرار، وأعطى الثبات المكاني والإدراك الزماني المجانس لثبات الاشياء مكانيا أولوية على العقل.وفي هذا التناقض يصبح عدم إعتراف الفلسفات المثالية بالعقل والوجود خارج إدراك الفكر مقبولا دوغمائيا في المثالية، علما أن الفكر هو نتاج عقلي وليس نتاجا مكتسبا في أدراكه وتفسيره للاشياء وفي هذا مأزق الفلسفة المثالية إنكارها وجود العقل في تاكيدها على الفكر الذي هونتاج لصيق بالعقل. ونجد من ألمهم التنبيه أن العقل لا يفرز الأفكاروظائفيا، لكنه هو منتج الأفكار في عملية تخارج التفكير العقلي مع وجود الاشياء، وليس هناك من فكر لا يسبقه وجود أو موضوع.
(8)
رغم وجودية كيركارد التي أصبحت مادية لاحقا على أيدي هيدجر وسارتر، إلا أنه يذهب نحو مثالية لا تختلف عن المثالية التي يذهب لها فلاسفتها جميعا أنه لا وجود للاشياء ولا العالم الخارجي إلا في الوجود الصوري الإدراكي لها في الفكر فقط لا غير، وأن النسق الفلسفي يحتوي ويقرر ماهيات الاشياء والوجود من خلال الفكر المنطقي المجرّد، وذهب كيركارد نحو وجود غير مادي وغير ميتافيزيقي أيضا بالتبشير بعالم الوجدانات والاخلاق والعواطف الايمانية، معتبرا أن الوجود الانساني تابعا للنسق الفلسفي لا خالقا لوجوده من خلاله. وفي هذا يخرج كيركارد عن وجوديته المادية في إستبدالها بوجودية إيمانية دينية صوفية مثالية.
الحقيقة الفلسفية هي محاولة إستدلالية دائمية في ملاحقة تطابق ما في الإذهان مع وجودها الإفتراضي الدائم في المطلق الفلسفي، كما أن الذات ليس بمقدورها تخليق وجود الاشياء بالتفكير الذهني المجرد بها، وحقائق الفكر الفلسفي الإفتراضية غير المتعّينة إلا بوسائل الإستدلال عليها، تبقى محتفظة بصفتها أنها صيرورة تطورية دائمية في مباحث الفلسفة. الاشياء المادية في العالم الخارجي الواقعي هي مبعث الادراك والفكر والاحساسات، لكن هذه الحلقات داخل منظومة العقل الادراكية ولا حتى العقل نفسه لا يستطيعوا خلق مادة أو متعيّن موجود واقعيا.
(9)
ذهب تطرّف براتراند رسل ومعه جورج مور ووايتهيد نوعا ما، فيما أطلقوا عليه الواقعية التحليلية الجديدة الانجليزية حصرا، في إعلائهم شأن معطيات ومدركات الحواس أهمية كبيرة وصلت براسل إعتباره تلك المعطيات الحسّية هي العقل بمعناه التجريبي العلمي، وليس اللوغوس بمعناه الفلسفي الذي هو نتاج المعرفة بمختلف مباحثها وألوانها.
وأعتبررسل تكوين العقل العلمي يقوم على أولوية معطيات الحواس بخلاف أن المعرفة الفلسفية لا تنتج لنا سوى مناهج ونظريات في التفكير الذي لا يقود الوصول الى عقل تجريبي علمي.أنه من الواضح أن راسل أراد أن تكون الفلسفة علما تجريبيا يقودها العلم ولا تقوده هي.
في نفس المنحى الذي أشرنا له في الفقرة السابقة نجد أن ديفيد هيوم ذهب نحو علم النفس معتبرا أن ليس هناك معرفة مباشرة (للأنا)، بالمعنى الفلسفي الذي نفهمه أنه وعي الذات، وأنما الموجود هو النفس البشرية وليس الذات التي يشكك هيوم بوجودها، معتبرا النفس هي (حزمة من الافكار) المستمدة من معطيات الحواس، وقام بتطوير فكرته هذه في كتابه (تحليل العقل) الذي لم يكتف به نكرانه الذات الإنسانية بل ذهب أبعد من ذلك قوله (لا يوجد شيء إسمه المادة كما ولا يوجد شيء إسمه العقل). وبتعبير فلسفي يعتبر هيوم (أن ما يمّيز ماهو نفسي هو ذاتيته، وهذه الذاتية تعني ماديا تجميع معطيات الحواس وتركزّها في مكان واحد هو الدماغ).
لكن من المهم أن راسل ينكر على هيوم (وجود نفسي على هيئة جوهر قائم بذاته،) ومع ذلك فهو يقر لهيوم (أن الظواهر النفسية أكثر حقيقية من المادة لأننا لا نتوصل للمادة بإدراك مباشر لها مطلقا). من وجهة نظر هيوم وراسل أنه لا يسبق الوجود الانساني ولا الوجود الطبيعي قاطبة الأفكار المستمدة من معطيات الإدراك الحسّي للاشياء في وجودها المادي المستقل الذي ينكران إدراكنا له بغير الحواس التجريبية فقط، كما لا يوجد هناك عقل مستقبل لمجموع معطيات الحواس بما أطلقا عليه حزمة الافكار وتنظيمها عقليا،وأنما الموجود هو حزمة الأفكار ليست المستمدة عن وجود الاشياء السابق عليها في العالم الخارجي بل حزمة الأفكار في الدماغ التي بضوئها نستدل على وجود الاشياء من عدمه.ضاربين عرض الحائط حقيقة أنه لا وجود لفكر لا يتقدم عليه ويسبقه وجود.
من جهة ثانية نجد هيوم وراسل اللذين يدعوان إعتماد العقل الفلسفي تجريبيا كما في العلوم الطبيعية والرياضيات، يتوّسلان اللوغوس فلسفيا في تدعيم دعوتهم الى جعله مبحثا عقليا تحليليا علميا خارج مختبرات العلوم، وليس العكس المطلوب في أعتماد معطيات العلوم الطبيعية في الوصول الى قناعات فلسفية تأخذ من العلم تجريبيته التحليلية بما ينتشل مباحث الفلسفة من الدوران في فلك معرفة الوجود بوسائل تجريدية تستبعد العلم التحليلي والتجريبي. بإختصار العبارة الموجزة أن محاولة جعل مباحث الفلسفة (علما) لا يتم إلا بمنطق العلم الذي لا يلغي قدرات العقل العلمي البرهنة عليه فلسفيا.
(10)
الانسان كينونة وجودية تمتلك وجودها الظاهراتي والعقلي وماهيتها التي هي مجموع صفاتها وكيفياتها كانسان، تجعل منه كينونة هويّاتية جوهرية ماهوية مستقلة. وفي هذه الخاصذية يتأكد إستحالة الإتحاد غير القابل للتسوية بين الوجود في ذاته، والوجود من أجل ذاته، أي بين الخالق الالهي والمخلوق الانساني كما تدّعيه الصوفية في تغاير (كيفيتين) أحداهما روحانية لا يدركها الانسان هي الخالق، والأخرى مادية تتمايز ذاتيا مع غيرها بقوانين الطبيعة زمكانيا وهي الانسان، ولا تلتقي كيفية الانسان المادية إلا مع كيفيات مادية تتجانس معها في كل أو بعض الصفات والماهيّات.
لغة الخيال هي قسمة مشتركة بين الفلسفة والشعر، بإختلاف أن لغة الفلسفة تخضع لسطوة العقل المنطقي في لجم الخيال أن يكون تهويميا،بينما الشعر يعيش ويخضع لمرجعية تنظيم اللغة وتنظيم خيال اللاشعورجماليا فنّيا أيضا بعد برودة عاطفة الشعر وبرودة تهويم اللاشعور العقلي في تدوين النص مسموعا أو مكتوبا أو جماليا ممثلا في نص شعري أو في لوحة فنية وفي جميع أنواع التشكيل الفني التي تكون اللغة فيها في حالة كمون يستنطقها المتلقي المشاهد.
(11)
عبقرية اللغة سابقة على عبقرية الفكر الذي تعبّر عنه، رغم أن إنتاجية العقل للفكرسابق على إنتاجية الذات للغة، وكلاهما حوار غير معلن لشيء واحد، ويفترقان (اللغة والفكر) عن الخيال العقلي، والتمايز الدلالي بينها ايضا، متى ما أصبحت الفكرة واقعا ماديا معّبرا عنه لغويا يدركه الآخرون في عالم الاشياء.
الانسان ذات وموضوع يتبادلان الادراك بالتناوب داخل النوع.فالانسان يدرك الموضوع في وعيه العقلي أو الخيالي. والانسان يدرك ذاته بذاته عقليا ايضا. والموضوع لا يشترط أن يدرك ذاته ألا بشرط علاقته بمن يدركه وهو الانسان من نوعه، إذا كان وعي الذات ووعي الموضوع من نفس النوع.بمعنى أن يدرك الانسان غيره من البشر لا غيره من الكائنات في الطبيعة والعالم الخارجي. فهنا لا يكون الادراك بين الذات والموضوع متبادلا، بمعنى أن الانسان في هذه الحالة يدرك موضوعه، لكن موضوعه لا يدرك الانسان ولا وعيه به كموضوع لا يمتلك خاصيّة الإدراك العقلي.
علي محمد اليوسف / الموصل
أثر الموروث على افتراق الأمة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. صالح الطائي
قراءة في إصداري الجديد "الإسلام ومحنة افتراق الطرق"
بعد أن الفت عددا كبيرا من الكتب في حقل الدراسات الدينية والفكر الديني، وجدت ان نمطية التعامل مع الأحداث الجليلة لم تنفع في تنمية قدراتنا على فهم الواقع والتماهي معه، لأنها كانت في الغالب منحازة بشكل أو بآخر لتحقيق مكاسب فرقية على حساب الكلية الجمعية، وربما لم تخرج تلك الكتابات من أجواء الشائع في التأليف، وفق النمط المتوارث إلا في حدود ضيقة.
لكني بعد أن تعرضت للاختطاف على يد إرهابيين راديكاليين إسلاميين متطرفين في عام 2006، ولبثت لديهم أسيرا مدة ثلاثة عشر يوما، ومن خلال حوارهم وتحقيقهم معي، وهو عادة كان مقرونا بالتعذيب والتهديد والتكفير والتعميم؛ اكتشفت أن هناك هوة سحيقة تفصل بين كيانات أمتنا، حولت كل واحدة منها إلى كلية قائمة ومبنية على مناهج طائفية تتكلم باسم الدين وتتحرك تحت شعاراته ولكنها أبعد ما تكون عن الدين وحقيقته التسامحية، واكتشفت أن جل هؤلاء بما فيهم من حصل على فرصة تعليم جيدة تم خداعهم، والضحك على ذقونهم، وتمت أدلجتهم وفق ثقافة القطعنة ونبذ الآخر وتكفيره، وبالتالي هم ضحايا مثلي لتلك الثقافة الكريهة، وهذا يعني أن الأكاديميين والباحثين والكتاب والمؤلفين ورجال الدين لم يؤدوا دورهم البنائي الحقيقي وما يطلبه الإسلام منهم، وانهم هم من أذكى ثقافة التباعد وروح العدوان لدى هؤلاء الشباب، وان علينا أن نعيد النظر في أساليب تعاملنا مع الموروث الديني بما يؤسس لثقافة مقابلة تدعو إلى الخير والصلاح والوحدة والتقارب، والخروج من تحت عباءة الموروث إلى فضاء الحرية الأوسع، وان نتعامل مع النقول بنوع من الريبة والشك طالما أننا نعرف مقدار الضغط والتحريف والتغيير الذي تعرضت له خلال حقب تاريخية مختلفة، أبعدها عن حقيقتها وعن مقاصدها، فالشك ربما يوصلنا إلى يقين يختلف كثيرا عما اعتقد به أسلافنا.
بعد ان تحررت من قبضتهم منتصراً، آليت على نفسي أن أترك منهجي القديم وأبدأ في العمل وفق الرؤية التي خرجت بها، وكان أول كتاب ألفته برؤية أخرى هم كتاب "نحن والآخر والهوية" الذي طبع عدة مرات منها طبعة قناة العراقية الفضائية.
ومنذ عام 2010 ومن خلال كتابي الموسوم "نظرية فارسية التشيع بين الخديعة والخلط التاريخي والمؤامرة" نجحت في تجاوز مرحلة التأطير بشكل شبه كامل على أمل الوصول إلى فهم معمق لواقعنا الإسلامي العام، بعد ان ايقنت أن النجاح لا يتحقق من خلال الانحياز القطيعي للجماعة، بل من خلال العمل على فهم الآخر وفق معايير علمية غايتها فتح أبواب الحوار المنطقي الشفاف دون تجريح او تحيز، والتنازل عن كثير من القناعات التراثية، والتحرر من الخوف.
وقد نجحت في هذا المسعى بدليل أن الكتاب نجح في كسب هوية إسلامية عامة يستحيل معها ان ينسب إلى جهة ما أو فئة او جماعة.
وكان النجاح الذي حققته من خلال هذا الكتاب كاسحا إلى درجة أنه لا زال يتصدر قوائم المبيعات في معارض الكتب الدولية، ويجلب الاهتمام الكبير، وفي ذات الوقت كان حافزا لي لكي أتبنى هذه المنهجية الجديدة بعد أن أيقنت أن العلاج يجب أن يتم من خلال تشخيص دقيق لا من خلال رؤية سطحية.
بعد هذا التاريخ أنجزت أكثر من 30 مؤلفا كلها تقريبا اتبعت فيها المنهجية ذاتها والأسلوب ذاته، وقد لقيت استحسانا وقبولا لدى الفرق الإسلامية، طالما أنها تسعى إلى تشخيص العلة الأصلية، بحثا عن حل يرضي الأطراف، بدل أن تنخدع بالشكل النمطي العام، فالصداع مثلا لا يعالج بحبة أسبرين، بل يجب البحث عن مسبباته الأصلية، طالما أن هناك أكثر من مائتي نوع منه تصيب الإنسان مثلما يرى العلماء، ولكل نوع منها أسبابه وطرائق تشخيصه ومعالجته، ومتى ما تمت معرفة السبب الحقيقي للصداع وشخصت العلة الحقيقية، يتم وصف العلاج الذي سيكون ناجحا بالتأكيد.
وفق هذه المنهجية أصدرت مجموعة مؤلفات جوبهت بعضها بمعارضة من قبل القريب، كانت أشد وأقسى من معارضة الآخر المتشدد، ولكنها لقيت القبول والاستحسان من المعتدلين في الفرق الإسلامية، بما يؤكد ان الاعتدال وحده ممكن أن يوصلنا إلى فهم أنفسنا قبل محاولة فهم الغير، لكن بشرط أن يتعامل الإنسان من وحي الضمير وروح الإنسانية والوازع الأخلاقي النبيل، وأن يؤمن أن كل فئة وكل فرقة وكل مذهب وكل دين يعتز بموروثه ويقدسه غالبا، ومهمة الباحث الحقيقي تنحصر في أن يبحث عن المناطق الرخوة في هذا الموروث ويعمل على تفكيكها وربطها بكل المناطق الأخرى، وسيحصل حتما على الكثير من الإجابات لأسئلته المحيرة، وهذه الإجابات هي التي يجب أن يعول عليها في بناء منظومة البحث لينال قبول الجميع حتى ولو بمستويات مختلفة. فحينما تتفتح أبواب التسامح والقبول في مجتمع ما تتهدم السدود والحدود الوهمية.
وفق هذه المنهجية أصدرت مؤخرا كتابا بعنوان "الإسلام ومحنة افتراق الطرق" تحدثت فيه عن التآلف والخلاف والفراق، والدعوة إلى التوحد، وحديث اختلاف أمتي رحمة، ودور اللغة في بلورة المفاهيم، ثم الحديث عن حديث تفترق أمتي ورأي المدارس الفقهية فيه؛ تلك المدارس التي اختلفت حول كل شيء باستثناء ما تدعم به مناهجها، وبينت أن الحديث يجب أن لا يعامل كنبوءة جامدة غير قصدية وجبرية الحدوث، بل كان يجب على الأوائل مثلما يجب علينا الآن أن نتعامل معه وكأنه تحذير نبوي بخطورة ما سيصيب الأمة إذا افترقت؛ وان هذا الافتراق والاختلاف سيحصل للأسف، وأن على الأمة كل الأمة أن تستعد للعمل على مجابهة الافتراق، وتعمل جاهدة على عدم تحققه من خلال تكاتفها وتعايشها وتعاونها، لكن مع ذلك ومع خطورة التحذير، لم يسعَ أي طرف من الأطراف الأولى على كثرتها إلى العمل على تجنب الافتراق، والانسياق خلف التحذير النبوي كوصية تحذير موجهة لكل مسلم تؤكد له أن عليه أن يعمل جاهدا من أجل أن لا يحدث الافتراق وتختلف الأمة فيما بينها.
الآن وبعد ان تحول الافتراق إلى عسكرة حقيقية تحمل شعارات التكفير والقتل والتهجير، ومع وجود هجمة شرسة تهدد وجود الإسلام في الصميم، في وقت تحول الكهنة إلى أبالسة، وانتقلوا من دعاة للتمسك بالدين وفق خطابات أغلبها لا تملك أصلا ثابتا في الشريعة؛ إلى معاول هدم تزرع الفرقة والبغضاء بين أفراد الأمة، وتحولت وصاياهم التي كان يجب أن تزرع روح المحبة في الإنسان إلى نيران تحرق الأخضر واليابس، وتستثير الجهلة والأميين وتدفعهم للبحث عن الجنان وحور العين من خلال قتل الآخر وسلب أمواله وهتك عرضه، كل ذلك باسم الدين وتحت راية الله أكبر، بات لزاما على كل حريص أن يبدا بالعمل على تهديم تلك الثقافات التراثية البالية واعتماد مناهج علمية في الحوار والبحث والكتابة، وهذا ما سعيت إليه من خلال هذا الكتاب.
صدر الكتاب بواقع 151 صفحة وبغلاف جميل تزينه لوحة للفنان العالمي الجزائري طيب لعيدي أهداها لي شخصيا لتزين غلاف هذا الكتاب عن دار ليندا للطباعة والنشر في سوريا بداية هذا العام.
الدكتور صالح الطائي
التعليم العالي والشهادات المزورة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. محمد الموسوي
شهد التعليم العالي نهضة حقيقية منذ ثورة 14 تموز 1958 حيث انيطت رئاسة جامعة يغداد الحديثة بالعالم المرموق الاستاذ عبد الجبار عبد الله كما جرى ابتعاث المئات من الطلبة المتفوقين للدراسة في الجامعات الاوربية وخاصة بريطانيا والمانيا الغربية وفرنسا وكانت اختيار طلبة البعثات وفق المعدلات دون اي اعتبار او تمييز على اساس المذهب اوالدين او القومية .
تعرضت العملية التربوية بكافة مراحلها لانتكاسة كبيرة بعد غزو الكويت وفرض الحصار الظالم على الشعب العراقي، رغم ما سبق ذلك من عملية تبعيث قبيحة للجامعات تلك العملية التي افقرت الجامعات علميا وادت الى خسارة العراق للمئات من خيرة الاساتذة والعلماء، الا ان ما حصل بعد الحصار كان كارثة حقيقية حيث اضطرت الكوادر التدريسية للجامعات الى اللجوء الى اعمال ومهن بسيطة وصلت حد بيع السكائر ببسطات لغرض توفير لقمة العيش .
لقد بدأت عمليات الغش وتزوير الشهادات منذ تللك الفترة حيث انتعش سوق مريدي للاوراق المزورة وتمت عمليات واسعة لكتابة الاطروحات للطلبة باثمان بخسة وكانت تشترى الدرجات والشهادات وبدأ الفساد ينخر في جسد العملية التربوية ولذلك يمكننا القول بموضوعية بان تدني مستوى التربية والتعليم وخاصة التعليم العالي لم يكن وليدة يومه بعد الغزو والاحتلال عام 2003 .
اود ان اوضح قبل الاسترسال بان ذكر هذه المقدمة للفترة الماضية هو بهدف توضيح خلفيات الظاهرة الحالية في تدني مستوى التعليم العالي كما اود ان اذكر بان شرح هذه الحالات المرضية ليس بغرض التعميم او الانتقاص من القدرات العلمية لطلبتنا فرغم تلك الصعوبات مازال لخريجي الجامعات العراقية وخاصة الاطباء والمهندسين والعلماء بصمة عالمية ايجابية واضحة كما انهم اثبتوا جدارة كبيرة في سنوات الحصار في مواصلة انتاج المصانع العراقية واستمرار عمليات البناء وتوفير الخدمات الصحية على قدر المستطاع .
يطول الحديث عما يجري حاليا من خراب ممنهج للعملية التربوية منذ مرحلة رياض الاطفال الى مرحلة الدراسات الاولية والدراسات العليا في الجامعات وقد كتبت ونشرت مئات المقالات والدراسات من الاساتذة الافاضل حول تلك المواضيع لذلك احاول التطرق لموضوعين اساسيين احدهما القانون القبيح الذي اصدره البرلمان العراقي والذي ليس هناك مثيل لبعض بنوده على النطاق العالمي والموضوع الثاني يتعلق بالجامعات الاهلية التي اصبحت كما يبدو اخطبوطا يسيطر على مجمل التعليم العالي .
لقد اصدر البرلمان العراقي قانون اسس تعادل الشهادات والدرجات العلمية العربية والاجنبية رقم (20) لسنة 2020 في سابقة تعدي خطيرة على مهمات وصلاحيات الجهات المهنية المختصة (وزارة التعليم العالي والبحث العلمي) وبالرغم انه يعتعمد في الكثير من مواده على قانون تعادل الشهادات القديم لعام 1976 وتعديلاتة الا انه تضمن اضافات خطيرة مفصلة على مقاس العناصر الطائفية الفاسدة التي يظهر انها لم تكتفي بتسميم العملية السياسية كاملة بل قررت وبغياب رقابة المحكمة الاتحادية العليا على القونين ان تضيف مواد قراقوشية في القانون الجديد ليتمكن المسئولين والنواب الفاسدين (وهم مرضى بالالقاب) الحصول على شهادات الماجستير والدكتوراه حتى بدون امتلاكهم لشهادة الاعدادية؟!
ان البرلمان العاجز عن اصدار القوانين التي تهم مصلحة الشعب والوطن كقانون الاحزاب وقانون النفط وقانون من اين لك هذا على سبيل المثال لا الحصر، لا يتورع من اصدار هذا القانون المسخ للاستفادة والمنفعة الشخصية اذ كيف يمكن كما نصت المادة الثانية من القانون للامانة العامة لمجلس النواب ان تمنح صلاحية تعادل اية شهادة حيث انها وفق قانون وزارة التعليم العالي هي حصرا من صلاحيات مديرية تعادل الشهادات بالوزارة والتي من واجباتها التاكد من رصانة الجامعة والشهادة كما الغى القانون في مادته السادسة ضرورة البقاء بشكل متواصل في البلد الاجنبي للفترة المطلوبة للحصول على الشهادة واعتبر فترة 4-6 اشهر للبقاء حتى بشكل غير متواصل كافية للحصول على شهادات الماجستير والدكتوراه ولمدة دراسة سنة للماجستير وسنتين للدكتوراه اي ان قضاء فترة العطلة الصيفية لمرة او مرتين للنزهة كافية للحصول على الشهادة كما منح القانون امتيازات خاصة للنواب والمدراء العامين وذوي الدرجات الخاصة تستثنيهم من شرط العمر وتسمح لهم الدراسة اثنا الوظيفة وهي مخالفات صريحة لقوانين التعليم العالي النافذة ومخالفة لمباديء الدستور في تكافؤ الفرص .
من الواضح ان القانون قد شرع للمصلحة الانانية الشخصية ولتحقيق منافع وامتيازات خاصة بهم ولمنح الشهادات العليا لعناصر الاحزاب والقيادات السياسية بدون استحقاق في تجاوز واستهانة صارخة بصلاحيات واختصاصات وزارة التعليم العالي ومن المؤسف ان يقف مجلس الوزراء صامتا متفرجا او متواطاْ في اصدار هذا القانون الذي سيدمر اية سمعة تذكر للرصانة العلمية في مؤسساتنا الجامعية وان الاصوات التي رفعت ضد القانون لم تكن مع الاسف بمستوى الضرر الذي يسببه هذا القانون وارى ان من مسؤولية الاكاديميين العراقيين داخل وخارج الوطن القيام بحملة نشيطة لالغاء هذا القانون خاصة ان من المحتمل ان يكون احد اهداف تشريعه المصادقة على 5000 شهادة مزورة لم تعترف بها الوزارة مما يهدد مصداقية التعادل يايشع الاشكال ؟
الموضوح الآخر هو اتساع ظاهرة الجامعات الاهلية التي بدأت بالانتشار بعد عام 2003 ورغم ان القطاع الاهلي يلبي حاجةالطلبة الميسورين الذين لا تكفي معدلاتهم للدخول الى الجامعات الحكومبة وكذلك الاعداد الكبير منهم الذين لا تستوعبهم الجامعات . ان الاسئلة المشروعة التي تثار حول الجامعات الاهلية هي دوافع انشائها من ناحية ومستواها ومدى جودة التعليم فيه من ناحية اخرى .
لقد تم تأسيس معظم هذه الجامعات التي بلغ عددها 67 جامعة وكلية اهلية لحد الان من قبل متنفذي العملية السياسية وازلامهم والكثير منها نشأت بعيدة عن الضوابط المهنية المطلوبة ولم تؤسس وفق اية دراسة عن الحاجة والجدوى ولا يتوفر فيها الكادر التدريسي المؤهل وهي تخضع للعلاقات الشخصية والولائات الحزبية في انجاح الطلبة وقبولهم وتخضع للصفقات المشبوهة، وانفتحت الابواب مشرعة امام المستثمرين مهما كانت مؤهلاتتهم حيث اصبح مجالا للاثراء السريع حيث تقدر ايرادات الجامعات الاهلية بالتريولانات واصبحت ماقيا التعليم الاهلي تتحكم بوزارة التعليم وتعيين الوكلاء والمستشارين في الوزارة وتتلاعب بمقدرات الوزارة ومن اخر فضائح التعليم قضية ما يسمى بالجامعة الامريكية التي تم منحها القصور الرئاسية ومنحة حكومية كما منحت بعض لجامعات الاهلية حق فتح كليات للطب البشري من دون وجود مستشفيات تعلمية وتم استثنائها من هذا الشرط، وطبعا الكل يعرف ان تدمير البلد يتم عبر تدمير التعليم والغش الذي يؤدي الى تخريج اطباء فاشلين يقتلون المرضى ومهندسين فاشلين في يناء المباني او العمل في الصناعة .
ان التزوير في الشهادات ظاهرة مستفحلة ولاتتم محاسبة او محاكمة هؤلاء المزورين لانهم جزء من الحكام الفاسدين الذين لاتتوفر لدى بعضهم وهو عضو برلمان الا شهادة اعدادية مزورة كما ان وزير تعليم عالي سابق وقيادي اسلامي اعترف قبل سنوات بوجود عشرات الالاف من شهادات الاعدادية المزورة التي تم قبولهم في الجامعات وفقها .
ان الخطورة في استمرار هذه الظواهر المرضية التي يجب عدم السكوت عنها وفضح العملية السياسية المحاصصاتية الفاسدة التي دمرت وتدمر حاضر العراق ومستقبله .
د. محمد الموسوي
15-2-2021
الحمائية في العراق واتفاقات التجارة الحرة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. صلاح حزام
بعد العام ٢٠٠٣ اي بعد الاحتلال الامريكي للعراق، انطلقت دعوات محمومة لتحرير الاقتصاد والانفتاح على العالم دون قيود.. دعوات للاسراع بالانضمام الى منظمة التجارة العالمية وعقد اكثر ما يمكن من اتفاقيات التجارة الحرة مع دول مختلفة.. وكذلك التخلص من نظام الحماية المُتَّبَع ..
بموجب هذه الاتفاقيات، تصبح اسواق البلدين مفتوحة امام بعضها وتدخل منتجات كل بلد الى سوق البلد الآخر دون رسوم كمركية..
السؤال هو: ما الذي سوف نصدّره نحن للدول الاخرى مقابل استيراداتنا منها؟
والجواب هو: لاشيء تقريباً !!
هذه سياسات تدل على اما الجهل والتخبط او انها سياسات مُغرِضة تهدف لقتل الاقتصاد العراقي وجعل العراق بلداً يعتمد على الاستيراد فقط، او انها تخدم مصالح التجار المستوردين فقط..
الحمائية المطلقة والمستمرة ليست جيدة طبعاً، ولكن الغائها تماماً وبشكل مستعجل، ليس صحيحاً ايضاً.
كيف ينمو القطاعان الخاص والعام في ظل منافسة غير متكافئة ؟
دراسة اوضاع كل قطاع على حدة واتخاذ مايلزم من اجراءات يعتبر اجراءً ضرورياً في هذه المرحلة ..
قد يكون منع الاستيراد او فرض ضرائب تمييزية امراً حتمياً للنهوض بهذه القطاعات .
فرض ضرائب كمركية على بعض المنتجات المستوردة سوف يوفر موارد كمركية اضافية للدولة ويخفف من تحويلات العملة الصعبة الى الخارج مما يحسّن من وضع ميزان المدفوعات..
هذه سياسة مارستها الحكومة الامريكية في زمن الرئيس ترامب عندما شعرت بعدم القدرة على منافسة المنتجات الامريكية للمنتجات المستوردة، مع ان امريكا تعتبر زعيمة العالم الحر !! فقاموا اما بمنع او الحد من استيراد بعض المنتجات او فرض ضرائب اضافية على بعض المنتجات.
من يفهم من السياسيين في العراق خطورة هذه الاتفاقيات ؟ كم شخصاً اطلع على شروط اتفاقية منظمة التجارة العالمية؟
وهل هناك منهج معتمد لكيفية ادارة الاقتصاد بشكل واقعي يخدم مصالح البلد دون استعارات فارغة وتقمّص لدور الدولة الرأسمالية الصرفة (التي لم يعد لها وجود في الحياة العملية)؟
السوق الحرة وحثُّ القطاع الخاص ودعمه للعمل بنشاط، تعتبر اموراً حتميةً للارتقاء بالاقتصاد الوطني، ولكن التدرّج والدراسة المستفيضة تعتبر امراً لازماً ..
انا ضد المركزية في الادارة ولكن وجود سياسات مركزية يعتبر امرا لابد منه..
الدول الرأسمالية العريقة تمارس دوراً مركزياً حازماً من خلال السياسات المالية والنقدية اضافة الى بعض التشريعات والانظمة التي تخدم الاقتصاد الوطني وتعزز النمو والتشغيل ورفع مستوى المعيشة.
د. صلاح حزام
نقائض التصوف
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. مجدي ابراهيم
(نقائض التصوف): (1)
تعرض التصوف لهجوم ناقد من قبل البعض بغير منهج يقوم على الموضوعية وكشف جوانب الإيجاب والسلب، ولم يتسو النقد على أسس علمية تضع التقييم في مقدمة أولوياتها. ولكن بدا نقضاً في غير ما مبرر علمي يتسند عليه.
على أن النقد لا يعني الهدم والتقويض بمقدار ما يعني البناء والتقويم. والأصلُ في النقد (critics) فلسفيّاً، وبالتالي منهجيّاً، هو قبل كل شيء: اعتراف الناقد بمحدوديّة تفكيره. والقول بحصول هذا التفكير ضمن أطر تقيد عملياته وتخضع عملية التفكير ذاتها لمراجعات صارمة، بمعنى خلخة اليقينيات الثابتة وإعادة بنائها المعرفي بمقدار إعادة النظر فيها مراجعة وتصحيحاً. وعليه؛ فمن يفهم من النقد معنى الهدم يتجرّد عن العلم وتغيب عنه الموضوعية؛ وبخاصة إذا كان المنقود "حالة" فوق عطايا الإدراك المحدود. فماذا عساك قائلاً إزاء من يتصوّر: " أن الصوفية في خبراتهم التي توصلوا إليها وكشوفاتهم التي غمرتهم فيها حالاتهم الروحية لم يتزودوا بأية بينة توضح طبيعة (الاتحاد) الذي حققوه، ولم يتوصلوا إلى معرفة الله ولا العالم، ولا أي شيء، كل ما حصلوا عليه أو غنموه هو (انفعال) بطّال أو عطلان، لا ينتهى إلى شئ سوى أنه حالة من حالات العقل والشعور، ولا شيء آخر؟ أو أن الصوفية تضع في مقدمة مبادئها محق الشخصية الفردية والقضاء عليها؛ وأن العشق الإلهي يعني أن نتجاوز عواطفنا وننفعل بعاطفة غامضة الاتجاه، تنتهى دائماً إلى استغراق في عبادة الذات، وأن الله (سبحانه وتعالى) مجرد عاطفة غامضة. والتوجه إليه توجه هُلامي! وأن التصوف بهذا المعنى المثالي يسعى إلى غرس مشاعر الكراهية للحياة والناس (راجع: إحسان الملائكة مقدمة كتاب (جلال الدين الرومي صائغ النفوس)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 2015م؛ ص 17 -19).
ماذا عساك صانعاً أمام من يصوّر هذا أو مثله؟ وهو هدم ليس هو بالنقد، يتخذ من النقد وسيلة هجوم وتبرئ واستعلاء ولا يتخذ منه وسيلة تقييم أو تقويم؛ فهو يخرج عن إطار العلم ويدخل في أهواء لا يقرها العلم بحال، ونحن لا ندرى كيف يكون هذا كله ومبادئ التصوف قائمة بالتقرير على الدعوة إلى التسامح واحترام جميع معتقدات البشر، ورفض التحيز العرقي، والتحرر من التزمت الديني والتعصب الأعمى.
ثم يحذرنا أحدهم ويشدّد في تحذيره: من الانسياق وراء العبارات البرَّاقة التي ينقلها مؤلف الكتاب عن مشاهير الصوفية، ويأتي تحذيره هذا في إطار قناعاته التي يريد أن يَفْرضها علينا صَاغرين. عنده أن ليس ثمة داع يدعو للإسهاب في القول بأن التصوف ما كان، ولن يكون أبداً، على ما يعتقد، هو طريق الخلاص من وضعنا المتردي .. فهو طريق - في نظره - استسلامي يشجع على استكانة المشاعر وانهيار القوى في وقت نحن فيه بأمس الحاجة للروح الوثابة والمشاعر الثائرة والفكر النير والحلول التي تخلصنا من مشاكل التخلف التي نَرْزَح تحت وطأتها صباح مساء (د. عدنان عباس علي في مقدمة ترجمته لكتاب تور آندريه: التصوف الإسلامي، منشورات الجمل، ألمانيا، الطبعة الأولى، سنة 2003م، ص 5).
ومن الغريب أن هذه الصفات الأخيرة التي ومضت في عقل مترجم الكتاب والتي يَرُصَّها لفظاً ميتاً بغير معنى هى في الأصل من العمل الحي للتصوف ومن فاعليته الكبرى؛ فالروح الوثابة، الحرة، الطليقة، والمشاعر الثائرة والفكر النير هى في الواقع صفات الصوفي الحقيقي الذي لا يعرف للخمول ولا للاستكانة طريقاً، بل هِجِّيره العمل، وديدنه الجهاد في سبيل مطلوبه، فلا يهدأ الصوفي أبداً إلا أن ينال ما يريد. لكن الفرق بينه وبين غيره من أصحاب الإرادات أن مراده غير مرادات الذين غرقوا في الواقع الوحل المتردي، فانهارت قواهم على التصدي له فلم يَتَقدَّمُوا في إصلاحه ولا حتى ترقيعه قيد أنملة؛ بل كلما رقعوه تمزق منهم، ولا يَزَال مع التمزق حتى مَزَّقَ؛ بشراهتهم عليهم؛ نفوسهم وقلوبهم حسرة على الضعف والتردي والشره المادي اللعين.
وتلك لا شك رؤية - فضلاً عن كونها طامسة للحقيقة متعالية عليها - تكشف من الوهلة الأولى عن ظلمة الوعي وضيقه وتحجُّره في العقول التي تتخذ مواقف مُعَادية للتصوف بل مُعَادية لنفسها؛ لأنها تأتي ضد نفسها: ضد وجودها الروحي بمقدار ما تجيء ضد حقيقتها الأصلية التي يمُسَّها التصوف ويشتغل عليها، ويكشفها لصاحبها - إذا أرَادَ - في جلاء ووضوح وطمأنينة ويقين.
إنما الوعي الصوفي ليَتَجَوْهَر عندنا في تلك الذائقة الروحية الفريدة، وإنه ليتحدد في مثل هذا الإدراك الذوقي الكشفي لغةً وتعبيراً وإشارةً؛ ذلك الإدراك الذي يؤهل صاحبه للاتصال بالله تعالى اتصالاً يقوم فيه الوعي بالتوحيد عاملاً وفاعلاً؛ لتتحقق أسمى آيات التذوق للفكرة الإلهية؛ يعيشها حياة ويوظف سلوكه وفق ما يَفْقَه منها على منهج يَسْتَنَّهُ ويترقى به على الدوام؛ مَادَاَمَ تَرَقْيهُ إليها مشروطاً بصفاء البصيرة والإلهام وبالنقاء الروحي (Spiritll purification).
هذه الملاحظة مع بساطتها وتواضعها قد تكشف بالقطع عن أصالة الوعي الصوفي؛ وهو وعي عالي وليس بالعادي، وعن تفرُّده، وعن امتلائه بفيض المعنى وغزارة الوجدان، وعن خصوصيته الشاملة المحيطة، وعن تمايزه واختلافه عن منهجية النظر المجرَّد المحدود أو العقل المسطح الذي لا يَتَحَرَّر عن مقولاته بل يظل يَتَعَبَّدْ في محرابها صباح مساء. إنمَّا الوعي الصوفي هنا لهو وعيُنا بالحقيقة الأصلية؛ أعني وعينا بالوجود الإنساني على صفته الجوهرية الباقية الدائمة: حقيقته الجوهرية.
ثم بالصدفة العارضة لا القصد المباشر وقع بصري على صفحات من كتاب مجهول (عبد الله شريط: الفكر الأخلاقي عند ابن خلدون؛ ص 524 – 525). كتب صاحبه تحت عنوان جهودنا اليوم للتخلص من أضرار التصوف؛ ولسوف نورد عبارات الكاتب بلفظها ونصها؛ لأنها تعبّر في الغالب عن وجهات نظر عدائية ضد التصوف:" إنّ عقول مجتمعاتنا اليوم ومنذ عصر ابن خلدون، تزخر بهذا الفكر الخرافي الذي كان نتيجة مباشرة للفكر الصوفي، والذي أدى بها إلى الاستسلام عن مقاومة كل ما يعترضها في طريق التقدّم، لأنها تعتمد على "البركة" في أن تقوم مقامها بهذه المقاومة. وأدبنا اليوم في المشرق والمغرب - هكذا يقول المؤلف - يحاول أن يعالج مساوئ هذا الإرث المسموم في عقول الشعب فلا يشق طريقه إلا بصعوبة، ورجال الدين أنفسهم أو بعضهم على الأصح هالهم ما أصبحت عليه شعوبهم من عودة إلى الفكر الجاهلي الصميم، كأن لم يمر عليهم الإسلام إلا مروراً من خارج، ولم يلامس أرواحهم بأشعته التحريرية فأهملوا كل الآثار الدينية والأحاديث المنتحلة التي كان يعتمد عليها المتصوفة وفي مقدّمتهم الغزالي لتبرير حركة التصوف، وراحوا في مقابل ذلك لأوّل مرة منذ العصر العباسي، يحاولون بعث الفكر الاعتزالي المعتمد على العقل والمناوئ للفكر الغيبي الذي كان أساساً للفكر الصوفي والفكر الخرافي المشئوم، أو يتبني بعضهم الآخر الفكر السلفي أو فكر ابن تيمية كالحركة الوهابية في الحجاز أو الحركات الإصلاحيّة في مصر والشام والجزائر ممّن تمكنوا من الاستضاءة بأضواء الفكر العلمي الحديث، وقارنوا بين ما تتخبط فيه شعوبهم من شلل عام وما تزخر به الشعوب المتقدّمة من حيويَّة وحركة وإنتاج. وهذا بالإضافة إلى ما آل إليه الفكر الصوفي على يد أغلب حركاته وطرقه من خيانات سياسية وتعاون مع العدو ضد مصالح شعوبهم، باستثناء بعض الحركات القليلة كزاوية محيي الدين والد الأمير عبد القادر في الجزائر، أو الحركة السنوسيَّة في ليبيا، وبعض الشخصيات القليلة الأخرى في مصر وسوريا، وهى حركات أو شخصيات بلغت من الندرة، بالنسبة للحركات الأخرى، ما جعلها فعلاً استثناءات تؤيد القاعدة العامة".
تلك هى نقائض التصوف فيما جرت به كلمات هذا الكاتب على العسف والتهور والغرور، والخلو من الموضوعيّة والحياديّة في البحث وتحميل التصوف مسئولية تخلف المسلمين، ثم إنكار حقائق التاريخ؛ وأوْلها فيما يبدو؛ خلطه الشنيع في المنهج بين التصوف وعلم الكلام، فهو إذا كان يريد بعث الفكر الاعتزالي القائم على العقل، فإن التصوف محور آخر قد يُكمّل لدى العقول العارفة بدوره محور العقل؛ فالعقل والروح جانبان لا يتضادان بمقدار ما هما لا يتناقضان بل يتكاملان، وقد ينفصل عنه ويراه البعض شيئاً آخر لا يقوم على العقل بمقدار ما يقوم على التجربة الذوقيّة، فالجدل والبرهان وعقم الإدراك قوانين لا محل لها في التصوف، والخلط بين منهج المتكلمين الجدلي الخطابي ومنهج التصوف الذوقي الوجداني خلطاً عشوائياً بغير الدخول في تفاصيل معرفيّة يكشف عن قلة عناية الكاتب بما لديه من بضاعة علمية خالية الوفاض سواء في التصوف أو في علم الكلام.
(وللحديث بقيّة)
بقلم: د. مجدي إبراهيم
صريرُ أقلامٍ وأصابعُ إتهام (1)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د.عصمت نصار
لقد تحدثنا في معظم كتاباتنا عن الفكر العربي الحديث، وبيّنا أن الفترة الممتدة من العقد الثالث من القرن العشرين إلى قيام ثورة يوليو 1952م تمثّل العقود الذهبية للمناظرات الفكرية في مصر والشام والعراق. فقد حفلت هذه الفترة بأكثر من خمسمائة مناظرة حول شتى ميادين الثقافة والفكر. والذي يعنينا في هذا السياق هي تلك الفترة التي كانت تتعلق بقضايا الفكر الديني وضروب النقد التي جمعت بين الكُتاب المحافظين، والمستنيرين المعتدلين، والتحديثيين التغريبيين؛ وإنْ شئت قل بين المحافظين المستنيرين - الذين حملوا على عاتقهم رسالة التجديد - والمجترئين العلمانيين الذين تأثروا بالثقافة الغربية.
