سليمان غزالة رائد المسرح الشعري في العراق
- التفاصيل
- كتب بواسطة: نبيل عبد الأمير الربيعي
من ضمن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق صدر كتاب الأستاذ الدكتور علي محمد هادي الربيعي (غزالة رائد المسرح الشعري في العراق)، الكتاب من الحجم الوسط ويتضمن (205) صفحة، مزود بالصور ونصوص الراحل غزالة الخاصة بالمسرح الشعري مع بعض مقالاته المنشورة في الصحافة العراقية مطلع القرن العشرين. تضمن الكتاب ثلاثة فصول، اختص الفصل الأول بحياة د. سليمان غزالة، والفصل الثاني دراسة مسرحية (لهجة الأبطال)، أما الفصل الثالث فتضمن دراسة مسرحية (الحق والعدالة).
يذكر الدكتور علي الربيعي في ص10 كيفية البحث والتقصي عن مسرحيات الراحل غزالة قائلاً: "ورحتُ أُدور في مكتباتٍ عامة وخاصة في العراق ولبنان ومصر عن هذه المسرحيات مؤملاً النفس بالعثور عليها. واستغرق البحث سنوات من دون أن أحظى بها، إلى أنْ عثرتُ في أثناء رحلة التفتيش هذه عن قسمٍ من مؤلفاته في المعارف والأدب يتقدمها كتابه (حياتي الشخصية والوظائفية) المطبوع في دار الطباعة الحديثة ببغداد سنة 1929م، الذي سرد فيه قصة حياته. وأشغلن الموضوع سنواتٍ، وأقبلَ الحظُ نحوي قبل سنتين إذ عثرت على نص مسرحية (لهجة الأبطال)، والمسرحية طبعت في مطبعة الشركة العثمانية المشتركة في القسطنطينية (اسطنبول) في سنة 1329هـ الموافق سنة 1911، وهذه المسرحية تكون قد سبقت مسرحيات الشاعر أحمد شوقي في طباعتها. وتبسَّم الحظ لي مرة ثانية وعثرت على نص مسرحية (الحق والعدالة) في إحدى المكتبات المفترشة في شارع المتنبي في بغداد، والمسرحية طبعت في دار الطباعة الحديثة ببغداد في سنة 1347هـ الموافق سنة 1929. أما النص الثالث المعنون (علي خوجة) المطبوع في مطبعة الشركة العثمانية المشتركة في القسطنطينية سنة 1913 فلم أعثر عليه حتى الانتهاء من هذا الكتاب".
ويعتبر الدكتور سليمان غزالة هو اول من كتب المسرحية الشعرية العراقية، فقد طبع في الإستانة عام 1911 مسرحية (لهجة الابطال)، ويعني بهذا انه قد سبق الشاعر احمد شوقي في ريادة كتابة المسرحية الشعرية، إلا ان محاولته بقيت محليه ولم تنتشر، لربما بسبب ان سليمان غزاله كشاعر لم تكن قامته بحجم قامة شوقي في الشعر او تمكنه من الحبكة والبناء الدرامي كانت ضعيفة مقارنة بإمكانيات شوقي، او لأسباب اخرى غير معروفه، الا ان هذا لا يقلل من قيمة انها كانت المحاولة الاولى في كتابة المسرحية الشعرية.
وقد سلط الضوء الدكتور علي الربيعي على سيرة حياة غزاله في كتابه هذا وأحياء نصوص مسرحية شعرية من تأليف غزالة. الربيعي عرف بدوره الريادي في إحياء اسماء وأعلام من ادباء العراق، كانت لهم بصمة في تاريخ الادب والثقافة والمسرح العراقي.
ولد الدكتور سليمان عبد الأحد بن جرجيس بن يوسف غزالة في بغداد في الحادي والعشرين من شهر ايلول سنة 1853م لأسرة مسيحية عريقة تصعد بنسبها وجاهها إلى نحو أربعمائة سنة كما اثبتته مستندات محفوظة في مكتبة الآباء الكرملين في بغداد... انصرف غزالة منذ صغره إلى التعلم والتعليم والدرس، ودخل مدارس بغداد ولما يزل عمره أربع سنوات، ورغب في العلم رغبة كبيرة وراح يسعى وراءه بجد ونشاط. وعندما بلغ العاشرة من عمره أرسله والده إلى مدينة الموصل للدراسة في مدرسة الآباء الدومنيكيين. وحال عودته سنة 1869 عُين معلماً ثانياً في مدرسة الكلدان، فكان يعمل في الصباح معلماً بمعية المعلم سليمان بن القس الياس الموصلي، ويشتغل في المساء في مهنة تجليد الكتب التي تعلمها في مدرسة الآباء الدومنيكيين في الموصل. هذا ما ذكره الربيعي في ص17 وص18 من كتابه.
كما قام "غزالة بتدريس اللغتين الانكليزية والفرنسية في مدرسة الإليانس اليهودية. حتى عام 1879م شد الرحال إلى بيروت عند الآباء اللاتين، وفي الوقت نفسه كان يعمل معلماً للعربية في مدرسة اليسوعيين. وبعد أن أتم دراسته وجد في نفسه رغبة لدراسة الطب، فتوجه من بيروت صوب بريس والتحق طالباً في مدرسة (سان لوسيان)". ثم يعقب الدكتور الربيعي في ص19 قائلاً: "بعد اتمام المقررات الأولية التي تؤهله لدراسة الطب انتسب طالباً في جامعة الطب الباريسية في شهر كانون الأول سنة 1880م. وتسنى له أن يدرس العلوم الطبية على أيدي أطباء مشهورين أمثال شانتمس وبوزي ولويس باستور، فقدروا ذكاءه ونشاطه وتقدمه في الدروس مدة خمس سنوات".
بعد أن انجز غزالة دراسة الطب وعيّن طبيباً في الآستانة مشرفاً صحياً على جميع الولايات العراقية واتخذ مقره في مدينة الحلة. ثم أسندت إليه مهام صحية في طور سيناء، واسطنبول وطرابلس الغرب في ليبيا وباريس وطهران حتى عاد إلى مسقط رأسه بغداد عندما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها. ويذكر الربيعي في ص23 حول دور غزالة في مجال السياسة قائلاً: "فناصر بجد قيام المملكة العراقية في سنة 1921 ، وهلل لاعتلاء الملك فيصل بن الحسين عرش العراق، وخصه بقصيدة عصماء بعنوان (القصيدة الفيصلية)... والزمه الواقع الجديد أن ينخرط في الحياة السياسية بشكل مباشر هذه المرة، فانتخبه مسيحيو البصرة ممثلاً عنهم في المجلس التأسيسي العراقي في سنة 1923م... أصيب غزالة بمرض عضال اثر عمله المضني خلال سني حياته وتحمل المرض مدة طويلة بروح رياضية عالية، إلى أن وافاه الله في الثامن عشر من تشرين الأول سنة 1929، وله من العمر سبع وسبعون سنة قضى السنوات الأكثر في خدمة الطبابة".
نشطت حياته الفكرية والإبداعية بعد زواجه من زوجته الفرنسية، التي كانت مؤلفة وروائية ورسامة، فكانت حافزاً إيجابياً لتوجهه الأدبي. له كتب وكتيبات مطبوعة، في جوانب معرفية مختلفة، تتطرق إلى الاجتماع والأخلاق، ثم النظم السياسية، من أهمها: سوانح الفكر في ما يسامي العشق من عبر- طهران 1915، وسوانح الكلم- طهران 1915، والمعضلة الأدبية ومزاولة أصلها تاريخياً- بغداد 1927، والعشق الطاهر- 1925، والهوى- 1926، والحب البشري نظراً إلى الحياة الاجتماعية- 1926، وخلاصة الأدب الرياضي العملي- 1927، والأدب النظري العمومي- 1927.
نبيل عبد الأمير الربيعي
عبد الجبار الرفاعي: الإلهيات البيضاء.. الدين أنسنة وتمعـين
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. علي رسول الربيعي
ليس المقام بحثا أكاديميا، ولا تدقيقا معرفيا، ولا تحقيقا علميا، ولا توثيقا تاريخيا عن المدارات الكثيرة في مقالة حول عبد الجبار الرفاعي، وهو صاحب مقالة فعلا، لكننا في مورد الاشارة وبالأمارة الى محور القضية، قضيته: "الدين والتمعين".
اينما وليت وجهك قارئا نصوصا رفاعية، فثمة سؤال كبير تجد تفكير الرفاعي يدور حوله، وهو السؤال المحوري : ماذا يعني ان نفكر في الإسلام راهنا؟ انه السؤال الذي يوجه رؤيته، والإستراتيجية التي تحدد مسار تطبيق منهجيته. التفكير في الإسلام راهنا عنده يعني العودة الى البدء بالمعنى الهيدغري، العودة الى البدايات العظيمة، والذي يعرفها مفكرنا هي أن "يغور في الأعماق، مستلهمة المضامين الروحية الغنية في النص، ومستوحية دلالاته الرمزية ورؤيته القيمية، مثلما فعل العرفاء والفلاسفة الاشراقيون"، العودة للبدايات الخارقة للعصور، والخالقة للاصول.
التفكير في الإسلام اليوم من ما يعني في دلالته – أن ينبجس من أعماق الاسلام نزعة انسانية ايمانية تطابق روح العصر، ويتسع نطاقها ليشمل البشر كل البشر بما هم بشر، عابر لكل محدداتهم الإجتماعية التاريخية. إنها نزعة تتجلى بها القيم الروحية والأخلاقية . ومن هنا نجده يكتب نصا تمعينيا بأمتياز عن تجربة ذات تطوف في فضاء مذهب العشق عند جلال الدين الرومي، الذي يعده – الرفاعي، يفتح الروح على تمعين الوجود بوصال المطلق، واللافت هو ان تمتزج روح الرفاعي بفيض مولانا جلال الدين الرومي فتصير روحه موارة.
السؤال ماذا يعني الإسلام اليوم؟ يعني عند الرفاعي أن الإسلام يُفهم أولا بوصفه "يمر باوضاع تمعينية دائما في مسار التجربة التاريخية ولأثر المتلقين بإختلاف ظرفياتهم، مما يدفع الى أهمية الإعتراف بتاريخية ونسبية النتاج الفكري للعقل الإسلامي، ومن هنا الأختلاف عنده مع كل قراءة أستنساخية، قارة على تفسير واحد، ونمط تاريخي ثابت. فالإسلام اليوم، كما تفصح عنه نصوص الرفاعي، زحزحة للمعنى في ثبوت المبنى، لا تتعين حدوده بالتمسك بمقولات الكلام القديم ولا مدارسه المعروفة، ولا حتى مناهج الفقه عندما يكشف عن ما يسميه: "البنية العميقة والمضمرات والقبليات والمسبقات والمسلمات والمرجعيات الأعتقادية، الثاوية والمستترة في الذهنية الفقهية عند الأستنباط". وأصوله القائمة على آليات النظام المعرفي وعموم المقولات الأخرى الناشئة والمحكومة بحدودها التاريخية ومنها التعددية.
التفكير في الإسلام عند الرفاعي ياتي أيضا من موقع رؤية أنسية ايمانية مغايرة للقائم، مفارقة للحاصل، لا متساوقة مع السائد وللماضي عائد، تتجاوز طبقات الموروث وإستعادته صراطيا، اذ يرى في هذا انه قد "تحول التدين الى اعصار عاصف يجتاح الحياة، ويحطم كافة المكاسب التمدينية والحضارية والمعرفية للبشرية" فيبحث عن معرفة مطابقة لروح العصر ومتطلبات الانسان المعاصر. يقول الرفاعي: "ان تشكيل معرفة دينية موائمة للعصر يتوقف على إعادة بناء لاهوت جديد، أو فلسفة دينية تحدد لنا مكانة الانسان في العالم، ونمط الصلة بينه وبين الله، وحقيقة الدين، وحدوده، ومجالات التدين، وطبيعة الظاهرة الدينية".
إن من يتفحص نص الرفاعي يجده مهتما بنقد العقل الدوغمائي / الأرثوذكسي / اليقيني / الوثوقي / الواحدي، من أجل أعلاء أهمية التعددية، وتعدد التـاويلات، وحق صراع التفسيرات – على رأي ريكور، لتعدد فهوم حقيقة الدين. إن تفكره في / وبحثه عن تأسيس أرضية فكرية للتعددية هو الذي جعله يهتم بفلسفة التاويل بوصف العملية التأويلية تسهم في تقويض واحدية المعنى واحتكار الحقيقة، إنها تخليص للفكر من سلطة التفسير الواحدي والمطابقة التامة بين اللفظ والمعنى، إنها سبيل لإنفتاح العقل وتوسيع حدود الفهم، وتجبرنا على الإعتراف بالنسبية وإننا محكومين بالصيرورمة التاريخية.
بوصف التاويل، في طيات أقواله وتصرحات مقالاته، عملية معرفية، منهجية تسهم في تقويض واحدية المعنى واحتكار الحقيقة، إنها تخليص للفكر من سلطة التفسير الواحدي والمطابقة التامة بين اللفظ والمعنى. إنه يعده سبيلا لإنفتاح العقل وتوسيع حدود الفهم وتجدده. إن أحد أبعاد غاية قوله، لا كل الأبعاد في نصه متعدد الأبعاد، أن لا يوجد من بين البشر مهما علا شأنهم في مسالك التدين من له القدرة أو يدعيها: معرفية بُرهانية صارت، أو بيانية كانت، أو عرفانية دارت، أن يؤكد بما لايدع للشك والريب مجالا أن تصوره عن الدين هو جوهر ذلك الدين المطابق لحقيقته الربانية المطلقة.
ما يشغل وعي الرفاعي هو تحديث فهم الدين في زمن الحداثة، وفي مجريات قراءت نصوصه وتأويلها لتبرز في ذهن قارئه عديد السـؤال لتعدد المقال. الرفاعي كثير المقال وكثيفه في مايفكر فيه، والتفكير معه – أي الرفاعي – ســهميا،كما ينصحنا الطالبي بوصف السهمية منهجا – الأنطلاق من نصه كأساس للتفكير وقاعدة تضبط البنية المعرفية للتفكير، واتجاه مسـار سهم التفكر معه، تستثير أسئلة متجددة في فكر الرفاعي، مثلا: ماذا تعني الحداثة في سياق فهم الدين؟ ماذا تعني العقلانية الدينية بوصف العقلانية مقوم أساس للحداثة؟ ماهو نمط العلاقة بين مذهب العشق الموار في قلب الرفاعي والعقلانية الحداثية في صلتها بالدين اليوم؟
يرى الرفاعي في التعددية نقدا للذهنية السلفية التي تزعم بالعودة لإسلام "أصيل"، " نقي"، لا يتأثر بالواقع والزمان والمكان والتاريخ، عابر للعصور. السلفية في حقيقتها تسجنه، تسيجه، تحبس داله بمدلول عصر بعينه، مما يفقد "الإسلام" إسلامها قدرته على أن يفيض بمعنى على تعدد الإجتماع وتاريخه، وأختلاف حاجات الوجدان في كل عصر. وعن هذا يقول الرفاعي: "ان التفسير الحرفي المغلق يفترض وجود فهم واحد للنص، هو الفهم الذي قالت به الجماعة الأولى من السلف، ولا يحتمل النص أي تأويل أو تفسير يخرج عن ذلك الفهم، ويعلن رؤية مغايرة له، ذلك أن مواقف وفهم السلف هي وحدها تمثل المشروعية المقدسة لدى من يتبنى هذا التفسير".
إن من يقرا نص الرفاعي يجده يعطي للدين وظيفة انتاج المعنى، ويشدد على أن الدين يفيض على الذات معنى تفتقر إليه، ليتحد الذاتي / الرمزي، ودور تنوير المنير، اضاءة المظلم من حياة الانسان، وكشف الجمال في الوجود؛ فالدين يملأ روح الانسان بالقيم الرفيعة السامية التي تدفعه الى مواصلة الحياة بكل مشاغلها وعلاقاتها وأبعادها، أي أنه يقدم له معنى لحياته ووجوده؛ كذلك يقدم له جهازي تفسير وتأويل؛ كما يخترق مجال الخيال، فيشكله ويعيد تكوينه، بوصف حياة الانسان مشبعة بالرموز، الدين يستلهم دلالات الرموز في الوجود فيستقي منه المتدين سلسلة لا تنضب من المعاني لوجوده ووجود العالم، ويجد عن سؤال الانطولوجيا جوابا لماذا كان الوجود أصلا.
يؤيد الرفاعي الرأي، أن التدين حالة أنثروبولوجية، تروي لدى الانسان توقا روحيا، لأنه يرى الإنسانَ كائنا دينيا بالفطرة، وهذا ما تؤكده دراسات علم النفس والاجتماع والتاريخ البشري؛ فالدين يضفي المعنى على ما لا معنى له، المهمة المحورية للدين انتاج المعنى أي تمعـين الحياة. وعلى الرغم من أن الدين يحمل بين طياته هذه الأبعاد المعنوية والجمالية التي تحفز على مواصلة الحياة بالأمل، الا أن من يوظفه أيديولوجيا يحوله الى مجرد عربة في قطار السياسي، فغُـلبت الجوارح على الجوانح، واصبح وقودا في الصراع، ومناسبة لبعث الكراهيات وأعادة انتاجها بين الناس.
لتفادي مخاطر الوقوع في براثن تسنين العقيدة على الطريقة القادرية وللافلات من هذا المصير، دعى الرفاعي الى النقد والتفكير للانتقال الى عصر جديد، باثارة: أسئلة منسية، أسئلة جريئة، أسئلة كبرى؛ فالتفكير ينبغي أن يكون تساؤليا للوصول الى ماهو ممنوع التفكير فيه. ومن هنا دعوته الى النقد، تعني الحاجة الى مثقف نقدي منهمك بتفسير العالم، ويتغلب على سجون الايديولوجيات بالتحرر من الأحادية، والجرأة على الاحتجاج على الواقع لنقد الموروث وتقديم مفاهيم ورؤى جديدة على كل الاصعدة.
يتحدث الرفاعي بلغة التنوير الكانطي فيقول: ان الحرية ليست رخصة بل هي مسؤولية، إذا كنت لا تستطيع الأمساك بزمام تلك المسؤولية فسيأخذها أحد ما بالنيابة عنك .. عندها تبدأ عبوديتك، المهمة التنويرية التي نلمسها عنده لا تتطابق ضرورة مع مفهوم التنوير الغربي وتجلياته في تجربته التاريخية، ولا في طريقة تناوله الظاهرة الدينية، ولكن بالتأكيد تجده يستلهم النسغ الحي من منجز التنوير في بعده الأنساني، ومن هذا تأتي دلالة نقده للذهنية التي تتقبل الطاعة بدون تمحيص عقلي، فيرى من المهام المطروحة على "التنوير الإسلامي" اليوم هي تغيير هذه العقليه، وتهذيب هذه النفوس التي تعودت الطاعة. وايضا نقده الصارم والقوي للمحاولات التي تسعى الي استعباد الاخر، وجعل الدين اداه لجرائمنها الكبرى. ولإنقاذ العالَم الغارق في فوضى التقاتل باسم الدين يدعو الرفاعي إلى إحياء النزعة الإنسانية التي هي أساس الدين، عن طريق إحياء التجارب الإيمانية الشفافة، والتي يمثلها روحيا العرفاء أحسن تمثيل.
إن ما يلفت النظر في فكر الرفاعي، من جملة اللافت، هو أهتمامه بقضية غياب مبحث الأخلاق في الفكر الإسلامي، الأخلاق هنا لا من منظور العادات والتقاليد والأعراف التي تُـتبنى في المجتمعات التقليدية على النواهي والأوامر، ولكن، طبقا لرؤيته، الأخلاق بالمعنى الذي يحكم به العقل العملي "الأخلاقي"، والذي يبحث في الشأن الإنساني المشترك، إنطلاقا مما يميزه أصلا وفطرة كإنسان. يرى الرفاعي ان الأخلاق كعلم مستقل تأخر ظهوره عند المسلمين كثيرا، ولم يبدأ إلا في القرن الرابع للهجرة مع مسكويه، لكن لم يشهد تأسيسا حقيقيا وجهودا متواصلة، حتى في هذا العصر، لقد ظل هذا العلم مهملا، على الرغم من حاجة المجتمعات المعاصرة الغارقة في فوضى المعتقدات، إلى جهود واجتهادات تمد الأنسان بالقيم الاخلاقية والمعنوية للتخفيف من حدة آلامه.
ينظر الرفاعي الى النقد بوصفه عملية تفكير تعتمد بشكل اساسي على المراجعة والتقويم، وهو علامة التفكير بحرية، وأن النقد هو جوهر الفلسفة والفكر الحديث والمعاصر .. من أعمق الآراء التي يطرحها الرفاعي هو إعتباره ان ليس هناك فكر منفصل عن النقد، وانما الفكر روحه النقد، فالعملية النقدية غير مستقلة عن الفكر. بالإضافة الى موقفه أو تصوره لمهمة المثقف أو دوره ووظيفته. انه يعني بــ "المثقف النقدي، الذي ينشغل بتفسير العالم، … ويتحرر من رؤية العالم بمنظور أحادي … مهمته المحورية هيً التنوير".
وها هو الدكتور / المفكر الرفاعي يقوم بممارسة ما يضعه نظرا. والحقيقة أن هذه القوة الخلاقة لمفاهيم النزعة الإنسانية الايمانية الأخلاقية، والنقد العقلاني في فكره فتحت الباب أمامه ووضعته في أعلي مراتب المثال العلمي والأخلاقي.
د. علي رسول الربيعي
باحث وأكاديمي عراقي، حاصل دكتوراه في الفلسفة، كينكَز كولج / جامعة إبيردين، بريطانيا. باحث في جامعة إبيردين، وجامعة كوينز ميري. مختص في الفلسفة والفكر السياسي المعاصر. له كتابات عديدة منشورة في الصحف والمجلات العربية. شارك في مؤتمرات وندوات فكرية وفلسفية في عدة بلدان.
الولايات المتحدة تعد خططاً لبناء محطة نووية على القمر
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عادل حبة
التحدي الرئيسي للدول الكبرى الأخرى
بقلم بول أنتونوبولوس
المصدر:Global Research
ترجمة: عادل حبه
التنافس على القمر
أعلنت الولايات المتحدة من خلال توجيهاتها المتعلقة بسياستها في الفضاء رقم 6 (SPD-6)، عن خطط لإنشاء محطة طاقة نووية على سطح القمر بحلول عام 2027. وينص التوجيه SPD-6 على أنه سيتم تثبيت نظام طاقة انشطاري في القمر سيكون له قدرة على توليد طاقة تصل إلى 40 ميغا واط كهربائي وأكثر، بحيث يمكن للجرم السماوي أن يدعم الوجود المستمر على سطح القمر، ويسمح باستكشاف المريخ بسهولة أكبر.
وذكرت صحيفة "جلوبال تايمز" الصينية أن طموحات الولايات المتحدة ستؤدي إلى إقامة مشاريع عسكرية مستقبلية على القمر ضمن سعيها للتفوق في السيطرة على الفضاء. وبحسب سونغ تشونغ بينغ، الخبير العسكري الصيني، فإن القمر غني بالهيليوم -3، الذي يمكن استخدامه لإنتاج الطاقة عن طريق الاندماج النووي. وحذر سونغ من أن إنشاء محطة للطاقة النووية، يمّكن الأمريكان نظرياً تحويل القمر "إلى موقع لإنتاج الأسلحة النووية".
لقد أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، كما ذكرت صحيفة Eurasian Times، التوجيه المعنون SPD-6، الذي يضع استراتيجية وطنية للاستخدام الفعال لأنظمة الطاقة النووية والدفع (SNPP) في الفضاء. وسلط لي هايدونغ، الأستاذ في معهد العلاقات الدولية بجامعة الشؤون الخارجية الصينية، الضوء على أن استخدام SNPP هو محاولة لفرض "الأحادية الأمريكية" على الفضاء. ولكن وفقاً لمعاهدة القمر، التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1979، فإن الأجرام السماوية والقمر "لا تخضع للملكية القومية بدعوى السيادة أو عن طريق الاستخدام أو الاحتلال أو بأية وسيلة أخرى". والتزمت واشنطن عموماً بمعاهدة القمر، لكنها لم توقعها أو تصدق عليها رسمياً.
وفي وقت سابق من هذا العام، حاول ترامب تجاوز هذه المعاهدة من خلال اقتراح قواعد جديدة، أطلق عليها اسم "اتفاق أرتميس"، والذي من شأنه تغيير الوضع الراهن. وسيسمح اتفاق أرتميس للولايات المتحدة باستغلال الموارد القمرية لتحقيق مكاسب تجارية والتركيز على إنشاء ما يسمى بمناطق الأمان حول مواقع الهبوط. ويمكن تفسير ذلك على أنه ملكية فعلية لمناطق على سطح القمر، تحظرها معاهدة الفضاء الخارجي التي تنص على إطار أساسي لقانون الفضاء الدولي.
بالإضافة إلى ذلك، أصدر ترامب في السادس من نيسان عام 2020 مرسوماً يسمح للولايات المتحدة باستخراج الموارد المعدنية من الفضاء الخارجي. وتنص الوثيقة على ما يلي: "يجب أن يكون للأمريكيين الحق في الانخراط في الاستكشاف لغرض التجارة واستعادة واستخدام المصادر في فضائنا الخارجي، بما يتفق مع القانون المعمول به. فالفضاء الخارجي هو مجال فريد من الناحية القانونية والمادية للنشاط البشري، والولايات المتحدة لا تنظر إليه على أنه مشاع عالمياً".
ويضيف: "لا تعتبر الولايات المتحدة اتفاقية القمر أداة فعالة أو ضرورية لتوجيه الدول القومية فيما يتعلق بتعزيز المشاركة التجارية في الاستكشاف والاكتشاف العلمي واستخدام القمر أو المريخ أو غيرهما على المدى الطويل. وأخيراً، تؤكد الوثيقة على أن الولايات المتحدة سوف تتصدى لأية محاولة من قبل دولة أو منظمة دولية أخرى تريد التعامل مع اتفاقية القمر على أنها قانون دولي عرفي.
ومع تخطيط الولايات المتحدة لانتهاك المعاهدات الدولية في استغلال موارد الفضاء بشكل أحادي وبناء محطة نووية على القمر، يصبح من الواضح السبب الكامن وراء تشكيل ترامب لما سمي بقوة الفضاء الأمريكية (USSF)، وهي فرع الخدمة الفضائية للقوات المسلحة الأمريكية. لدى كل من روسيا والهند والصين مصالح على القمر أيضاً ، ولكن تم إنشاء USSF لضمان هيمنة الولايات المتحدة على منافسيها في الفضاء.
لقد أطلقت الهند في عام 2019 قمراً روبوتياً Chandrayaan 2 بهدف الهبوط على القطب الجنوبي للقمر من أجل إجراء البحوث حول المياه والمعادن. ولم تصل قبلئذ أية مركبة هبوط أخرى إلى هذا الجزء من القمر. ولسوء الحظ بالنسبة للهند، فشلت عملية الهبوط بسبب خلل في البرامج. لكن هذا لم يردع الطموحات الهندية، فمن المقرر أن يهبط Chandrayaan-3 على سطح القمر في الربع الثاني من عام 2021.
وفي الوقت نفسه، أطلقت الصين القمر الروبوتي Chang’e 5 في 23 تشرين الثاني الماضي من موقع إطلاق مركبة الفضاء Wenchang، وهبط على سطح القمر في الأول من كانون الأول. وبحلول السادس عشر من كانون الأول، عادت المركبة إلى الأرض مع عينات من تربة وصخور القمر. وكانت هذه أول مهمة لإرجاع العينات في الصين، مما جعلها الدولة الثالثة بعد الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تحصل بنجاح على عينات من القمر.
وستعود روسيا إلى القمر بعد 45 عاماً من توقف نشاطها. وأعلن فلاديمير كولميكوف، رئيس جمعية لافوشكين العلمية والإنتاجية في وكالة الفضاء الروسية روسكوزموس، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمر في العاشر من نيسان إرسال: "مركبة الفضاء لونا -25 ، وهي حالياً في مراحل التجميع والتجربة الأولى. وهناك بعض مشاكل التعاون لكننا نعمل على حلها. آمل أن يتحقق الهدف في عام 2021 والمتمثل في إطلاق Luna-25 ".
إن كل القوى العظمى في العالم (الولايات المتحدة وروسيا والصين)، والقوة العظمى الناشئة الهند، لها مصالح راسخة في الفضاء والقمر، لذا فإن بناء محطة نووية على الجرم السماوي يمثل تحدياً كبيراً لأنه سيدفع السباق قدماً إلى الأمام على موارد القمر والخطط في الإستفادة منه لأغراض عسكرية. وستحاول جميع البلدان المطالبة بحصتها من أجزاء من القمر من أجل التعدين، وهو على غرار ما تطالب به أوروبا الغربية للسيطرة على إفريقيا أو المطالبة بمساحات كبيرة من القارة القطبية الجنوبية. تحاول الولايات المتحدة الهيمنة على سياسات الفضاء من وجهة نظر ضيقة للغاية، تتمحور حول وجهة نظر الولايات المتحدة القائمة على أن الفضاء إرثاً مشتركاً للبشرية. ويمكن لروسيا والصين والهند أيضاً المطالبة بمساحات شاسعة من القمر كرد فعل على الأنشطة أحادية الجانب للولايات المتحدة، وبالتالي يكتسب"التدافع على القمر" أكثر أهمية في المستقبل القريب.
القصيدة علاقة سياقية بين تداولية الملفوظ وحجب المضمر الدلالي
- التفاصيل
- كتب بواسطة: حيدر عبد الرضا
دراسة في عوالم شعر علي الإمارة، الفصل الثاني ـ المبحث (3)
توطئة:
إن علاقة الذات الشاعرة بالمنظور الملفوظي لديها، يشكل أكثر من علاقة انشائية وتصويرية ناتجة عن أفق محاور الأشياء الوجودية، بل أنها علاقة وصلة من طرف الشاعر في البحث في غياهب المحاور والدلالات المضمرة من الوجود اللامرئي للأشياء وحالاتها. أما كيفية التقاط ذلك الغياب المسكوت عنه في قيمة المضمر من دلالات النص الكبيرة، فهذا الأمر يعتمد بدوره على أبعاد حسية المخيلة الناشطة في مكنون أسرار وصنعة أدوات خطاب الشاعر المحترف، وليس الشاعر التقليدي الذي يتعامل مع حالات الأشياء وكينونتها ضمن دوال لفظية عابرة ومضطربة.
ـ الخطاب الشعري بين بنى التفاعل وخلفية رؤية النص.
أن القراءة إلى عوالم تجربة الشاعر علي الإمارة في مجموعته الثمينة (حواء تعد أضلاع آدم) ربما عند التحقيق في نصوصها يساورنا هذا السؤال: هل أن العلاقة الدلالية في عوالم الشاعر الإمارة تقتضي حالة من التطابق بين العنصر المحيل والعنصر المحال إليه من ناحية المخصوص الدلالي بذاته من حيث منهجية التأويل ؟ بل أننا وجدنا في قصائد مجموعة (حواء تعد أضلاع آدم) تلك المعاودة الصياغية في صناعة وإنشاء العلاقة السياقية التنافذية، إي من ناحية الإحالة النصية بوصفها غاية منجزة في روابط وسائل النص المرجعية ـ السياقية:
لكني لابد أن أعدَّ أضلاعك
كل ليلة..
حفاظا على كنز أنوثتي
و احتفاء ببقائي
فلن اطمئن وفي صدركَ
أضلاع أخرى
الأضلاع الدهشة والرعشة
الأضلاع الأمل
الأضلاع الخيانة
فأين تهرب من ظمأي
أيها الماء القديم
يا ماء التفاحة
وملامحَ الطوفان. / ص21 قصيدة: حواء تعد أضلاع آدم
يجتمع في هذه المساحة من حركية الدوال، ثمة علاقة سياقية متداخلة ومتواترة في مرجعية واصلة محكومة بمواقف ميثولوجية متخيلة في حدود من التحول الدلالي والإمكاني المتماثل في جملة (لكني لا بد أن أعد أضلاعك) بوصفها قابلية احصائية مرجعية من شأنها التعامل مع مكونات ـ حواء ـ كحقيقة مرجعية تتكونها مجموعة من أضلاع الرجل الواهنة، لذا فإن العملية الأحصائية المقصود من وراءها هنا هي القيمة البحثية في مفقودات الأضلاع الأخرى من جسد آدم والتي تتركز من خلالها حظوظ حواء كعلامة تقويمية لخلقها (كل ليلة ـ حفاظا على كنز أنوثتي ـ فلن أطمئن وفي صدرك أضلاع أخرى) ويمكننا فهم مقصودية جملة (أضلاع أخرى) الأهمية الأخرى المعقودة من صفات دال حواء ـ لذا يترتب على كينونتها الناقصة البحث في الأجزاء الأخرى من حظوظها المفقودة في جسد آدم. والملاحظ على الاستخدام القديم للأساطير والرموز المرجعية الدينية، على أنها تتعامل مع الأجزاء العضوية كاستخدامات رمزية مجملة، كما أنها تعاملات جزئية في الآن نفسه، فما كان للشاعر والشعر إلا أن يكتشف ببعدها المتخيل والمتحول في الاستعانة السياقية المرجعية إلى مؤشرات محمول زمن شعرية التصوير. وهذا ما وجدناه في جمل النص: (الأضلاع الدهشة والرعشة / الأضلاع الأمل / الأضلاع الخيانة) ثم وصولا منها إلى خيارية اللاواقع واللابديل دون محددات واعترافات حواء المتوعدة بمكونات آدم: (فأين تهرب من ظمأي ـ أيها الماء القديم ـ يا ماء التفاحة ـ وملامح الطوفان) وتتشاكل العلاقة الماضوية المعاينة في حدود شعرية السياق المرجعي نحو تحقيق خلوصات محققة في زوايا التركيب الآدمي، فالشاعر الإمارة جعل من مظاهر مادة الخلق ك (أيها الماء القديم) كواصلة مدلولية نحو دلالة (ماء التفاحة)، اقترانا بحكاية سفينة نوح والطوفان، وما تتخفى من وراءه ملامح أفعال وذوات الأرحام وتلويناتها المرتبطة بأصل دليل الخلق:
يا خشب َ السفينة
و رمادَ السؤال
يا حبيبَ الجنة
و رفيقَ الكهوف
يا قلقَ العروش
و ترابَ الملاجىء
أين تضعني الآن
بعد أن امتلأتْ خطاك بالوقوف. / ص 22 قصيدة: حواء تعد أضلاع آدم
أن تمفصلات بنيات شعرية الإمارة في أسلوب الوظيفة السياقية، قد لا يمكن تقديرها بكلمات عابرة في قراءة نقدية بسيطة بل أن أمر هذه التجربة وتأريخها الخصب، يتطلب من الدارس والباحث تأسيس آليات منهجية نقدية شعرية جديدة لها، أردت أن أقول أن بنيات الدوال في مشغل شعرية الإمارة، وتحديدا في مجموعته الثمينة (حواء تعد أضلاع آدم) ما هي إلا جملات انتقائية ادائية يصعب علينا مقاربتها مع أي تجربة شعرية منجزة في جيل الشاعر الثمانيني. حاولنا بدورنا تسليط الضوء على نماذج من نصوص هذه المجموعة الشعرية، فأخترنا لها ذلك المحور المبحثي المكرس بصورة خاصة نحو دراسة العلاقة السياقية ـ المرجعية، الكامنة ما بين الذات الشعرية إلى جانب بحثها في الوجود الدوالي والدلالي المضمر من على شاشة القراءة الأولى إلى نصوص الشاعر، وذلك نظرا إلى مستوى سمو أدوات وموهبة ومخيلة الشاعر، التي لا يمكننا كقراء لها دراسة أبعادها الدلالية بطريقة عفوية وعابرة وغافلة. وعلى هذا النحو فأن جملة (يا خشب السفينة) وجملة (رماد السؤال) تفتح لذاتهما أفقا سياقيا مخصوصا نحو مرحلة حكاية سفينة نوح القرآنية وطوفانها، وهذا الأمر بذاته ما راح يحفز إمكانية الدلالات الشعرية في النص، اقترانا له بذلك التواصل الخلقي الأول، وبحكم كونه النبي الأول كمصدرا لأنبعاث البشرية جمعاء، وعلى هذا النحو وجدنا سلسلة العلاقة السياقية في النص تتخذ لها من الملمح التناصي المرجعي دليلا ممتدا نحو مواقف كبيرة من الطابع التصويري والتعددي الاسلوبي في جمل السياق: (السفينة ـ السؤال ـ الجنة ـ الكهوف ـ العروش ـ الملاجىء ـ خطاك) بمعنى ما أن الراوي الشعري حاول التوصيف مظاهر الأبعاد المكانية والزمانية في تلفظات ذات وشائج حسية خاصة بمواقع الهيئة الأحوالية الضامرة لشكل العلاقة الواقعة ما بين (آدم = حواء = مرجعية السياق) فالشاعر بعد أن راح يطابق بين موصوفه القصدي وأبعاد اللحظة المصورة، فما كان عليه لاحقا سوى توكيد مستويات التشكل في المتواتر السياقي، كحال هذه الوحدات من النص:
فما زال بين حذائك وقبعتك
متسع للنبوءة
تسلق لبلابي وعاقر ثناياي
و أخرج من صدأ الأيام
لهفة مفاتيحي. / ص23 قصيدة: حواء تعد أضلاع آدم
فالمتحدث ها هنا بضمير المتكلم هو بمثابة نموذج القناع المتمثل بشخصية حواء صوتا ورمزا بالزمن الأحوالي، لتغدو دالا في مزايا اللحظة الشعرية الدالة تفاعلا مع مفاتيح الاستجابة الممكنة ووجه تعييناتها الاستعارية في صورة المرسلة القناعية.
ـ الأنا الشعرية بين أغنية الشاهد ومضمر التجديف الزمني.
توافينا من ناحية أخرى دلالات قصيدة (أغنية القتلة) بذلك االمؤشر الامكاني المتوحد وهوية الذات الشعرية الموغلة في مدار هيمنة وحدات ذروة الإيقاع الزمني الوافد في خلجات ومحدثات خطاب النص.. ولأنها شعرية تتسع لأبعد مدى من فضاء المحذوف المقطعي، لذا وجدنا مستهل ملفوظها ملوحا نحو فضاء رمزية المسكوت عنه من الوجود الآخر:
أغنية القتلة..
أنا
صوتي
الذي كان يركض
في الوحول
بحثا عن
شمس سواداء
كان فؤاد قصيدتي
فارغا
مفتوحا... للداخلين
ومتسعا
للعواصف. / ص54 قصيدة: أغنية القتلة
أن رؤية الشاعر الإمارة إلى لقطات هذا النص، يترشح من خلالها تلك الحدود من مسميات تقانة المحذوف والتعمية، مما يجعل أحوال الدوال تتلمس لها في ملفوظها قيمة إحالية تعمل بإتجاه فتح الصور من حيز اللامرئي حيث هواجس الشاعر في أحوال النص: (أنا ـ صوتي / الذي كان يركض ـ في الوصول) أن تمحورات هذه الفواعل من الدلالة، تبدو وكأنها الاستعارة اللغوية الحاصلة في منظومة التقاط ديمومة المضمر من المرئي والتقاط اللامرئي من العدم تباعا مع دوال أسئلة وجود الأشياء من حول الشاعر ذاته، لذا فأنها في الوقت نفسه شبه معللة نحو ملاذات القلق وحالة الوصول أو اللاوصول إلى أفق السؤال، وذلك لأننا وجدنا صيغة المركز العنواني ـ النواتي الأول من النص ـ شبه إجماليا وليس محددا في مسار فعل المحدد من حال الضمير الأنا المتصدر في الجزء اللاحق من سياق النص. وعلى هذا النحو تبقى جملة العنونة (أغنية القتلة) بمثابة الصيغة المقاربة في المحسوس أو اللامحسوس من حجب ووصولات دلالة النص الجزئية. ولكننا عندما نتابع دلالات جملة (بحثا عن شمس سوداء)و جملة (كان فؤاد قصيدتي فارغا) وجملة البياض التوسطي (مفتوحا... للداخلين) نفهم هنا بأن انحسار أفعال الذات الشعرية، يشكل في دلالة النص بما يقارب القطيعة المتمركزة وحالات ذلك الوجود المتأزم الذي يحيط بأفعال وصفات وأحوال النص والذات الشعرية، الأمر الذي راح يقودنا نحو دلالة جملة (متسعا للعواصف) أي بمعنى ما راح يتجلى لنا من حيز حدود الضيق، ذلك السؤال للشاعر في حجب المخبوء من تفاصيل قلق السؤال ومكابرات وصولات الذات الشاعرة:
و يا للأسف
لم يحظ قلبي
بهبة نسيم
ولا شهقة عشب. / 55 قصيدة: أغنية القتلة
من هنا تبقى مؤهلات خيبات الشاعر من جراء مناخات موضوعة القصيدة المضمرة، بمثابة الخلاصة المأساوية بدلالة تبدد أحلام وأفئدة الشاعر عبر محاور الدوال من حوله ب (حتى النساء الحميمات.. لم يجدن.. ملاذا أمنا.. في زواياه) لهذا صرنا نعاين أخيرا تحولات أداة النص عبر مستلزمات تطهير قلب الشاعر من أهوال وخرائب فصول الأفعال الشعرية السالفة بأداة جديدة من الكلمات والدوال الشعرية الرائقة:
تفريغ قلبي من العواصف
أنظّفُ..