وقد انضوى جُل الأزهريين تحت عباءة الاتجاه المحافظ الرجعي تجاه معظم القضايا المطروحة، ويستثنى منهم تلاميذ الشيخ "محمد عبدة"، ومن سار على ضربهم من أمثال مفكرنا "محمد فريد وجدي"، الذي تميز عن رفقائه من المحافظين الأزهريين بثلاثة أمور وهي : منهجية النقد في التناظر، وموسوعية الثقافة، والنزعة الفلسفية في التحليل واستنباط البراهين والأدلة.
وقد أثبتنا في المقالات السابقة اعتداله وموضوعيته في الرد على خصومه، وبيّنا قدرته الفائقة على دحض الأباطيل وتبرير علة الجانحين وأغراض المشككين والمجترئين، وعقلانيّته في إجلاء الحقائق وتوضيح الغامض وحرصه على التواصل مع المتلقي والتصاول مع المناظر دون قدح أو استنكار أو مصادرة على رأيه. أجل ! لقد بيّنا ذلك وسوف نؤكده في السطور التالية حيث آخر مناظرات "وجدي" مع "خالد محمد خالد" (1920م -1996م) الذي قاده قلمه إلى الوقوف في قفص الاتهام، وهو العالم الأزهري والداعية المجدد، والمفكر الإسلامي الحصيف، والخطيب، الملهم، والمتصوف الورع، والفيلسوف الناقد.
وحريُّ بي أن ألقي بعض الضوء على ذلك الداعية الثائر الذي لم يرث عن والده سوى الغيرة على صوالح الناس وحقوق الفقراء ومقاومة طمع الأغنياء واستنكار الظلم الاجتماعي الواقع على الفلاحين؛ ذلك الشاب الورع الذي نشأ نشأه دينية في كُتّاب العدوة (إحدى قُرى محافظة الشرقية) فحفظ القرآن ثم رافق أخاه إلى القاهرة ليلتحق بالمعهد الأزهري الابتدائي عام 1929م، وقد لُقب هناك بصاحب الصوت القادم من الجنة في تجويد وترتيل القرآن، وفي الثانية عشر من عمره تردد على الجمعية الشرعية؛ ليتوسع في الدراسات الإسلامية التي لم يدرسها في الأزهر، والاستماع إلى دروس الأمام محمود خطاب السبكي (1858م - 1933م) وحديثه عن الأصول الشرعية والشمائل المحمديّة.
وانتقل الصبي إلى المرحلة الثانوية، وأجتهد في العزوف عن النهوج التلقينية المتبعة في دراسته الأزهرية؛ فانطلق يحرر ذهنه من النصوص والمتون المحفوظة، فلم يقنع الصبي المتطلع للعلم عند هذا الحد، بل راح يطالع أشهر الجرائد والمجلات والكتب السياسية والفلسفية قدر طاقته، ورغب في ثقل ذهنه لتدريب ملكات الفهم دون ملكات الذاكرة التي اعتادها خلال دراسته الابتدائية. وأدرك خلال مطالعاته لتاريخ الحركة السياسية في مصر قسوة الاحتلال الأجنبي وحق الشعب في الحرية والاستقلال وعلة الثورات على فساد الحكام وغيبة العدالة. وفطن إلى مبادئ ثورة 1919م، وإلى المعنى الحقيقي للولاء والانتماء المتمثل في الولاء للوطن والانتماء للمجتمع الذي يعيش فيه.
وكانت خطب سعد زغلول (1859-1927م) والقمص سرجيوس (1882-1964م) التي كانا يلقيانها من فوق منبر الأزهر من أهم الدروس التي تجسدّت فيها تلك المعاني. وقد فطن يومذاك إلى أهمية كتابات التنويريين والمجددين والمصلحين التي انتجت هؤلاء الرجال السُّوار وعلى رأسهم الأفغاني ومحمد عبده، تلك الكتابات التي رسَّخت تلك المفاهيم في العقل الجمعي للشبيبة المصرية. فمن أجل حريات الشعب ودفاعا عن الدين والوطن عاش أولئك الأحرار الكبار ولم يخشوا في الله لومة لائم. فقد عاش الإمام محمد عبده ومات خصماً للخديوي عباس، لا من أجل دنيا منعها عنه، أو مناصب حرمها منه، إذْ كان تَفرُّد الشيخ ونبوغه وكفاءته وعلمه وكرامته وشخصيته المهيبة الجليلة يرشحه إلى أعلى المناصب إلى درجة أنه كان يدير الأزهر دون أن يكون شيخاً له وينفذ ما يستطيع من إصلاحات. وطالما حارب من أجلها عن طريق عضويته بالمجلس الأعلى للأزهر وقدرته على الإقناع وصدق التوجه. وقد تأثر خالد محمد خالد بهذه الشخصية خصالاً وصفاتا ومنهجاً، وظل طيل حياته يدين بالحب والاقتفاء وتبعية المجتهدين لرأس المدرسة وأصول النهج، ولاسيما في ميدان السياسة فقد تأثر بمنهج الأستاذ الإمام في الجمع بين الدين والسياسة والوطنية فهي عنده ضميرٌ واحدٌ لا يتجزأ ولا يتناقض، وبالتالي لم يكن تاجراً ولا مغامراً بهذه المقدَّسات بل كان لها نعم الرائد ونعم الضمير.
ومن أقواله في ذلك: " نحن مشمولون ببركات الإمام حين نهتف قائلين مرحباً بالسياسة؛ ولنكن متفقين على أننا طوال حديثنا عن السياسة؛ فإننا نعني السياسة المتفوقة في وطنيتها وفي وسائلها وغاياتها وأخلاقياتها، وحين نقف مع السياسة المنحرفة والعرجاء فإننا نعارضها ونناقشها وصولاً بها إلى السياسة الرشيدة التي يجب أن نتأسى بها ونحيا في مناخها. ولعلّ إعجابه بمحمد عبده هو الذي قربه من شخصية الشيخ مصطفى المراغي (1881-1945م) شيخ الأزهر آنذاك ونهجه في الإصلاح. أمّا السياسة العملية؛ فقد أخذها عن مكرم عبيد (1889-1961م) الذي كان يطرب لمرافعاته القانونية، ومحمود فهمي النقراشي (1888-1948م) الذي أخذ عنه الروح الثورية والإخلاص للقيم والمبادئ ومحاربته للتعصب العقدي والحزبي. ذلك فضلاً عن أسلوبه الرائع إلى الشباب، ذلك الذي جمع فيه بين التربية والتوجيه والوطنية وقيمة الحرية السياسية وقيمة الديمقراطية والانتصار دوماً للحق بعيداً عن مداهمة أصحاب السلطة، وتحذيره من خلط الدين بالسياسة أو خداع الشعب باسم الدين. وحرصه على شرف الفروسية ونبلها في الخصومة والخلاف.
ولم تقف قراءات خالد محمد خالد عند الطريف والنفيس والحديث من كتب العقيدة والسياسة في الثلاثينيات من القرن الماضي خلال دراسته في المرحلة الثانوية، بل استهوته أيضاً الكتابات النفسية ولا سيما تلك التي تتحدث عن الغرائز والشهوات وكيفية تهذيبها والميول ونزاعات وطرائق توجيهها واستثمارها.
وانتهى، وهو في ريعان الشباب، إلى أن أخطر المؤثرات النفسية على الشباب هي المؤثرات الجنسية، ومن ثم يجب على التربويين العناية بتبصير المراهقين بكيفية ضبطها والتحكم فيها. ويقول متسائلًاً : أيكون إفلاس التربية بكل وسائلها في جمع الشباب فوق أرض مشتركة مع مطالب مرحلة شبابه وإذكاء روح الحرية الملتزمة وانعاش وجدانه بكل البدائل الصالحة والمناسبة؟ .. أليس محتملاً أنهم اثروا ذلك حذراً من أن يتعجلوا ايقاظ مشاعر الجنس في الطفل و الفتي؟
ولكنه كان يعتقد - ببعد نظره - أن التوسع في دراسة أسرار النفس في مرحلة الشباب لا يقل أهمية عن دراسة المعارف الدينية والسياسية حتي لا تقع شبيبتنا في مهالك الانحراف والتطرف في هذا أو ذاك، وتمنى أن يدرج علم النفس ضمن العلوم التي يجب على الداعية ورجل الدين والمشتغلين بالسياسة الالمام بها. ويقول :" لسوف يأتلفان ويمتزجان في وعيي وخاطري الدين والعلم حتى يهدياني معاً إلى الصواب وإلى الاعتصام بهذا الصواب من كل هرطقة وسفسطة، ومن كل حيرة وبلبلة حتى يسلماني إلى اقتناع لا أبيعه بملء الأرض رغباً ولا بملئها رهباً".
وقد ساء مفكرنا ذيوع العنف في الحياة الحزبية المصرية، وكره أن يكون الصراع وتصفية الخصوم هو طريق فض المنازعات والخلافات في الرؤى والاتجاهات. وكان ينظر إلى الشيخ عبد اللطيف دراز (1890م - 1977م) على أنه النموذج الأمثل للعالم الأزهري الذي يمارس السياسة : بحصافة رجل الفكر وورع رجل الدين الذي لا يثنيه عن طلب الحرية والعدل مطمع، ولا يجنح به مطمح عن بلوغ مقصد الشريعة. ويرتحل شيخنا من ميدان السياسة الشاغل بالمصاولات الحزبية والمظاهرات الحماسية إلى بحور العشق الربانية الزاخرة بالابتهالات والطرق الصوفية والثورات الروحية والفتوحات النورانية.
ولم يرضْ من هذا العلم إلا بما لم يحدْ عن ما جاء به القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالتصوف عنده تخلية وتحلية وورع لإدراك الجمال وطمع لوصول إلى سلم الكمال، وفناء في عالم الجلال، وبقاء في معيّة صاحب النعم الذي لا يرد عنده سؤال.
ومن أقواله في ذلك :"التصوف أعلى مراحل التدين"، هذه حقيقة لا مراء فيها استخرجتها من تجارب الافذاذ ومن تجربتي ... وهو أعلى مراحل التدين والعبادة؛ لأن فيه، وعن طريقه، يرث المؤمن من النبوة بعض أنورها وأسرارها ... والتصوف كذلك أعلى مراحل التدين؛ لأنه بصفائه يهب صاحبه البصيرة. والبصيرة كما عرفها القوم "ما خلصك من الحيرة إمّا بإيمان إمّا بعيان". وهكذا نرى العارفين بالله غادين رائحين بين الإيمان والعيَان. ومن ثم تجيء الحيرة وضابية الرؤية أبعد ما يكونان عن عقولهم وأفئدتهم ... "الأحوال نتيجة المقامات"، و"المقامات ثمرة الأعمال"؛ فكل من كان أصلح عملاً، كان أعلى مقاماً".
وفي رحاب الجمعية الشرعية تعرّف على الأمام أمين محمود خطاب السبكي (1884م - 1968م)، وانتقل خطيبنا بذلك من المنتديات السياسية إلى الوعظ في الحلقات الصوفية.
(2)
لم ينظر خالد محمد خالد إلى التصوف بعين المريد المتأمل لأرفع العلوم الذوقية الروحيّة في الفكر الإسلامي، بل كان ينتقل عبر بحوره بزورق العاشق الفاني في مقاماته؛ ليخلي نفسه من جميع الأثقال التي تعيقه عن موصلة السير في الضرب المحمدي، وتعينه على الفوز باللذائذ الخلقية، ويملئ قلبه بالمعارف النورانية، ويتحلى بالطيبات الوجدانية. فلن تستهوي صاحبنا حلقات الذكر أو ارتداء العمامات الخضراء والصفراء في الموالد ولم تجذبه المآدب الممتدة أمام المساجد التي يقبل عليها المجاذيب وأهل البدع وحملة السبح والمباخر.
فالتصوف عنده من العلوم العمليّة التطبيقية التي تقتفي أثر الحضرة النبوية في الدعوة والهداية والتربية القرآنية. ويقول "التصوف الحق المضاء بنور النبوة هو الذي يسير على نهج النبوة... الاستقامة ضمير التصوف، وحقيقته، ووجهته من أجل ذلك كان العارفون يصفون ما هم فيه من سبق وبوق بأنه كما قال الغزالي: "نور يقذفه الله ويمنحه" ... لم نتعلم في الجمعية التصوف الداعي إلى اعتزال المجتمع والانقطاع عنه، أو الداعي إلى التواكل، والانهزاميّة، والتخلي عن مسئوليات الحياة بل تعلمنا التصوف بمعني صدق التّوجُّه إلى الله، وتوثيق العلاقة بالله وتحمل مسئولياتنا كاملة كمواطنين في مجتمع"، "إن التصوف بمفهومه الصحيح ذروة سنام الدين كله".
وخلال هذه الفترة، أي قبيل التحاق صاحبنا بكلية الشريعة ولمدة سبع سنوات كان يعمل بالدعوة والتبشير والوعظ في الريف والقرى والنجوع حيث مقرات ومساجد الجمعية الشرعية مردداً لحديث رسول الله : "من عمل بما علم، ورثه الله علم ما لم يكن يعلم".
والجدير بالذكر أن صاحبنا لم ينقطع عن مطالعة كتب التاريخ، والأدب، والفلسفة، والسياسة، وعلم النفس، والتربية، العربية والمترجمة إليها، والاستماع إلى القرآن مجوداً ومرتلاً، والتواشيح الدينية والمدائح النبوية، والموسيقى، والأغاني العاطفية طيلة فترة دراسته الثانوية والجامعية. ويرجع ذلك لاعتقاده الراسخ بأن كل هذه المجالات لا تعارض بينها، ولا صراع فيها في أذهان من فطنوا إلى مقاصد الحكمة، والعلم، والدين، والتصوف، والفن؛ فبعضها يكمل البعض الأخر ويحميه من الشطط والجموح والغلو والاجتراء والتعصب.
وقد نجح صاحبنا في تقبّل أفكار فولتير وروسو وفيكتور هيجو وفخر الرازي وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وماركس وبرجسون ولم ينساق إلى تبعية واحد منهم، فجميعهم ضيوف على مائدة النقد في حضرة الإيمان الواعي والعرفان الصادق وحرية الفكر ووجدان المبدع المتأمل.
ولم يشعر بأي غضاضة أو اشمئزاز أو نفور من الجلوس مع المتعصبين والتحاور مع الملحدين والاستماع إلى نزعات الثائرين وخطابات المجددين والمستغربين وأهل البدع. ويرجع ذلك إلى قناعته بأن الداعية الحق هو الخبير بمجتمعه وميول أفراده وعوائدهم وثقافة من يوجه إليهم خطابه الدّعوي والعوامل المؤثرة الطبيعية والبشرية في البيئة التي يعيش فيها، وغير ذلك فسوف تكون رسالة الداعية المنشود ناقصة أو رديئة. ويقول "لم تكن سياحاتي عبر الأفكار والمعتقدات المتباينة. حتى أخطائي كانت متسقه مع مراحل حياتي واقتناعي بظروفها صنو تقبلي لها وتسامحي معها. فهي أولاً لم تكن نتاج هوى مريض وضال بل كانت ردود أفعال ما كان منها بدٌ لمبالغتي في الأخذ بفضائل فرضت من قبل سلطانها على تفكيري وضميري وسلوكي".
ولعلّ أطرف وأغرب الاتجاهات والنزاعات التي تعرف عليها "خالد محمد خالد"، هي جماعة الإخوان المسلمين التي كان يتردد على مقرّها خلال دراسته الثانوية الأزهرية إلى نهاية دراسته العالية في كلية الشريعة. لقد أستمع آنذاك لأحاديث المرشد العام "حسن البنا" (1906م - 1949م) والعديد من أعضاء هذه الجماعة المؤسسين وعلى رأسهم الشيخ محمد الغزالي (1917م - 1996م) والشيخ أحمد حسن الباقوري (1907م - 1985م) وقد أعرب عن أعجابه في أول الأمر بشخصية وحديث وأسلوب مؤسس الجماعة مع إحساس بالارتياب والشك في المقاصد والنوايا، دون وضوح أو وجود يبرر ذلك الارتياب وعدم الطمأنينة. الأمر الذي أقعده عن الانضمام إلى هذا المحفل والاشتراك في أنشطته.
ومنذ عام 1940م قد أدرك صاحبنا أن هذه الجماعة ليست دعويّة فحسب؛ بل لها ميول سياسية أيضاً؛ إذ أقدم حسن البنا على الترشح لعضوية البرلمان، وسرعان ما تراجع عقب رفض الإنجليز والحكومة الجمع بين المسحة الدينية والممارسة السياسية في الحياة الحزبية. وقد استجاب المرشد شريطة دعم الحكومة للجماعة الإخوان المسلمين وغض الطرف عن ملاحقة أعضائها من قبل رجال الأمن.
وقد برر "البنا" لرفاقه هذا الاتفاق بأنه يماثل "صلح الحديبية" الذي أجراه النبي، صلوات الله وسلامه عليه، مع الكفار، ومن ثم لا ينبغي على أعضاء الجماعة الحزن والتأسف على هذه التنازل وأقامت سُرادقات للعزاء في الموتى للتعبير عن غضبهم وكمدهم واستياءهم، وأن الله على حد قوله، سوف ينعم عليه وجماعته بنصر مؤزر وفتح كبير. وقامت الحكومة بعد ذلك بالقبض على معظم أعضاء حزب مصر الفتاة المنافس في نشاطه للإخوان المسلمين الأمر الذي شجع "حسن البنا" على التوسع في أقامت المؤتمرات، والندوات، والاحتفالات، وإعلان جهاز التنظيم السري للدفاع عن مصالح الجماعة.
الأمر الذي أكد مخاوف صاحبنا وشكوكه في نوايا هذه الجماعة ويقول (ونمت الجماعة نمواً كبيراً بكل أقسامها - لا سيما الأقسام المختصة بالعمال، والطلاب، والشباب - وكان أسرعها في النمو وأكثرها نشاطاً " النظام الخاص" الذي مهما يطل الحديث في تبرير وجوده، والدفاع عنه؛ فقد كان تنظيماً سريّاً، يُعد أفراده إعداداً مسلحاً ليوم يعلمه الذين يعدونه، ولأمر يعرفونه، ولهدف يبصرونه).
والجدير بالإشارة في هذا السياق أن "خالد محمد خالد" قد وجد في محمد الغزالي الرفيق والصديق الذي يئتمن على سره، وتقبل منه النصيحة فأخبره عن شكوكه ومخاوفه التي تقعده عن الانضمام لهذه الجماعة التي تتجاوز في الخصومة والاختلاف أداب النقاش البنّاء الذي يرمي إلى الإصلاح. وعلى الرغم من عضوية الغزالي لهذه المحفل إلى أنه كان يوافق صاحبنا من اندفاع بعض قادة الجماعة إلى التصاول والتصارع مع كل من يعترض طريقهم حتى حزب الوفد الذي يؤيدهم ويدافع عنهم في كثير من المواقف. وما أكثر المناظرات العدائية التي دارت بين كُتّاب جريدة صوت الأمة الوفديّة وصحيفة "صطل الأمة" التي كان يحررها الإخوان تهكماً على الوفد والسخرية منهم، وسوف تقودهم إلى العنف والجنوح والتطرف. وقد اتفقا الغزالي وخالد على أن هذه السياسة العدائية ضد مصلحة البلاد.
ويضيف "خالد" أن علة إخفاق هذه الجماعة عن بلوغ مقاصدها يتلخص في عدة أمور منها مبدأ التقية؛ فهم لا يخبرون عما يضمرون، فيدّعون أنهم جماعة دعويّة إصلاحية، ويرفعون شعار "الإسلام دين ودولة"، ويخفون رغبتهم في الوثوب إلى السلطة السياسية وأنشطتهم العدائية، وخططهم في تصفية الخصوم بالعنف، الأمر الذي يتعارض تماماً مع الدعوة بالمعروف. فإذا كان من حقهم ممارسة العمل السياسي فلا ينبغي التستر على ذلك باسم الدين وادعاء الصلاح دون غيرهم. واتهام الحكومة والمجتمع بالكفر وتشبيه أحوال الجماعة وجهادهم بما كان من أمر النبي وصحابته. ويقول (فلا الإخوان ولا قيادتهم كانوا في مستوى تبعات الغد بل ولا في اليوم بالمفهوم الذي أسلفناه لهذه التبعات)؛ فأين الإخوان من حرية الفكر، والعقيدة في مبدأ السمع والطاعة المطلقة، وعدم النقاش، وتغليب العنف على السلم وتفضيل منطق الصراع على التسامح، وتوهمهم بلوغ الحقيقة وامتلاك اليقين دون مخالفيهم، وأين هم من رسالة تبصير الشباب وهدايتهم في تعاليمهم الضالة التي تشيع الفُرقة والبغضاء في المجتمع.
فقد أوضح صاحبنا أن "حسن البنا" هو الذي أنشاء التنظيم السّري لقتال الذين يخاصمون الدعوة ويحاولون إعاقة سيرها وإحياء فريضة الجهاد (فلقد أسرف التنظيم في هذا السبيل إسرافا كان السبب الأوحد في تدمير الإخوان من الداخل والخارج ... وكانت أولى جرائم التنظيم الخاص اغتيال "أحمد ماهر باشا"، ثم "المستشار الخازندار"، و"اللواء سليم زكي"، و"النقراشي باشا"؛ ذلك فضلاً عن تدميرهم بعض المنشآت والشركات) وذلك كله بحجة السلوك العدائي للحكومة والمجتمع ضد الإخوان. الأمر الذي أدى إلى حل الجماعة ومصادرة أملاكها وأموالها. ورغم ذلك لم يتوقف التنظيم السري عن جرائمه حتي بعد مقتل "حسن البنا" بل تعددت قيادات هذا التنظيم، وتفرّق أعضاءه وشكلوا جماعات إرهابية تقتل الأبرياء بالشبهة وتحرق وتهدم المرافق العامة باسم الجهاد ضد الدولة الكافرة.
ويعقب خالد محمد خالد على ذلك قائلاُ: " وعلى الرغم من هذا فقد قضت الجماعة نحبها بأيدي تنظيمها .. لذلك أن القتل والتخريب والإفساد والترويع كلها موضع مقت الله، ومقت رسوله .. وكلها وباء يرفع الله يده عن ذويه وحامليه .. فلا يبالي في أي واد هلكوا ... فليعد المتطرفون إلى رشدهم وليأخذوا من الذين سبقوهم درساً وعبرة .. وليتقوا الله في دينهم ووطنهم وأمتهم .. أليسوا مؤمنين أو على الأقل يريدون كذلك".
قد وجد صاحبنا في جماعة العمل الوطني الاجتماعي التي كان يرأسها "جمال البنا" (1920م - 2013م) أقرب إلى ميوله ومقاصده؛ فهي تختلف في سياستها وبرنامجها الدعوي وأنشطتها الإصلاحية عن جماعة المرشد التي أصيبت بفتنة السياسة والحكم وسقطت في عالم سفلي انتزعها من سابق عهدها الذي كانت تنشده.
وقد اتفقا معاً على تكوين جماعة للتعريب أفضل الكتب الفلسفية والسياسية والأدبية؛ لتثقيف الشباب الأزهري ثم يقوم فريقاً أخر بقيادة "محمد الغزالي" للموازنة بين الأفكار التي تحملها هذه الكتب الأجنبية وبين الفكر الإسلامي. وإصدار صحيفة لتجديد الخطاب الأزهري بعنوان (الأزهر الجديد) لمجابهة كل الأفكار الرجعية والمذاهب الجانحة والمعتقدات الفاسدة والدعوات الضالة وذلك باعتبار الأزهر الممثل الأعظم لأصول الوسطية الإسلامية. بيد أن العائق المادي صرفهما عن ذلك.
وفي هذه الآونة استهوت صاحبنا دعوة عبدالحميد عبدالغني الكاتب (1918م - 2000م) إلى تكوين لجنة من الشبان باسم جيش الخلاص على غرار جماعة إنجليزية قامت بثورة سلمية إصلاحية لمحاربة الفساد ومعاونة الفقراء والمعوزين، وتطوير المؤسسات الاجتماعية للنهوض بالمجتمع، وقد شرع في تأسيسها، وسرعان ما أغلقت لدواعي أمنية، واعتبار هذه اللجنة إحدى خلايا الشيوعية.
وفي عام 1947م أتم صاحبنا تعليمه الجامعي وتخرج في كلية الشريعة بالأزهر وحصل على العالمية. وراح يفكر في كتابة أولى مؤلفاته للرد فيه على التساؤلات التي تدور في خاطره، ويعالج في صفحاته القضايا التي نريد طرحها على الرأي العام ليثقفه ويخلص ذهنه من التقليد الذي أعياه وحال بينه وبين التجديد والإصلاح والاجتهاد.
تلك كانت رحلة صاحبنا التي استعرضنا فيها أهم المؤثرات التي شكلت بنية كتابه - موضوع المناظرة المزمع مناقشته - والكشف عن مشاربه الدينية والعقدية والأدبية والفلسفية والسياسية التي شكلت أفكاره، وألقت بعض الضوء على البيئة الثقافية التي عاشها وكانت العلة الحقيقية وراء صرير قلمه الناقد والأصابع المتثاقفة التي كانت تشير بالاتهام وتوجه اللوم لمواطن الإخفاق التي واجهته بدايةُ من المناهج الأزهرية التلقينية وندرة المعارف الأدبية والعلمية والفلسفية في برامج تثقيف شبيبة الأزهر ونهج جماعة الإخوان المسلمين في استقطاب المتدينين الساخطين على واقعهم الاجتماعي والسياسي والمتطلعين إلى غدٍ أفضل تحت عباءة دعوة المرشد وطموحاته في إنشاء حكومة إسلامية، ونهايةً بغيبة العدالة الاجتماعية وأتساع الهوى بين الطبقات، وانصراف المحبطين إلى التصوف باعتباره الملاذ الأمن لدينهم والأمل المرجو في رضا ورزق الله ونعمه، والدواء الشافي لمعاناتهم طمعاً في السعادة التي يفتقدونها.
وفي الصفحات التالية، سوف نتحدّث عن أصابع الاتهام التي وجهتها السلطات القائمة صوب الكتاب والاتجاهات المغايرة التي وضعت صاحبنا في قفص الاتهام بتهمة المروق والتجديف والضلال والإضلال.
(وللحديث بقيّة)
بقلم : د. عصمت نصّار
الأورجانون الأرسطي.. أول كتاب علم البشرية التفكير العلمي! (1)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. محمود محمد علي
بعد وفاة ارسطو عام 322 ق.م. قام تلاميذه بجمع مؤلفاته وترتيبها وتنظيمها؛ فجمع عددًا من الرسائل ضُمت معا، ووضعت تحت عنوان الأورجانون أو آلة العلم، وأخذت كلمة المنطق معناها الحديث بعد ذلك بحوالي 500 سنة حين استخدمها الإسكندر الأفروديسي. وتحدد مجال دراسة المنطق بهذا الأورجانون، إلا أن هذه الكتابات لم تشكل كلا مرتبا لأنها كُتبت في أوقات مختلفة، وفي غياب خطة واحدة بعينها . كما أنها لم تنشر في حياة ارسطو نشرًا التزم فيه ترتيبا معينا، وكل ما حدث أنها كانت تتناول متفرقة. لذلك يصعب تحديد تواريخ لأعمال أرسطو، ولو بصورة تقريبية؛ فكثير منها كان في صورة مذكرات قصيرة يُستعان بها في المحاضرات، فضلاً عن أن عادة أرسطو قد جرت على أن يعيد تصحيح هذه الكتب باستمرار، ويستخدمها في الكتابات اللاحقة . وعلى كل حال، فإن ترتيب كتب أرسطو المنطقية على يد تلاميذه قد شكل التركيب المعروف للأورجانون الارسطي منذ أواخر الأزمنة القديمة .
ويتألف من ستة كتب منطقية مرتبة على النحو التالي:
1- المقولات Categoria Seu Praediecamenta، ويتناول مجموعة أساسية من المفاهيم. ويطلق على الفصول الخمسة الأخيرة اسم ” لواحق الحركة Post Praediecamemta .
2- العبارة Perihermenias Seu Interpretatione، و يعالج تحليل القضايا والأحكام .
3- التحليلات الأولى Analytica Priora، ويتناول بالدراسة نظرية الأقيسة.
4- التحليلات الثانية: Analytica Posteriora (كتابان)، ويعالج نظرية البرهان العلمي .
5- الجدل Topica، Seu De Locis Communis (ثمانية كتب)، ويعالج فن البرهنة المحتملة .
6- السفسطة De Sophisticis Elenchis، ويعد هذا الكتاب بوجه عام الكتاب التاسع من الجدل ، وهو يعالج رفض الحجج السوفسطائية .
هذه الكتب الستة لا شك في نسبتها إلى ارسطو، وإن كانت هناك بعض الشكوك قد حامت حول كتاب المقولات، ذلك لأن الفصول الخمسة الأخيرة ” لواحق الحركة ” تبدو غريبة عن بقية الكتاب وطريقته . ويبدو أن هذا الكتاب كان ناقصاً، ثم جرى إتمامه بطريقة ملتوية، لذلك يغلب الظن أنها ليست من عمل أرسطو، بل من عمل أحد تلاميذه الأولين، ويخص المؤرخون بالذكر هنا ” ثاوفراسطس ” و” أوديموس”، وإن كانت فيها روح أرسطو سائدة، فهي علي الأقل لا تنطوي على شيء يُناقض تعاليم أرسطو، وهي وإن كانت من وضع تلميذ، فهو تلميذ وفي. وأن دلالة هذا الترتيب، هو أنه يبدأ من المفاهيم (المقولات)، ثم ما يتألف من دمج لمفهومين، وهي القضايا (العبارة)، فالقياس الناتج من دمج ثلاث قضايا (التحليلات الأولى)، فنصل هنا إلي النظرية الأساسية للاستدلال، تلك التي نقوم بدراستها في تطبيقاتها الرئيسة وفقاً لترتيب يبدأ من الأعلى إلى الأدنى: قياس برهاني (التحليلات الثانية)، فقياس جدلي (الجدل)، فقياس مغالطة ( السفسطة) .
وقد لاحظ عالم المنطق الفرنسي “روبير بلانشيه” في كتابه الشهير تاريخ المنطق من أرسطو حتي راٍسل": أن هناك شيئا من الافتعال في هذا ترتيب الأورجانون الأرسطي، ذلك لأننا لا نجد عند أرسطو في أي من أعماله نظرية متطورة عن ” المفهوم ” أو التصور، وكتاب المقولات لا يعالج هذا الأمر، بل يعالج تلك المفاهيم التي هي مقولات. هذا فضلاً عن أن أرسطو توصل إلى نظرية القياس في وقت متأخر نسبياً، ومن المؤكد أنه لم يكن قد توصل إليها حين كتب ” المقولات ” و ” العبارة ” . لذلك كان من الصعب أن نجعل هذين الكتابين مقدمة لنظرية القياس التي لم تكن قد ولدت بعد، ومن ثم لا يمكن أن تكون الكتب التالية لها تطبيقا لها، وهذا من شأنه أن يوحي بأن ترتيب الرسائل في الأورجانون لا يتطابق أيضا، وزمن تأليفها .ومع اعتراف “بلانشيه” بعدم وجود معايير خارجية دقيقة لمعرفة الترتيب الصحيح لكتب أرسطو، مثل إشارات من أرسطو، أو أحد المؤلفين القدماء، فإنه يطبق بعض المعايير الداخلية التي من أهمها تحليل كتب أرسطو من حيث مستواها المنطقي، لأن بعض كتب الاورجانون لا يتجاوز نصوص أفلاطون ومعاصريه، في حين يدل بعضها الآخر على قدرة منطقية خارقة، وعلى هذا الأساس وصل “بلانشيه”، كما وصل غيره من الباحثين، إلى ترجيح ترتيب كتب الأورجانون الأرسطي على النحو التالي:
1- المقولات .
2- الجدل .
3- السفسطة .
4- العبارة .
5- التحليلات الأولى.
6- التحليلات الثانية .
وهناك من الباحثين من يجعل ” التحليلات الثانية ” سابقا على ” التحليلات الأولى”، وهذا خطأ، لأننا نجد في ” التحليلات الثانية ” إحالات إلى نظرية القياس التي عرضت بالفعل في ” التحليلات الأولى” من قبل . وهكذا نري أن ” الأورجانون الأرسطي ” الذي نعرفه اليوم لم يكن من ترتيب أرسطو . كما أنه لم يكن يراعي الترتيب الزمني لهذه الكتب، وإنما كان من عمل تلاميذ أرسطو، وربما راعوا فيه الانتقال من البسيط إلى المركب، ومن المبادئ إلى تطبيقها .
وقد أضاف شراح أرسطو المتأخرون؛ وبالذات الإسكندر الأفروديسي، كتاب المدخل (إيساغوجي) الذي وضعه فوروفوريوس، وهو نوع من التقديم العام لمجمل المنطق، إلى هذه القائمة على أنه مجرد مقدمة لهذه الكتب التي تشكل ما يسمي بالأورجانون الأرسطي . لذلك لم يجد المتقدمون بأسًا من إقرار هذا الكتاب بغرض تيسير فهم كتب أرسطو الأخرى؛ فقد روى ” القفطي” في كتابة " إخبار العلماء بأخبار الحكماء ": أن:”البعض راح إلى فورفوريوس يشكو له خللاً داخلاً عليهم في كتب أرسطو ” ففهم ذلك وقال: كلام الحكيم (أرسطو) يحتاج إلى مقدمة، قصُر عن فهمها طلبة زماننا لفساد أذهانهم . وشرع في تصنيف كتاب إيساغوجي، فأخذ عنه، وأضيف إلي كتب أرسطو، وجعل أولًا لها، وسار مسير الشمس إلي يومنا هذا ” .
وهكذا أصبح إيساعوجي جزءا لا يتجزأ من الأورجانون الأرسطي؛ ولذلك وجدنا المستشرق “ديلاس أوليري” في "كتابه الفكر العربي ومكانته في التاريخ "يؤكد أن:” كتاب إيساغوجي Isagoge أو مقدمة مقولات أرسطو لفورفوريوس، قد اُستعمل قرونًا عديدة في الشرق والغرب بوصفه أوضح المتون التي تتناول منطق أرسطو، وأضبطها من الناحية العملية .. وأن هذا المنطق قد لقي شهرة عظيمة بامتياز عرضه في إيساغوجي ” .
ومن جهة أخرى فإن إضافة إيساغوجي إلي الأورجانون قد وجدت قبولاً وترحيباً أيضا من قِبل شراح مدرسة الإسكندرية الذين توسعوا فيه وأتموه، وعلي رأسهم “سيمبليقوس “و”أمونيوس”، اللذين حاولا أيضا إضافة كتابي الخطابة، والشعر لأرسطو ضمن الأورجانون الأرسطي، وفي هذا يقول العالم المنطقي الإنجليزي “نيقولا ريشر”:” ولدينا قدر طيب من المعلومات عن ترجمات السريان لمنطق أرسطو، ومازال الكثير منها موجودًا، وقد نشر بعضها (ويضم هذا كتب المقولات، والعبارة، والتحليلات الأولى) . وكان إيساعوجي فوروفويوس قد وضع على رأس الأورجانون المنطقي بوصفه مقدمة له، ثم أُضيف كتاب الخطابة وكتاب الشعر في النهاية (وقد أحدث الكتاب الأخير نوعا من الاضطراب للكتاب السريان – مثلهم في ذلك مثل خلفائهم العرب – إذ كان الأدب اليوناني، علي عكس العلم اليوناني والفلسفة اليونانية – كتابا مغلقا بالنسبة لهم تماما . ونتيجة لذلك وصل شراح المنطق الأرسطي من السريان إلى التنظيم الأساسي التالي للأعمال المنطقية . إيساغوجي (فورفوريوس)، المقولات، العبارة، التحليلات الأولى، الجدل، السفسطة، الخطابة، الشعر، وكان من المعتقد أن هذه الكتب التسعة تتعلق بفروع للمنطق متميزة نسبيا، ويقوم كل منها علي نصه القانوني . وقد أخذ العرب هذا البناء للمنطق الأرسطي، وأفضى بهم إلى التنظيم التالي لمادة موضوع المنطق” ... وللحديث بقية..
د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط
شرعية حكم الدولة ومسئولية التطبيق.. الى أين؟
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عبد الجبار العبيدي
الشرعية هي الالتزام والتقيد بأحكام القانون، وهي اساس السلطة التي تحكم مجتمع معين وتمارس فيه الحقوق. ومشروعية السلطة تأتي من باب الأيمان بها وتطبيقها دون مصلحة شخصية أو انحراف سياسي معين، وهي تمثل العلاقة القانونية التي تختص بتطبيق الحق القانوني واقراره المُلزم للوطن والشعب،وكل التعليمات القانونية الصادرة من الاعلى الى الادنى.. بحق قيادة الوطن في التطبيق.. فأين من يحكمون الوطن العراقي اليوم منها..؟
والشرعية هي النظام او المنهج الواضح الذي يُرسم أو يُسن للناس في شؤونهم. وبهذا المعنى يفهم قول الشافعي (الا سياسة الا ما وافق الشرع). أي المنهج والنظام الذي أختارته الجماعة وأتفقت عليه وأرتضته لنفسها ميراثاً أو أكتساباً لصالحها وخدمة شؤونها لينتفع منه عامة الناس . من هنا يتبين لنا ان السياسة الاسلامية هي ما تقره الشريعة الحقة المعترفة بمساواة الحقوق ضمن صيرورة الزمن في التغيير،وهي بمنزلة الجزء من الكل. وفي الاسلام هي المبدا الاعلى والمنطق الاسمى الذي يتوج نظام الحكم الاسلامي،وهو التضامن الحقيقي بين الناس وهيئة الحكم في تنفيذ ما أمر الله به دون اعتراض.. مستبعدة تطبيق العدالة الأنفرادية بين عامة الناس خدمة للصالح العام .
والشرائع القانونية قديمة قدم الحضارات كما في العراقية واليونانية والرومانية، ففي الحضارة العراقية القديمة شريعة أصلاحات آوركاجينا، وشريعة آور نمو عند السومرييين،وشريعة حمورابي عند البابليين االمتمثلة، بمجموعة قوانين حمورابي الملزمة التنفيذ في وقتها والتي هي اكثر عدالة مما يطبق اليوم في ظل عدالة الاسلاميين الذين انحرفوا عن الشريعة الاسلامية واستبدلوها بشريعة السلطة الميتة المبتكرة ظلما على المسلمين . ،والمعروف ان حمورابي قد وضع في شريعته ما مجموعه 282 مادة قانونية في مختلف النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية. وتعتبر الشرائع العراقية القديمة من اقدم الشرائع العالمية.. وأفضلها وغالبية ما جاء به الاسلام من قوانين شرعية مُستل منها.. كما في :"العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص".
لكن الكلمة لم تظهر بمعناها الواسع الا في العصر الحديث بعد الثورةالفرنسية عام 1789 والنهضة الاوربية وحركات الفصل الديني عن السياسة حيث أصبحت ذات معنى عريض،ومكانة عظيمة، فهي تدل على سيادة القانون وحقوق المواطنين في الحرية والاخاء والمساواة في الدولة،وربما كانت جزء من مصطلح الايديولوجيا.. اي المبدأ والعقيدة والفلسفة التي يقوم عليها النظام المعاصر في بلد معين،ولربما أستعملت الشرعية بمعنى مطابقتها الفعل اوالعقد اوالقرار لنظام قانوني صحيح،فيكون شرعياً بهذا.. وليست شرعية المتدينيين الذين حصروا الحقوق بهم دون الأخرين والذين تجاهلوا ان العلاقة بين القديم والجديد هي علاقة جدلية يتبادل الاثنان فيها التاثر والتاثير وصولا الى حالة الاستقرار يلتقي عندها الاثنان في تركيب لا يشبه اياً منهما .
ولا يستطيع اي باحث او كاتب ان يتعرض لمعطيات شرعية دولة من الدول في النظام او القوانين،في الحياة الاجتماعية او السياسية او الثقافية لبلد معين،سواءًًكان هذا في الماضي او الحاضر،مالم يدرس او يبحث ويسلط الضوء على المنهج او الشريعة لانها تمثل طبيعة الفلسفة والقوانين التي كانت تحكم ذلك النظام،او هذه الدولة،في هذه الحقبة او تلك،لاننا لا نستطيع ان نتفهم كيان أسمه نظام أو دولة مالم نتلمس معنى دقأئق تلك الفلسفة أو المعتقدات التي أرتضتها الجماعة لتكون لها ميراثاً قانوني عَتيد.
ان الحكم في الاسلام اساسه التراضي او التوافق وفق مبدا الحق والعدل وليس مبدأ التفرد والأستغلال كما يعمل به اليوم في دولة اللاقانون،لأن الشرعية علاقتها واضحة بمبدأ الشورى والرضى عن المُولى يأتي عن طريق توليته وحقه الشرعي،ثم يكون المُولى أهلا للحكم وليس غاصباً له "كما يقول نوري المالكي: "أخذناها وبعد ما ننطيها"، أو كما قال الدكتور محمود المشهداني رئيس الحزب الاسلامي : "نحن جئنا كعصبة تفليش وتهديم لا بناء واصلاح".. وهم يمثلون احزابا أسلامية تعاملت مع الخيانة الوطنية بعد التغيير. لان الخلافة او الرئاسة في المفهوم الاسلامي تمثل السلطة التي تقوم نيابة عن الرسول (ص) بالنظر في مصالح المسلمين - كل الشعب دون تمييز-حيث يعتبر الخليفة او الرئيس الحاكم الاعلى للدولة ويجب طاعته بشرط ان لا يخالف الوصايا العشر في الحقوق التي وردت في الفرقان شرطا مكتوبا عليه.
ويبقى الشرط مقرونا بشروط الكفاءة التي يجب ان يتمتع بها الحاكم وبأخلاقية التطبيق، منها العدالة والعلم وسلامة الحواس وسلامة الاعضاءوالشجاعة في قول الحق وحقوق الرعية والرأي المفضي الى تدبير المصالح للامة او الشعب. يقول الحق : "ألم*الله لا آله الا هو الحي القيوم* نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والانجيل من قبل هدىً للناس.. وأنزل الفرقان آل عمران 1-3". أي ان القرآن قد صادق على ما ورد في الكتابين السابقين،لأن الوحي لا يتجزأ في جوهرة الذي يأتي في أتفاق مع كل عصر.. من هنا فالشرعية الدينية واحدة لا تختلف يجب ان تطبق على الجميع لا كما فهمها فقهاء الدين الذين حول الاسلام الى مذاهب لا دين والتي لم يتفوه بها الامام جعفر الصادق ولا الأمام ابو حنيفة النعمان.. ومن لديه الاعتراض فليأتينا بنص ودليل. فحول الفقهاء الدين الى أديان ومن يتبعهم بالانفرادية بهم دون الاخرين.. فأذا جاء الدين من اجل الفرقة والأقتتال بين الناس وتدمير الحقوق والشتيمة للسابقين.. فلا اعتراف بدين من هذا القبيل.