بمكنسة الكلمات
بقايا
الأحتفال الوحش
في جوفي. / ص56 قصيدة: أغنية القتلة
ـ تعليق القراءة:
حاولنا في مبحثنا هذا أظهار مساحة العلاقة السياقية عبر وظيفة أداة التجربة الشعرية لدى الشاعر، إذ هي تدخلنا في مجاهيل الوجود اللامرئي من الأشياء التي لا تتيح لقارئها لمعرفتها في الوهلة الأولى من قراءة النص، إلا أن هذا القارىء قد يستفهم تلميحاتها وإيحاءاتها ومقاصدها وعلاماتها المحبوكة عبر لغة تداولية الملفوظ في أحوال النص، وصولا لنا إلى فهم لغة الشاعر التصويرية الحاذقة ظاهرا وباطنا والتي تتوارى من خلفها حجب الوجود القصدي والإيحائي الثمين، فيما تبقى كشوفات العلاقات السياقية في القصيدة تعلن عن ذاتها عبر ذلك التحول الثيماتي المضاعف في تقديم أشكال خاصة من المسكوت عنه بأدوات جادة وجديدة من مؤثرات النموذج الشعري.
حيدر عبد الرضا
ايران تستنجد بروسيا لتجديد "الاتفاق النووي"
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. كريم المظفر
مرة أخرى تثبت طهران ان تصريحاتها "الطنانة" وتهديداتها بشأن زيادة عمليات التخصيب في مفاعلاتها النووية الى نسبة 20%، ستعجل من إمكانية انسحابها من "الاتفاق النووي" الدولي الذي انسحبت منه إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب، بل على العكس زادت من " طينة الاتفاق بلة "، وارتفعت تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن بشأن عدم إمكانية العودة الى الاتفاق السابق، مالم يتضمن فقرات جديدة في مقدمتها وقف ايران عمليات التخصيب والعودة الى فترة توقيعه، وتضمين برنامج تطوير الصواريخ الإيرانية والأنشطة الإقليمية، وتشمل هذه الأنشطة دعم الوكلاء في النزاعات التي تهم دول مثل العراق ولبنان وسوريا واليمن، وثبتت هذه التصريحات بأنها ما هي إلا " عنتريات فارغة "، وأنها تسعى بكل السبل للعودة للاتفاق، لذلك لم تجد ايران الا روسيا التي زارها رئيس المجلس (البرلمان) الإيراني محمد باقر غاليباف في زيارة استغرقت ثلاثة أيام من 7-9 فبراير الجاري، كملاذ لها، لنجدتها والتحرك مع الاوربيين للعودة للاتفاق .
الزيارة مهمة بالنسبة للجانبين، فالمسئول الإيراني جاء الى موسكو رافقه السفير رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في المجلس مجتب زونور وممثله الرسمي أبو الفضل أمويي ورئيسي اللجان النيابية للطاقة والزراعة فريدون عباسي وسيد جواد السادات نجاد، حاملا معه رسالة من المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي الى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، (لم يتم الكشف عن محتوى الرسالة)، الذي رفض بحسب التسريبات الإعلامية لقاء الوفد الإيراني، رغم أهمية الرسالة التي تؤكد على الطبيعة الاستراتيجية والقوية للعلاقات بين طهران وموسكو، وتسلمها بالنيابة عنه رئيس مجلس الدوما فياتشيسلاف فولودين.
المصادر الإعلامية الروسية ومنها موقع (فوكس) نقل عن مصادر إعلامية إيرانية، قولها ان الجانب الروسي رفض عرض إيران إجراء اختبار فيروس كورونا للمسئول الإيراني في مطار طهران، وطالبت السلطات الروسية، عند وصوله إلى روسيا، بالخضوع للحجر الصحي لمدة 15 يومًا من أجل عقد مثل هذا الاجتماع، واضطر المندوب الايراني الى الغاء الاجتماع" رافضا الانصياع للشروط الروسية "، ووفقا للموقع فان المخاوف الروسية جاءت بسبب أنه في أكتوبر من العام الماضي، حيث اجتاز محمد باقر غاليباف اختبارًا إيجابيًا COVID-19، واقتصرت لقاءات الوفد على لقاء رئيس مجلس الدوما فياتشيسلاف فولودين ووزير الخارجية سيرغي لافروف وسكرتير مجلس الأمن نيقولاي باتروشيف.
أهمية المحادثات التي اجراها الوفد الإيراني في موسكو، وان كانت ظاهريا مكرسا لتعزيز العلاقات الثنائية في المجالات الاقتصادية والتعاون في مجال مكافحة فايروس كورونا، لأنها تقوم بحسب راي الجانبين على نهج استراتيجي طويل الأمد، وبناءً عليه، تفاوض برلماني البلدين وتعاونهما هو من أجل تعميق أسس هذه العلاقات كما حاول المسئول الإيراني تبريرها، وان الغرض الرئيسي من الزيارة هو مناقشة التعاون بين موسكو وطهران في مجالات الاقتصاد والرعاية الصحية.
إلا أن أساس هذه المحادثات، هي البحث عن دور روسيا في أقناع الولايات المتحدة للعودة الى خطة العمل الشاملة المشتركة للبرنامج النووي الإيراني (JCPOA)، وتنسيق مواقف البلدين لاحتمال عودة الولايات المتحدة إلى الخطة، وبحسب رئيس الوفد الإيراني فإن العلاقات مع موسكو ذات أهمية استراتيجية بالنسبة لإيران، وإن اختيار مثل هذا الرسول كما يرى الخبراء والمراقبون الروس، لا يفسر فقط من خلال مكانة (غاليباف) في التسلسل الهرمي للسلطة الإيرانية، وإنه أحد السياسيين المحافظين - من أشد المؤيدين لمسار علي خامنئي، إذا فاز الإصلاحيون في 2016 في انتخابات المجالس على موجة النشوة التي سببها إبرام "الصفقة النووية"، بحصولهم على 42٪ من المقاعد، فإن الوضع قد تغير بعد أربع سنوات، أجريت الانتخابات العادية في فبراير 2020، نتيجة لذلك، أصبح البرلمان الإيراني تحت السيطرة الكاملة للمحافظين - أصحاب العقول المتشابهة في غاليباف، ومن المفارقات الآن أنهم، الذين دافعوا في السابق عن التشدد في العلاقات مع الولايات المتحدة، سيتعين عليهم التفاوض مع الأمريكيين جنبًا إلى جنب مع الرئيس الإيراني الأكثر اعتدالًا حسن روحاني.
صحيفة " نيزافيسيمايا غازيتا" ونقلا عن مصادر إيرانية كشفت، ان الرسالة الإيرانية تضمنت توجيه المرشد الأعلى لإيران، الشكر إلى الاتحاد الروسي وجمهورية الصين الشعبية على موقفهما العادل بشأن" الاتفاق النووي – "، وان الأمر يتعلق بدعم موسكو وبكين لمسار الحفاظ على خطة العمل الشاملة المشتركة، التي وقعتها إيران في عام 2015 مع الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وألمانيا، في عام 2018، وانسحبت الولايات المتحدة من "الاتفاق النووي"، والامل في " أن تظل روسيا والصين في مواقفهما القانونية القوية ضد تصرفات الولايات المتحدة وأوروبا".
ويؤكد المراقبون الروس من جانبهم أنه لن يكون من السهل على الأمريكيين والإيرانيين العودة إلى "الاتفاق النووي"، وانه منذ مايو 2019، بدأت إيران تدريجياً، خطوة بخطوة، في انتهاك متطلبات" الاتفاق النووي "، وبشكل عام، عادت الآن عملياً إلى حالة برنامجها النووي قبل" الاتفاق النووي "، و في بعض الجوانب حتى تجاوزت ما كانت عليه، حتى عام 2015، وبدأ الوضع في الظهور عندما تنتظر إيران والولايات المتحدة تنازلات من بعضهما البعض، ويرى فلاديمير سازين، كبير الباحثين في معهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية أن المشكلة الرئيسية الان هي في واشنطن وطهران، وأن الثقة بينهما باتت عند الصفر، وربما يمكن للاتحاد الروسي والاتحاد الأوروبي أن يصبحا بطريقة ما وسطاء في حل هذه المشكلة، أو أنهما يمكن أن يقدما طرقًا للخروج من الوضع الحالي بما يناسب الولايات المتحدة وإيران، وبطبيعة الحال، لن يكون الأمر سهلاً على روسيا، التي هي نفسها معرضة لخطر عقوبات أمريكية أشد، في هذا الدور، لكن من ناحية أخرى، لم تختلف موسكو وطهران بشأن مسألة احترام حقوق الإنسان، مما يحد بشدة من نشاط الاتحاد الأوروبي في الاتجاه الإيراني، ويبدو أن هذا هو سبب اختيار غاليباف لروسيا كأول زيارة له منذ انتخابه رئيساً.
محمد باقر غاليباف، الذي تحدث في معهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، حول ان يرسل رسائل الى دول الاتفاق ومنها روسيا، حاول فيها تبرير الخطوات الإيرانية التي يعتبرونها غير " موفقة " وقال "إن سياسة الضغط الأقصى أدت إلى حقيقة أن إيران ليس لديها خيارات أخرى"، وإن الحكومة الأمريكية يجب أن تحدد أولاً كيف ستنفذ التزاماتها برفع العقوبات، ثم يأتي دور الإيرانيين للتصرف، وعلى ما يبدو ان الأمريكيين كما تقول صحيفة الكومرسانت " غير راضين " بشكل قاطع عن مثل هذه الصيغة للسؤال، وانه عشية زيارة غاليباف لروسيا، استذكر بايدن ذلك، وأكد في مقابلته مع شبكة سي بي إس أن الأمريكيين لن يرفعوا العقوبات لمجرد مواصلة الحوار: فليوقف الإيرانيون أولا تخصيب اليورانيوم، اتضح أنها حلقة مفرغة - وهذا على الرغم من حقيقة أن بايدن لم يتطرق حتى إلى القضية المعقدة لبرنامج الصواريخ الإيراني، مما أثار استياء السلطات الإيرانية، حيث سيدرج هذا البند في جدول أعمال أي مفاوضات حول خطة العمل الشاملة المشتركة، ولفت عدلان مارغوف، المحلل في معهد MGIMO للدراسات الدولية، الانتباه إلى كلام السيد غاليباف " بأن إيران توفر للولايات المتحدة خيار ما يجب القيام به، لكنها هي نفسها مستعدة لأي سيناريو" .
ومن الواضح أن القيادة الإيرانية تعترف بإمكانية العودة إلى الاتفاق النووي، وفي هذه الحالة، ستصبح روسيا مرة أخرى الشريك الرئيسي في تطوير الطاقة النووية الإيرانية، ومناقشة التعاون في هذا المجال هي واحدة من الموضوعات الرئيسية في المفاوضات، ففي الوقت الحالي، تقوم إيران بتكليف منشآت نووية جديدة، وزيادة أحجام التخزين ودرجة تخصيب اليورانيوم، وفي 7 يناير 2021، قال الممثل الرسمي لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية (AEOI ) روز كمالوندي إن بلاده مستعدة لبدء تخصيب اليورانيوم حتى 90٪، وان المواد ذات مستوى التشبع المماثل مع اليورانيوم 235 تستخدم حصريًا في الأسلحة النووية .
حتى الآن، تؤكد إدارة جوزيف بايدن، بما في ذلك رئيس وزارة الخارجية أنطوني بلينكن، بشكل عام فقط أن الولايات المتحدة تعتزم إعادة النظر في مسار دونالد ترامب تجاه إيران، والذي كان من شأنه خلق أكبر عدد ممكن من المشاكل لهذا البلد، وواشنطن مستعدة من حيث المبدأ للعودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، التي سحب رئيس الولايات المتحدة السابق توقيعها، العودة إلى "الاتفاق النووي" تتماشى مع مفهوم السياسة الخارجية لبايدن، الذي يقوم على حقيقة أن أمريكا يجب أن تواصل، قدر الإمكان، مسار باراك أوباما، الذي تم إبرام "الاتفاق النووي" خلال فترة إدارته، مؤلفوها، نفس بلينكين، هم جزء من فريق الرئيس الحالي للولايات المتحدة، وحتى يبدأ التقارب مع إيران، ليس بالكلمات، بل بالأفعال، فلا يزال هناك عدم وضوح.
اما الضامنون لـ "الاتفاق النووي" (وهناك خمسة منهم، باستثناء الولايات المتحدة: روسيا وفرنسا وبريطانيا والصين وألمانيا) فانهم يفهمون دوافع إيران ويدركون أن هذا رد على الموقف الأمريكي، ويظهر الخمسة جميعًا، بدرجة أو بأخرى، اهتمامًا برؤية استعادة "الاتفاق النووي"، فقد استثمرت دول الاتحاد الأوروبي بالفعل الكثير في الاقتصاد الإيراني، وتنظر موسكو بدورها إلى إيران على أنها ليست فقط كمشتر محتمل للأسلحة الروسية، خاصة وأن الحظر الذي تفرضه الأمم المتحدة على توريد الأسلحة إلى هذا البلد لم يدخل حيز التنفيذ منذ 18 أكتوبر الماضي، بل أيضا واحة للمشاريع الروسية في مجال الطاقة والسكك الحديدية حسب الوعود الإيرانية لروسيا، وللتعاون الإيراني الصيني أيضًا إمكانات كبيرة، وفي العديد من المجالات - من الدفاع إلى مشاركة إيران في المشروع الصيني "طريق الحرير الجديد"، وباختصار، جميع الضامنين لخطة العمل الشاملة المشتركة لديهم مصلحتهم الخاصة في ضمان تطبيع العلاقات بين واشنطن وطهران وأن العقوبات الأمريكية لا تمنع الدول الأخرى من التعامل مع الجمهورية الإسلامية، لكن كل شيء يعتمد على موقف الولايات المتحدة وإيران.
وبات معروفا اليوم ان واشنطن تدرس خيارات حول كيفية تخفيف العبء المالي على إيران دون رفع العقوبات الرئيسية، وفي مقدمتها الحظر النفطي، وتشمل الخيارات منح طهران قرضًا من صندوق النقد الدولي لمكافحة فيروس كورونا وتخفيف العقوبات التي تمنع إيران من تلقي مساعدات لمكافحة فيروس كورونا (أعلن صندوق النقد الدولي أنه مستعد للنظر في طلب رفض سابقًا للحصول على قرض بقيمة 5 مليارات دولار)، بالإضافة إلى ذلك، قد تسمح الولايات المتحدة، كما تقول وكالة " بلومبيرغ " لسيئول بإلغاء تجميد جزء من الأصول الإيرانية البالغة 7 مليارات دولار الموجودة في البنوك الكورية الجنوبية، يمكن أن تذهب الأموال لسداد ديون إيران مقابل رسوم عضوية الأمم المتحدة، وتخفيف آخر محتمل هو إصدار تراخيص تجارية محدودة مع إيران من وزارة الخزانة الأمريكية.
أهمية الزيارة بالنسبة لموسكو، تكمن في انها مهتمة بالتعرف أولا على النوايا الإيرانية المستقبلية عن قرب وليس عن طريق القنوات الاعلامية، والتأكيد على ثبات موقفها المبني على ضرورة إلتزام جميع الأطراف الموقعة على الاتفاق النووي للحفاظ على خطة العمل الشاملة المشتركة، وتجنب التصعيد بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، لأنه لن يخدم الأمن والاستقرار في العالم، إضافة الى وجود قناعة روسية إيرانية بأن المطالب الأمريكية ستزداد كلما وافقت طهران على ما قبلها.
موسكو التي اشارت إلى أن قرار إيران استئناف تخصيب اليورانيوم بنسبة 20% كان "خطوة متوقعة، لكنها قابلة للتراجع عنها" تؤكد على لسان مندوبها الدائم في المنظمات الدولية في فيينا ميخائيل أوليانوف أنها "غير راضية عن رفض طهران الإضافي لالتزاماتها بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة"، وتشدد على أن من المهم الآن بدأ حوار موضوعي بين طهران وواشنطن وتحديد مخطط للخطوات التالية، أو ما يشبه بخارطة طريق، والتي يجب ان تكون واقعية لتسمح وفقا، بالعودة الى تنفيذ الاتفاق النووي في فترة قصيرة
لذلك يجمع المراقبون على انه حتى تمر المحادثات بين إيران والولايات المتحدة، لن يكون هناك تقدمًا في العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، وبات مبدأ التقسيم التدريجي والمعاملة بالمثل، الذي اقترحته روسيا عشية المفاوضات بشأن خطة العمل الشاملة المشتركة، هو الحل الأمثل الذي يجعل من الممكن إيجاد حلول في هذا الوضع، خصوصا وان طهران مستعدة لقبول أي صيغة تضمن العودة الى الاتفاق النووي، لإيقاف نزيف العقوبات الامريكية على الاقتصاد والحياة الاجتماعية في إيران.
د. كريم المظفر
عينية الوجع
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. صالح الطائي
كنا قد أطلقنا في بداية عام 2020 مشروعاً لبناء قصيدة عربية مشتركة من بحر الوافر، يسهم في كتابتها شعراء من جميع بلداننا العربية بعد أن وضعتُ لها مطلعا غير مصرَّعٍ، قلتُ فيه:
حذار من الهدوء إذا تفشى فعند الفجر قارعة تثور
ومع كل الإحباط الذي يشعر به العرب من جراء ما يمرون به من تشظ وتفرق وتباغض وتباعد، كانت النتائج اعجازية بحق بعد أن اشترك شعراء من الأعم الأغلب من أقطار الوطن الكبير، زاد عددهم على ستمائة مشارك، تراوحت مشاركاتهم بين القوية جدا والقوية والمتوسطة والضعيفة، وبعد الفحص والتدقيق وحذف المتشابه خرجنا بمحصلة هي الأولى من نوعها في التاريخ كله، تمثلت باشتراك (139) شاعراً بكتابة قصيدة من الوافر وقافية الراء كادت أن تكون خالية من الإيطاء (*) رغم طولها، وكان قفلها وخاتمتها بقلمي أيضا، وقلت فيه:
ألا فأحذر هدوء قد تفشى غداة الفجر قارعة تثور
ونظرا لنجاح المشروع بكل مفاصله، حولنا القصيدة ومقدماتها الطويلة التي كتبتها بقلمي وإحصاءاتها إلى كتاب، طبع في طبعته الأولى في دار الوطن للطباعة والنشر في المملكة المغربية الشقيقة، وفي طبعته الثانية في دار المتن في بغداد، وقد نال الكتاب استحسان الأدباء والنقاد على حد سواء.
ثم لما عادت التفجيرات الإرهابية تشوه وجه بغدانا الحبيبة وتروع أهلها، أطلقنا في بداية عام 2021 مشروع بناء قصيدة جديدة مقاربة في مواصفاتها العامة للقصيدة الأولى، ولكنها من بحر البسيط وقافية العين الممدودة، وضعتُ مطلعها، وقلتُ فيه:
يا قلبَ بغدادَ يا من تنزفُ الوجعا ما حال بغدادنا؛ والجرحُ هلْ هجعا
وكانت غايتنا النجاح في بناء قصيدة عربية مشتركة تدين العنف والإرهاب والطائفية والكراهية، وتدعو إلى احترام الإنسان ونصرته، وزرع المحبة في الكون، ومثلما انتخى شعراء الأمة في المشروع الأول، كانت نخوتهم لا تقل روعة عن سابقتها، بل فاقتها عدة وعدداً وتنوعا وجغرافية، إذ وصلتنا لحد الآن مشاركات من أغلب الأقطار العربية، ووعود بالمشاركة من أقطار أخرى مثل موريتانيا وأرتيريا والصومال، ولا زالت المشاركات تنهال علينا من كل أرض العرب باستثناء البلدان نفسها التي أبت أن تشترك في المشروع الأول لغاية في نفس شعرائها.
إن اشتراك العرب بعمل أدبي كبير لا شبيه له في التاريخ الإنساني كله، ولا سابق له، لا يأتي لتأكيد هويتهم الجمعية فحسب، فذلك أمر مفروغ منه، وإنما يؤكد أيضا أن كل التخريب الذي مورس لم ينجح في فصل العرب عن بعضهم ووقف اهتمامهم بقضاياهم المصيرية المشتركة، وقد أثبت شعراء الأمة هذه الحقيقة المغيبة من خلال كم المشاركات ونوعيتها ومدى جديتها. ونحن هنا لا نعتب على من أبى وامتنع بقدر كوننا نرغب بحثهم للتنازل عن القناعات الموروثة المبتدعة بسبب حماقات الحكام، وندعوهم إلى العمل ضمن الفريق الواحد، لا سعيا وراء القطعنة، بل سعيا وراء التجمع والمحبة والوئام، فالعالم غير مستعد الآن لقبول ثقافة الكراهية حتى ولو على مستوى الأفراد، وهو غير مستعد لنشر ثقافة القطيع وسلب الإرادة أيضا، فالحرية هي الخيار الأمثل للآدمي.
وبعد اكتمال عدد المشاركات سنقوم بمهمة التدقيق والفحص والانتقاء والربط، لنصنع أجمل قصيدة مشتركة في التاريخ، ولاسيما وأن هناك دراسة بقلمي تحدثتُ فيها عن: شعر القضية وقضية الشعر، الأسس التراثية للاشتراك، مشروع مجازف، شراكة الشعر والقصيدة المشتركة، لماذا المشاريع المشتركة؟، آلية بناء القصيدة، آلية العمل بالمشروع، سوف تتصدر هذه الدراسة كتاب القصيدة؛ الذي سيطبع في طبعته الأولى في المملكة المغربية أيضاً، وفي طبعته الثانية في سوريا، وقد أبدى الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق رغبته في المشاركة بالمشروع وطبع كتاب القصيدة في بغداد وتوزيعه على فروعه.
مع كل هذا، هناك مشكلة عانينا منها في مشروعنا الأول، ونعاني منها الآن في مشروعنا هذا وهي قلة الدعم الذي نتلقاه، ولاسيما الدعم الإعلامي والترويج للمشروع لتتاح الفرصة للشعراء أن يطلعوا عليه، ولذا نأمل أن نحظى منكم جميعا بأي نوع من أنواع الدعم ممكن أن تقدموه لنا عسى أن ننجح في مشروعنا ونحقق أمنية على مستوى أمتنا بأن تتوحد القلوب والعقول لتصنع مشروعا مشتركا تتركه لأولادها وأحفادها، يُكذِّب مزاعم الفرقة التي يروج لها الأعداء في الداخل قبل الخارج.
ولمن يحب الاشتراك من إخوتنا شعراء الأمة، يمكنكم إرسال مشاركاتكم على عنواني البريدي الظاهر أسفل الموضوع مع التفضل بذكر اسم البلد ليدخل ضمن الإحصاءات، أو وضعها هنا في حقل التعليقات.
ننتظر منكم الكثير ونراهن على كرمكم ونبل أخلاقكم
الدكتور صالح الطائي
...........................
(*) الإيطاء: هو تكرار القافية، وهو أمر يجيزه المتخصصون بشرط ان يكون التكرار بعد سبعة أبيات من الأول وليس قبلها.
الايميل
الأستاذ الإمام محمد عبده ودوره في الدعوة إلى إحياء التراث
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. يسري عبد الغني
دور الإمام محمد عبده في إحياء التراث العربي والإسلامي، وتحقيقه ونشره - جانبٌ مهمٌّ لم يتناوله بالتفصيل اللازم معظمُ مَن تناول جهود الشيخ محمد عبده الفكرية والثقافية، وسنحاول قدرَ الطاقة أن نَكتُب عن هذا الجانب، لعلنا نوضِّحه فتَعم الفائدة بإذن الله.
في سنة 1898م تكوَّنتْ في القاهرة جمعية جديدة، كان هدفها نشر الكتب العربية والإسلامية القديمة وإحياءَها، وكان من بين أعضائها: حسن باشا عاصم، والعالم الأديب والمحقق أحمد باشا تيمور، وعلي بك بهجت وغيرهم، وقد قامت هذه الجمعية بطبع مجموعة من الكتب المفيدة؛ منها على سبيل المثال لا الحصر: الموجز في فقه الإمام الشافعي رضي الله عنه، وسيرة صلاح الدين الأيوبي المسماة: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية لبهاء الدين بن شداد، وفتوح البلدان للبلاذري، والإحاطة في أخبار غرناطة للسان الدين ابن الخطيب الأندلسي، وتاريخ دولة آل سلجوق ل عماد الدين الأصفهاني، وغير ذلك.
وفي سنة 1900م تكونت هيئة أخرى برئاسة الشيخ محمد عبده؛ بهدف إحياء الكتب العربية الإسلامية القديمة، وقد أخرَجت هذه الهيئة كتابَي الناقد الكبير عبدالقاهر الجرجاني: (أسرار البلاغة)، و(دلائل الإعجاز)، ونشَرت كتاب أو معجم (المخصص) لابن سيده الضرير في سبعة عشر مجلدًا، وبدأَتْ في طبع كتاب (المدونة) للإمام مالك رضي الله عنه.
قد قام بتصحيح هذه الكتب والتعليق عليها الشيخ محمد محمود الشنقيطي، وقام بالنظر فيها ومراجعتها الشيخ محمد عبده الذي شارك الشنقيطي في كثير من التحقيقات، ومنذ ذلك الوقت بدأت دُور النشر العربية في العمل على إحياء كتب التراث العربي والإسلامي.
والشيخ الشنقيطي عالم فاضل، وجهبذ في العلوم العربية والإسلامية، وله الآراء الصائبة الرائقة التي تدل على فَهمٍ عميق، وإدراك متمكن مِن علوم اللغة والأدب، وقد كتَبنا عنه دراسةً متواضعة نأمُل نشرَها في أي مجلة تُؤمن بأهمية هذه الموضوعات، وعلى الله قصد السبيل.
أعود بك أيها القارئ الكريم فأحاول أن أستعرض معك بعضَ جهد الإمام محمد عبده في تحقيق التراث وإحيائه ونشره؛ لكي يكون في متناول الجميع، يَنهلون من علومه المفيدة، ويَربطون من أجل المستقبل الماضي بالحاضر.
لقد كان التحقيق في هذه الآونة يدور حول مقابلة النسخ المتعددة للمخطوطة الواحدة، وتصحيح النص برُمَّته على هذا الأساس؛ أي: أساس المقابلة بين النُّسخ، وقد يشير المصحح في بعض الأحيان إلى اختلاف النسخ، فيقول لنا: وفي نسخة كذا، دون أن يذكر لنا ما هي هذه النسخة، ولا من أين هي، ولا يعطي لنا مقدمة تفيدنا بشأن التعريف بالكتاب أو نُسَخِه المخطوطة، أو وصفًا لها، أو على الأقل دراسة تُعرفنا بالمؤلف ومضمون كتابه.
نقصد بذلك انعدام المقدمة العلمية التي نعرفها الآن في التحقيق المعاصر المعتمد على أُسس علمية وقواعد منهجية لا غنى عنها، وقد يُعِدُّون للكتاب فهارسَ، لكنها بالطبع ليست الفهارس الفنية التي نجدها اليوم في التحقيقات التراثية الجادة الملتزمة، وكثيرًا ما كان مصححو تلك الآونة - وأخصُّ بالذكر منهم الشيخ محمد عبده، والسندوبي - يُكثرون من الشروح اللغوية والتعليقات الأدبية التي قد تَطول طولًا يُذكرنا بالحواشي القديمة.
وفي هذا الوقت بدأ الاهتمام بجمع مخطوطات الكتاب الواحد من أنحاء العالم؛ بهدف التصحيح عليها في سبيل طبع الكتاب وإخراجه للقراء.
يذكر لنا الأستاذ الإمام محمد عبده أن كتاب (أسرار البلاغة) للناقد الكبير عبدالقاهر الجرجاني كان كَنزًا مَخفيًّا، لا تصل إليه يدُ الباحث، حتى يسَّر الله له نسخة بعَث بها إليه أحد طلاب العلم من طرابلس في لبنان، وكان فيها نقصٌ وتحريف، فما كان من الشيخ محمد عبده إلا أن أرسَل أحد طلبة العلم إلى الأستانة التركية، من أجل أن يُقابلها على النسخة المحفوظة في المكتبات هناك، ثم أكمَل هو تصحيحها والتعليق عليها في أثناء تدريسه لهذا الكتاب القيِّم في رحاب الجامع الأزهر الشريف.
ويَحكي لنا الشيخ رشيد رضا - تلميذ الأستاذ الإمام وصاحب المنار - عن (دلائل الإعجاز) لعبدالقاهر، فيقول: كان هذا الكتاب كالذي قبله - (أي: كتاب أسرار البلاغة لعبدالقاهر أيضًا) - كَنزًا مَخفيًّا، فظَفِرَ به الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية (في تلك الآونة)، وحصل على نسخة منه، وكان عند الأستاذ العلامة اللغوي الشيخ محمد محمود الشنقيطي نسخة أخرى من الكتاب نفسه، وكلاهما كان مُحرَّفًا ومُبدَّلًا، فعَلِمَ الأستاذ الإمام أن في المدينة المنورة نسخةً منه، وفي بغداد العاصمة العراقية نسخة أخرى، فعمِل على استنساخهما، مُصححًا الكتاب تصحيحًا دقيقًا بالاشتراك مع الأستاذ الشنقيطي؛ حيث قاما بمقابلة النُّسخ الأربعة، فكان الكتاب الوحيد الذي اجتمع على تصحيحه علماءُ العصر في المعقول والمنقول.
وفي بعض الأحيان كان المصححون يشيرون إلى النُّسَخ باسم البلد التي جاءت منه، فمثلًا في كتاب أو معجم (المخصص) لابن سيده الضرير، وبالتحديد في (ص 35) من الجزء الأول، عند قوله: (كلجة)، يقول الإمامان محمد عبده والشنقيطي: "هذا هو الصواب في اللفظ، وفي النسخة المغربية (طلحة)، وربما كانت تحريفًا لقُرب الشَّبه في الرسم بين صورة اللفظين، خصوصًا إذا خَفِي سنُّ الحاء، وقد وُجِد اللفظ على الصواب في المحكم (لابن سيده أيضًا)، وغيره من كتب اللغة".
ويُفهم من هذا أن المصحح كان يرجع إلى كتب اللغة والأدب؛ ليُصحح أو يُدقق، أو يُحقق الكلمة التي يقف أمامها، لكنه غالبًا لا يذكر المرجع الذي رجَع إليه، وإذا حدث ذلك - (وإن كان ذلك نادرًا) - فلا يذكر لنا رقم الصفحة أو الجزء.
لقد كانت مهمة المصحح تَنحصر في شرح بعض اللغويات، وذِكر بعض المقابلات، لكنه غير مضطر إلى تخريج الآيات القرآنية المشرفة، أو الأحاديث النبوية المطهرة تخريجًا علميًّا سليمًا، ولا يترجم للأعلام، ولا يُعرف بالبلدان، ولا يضع الفهارس الفنية المفيدة، كل هذا لم نجده عند الشيخ محمد عبده ومَن عاصَره من العلماء العرب، فيما اطَّلعنا عليه من كتبٍ.
وفي الكتب التي انفرد الشيخ محمد عبده بشرحها، نجد أن التحقيق يأتي عرضًا في أثناء عملية الشرح، ولكنه رسَم لنا منهجًا في تصحيح المتن، نرى أنه على درجة كبيرة من الاعتبار، ومن الضروري معرفته وإدراكه.
يذهب الأستاذ الإمام إلى أن تصحيح المتن أمرٌ يسير إلى حد كبير، فقد وفَّقه الله بتعدُّد النسخ لديه ولدى الذين يعملون معه في ميدان تحقيق ونشر وإحياء التراث العربي والإسلامي، وقد عظُمت مشقة الاختيار عليهم؛ وذلك لتباين الروايات، واتفاق الكثير منها على ما لا يَصِح معناه، ولا يُستجاد مبناه، فكان الوضع اللغوي أصلًا يقومون بالرجوع إليه، والاستعمال العرفي (المتبع أو المستعمل) مرشدًا يُعولون عليه، ومكان المصنف بين أهل اللسان ميزانًا للترجيح ومقياسًا يُعتد به في التصحيح، وكما يذكر الشيخ محمد عبده في مقدمة كتاب (المقامات) لبديع الزمان الهمذاني الذي صدر في بيروت سنة 1924م - أنه إذا تعددت الروايات (في عملية تصحيح المتن) على معايير صحيحة، قاموا بإثبات أولاها بالوضع في الأصل؛ إما لتأييده بالاتفاق مع أكثر الروايات، وإما لتميُّزه بقُرب معناه إلى ما احتفى به من أجزاء القول، ثم يشيرون إلى الروايات الأخرى في التعليق.
وقد رأى - طيَّب الله ثراه - أنَّ الانتفاع بمقامات بديع الزمان الهمذاني كان أمرًا عسيرًا لسببين:
السبب الأول: ما قام به النُّساخُ في ألفاظِها مِن تحريفٍ يُفسد المبنى، ويُغيِّر المعنى، وزيادةٍ تَضر بالأصول، ونقصٍ يُضعِف الأساليب، وينقص التراكيب، فمسَّت الحاجة إلى تصحيحه، ورد لفظه إلى صريحه.
السبب الثاني: غرابة بعض كلماته؛ لذلك عمَد إلى تفسير غريبه، وتبيين وإظهار خفِيِّه، وتوضيح غامضِه.
ويُؤكِّد الشيخ محمد عبده أنه أقدَم على ذلك بلا سابق يقتفيه، ولا ذي مثالٍ يَحتذيه، ولا مادة يَتبعها، إلا طبعًا عربيًّا وذوقًا أدبي، وأمهات اللغة الحاضرة، وأمثال العرب السائرة، ومقالات لهم على الألسن دائرة.
وقد ذكر الأستاذ الشيخ رشيد رضا في كتابه (تاريخ الإمام) رسالتين، وجَّه الشيخ محمد عبده أُولاهما إلى سلطان المغرب العربي يعرض عليه: "أنه قد تألَّفت في مصر جمعية لإحياء العلوم العربية، وخاصةُ عملِها أن تبحثَ عما كاد يُفقَد من كُتُب السلَف، وتُصحِّح نُسَخَه وتَطبعه، حتى يحيا بذلك ما اندرَس من علوم الأوَّلين، واحتجب عنا بِمُحدثات المتأخرين".
ووجه الرسالة الثانية إلى قاضي قضاة المغرب العربي، يأمُل منه إرسال نسخة من كتاب (مدونة) الإمام مالك؛ حيث إنها مُودعة في مسجد القرويين بمدينة فاس، ليُمكن الطبع والتصحيح عليها؛ لأنهم لم يجدوا نسخة كاملة يُوثَقُ بصحتها في مصر، ولا في تونس.
ويبدو أنه قد تأكد للأستاذ الإمام محمد عبده أن نسخة كاملة من الكتاب توجد بالفعل في مسجد القرويين، فطلَب من قاضي القضاة بالمغرب العربي أن يُرسل إليهم هذه النسخة بتمامها؛ كي تتم المقابلة عليها بما عندهم، ومِن ثَمَّ إتمام الناقص منها في النسخة المتوافرة لديهم، مع تأكيد إعادتها إليهم بمجرد انتهاء العمل، وكذلك إهداء جامع القرويين عشرَ نُسَخٍ من الكتاب فور الانتهاء من طبعه إن شاء الله تعالى.
واقترح الأستاذ الإمام أنه في حالة تعذُّر نسخة المدونة كاملةً، يُمكن إرسالها مُفرقة جزءًا بعد جزءٍ، فكلما انتهى الغرض من جزء أُعيد إلى مَقره.
ويتضح مما ذكرناه آنفًا أنهم كانوا يَصُبُّون اهتمامَهم في هذه المرحلة على جمع النُّسخ؛ ليخرجوا منها نسخة صحيحة المتن، مُصوَّبة بقدر الإمكان.
ومَن ينظر في مقدمة كتاب (أدب الكاتب) لابن قتيبة المطبوع بالقاهرة في مطبعة الوطن سنة 1300 هـ، يجد ناشر الكتاب يقول: "مقابلًا على نسخة بخط الأستاذ الإمام الفاضل المرحوم الشيخ نصر أبو الوفا الهوريني بغاية الضبط، وقد نقَلها من نسخة مقابلة مضبوطة بخط حمزة بن الحسين، تاريخها سنة 514 هـ".
ونقرأ في سيرة الإمام محمد عبده أنه كان يجوب البلاد العربية والإسلامية بحثًا عن المخطوطات العربية والإسلامية، فأخبره بعض أصحابه أن في صقلية - (العربية الإسلامية سابقًا، الإيطالية حاليًّا) - من الآثار العربية الإسلامية ما يُهِمُّ العربي أن يراه، وفيها دُور للكتب لا تَخلو كلٌّ منها من كُتبٍ عربية قديمة، وربما يَستغرق الاطلاع عليها زمنًا، فقضى في بعض هذه المكتبات فترة يبحث عن المخطوطات، وكان يُكلف (على نفقته الخاصة) مَن يَستنسخ له ما يُهِمُّه منها.
ونعرف أنه رحمه الله رأى وهو في منفاه في بيروت العاصمة اللبنانية - (منفاه الاختياري الذي اختاره بعد فشل الثورة العرابية 1881م)، سنة 1304هـ - كتاب (البصائر النصرية) الذي قرأه واستنسَخ نسخة منه بقِيت عنده كغيرها من الكتب، ويَجدر بالذكر هنا أن هذا الكتاب تَم طبعه بالمطبعة الأميرية في مصر سنة 1316 هـ - 1898 م.
وقد رأيناه في بعض الأحيان ينفي نِسبة الكتاب إلى مَن شاع عند الناس أنه مؤلِّفه، محتجًّا بأدلة منطقية لغوية تَعتمد على منهج تحقيقي فريد.
فقد نفى أن يكون كتاب (فتح الشام) للواقدي، قائلًا: إنه لو حكَمتُ بأنه مكذوب عليه، مخترع النسبة إليه - لم أكن مخطئًا؛ وذلك لأن الواقدي كان من أهل المائة الثانية من الهجرة، وكان من العلم بحيث يَعرِفه المأمون العباسي...، ويُواصله ويُكاتبه، وصاحب هذه المنزلة في تلك القرون إذا نطَق في العربية فإنما يَنطق بلغتها، وقد كانت اللغة لتلك الأجيال على المعهود منها من متانة التأليف، وجزالة اللفظ، وبداوة التعبير.
ويواصل الأستاذ الإمام كلامه مؤكدًا أن الناظر في كتاب الواقدي، ينكشف له أول النظر أن عباراته من صناعات المتأخرين في أساليبها...، يجد أسلوبه من أساليب القصاصين في الديار المصرية من أبناء المائة الثامنة أو التاسعة للهجرة، ولا يرى عليه لهجة المدنيين ولا العراقيين، والواقدي كان مدنيَّ المنبت، عراقيَّ المُقام.
نقول لكم: إن هذا اللون من التحقيق - (مقابلة النسخ لإخراج نص سليم) - هو الذي عرَفه أهل التصحيح في مطبعة بولاق المصرية، وجهودهم تبدو واضحة فيما أخرجوه لنا مِن كتب التراث؛ أمثال: صحيح البخاري، وخزانة الأدب للبغدادي، والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، ومعجم لسان العرب لابن منظور، ومعجم الصحاح للجوهري، ومعجم القاموس المحيط للفيروزابادي، وكتاب سيبويه في النحو، وشرح الحماسة للتبريزي، وشرح المقامات للشريشي، وقلائد العقيان للفتح بن خاقان، وغيرها كثير مِن أمهات الكتب التي خرَجت إلى النور، واستفاد منها جمهور القرَّاء إلى يومنا هذا.
ويذكر لنا التاريخ أسماء شيوخ عظام بذلوا الجهد الجهيد في أمانة ودقةٍ، من أجل أن يُخرجوا لنا تلك الكتب القيِّمة، على قدر طاقتهم العلمية ومنهجهم في التحقيق والإخراج، نذكر منهم: الشيخ نصر الهوريني، والشيخ قطة العدوي، والشيخ محمد الحسيني، والشيخ طه محمود، والشيخ محمد عبدالرسول، وغيرهم، رحمهم الله رحمة واسعة جزاءً وِفاقًا لما قدَّموه من خِدمات للتراث العربي الإسلامي، ساعدت على إحيائه ونشره والحفاظِ عليه.
بقلم: د.يسري عبد الغني
.............................
بعض أسانيد المقال:
1 - رشيد رضا؛ تاريخ الإمام، القاهرة، 1931 م.
2 - رشيد رضا؛ مجلة المنار، المجلد الخامس، القاهرة، مايو، 1902 م.
3 - بديع الزمان الهمذاني؛ مقامات بديع الزمان الهمذاني؛ شرح محمد عبده، بيروت، 1924 م.
4 - بديع الزمان الهمذاني؛ ديوان بديع الزمان الهمذاني؛ دراسة وتحقيق يسري عبدالغني عبدالله، دار الكتب العلمية، بيروت، 1990 م.
5 - يسري عبدالغني عبدالله؛ معجم المعاجم العربية، دار الجيل، بيروت، 1991 م.
6 - عبدالمجيد دياب؛ تحقيق التراث العربي: منهجه وتطوره، المركز العربي للصحافة، القاهرة، 1983 م.