اما التراضي والتوافق اللذان ينادي بهما من يحكمون اليوم باطلاً فقد حددت الشريعة المتكاملة له شروطا اقسى وأمر منها :ان لايُقدم المفضول على الافضل لاي سبب كان.. وان يُختار صاحب المنصب المتوافق عليه ممن تنطبق عليه شروط التولية وان يكون أمينا يتمتع بالسمعة والسلوك الحسن دون ان يحق لاحد مجاراته لاي سيبب كان. ،كما في رفض الامام علي(ع) تولية اخاه عقيل لعدم توفر شروط الطلب فيه. فأين نحن من تطبيق الشرعية الملزمة بالقرآن التي يدعون بها اليوم؟.. في دولة فقدت الشرعية القانونية في التطبيق.
لكن النقطة التي يجب التنويه اليها هو ان قادة الشيعة العلوية لا يلتزمون بهذا المبدأ العام في تطبيق الشرعية السياسية،بل بمبدأ شرعية التفضيل لاهل البيت دون سواهم وأهل البيت ابرياء منهم ومما به يعتقدون حين لا نجد نصا مقدسا في ذلك وان الامام علي قبل بولاية البيعة في التنصيب.. . حين جوزوا ان لا احد يسمى امير المؤمنين الا علي بن ابي طالب، ولا يجوز لغير الأئمة من نسل الامام علي وزوجه فاطمة الزهراءان يتلقبوا بهذ اللقب. لان كل أمام يوصي للذي يليه في الامانة،حتى يصبح المرشح الشرعي للوظيفة المقدسة ( السيوطي،اللآلىء المصنوعةج 1 ص 184-185). وماذا بعد انتهاء الأئمة الأثنا عشر.. ابتكروا قضية المهدي المنتظر لتبقى صلة الحكم فيهم الى يوم الساعة.. علما ان الامام الحسن العسكري(ع) مات دون عقب. ويقول كولد سيهر المستشرق الالماني في كتابه العقيدة والشريعة ان سورة الشمس بأدعاء الشيعة الامامية جاءت في القرآن بحق محمد وعلي والحسن والحسين (عقيدة الشيعة ص175). من هذا المنطلق فقد عدت الشيعة الامامية كل من يخرج على هذه المفاهيم خارجاً على المصادر الشرعية والارشاد الديني وقيادة الجماعة الاسلامية . وهذا يعني من وجهة نظرهم هم اولياء الناس دون غيرهم. فأي شرعية هذه التي بها يعتقدون. .
من هذا التوجه الخاطىء هم يعتقدون ان وجود الامام لكل عصر آمر ضروري برأيهم لا يمكن الاستغناء عنه لتنفيذ الشريعة واحقاق الحق وقواعده وأرساء العدل والمساواة التي جاء بها الاسلام وياليتهم يطبقون مبادىء الاختيار. وعلى هذا الاساس فالامامة واجبة وتنتقل بوراثة لا تنقطع للحائزين على هذه الصفات،لانهم كانوا لا يرون الحكومة الا ان تكون حكومة مقدسة ويا ليتهم كانوا اوفياء لاهل البيت كما يدعون بعد ان مسخوا تاريخهم الى ابد الأبدين بهذا الأنحراف السياسي البغيض والذي قل نظيره في العالمين غش وتزوير وسرقة وقتل وتدمير.. ان من يدعون بهذه القيم الشرعية أولى بهم ان يكونوا هم المطبقون لها وليس الخارجين عليها في كل آدوار التاريخ الاسلامي.. كما في الدولة المهدية في المغرب والفاطمية في مصر والبويهية في العراق.. ودولة الخيانة اليوم في العراق.
ان مسألة الشريعة والتشريع مسألة في غاية الدقة والاهمية بعد ان رأينا ان التجربة الكبرى التي بدا بها صاحب الدعوة قد توقفت بعد وفاته حين اشتد الخلاف على الرئاسة بين المسلمين كل يريدها له،وكأن الدولة اصبحت شركة قابلة للقسمة بينهم وليست لعامة المسلمين.
. ولقد خاض الفقهاء الذين لم يستوعبوا فلسفة الرسالة الدينية اثناء الخلافة الراشدة مساجلات ومناقشات ادى الى تشريد وقتل الكثير منهم،فكان الصحابي ابو ذر الغفاري وأبو عبيدة منهم،فكانت اول ثورة على الواقع المزري في الخلافة الراشدة كما سموها تجاوزا على التشريع.. حين بدأت اعوان الخلافة بتفريق اموال بيت المال على الاقربين والمحاسيب دون حسيب او رقيب كما نرى أحفادهم اليوم في عراق المظاليم.. وكما نشاهده اليوم في دولة الشيعة العراقيين الذين خانوا الوطن مع الاجنبي الذي يسمونه بالكافر والذين ركعوا على يديه قبل التغيير،ونهبوا اموال الناس وزوروا كل حق الى باطل بعد ان سكتت مرجعياتهم الدينية (المقدسة )عن الأعتراض سوى تلميحات لذر الرماد في العيون.. لا بل شاركت في الجريمة وشرعنة الاحتلال . وباعوا حتى سيف الامام علي للمحتل الكافر دون اعتراض من احد منهم.. هذا مبدأ خطير جر على الدولة الويلات..
وسط هذا الزحام من النصوص يقف المؤرخ حائرا في شرعية الدولة، فيختلط الحابل بالنابل وسط منهج دراسي لم يراعي اصولية المنهج ولا مسئولية العقيدة ولا حقوق الناس. واليوم كل يدعي انها له دون الاخرين وها ترى الفِرق تتقاتل والناس تجري من ورائها دون هدى ولا صراط مستقيم كما في دعوة مقتدى الصدر للحكم حتى حولوا الدولة الى فوضى المنتفعين.. من يعتقد ان الامة ستخرج من النفق المظلم فهو واهم فهل من مشروع اسلامي نهضوي جديد او ميلاد مجتمع جديد.. ؟
واليوم يطرح السيد برهم صالح رئيس الجمهورية الذي ولد من برلمان لم يكتسب الشرعية مشروعه الجديد.. واكتشاف القانون الذي يحكم الظاهرة الحالية لكي يفرض نفسه على مجتمع مزقته المصالح والانانيات،وأورثت فيه من العادات والتقاليد التي لم يأتِ بها الاسلام ابدا ولا شرعنها في شريعته هذا مستحيل لأن صاحب المشروع نفسه لا يؤمن بقاعدة أسس المشروع الجديد.. وهو الذي قال امامنا قبل التغيير في واشنطن انه لا يؤمن بوطن واحد للعراقيين.. فلا حل اليوم الا بحكومة وطنية تأتي بها انتخابات نزيهة وليست تحت سلاح احزاب الخونة والمارقين من قاتلي شباب تشرين الأبطال. وتنحية النص الديني في سياسة دولة المواطنين .
لقد اصبح من الصعب جدا ازاحة الخطأ الذي لم يتعلموا منه عبر العصور من رؤوس الناس بعد ان اعتقدوا بصحته عبر الزمن الطويل، ان الفكر المضاد الذي يريد ان يعالج الواقع الموضوعي عليه ان يعالج الكل الاجتماعي بظروفه وقوانينه التي تركزت في الاذهان . وهنا لابد من ان يسلك الطريق الصعب طريق الاستقراء والاحصاء والاستقصاء والتمحيص والتصنيف والتمييز بين الطبيعة الاصلية وبين الظواهر العارضة،أنظر ابراهيم الغويل،المشروع الاسلامي ص193).
هنا يقف الكل امام حيرة التطبيق ومن اين نبدأ؟ وكيف؟ ومن يستجيب؟ ويبقى السؤال المطروح،هل ان الاسلام يستطيع معالجة مشكلات العصر الحديث اليوم وسط هذا الضجيج العالمي الكبير؟ وهل لديه ايديولوجية ترقى الى هذا المستوى؟وهل لديه من المفكرين الاحرار الذين يستطيعون نقل الصورة الحقيقية للاسلام للاخرين؟ بكل صدق وصراحة بعيدا عن العاطفة الدينية،أقول: لأ..؟
. لأننا لازلنا نتعكز على التفسير والمفسرين القدامى وعلى فقهاءالبويهيين والسلجوقيين الذين فسروا القرآن وفق منطوق اللغة العربية القديمة التي لم تستكمل تجريدانها اللغوية على عهدهم بعد.. وفقه الفقهاء للقرون الثلاثة الاولى الهجرية.. الني جاءت لخدمة السلطة لا شرعية الدين ونظرية ولاية الفقيه والمهدي المنتظر الوهمية ومراكز التوجيه الديني الحالية، لذا سنبقى نراوح مكاننا الى ان يرث الله الارض وما عليها. أذن كيف يجب ان نختار؟ هذا ما يجب ان نبحث فيه بروح التجرد لا بمنطق الفرق الدينية المتعارضة اليوم.. لا يوجد مستحيل لمن يحاول.. وهو يطلب الحق وان قل.. ولكن بقناعة المنطق لا بقناعة التهريج.
ان الذين استولوا على مفاصل الدولة من العدو الكافر كما يقولون لن يسمحوا للفكر ان يحضر لنقاش حقوقهم من عدمها.. لأنهم هم اصلا لا يعترفون بحقوق الاخرين.. وما دامت نظرية الدين هي التي تحكم يؤيدها المتخلفون والنفعيون لن نصل الى ما نرغب ونريد من وضوح الرؤيا في التنفيذ.
د.عبد الجبار العبيدي
فايروس الكورونا في العراق.. المشكلة والحل
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عامر هشام الصفار
من المعروف أن فايروس الكوفيد19 والذي أنطلق من الصين في حالات شخصّت في نهاية عام 2019 وتم الأستدلال عليها في كانون الثاني 2020، قد أصبح اليوم فايروساً عالمياً ووباءاً فتاكا. فقد أنتشر في أكثر من 180 دولة في العالم وأدى الى 109 مليون أصابة لحد اليوم، وبعدد وفيات يزيد على المليونين ونصف المليون حالة وفاة. والأدهى من ذلك أنه ثبت اليوم بما لايقبل الشك أن فايروس الكوفيد 19 (المسبّب لوباء الكورونا) أنما هو فايروس مناور ومتحوّر، فقد ظهرت منه سلالات جديدة، وتغييرات وراثية عديدة. ففي مدينة كَنْت الأنكليزية شخّصت مختبرات بريطانيا سلالة جديدة من الكوفيد19 لها تركيبها الوراثي الذي يختلف عن الفايروس الأصل الذي نشأ في الصين. وكذلك فقد كشفت مختبرات العلوم عن طفرات وراثية شملت البروتين الشوكي (السبايك) على سطوح الفايروس، وهو البروتين الأصل الذي يسبب المضاعفات الألتهابية في جسم الأنسان، من خلال ألتصاقه بسطوح خلايا الجسم البشري. وعلى هذا الأساس تم تشخيص سلالات جنوب أفريقيا والبرازيل من فايروس الكوفيد19، أضافة الى السلالة البريطانية التي ذكرتها..ولا توجد مثل هذه الأمكانيات العلمية لمختبرات رسم الخارطة الوراثية للفايروسات في كل أنحاء العالم، أنما تتواجد فقط في دول متقدمة علمياً، فيتم التشخيص وتتخذ الأجراءات على هذا الأساس.
ثم أن السلالة البريطانية كما ذكرت المصادر العلمية موجودة اليوم في أكثر من 50 دولة في العالم، ومن المحتمل جداً أن تعّم العالم، فأذا بنا في هذا العام 2021 سنتعامل مع فايروس الكوفيد19 المتحّور الجديد المستجّد والذي يختلف عن صاحبه فايروس 2020. وهنا جاء دور العلماء في تطوير اللقاحات، وأيجاد لقاحات جديدة تستجيب لتحديات هذه الفايروسات.
ونبقى نراقب ما يحصل على أرض الوطن العزيز العراق.. فنرى اليوم أن عدد الأصابات بالكورونا في أزدياد حسب أحصائيات وزارة الصحة وخلية التعامل مع الكورونا. وفي نفس الوقت نرى أن تجمعات الناس والعشائر وأبناء الشعب قائمة، ولأسباب مختلفة، وكأن شيئا لم يكن، حتى أن الأحزاب السياسية قد دخلت في منافسة من نوع ما، في الدعوة لعقد تجمعات للناس في مثل هذا الظرف الوبائي الصعب. والجميع يعلم اليوم أن فايروس الكورونا أنما ينتقل بين شخص وآخر، وبين الناس كلما أقتربوا من بعضهم البعض، وكلما لم يلتزموا بأرتداء الكمامات، ولم يلتزموا بقواعد وأصول الصحة العامة، من محافظة على النظافة الشخصية والتعقيم، والحفاظ على نظافة المكان وتهويته بشكل صحيح.
ثم ان حملة التلقيح ضد الكورونا في العراق متلكئة كما يبدو وبطيئة..ولم تبدأ لحد الآن، بل لم توضع لها الجداول الزمنية الخاصة بمثل هذه الحملات، ولم نعرف بالدقة العلمية أنواع اللقاحات التي ستستخدم في العراق، وفيما أذا كانت مستلزمات خزنها متوفرة ومؤمّنة. فكما هو معروف فأن بعض اللقاحات وخاصة لقاح فايزر/بايوتنك أنما يحتاج الى درجة حرارة تقل عن الصفر المئوي ب 70 درجة، وهذا بدوره يحتاج لأجهزة تبريد خاصة. كما لم نسمع عن حشود الأطباء والصيادلة، والممرضين والممرضات، من الذين سيقومون بحملة التلقيح ضد الكورونا، وهل سيتم تدريب متطوعين ومتطوعات في هذا المجال؟. والأمر الذي يبعث على الأستغراب أن لا حملة توعية وتثقيف تجري في العراق للتعريف بأهمية التلقيح، والتصدي للأشاعات، والتي تملأ الشارع العراقي ضد اللقاحات، والتي أثبتت البحوث والتجارب الطبية السريرية فائدتها الكبيرة للحد من الأصابات بالكورونا، وخاصة الشديدة منها، بل والحد من أنتشار الفايروس في المجتمع. وأذا كنا أكثر صراحة في هذا الموضوع، فلابد أن نقول أن لا مناعة قطيع ممكنة دون الأنتباه الى حملة التلقيح والأستعداد لها. حتى أذا ترك الحبل على الغارب، وأنتشر الفايروس بين الناس دون رادع، فأن ذلك يعني حصول آلاف مؤلفة من الأصابات بين أبناء الشعب، وآلاف من المرضى في المستشفيات، بل وآلاف من الوفيات.
وعلاوة على كل ذلك فالدول المجاورة للعراق ينتشر فيها الفايروس بشكل وبائي خطير، ولم نسمع عن أجراءات حدودية معينة تؤمّن البلاد وتحميها من أن تصلها السلالة الجديدة من فايروس الكوفيد19.. خاصة منها البريطانية والجنوب أفريقية، والتي رصدت حالاتها في بعض دول الجوار العراقي.
ثم من حقنا أن نسأل عن خطة خلية الأزمة في التعامل مع الكورونا، فأين الأختبارات الخاصة بتشخيص الفايروس، وعزل ومتابعة المصابين، والذين كانوا على تماس معهم، مما يجب أن يصرّح به المسؤول بشفافية ووضوح، ويعمل على تنفيذه حالا؟. فمن حق المواطن أن يعرف الحقيقة.. كل الحقيقة.. فلا يمكن أن تتخذ قرارات من قبل المسؤول دون توفر المعلومات أمامه وأمام الشعب الذي يقوده.. أمامه ليتخذ القرار الصحيح، وأمام الشعب للأقتناع بغية الألتزام بالتطبيق.
أن فرض منع التجول لساعات محدودة ليلاً لن يكون الحل الأمثل لمشكلة وباء الكورونا، والتي تتفاقم عراقياً للأسباب التي ذكرتها. فلابد من حلول ناجعة، وخطط متكاملة، للحفاظ على صحة المجتمع، وصحة الأنسان العراقي الذي عانى الأمرّين، كما عانى أقتصاد البلاد من مشاكل كثيرة، جراء عدم القدرة على السيطرة على وباء الكورونا.
ولا ننسى في هذه العجالة من أن ندعو الى بذل أقصى الجهود للحفاظ على صحة وسلامة الكوادر الطبية والصحية العراقية، العاملة في المستشفيات والمراكز الصحية الأخرى، حكومية كانت أو أهلية. فلقد ضحى الزملاء الأطباء مثلا بالكثير، وأستشهد العشرات منهم بمختلف الأعمار والدرجات العلمية والوظيفية، بسبب مضاعفات الأصابة بفايروس الكورونا، وعليه فالدولة العراقية مسؤولة عن توفير أفضل ملابس الوقاية الشخصية، ومعدات الحماية الأخرى المعروفة للأطباء، وللعاملين في المجال الصحي، من ممرضات وممرضين وصيادلة وغيرهم، مما يساهم في الحفاظ على سلامتهم، ويقلّل من أحتمال أصابتهم بالفايروس. هذا أضافة الى أعطائهم الأولوية في التلقيح ضد الكورونا، وحالما تم توفير اللقاح.
وكما لا يخفى، فالتطورات كبيرة ومستمرة في علاجات مرضى الكورونا وبمراحل الأصابة المختلفة، مما تجيزه المستشفيات في العالم، وتجيزه أيضا منظمة الصحة العالمية، والتي يتوجب على المسؤول العراقي التنسيق الكامل معها، ومع كل دولة تملك القدرة وترغب بمساعدة العراق في مجال مكافحة الوباء.
كما لابد من أن نذكر الأهمية القصوى لأجراء البحوث العلمية حول أصابات الكورونا في العراق. وهي بحوث وبائية، وميدانية، وسريرية، ومختبرية، الى غير ذلك مما يعطي البيانات والمعلومات الدقيقة والضرورية، والتي تساعد على تفهم ما يجري في الساحة العراقية بصدد فايروس الكورونا. كما لابد من حضور الشفافية والصراحة في تبيان نتائج هذه البحوث ونشرها للناس، والتعريف بأبعاد المشكلة الصحية الوبائية تفصيلا، فهذا وحده الكفيل بأن يتجنب الوطن الكوارث.
والله من وراء القصد.
د. عامر هشام الصفّار
الضّحك المرّ.. عزف على أوتار دبدوبة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: هيام مصطفى قبلان
للأديبة فاطمة ذياب
من "مذكرات دبدوبة" في زاوية صحيفة الصّنارة، من عمل مشترك لصديقتين وزاويتين، واحدة ثمثّلها دبدوبة، والأخرى" على أجنحة الفراش"، تكتمل اليوم الأدوار وتتلاقح لتلتقي لتفريغ خوابي العمر من لواعجها في أتون اللحظة.
" دبدوبة" الشخصية التي اتّخذتها الأديبة فاطمة ذياب لتسقط عليها واقعا مريرا لمجتمع بأكمله، دبدوبة التي تمثّلنا: أنا وأنت، هي وهو، ثمثّل الذّات التي بداخلنا بنزعاتها وتقلباتها بفرحها وبؤسها، بضعفها وعنفوانها، هي الذات الجماعية التي تشدّنا الى الواقع الذي نعيشه ونعود اليه بعد تحليقنا في عالم من الكمال.
لست بمعالجة نفسية ولا بمصلحة اجتماعية ولا بناقدة أدبية، لكنني أحاول أن أغوص في لجّة النصوص وعوالم من جمال ومن قبح من أزمات ومن ضحك للدنيا وعليها، فاطمة التي بدورها تتقمّص شخصية " دبدوبة" وتسهّل لفاطمة الأديبة عملية اطلاق السّهام وخوض المعارك مع المجتمع فتطرح أمامنا مواضيع واردة في الذّهن ومترسّخة بداخله ونعرفها جيدا لكننا نتحاشاها ونعمى عنها كي لا نشوّه الحياة بعزف على وتر متحشرج من أصابع دبدوبة .
تدور نصوص فاطمة حول مواضيع هامة: كالتابو الاجتماعي،والازدواجية في الشخصية العربية،والبحث عن الذات والتحليق،تتطرّق أيضا لمعاناة المرأة والكبت والمقاومة والاصرار، للصراع الداخلي بين الشخصيات،لرسائل من كلمات خاصة في زمن خاص والى الرحلة الصعبة.
لغة الكاتبة: لغة فاطمة لا تخلو من السخرية والتهكم، أدخلت اللغة العامية في الحوار حيث جمعت بين العامية والفصحى،لغة السّرد جميلة ومشوّقة وخالية من التعقيد أي لغة غير مركّبة،أدخلت الأمثال الشعبية في أماكن مناسبة للموضوع،في لغتها وظّفت "الرّمز" بتوفيق مع تداخل الصوتين لشخصية فاطمة الأديبة ودبدوبة بطلة معظم النّصوص وباختصار اللغة سهلة ومقروءة.
وبعزف على أوتار" دبدوبة " نضحك في معظم النّصوص لمشاهد ومواقف مضحكة حتى المرارة والوجع .. سوف أختار من بين النصوص ما يليق بهذا الضّحك المرّ، وما يليق بعزف دبدوبة الشخصية " المجنونة والعبقرية " في اّن واحد والتي تحاول اخراج الأسرار الدفينة من الذات الصغرى والتي يحملها كلّ واحد منا، ففي كلّ فرد سرّ نحاول اسقاطه على الاّخر لغاية انفجار أنبوب التفكير الذّهني فتخرج شرارات الكبت والغضب وتتلاشى كدخان يتصاعد من بعيد.
من خلال دبدوبة في " ندّاهة الليل " ص88: البحث عن الذات المتصدّعة والاصرار رغم الثقوب التي بحاجة لترتيق تقول:ما زلت أبحث عن تلك الذات،، قد يمضي العمر ولا أجدها ولا تجدني ومع هذا سأظلّ أحاول..! اذا الاصرار موجود لشقّ دروب مضيئة وسط ظلام الليل الدامس وبخطوات ربما تكون وئيدة لكنها تحتاج للصبر والتخطيط ..وكأني بها الكائن الثائر من أجل ما سيكون، وما النّداهة سوى السلطة العليا التي تسلبنا الارادة وتحوّلنا الى ضحايا.." ندّاهة الليل" تذكّرنا بحكايات الجدات وتخويف الأطفال من الشبح والذئب والغول ..وذات يوم حين غابت عن وعيّنا هذه النّصوص الخرافيّة أصبحنا نبحث عن ندّاهة ليل أخرى وربما مختلفة نراها في شبح امرأة عائدة بثوب جديد وكما تقول فاطمة:" أعاد الغرب تفاصيلها وعلّمها الديموقراطية والحرية والعدالة، لكنها وظّفت قوتها بالصّراخ وسلب العقول والارادة"، وفي هذه الرمزية في النص"بعد سياسي" يوم أرسلت هذه المرأة النّداهة الى العراق فتحوّل الجميع بتأثير من تنويم مغناطيسيّ الى نيام وأما راعي الأبقار فله الحق بوضع الدستور والفيتو ممنوع لا جدال عليه ولا نقاش وعلى كلّ الأمم أن تبصم للنّداهة بعشرة أصابع .
وفي لحظة غرور بين (ليلى والذئب) توظّف الكاتبة من الأساليب الفنيّة ، الرّمز والاسقاط،والتشخيص،والتحوير، وفي نص ليلى والذئب تجري حوارا بين ليلى وجدّتها بلسان دبدوبة وبتحوير لقصة (ليلى والذئب) الواردة في أدب الأطفال الى قصة ساخرة بأسلوب تهكميّ يحتاج منا للتفكير وحلّ للغز العلاقة ما بين (الطنجرة والمغرفة) في النّص:
تقول دبدوبة: يخلف عليكم يا دار أبو طنجرة
صاحت الجارة:أنا من دار أبو طنجرة ؟ ما هذا الهراء؟
دبدوبة: (اللّي في الطنجرة بتطلعه المغرفه)
الجارة: لا أفهم علاقة الطنجرة والمغرفة بي !
دبدوبة: انتبهي انّها علاقة القلم بالذات، يعني علاقتك بي كذلك
والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا اختارت الأديبة قصة ليلى والذئب كمحور أساسي لحلّ اللغز ومن خلال حوار بلسان ليلى بين الجدة الكاتبة وليلى الدبدوبة وتصلان الى حلّ، وأنّ هناك علاقة أكيدة بين القلم والذات الكاتبة التي هي كما نرى " دبدوبة" بلسانها السليط ونظرتها الثاقبة وأبعادها التي تراها من ثقب ابرة؟ اذن هذا القلم الساخر يملك الخيال في طرح حالات هادفة فيكتشف القارىء أنّ دبدوبة ليست المرأة المترهلة ولا العمياء ولا اللاهثة وراء المظاهر الخارجيّة بل هي الدبدوبة التي تستطيع صنع المستحيل لتصل لهدفها دون مساحيق ولا أقنعة، ومن هنا أنتقل الى نصّ كنموذج ساخر بنقد من عينيّ دبدوبةعن التملّق والمحاباة بين الحماة والكنّة بعنوان (يا كنينة الزينات يا كنينتي)ص26:
قالت دبدوبة: هل سمعت موّال الحماة والكنّة؟
قلت: هاتي يا دبدوبة من الاّخر.
قالت: كان وحداني لأمه، وأمّه بدها تجوزه بنت أختها، بسّ الولد كان يحبّ غيرها من قبيلة ثانية،ويوم ما حبّ الولد يصارح أمه
وقال: يا ميمتي طالع طريق الجبل، صيّاد يا أمّي واصطاد لك حجل، وأجيب لك عبلة بنت أمير العرب .
ردّت: يا ميمتي، أريدك ولا أريدها، أفتح البابين وأغلق لها.
وصار المدلل يوصف محاسن عبلة لأمه
قال: يا ميمتي لو تشوفي عيون لها، طفح الفنجان عيونها، يا ميمتي لو تشوفي عنقها عنق الغزلان عنقها، يا ميمتي لو تشوفي بياضها، بياض الجبينه بياضها. وظلّ الابن يعدّد محاسن عبلة، والأم مصرّة على موقفها: أريدك ما أريدها، أفتح البابين أغلق لها.
تنصت دبدوبة عن الكلام المباح وأستحثّها قائلة: وماذا بعد؟
قالت: لا قبل ولا بعد، قلب العاشق ما برد، لا على أمّ ولا على جدّ. الولد طاروحطّ في ديار عبلة، قعد كم شهر في ديار العروس، خطبها وعقد عقده عليها، وجهّزها ورجع بها على ظهر الفرس. ولمّا الأم عرفت بالخبر،أكلت حالها وقالت: يا حسرتي، حسّ الفرس همهمت كنّو جابها المقصوف الي،واجت؟ ولمّا ابنها قرّب على ديرتها، قامت الحماة ترقص وتقول: يا كنينة الزّينات / وأنا اللي نقيتك على عوينتي..! بسّ العروس كانت أحدق من الحماة ردّت عليها:ولك يا عجوز السّو بتكذبي / مقصّ شيبك في جيبتي/لقصّ شيبك مع شوارب ابنك!
قلت لدبدوبة: هذا كان زمان ماذا عن جيل اليوم؟
قالت:الحال من بعضه، واللي بسلّف السّبت بلاقي الأحد قدامه.
قلت: ( كنّة القوم بنتهم، وبنتهم غريبة)
قالت: اسكتي (مكتوب على باب الجنّة عمر حماة ما حبّت كنّة).
قلت: من وصل باب الجنّة وقرأ هالمثل يرفع اصبعه؟
رفعت دبدوبة اصبعها وقال: أنا.
أستمر باقتباس من النماذج الساخرة: فاطمة حتى بكتاباتها السياسية تسخر من الوعود الكاذبة والشعارات الرنانة والفوارق الطبقية واقدام المرأة لترشيح نفسها للمجلس أو البرلمان، وتطالب بالحرية والعدالة والعيش الكريم، في نص( مطلوب حالا ص220 ) تخرجنا من همنا الفردي الى الجماعي تقول: " مطلوب نوّاحة عربية، ومصنع لمناديل ورقيّة،وباحشي قبور، وربطات عنق،وجنازة رسميّة لتشييع جثمان أحلام النّساء اللواتي قضين في معارك الجهاد وحرثن الأرض بالطول والعرض كي لا يسقط واحد من فوق.. لكن نبض الشّارع يسأل: ماذا أعددتم يا سادة لمواجهة الفقر والجوع والبطالة؟ نحن نرفض أن نظلّ مجرّد أرقام في ملفات التأمين وفي تقارير عميد بنك اسرائيل وملفات أعضاء البرلمان، فلقمة العيش على رأس سلّم أولوياتنا !
نبض الشارع يقول: " نريد من ينزل الينا، على الأقل أعطوهم سحسليّه لزجه ليهبطوا الينا ".
ومن السّخرية الى الجديّة المفعمة بالمشاعر النبيلة والألم وبوخز الخاصرة والفؤاد .. لم تنس الكاتبة شاعرة فلسطين الأولى الشاعرة فدوى طوقان رحمها الله .. حيث خصّصت لها حيّزا محترما في الكتاب والمفارقة الصّعبة: نبذة عن حياة الشاعرة وأعمالها، جزء من كلمات خاصة في زمن خاص جدا وذلك من خلال رسالة وجّهتها لفدوى بصدد رحيلها ووقوفها أمام " الباب المغلق" وبضمير " نحن" تقول: نكتب أشعارنا حروفنا أوجاعنا/في رحلة ( جبلية صعبة) والرحلة الأصعب أن نعزف اللّحن الأخير ذكرى/ وذكرى ضحية أخرى... وتتطرّق فاطمة لحكاية صغيرة وجّهتها لابراهيم طوقان وبأسلوب راق جميل وحكاية صغيرة عبارة عن (فلّة ونظرة) من ابن الجيران لفدوى، نظرة محمّلة بالخطيئة لتتحوّل الفلّة وأضيف الفلّة المحرّمة الى قيد وسجن وقرارصعب والأصعب" لن تخرجي من البيت الّا الى القبر" وتضيف: " ان كان لا بدّ من القيد فتعالي فدوى أعلمك الانتحار على مذبح الشّعر كي تولد في هذا الوطن شاعرة /وترنو فدوى ونرنو معها/" أن يصير الحبّ هو الدّنيا / أن يصير الحبّ هو الرؤيا / أن يصير الحبّ هو الدّرب ".
الخاتمة: وفي رساله من فاطمة (الى فيروز الكرمل) بردّ منها
على مقال بقلم (هيام مصطفى قبلان) نشر لها في ملحق سوا في صحيفة الصنارة وبعنوان (فلتكن اللعبة خطيرة) تقول فاطمة بردّها: "هي الدّنيا نضحك لها وتضحك معنا، لحظة من عمر الحزن والأحزان، نعاود اعتصار القلوب، ونقش الجراح، والوجع يسكننا حتى اّخر دمعة نسكبها ليس فقط خلف المرايا الحزينة بل على الورق في رحلتنا الأسبوعية معا حتى تلتئم الجراح وتندمل " .
أتوقّف هنا لأقول لك يا رفيقة الدّرب (الضّحك المرّ) كالفرح اليابس تحت اللسان..انّه العزف على أوتار دبدوبة وعلى وتر كلّ واحد منّا.هذا الصراع ما بين غربة الذات والمكان وما بين الموت والحياة أنبت في حديقتك بذرة ملتحمة بالأرض والوطن،يتصاعد لحنها الحزين ويرتفع كما الروح المغادرة جسدها والمتعلّقة بقلادة الرّب، بحبل النجاة تواجهين الواقع بمعاهدة صغرى دون خوف ودون سلاح تخرجين من ذاكرة الغبار ومن تاريخ ضاق به التاريخ وناءت به السّفن ومن ذات مقموعة يربض لها الماضي كالوحش في الزاوية.يا صديقتي نلت رضا "دبدوبة" فبكيتما وتشاكيتما، تقاسمتما رغيف الشّعر والأدب، فلتبقى دبدوبة تلامس الوتر وتعزف لحن الحبّ والحياة، والحريّة، عساها تطهّر النفوس من شوائبها.
مداخلة: هيام مصطفى قبلان
من الخيمة.. متى كانت البداية؟
- التفاصيل
- كتب بواسطة: حسين فاعور الساعدي
لا أدري.
في حياتي حدث أن مررت ببعض الأماكن لأول مرة، لكنها بدت لي معروفة وكأني مررت فيها من قبل. هذه الومضة تنطفئ بسرعة فائقة لكنها تترك حيرة وتثير السؤال: هل جئت من حياة أخرى؟
كما روت لي الوالدة رحمها الله ولدت في الخيمة البدوية الأصلية المصنوعة من شعر الماعز، المغزول بأيدي النسوة والمأخوذ من القطيع.
الخيمة، هذا المجال المفتوح والمدى المطلق، يصعب الدخول إليها وكل شيء يخرج منها. أفضلها وأجودها ما غزلته بدوية على الكرميلة ومدته بيديها شُقة شُقة. عندما نوقد نار الحطب في داخلها يخرج الدخان من مساماتها ويبقى الدفء والحرارة. وعندما يتساقط المطر يسح الماء مع شعيراتها ولا يصلنا منه إلا الرذاذ الذي يرطب الجو في الداخل ويجعله ممتعا.
ما ألذ الحياة في الخيمة! .
في الغابة المجاورة كانت الثعالب تعوي في أوقات الصلاة بجوقات متناغمة وخصوصا في ساعات الغروب الأولى أو قبل طلوع الفجر بقليل. العالم كله تغير إلا هذا العواء الذي لا يزال هو نفسه.
بعد صرختي الأولى سقطتُ من يدي المرأة التي ساعدت الوالدة ساعة الولادة فالتصقت حبيبات التراب في لحمي الطري . دمجوها معي لتبقى ملتصقة بلحمي لليوم الثاني عندما فكت الوالدة الدماج لتُعَجّنني . وهي عملية تنظيف لجسم الوليد بواسطة العجين المغموس بزيت الزيتون.
وجدت الوالدة حبيبات التراب قد انغرست في لحمي الطري.
لم أختر الزمان ولا المكان، ولكنني ولدت.
لو خيروني لا شك أنني سأختار نفس المكان، ليس لان هذه البلاد أسعدتني وليس لأنني أحبها، وهي بالنسبة لي مهجة الروح، وإنما لأنني ككل أبناء جلدتي أخاف أن أفقد المكان ولأنني أقدس الحياة وارى أنها جديرة بالممارسة ولكن بدون عقد الأساطير التي تحول الوطن من حديقة إلى حظيرة، وبدون تزاحم الأمراض الوراثية التي تعمي البصر والبصيرة .
لماذا أقول ذلك وأنا اليوم لا ينقصني أي شيء، لا منصب ولا مال ولا أولاد أو أحفاد؟
ربما من باب الاعتذار للذين يضايقهم وجودي ووجود أمثالي في هذه
البلاد، بعد أن قرروا أنها حظيرة وليست حديقة.
وأنا كذلك لم اختر التصاق تراب هذه البلاد بلحمي منذ البداية. كانت
صدفة. مجرد صدفة. كنت أفضّل أن أولد في احد المستشفيات في غرفة مخصصة للولادة وتحت إشراف ممرضات وأطباء. وعلى الأسرة والشراشف البيضاء.
لكن ذلك لم يكن، وولدت هنا في قمة الجبل لأربي الغابة كما تربي الأم ابنها، ولأجتثها فيما بعد بأمر من العدالة في هذه البلاد. والسبب لأن الغابة تشكل متعة لي أنا الغريب عن هذه البلاد حسب التلمود وحواشيه.
أحب المكان الذي ولدت فيه ولا أدري لو خيروني أن كنت سأختار مكانا آخرا. الالتصاق بالمكان قد يكون بسبب الخوف من المجهول أو بسبب قلة الإمكانيات، أو الضعف، أو ربما الغريزة . بكل تأكيد هو ليس دليل قوة، فالطفل الذي يتعلق بطرف ثوب أمه دائما ولا يتركه، قد يكون طفلا غير مستقل وغير ناضج، أو قد يكون محاطا بالمجرمين والقتلة الذين يرون دماءه تسيل ولحمه يؤكل فيتهمونه هو بالسادية ويطالبونه هو بالكف عن إيذاء الآخرين. وهم محقون في مطلبهم فلماذا يرون مشهده المؤذي وهم يملكون القدرة على التعتيم على كل شيء؟
المكان كان وجعي الدائم وفرحي الذي لم يتم يوما بسبب وحشية هذا
العالم وعدوانيته تجاه الضعفاء أمثالي ممن لا يملكون مواقع القرار . إليه لجأ أجدادي هروبا من الظلم وفرارا من وجع الحرمان الذي لا يرحم ليشيدوا فيه مملكتهم المبنية على التقشف والقبول بالقليل . تلك المملكة التي تمتعت بكنزين نفتقدهما هذه الأيام وهما :الاكتفاء الذاتي والقناعة.
وهو عبارة عن جبال تعانق بعضها. أعلاها جبل الكمانة الذي سد الأفق دائما، وأجبرني على التطلع إلى السماء لتلافيه . كرش جبل الكمانة المندلق نحوي جعلني اشعر بالضيق دائما وبالخوف من وقوعي تحته يوما ما إذا كبر أو ترهل. لكنني تغلبت على هذا الخوف لأنني عشت في المفصل أو في أعلى نقطة في الوادي المتعرج الممتد بين بحيرة طبريا والبحر الأبيض المتوسط . إلى الشرق من هذه النقطة جرت مياه الأمطار إلى بحيرة طبريا حيث اغتسل المسيح عليه السلام، والى الغرب منها جرت إلى البحر الأبيض المتوسط الذي حمل من لبسوا عباءته عليه السلام وجاءوا إلى الشرق غازين طامعين. كنت أستطيع أن أكون متفرجا من هذا المكان. متفرجاً على هذا العالم الذي يشبه كثيراً الغابة المجاورة. لكنني لم أقدر. طموحي وشوقي للفرح دفعاني إلى معترك ما يدور حولي، ناسيا ما أنا فيه من روعة المكان. نعم نسيت روعة وجمال المكان وفقدت كل سني عمري التي مضت ولا يمكن تعويض هذا الفقدان.
كنت الشاهد على ذلك أكثر من ستين عاما، كنت أراقب هذا المشهد
كل شتاء، لكنني لم أنتبه له إلا وأنا أكتب هذه الكلمات. كم خسرت.!
انتبهت أيضا أن نقطة الماء عندما تسقط من السماء وترتطم بصخرة
تنفجر وتتفتت إلى شظاي.ا أما عندما ترتطم بالتراب فإنها تخترقه وتذوب فيه لحنانه وشوقه، أما عندما ترتطم بمياه متجمعة أو جارية فإنها تقفز إلى أعلى، وترقص رافعة رأسها فرحة بلقاء أبناء جلدتها.
طوال هذه السنين رافقني الخوف الشديد أن أفقد المكان، أن يضيع مني أو أن يأخذوه مني. كنت أتشبث به بكل ما أملك من قوة. هذا الخوف ألهاني عما للمكان من جمال وخصوصية أحسد عليها.
في بطن أمي اختبأت كثيرا. أكثر من تسعة أشهر؟ حاولت أن أظل هناك أقصى مدة ممكنة. لأنني كنت خائفا مما سيواجهني في عالم لم يعد لي أو ربما حتى يعود أولئك الذين تركوا كل شيء. أو ربما انتظرت لأولد في برنستون أو في جلاسكو او في سبيرلونغا أو في بيلغاردي أو ريف أنطاليا على الأقل. كنت أرى هذه الأماكن وأنا في بطن أمي . أحببتها كثيراً لذلك زرتها عندما كبرت لأحبها أكثر .
كنت أرى أمي وهي تمارس الأشغال الشاقة. كانت تحلش القطاني وحدها: العدس مئونة للعائلة، والكرسنة مئونة للقطيع. وتساعد والدي فتحصد جنبا إلى جنب معه ما يزرعه من حنطة وشعير. ثم بعد ذلك تعجن، تخبز، تغسل، تحلب الماشية وتحضر الطعام من لا شيء. حلب الماعز أهون بكثير من حلب الأبقار. كانت تحلب بقرتين أو ثلاثا فقط فحليب البقر أفضل للشرب من حليب الماعز والسمن المستخرج من لبن الأبقار أفضل من ذلك المستخرج من لبن الماعز. لبن الماعز ممتاز لصنع اللبنة بعكس لبن البقر، وممتاز لطبخه على النار فهو لا يفرط ويتحول إلى كريات صغيرة كلبن البقر. كانت الوالدة تضع الدلو على الأرض وتضغط بأصابعيها السبابة والإبهام على ثديي البقرة فيندفع الحليب منهما بقوة ويرتطم بقاع الدلو. أحيانا تضغط بكلتا اليدين معا وأحيانا بالتناوب محدثة في كلتا الحالتين موسيقى بإيقاع مختلف. أما حلب الماعز فتقوم به بطريقتين، إما بمسك الثدي براحة اليد والضغط عليه وإما بطي الإبهام إلى راحة اليد وبعدها مسك الثدي والضغط عليه ببقية الأصابع على راحة اليد والإبهام المعقوف عليها. شكل الثدي هو الذي يقرر الطريقة. كل يوم تحلب ما يقارب الخمسين رأسا من الماعز والغنم،
وبقرتين أو ثلاثا من الأبقار التي عودتها على الحلب.
بعد ذلك تمشي المسافات الطويلة حاملة دست اللبن على رأسها لتبيعه
في القرى المجاورة قبل أن تحتل "تنوفا" كافة المواقع. وتعود بعد الظهر لتجد الكثير من الأشغال بانتظارها . لم أساعدها في شيء وكانت دائما تضع يدها عليَّ لتطمئن أنني بخير. ربما كانت تعرف أنني قد اهرب .
لم تذهب الى طبيب وهي حامل بي ولم تكن عيادات في منطقتنا للنساء الحوامل ولا أجهزة اولتراساوند تمكن المرأة من التعرف على نوع الجنين إن كان ذكرا أو أنثى. لكن والدتي كانت تعرف أنها حامل بصبي لأن نساء القرية من ذوات الخبرة في هذا المجال واللاتي لا يخيب حدسهن أخبرنها بذلك. فزادت من نشاطها ولم تتدلل كنساء اليوم. زاد تعلقها بالحياة رغم نحافة جسمها ورغم أنها كانت تحس بالوهن والضعف الشديدين.
تغلبتْ على الضعف والوهن فهي قد اطمأنت أن والدي لن يتزوج من
امرأة أخرى لتنجب له ذكراً لذلك تعلقت بالحياة وكبر حلمها . وكنت أنا كل ذلك الحلم. لا أذكر الخيمة، عرفتها فيما بعد. كل ما أذكره أنني فتحت عيني على الحياة في بيتنا المبني من الحجارة في قمة الجبل . سبقني الى الحياة ثلاث بنات، توفيت واحدة وبقي اثنتان لتنضم إليهما ثالثة فيما بعد وتكون السبب في تغيير الكثير من مجريات الأمور في حياتي . كانت تحب أن تسبقني إلى كل شيء، حتى الموت سبقتني إليه رحمها الله.
***
حسين فاعور الساعدي
من فضلك لاتكن حجرا غشيما..!