الثقافة الفلكية عند قدمائنا الشرقيين وتجلياتها عند الإغريق (3)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. محمود محمد علي
في هذا المقال ننهي حديثا فيما يخص الثقافة الفلكية عند قدمائنا الشرقيين وتجلياتها عند الإغريق، حيث نناقش قضية مهمة تدور حول ما أخذه الفلكيون اليونانيون من علم الفلك عند قدماء الشرقيين؛ وهنا نقول لقد أخذ اليونانيين جل معارفهم الفلكية من المصريين والبابليين وهناك دلائل كثيرة على هذا، منها أن طاليس أخذ دورة الكسوف المتعاقبة عن القدماء المصريين والبابليين، الأمر الذى حدا به لأن يتنبأ للأيونيين باحتجاب ضوء النهار وحدد فى اثناء العام الذى وقع فيه هذا الاحتجاب بالفعل . كما أخذ " انكسمندر الملطى " (610-545 ق.م) عن المصريين والبابليين "آلة المزولة "واسمها فى اليونانية Gnomon . ويقول سارتون "وكان اختراع هذه الآلة فى بابل ومصر، ولكنها من البساطة، بحيث يمكن أن طاليس أو انكسمندر أو بعض اليونانيين الأوائل أعاد اختراعها".
ويعلل مؤرخ العلم الأمريكي "جورج سارتون" سبب اهتمام طاليس وانكسمندر وغيرهما بعلم الفلك إلى أنه من المحتمل جداً أن تكون المنابع الشرقية زادت فى تحريك فضولهم . ذلك أن البحارة والتجار الذين وفدوا إلى مطلية كانوا يجلبون معهم أفكار بابلية ومصرية .
ومن ناحية أخرى نجد "كليوستراتوس التنيدى " واحد من اليونانيين المهتميين بعلم الفلك، ويعزى الباحثون إليه أنه استطاع بفضل مشاهداتة الفلكية فى "تنيدوس " تحديد زمن الانقلابين بالضبط أن يدرك صور البروج منطقة وهمية فى السماء على جانبي فلك البروج، والحقيقة أن كليوستراتوس أخذ هذه الفكرة عن الفلكيين فى بابل، حيث كانوا يدركون أنه من المستحيل رؤية مسارات القمر والكواكب أثناء أى مدة من الزمن دون أن يدرك الرائى أن هذة الاجرام السماوية تسير فى منطقة ضيقة نسبياً، وأنها ليست بعيدة من جهة خط العرض عن الشمس (أو كما يقول فلك البروج).
كما ينسب إلى كيلوستراتوس التنيدى كشفاً آخر، وهو دورة فلكية فى ثمانية أعوام، وهى مدة تشتمل على عدد من الأيام والشهور القمرية والسنوات 365 وربع يوما × 8=2922 يوماً =99 شهراً، وكانت هذه الدورة معروفة كذلك للبابليين، ولعل كيلوستراتوس أخذها عنهم، أو أن تحديدهم للشهور والسنين يسر له إعادة كشفها، ولم تكن هذه الدورة إلا أولى دورات أخرى متعددة اكتشفها الفلكيون اليونانيون بين فينه وأخرى لخدمة أغراض التقويم .
وإذا انتقلنا إلى فيثاغورس (850- 497 ق.م) نجد أنه أول من نادى هو وأتباعه بكروية الارض، ولا يعرف كيف تم لهم ذلك . ومن المحتمل أنهم استعاروا هذه الفكرة من المصريين والبابليين، وقد أمكن بهذه الفرضية تفسير ظاهرة الكسوف والخسوف.
وهناك فلكيون يونانيون استفادوا استفادة كبيرة من الفلك المصري والبابلي، نذكر منهم على سبيل المثال : "يدوكسوس الكيندى " الذى يروى عنه المؤرخون أنه رحل إلى مصر للتعلم، حيث لبث ستة عشر شهراً فى مصر (فيما بين سنة 378وسنة 364) خالط في أثنائها الكهنة العلماء، وكان قد درس قبل ذلك فى الأكاديمية، وألم بالفلك الفيثاغورى، فلم يرضه كل ذلك، ولما كان فى تفكيره دقة أسخطه نقص الأرصاد فى هذا الفلك، ولم يكتف بما حصل عليه من أرصاد مصرية، بل عمل بأرصاد جديدة، وأقام لذلك مرصداً بين "هيلوبوليس " و"كركيسورا" ظل معروفاً حتى زمن الإمبراطور" اغسطس " (27 ق.م-14م) ثم بنى بعد ذلك مرصداً آخر فى بلدة "تينودوس" ولم يكن رصداً سهلاً، وكان آنا ذاك لايرى من خطوط العرض العليا، ويرجع علم " يودكسوس" بالفلك المصرى إلى المدة التى قضاها فى مصر، فهل كان ملما أيضاً بالفلك البابلى وهو أغزر مادة من الفلك المصرى . ليس لدينا ما يدل على أنه رحل إلى ما بين النهرين أو إلى فارس، ولكنه كان العلم القديم حق المعرفة.
وهذه المعرفة الواسعة التى اكتسبها "يودكسوس" أتاحت له أن يبتكر نظريات فلكية كثيرة ومن أشهرها اختراعه نظرية الكرات المتحدة المركز والتوسع فيها، وبهذا يعد مؤسس الفلك العلمى وأحد عظماء الفلكيين فى جميع العصور".
ونفس الشئ يقال عن أفلاطون، فقد تعلم من الشرقيين أموراً فلكية كثيرة، فمثلاً يعزى إليه زمن دورة كل من القمر والشمس والزهرة، واعتقد أن أزمنه دورات كل من الثلاث الأخيرة متساوية وأنها سنة واحدة، ولكنه لم يعرف أزمنه دورات الكواكب الأخرى، وهو مع ذلك يتكلم عن السنة الكبيرة عندما تعود الدورات الثمان إلى نقطة ابتدائها "دورات الأجرام السبعة مضافاً إليها دورة الكرة الخارجية" وتساوى هذه السنة الكبيرة 36000 سنة، فكيف قدرها، وأنه لم يقس شيئاً ، بل أخذها عما تواتر عن البابليين من فكرة النظام الستينى (42)، فمن بين أسس العدد 60 يوجد أس خاص يكثر وروده فى الألواح القديمة وهو 460=12،960،000، وهذا هو الرقم الهندسى عند افلاطون، وأن 12،960،000 يوم =36،000 سنة لكل منها 360 يوم، وهى " السنة الأفلاطونية العظمى " "مقدار مدة الدورة البابلية " وأن حياة الإنسان التى تمتد إلى مائة عام تحتوى على 36،000 يوم، أى على عدد من الأيام بقدر ما تحتوي السنة العظمى من السنين، وهكذا فإن" العدد الهندسى " أى العدد الذى يحكم الارض ويضبط الحياة على الارض من أصل بابلى ولا ريب .
وإذا انتقلنا إلى" أرسطو" نجد أنه كان على دارية بالفلك المصرى، والبابلى، حيث يقول" تاتون": " أورد سيمبلكوس " Simplicus أنه بخلال فتوحات الاسكندر، أرسل كاليستان Callisthene إلى حالة أرسطو كشفاً بملاحظات الكشوف الفلكية الجارية منذ 1900 سنة قبل تلك الحقبة ". ومن خلال إطلاع أرسطو على تلك الكشوف استطاع التوصل لإثبات أن الأرض كروية لا محالة لكى يتحقق التماثل والتوازن، ثم إن العناصر التى تتراكم عليها تأتيها من جميع نواحيها، فلابد لهذه المتراكمات من أن تكون على شكل كرة . زد على ذلك أن حافة الظل أثناء خسوف القمر مستديرة دائماً، وإذا سار الإنسان شمالاً أو جنوباً تغير وضع نجوم السماء فتظهر نجوم لم يكن يراها من قبل، وتختفى نجوم كان يراها، وكون تغير ضئيل فى موضعنا " على خط الزوال " يؤدى إلى مثل هذا الاختلاف الكبير برهان على أن الأرض صغير، بالإضافة إلى غيرها، وإليك ما يقوله أرسطو فى ذلك :" هناك تغير كبير ؛ أعنى فى النجوم التى فوق رؤوسنا، وإن سار الإنسان شمالاً أو جنوباً، فإن النجوم التى تظهر له هى غير النجوم التى كان يراها من قبل،والواقع أن بعض النجوم التى ترى فى مصر وعلى مقربة من قبرص لا يمكن رؤيتها فى الأقاليم الشمالية . والنجوم التى لا تغيب أبداً فى الشمال تطلع وتغرب فى البقاع الجنوبية . كل هذا دليل على أن الأرض مستديرة وعلى أنها ليست كبيرة المقدار، ولولا أنها كذلك لما كان لهذا التغير الطفيف فى المكان هذا الأثر العاجل، ومن ثم لا ينبغى أن نجاوز الحد فى رد رأى القائلين بأن هناك اتصالا بين الجهات المحيطة بعمودى هرقل The Piller of hercules " جبل طارق" والجهات التى حول الهند، وربما يترتب على ذلك من أن المحيط واحد، ولهؤلاء دليل آخر هو مجرد الفيلة فى هذين الإقليمين مع بعد الشقة بينهما، فكأنهم يرون فى اشتراك الاقليمين فى هذه الخاصية دليلاً على اتصالهما ".
ولاشك فى أن هذا النص يدل دلالة واضحة على مدى تأثر أرسطو بالفلك عند المصريين والبابليين، وأن وفرة الأرصاد الشمسية والقمرية والكوكبية لدى اليونانيين فى القرنين الخامس والرابع ق.م، تدل على أنها قد جاءت من مصر ومن بابل ؛ حيث ذكر سيمبلكوس فى شرحه لكتاب Decaelo لأرسطو أن لدى المصريين كنزا من الأرصاد عن 630.00 وأن البابليين جمعوا أرصاد 1440000 سنة، ونقل سيمبلكوس عن بورفيروس تقديراً متواضعاً ؛ حيث ذكر أن الأرصاد التى كالليستنيس من بابل بناء على طلب أرسطو كانت من 31000 سنة وكل هذا إلى الخيال أقرب، وإن كان من الثابت أنه كان فى متناول الباحثين اليونانيين أرصاد شرقية لقرون عدة، وأنها كانت كافية لأغراض وقد حصلوا عليها من مصر ومن بابل ولا يمكن أن يكونوا قد حصلوا عليها فى بلادهم، ففى بلادهم آثر رجال العلم أن ينقطعوا للبحث الفلسفى كل على طريقته ولم توجد قط على مر العصور هيئة ترى الدأب على جميع الارصاد الفلكية وما مبالغات سيمبلكوس إلا إشادة بقدم علم الفلك عند المشارقة وباتصاله اتصالاً يدعو إلى الأعجاب ".
ولم تنقطع آثار المعارف الفلكية المصرية والبابلية عن اليونانيين فى القرنين الخامس والرابع، بل اشتدت وزادت بكثير خلال القرون اللاحقة، وخاصة فى القرنين الثانى والأول ق.م.
وكتاب " المجسطى " خير دليل على ذلك ؛ حيث يعرض فيه بطليموس نصوصاً كثيرة تبين ما عسى أن يكون للمصريين والبابليين من أثر فى تقدم الفلك اليونانى، فمثلاً يقول بطليموس أن نظريات " هيبارخوس " عن حركة القمر وحركات الكواكب السيارة مستمدة لدرجة ما بين الأرصاد البابلية ".
كما برهن الأب "كوجلر" على أن العينات التى أوجدها هيبارخوس لطول الشهر والوسطى والقمرى، والنجمى، والفلكى، والعقدي " تنطبق تماماً على العينات التى وجدت فى الألواح الكلدانية المعاصرة .
ومن ناحية أخرى فإن بعض مؤرخى العلم المنصفين قد حاولوا أن يبينوا أثر الفلك الشرقى فى تقدم الفلك اليونانى، فمثلاً يذكر سارتون أن الأفكار التنجيمية التى انبعثت من فارس وبابل، قد دمجت فى عهد باكر بتصورات الفيثاغوريين والأفلاطونيين . كما يذكر أيضاً أن التقويم اليوناني الذى أسس سنة 45 ق.م، قام على أساس التقويم المصرى القديم 50). كما يذكر أيضاً أن البابليين كانوا أول من فكروا فى أسبوع يتالف من سبعة أيام، فعند البابليين نشأت فكرة الأيام السبعة من أصل كواكبى (ذلك أنهم عرفوا سبعة كواكب سيارة تشمل الشمس والقمر) . وقد شاع استعمال فكرة هذه الأيام فى الأزمنة الهيلنستية، فكانت أسماء الكواكب تترجم إلى اليونانية أو تعطى ما يقابها من أسماء مصرية فى مصر فى عهد البطالمة.
مما سبق يتضح لنا أن علم الفلك عند اليونان لم يأت على غير مثال، بل كان نتيجة جهود الشرقيين السابقين فى مصر وبابل وفارس والهند ثم حاول فلكيو اليونان أن ينظموا ما أخذوه عن الشرقيين، فكان ذلك الفلك اليونانى .
وهناك حقيقة نود أن نشير إليها هنا ألا وهي يجب أن لا نغفلها، وهى أننا فى أى جيل من الأجيال السابقة لا نجد مفكرا ما ممن ينسب إليهم أبداع أو ابتكار أو أصالة أو تجديد فى عصره، إلا ونجده قد تأثر بصورة أو بأخرى وبدرجة أو بأخرى، بمفكر آخر أو أكثر من المفكرين السابقين عليه، أو المعاصرين له ممن يشاركون أو يماثلونه فى الاهتمام بهذا المجال الفكرى أو ذاك . ذلك لأن المفكر لا يبدأ من فراغ ولا ينطلق من نقطة الصفر، وإنما ينشأ ويتربى فكريا أولاً وأخيراً على تراث السابقين .
وإذا كان اليونانيون قد أخذوا كثيراً عن المصريين والبابلين أصول علم الفلك، فإن هذا لا يفضى إلى إلغاء شخصياتهم العملية ومعطياتهم الإبداعية فى مجال علم الفلك، بل بالعكس أن لديهم طاقات متجددة ومبادرات خلاقة أضافت إلى رصيد الإنسانية قيمة لا تقدر .
ولكى نبين جهود وإبداعات اليونانيين فى علم الفلك، لا نجد بداً من أن نغض النظر بعض الشئ عن الترتيب الزمنى، ذلك لأن جهودهم وإبداعاتهم فى مجال علم الفلك لا حصر لها ونكتفى ببعض الأمثلة وذلك فيما يلى :
1- افتراض الفيثاغوريون أن الأجرام السماوية ذات شكل كروى وأنها فى مدارات دائرية، وأنكروا أن تكون الأرض ثابتة فى مركز الكون، وجعلوا بدلاً منها ناراً مركزية، وأحدثوا بذلك ثورة على التصور القديم بهيئة الفلك، وقد شاعت فكرة كروية الأرض، وأخذ بها أغلب فلاسفة الإغريق . غير أنهم اعتقدوا أنها ثابتة فى مركز الكون، وكان الفيثاغوريون يقديون الأرقام ويرون أن لها صفات خاصة، وتصوروا السماء ذاتها على أنها توافق أرقام، وأن المسافات بين الأجرام السماوية إنما تخضع هى الأخرى لنسب رقمية معينة، وكانوا يرون فى الرقم عشرة صفات عجيبة واعتبروه عددا تاماً كاملاً؛ حيث يضم خصائص الأعداد، وعلية فإن الأجرام السماوية لابد أن تكون عشرة، ولما كانت الأجرام المعروفة وقتذاك تسعة فقط " الشمس، الأرض، القمر، عطارد، الزهرة، المريخ، المشترى، زحل، النجوم، الثوابت " فقد أضافوا جرماً عاشراً، جعلوه أرضا مقابلة . واعتقد الفيثاغوريون أن الشمس والقمر والكواكب، كأنها مرتكزة على كرات مجسمة وتدور حول النارية المرتكزة، ويتولد عن دورانها الموسيقى السماوية،، وأن الأرض تدور من الشرق إلى الغرب " ولا يعرف كيف تم لهم معرفة ذلك مرة كل يوم " نهاره وليلة " . أما الشمس فإنها تدور حول النار المركزية مرة كل عام، وعللوا عدم رؤية النار المركزية بأن وجه الأرض المقابل لنا يتحرك دائماً بعيداً عن هذه النار المركزية . كذلك عللوا عدم رؤية الأرض المقابلة بوجود النار المركزية دائما بين الأرضين .
2- يحظي الفكر اليوناني في العصر الهيليني بعلماء وفلاسفة اهتموا اهتماماً كبيراً بعلم الفلك من أهمهم "يودكسوس"، الذي اشتهر في علم الفلك بنظرية الكرة المتمركزة، تلك النظرية الجميلة التي ابتدعها ليفسر الحركة الظاهرية للسيارات، وبصفة خاصة النقط التي تبدو ثابته فيها وما يظهر عليها من التراجع، والنظرية تصدق أيضاً علي الشمس والقمر، وقد استخدم يودكسوس لكل منها ثلاث كرات، وقد مثل حركة كل سيارة كأنها ناشئة من دوران أربع كرات متداخلة متحدة المركز مع الأرض وتتصل علي الوجه التإلي، كل كرة من الكرات الداخلة تدور حول قطر ثبت طرفاه ( القطبان ) في الكرة التالية التي تحيط بها. فأما الكرة الخارجية فتتمثل الدورة اليومية، والثانية تمثل حركة على محيط الدائرة البروجية، وقطباً الكرة الثالثة مثبتان فى الكرة السابقة، وقطبا الكرة الرابعة ويحملان السيارة مثبته على خط استوائها قد ثبتا على الكرة الثالثة ورتب فرع الدوران واتجاهاته بحيث ترسم السيارة على الكرة الثابتة منحنيات يسمى حدوة لحصان أو شكل حرف ثمانية بالغة الإفرنجية، وهو يقع على طول الدائرة (البروجية) ويتناصف بها والترتيب بأجمعه يدل علي ذكاء هندسى خارق .
3- فى القرن الثانى بعد الميلاد جمع كلوديوس بطليموس " 90- 167م" الذى أسماه العرب بطليموس القلوزى أو القلوذى " كل المعارف المتاحة فى الفلك ونسق بينها وشرحها وهذبها وأزال غموض بعضها وأضاف إليها وضمها فى كتابه المشهور " التصنيف الرياضى " ويقع فى 13 مجلداً، وترجمه العرب باسم " المجسطى " وشرح فيه بطليموس الظواهر الفلكية وحركات الشمس والكواكب وطول اليوم وأوقات الشروق والغروب للنجوم فى مختلف المناطق على سطح الأرض، وأتى بالبراهين الصحيحة على كروية الأرض، وذكر شيئاً عن المثلثات الكروية، وطول السنة والشهر القمرى، وشرح أدوات الرصد وأهمها الإسطرلاب، وظاهرتى الكسوف والخسوف، وقد ظل هذا الكتاب المرجع الأساس لعلم الفلك فى الشرق والغرب بعد ذلك .
وقبل بطليموس كانت لعلماء الاسكندرية فى الفلك آراء مبتكرة فى علم الفلك، من أهمهم " أريستارخوس " " ت23 ق.م " وقد أحدث أريستارخون ثورة فى التصور الفلكى القديم للكون " هيئة الفلك " بأن جعل النجوم الثوابت والشمس ساكنة لا تتحرك وجعل الأرض والكواكب السيارة هى التى تتحرك حول الشمس فى محيط دائرة الشمس مركزها، وهو بذلك قد أحل الشمس محل النار المركزية فى نظام الفيثاغوريين، وافترض أريستارخون أن الأرض تدور فى فلك مائل، وفى نفس الوقت تدور حول محورها الذى تدور علية، واعترض معاصروا أريستارخون " من أمثال " بطليموس " على هذه النظرية ولم يقبلوها، والتى تعتبر أعظم اكتشاف فلكى فى العصور القديمة،ولكنه لم يكتب له الذيوع والشهرة وتمسك الفلكيون بالتصور
د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط
ذو النون المصري.. صاحب الأحـوال والمقامات
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د.علي كرزازي
"آثروا الله على كل شيء فآثرهم الله على كل شيء"
رأى النور في أخميم بمصر سنة 180هـ وعاش في القاهرة، هو ثوبان بن إبراهيم يكنى بأبي الفيض ولقبه ذو النون، أحد أساطين التصوف في القرن الثالث للهجرة، عدا عن كونه من المحدثين الفقهاء، إذ روى الحديث عن مالك بن أنس والليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة.
ارتحل ذو النون إلى الشام والحجاز (مكة) لاستكمال طلب العلم، لكنه عاد إلى مصر حيث استقر بالجيزة، وعن مسرى رحلاته يقول: «ارتحلت ثلاث رحلات وعدت بثلاثة علوم: أتيت في الرحلة الأولى بعلم يقبله الخاص والعام، وأتيت في الرحلة الثانية بعلم قبله الخاص ولم يقبله العام، وأتيت في الثالثة بعلم لم يأخذ به الخاص ولا العام فبقيت شريدا طريدا وحيدا ». ومن خلال استقراء المسار الصوفي للرجل استنتج الكثير من الدارسين أنه يقصد بالعلم الأول علم التوبة وهو بلا شك علم يتقبله الخاص والعام، و العلم الثاني هو علم التوكل والمعاملة والمحبة يقبله الخاص لا العام، في حين أن العلم الثالث هو علم الحقيقة الذي لا يدركه علم الخلق ولا عقلهم، ولذلك هجره الناس وأنكروه عليه حتى انقضت أيام حياته .
اشتهر ذو النون بفك طلاسم الخطوط المصرية الهيروغليفية قبل وصول الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1789م بألف سنة على الأقل، وقد سبق في ذلك العالم الفرنسي شامبليون، كما اطلع على الفلسفة اليونانية وتأثر بالفلسفة الهرمسية والأفلطونية المحدثة. ومن أشهر مؤلفاته "حل الرموز وبرء الأرقام في كشف أصول اللغات والأقلام".
يعد ذو النون – بحسب القشيري في رسالته- أول من عرف التوحيد بالمعنى الصوفي، عدا عن كونه أول من وضع تعريفات للوجد والسماع والمقامات والأحوال.
أودع ذو النون السجن مرارا لأنه قاوم المعتزلة لقولهم بخلق القرآن، كما اتهمه معاصروه بالزندقة وألبوا الخليفة المتوكل عليه بدعوى إحداثه علما لم تتكلم به الصحابة، فاستدعاه المتوكل لبغداد سنة 829م، ويقال أنه لما دخل عليه وعظه فبكى فرده إلى مصر مكرما.
من أقواله المأثورة التي تدل على رسوخ قدمه في العلم والورع:
- «مدار الكلام على أربع: حب الجليل، وبغض القليل، واتباع التنزيل، وخوف التحويل».
- «لا تسكن الحكمة معدة ملئت طعاما».
- سئل عن التوبة فقال: «توبة العوام تكون من الذنوب، وتوبة الخواص تكون من الغفلة».
-«من تذلل بالمسكنة والفقر إلى الله رفعه الله بعز الانقطاع إليه ».
-«إن لله عبادا تركوا المعصية استحياء منه بعد أن كانوا تركوها خشية منه، أفما وقد أنذرك ».
ومن أشعاره قوله:
أموت وما ماتت إليك صبابتي
*** ولا قضيت من صدق حبك أوطاري
مناي كل المنى أنت له منى
*** وأنت الغني كل الغنى عند اقتداري
وأنت مدى سؤلي وغاية رغبتي
*** وموضع آمالي ومكنون إضماري
تحمل قلبي فيك ما لا أبثه
*** وإن طال سقمي فيك أو طال إضراري
وكغيره من الزهاد المتصوفين نُسجت حول ذي النون العديد من الخوارق والأساطير والكرامات، من ذلك مثلا ما يرويه صاحب (شذرات الذهب) من أنه لمّا توفي بالجيزة سنة 245هـ أخذت الطير الخضر ترفرف في جنازته حتى وصل إلى قبره.
رحم الله العارف بالله أبا الفيض.
د. علي كرزازي/ المغرب
الحداثة وبؤس الراهن العربي
- التفاصيل
- كتب بواسطة: علي عمرون
قراءة في فكر حمادي بن جاء بالله
استعمت اليه في احدى حلقات france24 ضمن برامج محاور ينعي الواقع الإنساني "معلنا ان العالم كله في ضرب من اليتم السياسي" بشخصيته الهادئة ولغته الواضحة المباشرة والتي تعكس فكره العقلاني ونظرته النقدية للراهن العربي الذي يعيش حالة من البؤس، اكد على حتمية أن نستيقظ"، منوهاُ بأنه "لا مستقبل لنا" دون الحداثة أي بدون الحرية والعلم أو ما يعرف بالديمقراطية.
الدكتور حمادي بن جاء بالله في مشروعه الفلسفي، اشتغل على إشكالية الحداثة، فككها وتوغل فيها وفق مقاربة أنثروبولوجية ورؤية إبستمولوجية ، مرتكزا على مفهومي القطيعة والانفراق كأدوات للتحليل والنقد، مؤكدا على حتمية استرداد الانسان العربي لفعل المبادرة وصناعة التاريخ وان هذا الأمر ممكن من خلال العلم كوسيلة للتحكم في قوى الطبيعة ومشروط بتوفر مناخ فكري حر.
حمادي بن جاء بالله يعد اليوم من أبرز المشتغلين في حقل الفلسفة والابستمولوجيا وواحد من مؤسسي معهد البحوث في الأديان وهو أكاديمي وباحث تونسي حاصل على الجائزة الأوروبية العربية للترجمة. من مواليد عام 1950.من وجهة نظري هو أستاذ الفلسفة المشاغب بامتياز ليس فقط بمواجهته للإسلام السياسي بل بتحطيمه لكثير من الأوهام على مستوى تاريخ الفلسفة وفكرة الحداثة وما بعد الحداثة عبقريته تكمن في انه انزل الفلسفة من سماء البحث الاكاديمي الى ارض الواقع محاضرا ومحاورا متحركا في اتجاهات عديدة متسلحا بشخصية المثقف النقدي.
في مفهوم الحداثة ونقد مابعد الحداثة
الحداثة من منظور حمادي بن جاء بالله جهد علمي لفهم نظام الكون فهما مستحدثا. ومحددات الحداثة علميا واخلاقيا وسياسيا يمكن فهمها من خلال منطلقاتها التاريخية ومن ثمة لامعنى للحديث عن متى بدأت الحداثة وانما الأهم تحديد مرتكزاتها وإمكانية انبعاثها في العالم العربي فالحداثة وفاء لقيمة الحقيقة العقلانية في بعدها العلمي ولقيمة الحرية في بعدها الإنساني . العلم والحرية عنده هما عماد بناء الحداثة والمجتمع الديمقراطي الحر. والحرية ليست مفهوما نظريا بل مطلب ثوري وليس هناك فعل عملي جديرا بان يسمى ثورة إلا اذا طلب الحرية لا أكثر ولا اقل، لأنه ليس فوق الحرية فوق ولا تحت الحرية تحت ولا بعد الحرية بعد. وليس من قيمة باقية اذا ذهبت الحرية مفهوما وقيمة و هذا المفهوم قريب من تعريف جابر عصفور للحداثة "من حيث أنها:" البحث المستمر للتعرف على أسرار الكون من خلال التعمق في اكتشاف الطبيعة والسيطرة عليها وتطوير المعرفة بها، ومن ثم الارتقاء الدائم بموضع الإنسان من الأرض. أما سياسيا واجتماعيا فالحداثة تعني الصياغة المتجددة للمبادئ والأنظمة التي تنتقل بعلاقات المجتمع من مستوى الضرورة إلى الحرية، من الاستغلال إلى العدالة، ومن التبعية إلى الاستقلال ومن الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن سطوة القبيلة أو العائلة أو الطائفة إلى الدولة الحديثة، ومن الدولة التسلطية إلى الدولة الديموقراطية"
الحداثة بهذا المعنى تجديد في العلم والسياسة والأخلاق كما هو واضح عند ديكارت غاليليو، مونتيسكيو وميكا فللي وغيرهم. الفكر الحديث جوهره الحرية وهذه ميزة خالصة للعصر الحديث فلامعنى للإنسان خارج الحرية ثم ان قيمة الحرية في الفكر العلمي والسياسي والأخلاقي ثابتة لذلك عندما سأل كانط لماذا خلق الله الانسان؟ أجاب خلقه للحرية. وهنا يؤكد انه في محاضرة ألقاها سنة 2005 ببيت الحكمة موضوعها "خلق آدم" ومعاني التكريم الإلهي، انتهى فيها إلى أن قدر الله في البشر أنه خلقهم أحراراً.
من الثورة العلمية الى خلخلت الفكر السياسي
الثورة العلمية انتجت في أوربا ثورة سياسية فلم يعد الحاكم ظل الله على الأرض حيث ان هذه الفكرة في الاصل فكرة فرعونية انتقلت الى الفكر اليهودي مع الفيلسوف اليهودي فيلون الاسكندري الذي توفي 33م فيلون يؤمن بوجود سبع انواع وساطات بين الاله الخالق والعالم (المادي)، لهذه الوساطات درجات في اهميتها اولها هي لوغوس او الكلمة، ابن الله، ثم يليه الحكمة الالهية، ثم رجل الله (ادم)، فالملائكة، نفس الله، واخيرا القوات التي هي من الملائكة والجن.ثم اخذتها المسيحية “من خلال بطرس :"أنت هو الصخرة، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبوابُ الجحيم لن تقوى عليها” (متى 16: 18). من هنا كانت الحداثة ثورة على هذا المفهوم حيث أصبح الحاكم موظفا وهو ترجمان اشواق شعبه وهكذا قامت الحداثة على مرتكزين الأول علمي من خلال علم الفلك والميكانيكا والفيزياء والثاني سياسي من خلال إعادة النظر في محددات النظام السياسي.
الطريق الى الحداثة في العالم العربي
الحداثة في العالم العربي ممكنة وهي انجاز لم يتحقق بعد ان الحداثة عصر فتي لم يكتمل وتاريخ البشرية يمكن ان ينقسم الى قسمين: ما قبل كوبرنيك حيث يمكن العودة الى ما قبل حمورابي هي فترة واحدة رغم اختلاف الأديان واللغات لان نموذج التفكير واحد وما بعد كوبرنيك . لقد عاشت الحداثة أزمات مستمرة والازمة كانت ولاتزال حالة إنسانية، هي رؤية يتقاسمها مع الدكتور والباحث المغربي مولاي احمد صابر المتخصص الفكر الإسلامي المعاصر من حيث ان الحضارة فعل تشاركي ،هي حضارة إنسانية واحدة رغم تعدد جذورها وفروعها مما يستلزم في نظره الخروج من ثنائية الشرق والغرب والانا والغير وغيرها من الثنائيات . فالأصل هو التعارف و التآلف والتحاور وان الحوار بين الحضارات لا التصادم هو المخرج من حالة التأزم. على اعتبار ان التفوق والتميز لا يرتبط بثقافة او حضارة دون أخرى فلاوجود لمعجزة يونانية فقط هو ارتقاء في الفكر ناتج عن حسن التلمذة فاذا كان الشرق قد فكر بالصورة فان الغرب قد فكر بالمفاهيم، وهنا يجب ان نتذكر على الدوام ان الحق لايضاد الحق بل يوافقه ويشهد له... ولكن علينا في كل الحالات ان ندرك:
01 - ان الحداثة هي نتاج ثورة علمية من علم الفلك والفيزياء الى الرياضيات وان المثقف العربي اذا لم يدرك ان الحداثة هي بالأساس ثورة علمية تتيه به السبل في فهمها والدفاع عنها.
02- هي ثورة دامية وليست سلمية لم يرحب به الأوربي منذ البداية .ورفض الأوربي كان اشد من رفضنا لها اليوم في البلاد العربية فجميع الحركات التجديدية في الفكر والثقافة تقابل بالرفض وبالعنف بما يشبه الاجماع التاريخي ولا توجد مرحلة اكثر مرارة من بداية الحداثة في الفكر الأوربي فاكثر الفلاسفة ورجال الفكر اما قتلوا سجنوا شردوا ديكارت عاش شريدا لم ينشر أي كتاب في فرنسا ولم يدرس فيها لم يستعده الفرنسيون الا بعد مماته وتطلب الامر ما يقارب القرن غاليلي سجن .وفي يوم 17 شباط/فبراير 1600، اقتيد جوردانو برونو Giordano Bruno نحو ساحة كامبو دي فيوري (Campo de Fiori) عقب حلق شعره. وعلى حسب عدد من المصادر، ثبّت لسان الأخير بمسمار على قطعة خشبية صغيرة قبل أن يعلق رأسا وهو عار ويحرق حيّا. توماس كامبانيلا ألقى الإسبان القبض عليه عام 1599، وسجنوه في نابولي مدة 27 سنة، وعدوه شخصاً شديد الخطورة. كان يقرأ ويكتب في السجن، ويهرّب أصدقاؤه مايكتب وينشرونه خارج نابولي. وعندما أفرج عنه أعادوا القبض عليه بأمر محكمة التفتيش بتهمة الكفر والهرطقة.
ادراك الانسان العربي لمحددات الحداثة لا يكفي لقيامها حيث انه لايمكن ان تتجسد الحداثة في العالم العربي والإسلامي الا من خلال تجاوز العوائق المختلفة :سوء التفاهم بين المسلمين والحداثة واستخدام مصطلح الحداثة تهكما والذي يدل على عدم الفهم الصحيح للحداثة واعتبار الحداثة مرادفة للتفسخ الأخلاقي وهذا العائق وجد أيضا في اوربا منذ أربعة قرون حيث اعتبر اكثر رجال الفكر والفلسفة والعلم آنذاك متآمرين مع المحمديين وكانوا يعنون بذلك الاتراك باعتبارهم استعماريين والمحافظة على الامن الفكري لأوربا كان يستوجب محاربة هؤلاء بدليل انه في سنة 1277اصدر بابا الفاتيكان توبيخا لأسقف باريس تونبيي لأنه ترك باريس نهبا للغزو الفكري والأخلاقي المحمدي وطالبه بضرورة تحريم وتجريم تعليم الفلسفة العربية وهو في الواقع تجريم للأرسطية ممثلة في فلسفة ابن رشد هذه الحجة استردها العصر الحديث في مواجهة كوبرنيكس وغاليلي ....اوربا قاومت سجنت للحفاظ على اركان بيتها الثقافي. واليوم نحن في العالم العربي نحارب الحداثة من نفس المنظور.. تناقض الضمير العربي حيث الادعاء اننا اصل الحداثة واننا علمنا اوربا وان الفكر الأوربي محصلة للفكر العربي ثم نتنكر للحداثة .العربي يقبل على منتجات الحداثة بقدها وقديدها ويعرض عن الفكر الحداثي فنحن نستخدم منتجاتها وونكر أصولها يجب الاعتراف بان زادنا قليل عندما يتعلق الامر بالفكر النقدي ذلك ان الترجمة في العالم العربي محدودة ، وأستطيع أن أقول عنها إنها ُ فضيحة للعرب فنحن لا نترجم خمس ما تقوم به اليونان من ترجمة. وتقرير الأمم المتحدة حول حركة الترجمة العربية كان بمثابة فضيحة مدوية للمثقفين والمفكرين العرب واتهمهم بأنهم كسالى يرفضون التفكير. رغم ان هناك بوادر طيبة منها التنبيه الى أهمية الترجمة وتعلم اللغات الاجنبية .
الراهن العربي وبؤس الفلسفة
الفلسفة الغربية أصبحت فلسفة نعي لأنها اعلنت عن موت الانسان مع فوكو وموت الاله مع نيتشة وهيدجر ونهاية التاريخ ونهاية الذاتية الفلسفية . واليوم لاوجود لفيلسوف عربي .ومن من خلال العودة الى جهود كارل ياسبرس ومحاولته الإجابة عن سؤال من هو الفيلسوف نجده يضع شروطا كثيرة لا تتوفر الا عند هوسرل ،ففي فرنسا لا يوجد فلاسفة بعد ديكارت وأغست كونت اليوم لاوجود لفلاسفة في العالم العربي الا على جهة الادعاء .
البؤس العربي اليوم نتيجة لإكراهات عديدة منها الاسلام السياسي الذي هو تعبير عن مجرد اغتراب في الزمن وشكل من اشكال الارتماء في أحضان الماضي انه الغربة في جميع معانيها. الاسلام السياسي عاجز عن وضع الحلول فقد اكتشف مصاعب الحكم بمجرد ان اتيحت له فرصة ممارسة الحكم ثم ان التيارات الإسلاموية جميعها كانت نتيجة للفشل الاجتماعي والاقتصادي والقحط الوجداني والتصحر الفكري والقمع السياسي. فهل يمكنها ان تنتج غير ما أ نتجها هي بالذات.؟ ودور ما يسمى «بعلماء المسلمين» و«المفتين» و«الفقهاء» في صناعة هذا البؤس أشهر من ان يذكر به، لا سيما في عهد الفضائيات وتكنولوجيات الاتصال العاتية.
الاخفاق والفشل لا يلازم فقط العالم العربي بل هو حالة عامة فعندما سأل الإعلامي التونسي كمال بن يونس المفكر حمادي بن جاء بالله في حوار الخاص بـ "عربي21"عن المتغيرات الحاصلة اليوم في العالم بعد انتشار فيروس كورونا أجاب شخصيا لا أرى في العالم قيادات لديها حكمة سياسية قادرة على أن توجه العالم في وجهة جديدة.. نفتقر إلى حكماء حقيقيين.. يكونون في مستوى الحاجة لبناء نظام عالمي جديد..
نحن في وضع حرج جدا وتاريخي: القوي يكتشف حدود قوته، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، والضعيف أصبح لا يتحمل ضعفه.. ودول "الجنوب تبدو" تحت ضغط مضاعف ومتعدد الأشكال..
النتيجة قد تكون مزيدا من التفكير في الهجرة والمغامرة بالحياة والأمن والمصالح القديمة .. واكد انه
ستسقط في المدة القادمة 3 أوهام كبرى:
ـ الوهم الأول الذي برز بعد الثورة الصناعية والاعتماد على الآلة الحديثة وبروز شخصيات في حجم آدم سميث والدعوات إلى مقولات ليبرالية من نوع "دعه يعمل دعه يمر".. أعلنوا عن تراجع "نهائي" لدور الدولة الاقتصادي لصالح رأس المال الذي يخلق الرفاهية والازدهار والسعادة.. وتابع مفكرون ومنظرون اقتصاديون بعدهم الترويج لهذه المقولة التي تبين فشلها.. وأنها كانت "وهما"..
ـ الوهم الثاني: سقوط النظريات التي قام عليها فكر رواد الاشتراكية والشيوعية حول نهاية الدولة ونهاية التاريخ وفق مسار صراع الطبقات.. وبشرت هذه النظريات كذلك بنهاية الرأسمالية وانتصار الديمقراطية الاجتماعية.. لكن الحصيلة كانت الوصول إلى الدولة القمعية الحديدية ورأسمالية دولة جديدة.
ـ الوهم الثالث يهم مقولات "ما بعد الحداثة".. والعولمة الاقتصادية والفكر السياسي الاقتصادي الذي وعد بالتنمية الشاملة والديمقراطية والشراكة بين الإدارة ورأس المال والمجتمع المدني.. واعتبر دور المجتمع المدني محوريا.. لكن الحصيلة كانت عولمة متوحشة أنتجت أصنافا من الظلم واختلال التوازن والفوارق.. ونظما في الحكم وتوزيع الثروات من أبشع ما عرفت البشرية من ظلم ..
عمرون علي - الجزائر
أستاذ الفلسفة
...............................
* حمادي بن جاء بالله: أكاديمي تونسي من مواليد عام 1950، يشتغل ضمن حقلي تاريخ الفلسفة الحديثة والإبستيمولوجيا. من إصداراته: "تكوّن مفهوم القوة في الفيزياء الحديثة" (صدر بالفرنسية، في جزأين عام 2006 وترجم إلى العربية عام 2015)، و"تحوّلات العلم الفيزيائي ومولد العصر الحديث" (1986) و"العلم في الفلسفة" (1986) و"مبادئ المعرفة في نقد العقل المحض" (1997). كما ترجم كتاب "العلم والفرضية" لـ هنري بوانكريه، وله تحت الطبع "تأملات ومواقف في التحولات الوطنية الراهنة" و"الدين تأسيس للحرية".
بؤرة المكان والتشكل الحسي
- التفاصيل
- كتب بواسطة: محمد يونس محمد
في كتاب: داخل المكان.. المدن روح ومعنى للدكتور جمال العتابي
منسوب التاريخ والذاكرة المكانية – أن للمكان سلطة قائمة على اي نفس بشرية ولن تجد هناك كيانا بشريا منفصل تماما عن الذاكرة المكانية، وما دام هناك تاريخ قد جسد، فأن له نسب ترتبط بحياتنا الحاضرة، وخصوصا تلك الامكنة التي عشنا فيها الطفولة والصبا والشباب، والتي لامست عاطفتنا واثرت فيها، وصراحة نحن كلما ابتعدنا عن التاريخ نكون قد اقتربنا منه، ويشكل المكان جزءاً من ذاكرتنا ومن حياتنا الانية ايضا، وذاكرة المكان دائما ما تكون محفزة لمشاعرنا، وتثير في نفوسنا وارواحنا على السواء تلك النشوة الحزينة اذا جاز التوصيف، وهذا ما لمسناه في كتاب الدكتور جمال العتابي – داخل المكان – المدن روح ومعنى – والذي اشار لنا من العنونة على فكرة الاحساس المكاني في داخلنا من جهة تصور الذهن له وتعلق الوجدان به، ومن خلال مشاهدتنا له والتي تكتسب تأويلات عدة اضافة الى الاعتقاد الجازم الذي نشترك به نحن الذي ترتبط بذلك المكان تاريخيا، وقد شكلت مدينة الحرية اصرة واسعة لجذب التاريخ نحو وعي جمال العتابي، فقدم لنا صورة حسية عن المكان كانت كحبات مطر تسقط على قلوبنا المتجمرة، وكانت لغة الكتابة هي مجموعة مشاعر فردية احيانا، واخرى جمعية يشترك بها المؤلف مع اخرين، وكانت لسانيا لغة الكتابة تميل مرة الى النثري، وفي اخر ى تميل نحو الوصفي لكن ببلاغة حسيةثمة فكرة اثارها ازاء المكان بورخس أن الكتابة عن المكان لا تغني مثلما تغني مشاهدته، ويرى باشلار أن للمكان سلطة جذب كبرى، لكن حس جمال العتابي الشرقي قادنا الى تفسير تاريخ المكان بصورة مختلفة فهو ابن لذلك المكان بكل التوصيفات الانسانية، وهو مشاهد ومعايش للوحدات المكانية، والتي جردها نسبيا من الصورة البيانية التعريفية لنا، وقدم لنا ابعاداً عدة مكتوبة، لكن نحن احيانا نشعر بها، وفي احيان اخرى قد نراها متصورة كما رأى دينو بوزاتي في صحراء التتار ببلاغة لغة سردية ، ايضا قد نفذها جمال العتابي في سياق اسلوبية الكتابة .