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. يسري عبد الغني
الأمر الذي نحاول أن ننبه إليه هو أن مجال القراءة مثل مجال السياحة، كلاهما يحتاج إلى دليل. ليس لأن القارئ قد يتوه في أدغالها - فالتيه في القراءة مفيد - وإنما لأن الدليل قد يوفر عليك الوقت، فتحصل على أكبر فائدة في أقل وقت ممكن. والدليل الجيد هو الذي يضع بين يديك خارطة طريق واضحة تستغني بها عنه أحياناً. ولأن كاتب هذه السطور محسوب على القراء وله تجربة في القراءة يحسبها ممتازة، فقد سولت له نفسه طوال سنوات أن يقدم النصح في هذا الباب لكل من استنصحه. وكانت أبرز نصائحه التي لا يمل من تكرارها هي: عليكم بالأدب، ثم الأدب، ثم الأدب.
لا يكاد المرء يتصور مجالاً آخر يستحق القراءة غير الأدب، وإذا اضطر القارئ للذهاب إلى مجالات أخرى فمن باب النافلة لا الفريضة، باستثناء أصحاب الاختصاص المعين خارج دائرة الأدب. وكلمة الأدب تتسع دلالتها عند الكاتب لتشمل النصوص الدينية وبعض نصوص التاريخ أيضاً. فالقرآن المجيد والعهدين القديم والجديد، وموسوعة قصة الحضارة لوول ديورانت، مثلاً. هي مدونات أدبية أيضاً. بل إن كتاباً كالقرآن الكريم يعد كتاباً جامعاً لظواهر أدبية وجمالية مختلفة. فهو في معظمه كتاب قصص كما هو ظاهر، ولغته تعتمد على التصوير الفني كما قال سيد قطب، وجرسه الموسيقي يوظف الإيحاء بصورة مؤثرة كما قال د. شكري عياد.
إن أهمية القراءة في مجال الأدب دون غيره من المجالات تكمن فيما يستطيع أن يقدمه للشخصية الإنسانية من خدمات لا يقدر عليها غيره. فالأدب - ومعه الفن - هو مصدر نمو الشخصية، تماما مثلما أن الماء هو مصدر نمو الشجرة. والشخصية التي لا تعرف الأدب - والفن - هي بالضرورة شخصية مسطحة، أفقيه، كالحلزونة لا تستطيع أن ترى في الحياة إلا بعدها الأفقي المسطح. وهذا النموذج من الشخصية هو أحد عوائق النهوض الاجتماعي -في المجتمعات العربية خصوصاً- لأنه لا يستطيع أن يتفهم المشاريع النظرية للنهضة، التي عادة ما تتصف بالعمق والتركيب، ومن ثم يتحول إلى حجر غشيم في يد خصوم النهضة والتحول، من المستبدين والمشعوذين تجار الخرافة.
إن القراءة في مجال الأدب تضرب أكثر من عصفور بحجر واحد: فهي أولاً تضيف إلى تجربة القارئ في الحياة تجارب أخرى، تجعله أكثر خبرة بها وبأسرارها، وأعرف بنماذجها الإنسانية، ومن ثم أقدر على العيش فيها. وهي ثانياً توسع من مخيلته بما يجعله أقدر على تصور الأبعاد الحقيقية والخفية للوجود الذي يسبح فيه. وهي ثالثاً تثري قاموسه اللغوي بما يعنيه ذلك من تطوير لملكاته العقلية، إذا ما عرفنا أن اللغة تعد شرطاً في التفكير النوعي (الفلسفي)، وأنه كلما زاد رصيدك من اللغة زادت قدرتك على إجراء العمليات الفكرية الدقيقة. وهي رابعاً تمنحك من المتعة في مرافقة الأخرين - كتاباً وابطالاً - ما لا يمنحه لك أي مجال آخر من مجالات المعرفة. باختصار القراءة في الأدب تصنع شخصية أكثر ثراءً وعمقاً وحكمة وتأثيراً، وهذا ما ينبغي أن يسعى إليه المرء قبل البحث عن المعلومة الباردة التي قد يحتاجها في جدله مع الحياة.
بقلم: د. يسري عبد الغني
ضربتان روسيتان في رأس الاتحاد الأوربي توجع
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. كريم المظفر
"موسكو مستعدة لقطع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي في حال فرضه عقوبات تشكل خطرا على قطاعات حساسة من اقتصاد البلاد"... كلمات اطلقها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على الهواء عبر قناة "سولوفيوف لايف" على اليوتيوب، ضربة ثانية " هزت" الاتحاد الأوربي في معقله، اعتبرها الكثيرون "ضربة " في "الرأس"، أفاقت وعي الاتحاد الأوربي "المريض سريريا"، بعد خروج بريطانيا وتفكير دول أخرى بالحذو حذو لندن ، " والمهووس " بالعقوبات ضد روسيا منذ سبع سنوات لإرضاء واشنطن سواء بسبب او بغيره، وابتكار نماذج عديدة لهذه العقوبات ضد موسكو .
تصريحات رئيس الدبلوماسية الروسية " المخضرم " والعارف بدهاليز السياسية الأوربية، وحكمته ودهاءه في اختيار عبارات التخاطب، فقد استشهد بمثل روسي "إذا كنت تريد السلام، فاستعد للحرب"، زاد من " لهجة " بلاده ضد الاتحاد الأوربي ، ليؤكد للغرب بأن لدى روسيا القوة الكافية لإسكات الأصوات " النشاز " الداعية الى فرض عقوبات جديدة على موسكو عل خلفية اعتقال " مريض برلين " ألكسندر نافالني والحكم عليه بالسجن بتهمة الفساد .
وكعادة الاعلام الغربي المسيس، فقد عرفناه بأنه دائما يختار العبارات المثيرة، واقتطاع ما يناسبه خدمة لأغراض سياسية، لتأجيج الرأي الأوربي والغربي ضد روسيا، وحاول تشويه تصريح الوزير لافروف، وكما قال الكريملين فقد تم تقديم هذا العنوان المثير بطريقة تصور روسيا وكأنها هي التي ستبادر إلى قطع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي،، وأخذ منه ما يناسبه " روسيا مستعدة لقطع علاقاتها مع أوربا" وعلى مبدأ لا تقربوا الصلاة ... "، تعمد الاعلام الغربي الى حذف ما بعد هذه العبارة وهي " استعداد موسكو لقطع العلاقات مع بروكسل .. إذا فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات تهدد مجالات حساسة في الاقتصاد الروسي ".
موسكو حاولت توضيح سوء الفهم الغربي للتصريح الروسي، وأكدت على لسان الكريملين أنها لا ترفض التفاعل مع الاتحاد الأوروبي، لكنها تستعد للأسوأ، وأن روسيا تفضل عدم قطع هذه العلاقات بل على العكس تقويتها، لكنها قد تضطر للذهاب إلى إجراءات متطرفة، في الوقت نفسه، فإن مجلس الدوما على ثقة من أن بروكسل سيكون لديها سبب كافٍ لعدم دفع الوضع إلى طريق مسدود، لأن الاتحاد الأوروبي نفسه سيعاني من انهيار العلاقات.
كلا البيانين يعبران عن شيء واحد - هو الرفض الروسي القاطع لإجراء حوار مع الاتحاد الأوروبي حول السياسة الداخلية الروسية، وأن كانت العلاقات مع روسيا ليست في أحسن أحوالها، وأن الموافقة على عقوبات جديدة ستتطلب قرارا بالإجماع من قبل جميع الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، فإنها تشدد (أي موسكو) على أنها مستعدة لهذه الخطوة، على الرغم من عدم رغبتها في الاعتزال عن حياة العالم ، إذا رأت مرة أخرى، كما كان قد حصل مرارا، وأن العقوبات التي تفرض في مجالات محددة تشكل خطرا على اقتصادها وخاصة "قطاعاتها الأكثر حساسية".
وكما اسلفنا، فقد اصابت كلمات الوزير لافروف، الاتحاد الأوربي في "معقله "، والذي لا يتعلق ضغطه وسبب العقوبات الجديدة المحتملة بأي جانب من جوانب السياسة الخارجية لروسيا أو القانون الدولي، ولكن بشؤونها الداخلية البحتة -، وقصة مع زعيم المعارضة أليكسي نافالني، وصعبت تصريحات لافروف من فهم المتحدثة باسم الخارجية الألمانية أندريا ساسي، التي اعتبرت تصريح الوزير لافروف حول عدم استبعاده قطع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، بانها " غريبة وغير مفهومة" ، وتسارع المفوضية الأوروبية في الإعلان وعلى لسان بيتر ستانو، المتحدث باسم الممثل الأعلى للأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي بان "الاتحاد الأوروبي أخذ تصريح وزير الخارجية الروسي حول العلاقات مع التكتل بعين الاعتبار، كما أخذنا في الاعتبار التوضيحات التي صدرت عن الكرملين، وسنبحث كل ذلك في مجلس الاتحاد الأوروبي"، للتخفيف من" غضب " موسكو .
التصريحات الروسية " الحازمة " ارادات منها موسكو، التوضيح من خلالها أن إدراج قضايا السياسة الداخلية على جدول الأعمال، ناهيك عن الدعم المفتوح للمقاتلين ضد القيادة السياسية في البلاد، والذي كان الاتحاد الأوروبي يتظاهر به منذ أغسطس من العام الماضي، هو " خط أحمر" الذي لا يجب تجاوزه، وأن موسكو تسعى إلى حوار مع الاتحاد الأوروبي حول قضايا السياسة الخارجية، حول التحديات المشتركة (المناخ، انتشار أسلحة الدمار الشامل، الإرهاب، البرنامج النووي الإيراني، القطب الشمالي)، مهتمة بالتعاون في مجالات مثل الطاقة والعلوم والتعليم والسياحة، ولكن بشكل قاطع غير مستعدة للاستماع إلى ما يجب أن تفعله محليًا.
المراقب للأحداث بين روسيا والاتحاد الأوربي، يرى ان ما يجري هو مثال على الانهيار النهائي للنموذج السابق للعلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي، الذي تم تشكيله في أوائل التسعينيات ودخل في أزمة في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لكنه لم يتغير منذ ذلك الحين، واعتمد هذا النموذج على دفع روسيا إلى الالتزام بقيم ومعايير وقواعد الاتحاد الأوروبي، ووفقًا لهذا النموذج، لا يزال الاتحاد الأوروبي يسمح لنفسه بمطالبة روسيا باتخاذ إجراءات معينة في السياسة الداخلية، ويأسف رئيس الدبلوماسية الأوروبية، جوزيب بوريل، على القول بأن "روسيا لا تريد أن تكون ديمقراطية على النمط الغربي "، ونطلق على هذا سببًا لفرض عقوبات جديدة ومراجعة لسياسة الاتحاد الأوروبي تجاه روسيا ككل.
تصريحات الوزير لافروف ، جاءت هذه المرة لمهمة التكتيكية للضغط على دول أوروبا الغربية الكبيرة (ألمانيا وفرنسا وإيطاليا)، التي تؤكد باستمرار على الحاجة إلى الحفاظ على الحوار مع روسيا، وتخويفها بقطع هذا الحوار وبالتالي تقليل العقوبات الجديدة، وأحدث مثال على ذلك هو تصريح وزير الخارجية الألماني هايكو ماس حول عدم جواز قطع العلاقات مع روسيا، ومن المفترض أنه بعد كلمات سيرغي لافروف، سيكافح ماس لتقليل العقوبات الجديدة بشكل أكثر حسم، وكذلك يدخل انتقاد عضو البرلمان الأوروبي الايرلندية كلير دالي تعامل الاتحاد مع روسيا، معتبرة أنه يستخدم قضية نافالني لتأجيج المواجهة الجيوسياسية مع موسكو، خدمة للمجمع الصناعي العسكري، وأضافت: "أنا لست أقل من غيري اندفاعا واستعدادا للدفاع عن حقوق أي إنسان، بمن في ذلك نافالني.. لكن دعونا نتحدث بصراحة عنه.. إنه عنصري.. معارض شرس للهجرة.. لو افترضنا جدلا أن 4% من الروس يؤيدونه وتشهد المدن الروسية الكبرى مظاهرات بالمئات بل وبالآلاف لأنصاره، كل ذلك لا يعني أن تلك الحشود جماهيرية عارمة، ولو كان (نافالني) اعتقل ليس في روسيا، بل في أي دولة أخرى، لما كنتم ناقشتم أمره هنا بين هذه الجدران".
إذا، فان القضية هنا بحسب العديد من البرلمانيين الاوربيين ليست قضية حقوق إنسان، بل مواجهة جيوسياسية مع روسيا يؤججها المجمع الصناعي العسكري الذي يبحث دائما عن عدو كي يبرر" نفقاته الضخمة"، وان موسكو ترى في التهديدات الاوربية هو إن المسؤولين في بروكسل يلجؤون إلى العقوبات كل ما يواجهون حرص روسيا ودول ذات سيادة أخرى التام على حماية مصالحها المشروعة ومنع التدخل السافر في شؤونها وعدم الانجرار " وراء مهندسي النظام العالمي الغربيين"، وتشدد على أنه "من غير المقبول إطلاقا " استغلال حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية وجعلها أداة جيوسياسية.
الضربة الروسية الأولى، والتي لا تقل شأنا عن الضربة الثانية، كانت في زيارة جوزيب بوريل إلى موسكو الأسبوع الماضي، والتي كانت تعتزم مناقشة التقدم المحتمل في العلاقات مع روسيا، والطلب بإطلاق سراح (نافالني) ، اعتبرها الاوربيون بانها كانت بمثابة إذلال لهم وللدبلوماسية الأوروبية بأكملها، بعد أن أزاحت موسكو يد بروكسل الممدودة جانبًا وأظهرت مرة أخرى ازدراءها لأوروبا، وكانت المباراة بين رئيس الدبلوماسية الأوروبية جوزيب بوريل ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف غير متكافئة، واهان الوزير لافروف وفق المنظور الأوربي، الممثل الخاص للاتحاد الأوروبي، الذي كان ينوي مناقشة التقدم المحتمل في العلاقات مع روسيا، ليجعله مضطرا إلى انتقاد الحظر الأمريكي على كوبا، في حين أن موسكو، ودون إبلاغ المسئول الأوربي الزائر لموسكو، قامت بطرد الدبلوماسيين الأوروبيين من البلاد، وتجاهل المطالب الاوربية والحكم على " مريض برلين " بالسجن، لتؤكد من ان هذه الخطوة، لا تسلط الضوء فقط على سذاجة قيادة بروكسل تجاه الرئيس فلاديمير بوتين، لكنها تذكر أيضًا بالازدراء الذي يعامل به الكرملين أوروبا وممثلي مؤسساتها.
ووفقا للمراقبين الاوربيين فان نتيجة الزيارة، وضعت بوريل في موسكو في مكانه، وفي مكان الاتحاد الأوروبي ككل، وبشكل واضح وبشكل خاص - من خلال "تزامن عرضي" مع زيارته، فإن طرد ثلاثة دبلوماسيين أوروبيين "لأنشطة غير متوافقة"، أو بالأحرى، للمشاركة في احتجاجات غير قانونية "سوف تتراكم"، مع تجاهل واضح لكل السخط والتهديدات الأوروبية في هذا الصدد، والسؤال ما إذا كانت روسيا والاتحاد الأوروبي سيتمكنان من تحسين علاقاتهما على المدى القصير هو سؤال مثير للجدل إلى حد ما، فقد قيل في بروكسل أكثر من مرة إن تحسين العلاقات يعتمد على تسوية النزاع في جنوب شرق أوكرانيا من خلال تنفيذ اتفاقيات مينسك (التي ترفضها كييف)، وإلى أن يتم تنفيذ اتفاقيات مينسك، لن يتم تطبيع العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، اذن تصريحات الرئيس الروسي التي شدد فيها أن روسيا لن تتخلى عن دعم أهالي منطقة دونباس في جنوب شرقي أوكرانيا، والتشديد على أنه "قبل اتخاذ أي قرار من الضروري التفكير في عواقب هذه الخطوة أو تلك"، قد تكون " الصفعة الثالثة " للاتحاد في غضون أسبوعين .
ومع ذلك، بالطبع، ستكون هناك عقوبات جديدة، والمزيد من تدهور التفاعل مع الاتحاد الأوروبي، وهو أمر لا مفر منه، والمبنى، الذي تم تشييده في 1993-1994، عندما كانت روسيا والاتحاد الأوروبي يتفاوضان بشأن اتفاقية شراكة وتعاون (المادة 55 منها تفترض تقارب التشريعات الروسية مع تشريعات الاتحاد الأوروبي)، انهار ولا يمكن إنقاذه، وانه ليس من المنطقي وضع الدعامات ومحاولة الاحتفاظ بجدار واحد أو آخر، ويجب أن ينهار تماما، وفي نفس الوقت، فإن "الانقطاع التام"، أي الرفض الكامل لأي تفاعل مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي، أمر مستحيل.
بقلم: الدكتور كريم المظفر
شخصياتنا تحدد أسلوب تفكيرنا
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. أسعد شريف الامارة
يعرف علماء النفس الشخصية بأنها التنظيم الدينامي داخل الفرد للأجهزة النفسية الفسيولوجية التي تضمن توافقه الخاص مع بيئته، وهو تعريف "البورت" ونعرفه "أي كاتب المقال" الشخصية بأنها جماع بعض جوانب الذات كما يرصدها الآخرون متمثلا في التوافق الإجتماعي مع القدرة على التأثير في الآخرين تأثيرًا محببا ومرغوبًا. أما التفكير كما تعرفه موسوعة علم النفس والتحليل النفسي بأنه نظام معرفي يقوم على استخدام الرموز التي تعكس العمليات العقلية الداخلية، أما بالتعبير المباشر عنها، أو بالتعبير الرمزي.
أن ما يشدنا لمعرفة العلاقة بين أنماط الشخصية واسلوب تفكيرنا هو السلوك الذي يصدر عنا بشكل عفوي، أو بأسلوب متعمد لأن نمط الشخصية هي التي تفرض على صاحبها أن يسلك هذا السلوك حتى وإن تَجَملَ في تحسين هذا السلوك، ويعلم من درس التخصص في علم النفس أن وراء كل سلوك دافع، ولا يوجد سلوك بدون دافع أي لا معنى له. ومن أوليات التحليل التحليل النفسي لمن تعمق به أن كل سلوك له معنى وإن غاب عن التفسير في الوقت الحاضر، فلكل سلوك دلالة ومعنى. حينما نقول أن تفكيرنا يميل للعزلة ، ويؤكد سلوكنا ذلك من خلال ما نقوم به، لأن التفكير تكوين فرضي نستدل عليه من خلال السلوك وما نقوم به ويصدر عنا، فهو عندئذ يدلنا على نمط شخصيتنا.
أن الشخصية العصابية النمط "العصابي – النفسي" وكذلك النمط الذهاني له مؤشرات يفهمها من درس علم النفس المرضي، أو الكلينيكي، أو سيكولوجية الشخصية، أو تعمق في الاضطرابات العصابية والذهانية وانحرافات الشخصية فيستدل على العلاقة بين نمط الشخصية وأسلوب التفكير والسلوك الذي يعبر عنهما. فلا نغالي إذا ما قلنا أن منطق الاعراض المرضية النفسية والعقلية ، أي المعاني التي تنطوي عليها أعراض الأضطرابات النفسية والعقلية هي التي تدلنا على طريقة التفكير لكل شخصية، وذهب البعض من علماء النفس التحليلي ومنهم "صلاح مخيمر" إننا نستدل على نمط الشخصية من آليات الدفاع التي يستخدمها مثل الكبت، أو الاسقاط، أو النقل، أو التبرير وغيرها من الآليات الدفاعية وطرح "مخيمر" بقوله أن فكرة العلاج النفسي التحليلي تبدأ بمعرفة إستخدام الفرد لنوعية الاساليب التي يلجأ إليها ويستخدمها في تعامله اليومي، وهي مؤشر يدلنا على الكثير من الدلالات الرمزية عن الشخصية وعن علاج الاضطرابات العصابية.
يقول عالم التحليل النفسي العربي البروفيسور "مصطفى زيور" إذا كانت الأعراض الهستيرية أشبه شيء بتعبير رمزي لحالات إنفعالية بعينها، فما الرأي في أعراض الأضطرابات العقلية كالهذيان والهلوسة وما إليها، ونستطيع القول بأن تفكير الشخصيات العصابية مثل الشخصية القلقة، والشخصية الوسواسية، والشخصية الاكتئابية العصابية" وهي تختلف في اعراضها عن الشخصية الاكتئابية الذهانية في الكثير من الأعراض، والشخصية السيكوسوماتية وغيرها من الشخصيات لها طريقة معينة في التفكير حتى ادت هذه الطريقة إلى تشخيصها بهذا الاضطراب وأبتعدت عن السوية "السواء" بدرجات قد تكون بعيدة أو قريبة من خط السواء" Border Line "
أن الأسوياء لا يبرأون عما نتحدث عنه في هذه السطور لأن الإنسان يتحدث بلغة رغبته كما يقول "سيجموند فرويد" ورغبته تقوده لأن يسلك في تعامله ويبدو ذلك ظاهرا وجليا، ويضيف لنا أكثر "دانيل لاجاش" قوله تنحصر صياغة السلوك في الشعور بحاجات الشخصية وفي اكتشاف الأهداف والموضوعات والوسائل المناسبة للإشباع. فالشخصية التي يبدو عليها الاحباط تتميز بأنها تلجأ إلى الميكانيزم الدفاعي المعروف وهو" النكوص" وقول " هيلين دويتش" نستطيع أن نقارن الاحباط بحائط ترتطم به قوة نفسية تتحرك إلى الامام بحيث تضطر إلى العودة القهقرى، أن عملية العودة القهقرى هذه هي النكوص، وتضيف "دويتش" أن كل إنسان يكون في حقيقة الأمر في حالة مستمرة من الصراع الكامن، مع العلم الواقعي من جانب ومع قواه الذاتية الداخلية من جانب آخر، طالما كان عليه أن يواجه دوما الاحباط ويتحمله والكف ويغالبه. ان الحل المنسجم لهذه الصراعات الداخلية والخارجية أمر يتعلق بشخصيته ولكل فرد أسلوبه الشخصي المميز في مواجهة الاحباط السوي وطريقة تفكيره.
نقول دائما أن ابدع الدراسات والابحاث وأكثرها إثارة للمعرفة هي دراسة الشخصية والغور في عقل الإنسان في أوج نموه وعبقريته وقدرته الفائقة، وكذلك في هفواته وزلاته وغياهب تفككه واختلاطه ورصد ما يصدر عنه من سلوك بشكل واع، أم غير واعي، ومثال ذلك الشخصية المتصلبه التي تبتعد عن التكيف مع المواقف الاجتماعية الجديدة ونستدل على ذلك من سلوكه، وهو خلاصة تفكيره، وأسلوب التفكير أذن مفتاح مهم لفهم الشخصية، ولتفسير مستوى التوافق النفسي والإجتماعي ، أو مستوى الاضطراب ومدياته، وكذلك لفهم كثير من ظواهر السلوك الفردي والسلوك الجمعي، والسلوك الإجتماعي.
د. اسعد الامارة
ما بعد الاصدار "kindle"
- التفاصيل
- كتب بواسطة: قيس العذاري
ملحق : "4.1"
ماذا يحدث بعد اصدار الكتاب؟
المعتاد ادراجه على منصة أمازون مع تعريف مختصر بمحتوياته . ولكن مارتن يصر على انك لم تبدأ بالدعاية الصحيحة لكتابك! رغم ان كتاب ريكاردو فييت الورقي والرقمي حصل على 1500 تنزيل يوميا على مدى اسبوع من تاريخ الاعلان عنه، وتفاجأ بتراجع كتابه على لائحة الاصدارات الجديدة .لان سياسة أمازون لا تسمح بالدعاية المتعددة دفعة واحدة .
ومعنى ذلك ان تقوم بالدعاية لاصدارك على مازون وفي نفس الوقت على مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات بيع الكتب والمؤلفات بشكل متزامن . ويؤكد تراجع عدد تنزيلات الكتاب رغم انه طرحه مجانا للقراءة من 1500 تنزيل في اليوم على مدى اسبوع الى 500 تنزيل في اليوم .
لماذا؟
لان عليك ان لا تنشر الدعاية لكتابك دفعة واحدة . عليك التوقف بعد الاعلان عن صدور الكتاب . ومراقبة او متابعة ردود الافعال ومدى تفاعل القراء مع اصدارك والاهم ان تقرأ التعليقات من فئتين مهمتين على الاقل الاولى القراء والثانية الكتاب المتخصصين بعروض الاصدارات الجديدة "النقاد" . تسمح امازون بنشر تلك الاراء على صفحة الاعلان عن الاصدار مما يفسح المجال اكثر للتعريف به وجذب المزيد من القراء او لفت نظر القراء الى الكتاب من خلال اراء القراء والنقاد المنشورة على صفحة المؤلف .
البعد النفسي بعملية الاعلان للاصدار واضحة ، اننا نتحدث عن جمهور يختلف عن الجمهور في وطننا العربي ليس لانه جمهور متعلم فقط وانما لميوله المتجذرة في القراءة العامة خارج اطار اختصاصه لذلك تنتشر فكرة نوادي القراءة واستعارات الكتب وتصل الى القرى النائية وليس فقط مراكز المدن الكبيرة او العواصم .شخصيا تصلني العديد من التنبيهات على موبايلي عن اصدارات جديدة او مؤلفات روائية او ثقافية او علمية وتصل للملايين غيري كما يمكن ان نستنتج وهي عملية تسمى اعلاميا : "الاعلانات العشوائية" . والاعلانات العشوائية لا تقتصر على الكتب والمؤلفات وانما تشمل مختلف المنتجات الجديدة المنتجة في الدول الغربية اوخارجها اي ذات مناشئ متعددة .
البعد النفسي للاعلان عن الاصدار دفعة واحدة يؤدي الى ردود فعل سلبية اتجاه الاصدار او تقليل الاهتمام بمتابعته من قبل الجمهور طالما تعددت منصات الاعلان عنه بفترة زمنية وجيزة ومتزامنة ، لانها مكررة وبدون اضافات مفيدة للقراء التي تجسدها مجموعة من التعليقات واراء النقاد السلبية والايجابية عن الاصدار .
"اذا كنت تتبع دعاية متزامنة حول اصدارك الجديدة فانك لم تبدأ بالدعاية الصحيحة لكتابك" .
نحن بحاجة الى دراسات متخصصة حول جمهور القراء في الدول العربية لمعرفة كيف نبدأ بالدعاية الصحيحة للاصدارات ، ونجهل كذلك هل الدعاية المتزامنة لها نتائج سلبية على الاصدار ام لا؟ كما حدث لكندل ريكاردو وتراجعه عن احتلال مراكز متقدمة على لوائح البيع والقراءة بعد اسبوع من الاعلان عنه بسبب الدعاية المتزامنة او المكررة التي اهملت الاضافات الجديدة للتعريف بالاصدار .
قيس العذاري
13.2.2021
......................
هامش :
kindle و kindles: اصدار ، اصدارات .
"اذا كنت تتبع دعاية متزامنة حول اصدارك الجديدة فانك لم تبدأ بالدعاية الصحيحة لكتابك"
وردت الجملة عن كتاب ريكاردو فييت Ricardo Fayet محرر بدار النشر المعروفة ريد ا سي اعدت صياغة الجملة باللغة العربية لاهميتها .
صدر الكتاب عن نفس الدار بعنوان : "كيفية تسويق كتاب" How to market a book .
الارقام منشورة على موقع الدار Discovery .
المصطلحات والعبارات بين الاقواس ضبطت بواسطة القاموس الانكليزي والمورد .
الفلسفة الحضارية للفكرة القومية عند قسطنين زريق (3)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. ميثم الجنابي
فكرة الأصالة القومية
أعطى قسطنطين زريق للأصالة أبعادا فكرية أولا وقبل كل شيء، باعتبارها اجتهادا ذاتيا. من هنا دعوته إلى تنقية الكيان الذاتي وتأصيله. وكتب يقول، "يجب أن نهتدي في حل مشكلاتنا وبناء حياتنا الحاضرة وإعداد مستقبلنا (وبصورة خاصة) في تنقية كياننا الذاتي وتأصيله واغنائه. هذا الكيان الذي هو السند الأخير والجوهر الباقي لأية خطة نختطها، أو أي نظام ننشئه، أو أية قومية نبعثها"1 . وبغض النظر عن الطابع الإنشائي والدعائي لحد ما في هذه العبارة إلا أنها تحتوي على هاجس وباعث عميق يقوم في سعيها لتأسيس الهوية الثقافية وتأصيلها بوصفها قاعدة كل بديل حقيقي.
وضمن هذا السياق تراكمت وتبلورت رؤيته القومية. فقد مرت الفكرة القومية عنده عموما بمرحلتين، الأولى وهي المرحلة السياسية الأيديولوجية، والثانية هي المرحلة الفكرية النظرية. لكنهما تلازما من حيث الهاجس والهموم والغاية. ومن الممكن رؤية مضمون ومظهر المرحلة الأولى في (الكتاب الأحمر)، والثانية في مؤلفاته الفكرية السياسية والفلسفية التاريخية اللاحقة مثل (نحن والتاريخ) و(هذا العصر المتفجر) و(في معركة الحضارة) و(معنى النكبة مجدداً) و(نحن والمستقبل). وما بينهما كانت تتبلور ملامح الرؤية النقدية وصيرورة الفكرة القومية بوصفها رؤية تاريخية ثقافية مستقبلية كما هو الحال في كتبه (معنى النكبة) و(أي غدٍ).
ففي (الكتاب الأحمر) نعثر على ما يمكن دعوته بالدستور السياسي للفكرة القومية العربية. من هنا كثرة "مواده" التي تحدد ماهية الفكرة العربية، والقومية العربية، وماهية العرب والعالم العربي، ومختلف المواد "العملية" الداعية للتنظيم والجهاد الحشد والإيمان وغيرها، إضافة إلى طبيعة الدولة القومية وعلاقة الديني والدنيوي (العلمانية) وما إلى ذلك. إذ نقف هنا أمام تحديد سياسي أيديولوجي يعتبر الفكرة العربية قضية كبرى. وأنها تعبير عن الحركة الساعية للتحرر من الاستعمار والاستعباد والفقر والجهل وسائر ضروب الوهن. وإنها الفكرة الداعية والساعية إلى تأسيس دولة عربية قومية قوية متحضرة تضمن صيانة وجودهم المادي والمعنوي، وترفع من شأنهم لأداء رسالتهم الإنسانية والحضارية.
أما ماهية القومية العربية فهي كل ما يجمع العرب من صفات ومميزات وخصائص جعلت منهم في مجرى الزمن أمة واحدة. وأدرج فيها الأرض (الوطن)، واللغة، والثقافة، والتاريخ، والمطامح، والآلام، والجهاد المستمر، والمصلحة المادية والمعنوية المشتركة، باعتبارها العناصر الأكثر جوهرية. وإن هذه القومية ليست وليدة الحاضر، بل لها تاريخها العريق في الشعور والوعي. وقد كانت مصدر صعودهم التاريخي، وبالتالي هي مصدر نهضتهم الحديثة أيضا.
أما العربي فهو كل من يتكلم العربية ويعتبرها لغته الأم وينتمي إليها طوعا. والبلاد العربية هي جميع الأراضي التي يتكلم سكانها اللغة العربية. ويحدها شمالا جبال طوروس والبحر المتوسط، ومن الغرب المحيط الأطلسي والبحر المتوسط، ومن الجنوب بحر العرب وجبال الحبشة وصعيد السودان والصحراء الكبرى، ومن الشرق جبال تشتاكو والبختيارية وخليج البصرة. أما الجزر القريبة من الشواطئ العربية والتي يسكنها العرب فهي عربية. من هنا رفعه لفكرة الانتماء العربي إلى مصاف المرجعية الكبرى وتحريم كل ما يتناقض معها من طائفية وعنصرية وطبقية وإقليمية وقبلية وعائلية وأشباهها. من هنا أهمية العمل من اجلها بغض النظر عن المكان والحالة الاجتماعية والانتماء الفكري والسياسي. مما يستلزم بدوره تنوع أساليب العمل وتوّحد غايتها. مما يحدد بدوره أهمية التنظيم والتنسيق من اجل بلوغ الوحدة والدولة القومية الحديثة والتقدم الشامل.
لقد كانت هذه الصيغة التعبير الوجداني السياسي الذي يرتقي إلى مصاف الحدس القومي. بمعنى انه يعبر عن الحالة الوجدانية والرؤية السياسية الآخذة في النمو والتبلور تحت تأثير الصيرورة الجديدة للدولة العربية الجديدة ونمو فكرتها القومية الحديثة. وشأن كل صيرورة من هذا القبيل لا تخلو من تأثير التاريخ العريق المتغلغل في كل مسام الوعي التاريخي والروحي. من هنا محاصرتها الذاتية بين تاريخ واضح جلي وواقع لم ينتظم بعد. من هنا بدائل المستقبل الجلية، ومن ثم صعود الفكرة السياسية الأيديولوجية، بوصفها البديل الأكثر صلابة وثقة ويقينا وإيمانا بما ينبغي. لكن الصيرورة التاريخية عادة ما تتلذذ بمكرها العقلي مع فكرة الواجب واللازم لكي تصنع منهما مع مرور الزمن مقولات قابلة للتنظيم في بدائل أكثر واقعية وعقلانية. وعادة ما يبدأ ذلك بصعود الفكرة النقدية لينتهي بادراك الحكمة في ما جرى ويجري. ومن ثم وضعها في أساس الرؤية المستقبلية.
في نقد حالة الفكرة القومية
وقد تهذبت هذه الصيرورة الخشنة بالنسبة لقسطنطين زريق (أو هذا النمط من التفكير والفكرة) في مرحلة ما بين النكبتين (1948 و1967). وليس مصادفة أن تظهر أغلب كتبه النقدية وملامح الرؤية الفلسفية التاريخية بأثرهما. من هنا البحث في (معنى النكبة) و(أي غدٍ) نريد و(النكبة مجددا)، أي تبلور ملامح وعناصر ومفاهيم واتجاهات الرؤية النقدية ما بين أعوام 1948 -1967. الأمر الذي جعل من الفكرة القومية وجها آخر لهذه الحالة. ذلك يعني أن الحصيلة الفكرية الجديدة تكون قد مرت بدهاليز الرؤية السياسية والأيديولوجية بوصفها المرحلة ما قبل النقدية. إلا أنها مع ذلك لم تنف عناصرها الجوهرية الأولية كما هي. لقد جرى إعادة تأسيسها بمعايير فلسفة التاريخ. أو على الأقل انه جرى نقدها وتمحصيها وتأسيسها النظري بخليط من الفلسفة وعلم التاريخ الواقعي.
وليس مصادفة أن يأخذ قسطنطين زريق بالحديث عن "تاريخ" القضية القومية. فنراه يشير إلى أن الحركة القومية بدأت بفكرة الاستقلال السياسي وتوقفت عندها. بينما المهمة الجوهرية الآن تقوم في تحديد ماهية القضية القومية 2. فإذا كانت الفكرة القومية وحركاتها قد جسدت الكثير من الانجازات، وبالأخص دخول مصر العالم العربي بعد استقلالها، إلا أن القومية واجهت انكسار بعد النكبتين بحيث أصبح الشعار المرفوع هو "المطالبة بانسحاب القوى الإسرائيلية المحتلة". وحصر أسباب هذا الانتكاس في اثنين. الأول وهو انتشار وغلبة الفكرة الاشتراكية، والثاني هو ضعف المجتمعات العربية.
فقد وجد قسطنطين زريق في انتشار الفكرة الاشتراكية مظهرا من مظاهر انحسار الفكرة القومية الذي لم يكن معزولا عن ضعف وجود برنامج إصلاحي يهدف إلى فك القيود الداخلية ومكافحة الظلم الاقتصادي والاجتماعي. مع ما ترتب عليه من استعداد لقبول ومن ثم تغليب فكرة الصراع الطبقي على وحدة الأمة3 . أما السبب الثاني فيقوم في "أن القومية لم تظهر في المجتمعات البدائية" كما استنتج زريق. وبالتالي عجز الدعوة القومية عن أن تحدث في المجتمعات العربية التطور الاقتصادي والاجتماعي والفكري الذي يكفل لها البقاء والارتقاء، ومن ثم يتيح للولاء القومي التغلب على الولاءات الأخرى وأن يصهرها في ولاء شامل4 . (يتبع...).
ا. د. ميثم الجنانبي
............................
قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص24
قسطنطين زريق: معنى النكبة مجددا، بيروت، دار العلم للملايين، 1967، ص27.
قسطنطين زريق: معنى النكبة مجددا، ص29.
قسطنطين زريق: معنى النكبة مجددا، ص30.
حدود الجدال.. لماذا يفشل النقاش العقلاني في تغيير أذهان الأخرين؟
- التفاصيل
- كتب بواسطة: حاتم حميد محسن
ان الآراء الدينية والسياسية عادة تبدو متجذرة في الأذهان، عصية على محاولات الإقناع العقلاني. (نتذكر كيف كانت امهاتنا يحذرننا من الحديث مع الغرباء عن الدين والسياسة). ولكن مؤخرا، جرى تسييس جميع انواع القضايا غير السياسية . الناس الذين على هامش السياسة يميلون لإنكار تقلّبات المناخ، يؤمنون بسطحية الارض، ويقفون بالضد من اللقاحات. لنرى ما هي مشكلة هؤلاء الناس؟ كيف يمكن لهم إنكار الحقائق الواضحة؟ ألا يهتمون بالدليل؟
لا نستطيع توضيح لماذا يتزايد عدد المتشددين حينا ويتراجع حينا آخر، رغم كثرة التفسيرات السائدة بين الناس. سنحاول هنا تقديم اسباب عدم نجاح العمليات العادية للجدال في إقناع الناس على الجانب الآخر. في ضوء ما تعلّمه الفلاسفة وعلماء النفس حول تركيب عقائدنا، فان التشبث بالرؤى المتطرفة هو ما يجب ان نتوقعه. لكي نرى سبب ذلك، نحتاج لفهم بعض أسس العقيدة.
المنطق والسياق
ان عقائدنا ليست متماسكة منطقيا. لا أحد يعتقد دائما حتى في النتائج المنطقية الواضحة لعقيدته، ونحن دائما ما نؤمن ببعض التناقضات المنطقية.
فمثلا، افرض ان محرك سيارتك لا يعمل . وبعد اختبارات بسيطة، مثل فحص الهورن والضوء تستنتج ان البطارية قد نفدت، وانت يجب ان تحاول ربط السيارة الى بطارية حية. لذا، ظاهرا، انت تعتقد انه
1- "انك لا تستطيع تشغيل السيارة ببطارية ميتة"، و
2- "انت تستطيع تشغيل السيارة ببطارية ميتة" كأن يكون بربطها الى بطارية حية. كلا العقيدتين تبدوان متناقضتين منطقيا. ربما ان ما تعتقد به حقا هو ليس انك لا تستطيع ابدا تشغيل السيارة ببطارية ميتة، وانما انت تؤمن بعقيدة اكثر تحفظا وعناية وهي انك لا تستطيع تشغيل السيارة ببطارية ميتة بالطريقة العادية. ولكن مثل هذه الاستراتيجيات تعني اننا لانؤمن حقا بمعظم عقائدنا المعبّر عنها. ربما أفضل ستراتيجية هي الإعتراف اننا نؤمن "انك لا تستطيع تشغيل السيارة ببطارية ميتة" فقط في المواقف التي نلجأ بها لتلك العقيدة، مثل عندما نحاول توضيح سبب عدم عمل محرك السيارة. عندما يتغير السياق، الى محاولة تشغيل السيارة، نحن نضع جانبا العقيدة "انك لا تستطيع تشغيل السيارة ببطارية ميتة"، وبدلا من ذلك نحفز الايمان "بانك تستطيع تشغيل السيارة ببطارية ميتة عبر ربطها لبطارية حية".
ملاحظتنا هنا هي اننا نتمسك بجميع العقائد التي نعبّر عنها او نعتقد بها بفاعلية، لكن فقط في تلك السياقات التي نعبّر او نفكر بها . لو استطعنا تحديد السياقات التي تعمل فيها العقيدة، عندئذ نستطيع القول بالضبط بماذا نؤمن، بمعنى في مثل سياقات معينة، السيارة ذات البطارية الميتة سوف لن تعمل. لكننا من غير المحتمل ان نعرف جميع السياقات مثل الاعتقاد ان السيارة سوف لن تعمل، او انك تستطيع تشغيل السيارة ببطارية ميتة. وفي سياق جديد، بعضنا سوف يحفز عقيدة لا يؤمن بها الاخرون. وحتى عندما نتمسك بنفس العقيدة، نحن ربما لانزال نختلف حول السياقات الصحيحة التي يجب استدعائها. نحن جميعنا نؤمن بالحكمة "لاتقتل"، لكن نختلف حول السياقات الملائمة. فمثلا، هل تنطبق الحكمة على الحيوانات؟ وحتى لو حددنا السياق بالكائن البشري، لاتزال هناك خلافات حول السياقات الملائمة: القتل الرحيم؟ الاجهاض؟ عقوبة رأس المال؟ الحرب؟ العقائد لا تأتي معها تعليمات حول السياقات الملائمة.
الإنموذجات والتوضيحات and Explanations models
كوننا نستدعي عقائد معينة في سياقات معينة، واحيانا عقائد غير منسجمة ضمن سياقات اخرى، ذلك ليس عيبا ذهنيا، وانما ضرورة لكي نستطيع المضي في الحياة. نحن نفكر حول العالم ونتخذ ردود أفعال ملائمة تجاهه وفق إنموذجات فكرية – صور للعالم – مرتكزة على عقائد نراها ملائمة لذلك السياق. تلك الانموذجات تتجاهل عدة ظروف وتعقيدات ممكنة . وهكذا، عندما نستدعي العقيدة التي بموجبها نستطيع تشغيل السيارة ببطارية ميتة عبر ربطها الى بطارية حية، بهذا نحن ربما نتجاهل إمكانية ان تكون السيارة ايضا خالية من الغاز، وهذا ليس جزءاً من سياق البطارية الميتة.
المسألة ليست مجرد غموض او عدم سعة افق ذهني حول مسائل رتيبة . العلماء ايضا، يعملون بإنموذجات لإستخدامها فقط في سياقات محددة. لنأخذ مثالا مشهورا. فيزياء نيوتن والنظرية العامة للنسبية لاينشتاين هما انموذجان غير منسجمان عن الكون لأنهما في بعض الظروف (مثل حقول الجاذبية القوية) يتنبآن بأشياء متناقضة. فيزياء نيوتن جرى استبدالها بفيزياء اينشتاين، ولكن في انواع المقاييس والحقول التي نواجهها في المواقف اليومية انها لاتزال تعطي الأجوبة الصحيحة وبصراحة وبديهية اكبر، لذا لاتزال تُستعمل بشكل واسع. لهذا، فان الفيزيائيين احيانا يستعملون فيزياء نيوتن، وفي احيان اخرى النسبية اعتمادا على السياق. ونفس الشيء، يستعمل الفيزيائيون نظرية الكوانتم في عدة مواقف ولكن ليس عندما يعدّون طعام الغداء.
من أين تأتي عقائدنا؟
في لحظة ما، انا اعتقد اني أجلس خلف طاولتي لكتابة مقال. حينما انهض من الطاولة، انا سوف أهمل عقيدة (هنا والآن) مفضلا عقيدة جديدة – ذلك لأني الآن أسير في أسفل القاعة، أتناول غداء، وهكذا فان عقائدي السابقة في (هنا والآن) اصبحت عقائد (هناك ومن ثم). لكن العديد من عقائدنا العامة حول العالم ليست مرتبطة بإحكام بالخبرة المباشرة. فمثلا، انا اعتقد أني أعيش في كوكب كروي. نحن نتمسك بمعظم عقائدنا العامة، مثل الاعتقاد في كروية الارض، لأن المصادر التي نثق بها مثل، الآباء، المعلمين، الأصدقاء، الكتب، التلفاز، الانترنيت هي التي أخبرتنا بذلك. نحن لا نعتقد بكل شيء قيل لنا وانما بالكيفية التي توصلنا بها الى معظم عقائدنا العامة.
ثقتنا في الناس الآخرين في توفير عقائدنا العامة هي مرة اخرى ليست عيبا في بنائنا الابستيمولوجي وانما هي قوة. صحيح، ان بعض عقائدنا التي فُرضت علينا إعتباطا سوف يثبت عيبها، ولكن أغلبها ليست كذلك. في الحقيقة، ان الحياة التي نقودها تعتمد على شبكة هائلة من المؤمنين المتخصصين الذين يقولون لنا ما نفكر. عندما نقود السيارة الى السوق لشراء لتر حليب، نحن ليس لدينا الكثير من العقائد التي نحتاجها لتصميم او تطوير سيارة او تكرير المعدن الذي تُصنع منه السيارة او الكازولين الذي يغذيها بالطاقة. ولا يجب ان نحتاج عدة عقائد مفيدة حول كيفية بناء طريق او طريقة حلب البقرة. من حسن الحظ، ان رحلتنا لشراء حليب لا تتطلب منا امتلاك هذه العقائد . يكفي ان الناس الآخرين لديهم العقائد الملائمة واننا نستطيع إستعمال المنتجات التي أتاحتها لنا تلك العقائد .
التجربة وتغيير العقيدة
عندما يحتاج احدنا الى خضراوات ويعتقد ان دكان البقال لازال مفتوحا، فسوف يتجه المرء الى هناك. ولكن عندما يصل الى البقال، يجده مغلقا. من الواضح، هو عليه ان يعدّل عقيدته حول ساعات عمل البقال. ومع إنكشاف الأحداث، والاندهاش بالنتائج، نحن باستمرار سوف نراجع عقائدنا . انه من السهل تعديل عقائدنا حول ساعات عمل البقال، ولكن ليس جميع المسائل المثيرة للدهشة يسهل حلها. لنسوق مثالا آخرا مشهورا، في بداية القرن العشرين وجد الفيزيائيون من الصعب تعديل عقائدهم ليأخذوا بالحسبان النتيجة المدهشة لتجربة مايكلسون ومورلي التي أثبتت ان سرعة الضوء لا تتغير مع اتجاه القياس، بالرغم من حركة الارض خلال الفضاء. هذا المأزق حُلّ فقط بعد تطوير اينشتاين لنظرية النسبية الخاصة، وهي النظرية التي كانت ايضا، مدهشة. عندما قال كوين (wvo Quine) في (من وجهة نظر منطقية، 1961)، كل واحد منا لديه عقائد هامشية يمكن التخلص منها بسهولة، ولكن ايضا لديه عقائد اكثر مركزية يصعب التخلص منها كلما اصبحت اكثر اهمية لحياتنا. بالطبع، الشيء الأساسي لي ربما هو هامشي لك، والعكس صحيح.
التجربة غير المتوقعة لاتخبرنا بذاتها عن أي عقيدة نستطيع تغييرها. نحن نستطيع التمسك بأي عقيدة عامة في وجه التجارب غير المتوقعة لو رغبنا في تعديل عقائدنا الاخرى. طبقا لكوين، الناس سوف يجرون تغييرا أقل تدميرا لعقائدهم عبر التخلي عن عقائدهم الهامشية والتمسك بتلك الأكثر مركزية لهم. حيث يقول كوين:
" ان معرفتنا او عقائدنا الكلية، بدءاً من المسائل الأكثر عرضية في التاريخ والجغرافية الى القوانين العميقة للفيزياء الذرية وحتى الرياضيات الخالصة والمنطق، هي نسيج من صنع الانسان تؤثر على التجربة فقط عند حدود الحافات... الصراع مع التجربة عند التعديلات الطارئة الخارجية في داخل الحقل.. لكن الحقل الكلي لايتقرر بظروفه الهامشية، او التجربة، لدرجة هناك مجال اكبر للخيار حول اي البيانات نعيد تقييمها في ضوء اي تجربة منفردة مضادة.. اي بيان يمكن الايمان به كحقيقة لو قمنا بتعديلات عنيفة و كافية في مكان آخر من النظام. حتى البيان القريب جدا من الهامش يمكن الايمان به كحقيقة في وجه التجربة المتمردة عبر اللجوء الى الهلوسة او الهذيان او عبر تعديل اقوال معينة من النوع الذي يسمى قوانين منطقية".
هذا ينطبق على العلماء بنفس القدر الذي ينطبق فيه على الناس العاديين. فمثلا، عندما أعلن الفيزيائيون في مشروع اوبيرا(OPERA ) في سبتمبر 2011 انهم لاحظوا نيترونات بدت تسافر أسرع من الضوء، معظم الفيزيائيين تبنّوا موقف (ننتظر ونرى). الايمان بسرعة الضوء كحد مطلق كان مركزيا جدا في الفيزياء. ولاحقا في جولاي تعقّب علماء اوبيرا النتيجة ووجدوها تعود لعيوب في أجهزة القياس لديهم.
ان رفض التخلّي عن العقائد المركزية ماعدى في الظروف الاستثنائية من المحتمل ان يحمينا من الحالة الدائمة للارتباك والتردد. بدون مثل هذه المعوقات الابستيمولوجية، سيكون من الصعب جعل الناس يتعاونون او حتى يتصرفون.
الارتباط بالجالية The community connection
غير ان بعض عقائدنا الأكثر أهمية ترتبط بالأفعال ولكن فقط بشكل فضفاض. عقائدنا الدينية ربما تقرر أي كنيسة نذهب وعدد مرات الذهاب، لكن الرؤى حول ولادة المسيح الطاهرة او التحولات الاسطورية (مثل تحويل الخبز والخمر الى لحم ودم المسيح) ربما لها تأثير قليل على أي من أفعالنا الاخرى. ونفس الشيء ينطبق على العقائد السياسية التي ربما تقرر كيفية التصويت، لكن هذا غير دائم ويبقى فعلا خاصا يأخذ القليل من الوقت. بالنسبة لمعظمنا، عقائدنا حول التجارة والهجرة او المسائل السياسية الاخرى هي من غير المحتمل ان تؤثر كثيرا على أفعالنا اليومية. حتى في هذا، يتم التمسك بالعقائد الدينية والسياسية و بقوة الى النقطة التي تكون فيها محصنة من الجدال الحضاري.
وبينما ارتباطها بالفعل ربما يكون ضعيفا، لكن ارتباط العقائد السياسية بالحزب السياسي او ارتباط العقائد الدينية بالجماعة المتدينة يمكن ان يكون قويا. في الحقيقة، ان حزبنا السياسي قد يقرر بعض رؤانا السياسية، والكنيسة التي نذهب اليها تقرر بعض معتقداتنا الدينية بدلا من العكس. لذا، وبعيدا عن كونها جزءاً اساسي من الهوية الذاتية، ديننا او العقائد السياسية ربما ايضا تصبح مركزية للعديد منا لأن تغييرها قد يتطلب تغيير حلقاتنا الاجتماعية.
لماذا لا نتفق؟
الان نستطيع ان نرى لماذا بعض الخلافات يصعب جدا حلها بالجدال العقلاني المهذب.
اولا، الناس ربما يتمسكون بعقائد تبدو كأنها متناقضة لأنهم يستعملون عقائدهم بمختلف السياقات.
ثانيا، الناس يختلفون في أي العقائد هي مركزية لحياتهم، وأي منها هامشية، من غير الواضح ان كانت نشأت بفعل تجربة مقلقة ام بفعل جدال عقلاني مهذب، مختلف الناس ربما يختارون تعديل عقائدهم المختلفة.
ثالثا، العديد من العقائد لا تُشتق من التجربة الشخصية وانما من جماعة موثوقة، ولهذا السبب فان التخلّي عن تلك العقائد قد يهدد الروابط مع الجماعة.
هذه العقبات للاتفاق تبرز من الخصائص العامة والمفيدة لنفسية الانسان. حالات عدم الاتفاق تجعلنا نبحث عن معايير موضوعية. هناك العديد من الآراء، ولكن يمكن ان يكون هناك فقط موضوع واحد حقيقي . لكن الحقيقة ثبت انها زبون متقلب وغامض. نحن نأخذ عقائدنا حول العالم الخارجي لتمثّل العالم، وانها حقيقية للدرجة التي تكون بها تلك التمثلات دقيقة. واذا كان بعض الفلاسفة جادلوا بأن طبيعة العالم الخارجي هي بالنهاية لايمكن معرفتها، لكن أغلبنا مع ذلك يفترض ان هناك عالم خارجي يوجد بشكل مستقل عن كيفية تفكيرنا حوله بدلا من أخذ الرؤية الشكوكية حول العالم الخارجي. وكما جادل ديفد هيوم، انه افتراض يستحيل تجنبه:
"المحطم الاكبر.. للمبادئ المفرطة للشك هو الفعل والاستخدام، ومهن الحياة العامة. تلك المبادئ المشككة ربما تزدهر وتنتصر في المدارس الفلسفية، وحيث انها، من الصعب حقا ان لم يكن من المستحيل تفنيدها. ولكن حالما هي تغادر الظل، وبوجود الاشياء الواقعية التي تنشّط عواطفنا ومشاعرنا، ستوضع بالضد من المبادئ الأكثر قوة في طبيعتنا، انها تتلاشى كالدخان وتترك المشكك المتصلب والأكثر تصميما يعيش في نفس الظروف كالبشر الاخرين". (تحقيق يتعلق بالفهم الانساني، قسم 12، جزء 11، 1748).
لكن الاعتقاد بان هناك عالم خارجي لن يحل مشاكلنا، لأن هناك عدة تمثلات دقيقة لذلك العالم. لو أخذنا تمثلات الاستعارة بشكل جاد، فان عناصر العقيدة ستطابق عناصر العالم، والعلاقات بين عناصر العقيدة سوف تتبع العلاقات بين العناصر المطابقة للعالم. لهذا عقائدنا سوف تمثّل العالم بنفس الطريقة التي تكون فيها خارطة الطريق تمثل المناظر في الطبيعة. النقاط المشار اليها على الخارطة تتطابق مع المدن والقرى، والخطوط المسماة تتطابق مع الطرق الفرعية والطرق السريعة.غير اننا لا نستطيع القفز خارج تجربتنا لنفهم اشياء العالم الخارجي والارتباطات المتداخلة بطريقة مستقلة عن التجربة. نحن عالقون في الجانب التجريبي، ونستطيع معرفة العالم مستقلا عن تجاربنا فقط كسبب افتراضي لتجاربنا وعقائدنا المترتبة على ذلك .
الحقيقة والبراجماتية
نظرية اخرى للحقيقة هي البراجماتية التي ترى ان العقائد تكون صحيحة اذا ساعدتنا في الوصول الى التجارب التي نرغبها. ان قوة هذه النظرية هي إخلاصها للطريقة التي بها حقا نعدّل عقائدنا. عندما يقود التصرف وفق عقائدنا الى تجارب غير متوقعة، نحن سنغير عقائدنا بدون الخوف من أي علاقات غير معروفة بين عقائدنا والعالم الخارجي.
المشكلة مع البرجماتية هي ان أهدافنا تتغير، لذا فأن العقائد المتصارعة ربما مفيدة للناس ذوي الأهداف المختلفة. شارل ساندر بيرس، مؤسس البرجماتية الامريكية حاول حل هذه المشكلة بالقول انه، في النهاية، أنظمة عقائدنا المختلفة سوف تتلاقى في مجموعة منفردة من العقائد المثلى التي تمكّن كل واحد منا تحقيق أهدافه المختلفة. هذه العقائد (الأفضل لكل شخص) ستصبح هي الصحيحة (لعقيدة كل شخص) (الاوراق الملتقطة لشارلس ساندر بيرس، ص267، 1935). ولكن في ضوء التنوع في أهدافنا ومواقفنا سوف لن تكون لدينا ابدا مجموعة من العقائد التي تفيد كل شخص. نحن محكوم علينا بنماذج مجزأة ومتعددة للعالم، ولذلك فان النماذج غير المنسجمة ستخدم على افضل وجه حاجات مختلف الناس في مختلف المواقف والاهداف.
مرة اخرى الخرائط توفر انموذجا مريحا لهذا المفهوم. في التنقل حول العالم، نستعمل مختلف الخرائط اعتمادا على المكان الذي نذهب اليه وكيفية الذهاب – هناك خرائط طرق للسياقة، الابحار في البحر، المسارات الخاصة للمشي، وهكذا. كل خارطة تتجاهل الكثير من الحقائق حول الاقاليم المثبتة في الخرائط لأنها حُكم عليها بشكل غير ملائم لأهداف المستعمل المقصودة. نحن نقول ان الخرائط دقيقة (صحيحة) عندما يقودنا اتّباعها الى المكان الذي نريد الذهاب اليه، حتى عندما يقود الناس ذوي الاهداف الاخرى الى الضلال. ونفس الشيء، لكي نرشد أفعالنا، نحن نستعمل عقائد (او نماذج فكرية) ملائمة لمواقفنا الفردية وأهدافنا. الناس في المواقف الاخرى وبأهداف مختلفة ربما يستفيدون من امتلاك عقائد اخرى.
ماذا نعمل؟
مع عدم وجود معيار موضوعي للحقيقة، كيف نتصرف بشأن تعديل عقائد الافراد الآخرين؟ الناس الذين لايشتركون بالعقائد ربما ببساطة لديهم أهداف مختلفة. ألم يكن (عش ودعه يعيش) هو الجواب المناسب للاختلافات في العقائد؟ نحن ربما سعداء لترك كل شخص يتخذ طريقه في الأفضليات الادبية او الموسيقية، والمسائل الاخرى للذوق الشخصي، لكن ليس عندما نأتي الى المسائل التي تؤثر على الآخرين. فمثلا، ربما نكون سعداء في السماح للناس الذين يرفضون اللقاحات في ان يختاروا ويعانوا النتائج. ولكن ماذا لو خلقت تلك النتائج معاناة للناس الذين لايستطيعون اللقاح بأمان، مثل المواليد الجدد؟ العقائد المضادة للّقاح لم تكن هناك بالصدفة، وهي من غير المحتمل ان تُزاح بالجدال. الحجج التي يعرضها المعارضون للقاح ربما تبدو سخيفة لنا، وهم ربما يشعرون نفس الشيء حول حججنا. ولكن اذا كانت الحجج لا تعمل فما العمل؟
الناس يغيّرون فعلا عقائدهم المركزية، ولكن فقط كنتيجة لحدث شخصي خالص، مثل الوقوع في الحب او موت أحد الاقارب او انتشار واسع لوباء او كارثة كالحرب. الأحداث الشخصية هي غير متنبأ بها، والكوارث غير مرغوبة لذا لايمكننا الوثوق بها في تغيير العقائد. الصراخ عند او السخرية من حجج الخصوم الاخرى قد يجعلنا نشعر جيدا ونقوّي ارتباطنا بعقائدنا الجماعية، ولكن من غير المحتمل تغيير عقائدهم. بالنهاية، هل ان صراخ وسخرية الجانب الآخر غيّر من عقيدتك سوى تخفيض انطباعك عن ذكائهم او اخلاقهم؟ القمع يُستخدم باستمرار لإسكات الناس ذوي العقائد غير المريحة، ولكنه لا يبدو منسجما مع نوع المجتمع المنفتح الذي يفضله أغلب الناس. ورغم ان القمع قد ينجح لفترة قصيرة، لكنه عادة يفشل في المدى البعيد.
تبنّي رؤية طويلة الأجل
اذاً ما مدى قدرتنا على جدال شخص ما انطلاقا من عقيدة ربما تبدو شاذة لنا؟ في جدالهم معنا ومهما كانت العقيدة التي لدينا هم يعتبرونها شاذة. ان نوع التغيير الذي نتحدث عنه يأخذ وقتا وربما أجيالا. هناك عدة أشياء يجب إبقائها في الذهن وهي:
1- كل واحد منا يعتمد على شبكة واسعة من المعتقدين الآخرين للوصول لأهدافنا المختارة. تبنّي عقائد من الناس الآخرين او على الاقل السماح لهم الاستمرار بالعقيدة، هو ضرورة لو اردنا ان نعيش كما نريد. ربما أنا لا أفهم ميكانيكا الكوانتم، لكني سعيد ان الآخرين يفهمونها. الاعتماد على عقائد الآخرين نادرا ما يتطلب منا التخلي عن عقائدنا العميقة. عندما أذهب لشراء حليب لا يهمني عقيدة البقال السياسية والدينية.
نحن عموما نستفيد عبر تعظيم عدد الناس الذين يساهمون في شبكة عقيدتنا. ونحن نعاني عندما يُمنع او لا يُشجع الناس للانخراط في حقل او في التعليم او في خدمات يحتاجونها، بسبب عرقهم وجنسهم ودينهم او بسبب السياسة او اي عوامل اخرى ليس لها علاقة بمقدرتهم على المساهمة.
اخيرا، من الأحسن لو كنا لا نمتلك كلنا نفس العقيدة. في المشكلة الشائكة نحن سوف نحتاج الاختيار من بين نطاق واسع من الحلول المقترحة. الرؤى غير التقليدية يجب ان يُسمح بها حتى لو لم يتم تبنّيها.
الرؤى المتطرفة هي في مد وجزر، لكن النزعة الطويلة الأجل تبدو مفضلة. النقل السريع وانظمة الاتصالات تسارعت في الفترات الاخيرة. المجتمعات المنعزلة في السابق ذات العقائد المتجانسة فجأة وجدت ان يقينياتها امام التساؤل. هم قاوموا واستمروا في الكفاح ولكن بلا أمل. الافكار والعقائد تتسرب، ثم تندفع عبر الحدود . ربما هنا بدايات وتوقفات، تقدّم وتراجع، لكن النتيجة النهائية تبدو واضحة:
في المجتمع المعولم تمتلك مختلف المجتمعات الفرعية عقائدها الخاصة وطرقها في عمل الاشياء، لكنها يجب ان تكون متسامحة في الطرق الاخرى للحياة .
تغيير العقائد الاساسية ربما امر صعب، ولكن على الأقل ان لا يعتقد أطفالنا بكل الهراء الذي نؤمن به. ان ضغط الأحداث سوف يحوّلهم تدريجيا نحو عقائد تعمل لهم، عقائد توسّع ايمان الجالية بينما تحتفظ عالميا بتنوّع الرؤى. انها عملية لا يمكن فرضها ولكنها تبدو حتمية.
حاتم حميد محسن
..........................
The Tree of Knowledge, The Limits of Argument, Philosophy Now.Feb/March2021
السياسي د. عبد الهادي بوطالب يكتشف خطأً في الدعوة الملكية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. علي القاسمي
تأسَّست المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) بالرباط في مايو/ أيار 1982، بوصفها وكالة متخصصة من وكالات منظمة المؤتمر الإسلامي (التي أصبح اسمها منظمة التعاون الإسلامي)، وهي منظمة دولية تضم حالياً سبعاً وخمسين دولة ذات أغلبية مسلمة.
افتتح العاهل المغربي الملك الحسن الثاني (1929 ـ 1999) مؤتمر الإيسيسكو التأسيسي في مدينة فاس، ونبّه في خطابه إلى ضرورة أن تعمل هذه المنظمة في التقريب بين المذاهب الإسلامية، وكأنَّه كان يتوقع أن يعمل أعداء الأمة على إثارة صراعات طائفية فيها. وقد أُسند الملك الحسن الثاني منصب المدير العام للمنظمة إلى الدكتور عبد الهادي بوطالب (1923 ـ 2009).
الدكتور عبد الهادي بوطالب من قادة الحركة الوطنية الذين كان لهم دور بارز في النضال من أجل استقلال المغرب. إضافة إلى كونه مفكراً وباحثاً مرموقاً. تخرّج مطلع الأربعينيات في جامعة القرويين بمدينة فاس، وهي أقدم جامعة في العالم لا زالت عاملة منذ تأسيسها سنة 245هـ / 859م. وكان عميدها آنذاك العالِم الوطني الغيور محمد الفاسي (1908 ـ 1991)، الذي التمس من السلطان محمد الخامس (1909 ـ 1961) رعاية حفل التخرج، تأكيداً للذاتية المغربية في زمن الحماية الفرنسية. وكانت التقاليد الجامعية تقتضي أن يلقي الطالب المتخرِّج الأوَّل في الجامعة خطاباً في حفل التخرَّج. وعندما ألقى عبد الهادي بوطالب خطابه، أُعجب به السلطان محمد الخامس، فعيّنه مدرِّساً في المدرسة المولوية بالرباط حيث كان ابنه ولي العهد الأمير الحسن (الملك الحسن الثاني فيما بعد) يواصل دراسته. ومن هنا توطدت علاقته بالملكين فأصبح مستشاراً لهما، إضافة إلى أنه صار منسّق البرنامج الدراسي في كلية الحقوق بالرباط لولي العهد سيدي محمد بن الملك الحسن الثاني (الملك محمد السادس فيما بعد)، لأن بوطالب كان أستاذا بارزاً في كلية الحقوق في الرباط. وقد تسنَّم مناصب سياسية ودبلوماسية عديدة مثل : وزير الخارجية، وزير التربية الوطنية، وزير العدل، وزير الإعلام، رئيس مجلس النواب، سفير المغرب في واشطن.
له ما يربو على 60 كتاباً باللغتين العربية والفرنسية، ومنها ما يُدرَّس في الجامعات المغربية مثل:
ـ المرجع في القانون الدستوري والمؤسسات الدستورية.
ـ النظم السياسية المعاصرة.
ـ ملامح الدبلوماسية العالمية.
أعدُّ الدكتور عبد الهادي بوطالب من شيوخي، فقد صحبته قرابة عشر سنين عندما كان مديراً عاماً للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة واستخدمني فيها خبيراً ثم مديراً لإدارة التربية، وسعدتُ بقراءة العديد من كتبه، وتعلّمتُ منه كثيراً، وكان يعاملني كولده، ورافقته في معظم مهماته الخارجية للمنظمة.
وكان الملك الحسن الثاني يبعث به في المهمات الصعبة حاملاً بعض رسائله الخطّية أو الشفهية إلى بعض رؤساء الدول. أخبرني ذات مرة أنه حمل رسالة شفهية من عاهل المغرب إلى شاه إيران في أوائل السبعينيات عندما توترت العلاقات بين إيران والعراق، بسبب دعم السلطات الإيرانية لتمردٍ الملا مصطفى البرزاني، بالسلاح والعتاد والمال، وكادت الحرب تنشب بين البلدين.
عندما وصل أبو طالب إلى البلاط الإيراني كان عليه أن يستمع أولاً إلى شرح مطوَّل حول مراسِم وبروتكول مقابلة الشاه. وحينما دخل إلى صالة العرش، وجد الشاه ببزته العسكرية ونياشينه تغطي صدره وهو جالس على عرش عالٍ جداً. وعندما وقف أمام الشاه لإبلاغه الرسالة كان وجهه في مستوى جزمة الشاه.
قال الدكتور بو طالب بالفرنسية التي كان الشاه يجيدها ما معناه إن أخاكم الملك الحسن الثاني يبلغكم أحرَّ تحياته وخالص مودَّته ويقول لكم أن إيران بلد إسلامي وعمقها المادي والمعنوي هو بقية البلدان العربية الإسلامية ومنها العراق، وإذا تعرّض العراق لعمل عسكري فإن المغرب يجد نفسه ملزماً، بمقتضيات ميثاق جامعة الدول العربية، بالوقوف إلى جانبه. ولهذا فإن أخاكم الملك الحسن الثاني يعتمد على حكمتكم وبُعد نظركم في حلِّ الخلاف بالطرق السلمية.
فأجاب الشاه بما معناه: إن ما ذكره جلالة الملك الحسن الثاني هو ما يجعلني أتردد في إنهاء الخلاف عسكرياً، وإلا ففي مقدوري أن أسحق العراق بأقل من أسبوع.
وهنا رفع الشاه قدمه اليمنى وضرب بجزمته قاعدة العرش لتأكيد كلامه، فاندفع الهواء الناتج من الضربة إلى وجه الدكتور بوطالب.
وقال لي الدكتور: ومن تلك اللحظة كرهتُ الشاه.
[ولعل رسالة العاهل المغربي تلك من العوامل التي ساعدت على عقد اتفاق الجزائر 1975 بين شاه إيران وصدام حسين نائب رئيس جمهورية العراق آنذاك، بوساطة الرئيس الأسبق هواري بومدين (1932ـ1978) رئيس الجمهورية الجزائرية (1965ـ 1978)].
كان الملك الحسن الثاني يقول عن الشاه إنه من أصدقائه، " ولكنه ارتكب خطيئة التكبّر، وقد لاحظتُ ذلك لأول مرة عندما أقام احتفالا ضخماً بمدينة برسيبوليس التاريخية، حيث أراد أن يتباهى بألفي سنة من التاريخ، ناسياً بضعة قرون من الإسلام، ذلك أنه في ذلك العهد لم تكن إيران مجرد موظن للثقافة والديانة الإسلامية، بل غدت مركز إشعاع للفكر والحضارة الإسلاميين. إذن فعندما رأيتُه يقيم جداراً من الصمت على الفترة الإسلامية ليظهر الأسطورة الآرية، احجمتُ عن الاستجابة لدعوته [لحضور ذلك الاحتفال]."
ومع ذلك فإن وفاء الملك الحسن الثاني لصديقه شاه إيران، جعله يحاول إنقاذه من الثورة التي كان يخطط لها الإمام الخميني من منفاه في النجف، فأوفد مستشاره عبد الهادي بوطالب في مهمة سرّية لمقابلة الخميني ومحاولة إجراء الصلح بينه وبين الشاه، ووجَّهه بمقابلة الرئيس العراقي حسن البكر لتسهيل اجتماعه بالخميني. ولكن الاجتماع مع الخميني لم يتم، لأن البكر أخبر بوطالب أنه لا فائدة من الاتصال بالسيد الخميني لأنه سيغادر العراق بطلب منا، ولم يبق على موعد مغادرته سوى أيام معدودات.
وعندما اندلعت الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979، وطلب الشاه اللجوء إلى المغرب، كان الدكتور بوطالب من بين المستشارين الذين نصحوا الملك الحسن الثاني بعدم استقباله، ولكن شهامة الملك جعلته يستقبل الشاه. وبعد وصول الشاه إلى الرباط، تلقى الدكتور بوطالب بطاقة دعوة ملكية لحضور وليمة عشاء يقيمها الملك الحسن الثاني تكريماً للشاه، فلم يحضرها.
فأخبر أحدهم الملك أن المستشار بوطالب لم يحفل بتلبية الدعوة الملكية لحضور العشاء. فاستقدمه الملك وسأله عن السبب في عدم تلبية الدعوة:
فقال الدكتور بوطالب المعروف بحدّة ذهنه وسرعة بديهته:
ـ سيدنا، ثمة خطأ فاضح في الدعوة التي وصلتني.
فسأل الملك مستغرباً:
ـ وما هو؟
أجاب بوطالب:
ـ لأن النقطة الأولى في الدعوة تقول: السلام على الملكَيْن، وأنا عندي ملك واحد هو الملك الحسن الثاني فقط.
فتبسَّم الملك.*
د. علي القاسمي
.........................
* الطرفة رقم 43 من كتاب:
ـ علي القاسمي. طرائف النوادر عن أصحاب المآثر (الشارقة: منشورات القاسمي، 2019)
تشرين.. نص سردي يُمجِّد الانتفاضة ويتعالق مع التاريخ
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عدنان حسين احمد
توظِّف الكاتبة وفاء عبدالرزّاق في روايتها الجديدة "تشرين" الصادرة عن دار "أفتار للطباعة والنشر" بالقاهرة اشتراطات المبنى الميتاسردي بواسطة تعالقها مع شخصيات دينية مثل عنان بن داوود، مؤسس حركة القرّائين اليهودية التي عارض فيها اليهود التلموديين في زمن الخليفة أبي جعفر المنصور. كما تستدعي الروائية شخصية دانيال، المثقف المؤمن بهذه الحركة الذي يصف نفسه بشكل واضح لا لَبِس فيه: "أنا قارئ وكاتب ومُولع بكتب الفلسفة والأديان، وصاحب فكر". ويستمر هذا التلاقح الميتاسردي ليشمل الآية 34 من "سورة النساء" وإن لم تُسمِّها صراحة نقتبس منها الآتي"... وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا". كما تورد حديثًا نبويًا يقول:"لقد كرّم اللهُ المرأةَ في القرآن الكريم بضربها". كما ينطوي النص الروائي على تلاقحات فكرية وثقافية متعددة مع أقوال بعض الكُتّاب والفلاسفة الذين أثْروا الأنساق السردية للرواية ومنحوها نكهة خاصة ومميزة.
على الرغم من كثرة الشخصيات في هذه الرواية وصعوبة الإحاطة بها كلها إلاّ أنّ هناك شخصيات رئيسة هيمنت على النص السردي مثل سلوان، وحبيبته سعدة، ودانيال، وفرقد، وملاك وما سواهم من شخصيات توزعت على مدار الرواية التي تمحورت هي الأخرى على ثيمات متعددة أبرزها انتفاضة تشرين، ومقارعة الأنظمة الدكتاتورية، ولصوصية الحُكام الجُدد الفاشلين الذين نهبوا ثروات الشعب العراقي، وحمّلوه بأعباء كبيرة قد لا يتخلّص منها بعد عقدين أو ثلاثة عقود من الزمان في أقل تقدير.
تتناول وفاء عبدالرزاق في ثيماتها الفرعية موضوعات كثيرة تبدأ بالحُب، وتمرّ بالخيانة الزوجية، وتنتهي بالانهيار الأخلاقي الذي أصاب شرائح محددة من المجتمع العراقي وهي تُلقي باللوم على السياسيين من مختلف القوميات والأديان والمذاهب، ولا تستثني أحدًا سواء أكانوا عربًا أم كوردًا، مسلمين أم مسيحيين، سُنّة أم شيعة، مثقفين أم جهلة، فالكل ينهش بجسد العراق، ونريده نحن، في خاتمة المطاف، أن ينهض مثل العنقاء من رماده ويعود قويًا ومعافى مثل سالف الأزمان التي كانت فيها بغداد عاصمة للخلافة الإسلامية، ومنارة للعلوم والفنون والآداب.
شخصيات حيّة من لحمٍ ودم
تنجح وفاء في خلق شخصياتها الروائية الحيّة وتجعل القارئ يشعر بأنهم من لحم ودم؛ فشخصية سلوان يتعاطف معها القارئ لأنها ليست متعجرفة أو متعالية ولا تسكن برجًا عاجيًا وإنما تنبثق من البيئة الشعبية؛ فهو مثقف، وقارئ نهم، لا يفوته كتاب جديد، ولا تفلت من يده صحيفة يومية، والأهم من ذلك كله هو نَفَسَه الثوري المقارع للظلم والدكتاتورية. وحينما تنطفئ جذوة الوالد يشرع سلوان بالعمل ليلاً في محل خياطة، ويواصل دراسته صباحًا، ولا ينفكّ عن القراءة كلما وجد متسعًا من الوقت، فهو يحب الحياة، ولا يملُّ من الطموح الذي يحققهُ في الواقع وليس في الأحلام المجنّحة. يقع سلوان في الحُب في سنّ السادسة عشرة، ويتذوّق طعمه، ويتعرّف على الخدر اللذيذ الذي يسري في بدنه أول مرة حين "يلامس عباءة سعدة"! هذه الفتاة المنحدرة من أصول إيرانية التي أحبّها من أعماقه وتماهى بها، وسوف يكسبها إلى الحزب الشيوعي الذي انتمى إليه وهو في سن السابعة عشرة، وأصبح مسؤولاً عن مجلة تُعنى بالثقافة. وسوف يهرب من الجامعة لأنّ عيون العناصر الأمنية بدأت تلاحق الطلاب المنتمين إلى أحزاب أخرى غير الحزب القائد.
تُعدّ رواية "تشرين" نصًا عن أدب السجون في الحقبتين الدكتاتورية والمعاصرة، وسوف يتعرض العديد من الشخصيات للسجن، والتعذيب، والتصفيات الجسدية حيث كان الجلادون يضربونه على فمه، ويهشمون أسنانه، ويجبرونه على بلعها حتى يعترف بأسماء خليته ويخبرهم بخطتهم لإسقاط النظام. أمّا الآن فـ "نحن في بلد تتحكّم فيه عصابات برابرة". يُعتقل سلوان في الجامعة، ويتعرّض لمختلف أصناف التعذيب، ثم يُدرك أنّ أخاه سمير عبد الواحد مُلقىً في حاوية المشيمات حيث اقتاده أربعة من عناصر الأمن وزجّوه في السجن، وثمة طالب أشقر جميل اغتصبوه أمامهم لكي يهينوا رجولته أولاً، ويرهبوا السجناء الآخرين. ثم أجلسوه على خازوق اخترق أحشاءه وكان سببًا في وفاته. يخرج سلوان من السجن بعد أن يوقع تعهدًا بعدم القيام بأي عمل يضرُّ بالحزب القائد فيُصدم بخبر عن تسفير المواطنين من ذوي الأصول الإيرانية وبينهم سعدة فَحَزُن على فراقين؛ الأول فراق الحزب الشيوعي، والثاني على فراق سعدة ولا حلّ أمامه سوى أن يتزوجها كي ترعى مصالح أهلها. تفرّق الروائية بين الحُب الطاهر النقيّ، وبين الحاجات الجنسية التي كانت يشعر بها سلوان فتختلق له الأعذار إن مال لهذه الفتاة أو تلك المرأة لكي يأخذ وطرها منه. وإذا كان ذنب سلوان الوحيد في السابق هو مناوأة الدكتاتورية فإن جنايته الحالية هي التحريض من خلال كتاباته الصحفية على الثورة ضد النظام الفاشل ومليشياته العميلة التي تتلقى أوامرها من خارج الحدود.
تبدو حبكة هذه الرواية أضعف من سابقاتها بكثير ولولا تشريح الأطباء لجثة سلوان لما حافظت الرواية على نسق سردي مستقيم يصل بها إلى الجملة الختامية، فتارة يفتحون الصدر ويشرّحون القلب، وتارة أخرى يشرّحون القصبات الهوائية، وثالثة يعبثون بالرأس بمنشار كهربائي، ورابعة يمزّقون الكبد والطحال، وخامسة يشرّحون العمود الفقري، ثم يتتبعون الساقين والقدمين حتى يأتوا على أعضاء الجسد برمتها. وغالبًا ما يرتبط تشريح هذه الأعضاء الجسدية بالحبيبة سعدة التي عشقت فيه كل شيء فهي التي سكنت في قلبه، وأقامت في حدقتي عينيه، وطبعت القبلات على شفتيه وجبينه، ونامت على صدره، وتشابكت أصابعها بأصابعه حتى تماهى الجسدان بجسد واحد.
تقنية الأحداث المتجزِّئة
وبما أنّ الرواية تفتقر إلى البنية المتضّامة المتماسكة فلقد لجأت الكاتبة إلى الأحداث المتجزّئة التي تُوصل بعضها بعضًا، فما إن يفتر دور سلوان ويتلاشى دور سعدة الفعلي بعد أن تتحوّل إلى ذكرى عاطفية جميلة حتى تبرز إلى السطح شخصيات جديدة، بعضها رئيسي مثل دانيال، وبعضها الآخر ثانوي يساعد في إثراء النسق السردي مثل ملاك، وقيس، وسامي، وفرقد، وثورة، ورحاب، وزينب، ونبهان، وثنوة، وشخص مثلي وآخر من الجنس الثالث وغيرهم الكثير.
ورغم أنّ دانيال قد تمّ استدعاءه من الماضي التليد الذي يعود إلى زمن أبي جعفر المنصور إلاّ أنه كان يتحرك في المسار السردي وكأنه حاضر معهم، يشارك المنتفضين انتفاضتهم الجبارة ولكنه كان يبدو وكأنه قادم من كوكب آخر في بعض الأحايين فهو لم يسمع بابن ثنوة، ولماذا أُطلقت عليه هذه التسمية، الأمر الذي يتيح لنا، نحن المُتلقّين، أن نعرف حكاية الشهيد الأول في هذه الانتفاضة، ونلمّ بقصة حياته، ونُحاط علمًا بطموحاته وأحلامه الشخصية، فقد كان شاعرًا ورسّامًا مُحبًا لوطنه، يسكن في حيّ جميلة، ويعمل حمّالاً في علوتها، ويواصل دراسته الجامعية في الوقت ذاته، واسمه الحقيقي "صفاء السراي"، ورغم أنه غادرنا بجسده لكنّ روحه ماتزال تحوم فوق ساحة التحرير، وقلعة المطعم التركي، وجسور بغداد التي شهدت العديد من المواجهات بين المنتفضين والقوات الحكومية التي كانت تتفرج على الطرف الثالث وهو يفتك بالشباب الثائرين الذي يبحثون عن وطن لا تُنتهك سيادته من قبل إيران أو أمريكا أو أي دولة مجاورة.
يشترك بطلا هذه الرواية بأنهما قد ذاقا مرارة السجن، وتعرّضا لمختلف أنوع التعذيب، فسلوان تمّ تحويلة إلى مادة تعليمية حينما بالغوا في تشريحه جثته ولم يتركوا عضوًا من دون أن يفتحوه بما في ذلك عضوه الذكريّ. أمّا دنيال الذي لُفقت له تهمة الزندقة، واتهموه بالزنى فقبضت عليه الشرطة، وشدّوا وثاقه، وطافوا به في شوارع المدينة لكنه لم ينكسر لأنه كان مؤمنًا بأفكار عنان بن داود، وأنه يمثّل اليهود الحقيقيين الذين يؤمنون بالسيد المسيح. يتواصل حصول دانيال مع الصبي الصغير فرقد، ويترددا على ساحات التظاهر، ويلتقي بأناس متعددين من بينهم رجل طاعن في السن يتهم اليهود بأنهم وراء إحراق المكتبة العامة، وسرقة كل ما يتعلق باليهود الأسرى في بابل. كما يلتقي بشخصيات أخرى يحبها ويتفاعل معها، بل أن بعضها مثل "ثورة" كانت تتمنى الزواج به لكنه كان يعتذر لأسباب خاصة لم يبح بها حتى لسلوان الذي يعدّه أقرب الناس إليه وشريكه في تلك الغرفة المظلمة. ظل دانيال متخفيًا لا يفصح عن ديانته حتى عندما عمل مزارعًا وخادمًا عند التاجر الكبير نبهان الذي أرسله ذات مرة إلى البصرة ليستقبل ضيفًا ثريًا من الهند، وحينما وصل المهراجا وعائلته اكتشف ثراءهم الفاحش من الهدايا الثيمنة التي جلبوها معهم، ومن الحُلي والاساور الذهبية التي تتزين بها زوجته وابنتيه. كانت البنت الكبرى تميل لدانيال كلما نظرت إليه فهي في ميعة الصبا وقد بلغت العشرين من عمرها بينما شارف هو على التاسعة والثلاثين لكن صدمته كانت كبيرة حين سمع من سيده أنها خطيبة ابنه. كما يلتقي بالطفل فرقد ويتعلق فيه لكنه يسلّمه في النهاية إلى "ثورة" ويوصيها به خيرًا.
خطورة التوثيق الشامل
تسعى وفاء عبدالرزّاق في هذه الرواية إلى احتواء كل القصص، والظواهر، والمواقف الشاذة التي طرأت على المجتمع العراقي. وعلى الرغم من أهمية هذا المسعى إلاّ أنّ النص الروائي ليس توثيقًا لكل ما يجري على أرض الواقع مثل قصة ملاك، طالب الطب الوحيد لأبيه الطبيب، وأمه مُدرّسة التاريخ حيث عمل حاث سير، واخترق زجاج السيارة عينيه، ودخل في غيبوبة، علمًا بأن والده، طبيب التجميل المعروف الخاص بأسرة وزير كان يخصي معارضيه من الأحزاب الأخرى ويرميهم في الخلاء لكي تلتهمهم الذئاب. أو قصة رحاب التي نصبت على شابين قطّعا أحشاء بعضهما بعضًا بالسكاكين، أو قصة المرأة التي رأيناها على شاشات التلفزة وهي توزّع المناديل الورقية على المتظاهرين، أو خبر حرق وتدمير مقرات الأحزاب السياسية في ذي قار وغيرها من المحافظات الجنوبية التي ترفض التبعية لأي دولة مجاورة للعراق، أو الحديث عن زواج المتعة العابرة أو انتهاك شرف الأطفال من قبل أناس محسوبين على رجال الدين، أو قصة العصابة المسلّحة التي دخلت منزل الدكتور أشرف هو وزوجته وابنتيه وما إلى ذلك. وعلى الرغم من هذه الهنوات التي أخلّت بالبنية السردية وأثقلت كاهلها بمعطيات قصصية وحكائية وخبرية لم تنفع الثيمة الرئيسة، ولم تغذّي الثيمات الفرعية إلاّ أن الفضاء العام للرواية لم يهتز لأنها تداركت الموقف حين وزّعت دوريّ البطولة على سلوان ودانيال اللذين ظلاّ حاضرَين في متن النص السردي ولم يغيبا عنه كليًا بسبب اعتمادهما على ثنائية التجلّي والخفاء التي نجحت فيها الروائية وفاء عبدالرزّاق ووظّفتها ضمن تقنية ميتاسردية تستحق الإشادة والتقدير. أصدرت وفاء عبدالرزاق 11 رواية حتى الآن من بينها "بيت في مدينة الانتظار"، "السماء تعود إلى أهلها"، "أقصى الجنون الفراغ يهذي"و "عشر صلوات للجسد".