بؤرة الجذب المكاني- تشكل بنية المكان سلطة وجدانية وحسية وشعورية من جهة، ومن جهة اخرى تكون بمتعة التجسيد والمشاهدة التي اعتدنا عليها تاريخيا في سيرورة حياتنا، والتي تمكن خطاب جمال العتابي من جعل التلقي يعايش الأمكنة خصوصاً تلك المرتبطة بتاريخنا الشخصي، وقد استطاع من اعادة انتاج تاريخ في اسلوب رشيق لا يبدي لنا اساها شجنه بوضوح، بل فسر لنا خطاب شجن واحاسيس عامة عبر شخوص منتخبين مثلوا اركان المكان المتعددة تاريخيا، وله يحسب أن وعيه الثقافي لم يحدد ركنا ويغفل اركان اخرى للوحدة المكانية المنتخبة، بل اخذنا في سياحة وصف نوعي للأركان الأخرى، وتنقل برشاقة لغة واضحةومباشرة من جهة نقل التاريخ بأمانة، ومن جهة اخرى تدعم تصعيد ايقاع الاحاسيس، وتتيح لبؤرة المكان أن تبث شحناتها الجاذبة، وطبيعي أن شحنات البؤرة المكانية ذات قدرة في تصعيد نسب الاحاسيس من مستوى شعوري الى اخر .
أن تجربة الكتابة عن المكان عند دكتور جمال العتابي تجربة تندرج في التصنيف الموضوعي على مستويين، حيث أن المستوى الأول الكتابة النصية داخل مضمون مكاني، اي أننا امام نص مكاني يحتمل أن يقرأ ادبيا، وتلك الصفة تحيلنا الى وحدة لغة الكتابة، والتي هي قد اكدت لنا علاقتها مع الادب بشكل مباشر من جهة نمط اللغة الادبي، ومن جهة اخرى على العلاقة التناصية بجمل ادبية مضمنة من خارج اصل الكتابة، وذلك المستوى الأدبي للكتابة يؤكد وجود طاقة وعي تفسر المكان وتاريخه ادبيا، ويقابل ذلك التصنيف تصنيف اخر اشتملت عليه لغة الكتابة، حيث لامست لغة الكتابة في كتاب – داخل المكان – الصادر من درا سطور، ابعاد تاريخية عديدة، ولكل بعد تاريخي نفسه الخاص، ومن خلاله يحدد معناه الاجتماعي والسياسي، واشتملت اللغة ايضا على مفارقة ثالثة مهمة، رغم أنها تندرج ايضا كوحدات تاريخية، حيث فسر لنا امكنة من خلال المكان الاساس، فالمقاهي العامة التي اوردها الكتاب كانت تشتمل على معاني ادبية ورياضية وسياسية، وكان هناك نسب من الخطابات يمكن أن نقر بوجودها في تلك الامكنة، واما الشخوص الذي كانت بؤرة المكان تجذبهم، يشكل اغلبهم وحدات تاريخية لها قيمتها المهمة ادبا او رياضة اوسياسة، وصراحة كتاب الدكتور جمال العتابي كان ذا نفس مركب بين الادراك بالمكان ورمزيته والحس بها شعوريا ووجدانيا، حيث لامس شغاف روحه عبر تصاعد حس الوجدان بالوحدة المكانية والتعلق بها انسانيا وروحيا، وكانت العلاقة بن المكان الجاذب والروح الهائمة به علاقة وجدانية عميقة بشفافية وشجن .
محمد يونس - كاتب عراقي
بايدن وبوتين وصراع الاقطاب
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عادل رضا
قراءة الحدث الدولي لاكتشاف ما وراء اللعبة ليست حالة "ترف فكري" وليست موضوع للتسلية، فهي محاولة لصناعة الوعي ولخلق المعرفة ومنها ننطلق ك "عرب" لمعرفة ما يجري حولنا ومن خلال تلك المعرفة علينا التخطيط للمواجهة وترقب للحدث، لأننا علينا ان نكون أمة "الوعي" والأمة "التي تقرأ والامة "الشاهدة" وعلينا كأفراد ضمن هذه الامة ان نعرف مسئولياتنا الشرعية وواجباتنا القومية بأن نعيش مسئولية القيادة حسب القدرة ومواقع القوة المتاحة لكل منا.
فماذا يجري على ارض الواقع في المحيط العربي من حولنا؟ ما الجديد؟ وما الخطير؟
هناك تغيير قادم في طريقة التعاطي الامريكية مع الملف الروسي وواضح ذلك مع ما كشفه الباحث الروسي الكسندر دوغين "صاحب الارتباطات والعلاقات مع مؤسسة الكرملين الروسية وكذلك مع المؤسسة العسكرية هناك وأيضا هو باحث استراتيجي ومن هذا كله تبرز أهمية ما يقوله وخاصه ما وثقه في كتابه "الحرب الأخيرة في جزيرة العالم حيث ذكر حادثة مهمة جدا ستكشف لنا حقيقة نوايا الرئيس الأمريكي الحالي بايدن بعيدا عن القناع الخفي من الدعايات والكلام المنمق الذي يصدره الامريكان الرسميين دعائيا - ويتم اعده نشره في وسائل الاعلام العربية عن قصد او من دون قصد - بعيدا عن حقيقة حركتهم على ارض الواقع.
يقول دوغان: " اثناء زيارة نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن لموسكو في ربيع العام 2011 حاول التدخل في الشئون الداخلية الروسية عندما طالب الرئيس الروسي بوتين بعدم الترشح لولاية ثانية، محذرا اياه من "ثورة ملونة" شبيهة لما حدث في العالم العربي في العام 2011 "
هذا الكلام القديم الموثق هو كاشف لما يحدث حاليا مع بداية التنصيب الحالي لجو بادين كرئيس حالي للولايات المتحدة الامريكية حيث هناك تحريك لأذرع مرتبطة مع وكالة الاستخبارات الأمريكية وهذا التحريك التوظيفي لم يتم تنشيطه الا بعد التنصيب الرئاسي لبايدن وهو تنشيط "استعجالي" "عاجل" و"سريع" في اول أسبوع ضمن الموقع الرئاسي الأمريكي وهذا من الواضح مرتبط بما قاله في العام 2011 وهو قول موثق ومكتوب ومنشور وفيه رغبة دفينة في الإطاحة بالنظام السياسي الروسي بواسطة أسلوب الثورات الناعمة التي بدأ استخدامها في جورجيا بنجاح وتم افشالها لاحقا داخل الجمهورية الإسلامية المقامة على ارض ايران 2009 وكذلك تم اسقاطها في الجمهورية اللبنانية 2007 وهي نفس الاليات التي خرجت عن السيطرة وضربت في مواقع اخرى في أوكرانيا وبداخل محيطنا العربي في مصر واليمن وتونس والبحرين الى ان تمت إعادة اطلاقها في الجمهورية العربية السورية والان يتم إعادة تفعيل هذه الاليات ضد روسيا "الدولة والنظام السياسي" ولمن يرغب بتفاصيل موثقة أخرى ان يراجع كتابنا "ما وراء الستار" الصادر في العام 2017 .
في هذه الأجواء التي يتم تسخينها داخل روسيا ضد الدولة والنظام السياسي هناك ولا أقول " ضد شخص بوتين كرئيس" يقول المحلل الاستراتيجي إسكندر نازاروف بهذا الخصوص:
" إن الولايات المتحدة الأمريكية تغرق تدريجياً في أزمة مدمرة لا يوجد لها مخرج آمن. ومن الواضح أن الأزمة تتدهور وستنتهي عاجلاً أو آجلاً بانهيار الاقتصاد والحرب الأهلية في الولايات المتحدة الأمريكية. ولم يتبق لدى واشنطن سوى 5-10 سنوات كحد أقصى، قبل أن تحل الصين محلها كأكبر اقتصاد في العالم، يلي ذلك انهيار الولايات المتحدة. وفي ظل هذه الظروف، يبدو أن الدولة العميقة الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية قررت عدم القتال على جبهتين في وقت واحد، وتصفية روسيا أولاً قبل مواجهة الصين."
وحول مدى قابلة تلك الاليات الانقلابية للنجاح داخل الواقع الروسي يضيف نازاروف الاتي:
" هل تنجح وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في إشعال ثورة ملونة في روسيا؟
في حديثهم عن الوضع الداخلي الروسي، يقول معظم المحللين الروس المعتدلين إن روسيا تستند إلى "عقد اجتماعي" بين المواطنين والنخبة السياسية التي تمثّل السلطة الحاكمة، أياً كانت هذه السلطة والقوى السياسية التي تنتمي إليها، مقابل ضمان الاستقرار والأمن للمواطنين العاديين، ونمو مستقر لرفاهية الشعب الروسي، بما في ذلك أفقر طبقاته، حتى وإن كان ذلك النمو متواضعاً.
وقد نجح فلاديمير بوتين في هذه المهمة حتى الآن، مع الأخذ في الاعتبار أزمة جائحة كورونا الأخيرة، والأزمة الاقتصادية العالمية المتزايدة، والتي أدت إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة مئوية ملحوظة، لكن معظم المواطنين الروس يرون بأم أعينهم كيف أن روسيا تمكنت من تجاوز هذه الأزمة بنجاح أكبر من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية."
" إن الغرب، في طريقه، على ما يبدو، نحو الانهيار، يرغب في تدمير روسيا. لكن بوتين سياسي محنك، وآمل أن تمتلك السلطة الحكمة الكافية لإيجاد توازن بين ضبط النفس والصلابة المعقولة. أعتقد أن محاولات زعزعة استقرار روسيا لن تكلل بالنجاح."
علما يبدو ان الرئيس بوتين يعمل في مشروع يعيد روسيا كدولة عظمى وتغيير العالم من سياسة الأحادية القطبية بزعامة الولايات المتحدة الامريكية الى عالم متعدد الأقطاب يضع روسيا والصين كأقطاب تنافس أمريكا فكل تحركات بوتين "الدفاعية" عن المصلحة الروسية من الحرب الثانية في الشيشان سنة 1999 الى ضم جزيرة القرم 2014 تشير الى ان روسيا لن تقف وتتفرج على أي تهديد لمحيطها الإقليمي وحلف الناتو.
اين نحن ك "عرب" من هكذا تطورات؟ وما العمل؟ وكيف نتصرف؟ وما هي مصالحنا؟ وماذا نريد؟ وما هو التأثير علينا؟
في واقعنا العربي الذي يغيب عنه خطة للتعامل مع الصراعات الإمبراطورية من حولنا ما لدينا للتعامل مع الاخرين من حولنا؟ الإجابة لا شيء الا انتظار نتائج صراعات الاخرين الذين ينظرون الينا كلنا من المحيط للخليج ك "عرب" وك "قومية واحدة" ولكننا العرب ننظر الى أنفسنا حسب تقاسيم الاتفاق البريطاني الفرنسي الروسي – البلشفي القديم المعروف بسايس بيكو!؟ وننتظر من الطورانيين الاتراك بشعار اسلامي الحل او انتظار الفائدة من القومية الإيرانية بشعار اسلامي المنحرفة عن خط الامام الخميني وافكاره ؟! والأسوأ من كل هذا وذاك هو من وضع من العرب بيضه مع اعدائنا الصهاينة منتظرا منهم النصرة وهم من يريدون تدمير واذلال كل الواقع العربي وليسوا موقع نصرة او امن او امان او ثقة فهؤلاء الصهاينة اعدائنا وصراعنا معهم وجودي فأما نحن ك "عرب" او هم " ك "صهاينة" ولا طريق ثالث، اما الامريكان وشلة بلدان حلف الناتو والتي تقع تحت التأثير اللوبي الصهيوني فهؤلاء اثبت التاريخ والحاضر وكما سيثبت المستقبل انهم مصلحيين بما يفيدهم هم فقط وليسوا جمعيات خيرية تقدم لنا الامن والتنمية الحقيقية.
علينا ك "عرب" ان نعترف اولا اننا "عرب!؟" وان علينا الوحدة والتنسيق والتعاون والتضامن والخروج من مخططات الاخرين لنقدم مخططاتنا ومشاريعنا التي تخدمنا نحن ك "عرب" كما تخدم كل المشاريع الإمبراطورية الإقليمية والقارية قومياتها، وهذا هو واقع الدولي وطبيعة الصراعات فيه وغير هذا الكلام هو خروج عن الواقع الى عالم الاحلام حيث الوهم والسراب والضياع في صحراء التيه.
وعلينا ان نعرف ان الجلوس على طاولة واحدة مع أعضاء حلف الناتو او مع الصهاينة او مع الطورانيين الاتراك او مع القوميين الإيرانيين لن يصنع منا دول عظمي او أصحاب نفوذ ولكن سنكون جالسين على طاولة!؟ بينما الاخرين .... كل الاخرين لديها القرار والسيطرة ومواقع القوة.
ان المصالحة العربية "مطلب" والوحدة العربية "قدر" لا مفر منه لأن من حولنا إقليميا هم "قوميين" في حركتهم ومصلحيين في أهدافهم ولا يهتمون في واقعنا العربي الرسمي والشعبي الا بما يفيد قومياتهم الأخرى المخالفة لقوميتنا العربية وواقعنا.
وبين مطلب المصالحة وقدر الوحدة، يبقى التنسيق الاولي أضعف الايمان إذا صح التعبير وكل ما هو حركة على ارض الواقع انطلق من فكرة وحولها تتجمع القناعات ومن ثم تتجه الفكرة الى خط التطبيق.
ولنا في المصالحة الخليجية الأخيرة المثال وواقع تطبيقي عشناه كلنا ولنا أيضا في افتتاح سفارات سلطنة عمان ودولة الامارات العربية المتحدة داخل الجمهورية العربية السورية حاضر قريب اخر عايشناه.
لن يهتم بنا الغرباء بنا ك "عرب" الا بمقدار مصالحهم وبما يفيد مشاريع بلدانهم ونحن سنكون ضحية مشاريع الاخرين إذا استمرت الصراعات العربية الجانبية والتي لن تفيد أحد الا في استمرار سقوط واقعنا كله في حضن مشاريع الغرباء حولنا.
ان تحديات المحيطة حول الواقع العربي كبيرة وكذلك خطيرة وسط صراعات قوى إقليمية تريد ان تسيطر وقوى أكبر منها ترغب في ان تفرض مشاريعها وهناك من يريد ان يستمر في نجاحاته في اختراق للواقع العربي احدثه من هنا وهناك.
ماذا لدينا كعرب الا الوحدة والتنسيق فيما بيننا من الجانب الرسمي نتحدث، وكذلك تعزيز العمل الشعبي المرتبط في فتح المجالات الثقافية والاقتصادية والنقل وهي مشتركات تفيد الكل وتنفع جميع العرب ويستطيع النظام الرسمي العربي الانطلاق منها كمشتركات شعبية ومصلحية تكون كمن يكسر جمود العلاقات وحزازيات صراعات سابقة او تنافر من التعامل الرسمي لموقف حدث من هنا او قرار سياسي من هناك او غضب من تصرف معين من هنالك.
د. عادل رضا
طبيب وكاتب كويتي في الشئون العربية والاسلامية
الثقافة والفكر وتأصيل الموروث
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عبد الخالق الفلاح
الكثير من الدول تعمل وبشكل دائم على تنشيط الحياة الثّقافيّة والفكريّة والفنيّة في مجتمعاتهم من خلال برامج وفعّاليات مختلفة،لغرض إثراء الحياة الثّقافيّة لتعزيز العوامل المؤثرة في تنمية الحس الإبداعي، وتحويل الثّقافة والفكر والإبداع إلى واقع ملموس.وتنعكس على التّوجهات الإيجابية في التّعاطي الحكومي مع العمل الثّقافي، لخلق فضاءات غير تقليديّة بذلك، تستقطب بالضّرورة الأجيال الجديدة التي تمثل شريحةً كبيرةً من مجتمعاتهم، إلى جانب تنوع المجالات الثّقافيّة التي تقدمها المؤسسات المعنية بالثّقافة والفكر والفنون، لتأتي الخطوات في ظِلِّ غلبة التّوجه النّخبوي للثّقافة والفكر، ونوعًا من الحراك الثّقافي النّشط نسبيا فيخلق توجهًا عامًا لا يمكن إنكاره والرامي إلى تحفيز كافة فئات المجتمع للمشاركة في المظاهر والفعاليات الثّقافيّة والفكرية، بعد أنْ أدركت أهمية التّنمية الثّقافيّة كمكوِّن أساسيٌّ من مكوّنات التّنمية المستدامة في الدول، والتي تتطلب بناء الإنسان معرفيًا وثقافيًا وفكرياً، والأخذ بأسباب الفعل الثّقافي الإيجابي، وتأصيل المعرفة باعتبارها عاملاً مهمًا في التّنمية الناهضة إضافة إلى تحقيق الاستدامة الثّقافيّة، والعمل على توظيف الثّقافة في التّنمية حتى تنضج في ترسيخ التّنمية الثّقافيّة في تلك المجتمعات فتصبح أكثر وعيا وتفهما إلى حد ما لقيم المعرفة والثقافة والفكر والفن لتتماشى مع التّوجهات الرّسمية والمجتمعية الرامية إلى إعلاء شأن الثّقافة والفنون والإبداع والابتكار بما يتوفر لها من مقومات ثقافية وتاريخية وموروث تراثي .
الثقافة تعتبر من أكثر المفاهيم تعقيدا، بغض النظر عن مدى الادراك بالمفهوم اللغوي والفكري والمعرفي للثقافة والاتفاق على مضامينه ومكوناته، و الأمر الذي اتفق عليه في شان الثقافة هو: أن لكل إنسان ثقافة تميزه عن غيره وأن لكل مجتمع ثقافة اجتماعية تميزه عن باقي حياتهم، وكما أن الثقافة تلعب دورا فاعلا في حياة المجتمعات ،إذ تشكل الثقافة بمفهومها العام البنية الأساسية لطرائق التفكير وآليات التفاعل الاجتماعي الأمر الذي يؤثر على فلسفتهم، والأفراد والمؤسسات، وهي الوعاء الحاضن للفكر الذي هو مجموعة من الآراء المتشكلة التي يُعبّر بها. فإذا مزجنا تعرفي الثقافة والفكر على التوالي فإن الآراء والأفكار التي يعبر بها شعب ما عن اهتماماته ومشاغله تُرى من خلال النظارة الملونة التي يرى المجتمع العالم من خلالها، وهي وعاء هوية المجتمع و المنظومة العقائدية والقيمية والأخلاقية والسلوكية له، وهي التي تشكل خريطته الإدراكية وتحدد مجال إدراكه ووعيه وأنماط الشخصية فيه. باختصار شديد، الثقافة هي النظارة الملونة التي يرى أفراد المجتمع العالم من خلالها كوعاء هويته ومصدر تماسكه وهي كلمة قديمة وعريقة تؤثر في الأفراد، بشرط ان يكون المثقف جزء من ثقافة بيئته ، ومغيّر للمرتكزات المتخلفة فيها، كما أن ثقافة الإنسان وأفكاره تتأثّر بوسائل الحياة المدنيّة التي يستخدمها في الإنتاج وتقديم الخدمات وتتأثّر حياته بالتطوّر الصناعي والعلمي الكبير الّذي وصلته البشرية، بمعنى أن المادة تنعكس على طبيعة تفكير المثقف والمجتمع عموما وتؤثر في هذا السلوك تطورا أو تراجع وتعني صقل النفس والمنطق، وفي المعجم جاء بمعنى ،ثقف نفسه، أي صار حاذقاً خفيفاً فطناً، وثقفه تثقيفا أي سواه، وثقف الرمح، تعني سواه وقومه، والمثقف في اللغة هو القلم المبري، وقد اشتقت هذه الكلمة منه حيث أن المثقف يقوم نفسه بتعلم أمور جديدة كما هو حال القلم عندما يتم بريه، ولطالما استعملت الثقافة في عصرنا الحديث هذا للدلالة على الرقي الفكري والأدبي والاجتماعي، وبلاشك فأن المجتمع الواعي يصنع قيمه وعاداته بنفسه، بعد ان يحصل عليها من عمقه التاريخي، ولا يحتاج الى تقليد غيره من المجتمعات او الثقافات، ولكن هناك صنفان من الناس في قضية تلقِّيهم للثقافة والمفاهيم الحضارية والمدنية، من الأفكار والسلوك واللِّباس والطّعام والتعامل، وأسلوب العيش، وطريقة العلاقات الاجتماعية، والموازنة بين المادي والفكري، لاسيما أن كليهما مهم لبناء الحياة المجتمعية المتوازنة.
أن الفكرة إذا وجدت من المثقفين من يتبناه بشكل صحيح ويعمل من أجلها تتحول مع الوقت إلى ثقافة عامة يتبناها، ويفخر بها معظم أبناء المجتمع، ما عدا الشواذ منهم، وهؤلاء موجودون في المجتمعات والعصور كافة، إلا أن هذا لا يعني أن الثقافة لا تنشئ الفكر، وتبعثه، بل إن الثقافة المستمدة من فكرة تولد فكرة، بل أفكارا جديدة، حسب الظروف، والمستجدات في الحياة، فالفكر الاقتصادي الحديث هو مجموعة أفكار تبلورت وفق سياقات ثقافية، خاصة، فعلى سبيل المثال المصارف في الأوطان الرأسمالية جاءت نتاج ثقافة عامة قائمة على مبادئ، وأسس الرأسمالية، وثقافته الخاصة بالاقتصاد وكذلك الثقافة السياسية تؤثر في الثقافة العامة للمجتمع عن طريق الإحساس بالمساواة بين الإفراد وعدم التمييز والتفرقة بينهم ويعد هذا المحور تحولا ايجابيا للمشاركة السياسية بالمجتمع ، والشعور بالمسؤولية العامة وإعلائها على المصلحة الخاصة والاهتمام بالقضايا المحلية ومحاولة حلها و خلاصة قولي أن الثقافة والفكر يجب أن تنبع من القيم والمبادئ وأصالة رسالة والشعور والاعتزاز والفخر بالقيادات المثقفة المخلصة والاوطان تحتاج الى شباب فهل الحكومات الحالية جاهزة لتسليم راية المستقبل وتحمل المسؤولية التي على عاتقهم فيه للعطاء والإبداع الى الطلائع الواعدة من الشباب الامين، اذا ما اردنا ان نتمسك بما يؤكد الهوية والثقافة والعلاقة والفكر، وتعطي دور للتواصل مع العالم الآخر ثقافياً وحضارياً، ونحن علينا إقناع أنفسنا بدور الثقافة والإبداعية التي تؤصلنا وترسمنا على خريطة الثقافة العالمية.
عبد الخالق الفلاح
قراءة في كلمة الرئيس الصيني في منتدى دافوس الواحد والخمسون
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عدنان برجي
منذ العام 1971، ينعقد منتدى دافوس الاقتصادي العالمي الذي دعا اليه البروفيسور الألماني كلاوس شفاب، في منتجع شتوي في سويسرا، وغالبًا ما تُتلى فيه كلمات تشكل عناوين استراتيجيّة للدول وللعالم. في العام 2008 قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كلامًا لم يتوقعّه أولئك الذين كانوا يرون، ان القرن الواحد والعشرين، هو قرن أميركي بامتياز. صدقت توقعّات بوتين، وتأكدّت خطوات التراجع الأميركي.
في هذا العام، انعقد المنتدى افتراضيًا، وكان للرئيس الصيني شي جينبينغ كلمة مهمّة، ذات أبعاد استراتيجية، لم تأت غالبية وسائل الإعلام الغربي، الذي تستقي منه مؤسساتنا الإعلاميّة العربيّة أخبارها وتحليلاتها، سوى على عناوين سريعة لها.
سوف أحاول باختصار شديد، إعادة قراءة هذه الكلمة، فلربما استكشفنا ملامح المرحلة المقبلة، في ظل المتغيرات الدولية وتأثيراتها. ان "التاريخ يمضي قدمًا ولا يعود العالم الى ما كان عليه". هكذا يقول الرئيس شي.
أمام العالم مهام أربع:
1- تعزيز التنسيق في السياسات الاقتصاديّة الكليّة، وتضافرالجهود لتحقيق النموّ القويّ، والمُستدام والمتوازن، والشامل للاقتصاد العالميّ.
الأسباب الداعية الى هذه المهمّة".
جميع اقتصادات العالم تكبدّت الخسائر بفعل جائحة فيروس كورونا. أفق انتعاش الاقتصاد ما زال هشًّا وبدون تغيير القوّة المحرّكة للاقتصاد العالمي، وأنماطه، وتعديل هيكليّاته، لا يمكن تحقيق الانتعاش المرجوّ.
2- نبذ التحيّز الأيديولوجي، والسير على طريق التعايش السلمي، والمنفعة المتبادلة، والكسب المشترك.
أسبابها:
لا توجد ورقتا شجر متطابقتان في العالم. لكل دولة ميزة في تاريخها، وثقافتها، ونضالها الاجتماعي.لا دولة تتفوّق على أخرى، ذلك كما نقول في لبنان لا طائفة تتفوّق على أخرى. لن يكون هناك حضارة للبشرية بدون التنوّع. العجرفة، والتحيّز، والكراهية، ومحاولة فرض التاريخ، والثقافة، والنظام الاجتماعي على الآخرين، أمورٌ تثير الهواجس، والدهشة، والاستغراب.
3- تجاوز الفجوة بين الدول المتقدمة، والدول النامية، والعمل سويّا على تعزيز التنمية، والازدهار، في الدول كافة
ما يستدعي ذلك هو:
تطلّع الدول النامية، الغفيرة، الى مزيد من الموارد والفرص التنمويّة. ضرورة أن يكون لهذه الدول النامية صوتًا مؤثّرًا في الحوكمة الاقتصاديّة العالميّة. على المجتمع الدولي الإيفاء بوعوده وتوفير الدعم الضروري واللازم للدول النامية.
4-العمل سويًّا على مواجهة التحديّات الكونيّة وخلق مستقبل أجمل للبشريّة.
وذلك:
لأنّه من المرجّح ان تتكرّر حالات الطوارئ للصحّة العامّة مثل جائحة فيروس كورونا، وبالتالي من الضروري تعزيز الحوكمة العالميّة للصحة العامّة.الأرض مشتركة ووحيدة للبشريّة، ولن تقدر اي دولة بمفردها حل جميع القضايا العالميّة، التي تواجه البشرية. انها قضايا متشابكة، ومعقّدة، ويحتاج حلّها الى تعدّدية الأطراف، باتجاه السعي نحو مجتمع "المستقبل المشترك للبشريّة".
تلك هي المهام وأسباب كل مهمّة. فماذا عن الخطوات، والسياسات، والتوجهات، برأي الرئيس شي جينينغ؟.
التمسّك بالانفتاح، بدل الانغلاق والإقصاء، وعدم العودة الى الطريق القديم، طريق الحرب الباردة أو محاولة اشعال حرب باردة جديدة. الانقسام يقود الى المجابهة، والمجابهة تقود الى الطريق المسدود.
العمل سويّا على صيانة السلام والاستقرار في العالم، وبناء اقتصاد عالمي ومنفتح، بدلا من صياغة معايير وقواعد ونظم تمييزيّة وإقصائيّة.
الالتزام بالقانون الدولي والقواعد الدوليّة، وبدون ذلك يذهب العالم الى قانون الغابة.
التشاور والتعاون، بدلًا من التصادم والمجابهة، واحترام التباين والقبول به، وعدم التدخل في شؤون الآخرين، وتسوية الخلافات عبر التشاور والحوار.
اللعبة الصفريّة عفا عليها الزمن، وما تنتظره البشريّة هو التمسك بمفهوم التعاون القائم على المنفعة المتبادلة. في الصين مثل مشهور: " ليس المهّم لون الهر أبيض أم اأسود، فالمهّم ان يأكل الفأر".
التغيير حاصل، وعلينا مواكبته بدل رفضه.
ماذا عن الصين في خضمّ هذه المبادئ وهذه الأسس؟.
الصين تدخل مرحلة جديدة للتنمية، وهي سوف تعتمد المفهوم الجديد لهذه التنمية عبر بناء معادلة جديدة، قوامها التفاعل الإيجابي بين الدورة الاقتصاديّة المحليّة والدورة العالميّة. وهي، أي الصين، ستواصل مشاركتها النشطة في التعاون الدولي لمكافحة الجائحة، كما ستواصل سعيها لتحرير التجارة والاستثمار وتسهيلهما، وتعزيز التعاون في بناء الحزام والطريق. سوف تسعى الى تسريع وتيرة تحويل الإنجازات العلميّة والتكنولوجيّة الى قوة انتاجيّة فعليّة.
في سبيل كل ذلك تعمل الصين لإقامة نوع جديد من العلاقات الدوليّة، ففكرة اللعبة الصفريّة، حيث يأخذ الفائز كل شيء ليست من فلسفة الشعب الصيني.
الخلاصة من وجهة نظر الرئيس الصيني: أثبتت التجارب فشل سياسة العمل الإنفرادي، والانعزال المتعجرف. فلمن النصر؟. لمن يحاول تكرار الماضي ببناء امبراطوريّة على دماء الأبرياء وحريّة الأوطان، أم لمن يدعو الى المنفعة المتبادلة، وقبول الآخر، والعيش بعدالة دوليّة وعدالة اجتماعيّة؟. هل قارن أحدنا بين نسب الفقر المتزايدة في الغرب عمومًا، وفي اميركا خصوصًا وتدني هذه النسب في الصين عامًا بعد آخر؟. هل قارننا بين تجارة الصين التي يقبلها العالم بقوّة الاقتصاد لا بالقوة المسلّحة، وبين الحروب الأميركيّة التدميرية على امتداد العالم وداخل المجتمع الاميركي نفسه؟.
التاريخ لا يعيد نفسه، وقوى القهر، والاحتلال، والتدمير، لم تدم ولن تدوم.
عدنان برجي/ مدير المركز الوطني للدراسات
بيروت 8/2/2021
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (201): جوهر الدين والأخلاق
- التفاصيل
- كتب بواسطة: صحيفة المثقف
خاص بالمثقف: الحلقة الأولى بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، رئيس مؤسسة المثقف، حيث يجيب على أسئلة الأستاذ الدكتور صادق السامرائي:
وجوهر الدين الأخلاق
ماجد الغرباوي: إذاً، يمكن للتجارب الدينية أن تعلب دورا مؤثرا على صعيد الاخلاق، مادامت حقيقة التجربة عودة وإنابة واشراقة روحية متعالية، ومكاشفة صريحة مع الذات، ينقطع فيها الفرد لنفسه، متعلقا بخالقه، بالغيب، بالمطلق، بالكائن الأسمى، كل حسب إيمانه وعقيدته، مستعرضا سيرته بمرآة إنسانيته، حين تكون القيم الإنسانية في ذلك الصفاء الروحي والنقاء الإنساني، معيارا للأخلاق والفضيلة. لا إلتفاف ولا تحايل ولا تبرير، فما كان ظلما يراه ظلما على حقيقته، وما كان عدلا يراه عدلا بمجساته الإنسانية، لأن الآخر في تلك اللحظات هو الذات بكامل تجلياتها، فيشعر بظلمه للآخر من خلال تجاربه ومعاناته مع الظالمين. الآخر أنا، ما يؤلمه من الظلم نفس ما يؤلمني. كلانا تنعكس عليه ذات الآثار النفسية، وإن اختلفنا في التعبير عنها، لكنها تبقى ندوبا في النفس، ومرد المشاعر المشتركة لوحدة المشاعر الإنسانية. وللإنسانية كفطرة بشرية كونية مشتركة حقوق وواجبات، فالفعل الأخلاقي أداء للواجب الإنساني، بهذا الدافع يجب أن تصدر الأخلاق، وفقا لكانط. وهذا ما يشعر به الوجدان بعد تأمل طويل، لأن المسألة ليست بهذه البساطة. لذا تزكية النفس تمهّد لخصوبة القيم الأخلاقية وقيم الفضيلة. الأخلاق الحسنة تصدر عن نفوس طيبة وقلوب نقية، وليس كمراقبة النفس وتزكيتها أقدر على ديمومة نقاء القلب، من هنا تأتي أهميتها وقوة تأثيرها، فتنعكس مباشرة على سلوك الإنسان. وقد عمدت لمفهوم أوسع للتجربة الدينية كما تقدم، لاستثمار كل النفحات الروحية على طريق الأخلاق الفاضلة. وهي حالات إنسانية، ما من فرد إلا ويعود لنفسه خاصة مع مشاعر الإحباط واللاجدوى وفقدان المعنى، إما يأسا وتشاؤما أو بفعل التمادي بالتعاطي مع السلوك اللا أخلاقي. فيجد في خلوته روحانية لم يألفها في حياته العادية، قد تفضي به للتوبة والاصلاح، وقد يركلها ويتمادى في غيه وطغيانه. وبالتالي يمكن للتجارب الدينية مهما كانت محدودة، ولو بمقدار ومضة تتوهج في أعماقه، أن توقظ الضمير من سباته، وتعيد له حيويته ودوره الرقابي عندما تصغي النفس لندائه وتستجيب لإرادته. والدين وخصوص التجارب الدينية الروحية قادرة على تحفيز الضمير. وقد قرأنا عن تجارب وعاصرت شخصيا بعضها، حيث آفاق ضمير بعض الناس فجأة، فانحاز للحق والعدل، بعد أن تخلى صادقا عن ماضيه وسلوكه المنحرف، ليبدأ حياة جديدا، ويختمها بسلوك أخلاقي رفيع المستوى.
غير أن التجارب الدينية، خاصة المتطورة روحيا، صورة مثالية، يتعذر تحققها لعامة الناس، في خضم حياة تتحكم بها المصالح والمغريات، والتنكر للقيم الأخلاقية. لا أقول معدومة، بل هي رهان ناجح. الإنسان روح شفافة، مهما تمادى قد تعود بعد ندم حقيقي فاعلٍ. لذا نتطلع لتوظيف الدين وفقا للفهم المتداول، بما هو كل شامل. فنحن لا نيأس منه إلا في حالات التوظيف السلبي والأيديولوجي الذي يشجع على العنف والكراهية والتنابذ والتنافي مع منطق: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ). حيث يمزق التشظي المذهبي جميع مقوماته الأخلاقية.
ثمة حقيقة تجعل من الدين أملاً لتطهير وتزكية النفس، ومن ثم تحفيز الضمير، وحمايته من الانهيار، وتعزيز قيم الفضيلة التي تمهد لظهور مجتمع الفضيلة، قوة حضوره في المجتمعات الشرق أوسطية، التي هي شعوب مرتهنة في وعيها للمثيولوجيا، وللأديان خاصة، فهي بؤرة الرسالات السماوية، ومنها انطلقت الأديان إلى ربوع الكرة الأرضية. وهذا لم يأت من فراغ، بل استعداد كامل لتقبل المعاجز، والإيمان المفرط بالجن والملائكة وعالم ما وراء الطبيعة، والرسالات قائمة على الغيب والتسليم، بل الإيمان الديني بعامة قائم عليه. فالطبيعة المجتمعية طبيعة مثيولوجية، تنمو فيها الغرائبيات، وينقاد فيها الفرد للمعجزات. وهذا يؤكد قوة حضور الدين وقوة تأثيره، لهذا يشكل الدين خطرا على الوعي حينما يوظف سلبيا لخدمة الاستبداد والمصالح الضيقة. وهذا يعني عدم تفاعل الشعوب الأخرى مع الأديان والغيبيات، بل الدين منتشر في أرجاء الكرة الأرضية، بتمظهرات مختلفة، وكلنا يتابع مختلف الطقوس الدينية عبر شاشة التلفزيون. كنت أظن أن الغرب قد تخلى عن الأديان نهائيا، غير أن أول مدينة دخلتها في أستراليا تفاجأت بكثرة دور العبادة خاصة الكنائس، وعندما زرت بعضها آيام الآحاد، كانت تمتلأ بالمصلين، فضلا عن مساجد المسلمين، وحرية الجميع في ممارسة طقوسه الدينية، بحماية كاملة من الدستور. بل الاتجاهات الدينية تلعب دورا في تحديد سياسة البلد مباشرة أو غير مباشرة عبر صناديق الاقتراع. وبعض الأحزاب تسعى لكسب ودها، لضمان فوزها في الانتخابات. وأما مناسباتهم الدينية فحية، نشطة، تعكس لك عمق المشاعر الدينية. قد تقول هذه مجرد عادات وتقاليد. وهذا كلام صحيح، لكنه ليس مجبرا وبامكانه الاعتذار، والكل يتفهمه، لكنه يأتي بدوافع مختلفة، ليست خالية عن المشاعر الدينية كليا. لهذا أدرجت التجارب الدينية كمصدر قوة لإحياء الضمير الإنساني.
كما أن الدين مقوّم أساس لهوية الفرد والمجتمع، ويشارك جميع مناسباتهم وطقوسهم وعاداتهم وتقاليدهم، كما يمثل جوهر النظام الأخلاقي وعلاقاتهم الاجتماعية، يتصل بتفاصيل الحياة اليومية للفرد والمجتمع، ينظّم معاملاتهم، ويسوي خلافاتهم، ويغمر مشاعرهم وثقافتهم وطقوسهم، بل الإنسان الوعي في هذه المجتمعات وعي ديني في أعماقه. ورؤيتهم الكونية رؤية دينية، فهم صناعة دينية أو مختلطة. وعليه لست مع الداعين لاقصاء الأديان كمقدمة لإحياء الأخلاق، بل أن للدين بمعنى الإيمان دورا مؤثرا جدا، حينما نحسن توظيفه، ونقدم فهما متوازنا إنسانيا، عقلائيا له. علينا استثمار المشاعر الدينية لدى مجتمعاتنا وإعادة تشكيل الوعي الديني بما يخدم القيم الأخلاقية والإنسانية. لا استقرار للمجتمع إلا بالتسامح والتفاهم وتوظيف كل الطاقات المادية والروحية لتعضيد قيم المحبة والوئام وحق الآخر في الاختلاف. وأما العمل على إقصاء الدين من خلال التركيز على الثغرات السلوكية بل وحتى التاريخية، لا يخدم الأخلاق، لأن المشاعر الدينية عميقة ومتجذرة، تعكس قوة الانتماء الديني تاريخيا، فهو ملازم لوجود الإنسان، يحمله معه أينما ذهب. مما يدفعنا للتفكير برؤية دينية تخدم قيمنا الأخلاقية، وتستعيد قيمنا الإنسانية التي سحقها الاستبداد المتجذر هو الآخر في المنطقة، خاصة الاستبداد الديني الذي هو أشد وطأة وأخطر من الاستبداد السياسي. وهذا يعني العودة للنصوص الدينية وتقديم قراءة وفهم مغاير، ينأى بالدين عن التطرف والكراهية. أو ينأى به عن كل توظيف أيديولوجي، ليبقى دينا للرحمة والكلمة السواء والمحبة والعدل والوئام. فالدين بمعنى الإيمان، والدين بالمعنى الروحاني طاقة يجب عدم الاستهانة بها. الإنسان محكوم لعواطفه ومشاعره كما هو محكوم لعقله، والإيمان يحقق التوازن الروحي الذي يؤهل لسلوك أخلاقي جمعي، يصب في صالح الجميع، عندما يحد من النزعة المادية، والاندفاع المرير وراء المنافع والمصالح الشخصية التي تبرر له فعل ما يراه يحقق أهدافه، ولو على حساب القيم الأخلاقية والإنسانية، ولا يهمه حينئذٍ تداعيات أفعاله اللا أخلاقية فتارة تبرر له مصالحه امتصاص جهود الناس الآخرين، بل لا يتورع عن اقتراف أي عمل يكرّس مصالحه، ويشعر معه باللذة. وهو تجاه خطير، يسود المجتمعات الغربية، ولا تنجو منه المجتمعات الأخرى، مادام هناك استبداد، وتراخٍ مع هذا اللون من التفكير المادي النفعي. وهنا لا أتنكر لحق الفرد في تحقيق مصالحه، وحقه في الحياة والثروة وبناء مستقبله، فكل هذا مشروع، أمضته جميع القيم الوضعية والدينية، مشروطا أن لا تكون تلك المصالح على حساب الآخر ومصالحه. بمعنى أدق ينبغي أن يكون المعيار الأخلاقي شرطا للمنفعة المشروعة، بهذا تتحقق العدالة، وتصان حرية وكرامة الإنسان.