عدنان حسين أحمد
تجديد الخطاب العقدي في المدرسة الأشعرية (3)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. محمود محمد علي
في هذا المقال نحاول أن ننهي حديثنا عن تجديد الخطاب العقدي في المدرسة الأشعرية، وهنا نقول: يعد الجويني أول من فتح الباب علي مصرعيه لتلميذه الغزالي الذي سيستخدم المنطق بشكل واضح في الدراسات الكلامية والفقهية . وهنا يمكن لنا أن ندرك إلي أي مدي ستكون حاجة الغزالي إلي المنطق، وإلي القياس الأرسطي بالذات، إنه سيكون في حجاة إليه لتقرير عقائد الأشعرية ضد المعتزلة الذين ظلوا متمسكين بمنهجهم المفضل " الاستدلال بالشاهد علي الغائب" وسيكون في حاجة إليه أكثر للرد علي التعليمة الباطنية الذين يبطلون الرأي والقياس، ويقولون بضرورة الأخذ من المعلم المعصوم، وسيكون في حاجة إليه أيضا لبيان تهافت الفلاسفة أنفسهم .
هذه الحجة الماسة إلي المنطق ستدفع الغزالي إلي تطويعه داخل الفكر الأشعري، إلي حد القول أنه هو القسطاس المستقيم، الذي عرض به القرآن العقيدة الإسلامية ورد به علي المجادلين الكفار، وأن أشكال القياس الأرسطي، هي نفسها " موازين القرىن "، كما أن الحاجة إلي المنطق ضريوة في علم الكلام لرد الضلالات والبدع وإزالة الشبهات وحراسة عقيدة العوام من تشويش المبتدعة والرد علي الباطنية .
فإعجاب الغزالي بالمنطق، ومحاولة ربطه بالدراسات الكلامية، جعل متأخري الأشاعرة يبدأون بحوثهم الكلامية بعرض المسائل المنطقية والمنهجية، والحديث عن طرائق العلم وأنواع الاستدلالات قبل الخوض في المسائل الكلامية، ومن هؤلاء " فخر الدين الرازي"، الذي استوعب الفلسفة المشائية الإسلامية، ثم كان أول من أدخل هذه الفلسفة في علم الكلام، ونتيجة لما قام به الرازي أصبح علم الكلام فلسفة، ويمكن القول بعبارة أخري أنه جعل تلك الفلسفة كلاما، وهكذا امتزج علم الكلام بالفلسفة .
وإذا كان الرازي قد أدخل الفلسفة في علم الكلام، فإنه علي ضوء الفلسفة المشائية السينوية، قد أعطي اتجاها جديدا لعلم الكلام.
فلقد ابتكر الرازي طريقة جديدة في تصنيف المؤلفات العقائدية، قبل تكوين المذاهب الكلامية الخاصة، حيث إستن في كتابه " المحصل " سنة في تبويب المشاكل الكلامية وتقسيمها، وسار عليها معظم من جاءوا بعده، من أمثال " الآمدي " و " البيضاوي" و" الإيجي"، وهو في الجملة ممتاز في التقسيم والتبويب، فهو إذا عرض لمسألة كلامية أو لمشكلة فلسفية استعرض وجهات النظر المختلفة فيها في تصنيف جامع، مع ربط محكم لكل ما يتصل بالموضوع من موضوعات أخري . وقد يجر الموضوع الكلامي أو الفلسفي إلي أبحاث لغوية أو تفسيرية في عرضه لها دون أن يفلت منه زمام، وهو إذ يناقش وجات النظر التي يعرض لها، يحدد موقفه الذي يعتقد أنه الحق، ويدافع عنه، وإذا كانت للرازي تلك القدرة الفائقة علي العرض والطلب، فإن القارئ الذي ليس له سعة إطلاع في مختلف العلوم قد لا يتمكن أن يلاحقه بفكرة في تقسيماته وتفريعاته وتشقيقاته .
ولذلك يمثل الرازي طفرة ممتازة ومرحلة متميزة في تطور كل من المذهب والمنهج الأشعريين، وعلي ارغم من أته قد خالف الأشعري والغزالي في بعض القواعد والأصول، فإنه تأثر ببعض آرائهم، وبخاصة في منهجه الجدلي؛ حيث يقوم جدله علي تعدد الأدلة مثل، وتسيطر عليه نزعة فلسفية مثل تلك التي توجد لدي الغزالي، وهو يستخدم التعريف والتقسيم كسابقيه ويهتم بالقضايا الشرطية " المتصلة والمنفصلة"، ويعرض الأفكار في أشكالها المختلفة، ويقلب الموضوع علي كافة وجوهه في كل معانيه، وهو يستخدم بكثرة هذا المنهج في واحد من أهم كتبه الجدلية وهو " اساس التقديس".
ويعتبر الرازي آخر ممثل كبير لمدرسة الأشاعرة، ولذين جاءوا بعده يتوخون منهجه ويبدو ذلك واضحا لدي "الآمدي" في كتابه " غاية المرام في علم الكلام"، وأيضاً البيضاوي في كتابه " طوالع الأنوار من مطالع الأنظار ".
وهذان الكتابان يمثلان أعظم دراسة تحاكي صنيع فخر الدين الرازي في كتابه " المباحث المشرقية" وكتابه "المحصل" .
كما نجد هذا الاتجاه أكثر بروزا عند متأخري الأشاعرة، وقد تمثل ذلك لدي " عضد الدين الإيجي (680هـ- 756هـ)" في كتابه " المواقف في علم الكلام "، وهو موسوعة كلامية فلسفية، استطاع من خلالها أن يقحم لموضوعات المنطقية واللغوية والميتافيزيقية في علم الكلام ؛ فقد تمكن الإيجي بقدرته الفائقة من تقديم نسق محكم مترابطة موضوعاته متبعاً المنهج المقارن بين المتكلمين بعضها ببعض، حقيقة لقد تضاءل موضوع العقائد، إذا قورن بما عرض له من موضوعات، مع أن العقائد هما موضوع علم الكلام، ومع ذلك فالقارئ، يستطيع أن يلمس الصلة الوثيقة بين الموضوعات الميتافيزيقية أو المنطقية أو الطبيعية، وبين علم الكلام، إلي حد يمكن معه القول بأن موضوعات أصول الدين، هي محور الموضوعات الأخري .
بل إن البحث في العقائد قد اقتضي منه تخليلاً منطقياُ فلسفياُ لموضوع الوحدة والكثرة ونظريتي: شيئية المعدوم والموجود، قد اقتضيا منه تفصيل القول في العلة والمعلول . وهكذا نجده في بقية المسائل التي عرض لها بالحث .
وهنا يتضح لنا مدي تطور الدراسات المنطقية في العلوم الكلامية عند الإيجي، ولقد قلده المتأخرون بدون أن يضيفوا تطورات في المنهج، وقد تمثل ذلك لدي " سعد الدين التفتازاني (ت: 791هـ - 1389م) صاحب كتاب " المقاصد "، وفي هذا الكتاب قامت الدراسات العقلية في العالم الإسلامي إلي أخريات القرن التاسع الهجري خلطت فيها الفلسفة خلطاً تاماً .
وفي القرن التاسع الهجري، نجد السنوسي (ت: 895هـ-1490م)، الذي يعد أكبر ممثل للأشعرية في شمال أفريقيا بعد المهدي بن تومرت (ت:524هـ) وكتابه " السنوسة" أو " عقيدة التوحيد" من متون ادلراسات الكلامية التقليدية في القرون الأخيرة، يقف السنوسي دائما إلي جانب الأشاعرة، ويرفض الآراء الأخري، يأخذ برأي الأشعري في الغالب، وقد يؤثر عليه رأي الباقلاني أو إمام الحرمين " الجويني" في بعض التفاصيل والجزئيات .
ويلاحظ بوجه عام، أن الأشاعرة المتأخرين يرددون آراء السابقين من أمثال الغزالي، والفخر الرازي، وقل أن يضيفوا جديدا في الدراسات الكلامية والمنطقية.
وحول الطرق التي عالج بها المتكلمون موضوعا المنطق اليوناني فيمكن القول بأنه: إذا كان الإسلام بعد فتحه العظيم للبلدان، قد واجه نحلا ومذاهب كثيرة، فإن تلك النحل والمذاهب كانت قد فلسفت مبادئها عشرات اللاهوتيين والفلاسفة، ولم تكن مجابهتها ومناقشتها أمرا سهلا، إن مجرد حفظ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وتفسيرهما علي ظاهرهما المتلو، لم يكن كافيا لمواجهة المسارب العقلية الصحيحة والملتوية، وإثارتها لمئات من الأسئلة والقضايا الفكرية وكانت الحاجة ماسة إلي عقلية واعية ومنطق جديد يفهم كتاب الله وسنة رسوله، ويغوص في معانيهما ومقاصدهما ومراميهما، ويستخلص منهما ما أثاره أعداء الإسلام من البلبلة الفكرية والشكوك المطروحة والشبهات الكثيرة، ولا سيما أنها بداـ تجد أعوانا وعقولا ومسارب في حياة المسلمين .
كانت هذه هي الحاجة الفعلية التي دفعت معظم متكلمي وفقهاء الأشاعرة من أمثال " ابي الحسن الأشعري" و" الباقلاني" و" الجويني" و" الغزالي" و" الرازي" و"المدي" وغيرهم من أعلام المتكلمين، كي يواجهوا هذا الخطر الداهم بعد الجهد الذي بذله رجال المعتزلة الأوائل .
لذلك كله، استطاع علماء الكلام، وخاصة المتأخرون منهم، أن يرتبوا عقائدهم الدينية علي أصول عقلية، وأن يوجدوا لأنفسهم كلاما منطقيا مدققا، وأ، يتقنوا المجادلة والمناظرة، حيث وجدوا أنهم لن يتمكنوا من مجاراة مخالفيهم من المسلمين وغير المسلمين، ولن تتهيأ لهم الغلبة عليهم إلآ أن يهدموا مثلهم إلي دراسة الفلسفة والمنطق، ويستعينوا بها في دعم حججهم وتوقيه آرائهم، فالأدلة النقلية بظاهر نصوصها الدينية وحدها، قد تكون أحيانا غير كافية لإقحام الخصوم وإلزامهم الحجة، وما لم تضع هذه الأدلة صياغة عقلية، فإنها تظل تفتقر إلي البراهين العقلية التي تسنندها وتظهر صحة القضايا التي وضعت البراهين لإثباتها .
وهكذا أقبل علماء الكلام علي دراسة الفلسفة والمنطق، كيما يتأتي لهم أن يحاربوا خصوم الدين الإسلامي بنفس سلاحهم، ويخاطبوهم باللغة التي اعتادوا عليها وألفوها.
ولعل هذه الحاجة الماسة إلي المنطق، هي التي دفعت الغزالي إلي ربط المنق بالدراسات الكلامية، ومن مظاهر ربطه المنطق بالدراسات الكلامية كتابه " الاقتصاد في الاعتقاد"، والفكرة الرئيسية التي يدور حولها هذا الكتاب، هي وجوب استخدامنا لعقولنا عند فهمنا لنصوص الشرع، وذلك بأن نلتمس بين الطرفين ( أعني المنطق والفقه) طريقا تصان فيه أحكام الدين وأحكام العقل معاً، فلا يصح، من جهة أمن نجمد النصوص جمودا يجعلنا في تناقض مع منطق العقل .
كما لا يصح من جهة أخري أن نذهب مع منطق العقل إلي حد خروجنا علي النصوص الدينية، ولقد ختم الغزالي كتابه بفقرة تلخص موقفه هذا إذ قال في تلك الفقرة الخاتمة لكتابه:" ولنختم الكتاب بهذا، فقد أظهرنا الاقتصاد في الاعتقاد، وحذفنا الحشو والفضول المستغني عنه، الخارج عن أمهات العقائد وقواعدها، واقتصرنا من أدلة ما أوردناه، علي الجلي الواضح الذي لا تقتصر أكثر الأفهام عند دركه .
وكان من أهم العبارات دلالة ومن أقواها توضيحا لموقفه، هي كذلك من أهداها لنا نحن في عصرنا هذا، الذي أخذنا نتخبط فيه بين غلو المتطرفين وإسرافهم في تضييق الخناق علي أنفسهم وعلي الناس جميعا، هذه العبارات:" فالمعرض عن العقل مكتفيا بنور القرآن، مثاله مثل المتعرض لنور الشمس، مغمضاً للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان، فالعقل مع الشرع نور علي نور " .
وهكذا أخذ الغزالي في كتابه هذا، يعاود العقل مرة بعد مرة في وجوب التوفيق بين نصوص الشرع من جهة، وبين مقتضيات العقل أو المنطق من جهة أخري، وإذا كان الغزالي قد ربط المنطق بالدراسات الكلامية، فإن هذا المنطق لم يكن إلا المنطق الصوري القائم علي القياس لا المنطق المادي القائم علي الاستقراء ؛ فقد تحدث الغزالي عن نقاط الضعف في الاستقراء مبينا عدم صلاحيته في المباحث العقلية، فبدأ بتعريفه بأنه " تصفح أمور جزئية ليحكم بحكمها علي أمر يشتمل تلك الجزئيات "، ثم نسبته لجزئيات أخري لم تكن في نطاق البحث مما يجعل نتيجته ظنية ؛ وذلك لأنه لا يصلح في المباحث الإلهية، نظراً لاختلاف طبيعة كل من الغائب والشاهد، وقد عبر عن هذا المعني بوضوح تلميذ الغزالي وهو الآمدي، إذ يقول:" فلا يخفي أن ما حكم به علي أحد المختلفين غير لازم أن يحكم به علي الآخر، لجواز أن يكون من خصائص ما حكم به عليه، دون الأخذ وذلك كما إذا كمنا علي الإنسان بأنه ضاحك مثلا أخذ من استقراء جزئيات نوع الإنسان، فإنه لا يلزم مثله في الفرس لمخالف له في حقيقته" .
غير أن مثل هذا الاستقراء غير ممكن في مجال الإلهيات، إذ كيف يتناول البحث والنظر هذا (الغائب) المتعالي علي وسائل الإدراك العادية؟ وحين يقدر لنا إدراك حقيقته فما أغنانا عندئذ عن تتبع أي جزئيات أخري في الواقع (الشاهد)؛ أي أن الآمدي يريد أن يقول أن هذا المنهج فيما يتصل بالمباحث الإلهية غير ممكن وغير مفد أيضاً، وحتي ولو كان ممكنا ( ولو قدر أن ذلك غير محال، فالاستقراء إما أن يتناول الغائب أو ليس، فإن تناوله فهو محل النزاع ولا حاجة إلي استقراء غيره وإن لم يتناوله، بل وقع لغيره من الجزئيات فهو لا محالة – استقراء ناقص، وليس بصادق كما بيناه، وهذا لا محيص عنه " .
وقد كرر الآمدي هذه الوجوه من النقد في مواضع عديدة من كتابه " غاية المرام في علم الكلام ".
وبعد هذا النقد الدقيق للاستقراء، يتوجه الغزالي إلي المنطق الصوري القائم علي التصورات والتصديقات، أعني المنطق الذي يكون مستقلا عن كل مضمون للمتكلم والفقيه والمحدث والمناظر في الآراء والديانات والأهواء والمقالات، لأن مهمته الوقوف علي كافة الحقائق وتمييزها من الأباطيل .
ومن أجل ذلك اتجه معظم مكلمي وفقها الأشاعرة، بعد الغزالي إلي إدخال بعض التعديلات علي موضوع المنطق، وحذف بعض كتب " الاورجانون العربي"، حتي يصلوا إلي المعني الصوري الخالص، حيث تكون عنايته متجهة نحو دراسة صور الفكر.
وقد عبر ابن خلدون عن هذا الأمر بوضوح في الذي عقده عن المنطق في مقدمته، حيث قال:" .. ثم جاء المتأخرون، فغيروا اصطلاح المنطق وألحقوا النظر في الكليات الخمس ثمرته، وهي الكلام في الحدود والرسوم نقلوها من كتاب البرهان، وحذفوا كتاب العبارة الكلام في العكس، لأنه من توابع الكلام في القضايا ببعض الوجوه، ثم تكلموا في القياس، من حيث إنتاج المطالب علي العموم لا بحسب مادته، وحذفوا النظر فيه بحسب مادته، وهي الكتب الخمسة: البرهان والجدل والخطابة والشعر والسفسطة، وربما يلم بعضهم باليسير منها إلماما، وأغفلوها كأن لم تكن، وهي المهم المعتمد في الفن، ثم تكلموا فيما وصفوه من ذلك كلاما مستبصرا ونظروا فيه، من حيث أنه فن برأسه، لا من حيث أنه آله للعلوم فطال الكلام فيه واتسع، وأول من فعل ذلك الإمام فخر الدين بن الخطيب (الرازي)، ومن بعده أفضل الدين الخونجي وعلي كتابه معتمد المشارقة لهذا العهد، وله في هذه الصناعة كتاب " كشف الأسرار "، وهو طويل، واختصر فيه مختصر " الموجز"، وهو حسن في التعليم، ثم مختصر " الجمل " في قدر أربعة أوراق، وأخذ بمجامع الفن وأصوله، فتداوله المتكلمون لهذا العهد، فانتفعوا به، وهجرت كتب المتقدمين، كأن لم تكن، وهي ممتلئة من ثمرة المنطق وفائدته " .
من هذا النص نستطيع أن نتبين موقف المتأخرين، فبينما أخذ الفلاسفة المشاؤون المسلمون (أعني الفارابي وابن سينا) المنطق علي أنه صوري ومادي معاً، نقول بينما كان موقف الفلاسفة المشائيين " المتقدمين " هو هذا، وهو أمر يمكن استنباطه من هذا النص، كان موقف المتأخرين مناقضاً لذلك، فقدوا أخذوا يدخلون بعض التعديلات علي موضوع المنطق، ويحذفون بعض محتويات الاورجانون، حتي يصلوا بالمنطق إلي المعني الصوري الخالص ؛ حيث تكون عنايته متجهة نحو دراسة صور الفكر.
ولهذا السبب غير المتأخرون اصطلاح، عما كان عليه عند المتقدمين وحذفوا الكتب التي كانت تتحدث عن المنطق بحسب مادته ولم يبقوا إلا علي تلك الكتب التي تؤدي إلي إنتاج المطالب علي العموم .
وهكذا اصطبغت الدراسات المنطقية بالصبغة الصورية الخالصة علي يد المتأخرون، وهو أمر كان له أثره علي طبيعة الدراسات المنطقية في الإسلام، إذ بدأ واضحاً لدي المتأخرين تحرير الدراسات المنطقية من الفلسفة، فالمنطق ليس جزء من الفلسفة، بل آلة للبحث العقلي بوجه عام، وهو آداة تعليمية ضرورية لجميع النظم المعقولة .
ونجد في مقدمة ابن خلدون وصفا لعملية الاستئناس الديني للمنطق ذكره نيقولا ريشر حيث قال:" إن علماء الكلام الحاليين منذ الغزالي، قد اعتبروا أفكار المناطقة عن التوافق العقلي أفكارا صحيحة، ولذلك قرروا أن المنطق لا يتعارض مع العقائد الإيمانية، حتي رغم أنه يتعارض مع بعض الحجج القائمة عليها، والواقع أنهم قد وصلوا إلي أن مقدمات علماء الكلام التأمليين كانت خاطئة لأن حجج علماء الكلام الـمليين علي القواعد الإيمانية استعاضت عما ثبت صحته من الحجج الأخرى بالتأمل، أو بالتفكير التمثيلي (أي القياس)، وأقروا بأن هذا لا يتعارض مع أي وجه مع القواعد الإيمانية السلفية، وهذا ما قال به فخر الدين الرازي ومن قبله الغزالي، ومن تابعهم من معارضتهم .
ولقد قيل أن الفلسفة ليست وحدها التي هي بحاجة إلي المنطق، بل تحتاجه الرياضيات ويحتاجه الطب، بل يحتاجه حتي القانون وعلم الكلام ذاته، وكان هذا الأمر واحدا من الموضوعات لكتاب "ابن رشد (ت: 595هـ)"، وهو " فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال "، ولقد أصح الرأي القائل بأن المنطق هو أداة يمكن تطبيقها بصورة شاملة لتمييز طرق التفكير الصحيحة من الطرق المغالطة، رأيا شائعا علي نطاق واسع، ومعترفا به من ثقاة الكتاب والباحثين والمؤرخين، من أمثال " ابن خلدون"، ولكن مما لا نزاع فيه أن أهم عامل منفرد أدي إلي الاعتراف بأهمية المنطق، وقبوله من الناحية الدينية، كان تدعيم الغزالي لهذا الرأي، فقد أكد أن المنطق هو آلة الفكرة، فهو لا ينطوي علي أي محتوي مذهبي من أي نوع، وبالأولي فليس فيه خطر علي الدين، فهو في الواقع الآداة التي يمكن وضعها لخدمة الأغراض الدينية، فلا وسيلة هناك للوصول لعلم إلا بالمنطق، فالمنطق ليس مقبولا من الناحية الدينية فحسب، بل هو في الواقع أمر جوهري .
إن فصل المنطق عن الفلسفة جعل منه علما آليا ؛ بمعني أنه ليس من علم القاصد، بل من علوم الوسائل التي لا ينبغي التوسع في دراستها علي حد تعبير ابن خلدون .
فقد ميز ابن خلدون بين صنفين من العلوم "علوم مقاصد"، وهي مقصورة بالذات كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام، وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة، وعلوم آلية وكون وسيلة لعلوم المقاصد، كالعربية والحساب وغيرهما للشرعيات، وكالمنطق للفلسفة، وربما كان آلة لعلم الكلام، ولأصول الفقه علي " طريقة المتأخرين".
ويري ابن خلدون:" بأنه لا حرج من التوسع والتفريع في علوم المقاصد، أما العلوم الآلية، فلا ينبغي أن ينظر فيها، إلا من حيث هس آلة، لأن المتكلمين اهتمامهم بعلوم المقاصد أكثر من اهتمامهم بوسائلها، فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل، فمتي يظفرون بالمقاصد ".
والان، قد نستطيع بنظرة شاملة في طريقة الأشاعرة في المنطق أن نقول بأنه مما لاشك فيه أن متأخري الأشاعرة، وبخاصة الغزالي، قد اهتم اهتماما كبيرا بالدراسات المنطقية، ولكن يبدوا أنه منذ نهايات القرن السادس الهجري، بدأ الحماس للتأليف والشروح يفتر شيئاً فشيئاً، وبدأ الاهتمام بالدراسات المنطقية الجادة، يفقد الكثير من الأنصار والمدافعين، ويبدو أن الذين كان عليهم الاهتمام بالمنطق في ذلك الوقت، وكانوا كثيرين، قد وجدوا أمامهم تراثا ضخما، من الترجمات والشروح تكفل به الأجداد، فما كان منهم , إلا أن راحوا يلخصونه، ويكتبون مادته المنطقية بغية حفظها، وبذلك افتقدنا الدراسات الجادة التي كنا نراها عند الغزالي .
ولا ينبغي إغفال الدور الهام الذي قام به الفخر الرازي في القرن السادس الهجري، حيث حاول أن يعيد إلي الأذهان أمجاد مدرسة الغزالي المنطقية، إلا أن الحال لم يستمر بعده، ولم تجد الدراسات من يواصل هذا الاتجاه في شكل متطور.
ويجدر بنا أن نشير إلي الطرق التي انتهجتها مدرسة الأشاعرة، لتناول موضوعات، فعلي سبيل المثال استعمل الغزالي في تفصيله للمعاني وشرحه لألفاظ المنطق " المنهج التحليلي " الذي يرتكز علي ما أسماه المناطقة المسلمين " مباحث الاستدلال"، وهي تقوم علي أسس تحليلية طبقها الغزالي لتقصي معالم المنطق الارسطي وأبعاده . ولقد درج شراح أرسطو علي هذا المنهج، وبخاصة الفلاسفة المسلمون، أمثال الفارابي وابن سينا عندما تناولوا المنطق الصوري وفسروه .
وها نحن نذكرها هنا لنبين كيف تناول علماء الكلام هذا المنهج، وذلك فيما يلي:
- السبر والتقسيم: اتبع مفكروا علماء الكلام، هذا المسلك في عرضهم وشرحهم لمختلف قضايا الفلسفة والكلام والشرع، فقد استعمله في كتابه " البرهان في أصول الفقه"، بقوله:ط وهو أن يبحث الناظر عن معاني مجتمعه في الأصل ويتتبعها واحدا واحدا، ويبين خروج آحادها عن صلاح التعليل، إلا واحدا يراه ويرضاه" .
ولقد ساير الغزالي أستاذه الجويني في هذا المسلك، فقد تكلم عنه في معيار العلم: ثم في كتابه " الاقتصاد في الاعتقاد "، عندما عرض لمناهج الأدلة بقوله معرفاً هذا المسلك:" هو أن يحضر الأمر في قسمين، ثم يبطل أحدهما، فيلزم منه ثبوت الثاني ".
وهذا ما فعله أيضا الفخر الرازي، كلما كانت تطرح أمامه مشكلة فيحللها من جميع جوانبها متتبعا دقائق معانيها، إلأي أن يخرج برأي ينتقيه أفضل برهان يفند رأي المتكلمين، أن يثبته، ثم يصل في النهاية إلي الاستنتاج، وبهذا تنحل الحيرة فيكون قد طرح الحل النهائي بعد سبر جميع الحلول وتقسيمها .
- المقابلة والحذف: ويستعملها كبار علماء الكلام أيضاً في عرضهم لمنهجية تلخيص المنطق اليوناني، حيث نراهم يقابلون بين رأي " الفارابي وابن سينا "، فيحذفون منها البرهان الأضعف، ليحتفظوا بالأجدر والأفضل، ويظهر ذلك واضحا، حين يعرض الفخر الرازي لقيمة علم المنطق، حيث يعرض لرأي" الفارابي "، ثم رأي " ابن سينا"، ثم يحللهما ويقابل بينهما، وأخيرا يختار الرأي الذي يراه صحيحا، يقول " كان الشيخ " أبو نصر الفارابي " يسميه رئيس العلوم، وكان الشيخ " أبو علي ( يعني ابن سينا) ينكر هذا الرئاسة . ويقول: إنه كالخادم للعلوم، والآلة في تحصيلها . وهذا البحث أيضا لفظي . فإن الرئيس إن كان هو الذي يينفذ حكمه علي غيره، ولا ينفذ حكم غيره عليه .فالمنطق رئيس العلوم بأسرها لأن حكم المنطق ناقد في كل العلوم، وشئ من العلوم لا يجري حكمه فيه وأن كان شرط كونه رئيسا أن يكون مقصودا لذاته، فالمنطق ليس كذلك .
وهناك وجه آخر لهذه الطريقة هي " طريقة القابلة " بين الآراء والنقاش الذي جري حول مسائل المنطق الأرسطي، فنجد " الفخر الرازي" في كتاباته المنطقية يقيم حوارا غير مباشر يمر عبره بين أرسطو وشراحه المسلمين أو بينه وبين هؤلاء الشراح، مستندا إلي ما كتبوه حول منطق أرسطو، ويبدو ذلك واضحا حين يناقش ويحاور المناطقة في قضية تعريف اللفظ والمركب حيث يقول:" اعلم أن الحكيم " ارسطاطليس " قال:" اللفظ المفرد هو الذي لا يدلنا جزء منه علي شئ أصلاً . فأوردوا عليه سؤالاً . وقالوا: هذا يشكل بقولنا " عبد الله " فإنه لفظ مفرد، مع أن له جزئين، وكل واحد منهما دال علي معني . وأجاب المناصرون لقوله عن هذا السؤال بجواب حق . فقالوا إن قولنا " عبد الله " قد يذكر ويراد به جعله اسم علم .وقد يذكر ويراد به جعله نعتا وصفه . فإن أردنا به الأول، فهو لفظ مفرد، ولكن لا يبقي لشئ من أجزائه دلالة أصلا . لأن العلم هو اللفظ الذي جعل قائماً مقام الإشارة إلي ذلك الشخص المعين، من حيث أنه ذلك المعين، ولهذا قال النحويون "أسماء الأعلام" لا تفيد فائدة في المسميات البتة، بل هي قائمة مقام الإشارات، وإذا كان كذلك، فقد ظهر أن " عبد الله " إذا جعل اسم علم، فإنه لا يكون لشئ من أجزائه دلالة علي شئ أصلاً أما إذا أردنا أن نجعل قولنا " عبد الله" نعتا وصفه . فهو بهذا الاعتبار مركب لا مفرد . وهذا جواب عن السؤال المذكور:
ومن الناس من ترك تعريف اللفظ المفرد بذلك الوجه، بل هذا: هو الذي لا يدل جزء من أجزائه، علي جزء من أجزاء معناه . وهذا القائل إنما اختار هذا الوجه فرارا من ذلك السؤال . فإن قولنا " عبد الله " إن كل واحد من جزئه علي شئ، لكنه لم يدل شئ من أجزاء هذه الكلمة علي شئ من أجزاء هذا المعني . لأن هذا اللفظ إذا جعل اسم علم، كان مسماه هو ذلك الشخص ولا يمكن أن يقال: إن قولنا " عبد" يدل علي بعض أجزاء ذلك الشخص . وقولنا " الله" يدل علي نعته الآخر . فثبت أن قولنا " عبد الله" لا يفيد شئ من أجزائه شيئا من أجزاء معناه . وأعلم أن اختيار الشيخ الرئيس ( يعني ابن سينا) في "الشفاء " و" الاشارات" هو الوجه الأول، واختياره في هذا الكتاب هو هذا الثاني . ولا منافاه بين القولين، لأن لكل أحد أن يفسر لفظه بما شاء .
مما سبق يتضح لنا الكيفية التي عالج بها الأشاعرة موضوعات المنطق اليوناني، وقد تأثروا فيها بفلاسفة المسلمين، وبخاصة ابن سينا .
د. محمود محمد علي
قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط
قرن على تأسيس الدولة العراقية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عبد الحسين الطائي
عظمة العراق التاريخية وعبقريته الحضارية تكمن في موقعه الإستراتيجي في وسط منطقة الشرق الأوسط. ظل العراق طيلة تاريخه سهلاً خصيباً مفتوحاً ووطناً لإستقبال وتمازج لشعوب المنطقة. هذا الدور المركزي والإستقبالي هو الذي منح العراق هذه القدرة العجيبة على الإنفتاح والإبداع الحضاري.
تاريخ العراق فيه الكثير من العنف والخراب، بسبب سهوله الخصبة ونهرية الوفيرين وموقعه الجغرافي وإحاطته ببلدان جبلية وصحراوية، مما جعله يتعرض دائماً للإجتياحات والإحتلالات وعمليات التخريب، بالإضافة إلى غدر النهرين والفيضانات المدمرة. هذه العوامل جعلت العراق موطناً لأولى وأغنى الحضارات الإنسانية، حيث الخصب الروحي والإبداع الجمالي والعلمي. وهو أكثر بلدان الأرض في إحتوائه على عواصم ومدن حضارية خالدة، قدمت للبشرية أعظم الإنجازات: أور وبابل ونينوى والمدائن والكوفة والبصرة وبغداد.
دخل العراق في الإمبراطورية العثمانية عام 1534م، وإستمر حكم الأتراك على العراق حوالي أربعة قرون حتى نشوب الحرب العالمية الأولى. لقد أعتبر العراق من المقاطعات العثمانية النائية بعد أن إنتقل مركز العالم الإسلامي إلى إسطنبول حيث كان مقر خليفة المسلمين، وكانت الإمبراطورية العثمانية وبضمنها العراق تدار بواسطة الولاة الذين كانوا يديرون الولايات المختلفة التي يعينون لها بأمر من الحكومة المركزية في إسطنبول. وبصورة عامة كانت الإمبراطورية العثمانية تسير في طريق الإنحلال، ولم تكن إدارتها ناجحة فقد كان الجهل والفقر والأمراض متفشية بشكل كبير.
لم يكن الشعب العراقي راضياً عن سلطة الإحتلال العثماني، رغم محاولة الحكام العثمانيين تغليف حكمهم بإطار الدين الإسلامي. كان يسعى للتخلص من ذلك الطوق البشع، ظهرت عدة حركات وطنية ترمي إلى التحرر من رق وسيطرة الإحتلال التركي. ومحاولة إقامة حكماً وطنياً متحرراً من سلطة وهيمنة الأتراك. فقد قامت العديد من الإنتفاضات في الأرياف والمدن ضد الأتراك، أشهرها ثورة بغداد في 13 حزيران 1831م، وأعقبتها إنتفاضة المفتي جميل زادة جدّ أُسرة آل جميل في عهد علي رضا باشا بتاريخ 28 أيار 1832، كما قامت عدة إنتفاضات بقيادة شيوخ العشائر ذوي النزعة الوطنية التحررية، سواء في المنطقة العربية أو الكردية، ولكن الحكومة العثمانية كانت تلجأ إلى أقسى درجات العنف لقمع تلك الإنتفاضات، وتنفذ سلسلة من الإعدامات بحق الناشطين من الوطنين.
حدثنا التاريخ عن الكثير من الإنتفاضات، ولكنها كانت تحصد الفشل والإنكسار ومنها ثورة 1920 ضد الإحتلال البريطاني للعراق، لأسباب كثيرة أهمها عدم وجود قيادة موحدة منظمة للإنتفاضة، كان قادتها من القوى الفلاحية والعشائرية ورجال الدين. هذه القيادات بعيدة عن الطبقة البرجوازية التي إستطاعت أن تعي ذاتها وتنتج فكرها في الزمان والمكان المناسبين لتحرز الإنتصارات الكبرى في التاريخ. لم تكن في العراق طبقة برجوازية في المجتمع بالمعنى الواضح لأن قرون التخلف التي سيطرت عليه لم تسمح له بإنتاج طبقة صناعية حرفية مستقلة عن إرادة الدولة العثمانية كما حال الطبقة البرجوازية في أوروبا.
لقد وجدت الشعوب التي كانت تستظل بالراية العثمانية، بعد سقوط تلك الراية، إنها مقسمة تقسيماً جغرافياً وسياسياً وسكانياً، يعكس مصالح الدول الإستعمارية الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى دون أخذ رأي تلك الشعوب أو مصلحتها في ذلك التقسيم. هكذا جاءت الخارطة السياسية للمنطقة العربية مشوهة تحمل ألغاماً تتفجر بين حين وآخر. وفي هذا السياق جاء قرار حرمان الأكراد، على سبيل المثال، من حق تقرير المصير وفرض تجزئة الوجود الكردي بين تركيا وإيران والعراق وسوريا. وبذلك عانى العرب والكرد والقوميات الأُخرى من تسلط الغرب الإستعماري ووعوده. لقد وجد عرب العراق وأكراده والأقليات الأُخرى أنفسهم يتشاركون وطناً واحداً اسمه العراق، ويعيشون قضية واحدة هي التخلص من الإنتداب البريطاني الذي تحول إلى معاهدات تربط العراق بالهيمنة الإستعمارية البريطانية.
أصدر الجنرال "مود" بلاغاً رسمياً عندما إحتل الجيش البريطاني بغداد، مؤكداً بإن الجيش جاء إلى العراق منقذاً محرراً لا فاتحاً مستعبداً. وأعقب نشرهذا البلاغ صدور بلاغات رسمية خطيرة من سلطات الحلفاء أهمها: التصريح الفرنسي- البريطاني الصادر في 7 تشرين الثاني 1918، الذي جاء فيه: "إن الحكومتين الفرنسية والبريطانية اتفقتا على تأسيس حكومات وطنية للشعوب المحررة التي هضم الترك حقوقها". لقد خدعت هذه الوعود الساسة والمفكرين لا في العراق حسب، وإنما أقطاب السياسة عامة في جميع البلدان العربية التي إنسلخت من الإمبراطورية العثمانية.
وبينما كان العراقيون ينتظرون تحقيق هذه الوعود وإذا بمفاجأة قرار مؤتمر الحلفاء في "سان ريمو" بتاريخ 25 نيسان 1920، الذي يقضي بوضع العراق وفلسطين تحت الإنتداب البريطاني، وسوريا ولبنان تحت الإنتداب الفرنسي. كان القرار ضربة صادمة ونقضاً صريحاً للوعود والعهود. وعلى أثر ذلك تضافرت جهود العراقيين على المطالبة بحقوقهم المشروعة. عقدوا الإجتماعات السرية والعلنية في بغداد والنجف والموصل وغيرها من المدن العراقية. وسرعان ما تطورت هذه المطالب إلى ثورة مسلحة، كانت الحدث التاريخي الأبرز الذي سمي بثورة العشرين، التي مرت في مسيرتها بثلاث مراحل: أولاها تتمثل في الأحداث التي مهدت للثورة وهي الأحداث التي جرت في بغداد وكربلاء ودير الزور وتلعفر والموصل. والثانية تتمثل في الثورة المسلحة التي إنطلقت من الرميثة يوم 30 حزيران 1920. أما الثالثة فتتمثل في إنتشار الثورة في مناطق العراق الأخرى.
لم يسع الحكومة البريطانية، إزاء هذه الحالة، إلا أن إستبدلت حاكمها العام في العراق "سيراي. تي. ولسن"، المعروف بالشدة والغلظة، بشخصية "برسي كوكس"، الذي لديه معرفة وإلماماً بشؤون العراق. وصل إلى بغداد بتاريخ 11 تشرين الأول 1920، وأخذ على عاتقه إطفاء نار الثورة، وتأليف حكومة مؤقته برئاسة نقيب بغداد "عبدالرحمن الكيلاني"، بتاريخ 25 تشرين الأول 1920. جعلها تحت امرته وهيمنته. وأخذ يدرس مختلف الأساليب لمعرفة الحكم الذي يجدر ببريطانيا أن تقيمه في العراق.
تم دراسة قضية العراق في مؤتمر القاهرة الذي عُقد بتاريخ 12 آذار 1921، برئاسة وزير المستعمرات البريطانية "ولسن تشرشل". وتقررأن تؤلف فيه حكومة عربية برئاسة الأمير "فيصل"، تكون تحت الإنتداب البريطاني. وقررت الحكومة المؤقته في جلستها المنعقدة بتاريخ 11 تموز 1921، المناداة بالأمير "فيصل بن الحسين" ملكاً على العراق. وبعد إجراء التصويت علناً بين 15-22 تموز، اسفرت النتيجة عن أكثرية ساحقة ممثلة في 97% من العراقيين الذين بايعوا فيصلاً وإرتضوه ملكاً لهم. وتم إقامة حفل التتويج يوم 23 آب 1921، ألقى فيه الملك فيصل خطاباً مليئاً بالوعود. وعلى أثر إرتقاء الملك فيصل عرش العراق، إنسحبت الحكومة المؤقته، وحلت محلها وزارة جديدة برئاسة عبدالرحمن النقيب. وبقيت الصلات بين العراق وبريطانيا تسير سيراً متبايناً، تتحسن تارة وتسوء تارة. وكان الحكم خلال ذلك وطنياً بالظاهر، بريطانياً بالواقع، حتى دخل العراق عضواً في عصبة الأمم بتاريخ 3 تشرين الأول 1932، حيث إرتقت العلاقة إلى المستوى الدبلوماسي بين الطرفين.
د. عبدالحسين صالح الطائي
أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا
............................
المراجع:
- سليم مطر: العراق، سبعة آلاف عام من الحياة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت 2013.
- نديم، شكري محمود: حرب العراق 1914-1918، شركة النبراس للنشر والتوزيع، ط4، بغداد 1954.
- د. عبدالحسين شندل: نظام الحكم في العراق وفق دساتيره الحديثة، المكتبة القانونية، بغداد.
- عبدالسلام متعب عيدان: النظام السياسي في العراق بين المحاصصة والطائفية منذ عام 1921-2003.
- د. علي الوردي: لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج4، ج5، ج6، دار كوفان للنشر، لندن 1992.
مؤشر الديمقراطية العالمي 2020
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. علي الدباغ
تنشر مجلة الإيكونوميست البريطانية مطلع كل عام ومنذ 2006 مؤشراً لوضع الديمقراطية في دول العالم المختلفة، وهذا الإصدار الثالث عشر من مؤشر الديمقراطية ويسجل مدى تحقق الديمقراطية في عام 2020، والذي يستند إلى مؤشرات يحوي كل منها على خمس فئات قيمتها من 0-10 ويتم جمع درجات تلك الفئات الخمسة وتقسم لينتج منها المعدل والدرجة التي حصلت عليها كل دولة في المؤشر.
يوفر مؤشر الديمقراطية التابع لوحدة الاستخبارات الاقتصادية لمحة سريعة عن حالة الديمقراطية في جميع أنحاء العالم في 165 دولة مستقلة وإقليمين. وهذا يغطي تقريباً جميع سكان العالم والغالبية العظمى من دول العالم (يتم استبعاد الدول الصغيرة).
مؤشر الديمقراطية يستند في تصنيفه على الفئات الخمسة التالية:
1- العملية الانتخابية والتعددية
2- عمل الحكومة
3- المشاركة السياسيّة
4- الثقافة السياسية
5- الحقوق المدنيّة.
يتم تصنيف كل بلد على أنه أحد أنواع الأنظمة الأربعة التالية:
1- ديمقراطية كاملة
2- ديمقراطية معيبة
3- نظام هجين
4- نظام إستبدادي
يركز التقرير بصورة أساسية على تأثير فيروس كورونا (كوفيد-19( على الديمقراطية والحرية حول العالم، و كيفية تأثير الوباء على الديمقراطية والحقوق المدنية في دول العالم، ويستعرض كيف إن الوباء أثّر على تقليص الحريات المدنية على نطاق واسع وغذى إتجاه قائم من التعصب والرقابة على الرأي المخالف.
كما يفحص التقرير حالة الديمقراطية الأمريكية بعد عام مضطرب هيمنت عليه ثلاثة عوامل هي: جائحة فيروس كورونا، وحركة "حياة السود مهمة" وانتخابات رئاسية متنازع عليها بشدة .
المصدر: وحدة الإستخبارات في الإيكونوميست البريطانية EIU
https://d1qqtien6gys07.cloudfront.net/wp-content/uploads/2021/02/democracy-index-2020.pdf
جدول رقم 1 مؤشر الديمقراطية 2020 حسب نوع الحكم
عدد سكان العالم يشير الى إجمالي سكان 167 دولة موضع بحث المؤشر
وفقًا لمقياس الديمقراطية، يعيش حوالي نصف (49.4٪) فقط من سكان العالم في ديمقراطية من نوع ما، وأقل (8.4٪) تعيش في "ديمقراطية كاملة".
هذا المستوى أعلى من 5.7٪ في 2019، حيث تم ترقية العديد من الدول الآسيوية.
يعيش أكثر من ثلث سكان العالم تحت الحكم الاستبدادي، مع وجود حصة كبيرة في الصين.
في مؤشر الديمقراطية لعام 2020، 75 من 167 دولة ومنطقة التي يغطيها النموذج، أو 44.9٪ من المجموع، تعتبر ديمقراطيات.
ارتفع عدد "الديمقراطيات الكاملة" إلى 23 في عام 2020، ارتفاعًا من 22 في عام 2019. وانخفض عدد "الديمقراطيات المعيبة" بمقدار اثنين، إلى 52
في مؤشر الديمقراطية هناك 57 دولة "أنظمة استبدادية"، ارتفاعًا من 54 في عام 2019، و 35 دولة مصنفة على أنها " أنظمة هجينة "، انخفاضًا من 37 في عام 2019.