الإستثناء الثاني: فتاوى الفقهاء
لا تخفى قدرة الدين على تهذيب النفس البشرية في هذا الإتجاه. بل لا يقظة دائما للضمير ما لم ترافقه تزكية متواصلة للنفس، يشرق معها نور الحقيقة في قلب المؤمن، ويهتدي بوحي فطرته للاستجابة للفعل الأخلاقي، والتجارب الدينية أيا كان مستواها مؤهلة لتزكية النفس، بنسب تتحكم بها إرادة الفرد وصبره وتأمله ومستوى إيمانه، وجميع القضايا النفسية المرتبطة بها. غير أن مرونة النصوص المقدسة، وثراء الحقل التأويلي فيها، وزخم التراث الروائي والقواعد الأصولية التي وضعها الأصوليون، والتراخي في قواعد جرح وتعديل الروايات، كل ذلك يسمح بتوظيف الدين توظيفا سياسيا، أو خارج مهامه الروحية والسلوكية. ولعل الفقه السلطاني الذي كرس حماية الخليفة الفاسد والظالم أقوى شاهدا. لذا لا يمكن ان تكون فتاوى الفقهاء معيارا للأخلاق كما تقدم بيانه. ويجب لتحديد فعلية وعدم فعلية الأحكام الشرعية، العودة للنصوص التأسيسية الأولى مباشرة، وقراءتها قراءة تاريخية لتفادي توظيف إطلاقاتها سياسيا، حينئذٍ يمكن تفادي تداعيات الانحيازات الأيديولوجية والطائفية للفقهاء في مواقفهم وفتاواهم. وأما الأحكام الأخلاقية في القرآن، فسبق التأكيد أنها إرشاد لحكم العقل: (الحسن ما حكم العقل بحُسنه، والقبيح ما حكم العقل بقبحه). فلا يمكن الاستدلال بها لنفي استقلالية الأخلاق عن الشريعة. وهذا يعني موقفا سلبيا من الدين، بل يعني تحديد وظيفته وفقا لفهم جديد له، بعيدا عن منطق الفرقة الناجية والنسق العقائدي المألوف للطوائف والمذاهب الدينية. وقد تقدم إن المرجعية العقلية للأخلاق لا تنفي قدرة الدين على تقويمها، وحماية الضمير البشري من الانهيار. وبالتالي فالمقصود بالنصوص الدينية التي يمكن توظيفها أخلاقيا هي نصوص القرآن، والصحيح من أحاديث الرسول، عندما تكون شارحة ومبينة من خلال المواقف العملية أو التصريحات النصية، فنستثني فتاوى الفقهاء، رغم صدق مفهوم النص الديني بالمعنى الأعم. وهو الاستثناء الثاني بعد استثناء آيات التشريع لمبررات سبق ذكرها. وكذلك تخرج نصوص الدين المؤسساتي، التي تصدر عن المؤسسات الدينية لأغراض تقتضيها مصالحها وسياساتهم. وسيأتي الكلام حولها.
وهنا يبرز إشكال حول استثناء فتاوى الفقهاء. كيف نستثني فتاواهم وما يصدرونه من أحكام وعدم اعتبارها معيارا للأخلاق، وهي ترتكز لأدلة قرآنية وروائية؟. بمعنى أخر، يريد الإشكال تأكيد موضوعية الفقهاء، مادامت مرجعية الفتوى هي ذات النصوص التأسيسية. والفقهاء لم يأتوا بشيء من خارج الشريعة، سوى اجتهادهم، بمعنى فقه النص، واستنباط الأحكام وفق قواعد أصول الفقه، التي هي صياغات قانونية لضبط عملية الاجتهاد والفتوى. فليس هناك ما يبرر الطعن في صدقيتهم أو اتهامهم بالتحيز لقبلياتهم. فهي ذات النصوص التشريعية، وقد لا يتجاوز دور الفقيه أكثر من تطبيق القواعد الفقهية وكليات الشريعة على مصاديقها الخارجية. وهذا الإشكال قد يبدو وجيها، لكنه غير تامٍ، فقد سبق القول أن الحُسن والقُبح عقليان، لا شرعيان، وأن الأحكام الأخلاقية في القرآن إرشاد لحكم العقل، وبالتالي لا يمكن أن يكون الدين بمعنى التشريع معيارا للأخلاق، وقد بينت الأسباب سابقا بشكل مفصلا، والتي منها: عجزنا عن فهم الملاكات البعيدة للأحكام التي تتعارض ظاهرا مع القيم الأخلاقية، كقتل الغلام من قبل العبد الصالح، واعتراض موسى عليه من وحي فطرته وروحه الإنسانية. كما أن القرآن ينوه: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم). فالشرائع تراعي التحولات الزمكانية. فهي متغيرة، ولو شاء الله جعل الناس أمة واحدة، لكن لم يجعلهم كذلك على أساس الشريعة، بل وحدهم بالدين. ونحن بصدد قواعد كلية، كونية، وإنسانية، تصلح أن تكون معيارا مشتركا بين جميع البشرية: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ)، (مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ). فالجميع ينتمى للإسلام بمعنى التسليم، ويعبدون إلها واحدا. يوحدونه ويقرون له بالطاعة والتسليم لقدرته وإرادته.
والشيء الثاني، أن كل فقيه ينحاز لا شعوريا لقبلياته وقناعاته العقدية، ويدافع عن نسق يقينياته وأحكامه المسبقة، كمبنى عقدي ينعكس على فهم النص، فينحاز لنتائجه لا شعوريا، بل ويوجه النص بذات الاتجاه، وقد مثلت سابقا للاختلاف بين المذاهب الإسلامية، خاصة السنية والشيعية حول مصداق آية: ولاية المؤمنين، وكل يرتب أثرا على فهمه، فالسنة ذهبوا إلى ولاية جميع المؤمنين، واقتصرها الشيعة على الإمام علي ومن ثم بنيه، ورتبوا عليها قضايا عقدية وأخرى شرعية. فالمنظومة العقائدية للفقيه تؤثر في فقه النص وفتاواه، وعلى هذا الأساس لا يتورعون عن تكفير غيرهم من المذاهب، حتى لو كان التكفير بمعنى احتكار الحقيقة وإقصاء الخصم منها. بالتالي هناك آثار تترب على وعيه للأنا والآخر. ومرَّ الكلام مفصلا حول هذا الموضوع. ونضيف: لا يمكن تبرئة الفقيه وإلقاء اللوم على الأدلة الشرعية فقط، مادام يمارس عملية استنباط الأحكام الشرعية وفقا لمبانيه، ويستبطن نسقا عقديا يوجه وعيه، فترى رواية واحدة يختلف حولها الفقهاء بين من يرفض الاستدلال بها لضعفها وفقا لمبانيه الأصولية والرجالية، وبين من يستدل بها. وهذا فارق كبير، وإلا من أين جاء الاختلاف بين المذاهب الإسلامية، بل وبين فقهاء المذهب الواحد؟. فالفقيه له دور مؤثر. نعم كانت بعض كتب الفقهاء حتى القرن الخامس الهجري، عبارة عن روايات خالصة، لكن حتى هذا القدر يكون للفقيه دور في فقهها وقبولها أو رفضها. وكل هذا يؤكد ضروة استقلالية الأخلاق عن الشريعة، لتبقى إحدى مدركات العقل العملي، ويكون الدافع لها إنسانيا أو الواجب الإنساني، فنحن بصدد معايير كونية صالحة لجميع البشرية كي يكتسب المعيار الأخلاقي صدقيته، وإمكانية الاحتكام له، والاحتجاج به، وليس كالمرآة الإنسانية صورة أنقى تعكس الحقيقة الإنسانية متجلية بكامل خصائصها، فتكون هي المعيار الأخلاقي. وهي بهذا مشترك إنساني بعيدة عن تشظيات الخصوصية والانتماء. فاستثناء فتاوى الفقهاء من الدين النصوصي، وحصره بالمدونات التأسيسية الأولى يكرس فهما مغايرا للدين، لا تتدخل فيه أية دوافع أيديولوجية. لكن هنا أيضا يبرز إشكال حول النصوص والآيات التي تتعارض ظاهريا مع القيم الأخلاقية، كل الموقف من الآخر، ومطاردته أينما كان، والتشدد أضعافا مضاعفة بعقوبته، خلاف للعدل والإنصاف القانوني: (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا)، (فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا)، (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ف)، وغير ذلك من روايات. وقد أسهبت بالإجابة على هذا الإشكال في بحوث سابقة، وبينت الموقف الأخلاقي منها. وأضيف هنا بشكل عام نحن مع استقلال الأخلاق عن الشريعة، وهذه آيات تشريعية، لها ظرفها ومبرراتها. وقد ناقشت جميع أدلة القائلين باطلاقاتها في كتاب تحديات العنف. هي آيات لا إطلاق لها خارج ظرفها الزماني والمكاني، فرضتها ظروف العلاقة مع الآخر المحارب، . أي أن الموقف الأخلاقي لا يبر هكذا إجراءات تفتقد ظاهرا للعدل. إن هذا النوع من الآيات ينطوي على ملاكات ومصالح لا ندركها، فهي ناظرة إلى ما هو أبعد من الموقف الأخلاقي الجزئي، بما يشمل ملاكات بعيدة مرتبطة بالرسالة ومستقبل الناس، فالفعل الذي يتعارض ظاهرا من الأخلاق، لا يبدو هكذا عندما تقرأه ضمن رؤية كلية، وسياق أحداث لها أهداف أوسع وأشمل. فمقتل طفل خلال تحرك عسكري يدافع عن مدينته، ويصد عدوانا مباغتا، لا يبقي ولا يذر لو قدر له النصر، يبقى مقتل الطفل عملا لا أخلاقيا، لكن عندما تنظر له ضمن مصلحة المدينة وأهلها، تختلف نظرتك له وفق المصلحة الكبرى. فارتكاب العمل اللا أخلاقي قد وقع خارجا، ولا مبرر لاعتباره عملا أخلاقيا. أما كيف يصدر من جهات عليا مقدسة، يفترض أنها مثلا أعلى للأخلاق، فهنا يأتي الكلام عن المصالح والملاكات وتبدل العناوين التي اقتضت ذلك، وما هي مبرراتها. طبعا لا مشكلة لدى القائلين بقيام الأخلاق على الشريعة، فالحسن عندهم ما حكم الشرع به، والقبيح ما نهى عنه. فقتل الغلام من قبل العبد الصالح عمل أخلاقي، وليس كذلك في ضوء القائلين باستقلال الأخلاق عن الشريعة. الاتجاه الأول خطير جدا، يمكن من خلاله توظيف الدين لتعزيز مصالح سياسية أو طائفية، قد تطيح حتى بقيم الدين ذاته، غير أن هذا الاتجاه يحكم بحسنها.
يأتي في الحلقة القادمة.
............................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه
أرجوك لا تجهل سياسيا!
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. ظريف حسين
من أخطر أنواع الجهل هو جهل المواطنين بالمعني الصحيح للسياسة، وهذا الجهل يكون اخطر لو كان متعمدا، بمعني أن يتوهم الناس بأن السياسة لا تعنيهم في شيء، وهذا هو في الحقيقة خلط بين أمرين:
١- الوعي السياسي: وهو أن يدرك المواطنون أهمية المشاركة السياسية لمصلحة الوطن، بشرط أن يتم ذلك علي خلفية واسعة من وعي ناضج بالمشكلات والتحديات التي تواجه المجتمعات. وبناء علي ما تيسر لهم من ثقافة تؤهلهم لإبداء آرائهم، وبطريقة موضوعية بغية تحقيق المصالح القومية.
٢- علم السياسة: وهو مجموعة المعارف اللازمة لتأهيل المسئولين الرسميين، وهو علم أكاديمي متخصص، ومخصوص للقلة، وليس للجمهور، تماما ككل علم.
ونحن لو عرفنا السياسة تعريفا عمليا- أي وظيفيا- فإنها ذلك النشاط الذي يهدف إلي تحقيق المصالح الشخصية فقط عن طريق تحقيق المصالح العامة، وهذه الغاية تعد عاملا مشتركا بين العلوم الإنسانية، وخاصة علم الأخلاق وعلم الفقه الديني.
إذن يتلخص المعني الصحيح للسياسة في التخلي عن الأنانية الغبية سواء أكانت فردية أم طبقية أم فئوية أم طائفية... في سبيل تحقيق مصالح وطنية استراتيجية، وذلك بالمشاركة الإيجابية في كل الفاعليات الوطنية، وأهمها إقرار الدساتير والقوانين المعبرة عن المطالب العامة للشعوب، ومبادرة الأفراد بترشيح أنفسهم في المجالس النيابية وغيرها من الهيئات الرسمية وتعزيز النظام السياسي القادر علي حماية الوطن والمواطنين، مستمدا شرعيته من الدساتير واحترام القوانين التي يجب أن تسوي بين الناس، صادرة عن واقع متطلباتهم الكلية، وتعكس أحلامهم الوطنية وتمسكهم بمستقبل أفضل.
ولن يتسني لهم ذلك إلا بما يبذلونه من عمل جاد-علي علم منهم- وليس بما يرفعونه من شعارات وأخطرها الشعارات الدينية!
د. ظريف حسين
أستاذ ورئيس قسم الفلسفة
جامعة الزقازيق - مصر.
صورة من صورِ ذاكرة الخوف
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. عبد الرضا علي
حين تزرع المنظَّمة السريّة عيونها في الجامعات
وتجعل من الطلبة وكلاء مخبرين
ـ 1 ـ
عملتُ في جامعة الموصل خمسةَ عشرَ عاماً درَّستُ خلالها طلبة قسم اللغة العربيّة في كليَّة التربية دروساً عديدة، منها: موسيقى الشعر، والأدب العربي الحديث، واللغة العربيّة لغير أقسام الاختصاص، والنقد القديم، والنقد الحديث، وأصول تدريس اللغة العربيّة، وغيرها، فضلاً عن تدريسي لطلبة ماجستير اللغة العربيّة في كليّة الآداب .
وفي سنة من السنوات أنيطَ بي تدريس (الكتاب الحديث) لطلبة المرحلة الرابعة، فاقترحتُ على قسم اللغة العربيَّة الذي كان يرأسه العلاّمة الدكتور طارق الجنابي أنْ تكون رواية الطيّب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) التي تعالج ظاهرة الصراع بين الشرق والغرب رمزيَّاً هي الأنموذج لهذه الظاهرة التي شاعت في تلك الحقبة، وأن تكون روايتي: (قنديل أمّ هاشم) لـ يحيى حقّي، و(أصوات) لـ سليمان فيَّاض مكمّلتين لدراسة هذه الظاهرة في التوظيف الفنّي تطبيقيّاً.
فوافق الرجل، واستحسن الفكرة، لأنَّ تدريس ظاهرة أدبيّة من خلال هذا الدرس أنفع علميَّاً، فاقتنتِ الكليّةُ نسخاً كافية من الرواية، وقامت بتوزيعها على طلبة المرحلة الرابعة من قسم اللغة العربيّة مجَّانا، وبدأنا بقراءة الرواية فصلاً فصلا، وقمنا بما يقتضي الدرس من تحليل، وتفسير، والوقوف على التوظيف الفنّي للظاهرة مروراً بروايتي: يحيى حقّي، وسليمان فيّاض، وكيف عالجا الأمرَ فكريّاً، وفنيّاً.
وفي منتصف الفصل الثاني، وقبل انتهاء الدوام الجامعي بساعة تقريباً كلَّمني السيّد رئيس القسم بهمسٍ قائلاً: إنَّ السيّدَ العميد الدكتور محيي الدين توفيق طلبَ أن تجييبهَ على سؤال يتعلَّق بالجنس الذي تشيعه رواية الطيّب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) التي تقوم بتدريسها، وما قد تسببه الرواية من نشرِ الفاحشةٍ بين طلاب الكليّة، مضيفاً أنَّ طالباً من طلابك قد رفع تقريراً بذلك إلى أمين سرِّ فرع الموصل السيّد وليد إبراهيم الأعظمي⁽¹⁾، وأنَّ أمين السرِّ أحال التقرير للسيّد العميد على نحوٍ سريّ، لكونِ عميد الكليّة عضو قيادة فرع الموصل، وينبغي ألاّ يعرف أحدٌ بالأمر. فالتمستُ من الدكتور رئيس القسم أن يوجه لي السؤال مكتوباً، وسأجيبُ عنه غداً بالتفصيل، لكون إجابتي تحتاج إلى وقتٍ كاف، ونحنُ الآن على وشك مغادرة الكليّة، فكتب الرجلُ السؤال، وسلّمه لي، وخرجتُ مسرعاً.
الطيب صالح و عبد الرضا علي
ـ 2 ـ
سهرتُ تلكَ الليلة في كتابة الإجابة، وكنتُ دقيقاً في توضيح ظاهرة الصراع بين الشرق والغرب، واستشهدتُ بمقاطع من الرواية، فضلاً عمّا قاله نقادٌ لا معون فيها من تمجيد؛ وفي صبيحة اليوم التالي سلَّمتُها للدكتور طارق الجنابي، وبدأتُ أفكِّرُ راغباً في معرفة من كتب التقرير، وانتظرتُ النتيجة، ومرّت الأيام ثقيلةً بطيئةً مضنية.
وتوضيحاً لما جاءَ في بعض إجابتي (الاستجوابيّة) التي رفعها العميدُ إلى أمين السِّرِّ ذكرتُ الآتي: .... رواية المبدع السوداني الطيّب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) تعالج قضيّة الصراع بين الشرق المُستعمَر (بفتح الميم) والغرب المستعمِر (بكسر الميم) أيّام السيطرة الإمبرياليّة، والاحتلال الأجنبي للبلاد العربيّة، فالسودان كان واقعاً تحت الاحتلال الانجليزي، وسورية كانت واقعة تحتَ الاحتلال الفرنسي، كذلك كانت مصر قد تعرّضت للغزو الفرنسي أيّام نابليون، وهكذا بقيّة البلدان، وحين استطاعت الشعوب العربيّة المستلبة ردَّ اعتبارها، وتخلَّصت من الاستعمار، ونالت حريَّتها، وأعلنت استقلالها، فإنَّ بعض المبدعين من كتّاب السرد الروائي حاولوا أن يعالجوا قضيّة استلابهم فنيَّاً، وكان الطيّب صالح واحداً منهم بوصفه سودانيَّاً مغترباً، وواحداً من المستلبين أيام الاحتلال الإنجليزي، فرأى أن يكون بطل روايته واحداً ممَّن يردُّ استلاب شعبه، فجعلَ بطلَ روايتهِ يوحِّدُ بين قضيّته، وذكورته، كما يوحّدُ المغترب بين الأنثى والغرب على وفق ما جاءَ في الدراسة النقديّة العظيمة التي كتبها المفكّر السوري الحصيف جورج طرابيشي في كتابه القيّم الموسوم بـ (شرق وغرب: رجولة وأُنوثة) وهو دراسة قيِّمة نادرة في أزمة الجنس، والحضارة في الرواية العربيَّة، عالج فيها قضيّة المغترب بأُسلوب التحليل النفسي، وجعل قضيّة الجنس ضرورة فنيّة، فضلاً عن كونها رمزيَّة في الأداء والتطبيق، ممَّا جعلَ النقادَ العرب يُطلقونَ على الطيِّب صالح عبقريّ الرواية العربيّة.
أمّا الجنس الذي يردُ في لهاثِ السيّدة العجوز السودانيَّة في تلك الرواية، فهو توظيف رمزي للأمَّة حين تكون منخورة من الداخل، وعلى وفقِ هذا الترميز الفنِّي جرى توظيف المعالجة لهذه الظاهرة في رواية موسم الهجرة إلى الشمال.
لكنَّ الجنس الحقيقي المكشوف يردُ واضحاً في أدبنا القديم وضوح الشمس في رابعة النهار، ولم يكنْ ثمةَ اعتراضٌ عليه، مع أنه لم يكن ترميزاً فنيَّاً، كما في لاميّة امرىء القيس التي يقولُ فيها:
تقـولُ وقد مـالَ الغبيطُ بنا معـــــــاً
عقرتَ بعيري يا امرأَ القيسِ فانزلِ
فقلتُ لها: سيري وأرخي زمامَهُ
ولا تُبعديـني مـن جنـاكِ المعلَّلِ
فمثلُكِ حُبلى قد طرقتُ ومرضـعٍ
فألهيـتُها عن ذي تمائمَ محـــــوَلِ
إذا ما بكى من خلفِها انْصَرَفتْ لهُ
بِشِـقٍّ وتحتي شِقـُّها لــــــــمْ يُحوَّلِ
ويكلّفُ طلابُنا باستظهار هذا التشبيب، وشرحه، ومعرفة خصائصه، فاسمحوا لي يا سيادة العميد أنْ أقول، (وأظنُّ ظنّاً يكاد يصل إلى اليقين): إنَّ لبساً قد حصلَ في فهم هذا الترميز ليسَ غير، ولكم القرار.
ـ 3 ـ
وبعد أيّام تمَّ حفظ القضيّة، وغلقها لاقتناع العميد، وامين سرِّ الفرع بما كتبتُ، لكنَّني رجوتُ السيّد رئيس القسم أن يوضّح لي ملابسات التقرير، ومن كتبَهُ عنِّي، كي أحترس منه في قابل الأيّام، فوعدني خيراً، وبعد مدّةٍ قصيرة أخبرني العلاَّمة الجليل الدكتور طارق عبد عون الجنابيّ الذي كان يحميني دائماً من جمهوريّة الخوف، ومنظَّمتها السريّة، أنَّ الذي كتب التقرير كان أحد طلاّبي العاقّين المدعو (غزوان العاني) وكان غبيَّاً جدّاً، وسبب كتابته لذلك التقرير هو رسوبه في المادة التي كنتُ أدرّسها لمرحلة السنة الرابعة، علماً أنه تخرّج في الدور الثاني، وجرى تعيينه بعد ذلك مدرّساً للغة العربيّة مكافأةً له على غبائه العلمي، وحقدهِ اللئيم، وما تحملهُ نفسه المريضة من ضغينة على أساتذته، وقرّرت الكليّة بعد ذلك الاستجواب إلغاء تدريس تلك الرواية، واختيار كتابٍ حديث آخر.
أ .د. عبد الرضا عليّ
.......................
إحــــالات:
(1) تمَّ إعدام أمين سرِّ فرع الموصل لحزب البعث العربي الاشتراكي (وليد ابراهيم الأعظمي) بعد حين من الزمن بعد أنْ اتُّهمَ بالاشتراك في المؤامرة التي عُرفت بـ مجزرة الرفاق في 22 تموز سنة 1979م، التي أمر فيها صدام حسين بإعدامِ اثنين وعشرين من رفاقه، فضلاً عن حكمه على ثلاثةٍ وثلاثين من الآخرين بالسجن بأحكام مختلفة .
حقيقة فن التصوير عند العرب
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. كاظم شمهود
ذكر المؤرخون بان صناعة فن التصوير كانت منتشرة قبل وبعد الاسلام فكانت كنائس اليمن والشام والعراق ومصر مليئة بالرسوم الجدارية الدينية، كما كانت قصور الامراء والملوك تعج بالزخارف والتصاوير مثل قصري الخورنق والسدير في العراق (الحيرة) والاول بناه النعمان بن امرأ القيس في القرن الرايع ميلادي وكان هذا القصر عنوان حضارة ومجد عربي خالد . والثاني يقال انه بناه اللخميين المناذرة .
(و يمكن الاطلاع على كتاب – قصور العراق العربية والاسلامية – للمؤلف طالب علي الشرقي- 2001) . وقد كان اعيان وامراء اهل العراق قد قلدوا قصور ملوك الفرس مثل طاق كسرى الموجودة حاليا آثاره في المدائن، حيث قلدوها من ناحية العمارة المترفة والزخارف والفسيفساء والجدران المصورة بالاصباغ المدهشة، وقد بلغت حدا كبيرا من الترف وفخامة الجمال ومظاهر الراحة والمصابيح المذهبة والسجاجيد البارعة والمطرزة .. كذلك شيدت قصور في اليمن مثل قصر غمدان في صنعاء الذي يعد من عجائب قصور العرب قبل الاسلام وقد سكنه آخر ملوك اليمن سيف بن ذي يزن وهدمه الخليفة عثمان بن عفان ويقال انه نقل حجارته لبناء المسجد النبوي؟ . وذكر ابن الكلبي بانه وجدت عبارة بالخط الحميري (غمدان هادمك مقتول) فهدمه عثمان فقتل . وكان هذا القصر مزينا بانواع الرسوم والزخارف . وكان يتكون من سبعة طوابق وترى اضويته ليلا من مسافات بعيدة ..
كما يذكر ان الصور كانت منتشرة في المدينة (يثرب) في زمن الخليفة عمر بن الخطاب مثل منزل ياسر بن نمير خازن بيت المال، كما ان مبخرة الخليفة عمر بن الخطاب التي يستخدمها في المسجد كانت مزينة بالصور الآدمية .. وغيرها من الامثلة
و كان الخليفة عثمان بن عفان هو اول من سمح ببناء القصور وان الناس تشجعت على ذلك في عهده وتحولت الحياة الى ترف وغنى وزخرف وزينة . وشيد معاوية بن ابي سفيان قصرا على غرار قصور الروم من ترف وابهه واقيمت به الحفلات الغنائية وضرب الدفوف . ثم بنى خلفاء بني امية القصور الخيالية وكانت مزينة بالتصاوير . وذكر ان عبد الله بن زياد والي البصرة بنى قصرا سماه الابيض وقد زخرفت حيطانه بالصور الحيوانية وملئه ايضا بالريش والطنافس . وقد ورد ذكر بعض هذه المعلومات في كتاب - تاريخ الاسلام - للدكتور حسن ابراهيم . وفي زمن الدولة الاموية شاع الطرب والغناء، ومن اشهر المغنين هو طويس حيث كان ينقر بالدف ويغني شعر الغزل والحب . وينقل المؤرخون بعض الاشعار التي يغنيها :
يا خليلي نابني سهدي لم تنم عيني ولم تكد
وهو – تناهى فيكم وجدي وصدع حبكم كبدي
فقلبي مصعرا حزنا بذات الخال في الخد
فما لاقى اخو عشق عشير العشر من جهد
و في زمن الخليفة الاموي عبد الملك بن مروان / 86 هجرية (706 م) كانت خيام الحجاج الاغنياء مزينة بالصور الآدمية .. كما كانت الصور منتشرة على الاقمشة التي ترد من اليمن وعلى الادوات المنزلية وستائر المنازل .
وكانت مظاهر النشاط الفني ايضا مرتبطة بالعمارة الاسلامية ففن الفسيفساء والصور الجدارية كانت تغطي جدران وسقوف قصور الخلفاء ومنازل الامراء والاعيان مثل قصير عمرة وقصر الحير الغربي وقصر المشتى ، وقد وجت جدرانها مزينة بانواع الصور الآدمية والحيوانية منها صور عارية ... اما في العصر العباسي فكانت الاباحية قد انفتحت على مصراعيها ولم يعد هناك خجل او خوف من مسألة التحريم . وكان قصر احد الخلفاء العباسيين مزينا برسوم قصة يوسف وزليخة، كما ان قصر الجوسق في سامراء كان مزينا بصور الراقصات .. ونذكر بعض الابيات التي يرد فيها التصوير والاباحية للشاعر ابو نواس .
تدار علينا الراح في عسجدية حبتها بانواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنباتها مها تدريها بالقسي الفوارس
فللخمر ما ذرت عليه جيوبها وللماء ما دارت عليه القلا نس
و من ناحية تاريخية يذكر القرآن الكريم بان التماثيل كانت تصنع في زمن النبي سليمان- ع - للزينة ورمزا للقوة والشموخ، ويذكر انه كانت تصنع تماثيل للاسود وتوضع في مداخل القصور او المدينة، ولكنها عندما عبدت كسرت هذه التماثيل .. وكان هناك من العلماء من فهم التحريم على انه منصبا على العبادة فقط فكل نمط من انواع التصوير والذي تكون غايته العبادة من دون الله فهو محرم سواء كان آدميا او حجرا او شجرا، فقد كان هناك اقوام قبل الاسلام تعبد الشجر (شجرة الايكة) والحجر (الانصاب)، وبالتالي فان صناعة التصوير من اجل المتعة والرفاهية والتعبير غير محرمة عند البعض ..
و يذكر ان العالم ابن خلدون كان واسع الفكر ومتنور بحكم احتكاكه بالفكر الغربي عن طريق الاندلس، وقد ذكر بان التحريم يقتصر على تصوير الذات الآلهية فقط . ومثال على ذلك ما رسمه مايكل انجلو 1475 م في كنيسة بطرس حيث رسم الله على شكل رجلا ضخما متربعا على كرسي العرش تحيط به الملائكة والانبياء، وهذه اللون من العمل التجسيمي لله يعتبر محرما في الاسلام على اطلاق . اما غير ذلك فيعتبر جائزا عند البعض مثل شيخ الازهر محمد عبدة حيث قال : (لا مانع من التصوير طالما ان هناك متعة ومنفعة للمسلمين) .
ورغم ظهور التحريم والشك في مصادره وغموض تأويل الاحاديث والايات القرآنية الا أن صناعة التصوير بقت مستمرة دون توقف . وكان الخطاطون والمزوقون لهم القدرة والمهارة العالية في تصوير الكائنات الحية مثلما هو في (الارابسك) وغيرها وكان النساخون والخطاطون هم في الحقيقية مصورون ممتازون وكانوا يقومون بتصوير وتزويق وزخرفة المخطوطات ولكنهم يفضلون ان يذكروا كخطاطين وليس كمصورين خوفاً من غضب الفقهاء المتعصبين .
الحقيقة نحن اليوم نعيش مع عقل انساني متفتح ناضج يقيس ويحلل الامور دون خوف او خجل ولا يمكن قبول الروايات ذات النزعة الخرافية . فلا يمكن وضع هالة قدسية على كل من هب ودب من عاصر او شاهد او سمع من بعيد عن الرسول –ص- ان يدخله الله الجنة .. فالناس تقاس بصدق اعمالها ونواياها وليس بالصحبة او القرابة وبالتالي فقد كان التصوير وتشييد القصور واللهو وشرب الخمر منتشرا في العراق وبلاد الشام والجزيرة العربية والشواهد المادية الاثرية نجدها بكثرة ماثلة امامنا اليوم، بل ان انحراف بعض رجال الدين قد انكشف بعدما امسكوا بالسلطة والمال وهو خير دليل على اننا يمكن ان نرى الماضي من خلال الحاضر.
د. كاظم شمهود
خيار التعارف.. كبديل ثالث (2)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مراد غريبي
{يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(سورة الحجرات:١٣)
يمكن النظر في هذه الآية من زاويتين، زاوية بنيوية شاملة في القرآن؛ بهدف استكشاف المقاصد الكلية والحكمة العامة المستفادة من هذه الآية، وزاوية وظيفية مركزية؛ بغرض الكشف عن مباحث هذه الآية وأبعادها، ومعرفة العلاقة بين هذه المباحث والأبعاد.
بشأن الزاوية الأولى، عند النظر الشمولي في هذه الآية يمكن القول إن المقاصد الكلية هي الكرامة والتقوى والحكمة العامة المستفادة منها، هي تقرير قاعدة التعارف، وتأكيد أن التعارف هو الأصل في العلاقات بين الناس، الأصل الذي يؤسس لقواعد الحوار والتعايش والتسامح والتآخي والتعاون وما هنالك من أسس البناء الاجتماعي الحضاري، فلا يمكن تصور العلاقات الاجتماعية وسبل تطويرها من دون التعارف أو بعيدا عنه والذي يزدهر ضمن مقاصد الكرامة الإنسانية والتقوى العملية المنفتحة على الله.
بينما الزاوية الوظيفية المركزية، يمكن الكشف عن المباحث والأبعاد الآتية:
أولا: جاءت هذه الآية وقررت العلاقة بين الإنسانية والتعارف، حين وجهت الخطاب إلى الناس «يا أيها الناس »، الأمر الذي يعني ضرورة التنبه إلى هذه العلاقة بين المشترك الإنساني ومقصد التعارف، وجعلها في دائرة التفكر والتدبر، وهي تفيد أن وعي الإنسانية كأصل مشترك يمثل عامل مؤثر لتحقق التعارف، وينبغي أن يكون داعيا إلى نهج التعارف، وحاميا له، ومحفزا لاستيعاب حقائق الكرامة والتقوى، التعارف الحقيقي والصادق يقود إلى احترام حقوق الإنسان والتي تختزل ضمن كرامته بجل حقائقها وتوطيد السلم والتعايش الأهليين، والعكس يغذي عناصر التصادم والتنازع والتصارع والعنف المتبادل، مما يطمس كرامة الإنسان ويتجاوز التقوى ويفسد الاستقرار والتعايش والسلم وينسف تجليات العدالة.
كما تفيد هذه العلاقة كذلك، أن دائرة الإنسانية بالنسبة لأصحاب الإيمان مهمة جدا في إيصال التقوى الإيمانية عبر حقائق التكريم الإلهي والكرامة الإسلامية التي تنهض بإنسانية الإنسان وذلك من خلال سبيل التعارف، فالدعوة للإسلام لا تحقق مقاصدها عبر التعالي وإنما بمنهج التعارف السليم والمنفتح على آفاق المعارف والثقافات والعلوم والفنون وهذا كله، خطوطه العريضة متجذرة في الرؤية الحضارية للقرآن الكريم والسنة الشريفة .
ثانيا: الخطاب في الآية جاء بصيغة الجمع، فهو خطاب إلى الجماعة وليس إلى الفرد، بمعنى أنه خطاب متعلق بمفهوم الجماعة وذلك لوجهين: وجه يتعلق بعنوان التعارف، ووجه يتعلق بعنوان الجماعة.
ما يتعلق بعنوان التعارف: يتحدد في كون أن فعل التعارف حاجة مجتمعية وليس حاجة فردية فقط، وما يتعلق بعنوان الجماعة: يتحدد في كون أن المجتمعات هي المعنية والمسؤولة عن تحقيق التعارف، وكذلك غاية ومقصد التعارف بحاجة لجهد الفريق ولتكامل العقول ولا يمكنه أن يتحقق في إطار الجهود الشخصية والجهوية الضيقة، لابد أن يرقى لمستوى الثقافة الإجتماعية ويكون صبغة الاجتماع الثقافي.
ثالثا: الخطاب في الآية جاء كذلك بصيغة فعل الأمر تحديدا، فهناك من جهة عامة أمر للناس و للمؤمنين خاصة بإلتزام نهج التعارف، وهو بمثابة إرشاد إنساني وتكليف إيماني جماعي استراتيجي على طول الزمن الإسلامي، وأن أمر التعارف ينبغي أن يأخذ صفة الفعل المستمر الذي لا ينحصر ولا يتحدد لا في زمان معين، ولا في دوائر محددة، وإنما هو فعل مستمر شامل ونهج استراتيجي مطلوب في جميع الأزمنة والمجتمعات، وتجاه الآخر ككل، الجواني والبراني، وسيظل فعلا مستمرا مطلوبا بلا توقف وبلا انتهاء في ظل وجود الإنسان والمجتمع المسلمين.
رابعا: اتفق المفسرون من جل المذاهب الإسلامية قديما وحديثا على أن جملة {إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم}، وعلى سبيل المثال لا الحصر، بحسب المفسر الفقيه المالكي العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير: أنها جملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً وإنما أخّرت في النظم عن جملة "إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا"، لتكون تلك الجملة السابقة كالتوطئة لهذه وتتنزل منها منزلة المقدمة.
وجاءت تنبيها إلى ان حقيقة الكرامة عند الله كشرط للتقوى.
خامسا: نهج التعارف، يتطلب معرفة حقائق الكرامة وآفاق التقوى، وهنا نبهت الآية الكريمة إلى مسألتي العلم والخبرة ونسبتها لله توحي ان علم التعارف وخبرته لابد أن تطلب من العليم الخبير الباري عز وجل، مما يحيل إلى الزاوية الأولى البنيوية الشاملة التي تفتح الأفق الرحب أمامنا في صياغة ثقافة التعارف على ضوء محاور العلم والخبرة في المدرسة القرآنية المحمدية.
هذا عن أفق من آفاق النظر في الخطاب القرآني المؤكد على أهمية نهج التعارف، لكن السؤال الجوهري والمركزي :هل لبى المؤمنون المخاطبون ضمنيا في الآية النداء ونهجوا سبيل التعارف كبديل ثالث عن الصدام والعزلة؟!
بالرجوع للتاريخ لا نكاد نقف سوى على ملاحم الصراع والتخوين والتسقيط والتشهير والتكفير والتطرف والإقصاء كخيارات مأساوية الى جانب فتاوى الاعتزال الطائفي وشيطنة الاحتكاك بالآخر المخالف والمذهبي على وجه الخصوص، بل أحيانا الآخر الكتابي أقرب للذات الطائفية من المذهبي المسلم!! بين سياسة الإبادة وثقافة التهميش والإقصاء، ضاعت فرص ثمينة عديدة لبناء الاجتماع الإسلامي الحضاري، سوى تلك التي سطعت بموجات التفاعل مع الحضارات الأخرى مما أثمر نهضة علمية وفنية وإنجازات حضارية رائدة بين بغداد والاندلس والقيروان والزيتونة وجاكرتا، ولعل أكثر الصور إشراقا للتعايش والتسامح والتعارف لا تكاد تعرف لدى إنساننا العربي والمسلم المعاصر، لأنه ببساطة ضحية الوصاية الطائفية التي لا يخدمها نهج التعارف، ففي تصحيح المعارف وفضح الأساطير والافتراءات على ضوء النظر في القرآن الكريم والسنة الشريفة والتاريخ الإنساني الإسلامي ستزهر حقائق الكرامة وآفاق التقوى في الوعي الجمعي للمسلمين، وتنتفي اوهام التوجس ومبررات الكراهية وخدع التفرقة والتسقيط لتحل محلها شجاعة التعارف وآداب الحوار ومناهج البحث العلمي الحر وأخلاق التعايش واللقاء وقيم التسامح والعفو والسلم والتعاون على البر والتقوى..
بقلم: مراد غريبي
كاتب وباحث
الطبقات الاجتماعية في الحضارة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: محمد كريم ابراهيم
تُعرف الطبقة الاجتماعية على إنها مجموعة من أفراد داخل المجتمع مختصين بأداء وظيفة معينة من وظائف الحضارة. وتنقسم هذه الطبقات إلى أعدادٍ مُطاردة مع تعقيدات الحضارة، أي كلما كانت الحضارة كبيرة في الحجم ومُعقدة في التركيب، كلما أزدادت فيها الطبقات الاجتماعية المتنوعة. وكلما كانت الحضارة صغيرة في أعداد سكانها وبسيطة في أجزاءها، نرى بأن الناس فيها لا يختلفون عن بعضهم البعض كثيراً. وهذا واضح عند المقارنة بين القرية والمدينة، نلاحظ إن أهالي القرى يكونون متساوين أو متقاربين في طبقاتهم الاجتماعية، ولعل جميعهم يعمل في الوظيفة نفسها أو ليست بعيدة من ذلك الوظيفة الغالبة، أما أهل المدينة ففيهم تنوع عظيم وطبقات اجتماعية متفاوتة فيما بينها، ووظائف دقيقة ومختلفة بشدة عن بعضها.
الأشخاص المترعرعين في القرى يبدون أكثر مرونةً للتنقل بين الطبقات الاجتماعية من أصحاب المدن، ولا يمنعهم مانع في تعلم وإجادة عمل آخر لعملهم الرئيسي، بينما نرى صلابة ومناعة من أهل المدينة في التنتقل بين الوظائف بسهولة (وبالتالي بين الطبقات الاجتماعية). وذلك لأن أهل القرى غير ناشئين في بيئة صلبة يحدد أدوارهم داخل المجتمع كما يحصل داخل المدينة، من المدارس والجامعات والمؤسسات التي تفرض على عقل الإنسان وظيفته في مجتمعه. وفوق كل هذه التحولات الكامنة الذي يحمله القروي في داخله، فإنه بالتأكيد في بيئته النائية القروية الطبيعية، يقوم فعلياً بعدة وظائف مختلفة حسب الظروف المفروضة، فإنه يستطيع أن يصبح جندياً إذا تطلب الأمر الدفاع عن نفسه وعائلته وأرضه، أو يصبح فناناً إذا اراد ذلك أو فيلسوفاً إذا تسنى له أو رجل دين إذا أقبل الجمهور عليه. من الصعب على عقلية إنسان اجتماعي الذي يعيش في خضم حضارة كبيرة أن يتنقل بين طبقات مجتمعه.
هناك بعض من الطبقات الضرورية في الحضارات البشرية التي لطالما تواجدت منذ نشوء البشر. مثل الخلايا الموجودة في جسم الإنسان التي تقوم كل من أنواعها بوظائف مختلفة عن الآخر، فكذلك أهل الحضارة ينقسمون إلى عدة طبقات، تقوم كل منها بوظيفة معينة.
بشكل عام، ينقسم الوظائف إلى قسمين: الوظائف التي تُغير وتُعدل وتضبط الأنظمة والإنتظامات الغير البشرية (أو ليست من نظام أهل الحضارة)، والوظائف التي تحافظ وتعدل وتضبط من نظام أهل الحضارة وتركبيتها الأساسية.
1- الوظائف المحولة لأنظمة البيئة: وهي تتمثل بوظائف مثل الحدادة والفلاحة والصناعة والهندسات المختلفة والبناء، هؤلاء الاشخاص أعمالهم هي تحويل انظمة المتنوعة في البيئة إلى نظام أهل الحضارة.: يندرج تحتهم العلماء والباحثين والمستكشفين الذين يطورون الحضارة بإيجاد طريقة في تحويل إنتظامات الانظمة الحية وغير الحية إلى اشياء مفيدة للناس. وظائف هؤلاء هي الإنتاج (السلع المنتجة).
2- الوظائف المحافظة لنظام أهل الحضارة: الوظائف مثل الطب والتمريض والتعليم والتربية والعسكرة والإدارة التي تحافظ على أهل الحضارة وتضبطها (تحافظ على نظام الغالب في الحضارة). تصنف تحت هذه الوظائف السياسة والاقتصاد والهندسة الاجتماعية وغيرها من الاعمال التي تعدل تركيب المجتمع وتحافظ على افكاره وأسسه. كذلك الكتاب والمؤرخون الذين يحافظون على ارث الحضارة ومعلوماته من الضياع. وظائف هؤلاء هي خدمة الناس (السلع الخدمية).