كان التدهور في النتيجة العالمية في عام 2020 مدفوعًا بانخفاض متوسط النتيجة الإقليمية
في كل مكان في العالم، ولكن بشكل خاص تقع في المناطق التي يسيطر عليها النظم الإستبدادية،
في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انخفضت درجاتهم بمقدار 0.10 و 0.09، على التوالي، بين عامي 2019 و 2020.
سجلت كل من أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية انخفاضًا في متوسط درجات إقليمية 0.06.
النتيجة الخاصة بآسيا وأستراليزيا، المنطقة التي حققت تقدما كبيراً خلال الفترة التي من عمر مؤشر الديمقراطية (من 2006) انخفض بمقدار 0.05.
في أمريكا اللاتينية انخفض متوسط الدرجات بنسبة 0.04 في عام 2020، مسجلاً بذلك العام الخامس على التوالي للانحدار للمنطقة.
انخفض متوسط النقاط لأمريكا الشمالية بنسبة 0.01 فقط، ولكن كان الانخفاض الأكبر بمقدار 0.04 في النتيجة الأمريكية يعدل منه تحسن في نتيجة كندا.
في عام 2020، سجلت أغلبية كبيرة من البلدان، 116 من إجمالي 167 (حوالي 70 ٪)، انخفاضًا في
مجموع درجاتهم مقارنة بعام 2019.
سجلت 38 فقط (22.6٪) تحسنا بينما سجلت 13 أخرى ركوداً، مع بقاء درجاتهم دون تغيير مقارنة بعام 2019.
كان هناك تحسناً مؤثراً لتايوان مثلاً التي انتقلت من الدرجة 31 الى 11 مسجلة تحسناً بـ 20 درجة، بينما كانت بعض الانخفاضات الدراماتيكية، مثل دولة مالي.
انتقلت ثلاث دول (اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان) من فئة "الديمقراطية المعيبة" لتصنيفها على أنها "ديمقراطيات كاملة" ودولة واحدة، ألبانيا تمت ترقيتها إلى "ديمقراطية معيبة" من "نظام هجين" سابقًا.
فرنسا والبرتغال شهدوا انعكاسًا، حيث فقدوا وضع "الديمقراطية الكاملة" الذي استعادوه في عام 2019، وعادوا إلى صفوفهم من "الديمقراطيات المعيبة".
تم إقصاء السلفادور وهونغ كونغ من "الديمقراطية المعيبة" التصنيف إلى "النظام الهجين".
وفي أسفل الترتيب، خسرت الجزائر وبوركينا فاسو ومالي وضعهم كـ "أنظمة هجينة" ويصنفون الآن على أنهم "أنظمة استبدادية".
تتميز الدول العربية عدا تونس بأنها في أسفل سلم الديمقراطية ولا توجد أي منها في الدول الديمقراطية بل معظمها تقع في الأنظمة الإستبدادية عدا المغرب ولبنان فإنها تصنف بالأنظمة الهجينة.
ويبدو أن السياسات التي إتبعها الرئيس دونالد ترامب ونتيجة الانتخابات العامة الأمريكية كان لها تأثير مباشر في حالة الديمقراطية الأمريكية. ومن المرجح أن تؤدي إلى زيادة تفتيت المجتمع المنقسم بالفعل، ومواصلة تحويل المؤسسات التي تديرها الدولة في البلاد، إلى ساحة معركة للتحالفات السياسية والأيديولوجية.
مؤشر الديمقراطية 2020 حسب المناطق الجغرافية
جدول رقم 2 - مؤشر الديمقراطية 2020
ديمقراطيات تامة
ديمقراطيات معيبة
دول بأنظمة هجينة
دول بأنظمة إستبدادية
ترتيب الدول العربية على مؤشر الديمقراطية العالمي 2020 بالمقارنة مع 2019
ترتيب الدول العربية في مؤشر الديمقراطية 2020 حسب التوزيع الجغرافي
تطور الديمقراطية عبر الفئات الخمسة للفترة 2008-2020
من الخط البياني المرفق نلاحظ التراجع الحقوق المدنية والمشاركة السياسية والإنتخابات والتعددية عبر العالم
السفير علي الدباغ
البحث عن الذئب الذي لم يأكل يوسف في متاهات "نسيان ما لم يحدث"
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. أحمد حسب الله الحاج
عيسى الحلو يؤكد شياخته لأدب الحداثة وما بعد الحداثة في السودان
من أصدق وأبلغ الأحكام النقدية في الأدب العربي ما صدر عن جرير حول الأخطل الذي كان قد وقف مع الفرزدق ضده والاثنان يخوضان غمار نقائضهما الموجعة والممتعة. قال جرير ذلك وقد تعرض لهجاء الأخطل فجاراه وهجاه ومن وقف معهما، أي الفرزدق والأخطل، ملحقاً بهم قدر طاقته على الإيذاء كما جاء في قوله عن الأخطل: " والتغلبي إذا تنحنح للقرى.. حك استه وتمثل الأمثالا"، وقوله: "أعددت للشعراء سماً ناقعاً وسقيت آخرهم بكأس الأول/ لما وضعت على الفرزدق ميسمي وصغى البعيث جدعت أنف الأخطل." ومع ظن جرير أنه قد جدع أنف الأخطل، عاد ليضع ذلك الزعم في إطاره الصحيح فقال: "أدركت الأخطل وله ناب واحد ولو أدركت له نابين لأكلني." وأنا قد أدركت عيسى الحلو وله ناب واحد. ومع هذا فهو لا يزال قادراً على تضريجي بالدم إن تجاوزت ما يبيحه النقد. أقول هذا وأنا أعلم بأنه يعلم أنني لن أنوي عليه تجاوزاً أو ابتغي عليه تطاولاً. فبالإضافة إلى أستاذية لا أغمطها حقها، يجمعني وإياه الكثير من الود، وتصلني منه دائماً نفحات التقدير. ولكن هذا الود والتقدير لن يمنعاني من أن اتناول بصرامة ايجابيات وسلبيات روايته الأخيرة "نسيان ما لم يحدث" (دار مدارك 2020)، وذلك لعلمي أنه لن يرضى مني غير ذلك. فعيسى الحلو قضى عمراً في النقد يكتبه ويعلمه، ولذا لن يرضى أن يغُض النقد الطرف عن أي ضعفٍ يعتري، أو يظن أنه يعتري، سرداً له.
إن طبيعة الحياة تقول إن عيسى الحلو يدخل مرحلة متقدمة، ولكن ليست أخيرة، من مراحل إبداعه الكتابي الذي أرجو أن يتواصل ليثري الساحة الأدبية بقصصه ورواياته ومساهماته النقدية. ولهذا فأنا بعيد هنا كل البعد عن محاولة الإيحاء له بأن يهدأ لكي يستمتع بما حقق وأنجز. فالتوقف أو التمهل أو المضي قدماً مع تقدم العمر أمر يقرره المبدع الذي يدرك أن التقدم في السن قد يعطيه أفضلية في الجلوس في الحافلات، لكنه لن يمنحه رخصة من النقد. ومع هذا ما أعظم السياب عندما يقول متحدثاً عن نفسه كشاعرٍ، ومتحسراً على اضمحلال قدرته "كمغني":
هرم المغني فاسمعوه برغم ذلك تسعدوه
ولتوهموه بأن من أبد شبابا من لحون
وهوى ترقرق مقلتاه له و ينفح منه فوه
هو مائت أفتبخلون
عليه حتى بالحطام من الأزاهر و الغصون
أصغوا إليه لتسمعوه
يرثي الشباب و لا كلام سوى نشيج بالعيون
سلم على إذا مررت
أتى و سلّم صدّقوه
هرم المغنّي فارحموه
إن روعة "هرِم المغني" تأتي من هذه المفارقة Paradox الكامنة في أن الشاعر الذي "يدعي" أن الهرم قد لحق به، وأن معينه قد نضب، يعبر عن ذلك النضوب بهذه الشاعرية الفياضة التي تتدفق وهي تصدح. ومفارقة أخرى ذات صلة هي أن عيسى الحلو رغم تقدم العمر لم يلحقه الهرم بعد، ولم يقنعه كر السنين بالركون إلى دعة المألوف والابتعاد عن مخاطر التجريب.
ولهذا فمن الأرجح أن "نسيان ما لم يحدث" لن تكون "أغنية البجعة" Swan Song بالنسبة لعيسى الحلو بالمعنى الذي يتردد ضمن موروثات الثقافات الغربية وتعبيراتها الأدبية والفنية وحتى الرياضية، والتي تعتقد وفقاً لما تزعمه أساطيرها أن البجعة التي تظل صامتة طيلة حياتها - ما عدا ما تصدره من هسهسات وهي تغازل شريكها - لا تغني، وتظل كذلك حتى تصدح بالأغنية التي تودع بها الحياة. من المؤكد أن ذلك الزعم هو حديث خرافة، ولكن تلك الخرافة تظل مجازاً تتم الاستعانة به عندما يقرر المبدع/المؤدي حلول ساعة الرحيل. ومع ضعيف احتمال، وأيضاً كبير عدم احتمال، أن تكون "نسيان ما لم يحدث" أغنية بجعة لعيسى الحلو، أشعر أنها في تمام شكلها تعبر عن رمزية Allegory مستترة ذات دلالات بالنسة للمؤلف الذي قد يتوقع البعض منه الآن توخي الحذر فيما يقول وفيما يفعل، ولكن عيسى الحلو الذي يقدر نفسه حق قدرها لن يتوخى حذراً ولن ينشد سلامة.
وطوال تاريخ الأدب هنالك دائماً، في مكان ما في زمان ما، من يشعرنا بتميزه وتفرده وخصوصيته. ولعيسى الحلو خصوصيته المتميزة التي تدفعني دفعاً لاستدعاء ما قاله الشاعر والقاص والروائي والمسرحي الأيرلندي برندان بيهان في إحدى نوبات غضبه على النقاد: "النقاد كالخصيان في الحريم: يعرفون كيف يُفعل الشيئ لأنهم يرونه يحدث كل يوم، ولكنهم لا يستطيعون أن يفعلوه بأنفسهم." والشاهد هنا هو أن عيسى الحلو، بحكم أنه قاص وروائي، إضافة إلى كونه ناقد، لا يندرج ضمن زمرة "الخصيان"، إذ أنه قادر على فعل ما ينصحك بفعله، وكذا بما ينصحك بعدم فعله. وبسبب هذه "الفحولة" فإن مجرد إطلاله على الساحة يقود للحديث عن النقد الأدبي السوداني الذي يعاني، أكثر من أي شيئ آخر، من الابتسار، والذي هو في بعض معانيه، طلب الشيئ في غير موضعه. ومظاهر الابتسار قد تتبدى متفرقة، وقد تتضافر مجتمعة لتجسد نمطاً من النقد الكسول والعقيم.
وعيسى الحلو، والحق يقال، برئ من ذلك براءة الذئب من دم ابن يعقوب. وستكون لي قبل نهاية هذه القراءة عودة إلى ذلك الذئب وإلى تلك البراءة. وحتى حينها أقول إنني وجدت أن الحلو، على الرغم من ولعه الواضح بالفلسفة الوجودية وبالمفكرين الوجوديين، كثيراً ما يشير في كتاباته النقدية والمقابلات التي يتحدث فيها عن أعماله أو عن أعمال الآخرين إلى "نظرية الرواية". وعند قراءة "نسيان ما لم يحدث" وجدتني أمام سؤال لماذا يحتفي الناقد بمدخل للرواية لا يأبه به كمبدع، ولا يسعى للاسترشاد به كروائي؟ قد تكمن الإجابة هنا في نصيحة افعل ما أقول، ولا تفعل ما أفعل. أما في إطار الرواية فقد تكون في أن قراءة نظرية ما مثل "نظرية الرواية" لن تساعد المؤلف المخضرم أو المبتدئ على تجويد كتابة الرواية، ولكنها قد تساعد القارئ الحصيف على حذق فن قراءته لها. أقول هذا مع تسليمي الكامل بأن عيسى الحلو ليس مطالباً بالانضياع إلى مرعيات "نظرية الرواية"، وإن كانت بعض عناصرها لا تزال تمثل مرجعية أساسية تنطلق منها، قبولاً أو رفضا،ً تنويعات السرد وتجلياته. ومن المدهش أن السرد في "نسيان ما لم يحدث" يقول: "وقد كان أمين في سرده للحكاية يحاكي الحيل الذكية في تلك الحبكات القوية في السرديات الأسطورية والقصائد الملحمية الكبرى. وكان النقاش بين الأصدقاء يحتد حول السرديات المهمة على طول مجرى التاريخ الإنساني.. تلك الحيل التي تجيء عند الكبار.. كافكا.. وفيرجل وهوميروس وهيمنجواي وبورخيس." (ص 18)، ولكن عيسى الحلو لا يحاول هنا أياً من تلك الحيل، ولكن له في جعبته، كما سنرى لاحقاً، حيلاً أخرى. وهذه الحيل وإن لم تأت مباشرة من "نظرية الرواية" فقد أتت من اجتهادات ذات صلة بها.
ويدرك عيسى الحلو أنه على الرغم من أن الكثيرين كتبوا عن "نظرية الرواية"، إلا أن أعظم الدراسات التي عملت على تحليل الرواية ووضعها في إطارها التاريخي والسياسي والاجتماعي تظل هي دراسة جورج لوكاش "نظرية الرواية" “Theory of the Novel” التي كتبها في 1915، والتي يقول فيها أن الرواية منحت أهمية غير مسبوقة لقصص الناس العاديين حيث تسمح للقراء بالدخول من غير استئذان إلى حيواتهم ليتعرفوا عليهم بعد اقتحامهم لدنياواتهم. وبعد عشرة سنوات من كتابة لوكاش دراسته بالغة التأثير، انطلق دي إتش لورنس في سلسلة من الكتابات عن الرواية تأتي في مقدمتها مقالته "الرواية". وبطريقته المتفردة يؤكد لورنس أن الرواية هي أعلى أشكال التعبير الإنساني التي تمّ الوصول إليه.
وعند النظر إلى "نسيان ما لم يحدث"، وربما عند النظر إلى أي رواية، قد يكون من المفيد استدعاء تأسيس لوكاش لمفهومي الكلية Totality والنموذجية/العاديةTypicality كالمحورين الذين يتخرك عليهما العمل الروائي. وللمزيد من التبصر يمكن أيضاً استحضار زعم لورنس أن "مستقبل الرواية هو أن تأخذ مكان الأناجيل والفلسفات. والرواية الحالية كما نعرفها. يجب أن تكون لديها الشجاعة لمعالجة الأطروحات الجديدة دون اللجوء إلى التجريد. كما ستقدم لنا مشاعر جديدة ودفق جديد من العاطفة، والتي سنحصل عليها بعد الخروج من خِرق العاطفة القديمة." والرواية قادرة على أن "تعطينا الإنسان حياً" لأنها بشكل أساسي "غير قادرة" على المطلق so incapable of the absolute. ومن التبعات التي لا يستطيع السرد المنغمس في المطلق والضالع في التجريد التنصل عنها، التداخل، وربما حتى التطابق، بين صوتي الراوي والمؤلف. ولكل هذا الذي ذكرت انعكاساته، سلباً أو إيجاباً، وحضوراً أو غياباً، عند قراءة "نسيان ما لم يحدث".
وعيسى الحلو، حُكماً على اهتمامه بنظرية الرواية، يدرك ذلك جميعه، ومع هذا فإن "نسيان ما لم يحدث" مُغرِقة في التجريد، ومُوغِلة في المطلق، ولا تتعاطى الكليات، ولا تعترف بالنموذجي. وما أقوله هنا ليس أمراً مستنتجاً، وإنما هو اختيار متعمد تصرح به الرواية:
"في أغلب الأحيان.. أو ربما هو دائماً يكون التذكر هو إحضار قسري للغياب .. فأنت تعيد إحضار الماضي من بئر النسيان .. تحضر الفعل المنسي أخضر.. طازجاً ونضراً .. كما لو كان قد صنع للتو!.. وهذا ما يفعله الأدب الروائي الجيد البناء .. الرواية تحضر بزهو فائق هذا الماضي كما لو أنه يحدث في الحاضر والآن! .. هذه هي معجزة الأدب الروائي .. صناعة الماضي الذي ينهض بشكل باهر من موته الخاص ويدخل في دورات الحياة من جديد .. الرواية بعث لهذا الجمال الخالد والذي لا يموت أبداً.. وتلك هي خدعة الرواية ومعجزتها الجمالية الفائقة .." (ص 100)
وعيسى الحلو إذ يقول ذلك يعلم تماماً أنه غير مطالب بالانصياع لمتطلبات "نظرية الرواية" كما تشهد على ذلك أعماله الروائية. ولكني استحضر الذي قلته لاعتقادي أنه من الصعب أن نتعامل نقدياً مع الرواية دون أن نستحضر مواقف نقدية تتفق مع "نظرية الرواية" أو تختلف معها.
وبالإضافة إلى التنظير أعلاه، تتضمن الرواية إشارات مقتضبة إلى عدة روايات من بينها البؤساء) للفرنسي فكتور هوجو المكتوبة في أوائل القرن التاسع عشر (ص 107)، وكانت تقرأ للرجل الداخل في غيبوبة عميقة من كتاب (زوربا اليوناني) (ص 118)، و(رباعية الإسكندرية) (ص 118) ورواية (مدام بوفاري) لفلوبير، و(الحنق) لشوقي بدري. كما أن هنالك اقتباس لمقولة ماكبث في مسرحية شكسبير التي تحمل نفس الاسم والتي جعلتها رواية فوكنر "الصخب والغضب" أكثر ذيوعاً واشتهاراً: (ما الحياة إلا رواية يرويها أبله. حكاية مليئة بالصخب والعنف.) (ص 96). ولكل من هذه الإشارات دلالته. ولكن الإشارة التي تحمل قدراً أكبر من الدلالات هي الإشارة إلى خورخي لويس بورخيس: "وهو نفس الحل الذي قدمه الأرجنتيني بورخيس في قصته الدخيلة. عندما اغتال أحد الأخوين التوأمين الحبيبة سراً لأنهما اكتشفا أنها أصبحت الآخر المدمر لعلاقتهما الأخوية .. فتحولت الحبيبة (الأنا) إلى الآخر العدو والدخيل .. هكذا جاء توصيف إيلين لاغتيال كل من جورجينا وسعدية." (ص95)
ولكن العلاقة بين عيسى الحلو وبورخيس تتجاوز بكثير حدود هذه الإشارة العابرة. فالذي أراه أن الكاتب الذي يشبه عيسى الحلو، أو دعنا نقول الذي يشبهه عيسى الحلو، أكثر من غيره هو خورخي لويس بورخيس. فأوجه الشبه بينهما متعددة، ولافتة للنظر، وجديرة بأن تجذب إليها الاهتمام الجاد. وقد يثير هذا الزعم دهشة البعض، وقد يقول قائلهم: تمهل يا رجل.. هل أنت مدرك لما تقول؟ وهل تدرك أن بورخيس، على الرغم من عدم حصوله على جائزة نوبل للآداب، يعتبر في رأي الكثيرين من الذين يعرفون الأدب جيداً أعظم كتاب القرن العشرين؟ وهل تدرك أن واحداً من أولئك الذين يعرفون الأدب جيداً، أدولفو بيوي كاساريس، قال "إن قراءة أي عمل من أعمال خورخي لويس بورخيس للمرة الأولى هو مثل اكتشاف حرف جديد في الأبجدية، أو نغمة جديدة في السلم الموسيقي." وأقول نعم إنني مدرك لذلك جميعه. ومع أني لا أستطيع أن أقول في الحلو ما قاله كاساريس في بورخيس، فمبقدوري أن أقول إن قراءة أي عمل لعيسى الحلو للمرة الأولى هو مثل تذوق تمرات الخريف الأولى في براري السودان التي يمتزج فيها المر بالحلو (والجناس هنا تام، ومقصود تماماً). وطعم المرارة أجده مراراً على طرف لساني وأنا أقرأ سرد "نسيان ما لم يحدث". ومبعثه أحياناً عدم إحكام عيسى الحلو السيطرة على الأسماء: فروجينا تصبح أحيانا جورجينا، وجون ماجوك يتحول سريعاً إلى جون دينق، والشامي إدوارد عطية يقف مكان خاله صمويل عطية، إذ أن إدوارد عطية الأكاديمي ومؤلف "الطليعي الأسود" لم يعمل بالمخابرات البريطانية. وحتى الشخصية المحورية أمين النوراني تتم الإشارة إليها أكثر من مرة على أنها الجيلاني. ولكن قد يكون هنالك تفسير لهذه "الأخطاء" كما سنرى لاحقاً.
وهنالك أشياء أخرى في الرواية قد يغلب فيها طعم المرارة على مذاق الحلاوة ونكهة الطلاوة، ومن بينها الترقيم. وعلى الرغم من أن الترقيم أمر مستحدث في اللغة العربية إلّا أنه يحمل فيها ذات الدلالات التي يحملها في اللغات الأخرى. وفي "نسيان ما لم يحدث" يستخدم عيسى الحلو من علامات الترقيم النقطة وعلامة الاستفهام وعلامة التعجب والأقواس، ويستخدم الفاصلة أربع مرات فقط، مع أنها، أي الفاصلة، علامة الترقيم الأكثر شيوعاً في جميع النصوص مع اختلاف مشاربها. ولكن الأمر لا يتوقف هنا إذ أن الحلو يُكثِر من استخدام علامة ترقيم لا وجود لها ضمن علامات الترقيم المعتمدة، ولا تحمل أي دلالة محددة، وهي النقطتان المتتابعتان (..). وإذا احتج عليّ أحدهم سائلاً: وهل لهذا أي أهمية في قراءة النص الروائي؟ عندها سأقول نعم، تماماً، ودون أدنى شك.
وعودة إلى أدولفو بيوي كاساريس نجده يصف كتابات بورخيس بأنها تربض عند "مكان في منتصف الطريق بين المقال والقصة." ومع أن هذا قد لا يكون الحال مع عدد من قصص و روايات عيسى الحلو، فإن "نسيان ما لم يحدث” تكاد أن تمضي في هذا على نهج بورخيس حذو الحافر بالحافر. والأمر قطعاً ليس إتباعاً أومحاكاة، وإنما هو نتاج لعقليات متشابهة تستهويها الفكرة المستعصية فتسعى للإمساك بها والتعبير عنها عبر طرائق متعددة. كما أنه يتشكل أيضاً كاستجابة لإلحاح البحث المحموم المستعر والمستمر عن الحقائق الحياتية- الوجودية المرواغة. إن "نسيان ما لم يحدث" بورخيسية في احتشادها بالخيالات المتلاحقة، وبامتلائها بالطرف الذكية، واحتفائها بالتلميحات الخاصة، واهتمامها بالتعليقات الساخرة، وعدم تهيبها الإعادات المتكررة والاستطرادات التي تتلاحق لترمي بالسرد في خضم الشك والريب. و"نسيان ما لم يحدث" بورحيسية أيضاً في كونها سلسلة من الحكايات القصيرة التي تبتدئ فجأة وتنتهي كذلك. كما تنجح بمزاجها البوليسي الغريب الذي لا يسعى لإماطة اللثام عن غموض الجرائم المرتكبة، في خلق مشاهد شديدة التعقيد:
"قال النوراني بشارة: إن الكلب يتبعنا. قال الابن (المزيف).. عليك بالتسلل إلى الخارج. ولنلتقي هتاك في المكان المعتاد! قال أمين النوراني من تحت العمامة التي تغطي فنه. إنهم يعرفون أننا لم نقتل روجينا ولا سعدية. نحن الطعم الذي ال ذي يوصل للجهة التي كشفت ارتباطهما بالمعرضة. وبعد قليل سمع رواد مقهى البان جديد طلقاً نارياً انفجر في كل جنبات ساحة السوق الكبير.. وكان الرجل الكبير يرفس برجله وهو مخضل بالدم كالثور الذبيح.. وما تزال تترد الطلقات في المكان مطاردة الأشباح السرية."
وفي تقديم ذكي للعمل يبادر الناشر قائلاً فيما أحسبه إجراء استباقي لإحتواء أي حكم متعجل على "نسيان ما لم يحدث" :
"هذه الرواية تشتغل في فضاء التجريب. في محاولة تتجاوزتقنيات وأشكال الكتابة الروائية التقاليدة الراسخة. واكنشاف طرائق سردية جديدة عن طريق الاختراع والمغامرة في المجهول.. وذلك لاكتشاف نص لديه قدرة أكبر في التعرف على الراهن والكشف عن الأزمنة القديمة والجديدة.. كتابة تتجاوز تسجيل الواقع.. وتفض غلاف الممكن والمحتمل لتكتشف الطريق السردي الذي يعبر عن عصرنا الراهن. ولهذا ليس المهم أن نكتب نصا روائيا جديدا وفق مخيلة لا تملك إلا تلك الأدوات القديمة والحيل القديمة التي لا توائم الواقع الجديد."
وهذا جهد نقدي يشكر عليه الناشر، ولكني لو كنت مكانه لأضفت إليه بضع فقرات من الرواية تنبه القارئ الذي لا يعرف عيسى الحلو أنه في حضرة فنان كبير يرسم باقتدار بفرشاة الكلمات:
"وأخذ المساء يهبط في هدوء تدريجي. مالت الشمس نحو الأفق الغربي ممتلئة بالرحيق البرتقالي الذي أخذ ينتشر في الزرقة المتلاشية والتي تذوب في بطء في نسيج الضوء الخليط ما بين الحمرة الهاربة في حذر من خيوط العتمة الرمادية التي تتفتح في أكمام وردة الليل السوداء. وبعد يرهة اعتلى السائل البنفسجي النور الناتج من عناق النهار الآيل إلى الزوال بالهبوط الرقيق والسخي لحضور الليل البهي. (ص 92)
كما يمضي الناشر ليقدم لنا العمل على أنه رواية. وسأقبل هذا التوصيف لأنني بشكل أساسي غير راغب في إقامة سرادق هنا لتلقي العزاء في وفاة المصطلحات في عالم الرواية العربية، ذلك لأنها لم تولد أصلاً حتى تموت. ولكن فقط من باب التنويه والتذكير فإن "نسيان ما لم يحدث" ليست رواية Novel وإنما هي Novella. والنوفيلا جنس سردي يقع بين الرواية والقصة، هذا مع الإقرار أنه ليس هنالك تعريف واضح متفق عليه لها. وكما يقول هاري اشتاينهاور في دراسته "نحو تعريف للنوفيلا" “Towards a Definition of the Novella” "لوقت طويل ظل موروث النقد الأدبي الضخم يعاني لعدة أجيال في بحثه عن تعريف للنوفيلا، ولكن الجبل الذي ظل يتمخض طويلاً لم يلد فأرا بعد." ولكن القلة النسبية لعدد كلمات النوفيلا لا يعني قلة شأنها. فكما يقول اشتاينهاور "الطول لا يظهر لنا شيئاً عن جوهر العمل" لأنه لا يتجاوز أن يكون أمراً متعلقاً بالشكل. إذ أن جميع أنواع السرد تواجه ذات الهموم وتستخدم ذات التقنيات. ولعل من أجمل التعليقات حول النوفيلا هو ما جاد الشاعر والمسرحي والروائي الألماني جوته في رسالة لإيكرمان: "وفيما يتعلق بالنوفيلا هل هي شيئ آخر غير سرد لشيئ لم نسمع به قبلا؟" وإذا وافقنا على ما يقترحه جوته فلنغض الطرف لبعض الوقت غن طول "نسيان ما لم يحدث" ولنسأل ماهو الشيئ الذي لم نسمع به قبلاً الذي يسرده علينا عيسى الحلو في "روايته"؟
يسرد علينا عيسى الحلو في "نسيان ما لم يحدث"، ضمن ما يسرد، حكايات معقدة عن ابن وأب فارق العمر بينهما خمسة عشر سنة، وعن تواريخ للهزيمة، وعن عاهرات عاشقات، ونساء ذوات نزوع للغواية، وعن رجال شديدي الوسامة، وعن انقلابات عسكرية، وعن عهود ديمقراطية، وعن قصر للمرايا، وعن عاصمة مكونة من ثلاث مدن، وعن أحياء أم درمانية، وعن أسواق ومتاجر وجاليات، وعن مقاه ومواخير وحانات، وعن الأنا العميقة والآخر، وعن شعراء ومغنين وأغنيات، وحتى عن الانفجار العظيم لهذا الكوكب "الذي يراه أمين النوراني بأم عينيه" (ص 32). والرواية تحتشد بالعناوين اللافتة مثل "الزمن النسيان.. والكتابة البيضاء" و"الطفو فوق أنهار المدن التحتية" و"حرائق في التذكارات المخذلة" والتي تؤكد أن اجتراح العناوين أمرٌ يجيده عيسى الحلو تماماً. ومن بين تلك العناوين المدهشة بالطبع عنوان الرواية الذي يُذكر في تناقضه بعنوان مجموعة القصص التي نشرها مايكل بروشتاين تحت عنوان "أتذكر المستقبل" I Remember the Futureوالذي تبعته عدة كتب عملت على استغلال قدرة العنوان الغريب على الجذب ولفت الانتباه مكتفية بحذف حرف هنا، أو إضافة كلمة هناك.
تبدأ "نسيان ما لم يحدث" بكلمة "التيه"، ويغلب الظن أن أي مهتم حقيقي بالرواية ستدفعه كلمة التيه دفعاً لاستدعاء بورخيس، و"المتاهات" "Labyrinths" بشكل خاص. فالسرد يبدأ بأن يقودنا إلى متاهة الوجود والهوية "ولكن من أنا؟ .. من أكون؟ .. ومن هو أمين النوراني؟ .. .. أهو أنا نفسي؟ ..أم هو أبي؟ .. .. من منا هو الأب؟ .. ومن هو الابن ؟ أم نحن الاثنان .. لا أحد!" (ص 7)، ولكنه لا يتركنا هناك، إذ أن يعود ملتفاً حول نفسه وحولنا ليقودنا إلى متاهات أخرى. متاهات مكانية وجغرافية وزمانية وتاريخية وفكرية وعاطفية مصنوعة من التذكر والنسيان، وجميعها تتكون من بدايات لا تكتمل يقعدها عن التقدم تواطؤ "الذاكرة المثقوبة" و"النسيان.. (و) التناسي". ومع هذا يتقدم السرد مترنحاً وهو يدور في متاهات من الخيالات والأوهام والأكاذيب والأشواق والمخاوف و"الظنون والشكوك والأساطير والخرافة" (ص68).
ومن بين المتاهات التي نضيع بداخلها زمناً في "نسيان ما لم يحدث" أحياء العاهرات، وأهمها حي جهنم، الذي في إخلاص كامل لمفهوم المتاهة، يكون مرة في الخرطوم (ص ) ومرة أخرى في أم درمان ( ص 37):
"وكانت الليالي المقمرة قد تحولت من الغزل العفوي إلى تجارة الجسد التي تركزت في حي الشهداء في أم درمان وفريق جهنم بالخرطوم.. وانتشرت بارات الخمور.. سانت جيمس وال جي.بي. والأوكروبول والليدو. وفي الصباح الباكر تجد الطوابير المتراصة أمام منازل العاهرات. وكان الريال التركي يوضع مقابل قضاء ربع ساعة مع إحداهن من العاملات في هذه المواخبر." (ص 20)
ومتاهة أخرى من الرواء والعطش، والجوع والشبع، والعشق والشبق، تمثلها روجينا رزق والتي نلتقيها أولا على هذا النحو:
"كانت (روجينا رزق) ذات جسد ممشوق.. ومشية خفيفة قافزة. وكانت ضفيرتاها المعقودتان خلف ظهرها تتموجان في مرح. والعيون تتابع خطوها القافز الراقص. ورثت البنت عن جدتها العينين الخضراوين كحبتي فيروز .. لهما لمعنان عميقتان تشرقان مع ابتسامة تدفعك لتذكر الأوقات السعيدة القديمة فتمتلئ بالأشواق والعزيمة لتجد ذلك الماضي السعيد. وهكذا منى النوراني نفسه .. أن ينال موعداً. فأخذ يتربص بها .. فكان يلتقي بها وجها لوجه كما لو كان ذلك مصادفة. هكذا أخذ النوراني يندس بين المارة، في طرقات السوق الكبير حتى أوقع بها. ونال موعده الذي الذي كان توقعات ممكنة لأوقات مرحة قادمة. (ص20 ص-21)
ولكن السرد يعطينا رواية أخرى للعلاقة بين النوراني وروجينا: "لقد أحضر النوراني بشارة البنت روجينا من أحد أسواق الرقيق الأبيض في حي العرب غرب المدينة ودفع مبلغ عشرين قرشاً منقوشاً على ظهرها إسم البتشا التركي السلطان حسين الذي كان والياً من قبل استمبول في القاهرة." وكأن ذلك ليس كافياً إذ تأتي على أعقابه رواية ثالثة: "عهد برامبل بالبنت (روجينا) لإحدى الأسر الشامية الثرية فتعلمت ركوب الخيل والدرجة الهوائية واللغات والأدب وقواعد السلوك المتحضر." (ص 37)
وهنالك المتاهة الكبرى: متاهة التاريخ الذي هو هنا مرثية شخصية بالنسبة لعيسى الحلو: فهو حفيد صاحب الراية الخضراء، الخليفة علي ود حلو:
"ونزل أصحاب المهدي من ظهور الخيل .. وفرشوا الفوات على الأرض وأخذوا يصلون.. وفجأة حصدتهم رشاشات الجند!! ومع الأيام أصبحت أم دبيكرات مزاراً للثوار وأيقونة وأيقونة وذكرى عزيزة لوطن استلبه المستعمر الانجليزي والتركي والمصري. (والمنطقة) هي موطن قبيلة دغيم التي ينتمي إليها الخليفة علي ود حلو الذي دفن مع الخليفة عبد الله التعايشي والصديق ابن المهدي. وهكذا انتهى ذلك العهد الوطني الزاهر بالتضحيات وغيب في غياهب التاريخ." (ص 42)
ومن بين كل المتاهات تظل متاهة النوراني وابنه ووالده أوفرها تعقيداً وأكثرها التفافاً وأشدها التواء:
"ولد أمين منذ مدة غير موثقة ومجهولة .. ولهذا تجيئ الروايات حوله وحول أبيه .. مؤلفة ومسرودة على طريقة الأساطير .. أحداث ممكنة ومحتملة .. يمكن تصديقها .. ولكنها أحيانا تغالي في خياليتها .. عندما تفترض أن الولد وأباه كانا قد عاشا في فترة المهدية وشهدا كرري .. ثم هزيمة ناصر في السويس .. شهدا اغتيال السادات .. شهدا الانقلابات العسكرية منذ عيود حتى الإنقاذ .. وشيعا الشيخ الترابي إلى مثواه الأخير .. كلها حكايات غير قابلة لأن تصدق! وكانا يعرفان ذلك!!" ( ص 24-25)
وعلى القارئ أيضاً أن يعرف ذلكً. فالراوي في "نسيان ما لم يحدث" غير موثوق به على الإطلاق، وله نزوع دائم لرواية حكايات غير قابلة للتصديق.
ويزيد من تعقيد المتاهة النورانية شيئان :أولهما عدم التمهيد وثانيهما توظيف فكرة Motif المزدوج Double. بالنسبة للأول هنالك مدخل حول العلاقة والاختلاف بين العمل الروائي والسيناريو السينمائي يشي بأن العمل الروائي يبتدئ مبكراً بينما يبتدئ السيناريو السينمائي متأخرا. أي أن العمل الروائي يحتمل المقدمات والتهيئة والتمهيد بينما لا يحتملها السيناريو. لكن السرد في "نسيان ما لم يحدث" يبتدئ متأخراً ليلقي بالقارئ مباشرة في لج المعضلة::
"كانت يدانا متشابكتين!.. كان كل منا يقبض على يد الآخر بقوة.. لا أحد منا يريد أن يترك الآخر. كنا نقاوم هذا الأمر طوال تلك السنوات الماضية .. رغم أن كلاً منا كان يحرص كل الحرص على رعاية الآخر والحفاظ عليه حتى لا يمسه سوء. لقد انطبعت علاقتنا طوال هذه السنوات الطوال بهذا الطابع. لقد كان أمين النوراني يحنو عليّ في أبوة فياضة .. وكنت بالمثل أحنو عليه بذات الدفق .. الأبوي.. فلا نستبين أينا الإبن وأيتا هو الأب. كنا نلعب الدورين المزدوجين بالتبادل .. كنت أعتبره أباً مرة وابناً مرة أخرى. وكان هو يفعل ذات الشيئ في ذات الوقت." (ص 5)
أما بالنسبة للأمر الثاني فنجد أن أمين النوراني الأب والابن مزدوج. كما أن أمين النوراني الأبن والأب النوراني بشارة مزدوج آخر. والمزدوج the Double عنصر غير مألوف ولكنه معروف في الأدب، ونجد أشهر تجسيد له فى رواية روبرت لويس استيفنسون "الحالة الغريبة لدكتور جايكل والسيد هايد." ويمضي أمين النوراني الأب والابن يتحاوران ويتحالفان ويحاربان ويتنافسان: أمين النوراني مع ابنه، وأمين النوراني مع أبيه. وفي الحالتين يقول السرد "كانت مشاعر كل منهما تجاه الآخر غامضة جداً. كان بينهما شيئ كالندية.. تلك المنافسة على الفوز والنصر وإلحاق الهزيمة بالأخر. كما لو كانا أخوين شقيقين طريدين! وكانت المنافسة التي تشبه الغزل الصريح والمفتوح على الزهو والانتصار المتوقع في جولات الخياة والحب والسلطة الذاتية في التحكم في الأشياء والناس والتي تحول الذات من كائن افتراضي إلى كائن وجودي حقيقي.. الوجود في الذات وليس الوجود من أجل الآخر (ص 24). ويعيش المزدوجان معاً، ويسافران معاً، ويعشقان معاً، ويقتلان معاً، وفي نهاية المطاف يموتان معأ.
وكأن كل هذا التعقيد لم يكن كافياً فيسارع عيسى الحلو إلى إنتهاج سبيل وعرٍ بالغ الصعوبة وشديد الخطورة والتعقيد، ومن شأنه أن يجر عليه ويلات اتهامات أقلها وطأة هو الإهمال. والنهج الخطير الذي يحاوله عيسى الحلو في سرده هو التوظيف الجسور للسرد غير الموثوق به. ومع أنني غامرت بإغضابه عند اتهامه بالوقوع في شباك الإهمال أكثر من مرة، إلا أنه يتملكني يقين راسخ بأنه قد استخدم السرد غير الموثوق به عن قصد ووعي ودراية. وهنالك إشارات متعددة تؤيد هذا الزعم من بينها: "وهكذا يصتع الخيال الجمعي صوراً مزدوجة .. متعددة .. ومتحولة .. ورغم غرابة الأمر وصعوبة تصديقه، إلا أنه كان دائماً وفي كل وقت هو أمر قابل للتصديق .. لأن الناس عادة يصدقون ما يريدون تصديق.." (ص 30)، و"كان النسيان يسود كل شيئ.. ما حدث.. وما لم يحدث. كانت كل الأشياء كاذبة.. ليس هنالك شيئ واحد صادق قط." (ص 39)، و"كان أين الراوي الحقيقي.. غير هذا الراوي الافتراضي الذي يمكن أن نركن لروايته؟ إنها ذاكرات عديدة تتداخل .. وهي تتوازى أو تتقاطع أو تتداخل .. تثبت وتؤكد تارة.. وتمحو ما كانت قد كتبت مرة أخرى.." (...)
في 1923 كتب دي إتش لورنس "لا تثق في الفنان. ضع ثقتك في الحكاية. إن دور الناقد الحقيقي هو أن ينقذ الحكاية من الفنان الذي صنعها." وقبل ذلك وبعده أخذت الشكوك تحوم حول مصداقية االراوي والسرد حتى جاء واين سي بوث بمفهوم ومصطلح الراوي غير الموثوق بهUnreliable Narrator في كتابه "بلاغة العمل الروائي"Rhetoric of Fiction (1961) موضحاً فيه أن مصداقية الراوي قد تتعرض للخطر لعدة أسباب منها صغر السن ومحدودية التجربة ورغبة الراوي في التشويه أو التزييف. ويمكن العثور على عدد من الأعمال الروائية التي لا يمكن فيها الركون إلى الراوي، مثل المربية نيلي في "مرتفعات وذرينغ" لإميلي برونتي، ونك كاراوي في "غاتسبي العظيم" لأسكوت فيتزجيرالد.
والراوي غير الموثوق به، عندما يكون، تكون روايته في الغالب من منظور الشخص الأول الفرد. ولكن هنالك حالات يروي فيها الراوي غير الموثوق به روايته من منظور الشخص الثاني. وفي حالات نادرة نجد أن السرد غير الموثوق يأتي من منظور الشخص الثالث العليم .Omniscient Narrator وهنالك عدة طرق لتحقيق ذلك وواحدة من أفضلها هي تحقيق السرد عبر استخدام الشخص الثالث العميق والذي يعرف أيضا بإسم الشخص الثالث الحميم أو الوثيق، وعندها يصبح الخط الفاصل بين الشخصية التي تروي بعضاً من السرد والراوي العليم غير واضح. وبهذه الطريقة يسهل تسلل غير الموثوقية التي تأخذ في بسط هيمنتها حتى تسيطر جزئياً أو كلياً على السرد. وأظن أن هذه هي الحال في سرد "نسيان ما لم يحدث". فالسرد يبدأ من منظور الشخص الأول الفرد: "كانت يدانا متشابكتين" ثم ينتقل ليتقدم من منظور الشخص الأول المتعدد: "إلا أننا كنا كلنا مشغولين بالسؤال الأهم.. (هل حقيقة أن الاثنين هما اثنان حقاً؟ .. الولد والابن! (ص). ثم يتقدم ليستقر على منظور الراوي العليم.