هاتان الوظيفتان هما اساسيتان في الحفاظ على الحضارة ولتطويرها وتوسيعها. اما الوظائف الاخرى، فتأتي ثانوية، منها وظائف صيانة الأنظمة التي تحولت بالفعل إلى منافع للبشر (من السيارات والالكترونيات وغيرها). هناك أيضاً بعض من الأعمال المهمة التي لا تصنف تحتهم، مثل وسائل نقل والاتصالات.
يمكنك تخيل الحضارة كصندوق مغلق فيه مجموعة من النقط نعتبرها أهل الحضارة، هناك فتحتان موجودتان في الصندوق، فتحة من الفوق والتحت. الفتحة الفوقية تضاف نقط من خلالها داخل الصندوق وذلك بسبب الوظائف المحولة لنظام البيئة الذي يعمل انظمة مشابهة لنظام اهل الحضارة، والفتحة التحتية تخرج النقط منها وذلك بسبب الامراض التي تصيب اهل الحضارة والموت الطبيعي وفوضى البيئة والانظمة الاخرى التي تغير اهل الحضارة لنظامها.
الوظيفة المحولة لأنظمة البيئة مهمة جداً في بقاء الحضارة، لانها تضيف كيانات اكثر الى الحضارة، وهذه الوظائف يجب ان تتواجد بشكل أو بآخر في جميع الحضارات البشرية وغير البشرية. اما الوظيفة المحافظة للنظام، فهي تعمل عملاً توازنياً في تضييق الفتحة التحتية ومنعها من سحب اهل الحضارة خارج الحضارة (الصندوق). الوظيفة التوازنية ليس مهمة مثل الوظيفة المنتجة للإنتظمات الحضارة، وهناك عديد من الحضارات لا تمتلك اهلها وظائف الحفاظ على ذاتها، لكنها تبقى موجودة ما دامت فيها وظائف المحولة للأنظمة البيئية، بالرغم من خسائرها العظيمة لأهل حضارتها وعمرها القصير، إذا استطاعت أن تزيد من عمليات تحويل انظمة البيئة الى نظام وانتظام اهل الحضارة، فإنها تستطيع العيش دون الحاجة الى وظائف محافظة للحضارة، لأنها وسعت من فتحتها الفوقية للتعويض بما تخسره في الفتحة التحتية.
يجب أن يكون هناك توازن داخل الصندوق ما بين الاضافة والنقصان بين الفتحتين. الحالة المرغوبة هي توسعة الفتحتة الفوقية بقدر الامكان وتضييق الفتحة التحتية بقدر الامكان، والحالة المتوازنة هي عندما يتوازن ما يدخل داخل الصندوق من الفتحة الفوقية مع ما يخرج خارجها من الفتحة السفلية. اما الحالة المدمرة للحضارة هي عندما لا تقدر على انتاج بشكل كافي للتعويض من خسائرها، قد يتضيق الفتحة الفوقية لاسباب عدة أو قد يتوسع الفتحة السفلية، بكلتا العمليتين، سوف تموت الحضارة مع موت أهلها عاجلاً أم آجلاً.
ليس هناك افضلية عظيمة بين الطبقات، حيث انها مسألة الوقت والجهد، الفلاح يقوم بجهد جسدي والطبيب يقوم بجهد عقلي، بعضنا ولدوا ضعفاء بسبب اخطاء اجدادنا، وبعضنا ولدوا اقوياء بفضل تصرفات آباءهم، بعضنا اغنياء بمحض الحظ والصدفة، وبعضنا فقراء بسبب العقبات والمطبات التي أصابتنا عشوائياً. وهذا لا يعني إن بعض الوظائف هي افضل من الاخرى، بل يعني إن هناك من يصرف جهداً أكثر ووقتاً أطول ليستحق مكانة أكبر، بالرغم من أنه هناك من يستغلون هذا النظام ويتسللون إلى قمته دون حق وجهد.
محمد كريم إبراهيم – محلل وكاتب عراقي
رؤية العقاد للإصلاح الفكري والأدبي
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. يسري عبد الغني
لعلك تتفق معي في أن المبدع أو المفكر الذي لا يملك رؤية أدبية أو فكرية هدفها الصلاح والإصلاح لا يصح أن ينتمي إلى عالم الإبداع أو الفكر الجاد الواعي .
وأستاذنا الأديب الكبير / عباس محمود العقاد كان صاحب رؤية فكرية وأدبية إصلاحية تجلت في العديد من كتاباته التي أثرت الفكر العربي بوجه عام والثقافة المصرية بوجه خاص .
لقد تصدى العقاد في مقالين مهمين نشرا على صفحات صحيفة الجهاد في 9 و 12 من نوفمبر سنة 1934، للكشف عن ألاعيب حياتنا الفكرية والأدبية في تلك الفترة الزمنية من تاريخ بلادنا، ومدى تأثير الكيد السياسي في حياتنا الفكرية، وقد قصد عمدًا إلى تسجيل الحقائق التي يجب أن يعرفها، ويطلع عليها مؤرخ الأدب المنصف أو المثقف الواعي المستنير .
يرى العقاد أنه من حق تاريخ الأدب أن يقوم بكشف الدسائس الخفية التي أحاطت بحياتنا الأدبية في تلك الفترة التي كتب فيها هذين المقالين، لأن كشفها ضروري لتصحيح الحكم على كثير من الحركات المريبة التي ظهرت في خلال هذه السنوات ظهورًا غريبًا مفاجئًا لا يسهل تعليله لغير الوقوف على دخيلة البواعث التي دعت إليه، فإن هذه الحركات لم تكن دليلاً على اتجاه في الأفكار أو تطور في الأذواق، إنما هي الأحابيل منصوبة للقبض على ناصية الفكر العربي، وأاقتياده إلى خدمة الأغراض المرسومة .
وأخذ العقاد يعدد الأساليب التي استخدمها الإبراشي باشا كبير سماسرة السياسة والمصالح في تاريخ القصور الملكية بمصر، فالإبراشي باشا أسمرت ألاعيبه أكثر وأكثر، في ظل رجل من كبار أعداء الحرية في تاريخنا، ويقصد بذلك إسماعيل باشا صدقي، صدقي الذي نكب الأمة في دستورها فقتله ومثل به أبشع تمثيل، صدقي الذي سلط زبانيته على الأحرار والمنادين بالحق والحرية يبيتون لهم المكائد، ولا يقابلون جموعهم كلما اجتمعوا إلا بالعصي الغلاظ، وأطراف الأسنة ورصاص البنادق، صدقي الذي أعاد جباية الأموال إلى عهد الوحشية الأولى، فأصبحت الضرائب لا تطلب إلا بألسنة السياط والكرابيج .
صدقي الذي عرف المصريون في عهده كيف يكون الدرك الأسفل من معاملة الحاكم للمحكوم، وكيف تمرغ وجوههم وجباههم في الأرواث والأوحال، وكيف يضطرون إلى التسمي والتنادي بأسماء النساء، إمعانًا في التمثيل والإذلال .
لقد شدد العقاد ومحمد توفيق دياب صاحب صحيفة الجهاد النكيرة في هجماتهما على صدقي باشا مما يعد بحق من مفاخر شجاعتهما، وقوتهما، وقد سجن محمد توفيق دياب بسبب هذه المعارك، وضيق على العقاد حيث عانا الرجل الأمرين .
ومن أقوى المقالات التي كتبها العقاد هذا المقال الذي نشر في جريدة الجهاد يوم 28 فبراير 1922، وفيه شن هجومًا لا هوادة فيه على صدقي ورجاله، وسخر من حلمي عيسى باشا وزير المعارف على عهد صدقي، لأنه صادر الحرية السياسية للطلاب .
وأذكر لك مثالاً آخر، مقالة العقاد التي نشرتها صحيفة الجهاد في 16 فبراير 1933، بعنوان (لماذا تبقى الوزارة الصدقية وقد حقت عليها كلمة الزوال؟!) .
ومثال ثالث: مقالة العقاد والمؤرخة في 23 مايو 1934، والتي سخر فيها من لجوء صدقي إلى الصحافة والرأي العام، وهو العدو الأول لهما، وذلك أثناء وجود صدقي خارج الوزارة، وقد أوجعه العقاد .
يؤكد العقاد على أنه لا غرابة في بلادنا في ظل هذه القبضة الحديدية، قبضة صدقي والإبراشي وغيرهما أن تجد الحيل والإغراءات التي اخترعها الإبراشي رئيس الخاصة الملكية طريقها إلى إفساد الحياة الأدبية والفكرية بعد أن فسدت الحياة السياسية والاجتماعية .
أستاذنا العقاد أخذ يعدد لنا الأساليب التي استخدمها الإبراشي باشا في هذا السبيل، ويصفه لنا بأنه وسع من شباكه لتشمل رجال الفكر العربي والغربي على السواء، لأن الإبراشي يعرف مقدمًا أن الهيمنة الفكرية على مصر وحدها لا تكفي لتسخير الأدب العربي كله حيث يريد، لأن من الأدباء المصريين من تنشر كتاباتهم وكتبهم وتمتد شهرتها وشهرتهم إلى حيث الكتابة الأوربية في أوربا بين رجال الاستشراق والمؤرخين المهتمين بدراسة الآداب الشرقية عامه (وكان منهم بالطبع الأستاذ العقاد).
لابد إذن من توسيع الشباك، وإبعاد المرمى، لتشمل هؤلاء عن طريق إغرائهم بإلقاء الدروس والمحاضرات مع البذخ في العطاء والتفنن في إمتاعهم بالرحلات، والغارم الوحيد هو بالطبع الخزانة المصرية .
ويقول العقاد: إنهم من أجل ذلك فكروا في إنشاء المجمع العربي، ليستغلوا طمع الطامعين، ويملكوهم بالآمال التي يسيل لها اللعاب، قبل أن يملكوا بعضهم بالمرتبات والمكافآت، بل افتنوا في إنشاء الوظائف الأدبية، واستكتاب المصنفات العلمية ليدخلوا في روع المؤلفين الأوربيين أن بلادنا بابًا مفتوحًا للمغانم والأرباح، يدخله من يتبرع مشكورًا بالخدمة، ويتزلف إليهم بالتأييد من الأنصار وخذلان الخصوم .
يضيف العقاد: أنه قد وصل الأمر بهؤلاء السماسرة في حقل الأدب والفكر، أنهم عندما احتفلوا بمضي الأربعين على وفاة أحمد شوقي، وهو متوفى بعد حافظ إبراهيم بنحو ثلاثة أشهر، أن أرسلوا المساعي إلى البلاد العربية، واشترطوا على المدعوين أن يقصروا القول على رثاء شوقي فقط، دون أدنى ذكر لحافظ إبراهيم، لأن حافظًا شاعر الشعب لم يكن من المرضي عنهم .
كيف يكرمون حافظًا وقد وبخهم توبيخًا في الكثير من قصائده السياسية، أقول لك: لقد ذكر الأستاذ / عبد الرحمن الرافعي المؤرخ الكبير لحافظ إبراهيم جملة من أشعار الوطنية في مقاومة الاستعمار البريطاني، والسياسة الغاشمة على عهد صدقي باشا، وذلك في كتابه (في أعقاب الثورة المصرية)، وأطلب منك أيضًا أن تراجع ديوان حافظ إبراهيم، بتحقيق وتقديم الدكتور / أحمد أمين، والصادر عن دار الكتب المصرية لتعم الفائدة في هذا الأمر .
أعود بك لنجد العقاد يقول لنا: لقد ذهب بهم الأمر في إحكام خطتهم إلى إغراء بعض الصحف العربية في: سوريا، والعراق، وفلسطين، لتسخير كتابهم على النحو الذي يريدونه من المحاباة والإجحاف، وأن في كل قطر عربي لأناس من المشتغلين بصناعة القلم، يرجون الخير ويطمعون في النوال، وليس بخفي عليهم سبيل الوصول والظفر بالوعد المأمول، فماذا عليهم إن هانت ضمائرهم أن يتوسلوا بالوسيلة، ويلتمسوا وجه الحيلة ؟!، كل ما هنالك أن يفرطوا في مدح المحبوبين، وذم المكروهين، وكان الله يحب المحسنين .
ويوضح العقاد الخطة الجهنمية لمحاربة أصحاب الضمير من الكتاب المحترمين، فيقول: وكانت الخطة فيما يتصل بالأباة من الكتاب ذوي الضمير الحي، والشأن الرفيع، كانت الخطة منهم التشهير والنفير، واختلاق الجماعات التي تتزيا بألوان من الأزياء، وتتسمى بأشتات من الأسماء، ومقصدها كلها الغض من أولئك الأدباء الأباة، ويذكر لنا العقاد أن الجزء الأوفى من هذه الحملات كان موجهًا إلى عميد الأدب العربي الدكتور / طه حسين .
ويكشف العقاد عن أسماء المستفيدين من هذه السمسرة الأدبية الفاسدة، ويؤكد على أنه ما كان بوده ألا يهبط بقلمه إلى ذكر الأسماء والأمثلة، وليكن ذكرها قسطًا جديدًا من أقساط الأذى العميم الذي يصيبنا في أنفسنا وأبداننا وأعراضنا من جراء خدمة الثقافة والتصدي للمبطلين .
ونستطرد هنا فنقول: إن الباحث يكن كل التقدير والإعزاز والإجلال لكل من ذكرهم الأستاذ العقاد، فقد تعلمنا منهم الكثير والكثير، والعهدة على الأستاذ العقاد فيما كتب، وفيما عرض من وجهة نظره الخاصة، لاعنين السياسة وأحابيلها في كل وقت وفي كل آن .
يذهب العقاد إلى أن: الرافعي (الأستاذ / مصطفى صادق الرافعي) ألف كتابًا في التشهير بالدكتور طه حسين، وألف كتابًا أسماه (على السفود) الذي أصدره الأستاذ / إسماعيل مظهر، صاحب دار العصور سنة 1930، حيث أفعم الرافعي بالطعن الشديد الفاحش فيه على العقاد .
ويقال: إن الرافعي سرق من بعض كتب العقاد، ورغم ذلك أنكر عليه وعلى ما يكتب، وهذا بالطبع يحتاج إلى إثبات وتدقيق وتحقيق وأدلة وبراهين، فنحن ضد أخذ الأمور على عواهنها وضد أي اتهامات مرسلة.
ويقول العقاد: إن الرافعي يتحدث عن الجهاد النبيل، سلوه وسلوا تاريخه في أي شيء كان هذا الجهاد النبيل ؟!، سلوه عمن تعلم من أبنائه على نفقة الخاصة الملكية التي يديرها الإبراشي باشا (يقصد الدكتور / محمد الرافعي بن الأستاذ / الرافعي)، وعندما طبع من كتبه على نفقة الخاصة الملكية التي يديرها الإبراشي باشا (يقصد كتاب: إعجاز القرآن، للرافعي، والذي طبع على نفقة الملك في طبعة ملكية فخمة) .
ويذكر الأستاذ / إسماعيل مظهر صاحب دار ومجلة (العصور) الذي قام بطبع ونشر كتاب (على السفود) للرافعي، ولم يدخر من وسعه شيئًا في التشهير بالعقاد، والافتراء عليه، وانتحال المزاعم الخاوية التي يسندها إليه، ولم يمر على آخر مقالة كتبها في ذم العقاد شهر واحد، أو نحو ذلك حتى حصل على وظيفة مرموقة في المجمع العربي .
ويذكر الدكتور / محمد غلاب، فيقول: إنه استحق مقام التدريس في الجامعة الأزهرية لأنه قام بطبع وريقة في القاهرة، يسميها (النهضة الفكرية)، ويملؤها بالغباء، والبذاءة في انتقاص الدكتور / طه حسين والأستاذ / العقاد .
ويتكلم عن الشيخ / زكي مبارك (الدكاترة / زكي مبارك) الذي رجع إلى الجامعة المصرية بعد فصله منها زهاء خمس سنوات، لأنهم استخدموه في احتفال يقابلون به احتفال مصر بالنشيد القومي الذي نظمه الأستاذ / العقاد في أوائل عام 1934، وأذكر هنا: أن الدكتور / زكي مبارك كتب في عدد صحيفة الجهاد الصادر في 19 نوفمبر 1934، مقالة يدافع فيها عن نفسه، ولكن العقاد لم يعفه من نفس الملاحظة .
ويرى العقاد أن من أسباب عودة الدكتور / زكي مبارك إلى الجامعة أنهم رضوا عما كتب في غمز الدكتور / طه حسين، وغمز الأستاذ / العقاد، من كلام معيب في بعض كتبه وبعض مقالاته .
ويذكر الدكتور / أحمد زكي أبو شادي، ويصفه بأنه (طبيب متشاعر)، وأذكرك أن أبا شادي هو مؤسس جماعة أبوللو الشعرية الرومانسية، سنة 1931، حيث جعل أمير الشعراء / أحمد شوقي رئيسًا شرفيًا لها، وشاعر القطرين / خليل مطران أبًا روحيًا لها، وأصدر مجلة (أبوللو) الأدبية التي استمرت قرابة عامين، حيث عبرت عن فكر هذه الجماعة، التي كان سكرتيرها الشاعر الرومانسي الكبير الدكتور / إبراهيم ناجي، وقد ضمت بين أعضائها مجموعة من شعراء الوطن العربي المتميزين، نذكر منهم الشاعر التونسي / أبو القاسم الشابي، والشاعر السوداني / التيجاني يوسف بشير .. وغيرهم .. وغيرهم .
يقول العقاد إنهم سمحوا لأبي شادي بإصدار خمس مجلات في وقت واحد، وهو يعمل موظفًا بإحدى المصالح الحكومية، فجعل القسم الأدبي من مجلاته كلها وقفًا على التشهير بالعقاد، وأدب العقاد، وأخلاق العقاد .
ويذكر الدكتور / رمزي مفتاح، صاحب كتاب: (رسائل النقد)، يصفه بأنه من هذا الصنف، وأن كتابه كاملاً جاء على ذلك النمط من الفجور والابتذال .
ونبه العقاد إلى طوائف أخرى من صغار الموظفين الذين يوفدون في أعمال السمسرة الأدبية إلى البلاد العربية، وكذلك سماسرة النوادي والمقاهي، الذين نيطت بهم مهام التزوير والتلفيق والافتراء على رجال الفكر والأدب الأباة المترفعين، الذين يصفهم العقاد ـ وهو واحد منهم ـ بأنهم لا يبالون بهذه النوعيات، على الرغم من كل كاشح مأفون، فالأدباء الأباة صنعوا للأدب وللوطن وللناس ما يضيق به الثناء، ويقصر عنه الجزاء .
ويرى العقاد أن المسئول عن هذه المخزيات المخجلات هو الإبراشي باشا في مقدمة أذنابه وأعونه بلا شك، وليس ذلك لأنهم دبروا كل عمل من هذه الأعمال أو أشاروا بكل حملة من هذه الحملات، بل لأنهم خلقوا الجو الذي يسول للنفوس الوضيعة أن تبتغي النفع وتطمع في الزلفى من هذه السراديب المظلمة .
وما إن بدأ الأستاذ الكتابة في هذا الموضوع، حتى انهالت عليه رسائل القراء من كل مكان تكشف له عن حوادث بعينها، وأسماء بعينها، من هؤلاء السماسرة وأتباعهم .
وبين كيف أن الإذاعة التي كانت تعد في تلك الآونة أهم وسيلة إعلامية بعد الصحافة، كيف أنها استغلت كوسيلة للسمسرة والإغراء، فهي مفتوحة للمنافقين وحدهم، مغلقة ضد الأباة إلا من رحم مثل الشيخ / عبد العزيز جاويش، كما أشار العقاد في هذه المقالات التي نشرتها صحيفة الجهاد، وفي تعقيبه عليها فيما بعد .
العقاد يوضح لنا مستوى الاضطهاد والمطاردة التي لحق بالناس في تلك الأيام إلى حد أنه اتفق مع زملائه من المجاهدين، على عدم البدء بإلقاء السلام على أحد ممن يعرفونهم، لأن مجرد فعل ذلك يعرض الآخرين للأذى العميم في وظائفهم وأرزاقهم .
ويحكي لنا أن الأمر بلغ ذروته عندما جاء الأستاذ / محمد كرد علي، العالم الجليل ورئيس المجمع العربي بدمشق السورية، جاء في زيارة إلى مصر، وذهب إلى جريدة الجهاد ليزور أصدقاءه زيارة ودية، يومها حملوا على الرجل حملة شعواء باسم الدين، وحققوا معه أيضًا باسم الدين، وادعوا عليه الأباطيل، والرجل معروف عنه أنه أوقف حياته كلها على خدمة اللغة العربية والإسلام .
وادعى الطغاة السماسرة أنه قال في محاضراته قولاً لا يحسن بالعرب والإسلام ؟!، وفي الواقع أن كل الجريمة أو المصيبة التي استحق من أجلها الاضطهاد والتحقيق، وأوشك بسببها أن يفقد كرسيه في مجمع الخالدين، أنه زار جريدة الجهاد زيارة صديق لا زيارة محارب أو مشترك في الخصومة .
أيها القارئ العزيز: لقد حرصت في هذه السطور أن أسجل لك ابرز عناصر هذه الأخبار التاريخية الأدبية والفكرية التي قدمها أستاذنا العقاد، عبر مقالاته أو كتبه، لأنها تلقي الضوء على مدى طغيان السياسة ـ لعنها الله في كل كتاب ـ وتأثيرها في الحياة الأدبية والفكرية تأثيرًا سيئًا، وأرى أن لهذه الأخبار أهميتها القصوى كوسيلة بحث يمكن الاستئناس بها لمن أراد أن يعرف طبيعة تأثير السياسة في الحياة الأدبية والفكرية والأخلاقية في أعقاب الثورة المصرية سنة 1919، وأمر آخر نأمله ألا وهو أن نتعلم من دروس التاريخ لنتجنب أي سلبيات قد نقع فيها في حاضرنا المعاش .
أقول: بالطبع لا يذهب كلامي في هذه الأخبار أو عندها باعتبارها القول الفصل في هذه القضية، ولكنها علامة قوية وبارزة على الطريق، وهي من العقاد و العقاد رجل نسيج وحده، رجل من الرجال الذي لا يستهان بقولهم أو بفكرهم، وإذا كان العقاد قد كتب كلامه هذا تحت تأثير الخصومة فإنها خصومة لا يبعد فيها معرفة الحق من الباطل، خاصة ونحن نعلم أن المعارك التاريخية من خلال دراسة الخصومات والمعارك الفكرية، تكاد تؤيد تفصيلاتها .
، أقول لك: إذا كان العقاد قد هاجم هؤلاء بميولهم السياسية المؤيدة للطغيان والاستبداد والسمسرة الأدبية، فهذه وجهة نظر أستاذنا / العقاد نفسه، وهي خاصة به، وهو نفسه شنت عليه أبشع الهجمات وأضراها كمفكر وأديب بسبب مذهبه السياسي، فذهب خصومه إلى أنه إنما نال شهرته الأدبية، لأنه كان كاتب حزب الوفد الأول .
الرافعي يذهب إلى أن العقاد كاتب سياسي لا يستغني الوفد عنه، وهذه هي أهميته، وهذا هو سبب شهرته، ويعتقد الرافعي أن العقاد كاتب مأجور للسباب والمغالطة والنضح بما فيه !!!، ويدعي الرافعي أن ذلك هو أصل شهرة العقاد، وأنه كاتب حوادث للبلد، وينضح عن الوفد الذي بلغ من تمكنه في وإذا كان الأستاذ قد هاجم رجال نعتز بهم ونحبهم ونحترمهم ونقدرهم لما قاموا به من دور أدبي وفكري في نهضتنا الثقافية، مثل الأستاذ / مصطفى صادق الرافعي زعيم المحافظين في نثرنا العربي، والأستاذ / إسماعيل مظهر الكاتب الصحفي والباحث الناقد المستنير، والأستاذ الدكتور / محمد غلاب الباحث والناقد، والدكاترة / زكي مبارك، والدكتور العالم الشاعر / أحمد زكي أبو شادي، والدكتور الناقد / رمزي مفتاح الأمة أن قيل فيه: لو رشح الوفد حجرًا لانتخبناه .!!!.
ويواصل الرافعي كلامه فيقول: إن في بلادنا هذه قد يبلغ رجل عند قومه درجة من النبوة قرينه ألا يوحى إليه بوحي، ولكن بعمامة خضراء أو حمراء، وعمامة العقاد هي مقالاته السياسية ولا ريب .!!!
أستاذنا الرافعي قال هذا الهجاء الفاحش من خلال وريقاته المليئة بالفحش والبذاءات والشتائم في شخص العقاد، والتي أسماها (على السفود)، وقد أشار تلميذ الرافعي الأستاذ / محمد سعيد العريان إلى هذا الكلام في دراسته المهمة عن حياة الرافعي، والتي صدرت طبعتها الأولى عام 1939، ويمكن للقارئ الكريم أن يعود إليها إذا أراد الاستزادة في تلك المسألة .
وتهمة الرافعي على بطلانها وسخفها لم تفارق راهب الفكر / عباس محمود العقاد في حياته وبعد مماته، وإن كانت مجلة (العصور) التي يرأس تحريرها الأستاذ / إسماعيل مظهر، قد رددت هذا الاتهام في العشرينات من القرن العشرين إبان حملتها الرافعية ضد العقاد، كما أن مجلة (أبوللو) التي يرأس تحريرها الدكتور / أحمد زكي أبو شادي قد رددت نفس الاتهام للعقاد في الثلاثينيات من القرن العشرين أيضًا .
وقد كتب الأستاذ / محمود الخولي مقالة مطولة نشرتها مجلة (أبوللو) في عددها الصادر في شهر مايو سنة 1933، ونجد فيها الخولي يصرخ بأعلى صوته من قسوة العقاد في الرد عليه وعلى غيره من ناقديه، إلا أن العقاد عند الخولي يستدر عطف القراء عليه كشاعر يتمسح في أعتاب الوفد، و يرى الخولي أنه لا علاقة مطلقًا بين نقده كأديب وبين مذهبه السياسي إذا كان له مذهب !!!، ويقول الخولي: أنه قرر ذلك وغيره من الحقائق المعروفة، فماذا يستدعي أن ينفيه العقاد ؟!! .
وهكذا أيها السادة تلاحمت السياسة والأدب بالتأثير والتأثر، وعكست الحياة الأدبية في هذه الفترة المهمة من تاريخنا طبيعة الصراع بكل أبعاده في الحياة المصرية .
وعندما كنت أراجع أعداد مجلة (أبوللو) متأملاً من خلالها تاريخنا الأدبي، رأيت أن المجلة قد حملت لواء معارك التجديد في بداية الثلاثينيات، ولكن بكل أسف سقطت هي وجماعتها الأدبية صريعة العراك السياسي الذي تسلل في شرسة إلى الأدب .
مما لا شك فيه أن المعارك الفكرية والأدبية كانت وثيقة الصلة في كثير من جوانبها بالتيارات السياسية والنزعات والأهواء الحزبية والشخصية، التي تردت فيها البلاد بعد نجاح الأعداء في تصفية الأهداف الكبرى لثورة 1919 .
والحق يقال: إن ذلك لا يمنعنا من الاعتزاز الكامل بالحرية الفكرية التي تمسك بها كبار الأدباء وأهل الرأي والفكر، وعلى رأسهم العقاد، وقد كان للحرية الفكرية، وحرية الكلمة أثرهما البعيد في النهوض بالمستوى الفكري والثقافي للأمة، وفي تبصيرها بأهم مشكلاتها وقضاياها الكبرى القريبة والبعيدة إلى الحد الذي رأينا معه إسماعيل صدقي باشا الذي كان يمثل الاستبداد والطغيان ينال أقوى وأعدل الجزاء على أسنة الأقلام الحرة المحترمة غير المأجورة وغير العميلة وغير الباحثة عن مصالحها الخاصة حتى لو خربت البلاد وضاع العباد في ألف داهية، وأهم مثال على ذلك المقالات النارية التي كتبها أستاذنا العقاد وأشرنا إلى طرف منها في سطورنا السابقة .
بقلم: د. يسري عبد الغني
الأسلامُ لمَن..؟
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عبد الجبار العبيدي
الدين لا يصنع دولة.. بل يصنع عقيدة للقانون..
علينا ان نعترف.. لم تعد النظرية الاسلامية اليوم نظرية دينية سياسية قابلة للأحياء والتطوروالتطبيق.. ولم تعد نظريات الفقهاء المختلفة والمتخالفة تصلح لبناء دولة سياسية موحدة كما في اليابان والصين مثلا.. بعد ان اصبحت أرائهم تكمن فيما طرحوه عقيدة قدسية للدين كأداة للسياسة حين حولوا قداسة النص الى قراءة حرفية وأنتقائية للكلام المنزل.. فتحولت معتقداتهم الشخصية الوهمية الى دين..
من هنا لم يعد بأمكاننا تحديد طبيعة الأزمة السياسية التي يطرحها الدين اليوم من منظور فقهي مقدس يخالف نظرية صيرورة الزمن في التغيير بعد ان فقدت نظريته المتمثلة بالمذهبية المتناحرة كل أنسانية الأنسان في التطبيق.. لذا ظلت وستبقى طبيعة الأزمة غامضة لم نفهمها لا على مستوى السياسة ولا على مستوى الدين.. وستبقى الفاجعة مستمرة بيننا ولا زالت..؟ نقصد بين الاسلام الصحيح وبين ما تطرحه مذاهب فقهاء الدين.. اسلام كل الناس دون تمييز او تفريق، وأسلامهم الغريب عنا في العقيدة والتطبيق.. فكيف وهم يرفعون شعار المذاهب في الاختلاف والتفريق..؟
يعتقد الغالبية من الباحثين في الشأن الاسلامي ان ألغاء الشورى وعدم العمل بثوابت النص المقدس هو السبب من معاناة المسلمين اليوم حين حل بواديهم الحكم الفردي الاستبدادي الذي شكل بؤرة الازمة السياسية الحالية.. اضافة الى انفراد وأختلاف اصحاب المذاهب في تفسير النص بما يوائم هواهم لخدمة السلطة لا الدين، مما خلف نظرية جديدة في المجتمع الاسلامي منذ بداية الدعوة هي نظرية الخوف من الجهر بالحق التي ساندتها السلطة السياسية انسجاما وأتساقا في جعل الحكم دينيا بما يوافق هواهم.
لقد أثبتت النظرية التاريخية أنها ضد هذا التوجه في الدولة العربية الاسلامية التي عاشت على نمط معين طويل دون تغييريقرب من 656 عاماً، فلا الفردية ولاالقوة العسكرية والمالية، ولا حركة التضليل الديني كانت اسبابا مقنعة لأستمرارها وتطورها.. لان السبب الاساس يكمن في الفردية الرئاسية او ماسمي بالملك العضوض الذي تسانده القوة والمال والاتباع.
من هذا التوجه الخطر بقيت الفردية المغطاة بالشرعية الدينية المخترعة هي الأساس في قوتها حين ظلت تدور حول افكار او نتوءات دينية دخلت افكار العامة بأنها ألهية النص لا يجوز الأقتراب منها، حتى بمرور الزمن اصبحت مقدسة لا يسمح بأختراقها فتجذرت كمرض سياسي مزمن في مجتمع الجهالة وقصر النظر.. وبذلك اصبح معدل النقص يعلو على معدل قوة قناعة منطق القانون فبدأ التدهور في شكل تناقص مع الأسس التكوينية لمفردات الحكم.. حتى شابها الأنهيار.. فالسقوط.
وبتطبيق نظرية "أولي الأمر" التي فسرت خطئاً كانت وما زالت هي العائق الاكبر في تجسيد شورى حكم الدولة حين ثبتها الفقهاء بعقول الناس خدمة للحاكم لا الدين: "أطيعوا الله والرسول واولي الأمر منكم " طاعة نصية كطاعة النص والرسول فوقعوا في خطأ التقدير.. حين لم يدركوا ان ألوا جمعا لا مفرد من جنسه.. وأولوا ليس جمعا لولي ولا من مادته.. هم المقدمون من الجماعة وهم ليسوا عليهم.. وحين غاب هذا المعنى قالوا منا أمير ومنكم أمير.. فدكوا اسفين خطأ التجربة التي ساندها الناس جهلا بتفسير النص خدمة للسلطة.. فتعثرت التجربة منذ البداية التي قيدت حكم الدولة بما هو اليوم.. من فردية ومذهبية قاتلة وعصبية قبلية مُفرقة.. وبمرور الزمن اصبحت عقيدة .
وهكذا بدأت الفردية تتحكم في النفوس حين اصبحت بنظرهم مقدسة "أنما أنا سلطان الله في أرضه.. أطيعوني ما أطعت الله" حتى ظهرت فيما بعد دراسات نسفت هذا التصور بعد ان اعتبرته مرضا دخل المجتمع لابد من ازالته وعدم نقله الى حالة التدين في التصرف والصلاحيات والطاعة خشية من ان يضع فكرة التدين في قوالب صلبة يصعب كسرها مستقبلاً.. لكنها.. فشلت .
من وجهة نظري ان هناك فرقا بين التدين والدين، فالدين هو العقيدة، التدين هو الاجتهاد الفردي في العقيدة وهو ما ليس بدين.. وهو السبب في بقاء الشقاء السياسي في المجتمعات الاسلامية.. حتى ان ازالتها تحتاج الى وقت لنزعها من الذهن والفكر والنفس، ويحتاج توضيحه الى ابحاث معمقة ومقنعة. في اجواء ديمقراطية غير متوفرة اليوم.
وهكذا وبمرور الزمن أصبح التدين المصطنع منهم هو الحكم الفردي للسلطة التي اضافت عليها الصبغة القدسية ديناً يمارس، وطقوسا تؤدى لدرجة اصبح التمسك بها ضربا من الدين، والمغالاة فيها نوعا من التقوى، والوقوف ضد السلطة حتى لو كانت باطلة ومنحرفة كُفر بما يعتقدون يجب ان يقاوم بالقوة.. فاصبحت عند المسلم قناعة لا يجوز تجاوزها، وبذلك تم تدمير مؤسسة الحكم الشوري فأقاموا على انقاضة الحكم الفردي البديل.
تحولت كل هذه الصلاحيات للفقهاء ومنهم الى مذاهب دينية مختلفة في التوجهات والتطبيق التي كرست الفردية المطلقة والتي كشفت الستار عن جريمة التخلف الدائمة.
وهكذا استطاعوا ان يضعوا الفكر النخبوي على الرف الا بعد ان نعي نظريتهم القاتلة التي نقلت السلطة العليا من قضية ادارة دولة القانون الى قضية عقيدة ارادوا لها ان لا تُخرق ولا تناقش رغم قصر نظرها في التطبيق.. حتى اصبحت وظيفة رئيس الدولة تعالج كعقيدة لا كمنهج سياسي كما في ولي الفقية والمهدي المنتظرورئاسات متحججة بشرعية انتخابات مزورة وشورى قصيرة نظر في التعيين.. من هنا حصل العزل السياسي بين القانون وبين فقهاء الدين.. حتى اصبحت قدسية النص هي الضحية.
وكانت البداية ان وضعوا للاسلام اركانا من افكارهم لا من افكار القرآن الكريم حصروها بخمسة اركان هي الشهادة والصلاة والزكاة والصوم وحج البيت من استطاع اليه سبيلاً.. لكنهم نسوا العمل الصالح في الدين.. ووضعوا لرجل الدين الذي لم يعترف به القرآن الكريم مكانة التنفيذ حتى جسدوا الكارثة على المسلمين والمؤمنين التي اصبحت لا يمكن أزالتها من افكار المؤمنين بها خطئاً الا بمنهج دراسي جديد.
من هنا وجب علينا ان نقول اليوم: ما هو الاسلام ولمن؟ هل هو الذي نسمعه في المساجد يتردد كل يوم على ألسنة خطباء رجال السياسة والدين؟ أم هو شيء اخر لازال مجهولا لدينا؟ من وجهة نظري اقولها نعم، هو الذي لازال مجهولا لدينا.ينادينا فلا نستجيب خوفا من الفقهاء ورجال الدين ومن والاهم من ذوي السلطان الأكبر المتنفذين.. أسلامهم هذا الذي فشل في ان ينقل لنا المبادىء الى تشريعات ويقونن الاسلام ليعطيه لاتباعه الوارثين دستورا واضحاً في التعاليم، وليست مبادىء عامة عائمة يتلاعب بها رجل الدين.ظناً منه بانهم اهلا لوراثته بعد حين حتى حلت بهم النرجسية حين قالوا :"نحن اهل المعرفة والعرفان"، وكأن الحكم في الاسلام جاء عشائريا يتوارثونه هاشم وأمية دون التزام بقانون وتشريع.. تتحكم بهم مرجعياتهم الصامتة عن باطل السلطة ووكلاءها المتنفذين مثالا في التقصير.. مادامت نظرية أحشوا فمه ذهبا حاضرة في التحقيق.
- ان الحقيقة التاريخية تقول لنا، ان كل آية حدية قرآنية نزلت كانت هي بمثابة القانون الذي يجب ان لا يُخرق أمام التنزيل، والا لماذا جاء القرآن حين حددت الآيات.. حقوق الناس وصيانة دمائهم (من قتل نفساً بغير نفس ٍاوفساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعاً) فضربت الآية منذ بداية الدعوة.. في التطبيق."يا لثارات ابي عبيدة فأخترق القانون"، وجاء النص ينادي.. العدل في الحقوق والواجبات نافذ المفعول: (فأذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل ولو كان ذا قربى) ً، ضربت الآية ولم نسمع لها من تطبيق سوى في تراثهم الميت من تخريف.. والوفاء للقسم او اليمين (وأوفوا بعهد الله، ان العهد كان مسئولا( فحنثوا القَسمَ واليمين، والأخلاص للاوطان دون تفريط، فلم يتردد القرآن الكريم من تنبيه الرسول (ص) في حرمة الوطن، ويحذره من التهاون فيه بعد ان تقاعس المجاهدون في موقعة مؤته والرومان يهددون المدينة، والرسول(ص) يمنحهم اختيارا غير ملزم في القتال من عدمه، يقول القرآن الكريم: (عفا الله عنك لِمَ أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين، التوبة 43). والعفو لا يأتي الا بعد التقصير. والاستقامة في القول والعمل (أهدنا الصراط المستقيم) أي الأستقامة في التطبيق، ووحدة الأمة (ان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون، الانبياء 93) فمعنى ذلك ان الامة ينبغي ان تكون واحدة، ولا يجوز لاي جماعة دينية او مذهبية باطلة ان تنصرف عنها وتتصرف بها لاي سبب من الاسباب، ولهذا قال الرسول (لا تجتمع أمتي على ضلالة).، أي ان اجماع الامة وأجتماع كلمتها لابد ان يكون خيراً.. آيات نقرأها ونسمعها من مؤسسة الدين.. ولكن اين التطبيق؟.
ان المسلمين مأسورين الآن لمُسلمات معكوسة تماما عما جاء به الاسلام لهم. نقول ونحن في مطلع القرن الواحد والعشرين، لا زلنا نطرح الاسلام عقيدة وسلوكاً دون ان ندخل في العمق الفلسفي لعقيدة التشريع، حين أنطلقنا من اطروحات ومسلمات نحن صنعناها لانفسنا لا عقيدة الدين، مسلمات بحاجة ماسة الى اعادة النظر فيها كأطروحة القضاء والقدر، والحرية والالتزام، ومشكلة نظرية المعرفة، والديمقراطية وفلسفة التاريخ وأنانية رجال الدين ومن والاهم من المنافقين، ظلت هذه الاطروحات رغم أهميتها في التغييرالمستمر، ظلت تقليدا عندنا لا مقومات اساسية في التغيير لمؤسسيها تغذيها اليوم مساجد الفرقة والتباعد الاجتماعي والتدمير..، فلم يضعوا اسساً قويمة لتطبيقها، كما طبقت من قبل شعوب أخرى وهي بلا دين.. معنى هذا ان ايماننا بالاسلام كان وهما دون قناعة المنطق وعلم أكيد.
ان الاحساس بالمرض تطلُع ُ نحو الشفاء والتخلص منه.. فهل شعرنا نحن المسلمون بقسوة المرض والتخلص منه..؟ فاذا كانت الجبرية التي فرضت علينا تشبه الاغطية الكثيفة فوق المريض تعني الشفاء المؤقت منه لكنهم ما دروا انها تحول المرض الى مرض عضال لا امل في الرجاء منه دون تشخيص.. وهذا ما نحن فيه والدين اليوم من محنة التطبيق.
مرض الفرصة النادرة المتوفرة لدينا للشفاء لكننا نحن ورثا التلقين ولم نعرف الايمان في التطبيق، ولأن من جاء بعد محمد(ص) قد ساروا بخلاف التطبيق، حين نشأ التخاصم بينهم على الدنيا لا الدين . فوَرَثوا لنا على شاكلتهم من قادة الدين.فظل الدين ورجاله من المقربين، وكلاء الله على الناس يحميهم التقديس، فلا قانون يحاسبهم ولا عرف يردعهم، ولا شعب يعترضهم، ماداموا هم الممثلين لرب العالمين، لا بل اتهم من ابتعد عن نظريتهم بالابتعاد عن الايمان بالله وملائكته ورسله ليُحاكم امامهم الان وغدا في يوم الدين. وكأنهم حكام علينا في التقييم لا شريعة الدين.. وهذه مثلبة افسدت رأي الدين..
أشكاليات كثيرة تواجهنا اليوم نحن المسلمون، فلا منهج علمي يُقيدُنا، حين آثرنا العاطفة على العقل في تفسير النص الديني فوقعنا في وهم الدارسين.خذ كل كتاباتنا وبحوثنا لاتجد فيها الا الاحكام المسبقة دون دليل، ومن يعترض فله العزل ان لم يكن السيف الذي لا يرحم الراحمين حتى أعلامنا -رمزية الوطن- كتبت عليها كلمة لا آله الا الله محمدرسول الله وتحتها السيف الذي نُحرت به رقاب المفكرين.. فماذا نعني به غير القوة في التنفيذ؟ .
في حقوق المرأة كتبنا، لكن كل كتاباتنا أنصبت عليها سلبا وكأنها هي العدو اللدود لنا دون تحديد رصين.فقد ظلمناها بأسم الدين، وأكلنا حقها في الارث بأسم الدين، وألغينا مادة الوصيه بها والمنزلة لها من رب العالمين (كتب عليكم اذا حضر أحدكم الموت ان ترك خيراً الوصية، البقرة 180)، ورجمناها بأسم الدين، ولا آية رجمٍ في الدين، والدين من ظلمها براء، واستطيع ان اقول جازماً اننا الى الان لانعرف عن حقوق المرأة في الاسلام الا ما جاءنا من رجال الدين بعد ان وضعنا شروط زواجها في محاكم مختلفة التشريع؟، وهم أجهل منا في حقوقها في اسلام الاجمعين.حتى اصبح الدارس والباحث الاجنبي يرى ان وضعها في الاسلام لها وضعان، وضع في النص القرآني متين، وضع في فقههم الاعمى مهلهل ضعيف كالطين.
بقينا نعتقد ان التشريع ما خلق الا حينما جاء الاسلام الينا، فاهملنا كل ما جاءت به الانسانية من شرائع وقوانين .العراقيون والمصريون واليونان والرومان والهنود القدماء كلهم في نظرنا كانوا من الاميين، وهم كانوا أهل شرائع وقوانين، وهل احد منا يجرأ على نكران شرائع وقوانين العراقيين لحمورابي 284 مادة لم تحويها دساتير المسلمين، وكانت تحت التطبيق الفعلي للمواطنين.. ناهيك عن القدماء من اليونان والرومانيين، ما زالت قوانينهم تُدرس الى اليوم كمقررات اساسية في جامعات العالم المتقدم دون تحديد، بغض النظر عن التطبيق.. فأين نحن منها اليوم؟
من هذا المنطق أين قوانين دولة الاسلام التي نتحدث بها اليوم امام العالمين، ونكذب بها على طلابنا من تخصصات التاريخ؟وهل كان في الاسلام دولة ام وَهمُ؟ فأذا كانت دولة فأين دستورها وقوانينها التي جاءت بها للتطبيق.. ولماذا اعتدت على اموال ونساء البلدان المفتوحة ظلما منهم دون قانون.. كما هم داعش اليوم .زفهل اختلف المجرم ابو بكر البغدادي عن الحجاج.. ,خالد أبن الوليد؟
الخطأ هو ان الاسلام ظل أسما بلا ايمان وتعريف؟ لم يتطور لصالح الانسان ولم يُبنى بقانون، فظل نصوصا بلا تطبيق، فضمن هذا المنطق لم يتم تعريف الاسلام الى اليوم. ومالم نعترف بأفكار وطروحات الاخرين سنبقى في أماكننا نجتر الذكريات دون ان نصل الى نتيجة علمية تضعنا على الطريق الصحيح، علماً ان الاسلام أخذ من شرائع الاخرين الكثير.ألم تكن نصوص العين بالعين والسن بالسن نصوصا بابلية نقلت الى القرآن الكريم.. ولا ندري من جاء بها؟، فأذا كان القرآن يشير الى البابليين فلماذاَ نحن نحجم اليوم عن التفاعل مع الاخرين .
، أما يجب علينا نحن العرب والمسلمين ان نمتلك ميزانا مرنا نستطيع ان نتفاعل به مع الاخرين، دون خوف و تردد ان كنا من العقائديين المتحررين؟ هل سنبقى نتبع رجال دين وفتاوى وقوانين للشريعة الاسلامية بعضها تأتي من فراغ رهيب الا لانها تمثل أحاديث دين جاءت من الناقلين المفبركين من أمثال مسلم والبخاري والمجلسي وغيرهم كثير.. .
ما معنى الجهاد الكفائي وجهاد فرض العين وقتل المرتدين كلها خزعبلات أوجدتها مؤسسة الدين بعد ان أستبعدت "لكم دينكم ولي دين".. أوقاف متعددة وقوانين زواج مختلفة ووقوانين ارث متعارضة رغم وجود النص فيها مبين.. أسم بلا مسمى ولا تطبيق؟، لذا فأن كل دول الاسلام اليوم ورؤسائهم في ترف وعزكبير، وشعوبهم كما تراها اليوم في تخلف وتقهقر وفقر وظلم وجوع وتشرد مهين.. على ابواب السفارات تستجدي الاخرين، وهم بلباسهم المزركش وعيشهم الرغيد واولادهم المنعمون وكأنهم قياصرة الرومان والشاه الكبير؟أهذا هو اسلام المساواة كما يريدوننا ان نُدين؟ لا لن ندين لهم بشرعية حكم الطين.
ففي المعرفة الانسانية لا نظرية عندنا واضحة أكيدة مصاغة صياغة حديثة معاصرة مستنسخة من القرآن الكريم، ولا دستور واضح مكتوب، حتى أصبحنا الى التفكك الفكري، والتعصب المذهبي البغيض صاغرين، أوقعونا في مآزق فكري في مواجهة الفكر المعاصر والفلسفة الحديثة، فظلت مواقفنا الفكرية متشنجة ساذجة ضيقة الافق، ليس لدينا من خطٍ للدفاع الا ان نرمي الاخرين بالزندقة والهرطقة والجبرية والقدرية والكفر اللعين.. ولا شيء غير هذا الهراء ونحن والفتوحات وداعش سواءُ بسواء في التطبيق..، فلم يبقَ لنا الا التكفير والجنة والنار في مقصد بعيد، وما دروا ان امماً اليوم حققت الجنة على الارض لشعوبها قبل حساب يوم الدين، كما هم الآوربيون واليابان والصين.. ونحن لازلنا نعتقد ان الجنة لناد دون الاخرين، حواري وولدان مخلدون وعسل مصفى وجنس عاري ولبن وخمرة لذة للشاربين، وكأننا لم نشبع من الدنيا جنساً ولهواً فعلينا حجز الاخرة لنا ايضاً دون العالمين جنة وولدان مخلدين وقوارير؟ لكننا شطارا في قتل العلماء والمفكرين وقتل وسجن المغيبين بلا ذنب جنوه سوى انهم من مذهب اخر كافر كما يعتقد السلاطين.. نفوس مريضة كأنها ما خلقت من نظام ألهي رصين ... لا تعرف الا النطع والسيف لا قوانين الادميين. وحاشا ان يكون الاسلام منهم، وهو براء من الحاكمين المخالفين.. حتى قسمنا المجتمع الى نصفين متدين ومُلحد، مُلتحي وأجرد، مُحجبة وحاسرة وهم كلهم في الخطأ غارقين.. فوقعنا في خطأ وخطل التقدير.والقرآن الكريم يقول لنا( لكم دينكم ولي دين).
شعوب بلا دين عندهم الصدق والصراحة والحرية وحماية المقهورين قانون بلا حدود، وعندنا الكذب والافتراء وتكميم الافواه والعبودية والظلم والتفرقة وقتل المخالفين، أهذا هو أسلام المسلمين؟ كذبوا والله فما كان محمدا(ص) منهم لكنه كان من المحررين المخلصين الصادقين؟ انظر العراقيون يتقاتلون مع بعضهم، واحزاب الله تقتل العلماء والمفكرين.. والحوتيون يتقاتلون مع السعوديين ولكن على ماذا لاحد يدري الا الراسخون في علم من المنتفعين.. كونوا مع قانون الله وتخلصوا من الأفاكين.
نعم غاب عنا المنهج الفكري الرصين، غابت العدالة والمساواة والحرية والصدق الاكيد، غابت العقيدة والايمان بها صادقين، فلا شيء يشغلنا اليوم الا عداوة علي(ع) لعمر(رض)، وكسر ضلع الزهراء وحرق بيتها، وكأن زوجها عليا ما كان الا جبانا لا يستطيع ان يدافع عن عرضه امام المعتدين.. هذا الذي هم يسمونه رافع جدار خيبر بيده دون الأخرين تناقض مقرف.. كفاية تهريج.. ونظرية بان بياض ابطة في غدير خم في التفضيل وكأن نظرية الشورى جاءت من غير القرآن الكريم..، ومرجعيات دينية خانت الوطن وقبضت الثمن من المحتلين والمليارات من موارد العتبات تحول بأسمائهم والشعب غارق في الفقر والعوز.. نعم هذا هو الدين والقانون الذي به يؤمنون.. يريدوننا ان نبقى في الماضي كما قال الطبري وابن الاثير.. وكلها من خزعبلات المؤرخين..
ليس امامنا من حل الا التغيير، الا بثورة لوثرية كالفينية تبعد عنا المتفيهقون ونخترق الفقه الاسلامي الباطل الموروث، والفقهاء الذين شاخ علمهم اليوم، ولكن علينا اعطاء البديل لنطرح منهجا جديدا في الفقه الاسلامي المقترح الجديد، فهل سيمكنوننا من هذا المقترح لنغير القديم الى جديد، لنبني فقهاً جديدا مغايرا تماما لفقههم الميت القديم، ولنصوغ نظرية جديدة في المعرفة والحقوق الانسانية منطلقة من الفهم الصحيح، لامن تفسير الترادف اللغوي المرفوض الذي سيبقينا من الخاطئين، و من نظرياتهم المتهرئة التي لا يعترف بها القرآن ولا يخولها حق الفتوى على الناس، ساعتها ستموت الفتوى الباطلة التي ولدت لدينا قراءة المنهج غير الصحيح.. كما ماتت عند الشعوب الاخرى ليحل محلها القانون.الا من حقنا ان نطالب اليوم نحن بتأسيس دولة القانون.. وليس قرآنا يقرأ في الفواتح ونلهوا به قراءة وتجويد.
وختاما نقول.. ايها المسلمون.. اصحوا على زمانكم اللعين.. مادامت طبيعة نظام الامة قد تغيرت، فقد استتبع ان تغيرت كل التفاصيل.. فالخليفة اصبح ملكاً.. والامة اصبحت رعية للحاكم اللعين.. والمجاهدون في سبيل الله اصبحوا مرتزقة لقتل المخلصين.. والاموال اصبحت جبايات للحاكمين.
هذا يصور لنا بأختصارالاسباب الاسياسية في تدهورنا وموتنا القريب.. وهو بالضبط ما حصل في دولة الراشدين والامويين والعباسيين ومن جاء من بعدهم من الحاكمين.. فهل منهم نريد العودة للصحيح.. مستحيل ففاقد الشيء لا يعطيه.. . ابدا للقادمين.
د. عبد الجبار العبيدي
العلاقات المغربية الفلسطينية: مقاربة سسيوتاريخية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. ابراهيم أبراش
تطبيع العلاقات الرسمية بين المغرب والكيان الصهيوني والذي جاء في سياق موجة جديدة من التطبيع العربي يجب أن لا ينسينا صفحات مشرقة ومشرفة من علاقة المغرب بفلسطين واستمرار المواقف المبدئية والثابتة للمغاربة تجاه الشعب الفلسطيني، وفي هذا السياق نظمت (وكالة بيت مال القدس) بتعاون مع مركز (النهار المغربية) للدراسات الاستراتيجية والإعلام يوم الخميس الماضي الموافق الرابع من فبراير وعبر تقنية الزوم ندوة تحت عنوان "الحضور المغربي في القدس وفلسطين: الرموز والدلالات".
شارك في الندوة باحثون مغاربة وفلسطينيون، وكنت أحدهم، تحدثوا عن تاريخية العلاقة بين فلسطين والمغرب والحضور المغربي في فلسطين وخصوصاً في القدس، وفي كلمته أشاد محمد سالم الشرقاوي المدير المكلف بتسيير وكالة بيت مال القدس الشريف: " بالنموذج المغربي الحاضر بالأراضي المقدسة، مشيراً إلى الأمل المعلق على الأمتين العربية والإسلامية لإعادة قضية فلسطين الى صدارة سلم الأولويات الرسمية والشعبية، والمساهمة في دعم صمود الشعب الفلسطيني ومؤسساته الشرعية، لمواجهة المتغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم على المستوى السياسي، والاقتصادي والاجتماعي والوبائي والمناخي".
وقبل التطرق لمضمون مداخلتي أعترف بأن بعض التفاصيل عن الحضور التاريخي للمغرب في فلسطين كانت غير واضحة عندي وقد استفدت كثيراً من المداخلات بهذا الشأن ومما قرأته قُبيل مشاركتي في الندوة، مثلاً أن الحضور المغربي في فلسطين والقدس يعود إلى ما قبل الحروب الصليبية حيث دأب المغاربة على زيارة بيت المقدس منذ ما قبل احتلال الصليبيين لمدينة القدس سنة 493 هـ/1099م، فالحج بالنسبة لهم لا يكون مكتملاً إلا بالتعريج على القدس والصلاة بالمسجد الأقصى، كما ساهم المغاربة في الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين بطلب من صلاح الدين الأيوبي وكان لهم دورٌ بارزٌ في فتح بيت المقدس. آنذاك كان مفهوم المغاربة يشمل بالإضافة إلى المغرب الأقصى كل من الجزائر وموريطانيا وليبيا وتونس حيث كانت حدود السلطان أو الخليفة المغربي يعقوب المنصور الموحدي الذي استنجد به صلاح الدين تمتد إلى حدود السودان (مالي حالياً).
وتذكر الوثائق التاريخية أنه بعد انتصار المسلمين في معركتي "حطين"، و"فتح بيت المقدس" أسكن صلاح الدين الأيوبي أعداداً من المغاربة في بيت المقدس كما يُنسب له القول: " أسكنت هناك من يثبتون في البر ويبطشون في البحر، وخير من يؤتمنون على المسجد الأقصى وعلى هذه المدينة" ، وفي إبان ولاية الملك الأفضل نور الدين أبو الحسن علي (النجل الأكبر للناصر صلاح الدين الأيوبي) على دمشق أوقف حارة المغاربة على مصالح طائفة المغاربة المقيمين في القدس وكانت القدس تابعةً له وذلك بهدف تشجيع أهل المغرب العربي على القدوم إلى القدس والإقامة فيها، ومساعدة سكانها المغاربة الذين فضّلوا الاستقرار ومجاورة المسجد الأقصى المبارك، ومنذ ذلك التاريخ أخذ هذا المكان من مدينة القدس يُعرف باسم "حارة المغاربة".
أيضاً كان المغاربة يأتون إلى فلسطين لطلب العلم حيث كانت فلسطين قبل الاحتلال الصهيوني مزدهرة ومتميزة في مجال التجارة والتعليم وخصوصاً مدارس مدينة نابلس، وإلى هذه المدينة كان يتوافد الطلاب المغاربة لطلب العلم وكان ممن تلقوا تعليمهم في نابلس المهدي بنونة مستشار الملك الحسن الثاني ومؤسس الوكالة المغربية للأنباء.
بعد حرب 1948 هاجر كثيرون من المغاربة إلى سوريا ولبنان وبعد حرب 1967 دمر الصهاينة حارة المغاربة بكاملها وحولوها إلى ساحة حملت اسم "ساحة المبكى" . وقد اندمج من تبقى من المغاربة بالشعب الفلسطيني وشاركوه في كل معاركه ضد الانتداب البريطاني بداية ثم ضد الاحتلال الصهيوني وكان منهم العديد من الشهداء والأسرى بالإضافة إلى بروز شخصيات لعبت دوراً بارزاً في مجال السياسة والمال والأعمال.
في مداخلتي في هذه الندوة وكان عنوانها "العلاقات المغربية الفلسطينية: مقاربة سسيوتاريخية " تطرقت للنقاط التالية:
1- لم تتوقف العلاقات بين الشعبين عند فترة زمانية أو مكانية محددة بل هي علاقة متواصلة لها أبعاد روحانية وسياسية وثقافية حيث الحضور المغربي كان حاضراً في كل محطات النضال الفلسطيني قبل النكبة وبعدها، فكان وما زال المغاربة يعتبرون القضية الفلسطينية من انشغالاتهم الوطنية الرئيسة. وفي المغرب تأسست عام 1968 الجمعية المغربية لمساندة الشعب الفلسطيني وتواصل وجودها ونشاطها حتى اليوم وهي تتشكل من كل القوى الوطنية والإسلامية المغربية، وفي المغرب خرجت مسيرات مليونية دعماً للشعب الفلسطيني، كما شارك آلاف المتطوعين المغاربة في القتال مع الثورة الفلسطينية واستشهد العديد منهم، وفي حرب أكتوبر 1973 أرسل ملك المغرب الحسن الثاني جيشا برئاسة الجنرال الصفريوي للقتال على الجبهة السورية وقد أبلى الجيش المغربي بلاءً حسناً بشهادة السوريين أنفسهم كما استشهد عدداً منهم، وفي المغرب كان مؤتمر القمة العربية 1974 الذي اعترف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، وكان المغرب وما زال يحتضن آلاف الطلبة الذين يدرسون بالمجان ويحصلون على منح دراسية مثلهم مثل الطلبة المغاربة، والمقيمون الفلسطينيون في المغرب يتمتعون بنفس الرعاية التي يتمتع بها المغاربة، كما أرسل المغرب مستشفى طبي عسكري أكثر من مرة إلى قطاع غزة لمساندة القطاع الطبي الفلسطيني لمعالجة الإصابات الناتجة عن موجات العدوان الصهيوني، هذا بالإضافة إلى استمرار المغرب ومن خلال وكالة بيت مال القدس في تقديم الدعم المالي من خلال مشاريع عديدة في مدينة القدس وفي مناطق أخرى من السلطة الفلسطينية .
2- إن كان الدعم المادي من المغرب لفلسطين أقل مما تقدمه دول عربية أخرى إلا أنه أكثر أهمية وأكثر مصداقية لأنه يتم بصمت ودون ضجيج وليس من خلفه أجندة سياسية كما هو الحال في المال السياسي الذي تقدمه دول عربية وإقليمية.
3- هناك فرق شاسع ما بين حال الفلسطينيين من أصول مغربية والإسرائيليين من أصول مغربية، الأولون جاؤوا إلى فلسطين مجاهدين ومحررين لها من الاحتلال الصليبي وهم يفتخرون بأصولهم المغربية كما يفتخرون بفلسطينيتهم، أما الإسرائيليون من أصول مغربية وعربية فقد جاؤوا غازين مستعمرين وتحول أغلبهم إلى صهاينة متطرفين يكرهون كل ما له صلة بالمسلمين والعرب كما أنهم الأشد عداوة للفلسطينيين وعليهم تعتمد الدولة الصهيونية في حروبها ومشاريعها الاستيطانية.
وأخيراً نتمنى أن تكون هذه الندوة بداية لعلاقات ثقافية متواصلة مع المثقفين ومؤسسات المجتمع المدني في فلسطين لدورها في تبيان الوجه المشرق في العلاقة بين الشعبين بعيداً عن متاهات السياسة وحساباتها غير المريحة، أيضاً أن تكون مثل هكذا مؤتمرات وندوات مع دول عربية أخرى حتى يتم تصويب مسار العلاقات الفلسطينية العربية التي تضررت كثيراً في الفترة الأخيرة .
إبراهيم أبراش
الرئيس بايدن ومآلات الحرب اليمنية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ناجي احمد الصديق
لم يكن فى حسبان أطراف الصراع المسلح فى اليمن ان تكون الحرب التي نشيت بينهم منذ ست سنوات ستأخذ وقتا كالذى قضته الآن، بل ان هنالك من قال ان هجوما خاطفا لا يتعد الأيام سوف يعيد الشرعية اليمنية وينهى حلم الحوثييون فى استيلائهم على مقاليد السلطة فى اليمن، تماما كما لم يكن فى خاطر اى منهم ان ذلك الهجوم الخاطف سيحيل حياة كل الشعب اليمنى الى كابوس مرعب صنفته الأمم المتحدة كأكبر كارثة إنسانية منذ الحرب العالية الثانية
كان فى مخطط التحالف – اذن- هجوما خاطفا يزيل الحوثيين من الوجود وكان فى مخطط الحوثيون زعزعة الحكم الوهابي فى المملكة العربية السعودية وما ان بدأت الحرب حتى ذهب كلا الطرفين الى الاستقواء بالقوى الإقليمية والدولية واندح القتال بكل إفرازاته السالبة الى معظم التراب اليمنى وظهرت المطامع وتتنمر المجلس الانتقالي الجنوبي وتدخلت الأمارات وزاد ترامب الضغث بتسليحه لجيوش التحالف الى ابالة حتى وصل اليمن الى تلك النتيجة الصادمة.
ما من احد من أطراف الحرب المباشرين او من يدعموهم وراء ستار ارهق نفسه بالتفكير فى مصير الشعب اليمنى المنكوب فى ظل تلك الحرب الضروس، فالكل كان غارقا فى دوامة الصراع الذى يغذيه الخوف من جهة والتفكير فى سحق الآخر من جهة أخرى وكان هذا واضحا من خلال تمثيليات التحاور بين الفينة والأخرى، كل هذا يحدث واليمن السعيد يسير من سيئ الى أسوأ حتى وصل الامر الى ان يتحول الشعب اليمنى الى حطام وتتحول دولة اليمن الى سراب وأطلقت المنظمات الانسانية صرخة استغاثتها المدوية فى أسماع الدنيا وفى مقدمتها منظمة الأمم المتحدة وليس من مغيث
تبدأ الحرب بإرادة واحدة ولكنها لاتنتهى ابدا الا بمجموعة إرادات متوازية لا تلتقي إلا فى اللانهاية وهذا هو حال الحرب اليمنية فالحوثيون الذين استولوا على صنعاء بإرادتهم لن يتمكنوا من وقف الحرب التى شنتها عليم السعودية بتلك الإرادة والتحالف الدولي الذي أعلن الحرب على الحوثيون باردته لا يستطيع وقف الحرب عليهم بنفس تلك الإرادة وحرب اليمن تعددت أطرافها وتشابكت أهدافها وتنوعت مفاهيمها واصبح على العسير على الحوثيين وعلى التحالف الذى تقوده السعودية وعلى الحكومة اليمنية الشرعية وقف تلك الحرب لان وقفها يعنى انتصار وهزيمة وكل منهم يريد الانتصار ويخشى الهزيمة
بالنظر الى الحكومة السعودية والتي يدعمها التحالف الذى تقوده السعودية نجد انه وخلال الخمس سنوات الأولى كانت مرتبكة فى إدارة العملية السياسية داخل اليمن فى المناطق الواقعة تحت سيطرتها، فقد توالت على ادارة تلك المناطق عددا من الحكومات فشلت كلها فى قيادة اليمن المجزأ، وذلك ان للقوى السياسية الداخلية التى تدعمها أجندات خاصة تناور بها فى حل او افتعال الاذمات الداخلية ومن ابرز تلك القوى المجلس الانتقالي الجنوبي والذى خلق أذمة داخلية ما تزال تداعياتها ما ثلة حتى الآن بالرغم من كل مساعي الصلح التى قامت بها الرياض.
اما الحوثيون فإنهم يقولون ان التحالف بقيادة السعودية قد شن عدوانا سافر على اليمن وانهم بصفتهم مواطنيين يمنيين فانهم يدافعون عن أنفسهم وبلدهم وان من دواعى ذلك الدفاع عن النفس ضرب العمق السعودي بكل أنواع الأسلحة
الكل يعلم ان الحرب فى اليمن هى حرب بالوكالة بين قوتين متناحرتين متقاطعتى المصالح والأهداف وان محور هذا النزاع ومدار الأوحد هو حماية دولة إسرائيل ودول الخليج العربى من جهة وضرب القوة التسليحية الإيرانية من جهة اخرى، فحلفاء الولايات المتحدة من دول الخليج ومعهم اسرائيل يقولون ان ايران تمثل تهديدا وجوديا لهم وإيران تعتبر ان الولايات المتحدة واسرائيل هم اس البلاء والبلايا فى العالم وانه يجب محو إسرائيل من الوجود كما يجب تغيير كل الأنظمة الحاكمة فى دول الخليج لفسادها من جهة ودعمها لاسرائيل التى تحتل الاراضى الفلسطينية من جهة اخرى، والكل يعلم ان كل دول العالم قد أخذت موقعها من الاصطفافات الإقليمية والدولية والمحلية فى هذا الصراع الكبير ... فما هى مآلات هذه الحرب بحسب ما يتراءى من أوضاع محلية واقليمية ودولية؟ ووفق ما تم افرازه من ظروف داخلية سياسية كانت ام اجتماعية ام اقتصادية؟
السيناريوهات المحتملة لمآل الحرب اليمنية هى التسوية بين الإطراف بحسب نجاح الجهود التى تبذلها الوساطة التى تنشط فى هذا المجال، او الفوضى العارمة التي يمكن ان تذهب بالدولة اليمنية الى المجهول، وهذه السيناريوهات ستفرضها مجريات الأحداث على الأرض من ناحية ورغبة الأطرف الإقليمية التى لها علاقة بالصراع من جهة أخرى وإرادة المجتمع الدولي ممثلة فى الأمم المتحدة والاتحاد الاروبى والجامعة العربية من ناحية ثالثة ومهما يكن من امر فان تسوية النزاع اليمنى السعودي والسعودى الايرانى يبدو امر حتميا فى حال أرادت هذه الدول الإبقاء على بقية الشعب اليمنى على قيد الحياة، ولهذا فإننا نظن ان الرئيس الامريكى جو بايدن قد اعلن صراحة سياسته الجديدة تجاه الاذمة اليمنية والتى تمثلت فى محورين لا ثالث لهما اولهما هة وقف الحرب فورا وثانيهما هو دعم المملكة العربية السعودية فى المحافظة على سيادتها وأمنها القومي، وإذا كان دعم السعودية أمرا محسوما بحسب العلاقات الإستراتيجية بين أمريكا والسعودية فان وقف الحرب اليمنية يمثل انعطافا حادا للسياسات الخارجية تجاه الصراع فى اليمن خاصة تلك التي سار على نهجها دونالد ترامب منذ توليه السلطة حتى اللحظة الاخيرة التى غادرها فيها .
يرى الكثير من المحللين ان إعلان بايدن نيته فى وقف الحرب يمثل خطا سياسيا للحزب الديمقراطي من ناحية عامة كما انه يمثل للرئيس انهاء لأمر مقلقا للإدارة الجديدة بغية التفرغ للقضايا الداخلية الملحة وانها لم تكن تعبر عن انزعاج السلطات من الوضع الاقتصادي المزرى الذى خلفته تلك الحرب بالرغم من ان المسؤلين الامريكيين قد عبرو عن انزعاجهم من الاذمة الإنسانية الكبيرة فى اليمن وانها ربما تكون اسوأ كارثة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية .
مهما يكن من امر فان إعلان الإدارة الامركية عن نيتها فى وقف الحرب هو ظرف استثنائى غير متوقع ربما يكون له اثره الواضح على مجريات ذلك الصراع خاصة بعد ترحيب المملكة العربية السعودية بهذا الاعلان، ويبقى التحدي الكبير امام المجتمع الدولية رسم سيناريو ايقاف الحرب بما يتوافق مع مطالب الحوثيين وهى السيطرة على الحكم فى اليمن ومطالب الشرعية بطرد الحوثيين من صنعاء ومطالب المملكة العربية السعودية بمنع إيران من التدخل فى شئونها الداخلية
مآل الحرب اليمنية فى نظر الرئيس بايدن هى التسوية فهو يريد الحوار مع إيران وفق شروطه ووقف التسليح السعودي وإجبار الإطراف إلى الجلوس إلى مائدة المفاوضات لان الحرب فى نظره قد خلفت مأساة إنسانية ربما تكون سبة فى حكمه ولا احد يدرى ان كان ذلك التوجه دفاعا عن حقوق الإنسان اليمنى ام انهاءا لكابوس طال أمده ام ان دواعي الحنين الى قيادة العالم قد داعب أحلامه
ناجى احمد الصديق الهادى - المحامى - السودان
الحداثة واستدعاء رموز التصوف والعرفان
- التفاصيل
- كتب بواسطة: سمية ابراهيم الجنابي
من السمات الجمالية في الدين وأسراره، -ولا سيَّما الإسلاميَّ- هو تنوعه المعرفي، وتعدد أبعاد الرؤية فيه. فتطويق الدين في بعد معين مهما كانت قيمته، سيشطب مخزونات جمالية، لها القدرة على استيعاب المفارقات والتحديات التي يعيشها الإنسان. فمن زاوية فلسفية إلى أخرى كلامية، وثالثة بيانية، ورابعة قرآنية، وخامسة تاريخية، وأخيرًا عرفانية روحية. فالعقل الذي يتشكل على أساس ضفيرة من المعارف والمناهج، قدرته على فهم خصوصيات الفكر الديني ومنطلقاته، ستكون أعلى من غيره، بل وتفكيكه للبناءات المعرفية أدق. وهذه احد القضايا التي شغلت تفكير العديد من المفكرين والباحثين في قضية تجديد الفكر الإسلامي، فقد دعوا إلى فتح دائرة تواصل المعارف والعلوم على جدلية التخادم، وضرورة إزالة أغشية التزمت والقراءة الأحادية، أو العلم الأحادي.
في توصيف الدين يتم التركيز غالبًا على مفهوم النظام والنسق أي على البعد الجمعي للدين؛ فيهتم الفلاسفة ورجال اللاهوت بمسائل "العقائد" و"الوجود" بوصفها انساقًا معرفيةً أو بوصفها قضايا إيمانية، ويكون تركيز " الفقهاء" بصفة خاصة على الدين بوصفه نسقًا من الأوامر والنواهي، وعلى أساس طاعة "الأوامر" واجتناب " النواهي" أما علماء الاجتماع والانثربولوجي فيهتمون بالدين بوصفه ظاهرة اجتماعية إنسانية. أما الدين بوصفه تجربة "روحية" ذاتية فهو التصور الذي يمثل "بؤرة " اهتمام كل الروحانيين في كل الأديان والثقافات." (1)
ومن الظواهر الملفتة- معرفيًا- في العقود الأخيرة هو استدعاء الدراسات المعاصرة المتأثرة بالحداثة لرموز العرفان والتصوف كمحي الدين بن عربي، أو جلال الدين الرومي أو ابن الفارض وسحبهم من دائرة التهميش إلى فضاء المتن أو المركز. فهذا الدكتور نصر حامد أبو زيد في إطار مشروعه التأويلي يستحضر ابن عربي في سياقه الإسلاميّ، ليقدمه بوصفه بانورما الفكر الإسلامي، وهمزة الوصل بين التراث الإسلامي والتراث العالمي. وعندما نفتش عن بواعث هذا الاستحضار الأندلسي وماذا يمكن أن يقدمه لنا ونحن في القرن الواحد والعشرين نجده يعلل ذلك بأمور،(2) وهي:
أولًا: ان استدعاء ابن عربي يمكن أن يمثّل مصدرًا للإلهام في عالمنا الذي تتراكم مشكلات الحياة فيه. فالتجربة الروحية هي مصدر التجربة الفنية والأدبية، وهي الإطار الجامع للدين والإبداع. هذه أهمية استحضار ابن عربي في السياق العام. أما استحضاره في السياق الإسلامي، فمهمّ، وذلك بسبب سيطرة بعض الاتجاهات والأفكار والرؤى السلفية على مجمل الخطاب الإسلامي في السنوات الأخيرة. كما أن فكر ابن عربي يقدّم للقارئ غير المسلم صورة أخرى لروحانية الإسلام، وإسهاماته في التراث الإنساني.
ثانيًا: ترجع أهمية فكر ابن عربي إلى ما يمثله من نضج في الفكر الإسلامي في مجالاته العديدة: الفقه، اللاهوت، الفلسفة، التفسير، الحديث، علوم اللغة.. من هذه الزاوية تكشف دراسته في السياق الإسلامي عن "بانوروما" الفكر الإسلاميَّ في القرنين السادس والسابع الهجريين.
وهكذا نجد رواد "التنوير" الإيراني كعبد الكريم سروش، والشيخ محمد مجتهد الشبستري، ومصطفى ملكيان، إذ تلمح الاستخدامات الأدبية والجمالية العرفانية لجلال الدين الرومي واضحة بارزة في دراساتهم حول الوحي وحقيقته أو التعددية الدينية أو لغة الدين وهويّة الفهم وغيرها.
فهذا الدكتور عبد الكريم سروش يقدم مجمل قراءاته ومطالعاته وبيانه على لمسات عرفانية، غزيرة ومكثفة، ومنها نظريته في تفسير ظاهرة الوحي وحقيقة القرآن، والتي أسندها في إيضاح المعاني وتفتيحها على مقولات جلال الدين الرومي في المثنوي. فتجده وهو يعالج موضوع الوحي بين الفعل والانفعال يصرح بأن النبي كان له دور محوريّ في خلق القرآن. فالنبي يحس- مثل الشاعر تمامًا- أن قوة خارجية تستحوذ عليه، ولكنه في الواقع يقوم بكل شيء، وان هذا الإلهام ينبثق من (نفس) النبي ونفس كل شخص إلهية، إِلَّا أن النبي نفسه قد اتحدت مع الله، وهنا يأتي استحضار جلال الدين الرومي لتكشيف هذا المعنى الموهم للتناقضات، فيقول في أبيات شعرية مفادها: " إن اتحاد النبي مع الله مثل صبّ مياه المحيط في الدوق." ولتدليل على دور النبي في القرآن، وان لشخصيته وحالاته المتغيَّرة، وأوقاته السعيدة والعصيبة منعكسة في القرآن، يورد مقولة المولوي التي يقول فيها: " القرآن مرآة ذهن النبي" بل ويذهب إلى أبعد من ذلك، مستشهدًا بمقولة المولوي التي يرى فيها: " إن تعدد الزوجات إنما أجيز في القرآن، لأن النبي كان يحبّ النساء، ولهذا السبب أباح لأتباعه الزواج من أربعة نساء."
وعندما أشكل الشيخ جعفر سبحاني عليه في كثرة استحضار جلال الدين الرومي على حساب النص القرآني، ردّ سروش قائلًا: " من دواعي سروري أن أجدكم متفقين معي في أن الاستشهاد بأشعار مولوي استشهاد بتجارب وحكم له باع طويل وراسخ في العرفان الإسلامي، وأن الاستشهاد بشعره لا يعني الاستعانة بالشعر بما هو شعر، هذا مع أن المولوي في ديوانه المثنوي ناظم، وليس شاعرًا، ورجائي من الشيخ السبحاني أن يقرأ هذا السفر الشريف بدقة، وأن لا يكتفي ببعض الكلمات المشهورة عنه، فيكون انتقائيًا في أحكامه."(3)
أما الشيخ مجتهد الشبستري، وهو يعالج دور الدين في حياة الإنسان وتوقّعات الإنسان منه، ولا سيَّما في كتابه (الفهم البشري للدين) نجده يبلور قناعاته على رفض فكرة شمول الدين لتمام الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ليطرح في قبالها تاريخيّة الدين، بمعنى أن النظم والأحكام والتشريعات الإسلاميَّة، لم تكن سوى محاولة عقلانيّة من النبيّ والنصّ، لتنظيم حركة الحياة في ذلك العصر. ومن ثَّم، فكل هذا الفقه تاريخي. وان التغذية الدينية تقتصر في الأبعاد الروحية المعنوية القيمية، ولهذا تجد في كتابات شبستري التصريح بخلود الدين المعنوي، وفي الوقت نفسه إنكار مفهوم خلود الشريعة بالمعنى السائد لها.
لا جَرَم أن دراسة هذا الموضوع واستشهاداته الأدبية ليس بالأمر الهين، فمناطق الاشتغال فيها متعددة ومتداخلة، إِلَّا أننا سنضع ومضة نقارب من خلالها ما تلمسناه من استحضار عرفاني، أو تطويق لدائرة الدين في البعد المعنوي. فمن يقرأ مجمل الخطاب المتأثر بالحداثة، وما بعدها، يجده قد نظر إلى نجاحات التجربة الغربية، ودقق في عناصر النجاح ومقوماته، ومناطق الضعف فيها، وعندما أدرك أن هذا النجاح يعوزه البعد المعنوي الروحي، منح هذا العنصر للدين وركز عليه، بوصفه مكون الافتقار في التجربة الغربية، أو تجربة الإنسان المعاصر. نعم هذه الرؤية لا تعد نهائية أو حاسمة لمجمل خطابات الحداثة، إِلَّا انّه من المحتمل رجحانها عند محاولة فهم هذا الاستحضار الغزير في التغذية الدينيّة. وتستطيع تلمس هذا المعنى في عبارات نصر حامد أبو زيد، إذ يقول: " لقد حققت الحداثة إنجازاتها في شكل تقدم تكنولوجي مذهل، وصل إلى تحويل العالم الفسيح الممتد إلى فضاء مترابط الأجزاء، ولكن بفضل ذا التقدم نفسه وما حققه من وحدة العالم أمكن للتناقضات أن تنكشف وتظهر، بين الأغنياء والفقراء من جهة، وبين المستغِلين والمستَغَلين من جهة أخرى."(4)
وكما لا يخفى ما للخطاب السلفي ومدّعياته في امتلاك الحقيقة الدينيّة دون سواه من أثر في هذا الاستحضار، مما ولد حالة من الشوق للتفتيش والبحث عن همزة للوصل بين التراث والواقع، من دون اصطدام. وهذا المعنى متوفر في الخزين الروحي دون غيره من منظومات الدين.
بقي أن نتساءل: هل يمكن للدين اليوم أن يساعد على رتق الفتق وردم الهوّة وتَفتيت الاغتراب دون أن يضحّي بالفقه والقانون الشرعيّ؟ يرى البعض إمكانية ذلك من خلال الآتي(5):
أولًا: إعادة موضعة الشريعة ضمن منظومة الدين، وقراءتها بطريقة تلقي عن النص لباس التاريخ لاكتشاف روح المعنى اللاتاريخي فيه. ووقف تضخم الفقه وابتلاعه لسائر الجوانب الدينيّة الأخرى.
ثانيًا: إحياء معنويّة) الحبّ والتسليم (ويعنى بها صناعة التدين القائم على عشق الله تعالى، وفي الوقت عينه التلسليم له، ولكن هذا التسليم هنا ليس استلابًا في وعي المؤمن العارف، بل هو إحساس الفرد بتكامله الحقيقي في ظلّ الاندماج مع الوحدة المطلقة لله تعالى.. وعودة الكثرة إلى هذه الوحدة، فهذا الاندماج يحقق الرضا والطمأنينة بالقضاء التكويني والتشريعي لله سبحانه، وهو اندماج مستبطن في مفهوم (الإسلام) الذي ركز عليه القرآن الكريم.
الباحثة: سُميَّة إبراهيم الجنابيَّ
ماجستير/ كلية العلوم الإسلاميّة- جامعة بابل.
.................................
(1) ينظر: نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلم ابن عربي، الناشر: مؤمنون بلا حدود- بيروت، الطبعة الأولى- 2017م 24.
(2) ينظر: نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلم ابن عربي، 26- 29.
(3) د. عبد الكريم سروش وآخرون، الوحي والظاهرة القرآنية، الناشر: دار الانتشار العربي- بيروت، الطبعة الأولى،85- 86.
(4) هكذا تكلم ابن عربي، 17.
(5) الشيخ حيدر حب الله، شمول الشريعة، الناشر: دار روافد- بيروت، الطبعة الأولى – 2018م،679.
البناء النفسي والفكري للإنسان كيف يتكون؟
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. أسعد شريف الامارة
هي رحلة البحث في النفس عن البناء وتكوين اسس الشخصية التي نستدل على مكوناتها من خلال ما يصدر عنها من سلوك، حيث قال علماء النفس أن السلوك هو تكوين فرضي، بمعنى أننا نستدل على ما هو متكون في دواخلنا من أبنية نفسية وفكرية تخرج للعلن من خلال تصرفاتنا وما يصدر عنا، سنحاول في السطور القادمة كيف تم بناء هذا التكوين، أقصد به التكوين النفسي، أو التكوين الفكري، سأحاول التطرق من خلال التساؤل التالي: هل هو بناء سوي أم هو بناء مرضي، قوي صلب أم ضعيف هش، لنا رحلة نفسية في البحث عن الأبنية التي تشكلت.