والحديث عن تعقيدات السرد وتنويعاته يقود في كثير من الأحيان إلى "الصخب والغضب" والتي يعتبرها الكثيرون ليس فقط أعظم روايات وليام فوكنر، وإنما أيضاً واحدة من أعظم روايات القرن العشرين. وعلى الرغم من ذلك فقد وصف فوكنر كتابته لها بالفشل. فهو يقول متحدثاً إلى طلاب جامعة فيرجينيا: "حاولت كتابتها أولاً من خلال أحد الأخوان، ولكن ذلك لم يكن كافياً... وحاولت كتابتها من خلال أخ آخر، ولكن ذلك لم يكن كافياً... وحاولت كتابتها من خلال الأخ الثالث... وقد فشل ذلك، ثم حاولت من خلال نفسي- الجزء الرابع- رواية ما حدث، ومع هذا فشلت." ولكن عندما ننظر اليوم إلى ما وصفه فوكنر "بالفشل الرائع" splendid failure نجد أمامنا واحدة من أعظم الروايات في تاريخ الأدب العالمي، ويمكنها أن تزهو بمكانتها وسط صفوة الروايات مثل "يوليسيس" لجيمس جويس، والجبل السحري" لتوماس مان، و"الإخوة كارامازوف" لدوستويفسكي، و"لمن تقرع الأجراس" لإرنست هيمنغواي، و"جسر على نهر درينا" لإيفو ادريتش، و"زوربا اليوناني" لنيكوس كازانتزاكيس، و"مائة عام من العزلة" لجبرائيل جارسيا ماركيز، و"حفل التيس" لماريو فارغا س يوزا. وأكثر أجزاء الرواية إثارة لإهتمام النقاد هو الجزء الذي يقدمه فوكنر من منظور الأخ الأصغر بنجي كومبسون المتخلف عقلياً، والذي يعتبر بلا منازع أشهر نموذج للراوي غير الموثوق به في الرواية. ولتحذير القارئ من خطر الوثوق في بنجي صدّر فوكنر روايته بالاقتباس الشهير من ماكبث": "إنها حكابة يرويها أبله. مليئة بالصخب والغضب، لا تدل على شيئ"، ومن ذلك الاقتباس يأتي عنوان "الرواية، والذي يورده عيسى الحلو على هذا النحو: (ما الحياة إلا رواية يرويها أبله حكاية مليئة بالصخب والعنف." وفي ظني أن لكلمات ماكبث انعكاساتها على "نسيان ما لم يحدث" التي تمتلئ هي الأخرى بأحداث "الصخب والعنف" التي تصلنا عبر الرواي غير الموثوق به.
وبعض الذي ذكرت قي مقالتي من أحداث هو استحضار لما أورده السرد، وقد تكون هنالك وقد لا تكون ضرورة لنسيان بعض ما ورد في السرد مثل:
"تجيئ كرري... الدراويش المهدويون رافعين سيوفهم التي تلمع تحت صوء الضحى الباهر والغبار المتصاعد تحت حوافرالخيل وهي تخوض ساحات الوغى.. تتوغل الجياد وتخترق حزام الدفاعات والستر وتتساقط العمائم تارة والقبعات تارة أخرى وتتساقط الجثث من الجانبين. وتصرخ الحرب كلها شرقاً وغرباً .. سيوفاً وحراباً ومدافع وكلاسنكوف وبنادق.ً
ليس فقط بسبب الكلاشنكوف، ولكن لأن كرري لم تكن كذلك. وكذلك لم تكن أم دبيكرات التي يوحي السرد وكأنها حدثت بعد أيام من سقوط أم درمان: "وكان خليفة المهدي وأعوانه على مشارف ضاحية أم دبيكرات وهم على ظهور الخيل .. أجسادهم منهكة حيث قضوا ثلاث ليالي في الطريق من أم درمان.." فواقعة كرري قد حدثت في يوم الثلاثاء 2 سبتمبر 1898 بينما حدثت واقعة أم دبيكرات في يوم الجمعة 24 نوفمبر 1899، أي بعد ما يزيد على السنة من واقعة كرري.
ولكن عيسى الحلو لا ينتظر حتى تنتابك الشكوك في سرد له، فهو يسارع تطوعا للتآمر على سرده برمي بذور الارتياب في كل شيئ. ففي توضيح العلاقة بين جورجينا (روجينا) وأمين النوراني يقول السرد:
"وكان كل يضيف أجزاء للحكاية أو يحذف شي ئاً .. فتتمازج الأفراح والأحزان .. وتتداخل الأزمنة.. ويضيع التاريخ الحقيقي الذي يحدد تاريخ الواقعة .. وتختلط الشخصيات والحبكات.. وتصبح الحكاية هي ذاتها وهي غيرها في ذات الوقت .. وتختلط الأصوات ويكثر الرواة للحادثة الواحدة.. وهم يتكلمون بأصوات تختلط وتتداخل وتتعارض أحياناً .. تتوارى وتندفع كإعصار دائر حول نفسه .." (ص 49)
وهذا الوصف لا ينطبق فقط على حكاية "جورجينا" التي، إلى جانب الأب، أحبت أيضاً الابن أمين النوراني، وإنما ينطبق على الرواية بأكملها والتي هي متاهة "تختلط فيها الأصوات.. وتتداخل وتتعارض وتتوارى وتندفع كإعصار يدور حول نفسه."
وفي خطوته الاستباقية التي نوهت إليها سابقاً، يواصل الناشر قائلاً:
"علينا محاولة ذلك (كتابة نص روائي جديد) في المكان الأول.. لأن شرف الاكتشاف والمغامرة في تأسيس الفن الجديد أكثر ضماناً وسيطرة وتحكماً في إدارة الحياة من كتابة نص جديد عن طريق المصادفة التي نسميها الإلهام تبريراً بدلاً من التمسك بقصدية الوعي وتقوية سلطتها في إرادة الواقع وتغيير هذا الواقع. إذن فلنجرب حتى ولو واجهنا الفشل."
والكلمة التي تهمني هنا أكثر من غيرها هي كلمة الفشل. وأعتقد أن عيسى الحلو عندما يقرأ "نسيان ما لم يحدث" كناقد سيجد أنها قد حققت نجاحاً مذهلاً في بعض جوانبها، كما سيجد أنها قد سجلت "فشلاً رائعاً" في جوانب أخرى.
وبعض ما يشبه "الفشل الرائع" يأتي من التجريد، أو الإغراق فيه. وعندما استحضر مقولة دي إتش لورنس أن الرواية "بشكل أساسي غير قادرة على المطلق" لا أعني أن التجريد ينفي صفة الرواية عن عمل ما جملة وتفصيلا، ولكنه يسلبه صفة التدفق والاستمرارية. والمؤلف قد يشعر أحياناً بضرورة أن يرفع صوته فوق صوت راويه أو شخوصه، ولكن عليه عندما يفعل ذلك أن يُضمن ما يقول ضمن نسيج سرده. وذلك ما يفعله إرنست هيمنغواي عندما يقول في "لمن تقرع الأجراس": "اليوم هو مجرد يوم مثل جميع الأيام التي سوف تأني. ولكن من الممكن أن يعتمد ما سوف يحدث في تلك الأيام التي ستأتي على الذي ستفعله اليوم. لقد كان الأمر كذلك طوال هذه السنة، ولقد كان كذلك للعديد من المرات." وعندما يبتدئ عيسى الحلو من نقطة مثل: إنهم يسألون عن المصير!.. من هم؟ وإلى أي زمان ومكان ينسبون؟ .. كان روع غامض يملأ صدورهم .. روع مشفوع بقناعة تسلطت عليهم بسبب قدرتهم على التخييل .. خيال سرعان ما ينقلب إلى وهم .. وتخيل ما لا يحدث. وهذا يحدث للناس عادة عندما يبدلون في قواعد اللعبة..ً (ص 55) فإنه لا يزال ضمن "قواعد لعبة" السرد الروائي، ونقبل نحن كقراء ضمنياً أن الصوت الذي يحدثنا هو صوت الراوي، أياً كان هو. ولكن عندما يمضي ذلك الصوت ليقول:
"لعبة أن تتحايل على مصاعب الحياة واستحالاتها في أن يتطابق الفعل مع النوايا التي تمثل النواة الحافزة على صنع هذا الفعل أن يتحول من كونه شوق يقذف الذات إلى الأمام كما لو كانت تسابق اندفاعات سباقها مع جريان لحظات الزمان التي تجري كما الماء من أعلى إلى أسفل .. من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل وذلك ضمن أطماع الذات لتحقيق الإرادة والحرية.. تلك التي تمثل الذات في هذا التطابق الإبداعي البديع بين الذات وحقيقتها ..." (ص 55)
فمن الواضح أن المتحدث هنا ليس الراوي، وإنما هو المؤلف، عيسى الحلو، يتحدث إلينا مباشرة دونما وسيط ودونما وساطة. وعيسى الحلو يفعل ذلك أكثر من مرة في "نسيان ما لم يحدث". ولكن هذا لا يمثل هاجساً بالنسبة لي بقدر ما يمثله حجم العمل، والذي قد لايكون هاجساً لغيري من القراء. ولكني أعتقد أن عيسى الحلو قد ظلم نفسه أولاً، وظلم "نسيان ما لم يحدث" ثانيا،ً بأن ضيق عليها الخناق وحرمها من السعة والانسياب. وأريد أن استعير هنا من الرواية ما يساعدني على وصف بعض إحساسي بها. والاستعارة التي أريد هي الإشارة إلى "كبس الجبة" والذي يصفه السرد بأنه من "قتالين القتلة" (ص 128). والروايات التي تتحدث عن "كبس الجبة" وقوته وجسارته وفتوته وبلطجته لا تصدق, وتقول واحدة أن عبد الصبور لما وضع عليه الجبة التي كان يرتديها الجنود ملأها على سعتها بمفتول عضلاته، فصاح أحدهم "الزول كبس الجبة" فصار ذلك هو الاسم الذي يعرف به. وقياساً على ذلك فإن ما "يحدث" في "نسيان ما لم يحدث" قد "كبس جبة" النوفيلا فضاقت به دفتا الكتاب. ولو أتحنا لما "يحدث" حرية التدفق لفاض ليملأ، ليس فقط رواية متكاملة الأبعاد، وإنما ملحمة Epic بأكملها. وعلى صعيد آخر فإن ما سميته بالأخطاء فإن الطبعة الثانية ستتكفل به. ويقيني أنه عندما يسكن غبار الجدل فستبرز "نسيان ما لم يحدث" بجرأتها ونزقها وشططها وبقدرتها على التحدي كعمل روائي رائع يؤكد شياخة عيسى الحلو، ليس فقط لأدب الحداثة، وإنما أيضاً لأدب ما بعد الحداثة في السودان.
وأعود هنا إلى الأدب العربي القديم مستعيداً ما أورده عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب "الحيوان" سارداً هذه الحكاية المشبعة بالدلالات: "قال أبو علقمة: كان اسم الذَّئب الذي أكل يوسف رجحون! فقيل له: فإنّ يوسف لم يأكُلْه الذّئب، وإنما كذبوا على الذِّئب، ولذلك قال اللّه عزَّ وجلّ: (وَجاؤُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كذبٍ)، فقال أبو علقمة: فهذا اسمٌ للذئب الذي لم يأكلْ يوسف." وعلى الرغم من إيحاءات وتلميحات التشكيك التي ترصع السرد لتجعل الشك يخامرنا في حقيقة حدوث أحداثه، فإن جميع الأشياء التي يحكي عنها السرد في الرواية من عشق وقتل وميلاد وممات، ومن هزائم وانتصارات، ومن عهود استبداد وثورات، ومن صولات وجولات، ومن بطولات كرري وفجيعة أم دبيكرات وغيرها قد حدثت. هذا حتى من غير ضرورة لتطبيق مفهوم "تعليق عدم التصديق" Suspension of Disbelief الذي ابتدعه الشاعر والفيلسوف الجمالي صمويل تيلور كولريدج لكبح جماح التفكير النقدي الذي إذا ما اشتط فسيقضى على المتعة الجمالية التي يتيحها الخيال المنعتق أو المنفلت. ولكن السؤال الكبير الذي لا بد لنا من مواجهته هنا ما هو الذي لم "يحدث" على هامش الذي حدث؟ وهل من الممكن أن تفقد ماهو ليس لديك؟ وأين هو "رجحون" الذي نطارده ويطاردنا في متاهات "نسيان ما لم يحدث"؟
لقد حاولت اقتفاء آثار "رجحون" عبر الصفحات وحتى السطور الأخيرة للرواية، ولكني لم أعثر له على أثر. ولكن قد يستطيع غيري ذلك إذا ما أحكم التأمل بعد أن يجيد القراءة ويحسن الإصغاء:
"من المؤكد أن إمكانية تغيير العالم الذي نعيش فيه ترتبط إلى حد كبير بقدرتنا على تغيير أنفسنا أولاً.. بحيث يمكن أن ننسى ما حدث لنا.. ولكننا لكي ننسى ما لم يحدث علينا أن نتذكر إن نسيان ما لم يحدث .. هو نسيان أحلامنا في الآتي.. في الممكن والمحتمل.. وهي الأشياء التي تمثل الإمكان.. تمثل النوايا بقيام الفعل كمشروع حياة.. وهو مشروع مبني منطقياً وتاريخياً على مشاريع ماضية أهملت أو نسيت أو نفذت في غير ما إتقان وتجويد." (ص 132)
و"تذكرت" أننا كثيراً ما نعثر في عالمي السايكولوجي والسياسة على أمثلة "يتذكر" فيها البعض ما لم يحدث. أما نسيان ما لم يحدث فهذا أمر لا تستطيعه غير الرواية. ولن يحاوله من الروائيين غير الكبار منهم، من أمثال عيسى الحلو الذين يجرؤون على نبش ركام شقائنا الإنساني باحثين لنا عن شيئ من العزاء. وعلى نحو يكاد أن يكون موازياً يقول أمبرتو إكو في "ست جولات في الغابات المتخيلة":
"قراءة الرواية تعني أن نلعب لعبة تعطي معنى لضخامة الأشياء التي حدثت، والتي تحدث، أو التي ستحدث في العالم الفعلي. ومن خلال قراءة السرد، نفلت من القلق الذي يهاجمنا عندما نحاول أن نقول شيئاً صحيحاً عن العالم. هذا هو دور المواساة التي يمنحنا لها السرد - وهذا هو السبب الذي يجعل الناس يحكون القصص ويروونها منذ بداية الزمن."
وهذا ما يحدث عندما تكون هنالك أشياء قد حدثت، أو تحدث الآن وهنا، أو ستحدث في خضم واقع مضطرب ومرتبك، أو في أمكنة نائية متخيلة وأزمنة بعيدة متوهمة.
أخيراً، يقول بورخيس: "الزمن هو الجوهر الذي صنعت منه. الزمن هو النهر الذي يجتاحني، لكني أنا النهر، إنه النمر الذي يحطمني، لكني أنا النمر، إنه النار التي تلتهمني، لكني أنا النار." وأستطيع أن أقول على لسان عيسى الحلو: الأدب السوداني هو الجوهر الذي صنعت منه. فأنا المتسول عند عتبات بابه، المتوسل إلى عطف جنابه، المؤتمن على مضامين كتابه، الخارج من غليظ وغض إهابه، الذي يرفل في بهيج ثيابه، أنا نصف قرن من غرس ترابه، أنا عرابه... أنا عيسى الحلو.
أحمد حسب الله الحاج
حسرة الظل.. القراءة الثانية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: توفيق الشيخ حسين
القراءة الثانية من كتاب (حسرة الظل / تجارب في الشعرية النادرة والبساطة الجميلة) للشاعر والروائي والناقد محمد الأسعد .
تقرأ الثانية تجربة الشاعر الياباني (ماتسو باشو) مكتشف الجمال في الطبيعة والحياة، وصانع قصيدة الهايكو كما عرفتها الأزمنة الحديثة، تزايدت في السنوات الأخيرة التلميحات والإشارات الى قصيدة الهايكو اليابانية في الثقافة العربية، ممثلة بأشهر شعرائها (ماتسو باشو / 1644 – 1694)، أن العالم وعالم الغرب بخاصة انتبه الى هذه القصيدة وتزايد احتفاء شعرائه بها، محاكاة ودراسة في وقت متأخر لا يكاد يتجاوز ثمانينات القرن العشرين .
قبل زمن شاعر الهايكو الكبير " ماتسو باشو " كانت القصيدة المسماة " هايكاي " لعبة متمدنة لتزجية الوقت اكثر مما كانت شعرا ً جادا ً، وكان مطلعها المسمى آنذاك " هوكو " والذي سينفصل عنها في ما بعد ويستقل تحت أسم " الهايكو " جزءا ً منها، واستطاع " باشو " بحساسيته الأدبية الحادة وسيطرته المتمكنة على اللغة استكشاف كل الممكنات الهاجعة في هذا الشكل الشعري، كان مستكشفا ً جريئا ً كما يقول عنه " ماكو إيدا " فقد استخدم الكلمات العامية واستعار من اللغة الصينية الكلاسيكية، وكتب هوكو بثمانية عشر أو تسعة عشر مقطعا ً أو اكثر، بل والأكثر أهمية أنه سعى الى جعل الهوكو تستجيب للتجربة الإنسانية الفعلية لما رأى وفكر وشعر بنزاهة وإخلاص نادرين، وكان لديه ثقة عالية بإمكانية الإنسان على أن يعتنق ديانة إنكار الذات، فسبر في بحثه المكثف عن مخطط قابل للتطبيق، اعماق الطاوية وبوذية الزن، وفي نهاية المطاف وجد، أو اعتقد انه وجد ما التمسه في ما سماه " فوجا " أي طريقة حياة الفنان، وهي طريقة نسك ٍ مكرسة تسعى وراء حقيقة أبدية في الطبيعة .
قصيدة الهايكو وهذا هو الأسم الذي أصبحت تعُرف به الهوكو في القرن التاسع عشر، والتي أصبحت تتكون من سبعة عشر مقطعا ً، تتطلب مشاركة فعالة من اولئك الذين يقراؤنها، لأن الشاعر يترك القصيدة غير مكتملة، أو هكذا يبدو، ومن المتوقع من كل قاريء ان (يكملها) بتفسير شخصي، فلنبدأ بهذه القصيدة:
عتمة البحر نداءُ بطة بريّة شاحب البياض
يقول الناقد (هاندا) أن هذا التركيب يمكن أن يكون بصيغة معتادة كما يلي:
عتمة البحر شاحبة البياض نداء بطة بريّة
ولكن (باشو) يتعمد إحداث قلبا بين العبارة الثانية والثالثة، انه يختار ان يستمر بسلاسة مع مقاطع السطر الثاني الخمسة لينتهي بقوة بسبعة مقاطع في السطر الثالث وكانت النتيجة أن لغة القصيدة لم تتابع فقط بل وحلقت إحساسا ً قويا ً بالاستقرار .
أما الناقد (كومي يا) فيرى أن ما هو صارخ في هذه القصيدة هو تلفظ السطرين الأخيرين حيث توصف ظاهرة سمعية بتعابير بصرية، وقد أنجز الرمزيون الفرنسيون الكثير بهذه الوسيلة، ولكن من الواضح أن (باشو) لم يتعلم هذه الطريقة منهم، بل منح الانطباع الذي شكله بوساطة حساسيته تعبيرا ً مباشرا ً وأمينا ً، وانتج قصيدة حية لا شيء مصطنعا ً فيها وغير طبيعي، ويتوسع ناقد آخر هو (أواتا) فيقول (إن البخار الأبيض الشاحب فوق البحر ونداء البطة البرية امتزجا في مدركات الشاعر الحسية، بالطبع، العين هي التي شاهدت البياض، والأذن هي التي سمعت الصوت، ولكنه شعر كما لو أن عينيه شاهدتا ما سمعته أذناه، وحول ّ هذا الشعور العذب الى قصيدة) .
وينبه الناقد (اوجاتا) القاريء بأن عليه أن يدرك أن سطر (نداء بطة بريّة) يكثف مشاعر حنين وشجن الشاعر الجوّال الذي مازال يتجول بين الطرقات مع نهاية العام وقد ركز شراح الشاعر السابقون على تعبير (شاحب البياض) وغفلوا عن هذه النقطة، واخيرا نجد لدى الناقد (كونيش) استطرادا ً لافتا ً للنظر يقول: (أسلوب هذه القصيدة وصفي، وهو أسلوب غير موجود في قصائد الشاعر المبكرة إنها تصف مشهدا ً وصفا ً موضوعيا ً من دون ادخال عاطفة من العواطف مثل السعادة أو الأسى، إلا أن هذا النهج لا يجب أن يُخلط بمبدأ (شاسي) أي مبدأ الواقعية الذي أصبح رائجا ً في اوائل القرن العشرين بعد ان وفد بتأثير الواقعية الغربية، فهذا المبدأ لم يظهر في الأدب الغربي حتى القرن التاسع عشر، ومن الواضح أن (باشو) أستمد هذا المبدأ من الراهب (فوكوجاوا) حين بدأ يدرس بوذية الزن، وكان رهبان هذه البوذية يجيدون وصف المشهد وصفا ً موضوعيا ً بكلمات قليلة ويجسدون في هذا الوصف حقيقة كونية .
تعليق:
يؤكد (الأسعد) في هذا الشرح إشارة أو تلميح الى ما يمكن أن يسمى " تراسل الحواس " أي التنافذ بين مجالات الحواس سواء كانت سمعية أو بصرية أو حسّية وهذا التنافذ يكسب اللغة وظيفة غير معتادة تكون معها قادرة على القبض على أشد لونيات المشاعر رهافة، لقد انزاح تركيب السطور عن المعيار المعتاد كما أشار (هاندا) فتحول الى تركيب ذي دلالة مختلفة عن الدلالة المألوفة، يبدو أن السبب حدسي قبل أن يكون فكرة ذهنية، فهنا ليس مجرد تحويل السمعي الى بصري، بل إقامة مسافة توتر قائمة على تضاد بين العتمة والبياض وبينهما النداء، نداء البطة البريّة، المتحرك الذي يصل بين الأثنين، بين المعتم البعيد والبياض القريب، وقد أقتضت الحالة النفسية هذا التركيب كحدس شعري، فارتسمت العتمة للوهلة الأولى ثم النداء القادم من بعيد ممتدا ً مثل امتداد البياض ومتلامحا مثله .
هو الربيع تل بلا اسم في الضباب الخفيف
هذه القصيدة، مع أنها تبدو واضحة، كما يقول الناقد (اوتسوجو) إلا أن وضوحها من النوع النادر، أما أرضيتها فيرجعها الناقد (اوجاتا) الى تقليد كلاسيكي، حيث دأبت أجيال من الشعراء على تبين قدوم الربيع حين ترى الضباب معلقا ً فوق الجبل ولكن الناقد (ياماموتو) يلتفت الى صوت كلمات القصيدة الناعم، فيرى أن هذه الكلمات تحثنا على رؤية بصرية، على رؤية الخطوط الخارجية المرهفة لتلك التلال في مقاطعة ياماتو .
تنوير: لدينا ما يسمى بالأصالة، بمعنى الصدور عن موروث، ولكن حين يكون الموروث أرضية، أي تقليدا ً كلاسيكيا ً بتعبير (اوجاتا) فأنه يتجاوز مجرد الصدور عن موروث أو محاكاته، الشاعر هنا يأخذ مرور الزمن في اعتباره في الوقت الذي يرتبط فيه بالصورة الكاملة للموروث الشعري، ولكن مع أخذه في طرقات جديدة والاطلالة به على مشهد جديد، (باشو) هنا كما يرى (الأسعد) لا يمسك بنافذة التقاليد الكلاسيكية ليطل منها على المشهد نفسه التي كانت تطل عليه، بل يستخدم النافذة نفسها ولكن ليطل على مشاهدة جديدة، هذا أمر منطقي وطبيعي، لأنه متحرك في الزمن، كلما فكر بالماضي فكر بمرور الزمن، لا يكاد ينسى هذا لحظة واحدة، وهذا هو الفرق بين المجدّد الحي الذي يمتلك تراثا ً وبين المحنط التراثي الذي لا يشعر بمرور الزمن .
حين يُقال شاعر أنه كبير، قد يتبادر الى الذهن أنه أصبح فوق النقد، أو أنه بتعبير ساذج قرأناه صغارا ً لعباس محمود العقاد: (يظل جيدا ً حتى في رديئه) . إلا أن الأمر ليس كذلك بالنسبة لجمهرة النقاد اليابانيين، فالنزاهة مطلوبة من الشاعر والناقد على حد سواء، ومن هنا لم تمنع مكانة (باشو) الشعرية والتاريخية بعض النقاد من رفض بعض قصائده إما بوصفها من الدرجة الثانية أو أنها ترتكب جريمة أسوء من الأنتحال .
اليكم هذه القصيدة:
شجرة صنوبر
كاراساكي، ضبابها أرق ّ
من براعم الكرز المزهرة
فماذا يرى فيها النقاد؟
نبدأ بالناقد (كيوراي) الذي رأى فيها الكثير من الفكر التأملي، ويضيف (إن الهوكو ذات الفكر التأملي ستكون قصيدة من الدرجة الثانية، قال باشو كل الشروحات بما فيها شروحات " كيكايو " وشروحاتك، عقلنات، لقد كتبت هذه القصيدة لمجرد انني فكرت أن شجرة الصنوبر الضبابية تبدو أكثر جمالا ً من البراعم المزهرة)، ولكن الناقد " شيكي " من القرن التاسع عشر كان أكثر قسوة على هذه القصيدة (تلمح هذه القصيدة وفقا لأحد المفسرين الى قصيدة من النوع المسمى " واكا " للأمبراطور " جوتابا " "1239 – 1180 ") .
عند كاراساكي
ضبابية أيضا
تضاهي البراعم المزهرة
فجرا ً في يوم ربيعي
ومن الواضح أن قصيدة " باشو " مبنية على قصيدة الأمبراطور، ولكن هذا البناء جاء بالغ البؤس في هذا النموذج الى درجة انه جريمة أسوء من الأنتحال، بالطبع علينا أن نقرأ القصيدة من دون الرجوع الى تلك الواكا، ولكن حتى في هذه الحالة فإن ثانوية القصيدة لا نزاع فيها، ويجب نسيان قصيدة من هذا النوع حفاظا ً على سمعة باشو، يقول " سانجا " هذه القصيدة تفوق الوصف ويتوسع " شوسون " هكذا لا تشير كلمة (ضبابها) الى عتمة مساء ربيعي حين تبدو هيئة الأشياء غير واضحة المعالم، وعلى رغم أن الشعراء منذ الأزمنة القديمة تغنوا عادة ببراعم أزهار الكرز المزهرة إلا أن أحدا ً منهم لا يصف شجرة الصنوبر بكونها ضبابية أمام مشهد البحيرة، حيث شجرة الصنوبر وأزهار الكرز ضبابية على حد سواء، نظر (باشو) بانتباه وأكتشف جمالا ً جديدا ً في الضباب الذي يغطي شجرة الصنوبر، الوقت في ذلك اليوم مختلف عليه .
تعليق:
فكرة أكتشاف الجمال في الموجودات هناهي الأكثر لفتا ً للنظر في حديث شوسون لأن العادة الشعرية الرديئة الجارية في مختلف الفنون هي اقتراح فكرة عن الجمال والجميل لا اكتشافه، ومرة آخرى تعود هنا مسألة الموروث في إتكاء " باشو " على قصيدة الأمبراطور القديمة، ولكن بعد أن أطل بأدواته على مشهد جديد، فأن " باشو " كان ينظر الى المشهد وهو يتلامح في مياه بحيرة كاراساكي مساءاً وليس ليلا ً .
ويشعر " الأسعد " أن تقديم " باشو " لا يكتمل إلا بالوصول الى أكثر قصائد الهايكو شهرة، قصيدة " الضفدع " التي كتبها في العام 1686، ويبدو أن شهرتها أنطلقت فور كتابتها تقريبا ً لأن السجلات تظهر أن جماعة من الشعراء التقت في كوخ (باشو) ذات يوم من أيام أبريل، وأجرت مسابقة تأليف هوكو حول موضوع الضفادع، وبدأ باشو المسابقة بقصيدته هذه التي اطلقت في السباق الذي نشرت نصوصه في ما بعد تحت عنوان " مسابقة الضفدع " وهذه هي القصيدة:
بحيرة عتيقة
ضفدع يقفز
بلوب
يقول الناقد " شيكو " كان الأستاذ (باشو) في كوخه على ضفة النهر شمالي "ايدو" في ذلك الربيع وجاء صوت الحمام عبر تساقط قطرات المطر الناعم، كانت الريح لطيفة والبراعم المتفتحة ساكنة، وكان يسمع في آواخر الشهر الثالث صوت ضفدع يقفز في الماء، واخيرا ً طفت في ذهنه عاطفة لا يمكن وصفها وتشكلت في سطرين
ضفدع يقفز
بلوب
" كيكايو " الذي كان الى جانبه، وكان من مقربيه، تجرأ وأقترح وضع تعبير " زهور جبل " ليكون السطر الأول، ولكن الأستاذ اختار تعبير " بحيرة عتيقة ويؤكد " الأسعد " بأن " زهور جبل " رغم انها تبدو شعرية ومحببة إلا أن عبارة " بحيرة عتيقة " تمتلك بساطة وجوهرا ً أعمق .
وكتب الناقد " موران " هذه القصيدة غامضة غموضا ً عصيا ً على الوصف، إنها عميقة ومرهفة ومحرّرة ولا يمكن أن يفهمها المرؤ إلا بعد سنوات من الخبرة .
ويأخذنا " شيكي " الى شيء آخر، إلى أن هذه القصيدة بسبب بساطتها البالغة، من المحال تقليدها: " ما نراه أمر معقد دائما ً، بينما ما نسمعه بسيط عادة، هذه القصيدة لا تعدو كونها تقريرا ً عن ما أحسّت به أعصاب الشاعر السمعية، ولم يتضمن شيئا ً من أفكاره الذاتية أو البصرية أو مجرد صور متحركة، ما يسجل هنا ليس سوى لحظة زمنية، لهذا السبب ليس لهذه القصيدة عمق ٌ في الزمان والمكان . للناقد " أبي جي " تعبير مختزل: " هذه القصيدة مثل ومضة برق تضيء زاوية هادئة "، ولكن الناقد " شيدا " لا يكتفي بالومضة، إنه يحلل الحركة التي التقطها الشاعر، فجأة يكسر الصمت ضفدع يقفز في البحيرة العتيقة، وفي اللحظة التالية ساد الهدوء مرة آخرى، وخلقت النقلة المفاجئة من السكون (لا صوت) الى الحركة (صوت)، ثم عودة الحركة (صوت) إلى السكون (لا صوت) وقد تراكبت مع بحيرة عتيقة وضفدع، جوا ً لا نهائيا ً ومتوازنا ً يتسق تماما ً مع العاطفة التي ترددت داخل باشو، إنها ترمز الى أعمق مشاعره، لقد أنتج " باشو " تحت وطأة التأثر العميق هذه القصيدة بالتأمل الى حد كبير .
تنوير:
يتابع " الأسعد " بأن الناقد (ياماموتو) يقدم تنويرا ً يجعلنا نستغني عن كل تعليق أو تنوير نقدمه من جانبنا:
(على رغم أن ما استهدفه معاصرو باشو لم يكن بعيدا ً عن نمط الدعابات التي جرت عليه مدرسة " دارين " الشعرية، فما لا شك فيه أن دعابات هؤلاء لا يتبعها إحساس ٌ بكآبة وجودية، ومع ذلك لم يعرفوا كيف يحولون هذا الإحساس الى الفاظ هذه الهوكو موجهة تحديدا ً الى تلك النقطة العمياء في فكر أصحاب الدعابات الشعرية)، والقصيدة تقدم شيئا ً كونيا ً يفتن القاريء مثل ابتسامة، إنها تمتلك شيئا ً تشترك فيه مع الحدث البوذي الشهير الذي يبتسم فيه (بوذا) صامتا ً وهو يقلب زهرة بين أصابعه، في هذه القصيدة تمثل الإبتسامة اعلى إنجازات الفكر، مكملة ما بدأ به الضاحك، ويكمن سرّها ربما في الدقة البالغة التي يقبض بها الشاعر على الموضوع ويحكمه .
من هذا نستطيع القول أن قصائد الهايكو تعتمد البساطة والسهولة، وكلما أرتفعت درجة البساطة فيها أقتربت من الجمالية في إثارة الصدمة الجمالية، أن ّ الهايكو يعتمد في أساسه الجمالي ّ على المشهد الحسّي الواقعي الآني ّ، دون أن يعني استبعادا ً تاما ً للصور الذهنية المستقاة من المخيّلة أو الذاكرة، أو الحلم، وتركيبها مع المشهد الحسّي الآني، والواقعية ليست في حسية الصورة أو اللقطة العفوية أو الحدث العفوي، وإنما في بلاغة التعبير عن هذا الشيء المجسد كقيمة جمالية، وهذا يعني الواقع تمثيل للطبيعة كصور حسية مشتقة من الطبيعة ومتعلقاتها .
توفيق الشيخ حسين
هل حقا يوسف أدريس تشيخوف العرب!؟
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عبد الجبار نوري
إن يوسف أدريس أكثر أقتراباً من القرية المصرية، وبزغ نجمهُ في كتابة القصة القصيرة كما كان تشيخوف الكاتب الروسي والذي يعد من أبرز رواد القصة القصيرة، قال: الكاتب الكبير "عبدالرحمن منيف " عن كتابات يوسف أدريس " أن عبقرية القاص يوسف أدريس بزغ من نظراته للأشياء العادية بنظرة غير عادية ولأن في كل عادي شيء غير عادي، ومهمته الأساسية أكتشاف الغير عادي من العادي وتسليط الضوء عليه وصقله حتى تبرز دقته وقوّته وغير عاديته"، وهنا تكمن براعة يوسف في تسليط الضوء على تفاصيل الحياة اليومية فيما يتعلق بالريف المصري والطبقة الوسطى المسحوقة ونقل صيرورة الحالة المعاشية المصرية إلى الواقع المتداول عملياً، بذلك رسم ليوسف أدريس شخصنته الأدبية في الواقعية الشديدة والأسهاب بالوصف الدقيق ولحد التفاصيل الدقيقة، ويبدو في مجمل قصصه تصحر الروح والبؤس والشقاء والمعاناة في صعوبة الحياة في أسلوب شيّق تمكن الغوص في أعماق النفس الآدمية لتنبيه المتلقي إلى حقيقة الأنسان من الداخل، وبذلك حقاً تقارب مع الأديب الروسي الواقعي تشيخوف، وقد جمعتُ من خلال قراءاتي للأديبين نقاط التقارب والتلاقي لاحقا عساي أتمكن من أقناع القارئ بأن يوسف أدريس تشيخوف العرب .
أنطون تشيخوف هو طبيب وكاتب مسرحي ومؤلف قصصي روسي، ويُنظرْ أليه على أنهُ أفضل كتاب القصص القصيرة على مدى التأريخ، ومن كبار أدباء الروس، كتب المئات من القصص القصيرة التي تعتبر الكثير منها أبداعات فنية كلاسيكية، كما أن مسرحياته كانت لها تأثير عظيم على دراما القرن العشرين، بدأ تشيخوف بالكتابة عندما كان طالباً في كلية الطب جامعة موسكو، ولم يترك الكتابة حتى أصبح من أعظم الأدباء وأستمر أيضاً في مهنة الطب وكان يقول فيها (أن الطب هو زوجتي والأدب عشيقتي)، وفي عام 1884 تخرج من كلية الطب التي أعتبرها مهنته الرئيسّة وقد أحرز القليل من المال من هذه الوظيفة، وكان يعالج الفقراء مجاناً ، والذي حفزني ان أكتب في موضوع المقاربات الأدبية في القصة القصيرة خصوصاً بين القاصين العملاقين، هو على الرغم من أن أحاديث يوسف لا تخلو من ذكر تشيخوف على أعتبار أنهُ المؤثر الأعلى في كتاباتهِ ألا أنهُ يحلم دوماً بتجاوزهِ وتقديم ما لم يقدمهُ، وهو يرى أنهُ قرينهُ الأكثر حضوراً في العالم، وكان يرى بأنّ أي كاتب قصة قصيرة في العالم لابدّ أن يكون قد تأثر بتشيخوف، وهذه بعضٍ من المقاربات التحليلية والنقدية في الفكر والهدف:
-الأختصاص بالقصة القصيرة: أختص القاصان بكتابة القصة القصيرة، لأعتقاد الكاتبين أن القصة القصيرة أختزال للزمكنة في أقتناص اللحظة الخارقة، وأن كتابة القصة القصيرة أسهل شكل أدبي وأصعب تركيبة فنية في ترجمة واقع لحظة نفسية إلى التعبير عنها بكلمات، ومفهوم يوسف أدريس عن فن القصة القصيرة يقول فيها: (هو فن أقتناص اللحظة والخاطرة والصورة فن لأقصى حدود الطواعية، منوّع لا حدود لتنوعه ولا ضفاف)، كما ظهرتْ عند يوسف أدريس في بدايات كتابته للقصة القصيرة عام 1954 في (أرخص ليالي) التي أشتهر بها عالمياً لكون في نصها السردي تكمن الشفافية والمتعة ودقة الحس ورقة الذوق وصدق الملاحظة وبراعة الأداء، وكانت أعمال " تشيخوف " في القصة القصيرة قد عرفت طريقها إلى المكتبة العربية منذ الأربعينات من القرن الماضي، وأستمرتْ التراجم تتسع في الستينات والسبعينات لأزدياد أعداد قراء المكتبة العربية، فأصدر تشيخوف مجموعتهُ الأولى في 1884 بعنوان حكايات ملبوميتا، وثم الغسق والنورس والعم فانيا والأخوات الثلاثة وبستان الكرس، ومسرحيات البجعة والدب وطلب زواج والزفاف وغابة الشيطان والسهوب وحورية البحر.
- تميّز كلٌ منهما بأسلوب السخرية اللاذعة، فيوسف أدريس عايش العهد الملكي صاحب الحكم الشمولي المكمم للأفواه فكان من أدريس المشاكس والمقتحم بجسارة في أنتقاد الوضع السياسي والأجتماعي بشكلٍ ساخر مما شملهُ حجز حريته، وكذلك تميز تشيخوف بكتاباته صفة السخرية والأستهزاء من نظام القياصرة الشمولي والمصادر للحريات والأشارة إلى عبدة المناصب والألقاب والمنافقين وذوي الطباع الفظة الذين يتلذذون بأهانة الضعفاء وربما سخر من الضحية لقبولهم بالعبودية والأستكانة، وأبرع تشيخوف في قصصه في صرخة وجدانية حزينة حول بؤس البسطاء ومعاناتهم التي لا يشعر بها أحد، وأكد تشيخوف على اللامبالاة وخطورتها على الروح الأنسانية في مسرحية (السهوب) 1888 ثم (حكاية مملة).
- تقارب الأثنان في النزعة الواقعية وكانت للثورة البلشفية 1917 عاملا آخر في ترويج الأدب السوفيتي خاصة والروسي عامة طلعت بصيغة قصصية عند مكسيم غوركي ووأسكندر بوشكين وأيفان تورجنيف وديستوفيسكي وعبقريات تشيخوف القصصية على العموم أنها الموجة الواقعية في الأدب العالمي والتي أنسحبتْ على الأدب العربي وحصرياً من خلال نافذتها مصر أم التراجم، شاءت الأقدار أن تندلع في مصر ثورة 1952 التي دخلت كعاملٍ فعال في تأجيج الذات الكتابية عند كتاب كثيرين منهم بالخصوص " يوسف أدريس " أصبح يوسف أدريس أيقونة الفكر السياسي المصري في مراحل الأنفتاح وبالتحديد في خمسينيات القرن الماضي، فأحدث يوسف طفرة فعلية في القصة القصيرة بتجاوز أشكالات كثيرة على مستوى الكتابة، التي كانت تُغرق القصص في الرومانسية الفضفاضة التي تدفع بالمتلقي إلى الضجر والملل، كذلك كان يوسف أدريس على رأس الدفعة الجديدة من كتاب القصة القصيرة منهم: عبدالرحمن الشرقاوي ويوسف شاروني، فكانت قصة (أرخص ليالي) البوابة الكبرى التي دخل منها يوسف أدريس إلى ساحة المجد، فيوسف أدريس ذو السبعة والعشرين عاماً أستطاع أن يهز عرش الثقافة في ضربة زمنية قياسية بحيث أثبت للواقع أن القصة قبلهُ كانت خاملة ورومانسية مملة وغير فنية وتقريرية، وتمكن أن يهيل ويغطي على جميع نقاط العيوب والصفات الركيكة على ما كان يكتب ما قبلهُ، وسحب واقعيتهُ ليس فقط على القصة بل على المسرح والرواية والكاتب الصحفي، ربما تبني يوسف الفكر اليساري فهو في خطٍ متوازي مع أفكار " تشيخوف " في معانقة البطالة والأهمال والفقر والمرض والمعاناة وخروجهما من دائرة الشارع السياسي إلى الشارع الحقيقي في مواجهة هموم شعبيهما في العري والجوع والفاقة .
- البحث عن الحرية: وظهرت جلية عند تشيخوف في مجموعته القصصية في سنة 1884 بعنوان (حكايات مليو ميتا) و(في الغسق) نشر واقع النظام السياسي القيصري المتردي ولكن بأسماء مستعارة مثل: انطوشا شيخونتي، وظهرت عند يوسف أدريس في روايته (المخططين) ناقش فيها الوضع الأنقلابي للعساكر من ثورة 1952 وبأسلوب خيالي فنتازي فيها الرمزية تكشف كيف تتحول الأفكار الثورية إلى نظم شمولية بعيدة عن الديمقراطية، وقال في هذا الموضوع: (أني على أستعداد أن أفعل أي شيء ألا أن أمسك القلم مرّة أخرى وأتحمل مسؤولية تغيير عالم لا يتغيّر، والأنسان يزداد في التغيير سوءاً، وثورات ليت بعضها ما قام).
- والتجربة المكانية في الشعر العربي على يد يوسف أدريس وتشيخوف، بأستثمارهما المكان فنياً، ويقدمان تجربتين حيتين تتمكنان من قراءة أسرار التأريخ والجغرافية، أضافة إلى سعيهما الدائم إلى كسر رتابة العلاقات اللغوية القائمة من أجل الوصول إلى بنية تتلائم والتجربة المكانية الخاصة بالأنحياز والتزلف للأنظمة الشمولية لطالما أحترقنا بنارها!؟ .
- وتقارب القاص يوسف أدريس مع أدبيات تشيخوف في مسألة: الغوص العمودي لا الأفقي في طبقات الشعور واللاشعورالتي تنطوي عليها الحالات النفسية للشخصية، بدل وصف الشخصيات من الخارج والحكاية عنها بمفردات الراوي العارف بكل شيء، كان الميل الغالب هو أنطاق الشخصيات نفسها ما ينكشف عن أعماقها، والغوص في أعماق الشعور واللاشعور في لحظة ضيّقة زمانية ومكانية كاشفاً الأزمات الشخصية الواقعة تحت مشرط قلم الطبيب يوسف أدريس .
- تجريب في القصة والمسرح: يوسف أدريس رفض تقبل أشكال القصة على نحو ما وجد عليه، وتجربته على المسرح كانت مغايرة على ما موجود بالشكل التقليدي، حيث أستهل شكلاً جديداً، كما ظهر في مسرحية (الفرافير) و(المهزلة الأرضية) يخرج الكاتب المشاركة الجماهيرية مع الممثلين دون حواجز وهمية تفصل بين المشاهدين والمؤدين إلى الحد الذي يسقط فيه الحائط الرابع الذي يعزل الممثلين عن الجمهور، وينقل المتلقي من أحوال التلقي السلبي إلى أفعال التلقي الأيجابي .
عبدالجبارنوري
كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد
.............................
مراجع وهوامش
فاروق عبدالقادر- البحث عن اليقين المراوغ – مصر /
رسائل إلى العائلة –أنطوان تشيخوف- ترجمة ياسر شعبان
يوسف أدريس تشيخوف العرب – الدكتور فالح عبدالجبار