حينما نتناول مفهوم البناء النفسي للإنسان حتمًا سنستعرض خلفية تشمل الصحة والمرض، السواء واللاسواء، على وفق اسس فلسفة النفس، هنا أعني بها مفهوم الديالكتيك الذي يعد هو لب أسس البناء النفسي. أن تناولنا لمصطلح " العصاب" أي الاضطراب النفسي والذي هو يشير إلى حالات مرضية ذات أصول نفسية أعراضها تعبير رمزي لصراع نفسي كما يقول شيخ فلاسفة التحليل النفسي العربي العلامة"مصطفى زيور" رحمه الله ، هذا البناء تمتد جذوره إلى مرحلة الطفولة المبكرة من حياة الإنسان، ويعلم من دَرسَ العلوم النفسية المعمقة يعرف تماما أن وظيفة العصاب الأساسية هي أنه يقوم بتسوية بين قطبي الصراع، أي بين الرغبة والدفاع، بين اللذة والألم، ويقول "لاجاش" كل سلوك يرجع في أصله إلى حالة توتر مؤلم ويهدف إلى الوصول إلى خفض هذا التوتر، مع تجنب الألم وتحصيل اللذة إن أمكن تحصيلها. وذكرنا قبل قليل أن البناء النفسي تمتد جذوره منذ الطفولة المبكرة، ففي هذه السن ينشأ البناء النفسي من خلال صراع نفسي يحسمه الطفل بالاستمتاع بحنان الأم ورعايتها، فهو يموه على الألم الناجم عن زيادة التنبيه وتأخير الإشباع بفعل التفريغ الحركي والنشاط الذي يصدر عنه وأهم ذلك هو التعبير بالصراخ والعراك والحركة الإعتيادية والمفرطة، وهو يهلوس أيضًا أي يعيش الخيال وتكوين مختلف الصور واللعب الإيهامي بين أقرانه مع الاطفال حيث يحقق الإشباع المرغوب، أما عند الراشد الناضج فيلجأ إلى الابتعاد عن ما يسبب الألم ويورثه في تثبيته وإبقاءه في تكوينه النفسي من خلال اللجوء إلى أحلام اليقظة وأحلام النوم، ويقول علماء النفس النوم يسمح باسترجاع حياة نفسية شبيهة بما كانت عليه معرفة الواقع، لا سيما أن الواقع هو المحك للإشباع بلا ألم لجميع الرغبات حتى المجنونة منها" غير العقلانية"، وبطبيعة الحال فإن الكبت هو الذي يدلنا على إختلال صلة الفرد بالواقع والرغبات غير المتحققة لدى المرضى وحتى الأسوياء. إننا نفطن خلال مرحلة البناء النفسي لدى الإنسان السوي والإنسان الذي بدأ يميل نحو الإضطراب النفسي من إحلال مبدأ الواقع محل مبدأ اللذة في ارتقاء الوظائف النفسية الشعورية واللاشعورية للتوافق مع الواقع، هنا تدخل وظائف الإنتباه وشدته والحساسية الإدراكية وتكونها والذاكرة وقدرتها على الخزن لكل الصور التي تمر بحياة الفرد خلال تلك المرحلة ليكون التثبيت Fixation أما قويا أو خفيفا سطحيا، وتؤكد أدبيات علم النفس التحليلي يتمتع الفكر الإنساني بصفات تتيح للجهاز النفسي أن يتحمل زيادة في التوتر أثناء تأجيل عملية التفريغ، أما إذا أستطاع أن يقلل من الطاقة من خلال تفضيل نمط من النشاط النفسي ومنه الخيال عند البالغ والطفل، وأحلام اليقظة عند البالغ والذي سنراه في سلوكه عند النضج ومرحلة البلوغ في إختيار المهنة التي تناسب تكوينه النفسي الأساس، فمن ظل خاضعًا لمبدأ اللذة سيتبناه وهو كبير وناضج في مرحلة مقتبل العمر.
أن البناء النفسي للإنسان تتدخل فيه عوامل التربية كثيرًا فمن نشأ في أسرة دينية تدعو إلى العزوف عن اللذة في هذه الحياة بما تعد به من تعويض في الآخرة، سينهج الفرد منهج أسرته ويكون بناءه النفسي دينيا وحسب تعمقه ومدى قوة الصراع الذي سيحسمه حتما، لأنه لا يوجد صراع دائم، الصراع الدائم ينهك الإنسان وسيؤدي به إلى اختلال النفس في نهاية المطاف. أما في صورة الفن الذي يعصف في بناء البعض نفسيا فهو نمط فريد في نوعه في التوفيق بين المبدأين فالفنان يتحول عن مبدأ الواقع إلى المتوهم، إلى الخيال لكنه يعود إلى الواقع من خلال أعماله وما يصدر عنه من نتاج فكري وفني يحقق له الإشباع ويحقق للناس اللذة التي كانت السبب في ألم الكاتب، أو الفنان، أو من يقوم بإنتاج فكري عميق يترك الأثر في أجيال، وهو ما عبر عنه عالم النفس الفرنسي "هنري فالون" بأنه تعاطف معذب. وكذلك الحال في البناء النفسي لدى الرياضي والإنسان العادي وأسس تكوينه النفسي والفكري، ونلاحظ أن السوية "الصحة" بحدها الفاصل بين اللاسواء" المرض النفسي" تقف على خط واحد يفصلها وقد يتسائل القارئ الكريم كيف يكون هذا الفصل بين السوية والمرض؟ نقول له أن الإنسان يعيش في مرحلة من مراحل عمره الأولى الخيال وعدم إدراك الزمان والمكان ومحدودية معرفة الآخرين عدا المحيطين به من الاهل ولكن بمرور السنوات والنمو الجسدي والعقلي والفكري والنضج سيدرك كل ما ذكرنا، ولكن يختلف الإنسان غير السوي" المضطرب نفسيًا" عن السوي بأنه أنزلق من اللبس في الزمان والمكان والأشخاص حيث يصدر عنه اختلاط بين عالم الأخيلة وعالم الواقع، بمعنى أدق .. إن عالم الأخيلة أصبح واقعًا نفسيًا فرض صفاته على الواقع الفعلي فزيفه كما يقول "مصطفى زيور".
إن الخبرة الإنفعالية التي يتركها الفرد في داخله تقوده حتما إلى تكوينه النفسي في مراحل بناءه النفسي الأولى، في سنواته الأولى، تقود هذه الخبرة الإنفعالية لدى البعض منا نحن البشر إلى اضطراب في اختبار الواقع وقدرته على الحكم السوي، أي التمييز بين الواقع النفسي والواقع الفعلي، بين الرغبة واللذة مقابل الدفاع والواقع ، فمن تشكل تكوينه النفسي أن يؤمن بالسحر وفعل السحرة وتأثير الحسد وقوة ضرب العين وفعلها، يبحث عن تعويذة لتحفظه من العين والحسد فهو يؤمن بالخيال الذي يكافئ الواقع، والنية التي تساوي الفعل. وهذه أعراض وسواسية قهرية تلازم من يؤمن بها ويعتقد بها مدى الحياة، ولكنه لا يستطيع أن يجابه خبايا ذاته وإن عرفها وأكتشفها. وعلى هذا يقول "لاجاش" إن ما تُدركهُ من البيئة ليس ما ينصاع لرغباتنا، بقدر ما هو ذاك الذي يمتنع عليها، فالإدراك ليس جزئيًا فحسب، وإنما هو متحيز من حيث أنه يصوغ الواقع على أنه تضاد – الرغبة.
د. اسعد الامارة
الخيارات الاخلاقية بين الرغبات والوعي
- التفاصيل
- كتب بواسطة: حاتم حميد محسن
الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط وُلد عام 1724 وتوفي عام 1804. كتاباته الفلسفية اثّرت في الناس ليس فقط في اوربا وانما في كل العالم. لاحقا وبعد عدة قرون، لاتزال أعماله تشكل مرجعية اساسية في مختلف الدراسات التي جرت في العالم الحديث. كتاباته أدخلت بعداً جديدا في الدين والقانون والتاريخ. ومن بين العديد من أعماله كان "ميتافيزيقا الاخلاق". رؤيته للاخلاق تتجسد في قاعدة الاخلاق الإلزامية المطلقة التي تقترح ان الأفعال يجب ان يكون بالإمكان تصنيفها عالميا اما أخلاقية او غير أخلاقية .
اما بالنسبة الى جون ستيوارت مل فقد كان فيلسوفا بريطانيا وُلد عام 1806 ومات عام 1873. هو ساهم ايضا بقوة في تطوير الرؤى الفلسفية التي استمرت تؤثر في مختلف مظاهر الحقول كالسوسيولوجي والسياسة والاقتصاد. ومن بين العديد من انجازاته كانت نظرية النفعية التي توضح الأخلاق. يجادل مل ان الفائدة او القيمة الأخلاقية للفعل تتقرر حسب المنفعة منه (المتعة او القناعة المشتقة من نتيجة الفعل). يبدو ان مل كأنه يقترح ان عواطفنا ورغباتنا تشكل الأساس الذي بموجبه نحكم على أخلاقنا. فمثلا، اذا كان قول الكذب لشخص آخر يضمن تحقيق الرغبة بالعيش بانسجام مع الناس الآخرين، فان فعل الكذب هذا سيُعتبر أخلاقيا، مسترشدا بتلك الرغبة. بالمقابل، في جدال كانط في ميتافيزيقا الاخلاق، هو يرى هذا كنقص في المعايير لأنه يعني المساومة او القبول بالكذب، والذي هو حسب رأيه يجب ان يُعمم كشيء غير أخلاقي سواء كانت ام لم تكن هناك متعة مشتقة منه. هذه الرؤية تشكل الأساس للمقارنة بين مل وكانط .
دور الرغبات والعواطف
طبقا لكانط، الرغبات والعواطف ليست هامة في خياراتنا للتمسك بالاخلاق او رفضها . هو يرى ان الاخلاق هي مسألة إحساس فطري عام بالواجب بصرف النظر عما يشعر به المرء اثناء الوقت الذي دُعي به لذلك الواجب. كانط يقول لا يوجد شيء يمكن اعتباره جيدا بعيدا عن الرغبة الخيرة والتي هي البوصلة الاخلاقية التي تكون دائما هي الموجّه في البحث عن الخير. هو يقول ان الافعال المسترشدة بالاخلاق هي ليست للبحث عن المكافأة وانما لإنجاز الواجب الذي هو الاحساس الباطني بالصحيح والخطأ، سواء كانت هناك قناعة ومتعة ام لم تكن، وسواء كانت رغباتنا اُشبعت ام لم تُشبع، وعواطفنا هدأت ام لم تهدأ. في رؤيته، الاخلاق هي متفوقة على العواطف والرغبات. نظريته تحمل الكثير من اتجاه الاخلاق الفاضلة او اخلاق الواجب المرتكزة على الشخصية .
في مبدأ المنفعة، يشعر مل بقوة ان السعادة والمتعة التي تُشتق من نتائج الفعل يجب ان تكون دائما المرشد في عمل الأشياء. فمثلا، في السعي نحو السعادة، اذا كانت نتيجة الفعل انه يترك عدد كبير من الناس يشعرون بالرضا عندئذ فان نوع الفعل لايهم حقا، ما يهم هو انه يجلب السعادة والانسجام. هذا ما يُعرف بحسابات المتعة التي تتميز بقواعد ورموز حول ما يُفترض عمله في كل مناسبة من أجل إسعاد اكبر عدد من الناس. في رؤيته، ان الرغبات والعواطف متفوقة على الأخلاق. وهكذا طبقا لمل، الاخلاقي هو نسبي يرتكز على رغبات وعواطف المرء وان المنفعة المشتقة من الفعل تعتمد على كثافة الفعل ومدته، وعلى تأكيده او نقصه. ولكي يؤكد نظرته، يقتبس مل من سقراط القول "من الأحسن ان تكون انسانا غير مقتنع بدلا من ان تكون خنزير مقتنع"وهو هنا يشتق مختلف مستويات المتعة من مختلف الأفعال.
يبدو ان مل يقترح ان الرغبات والعواطف يجب ان توضع فوق العقل. وفي مثال ورد في كتابه، لو ان التحرش بولد صغير ووحيد ينتج سعادة مقابل السعادة الناتجة عن الفضائل، عندئذ فان التحرش يُعد مبررا. نظريته كأنها تقترح ان الناس لا يجب اعتبارهم مسؤولين عن افعالهم، لكن عواطفهم يجب ان تجعلهم مسؤولين. العواطف والعقل لا يتعايشان، لذلك، طالما الافعال تسترشد بالعواطف، فان الناس لا يجب ان يُعتبروا مسؤولين عن عواطفهم لأنه من الشائع جدا ان يتصرف الناس من عواطفهم اكثر مما يتصرفون انطلاقا من عقولهم. فمثلا، من المألوف ان نسمع الناس يقولون "انهم غيرقادرين على منع انفسهم من الشعور بالطريقة التي تصرفوا بها حول ذلك الشيء".
التشابه بين كانط ومل
أحد اوجه التشابه بين الفيلسوفين هي انهما كلاهما يتفقان على ان الاخلاق هي دائما تتحفز بشيء ما، انها ليست مجرد ان تحدث فقط. هما يختلفان حول القوة الدافعة وراء الاخلاق، واذا كان مل يشعر ان الاخلاق دائما حول الرضا، كانط يشعر انها دائما حول الواجب نحو الانسانية وهو الفرق الاساسي بين الاثنين.
اذا كان كانط يدعو لإعتبار الوعي هو القوة الدافعة للأخلاق في كل الاوقات، نجد مل يدعو لكي تكون الاخلاق مندفعة بقوة الظروف والمواقف والتي لا يجب ان ترتكز على العقل او عوامل الادراك. كانط يدعم فكرة ان الواجب نحو الانسانية هو اكثر اهمية من اشتقاق السعادة من الأفعال. مل يدعم فكرة ان رضا الرغبة والعواطف اكثر أهمية من الواجب نحو الانسانية. اذا كان مل يعتبر العواطف القوة المحركة للانسان نحو الجيد او السيء، نجد كانط لايعتبر العواطف ويقول انها ليس لها مكان في الايمان بما هو خير او سيء. مل هو أنوي بمعنى يعيش للزمان والظرف الذي هو فيه، بينما كانط اكثر عقلانية كونه يتمدد نحو المستقبل ليرى قيمة عملنا الآن في المستقبل .
أي الفيلسوفين اكثر اقناعا؟
ربما كانط هو الفيلسوف الاكثر اقناعا. هذا بسبب انه في توضيحه لأساس الاخلاق، هو يقول ان الاخلاق يجب ان تكون عالمية وهذا يشكل اساسا جيدا للحكم على ما هو صحيح او خطأ. كيف نستطيع الحكم على من يرتكب فعلا خاطئا كشيء جيد او سيء اخلاقيا لو أخضعنا الفعل الخاطئ للعواطف والرغبات بحثاً عن الرضا؟ اذا كان هذا هو الاساس الذي نُحكم بموجبه على افعالنا الخاطئة عندئذ كل شخص سيذهب بلا عقوبة لأن اولئك المخطئين لو اشتقوا المتعة من عمل أي شيء خاطئ، عندئذ ليس لدينا سبب للحكم عليهم او معاقبتهم لأنهم حسب وجهة نظرهم لم يفعلوا أي شيء خطأ، هم فقط يبحثون عن المتعة والرضا. وبالنهاية لا وجود لعقوبة قانونية تعاقب من يمتلك العواطف.
حاتم حميد محسن
الوعي: سجالات فلسفية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: علي محمد اليوسف
(أن يقول عقلنا شيئا خطأ عندما نعتبر العقل مجردا من الحالات الظاهرية والقصدية)... ريتشارد رورتي
بدءا من برينتانو وصولا لهوسرل وهيدجر وسارتر أقطاب الفلسفة الوجودية ممن هاجموا بضراوة النزعة المثالية التي حملها ديكارت في الكوجيتو الذي أعتبروه منطلقا فلسفيا سلبيا في تحقيق الوجود الإنفرادي بتوسيله الفكر الخالي من قصدية الوعي، وذهبوا الى أن الإدراك العقلي في وعيه الأشياء والموجودات لا يدركها بمجّانية خالية من الهدف القصدي الذي لا يقف بحدود توكيد الذات وجوديا فقط . بمعنى العقل لا يدرك ما لا معنى له من الموضوعات التي هي غير حقيقية زائفة أن تكون مادة تفكير الوعي بها. ولا أهمية تستتبع عدم إدراك الوعي تفكيره في موضوع بلا معنى. الإدراك الحسّي للأشياء يستبق الوعي في متابعته قصدية ما يدركه العقل.
تجريد العقل من وعيه القصدي يعني فرض إستحالة إدراكية حقيقية على العقل نفسه كان أشار لها جون سيرل الفيلسوف الاميريكي أيضا تأكيده الوعي بلا قصدية ما يدركه هو وعي زائف لا يتحقق إدراكا وظيفيا بالذهن. وقصورالوعي العقلي الإدراكي التجريدي من قصديته معنى ذلك إنتفاء فعل ألإدراك من خاصيته العقلية لماذا ندرك الاشياء وليس كيف ندركها.؟
الإدراك العقلي للأشياء لايكتفي ويتوقف وعيه لمدركات ألاشياء فقط، وإنما يتعدى هذا الإدراك الوعي الى مرحلة التخارج الديالكتيكي المؤثر والمتأثر الناتج عن عملية الإدراك التخارجية الذي هو القصدية من الإدراك للاشياء وليس كيف يدرك العقل تلك الاشياء. العقل لا يدرك العالم الخارجي لمجرد تحقيق وجوده فيه، بل يدركه في محاولة تغييره والتداخل الجدلي معه.
رورتي وكينونة الانسان:
يقسّم رورتي الكينونة الى ثلاثة فعاليات بيولوجية يقوم بها الانسان في وجوده كائنا حيّا نوعي هي:
- الوعي ومركزه الدماغ والمشاعر الخام والحركات الجسدية.1
- العقل الذي تدور حوله مواضيع المعرفة والذكاء واللغة.2
- الشخص في صفاته المنسوبة للحرية والمسؤولية الاخلاقية.3
بضوء هذا التقسيم يطرح ريتشارد رورتي تساؤلات إشكالية فلسفية صعبة مثل كيف لنا أن نعرف أن أي شيء عقلي يمثل شيئا ما ليس عقليا؟ وتساؤله ألآخر أيضا هل الوعي تعبير عن أحداث العالم الخارجي؟ في محاولتنا الإجابة عن تساؤل رورتي كيف لنا أن نميز بين شيء عقلي، يمكن إدراكه هو لا شيئ عقلي في حقيقته الإدراكية؟ تساؤل يلغي بديهية التمييز بين إدراك عقلي واحد منقسم على نفسه ومتشّظ الى إدراك حقيقي طبيعي سوّي ، نخلع عليه بضوء عبارة رورتي صفة الشك أنه ليس إدراكا حقيقيا غير زائف بذات الوقت الذي يكون العقل خدعنا بإدراكه ما ليس حقيقيا ولا يمّثل شيئا يتقبّله العقل.
هنا إذا قلنا أن الادراك الزائف هو إدراك لعدم (لاشيء) موجود نكون أوقعنا أنفسنا في محذور لا يغتفر هو أننا تغافلنا عن حقيقة العقل أنه لا يدرك لاشيئا خارج الجسم ولا شيئا في داخله، وسبب ذلك هو حقيقة العدم لاشيء يمكن إدراكه...
فالعدم هو لاشيء قبل عدم إدراكه وبعد عدم إدراكه. كون العدم حسب سارتر يركب ظهر كل موجود بقصدية الإفناء الحتمي له، لكن من المحال إدراك العدم موضوعا مستقلا لإدراك العقل لا يلازمه وجود لموجود. بمعنى ألعدم يحدس بدلالة ملازمته لموجود.كل شيء يدركه العقل إدراكا حقيقيا يقينيا يمّثل إدراكا لشيء غير زائف، وحقيقة الشيء بالنسبة لإدراك العقل له لا يحددها وجود الشيء المدرك في أنطولوجيته الفيزيائية في عالم الموجودات، وإنما تحددها حقيقة (نوع) الإدراك العقلي لذلك الشيء.
التشكيك بالعقل الإدراكي لا يكون واردا مقبولا حين يكون موضوع إدراكه زائفا غير حقيقي وهنا يكون العقل في حل من مسؤوليته عن زيف مدركاته أنها وردت عنه زائفة ولا وجود حقيقي لها في الواقع. مثال ذلك عدم أدراك المريض الانفصامي حقيقة الوجود في عالمنا السوي الذي نعيشه ولا يقع في هذه الحال زيف الإدراك ألمريض هنا على موجودات العالم في عدم أدراكها الصحيح من قبل المريض ألإنفصامي، بل المسؤولية تقع على زيف وهم وعي وأدراك العصابي المريض للعالم الخارجي بصورة خاطئة.
التساؤل الثاني الذي أوردناه على لسان رورتي هل الوعي تعبير عن أحداث العالم الخارجي؟ طبعا الجواب ألقطعي بالنفي، فالوعي وحدة منظومية متكاملة من عملية الإدراك ألعقلي الذي يمّثله تعبير الفكر واللغة التجريدي عن الاشياء والموجودات، لذا الوعي لا يمكن تجزئته الى وعي خارجي وإلى وعي داخلي حتى وإن كانت هذه التجزئة حقيقية قائمة في وحدة عملية الإدراك التي من المحال تجزئتها في تكامل الوعي لكن يمكننا تجزئة الإدراك حسب الطبيعة الانطولوجية للموجودات في عالم الاشياء. في طبيعة وجود موجودات الاشياء في وجودها الواقعي أنها هي مجزأة مسبقا في إدراكها العقلي الحسّي الواحد ولا يترتب على ذلك تجزئة الوعي الإدراكي الواحد ذاته. حقيقة الإدراك تنفرز مصداقيتها ليس بالنسبة الى معيارية زمن ومكان موجودات مدركات الوعي بها في وجودها كمواضيع مادية خارجية أو أنها مواضيع خيالات إدراكية مصدرها ألذاكرة لا تمتلك حضورا فيزيائيا في عالم الاشياء. تجزئة وحدة الإدراك الى إدراك خارجي في معرفة الاشياء، وإدراك باطني داخلي في إدراك عوالم مخيّلة الذاكرة والخيال ومواضيع الإحاسيس الإستبطانية التي تصدرها أجهزة الجسم على شكل رغبات وأيعازات يرسلها الدماغ بضرورة ما يريده الانسان في إشباع تلك الرغبات الغريزية مثل إحساس الانسان بالجوع أو العطش أو حاجة الافراغ أوحاجة تلبية إشباع حاجته الجنسية وهكذا.
ولا يعني هذا قابلية الوعي التجزئة الى وعي خارجي وآخر داخلي كما هو ماثل في تجزئة مواضيع وأشياء إدراكات الخيال.. الوعي وحدة كليّة من الإدراكات التي تتوزّعها الموجودات في إستقلاليتها. وبالوقت الذي يكون الإدراك فيه واحدا لا يمكن تجزئته الإدراكية فإنما تكون وحدة الوعي في ملازمته ضرورة أن كل مدركات الوعي من مواضيع وموجودات مجزأة وليست موحدة.
يشير رورتي أيضا الى تساؤل مفتعل ورد على شكل توضيح قوله " نمّيز بين الكائنات ذات العقول (الانسان) تقابلها الكائنات الفيزيائية التي لا تمتلك العقل مثل الجسد، المادة، والجهاز العصبي المركزي"4
طبعا إذا تماشينا مع حقيقة المادة والكائنات الفيزيائية لا تمتلك عقلا وهو توصيف صحيح فهذا لاينطبق لا على أي جسد نقصد لا يمتلك عقلا؟ ولا على أي جهاز عصبي مركزي نقصد لا يمتلك عقلا؟، من الواضح تجريد هذين العضوين البايولوجين الجسد والجهاز العصبي المركزي من العقل يصبح معنا الإصطدام بحقيقة فرضية خاطئة تماما هي أن العقل مشكوك بوجوده أصلا ؟ لماذا؟ لأن هذين العضوين الجسد والجهاز العصبي هما من ملحقات منظومة العقل الإدراكية العضوية التي يتسّيدها العقل وهي ملحقات تابعة له لا معنى لها خارج منظومة العقل الإدراكية، وبتجريدنا الإفتراضي الخاطيء لكل من الجسد والجهاز العصبي من العقل لا يبقى هناك وجود إدراكي منعزل لهما بإستقلالية موجودية لا يمكن تصورها كونها إستحالة إدراكية للعقل.. قبل أن تكون فرضية خاطئة لا قيمة لها.
إزدواجية الإدراك
إزدواجية الإدراك مبحث قديم في الفلسفة، وبرز الإختلاف بمفهوم الإدراك منذ عصر أفلاطون في إدراك عالم المثل، يقابله ارسطو في وجوب الإدراك لعالم الواقع والطبيعة والموجودات. فما هو مدرك واقعيا لا يحتاج الى برهان حقيقته في وجود غير مدرك بالذهن، لعالم لا يخضع لسطوة مدركات الحواس والعقل.
وبضوء هذا نجد تشكيك رورتي في قدرة العقل الإدراكية ليست مستمدة من واقع الإدراك الحسّي للعقل، وليس واقع الإدراك الذي يقوم على اللاموضوع سواء في الواقع أو في الخيال. فالعقل حين يخدعنا بزيف ما تنقله لنا الحواس، هذا لا يجعل إعتبارنا التشكيك بزيف إدراك العقل حقيقي واقعي، فظاهرة (السراب) التي تنقلها لنا الحواس في زيفها لا ينسحب عليه زيف الإدراك العقلي الطاريء لها، فالسراب كظاهرة فيزيائية زائفة في ظهورها أصلا إنما هي تخدع حاسة البصر ولا تخدع إدراك العقل لها. جون لوك إستنادا الى مقولة ديكارت العقل جوهر ماهيته التفكير، وجوهر التفكير الوجود، إعتبر ما يكون موضوعا لفهم العقل هو فكرة تستمد حقيقتها من مصدر إدراك العقل لها كواقعة ممكنة الوجود.
ديفيد هيوم والادراكات
يذهب ديفيد هيوم ألى أن الإدراكات المتعاقبة وحدها هي التي تخالف الذهن.
ثمة العديد من التعقيبات التي تلزمنا بها هذه العبارة نوردها:
- الإدراكات التعاقبية هي تداعيات أللاشعور المتعاقبة المتسارعة بسرعة هائلة لا يستطيع الذهن تخزينها كإدراكات وتراكم خبرة معرفية نفهم بها ومن خلالها موجودات العالم المحيط بنا. من المهم التفريق بين الإدركات الصادرة عن الشعور وبين التداعيات الصادرة عن اللاشعور.
- الإدراكات التعاقبية هي إدراكات الشعور المرتبط بوصاية العقل وليس بوصاية الذهن التعبير عنها. ومركز إستلام ومعالجة الإدراكات التعاقبية هو في منطقة عصبونية خلوية موجودة بقشرة الدماغ تحتوي الملايين من الخلايا العصبية. وكذا مع تداعيات اللاشعور المسؤول عنها خلايا دماغية أخرى غير مسؤولة عن إدركات الشعور.
- يعتبر هيوم الإدراكات تجريدات مادية ناتجة عن الواقع الذي ينكره ديفيد هيوم على حساب أرجحية الافكار على المادة. – بالمناسبة هيوم لا يعترف بشيء يسمى العقل وينكر الوجود المادي للعالم الخارجي الذي لا يخضع لإدراكات الحواس وما لاتدركه الحواس لا وجود له، كما ويرفض هيوم مبدأ السببية ويعتبرها تعالقات مصادفة تصبح مع مرور الزمن عادة نطلق عليها خطأ (السببية) التي لا تحكم علاقات بعض الظواهر وألاشياء - ثم أن الإدراكات هي إنعكاسات مؤثرات الواقع على إستجاباتنا الإدراكية العقلية عن تلك الإيعازات الحسّية الواصلة للدماغ وليس الواصلة للذهن الذي يقوم هو بالتفكير وتخزينها كتراكم خبرة مكتسبة بالذهن وهذا عين الخطأ الدارج، فما يدركه الدماغ هو الذي يتمكن الذهن من التعبير عنه بوسائط الوعي والفكر واللغة التي هي نشاطات تنفيذ الذهن لإيعازات الدماغ الواصلة له. الذهن لا يفكر ولا ينوب عن العقل وظيفيا بإصداره إيعازات ردود ألافعال وبالتحديد هي من عمل الدماغ وليس خاصية الذهن.
- التساؤل ألهام هو كيف يمكننا التمييز بين إدراك الشيء، وبين تكوين الافكار عن الشيء؟ ومن منطلق التفريق بين هيوم الذي يعتبر الذهن مصدر إنبعاث الافكار نحو مدركات الخارج، وكما يقوم الذهن بإصدار الإحاسيس الواردة عن إيعازات الجسم الغريزية. فالحقيقة البايولوجية في دراسة فيزياء عمل أعضاء الجسم الانساني تشير الى الحقائق التالية:
- الإدراك الخارجي للاشياء ليست خاصية ذهنية مستقلة بل هي خاصية عقلية، وكل إدراك خارجي لاشياء أو إدراك إستبطاني داخلي لأفكار الذاكرة ، هو فعالية دماغية بيولوجية ترتبط بالعقل مباشرة وليست خاصية ذهنية لا يتداخل بألوصاية عليها الدماغ.
- الذهن ليس مصدر تفكير الانسان بلا مرجعية الدماغ له، والذهن عضو في منظومة العقل الإدراكية التي تستلم إيعازات المدركات الخارجية وتنقلها للدماغ ،أي أن وظيفة الذهن الإدراكية لا تختلف عن وظيفة الحواس الناقلة لإنطباعات الإحساسات في مدركاتها موجودات العالم الخارجي، والفرق بينهما أن الذهن ناقل ومستلم ايضا لمقولات العقل الصادرة عن الدماغ،وفي كلتا الحالتين لا يكون الذهن مصدر تفكير الانسان من غير وصاية بايولوجيا عمل القشرة الدماغية والجهاز العصبي ألمرتبط بهما. .
- الإدراكات الواصلة عن طريق الحواس لا يقوم الذهن تخزينها كخبرة قارّة مكتسبة من عالم الخارج، بل بعد فلترة تنظيم الدماغ لمدركات الحواس الواصلة اليه يعطي ردود الافعال الإنعكاسية عليها للذهن، الذي يقوم بدوره بتخليق الوعي بها وتعبير الفكر واللغة عنها. وكل خبرة تكون مكتسبة وتحمل معها حقيقتها التجريبية الصادقة يكون مركز تخزينها الذاكرة وليس الذهن. ربما يتبادر للبعض أن تعابير مثل الذهن، الذاكرة ، الخيال،الوعي، هي مفردات تجريدية في التعبير عن معنى واحد دلاليا. والصحيح رغم ترابط تلك الحلقات الإدراكية الوثيق بمنظومة العقل الإدراكية، فأن لكل واحدة منها دورا تلعبه ضمن منظومة العقل ألإدراكية التي تحتوي أيضا الجهاز العصبي واللاشعور والنفس وهكذا. ولا تمتلك تلك الحلقات في منظومة الإدراك العقلي أية إستقلالية لوحدها.
- تراكم الإشعارات الإدراكية الواصلة للذهن لاتبقى فيه كخبرة تراكمية يختزنها، بل تتجاوزه الى الدماغ أو بالأصح الى القشرة الدماغية صاحبة الاهلية والكفاءة بإعطاء ردود الافعال عنها. وكذا الحال في إستقبال الذهن مقولات الدماغ الراجعة للذهن كردود أفعال، وفي كلتا الحالتين أستقبالات الذهن للإدراكات الواصلة اليه عبر الحواس والجهاز العصبي الناقل، وإستلام الذهن لها ثانية كردود أفعال إنعكاسية مصدرها القشرة الدماغية، كل هذه الوظيفة البايولوجية لا تمنح الذهن أن يكون مصدر بديل ينوب ويعوّض عن خاصية تفكير العقل.
وضوح الافكار والمصداقية
يدعم اسبينوزا مقولة ديكارت "الافكار الواضحة المميزة صادقة، أما الافكار الغامضة فهي غير كافية أو كاذبة "5
لنا التوضيح التالي:
- قبل البت بزيف الأفكار عن صدقيتها علينا التمييز القبلي بين لغة التعبير بوضوح ولغة تعبير اللغة المعقد الغامض. ولا يترتب على الأفكار الواضحة والافكار الغامضة إستنتاج صدقية أو كذب موضوع التعبير عنه بالفكر واللغة. فالوضوح والغموض بالفكر لا يصح معيارا يفرز بين ما هو صادق عن ما هو كاذب. الوضوح والتعقيد بالافكار لا يغير من ماهية الموجود في إستقلاليته بالعالم الخارجي. ومعيارية الصدق والزيف لا نستدل عليها من تعابير الفكر واللغة عنها، بل المعيار هو محاكمة العقل لها وتمحيصها وتدقيقها. أننا نجد أن فيلسوف اللغة فينجشتاين سقط في هذا الابتذال التعبيري حين أكد أن كل ما هو غامض في تعبير اللغة عنه يكون بالنتيجة زائفا لامعنى له لذا يتوجب الصمت عنه، وروّج لهذه الفكرة كلا من جورج مور وراسل قطبي التحليلية الانجليزية بأختلاف معروف بينهما.
- لم تكن فلسفة اللغة والتحول اللغوي وفائض المعنى معروفا متداولا في الفلسفة في القرن السابع عشر عصر ديكارت، لذا نجد اسبينوزا يبني حكمه على صدق أو كذب التعبير عن الشيء خارج معيار الغموض والوضوح باللغة بمرجعية اللجوء الى الله عندما يعجز العقل أن يمنحنا معيار الصدق بالحياة. فيقول " معرفة الله هي المعرفة الاكثر يقينا في كل ما لدينا من معارف، وما عداها من حيث أنها ممكنة نستمدها من معرفتنا الله، أو يمكن على الاقل النظر اليها على ضوء معرفتنا بالله ." 6
هنا يخرج اسبينوزا عن المنهجية التجريبية العقلية عند الفلاسفة السابقين عليه واللاحقين بعده مثل باسكال وبيركلي في محاكمتهما الايمان الديني بالله هو المرجعية الاكثر موثوقية لقبول أو رفض كل شيء لا يتماشى مع هذا التعالق الفلسفي السببي، لكن التساؤل المحرج الذي يبقى بلا جواب،اذا كان الشخص لا يمتلك أيمانا دينيا بالله. فما هو معيار حكمه على صدق الافكار من زيفها؟ هل نعاملها بالوضوح والغموض اللغوي كما زعم ديكارت ومن بعده فينجشتين وجورج مور وبيرتراندراسل، أم يبقى تعطيل العقل في معرفة أفكار مدركاته هو الحل؟
مثالية بيركلي
يعتبر بيركلي الأنا المدركة للاشياء أو الذات مرتكزا محوريا في الموضوعات التي تحيط بالانسان أو بالاحرى بالأنا المنفردة في إدراكها، ويبني على هذا الخطأ خطأ آخر أكبر منه على أنه لا شيء يمكن أن يكون موجودا، الا عندما تكون ذاتا متحققة الوجود، وهي نتيجة لا تلزم أحدا من الواقعيين أو الماديين الأخذ بها. هذه المثالية المفرطة في نكران الوجود من غير مزامنة الذات أصبحت من كلاسيكيات الأخطاء التي جرى تخطئتها في أدانة مثالية فلسفة بيركلي.
علي محمد اليوسف /الموصل
.......................
الهوامش:
1- د.امل مبروك /الفلسفة الحديثة ص 103
2- نفسه نفس الصفحة
3- نفسه نفس الصفحة
4- نفسه نفس الصفحة
5- نفسه ص 116
6- نفسه ص 119
خيار التعارف كبديل ثالث؟! (1)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مراد غريبي
يحكى أنه جرى حوار بين عالم عارف ومتعلم على سبيل نجاة، حول نقد الذات ومحاسبتها، ومع نهاية الحوار نظر العالم في تلميذه المتعلم، قائلا: أذكر لي مساوئي وعيوبي ونواقصي التي قد استشعرتها أو استوحيتها طيلة تعاملك معي...!!
انصدم التلميذ المتعلم متعجبا من طلب معلمه، واعتذر وطلب من أستاذه أن يعفيه من هذا الأمر، لكن العالم ألّح وأعطاه الأمان بأنه لا يغضب منه مهما كانت صراحته قاسية... فنزل التلميذ عند طلب معلمه، واستهل ذكر عيوبه وبعد بضع دقائق توقف مستحييا من النظر في وجه معلمه لجرأته غير المسبوقة، ثم استعاد أنفاسه وقال لمعلمه بوقار: سيدي هل تكرمت وذكرت لي عيوبي ونواقصي فأنت أجدر بهذا مني....تبسم العالم وقال لتلميذه: بني وهل يصف ناقص ناقصا؟ أنا وأنت متعلمين على سبيل نجاة وتعارفنا الصادق هو تمهيد لتصالحنا مع ذواتنا وبعضنا البعض...قد يتفكر القارئ ماذا نستفيد من قصة كهذه؟
هذه القصة هي درس بليغ للأفراد وللشعوب والأمم في أبعاد حياتهم، لتفهم أن الله خلق الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا ويتعاونوا ويتبادلوا الفنون والآداب والمهارات ويتنافسوا على فعل الخيرات ومحاربة الأهواء والأوهام، وعلى الرغم من صور الحياة الإنسانية المشتركة والسامية التي يطرحها كل شريك في البنية الإجتماعية، إلا أن الواقع يكاد يكون متناثرا، ومرتكزاً على المصالح الضيقة التي حملت بعداً وهدفاً لا يمت إلى تلك الصور بصلة إلا مع الذات الخاصة لا العامة..
لقد أصبحت الحاجة إلى تكريس ثقافة التعارف على خطوط طول وعرض التفاعل الاجتماعي في الأمة، ضرورة ملحة في المرحلة الراهنة، لما وصلنا إليه من صور العنف من الأسرة إلى الشارع والمؤسسات بشتى الحقول، ووسائل العنف تعددت وتنوعت، وارتكابه بحق شركاء الاوطان والأمة والإنسان عموماً أصبح مشرعنا، فباتت مواجهة الصراعات بين شركاء الوطن والإخوة في الدين وداخل المذاهب، والتي تعدّدت صورها لا يمكن أن تستمر، ولا يمكن أن يظل نفي الآخر -بجل تمثلاته- أساساً للحياة، لأنه إن استمر فهذا سينهي وجودنا كأوطان وأمة، ويدمّر أركانها معاً، أصبح لابد من نشر مبادئ العيش المشترك، وتطبيق تلك المبادئ، دون أن يتم تهميش عنصر من عناصر الوطن والأمة او الدين والمذهب دون الآخر. وأن يكون التعارف منطلقا لبناء التعايش بكلّ صوره الإيجابية قائماً ومصاناً من الجميع عبر الركائز التالية:
- التعريف بالذات دون تسقيط الآخر بكل تمظهراته أو تهميشه.
- معرفة الآخر عبر التواصل والتبادل المعرفي من مصادره الأصيلة.
- الاعتراف بنسبية الحقيقة والشراكة في ملكيتها وتنمية آثارها في الحياة.
- لابد من وجود القناعة التامة والإرادة الحرة، والرغبة الحقيقية المشتركة بين أهل الفكر والمذاهب والطوائف الإسلامية في التعارف؛ والنابعة من نزعة العدالة الإسلامية..
- دراسة وتدريس تجارب وممارسات التعايش والتضامن والسلام الخاصة بالشعوب والحضارات الأخرى التي تمكنت من تأسيس وتنمية التوافقات الاجتماعية بين عناوين التعدد فيها، بعد أن مرت بصراعات دموية...
- عدم فهم خيار التعارف كصيغة تفاوضية، لأن الإرث مشترك والمصير واحد فلابد من فهم عنوان التعارف كبديل ثالث وأهم لمستقبل الأمة والأوطان والأجيال ..
إن الحاجة إلى التعارف أساس التسامح وروح التواصل وغاية الحوار ومنتهى بغية المكرمين، وليس أبلغ وأدل على أهمية التعارف في حياة الأفراد والمجتمعات مثل الآية الكريمة: {يا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[1]، والتي توحي لنا بضرورة مراجعة حقيقة التعارف في حياتنا كعرب ومسلمين، كعنوان حضاري إسلامي عظيم، ولابد أن نفهم أن التنوع الإنساني كخلق وجعل من الله تعالى، بالمنطق الإسلامي ماهيته تتحدد في التعارف ومدى الصبر عليه كإمتحان لمدى حيوية الكرامة عبر حركية التقوى في حياة الفرد والمجتمعات (شعوبا وقبائل)، وما القصة السابقة سوى قطرة من بحر جواهر الآية الكريمة السابقة من سورة الحجرات التي تفتح آفاقا رحبة على ثقافة التعارف كأساس لأسلمة الحياة عبر استحضار توحيد الله الذي يجمعنا على التواضع واللقاء والتراحم والتسامح...
إن الشطحات الشعبوية والقبلية والمذهبية ورمي التهم والتباغض الإنساني بكل تمظهراته، ما هي سوى محاولة القفز على الحقائق الإنسانية الاسلامية المنيرة بنور الحق والعدل عبر ضخ الترميزات الصاخبة في مقياس الطائفية... وأي سيناريو يتجاوز أساس التعارف بكل لوازمه المشتركة بين أطرافه، هذا السيناريو ماهو سوى محاولة الانقلاب على أمر إلهي عظيم يتعلق بكرامة الناس وبالتقوى كمطلب ثقافي في المنظومة الحضارية للمسلمين.. ثم إن التعارف في المنظور الإسلامي فرض إلهي وحق لكل أبعاد التنوع الإنساني (أفرادا ومجتمعات) آثم تاركه من المسلمين إبتداءا، ظالم منكره، وجواب سؤالنا التاريخي كأمة رهينة أزمات نفسية وإجتماعية ذات منشأ ثقافي وتاريخي: لماذا أنيميا الوحدة تنخر جسدنا الإسلامي؟ هو لأننا كشعوب وقبائل تعوّدنا على مقاطعة فاكهة التعارف!!!
إن الطائفية المحلول الوحيد الذي يكشفها في يومياتنا السياسية والمذهبية الثقافية والاجتماعية، هو ماء التعارف (الحوار العلمي، النزعة الانسانية، الشراكة في الحقيقة)، ومهما قرأنا عن شجاعة التعارف وسمعنا عنها لا يمكننا تذوق حلاوة ثمار التعارف إلا بالممارسة عبر الحوار والانفتاح لإكتشاف حقائق التسامح والتعايش... وتجاوز المأزق الحضاري الذي يكمن في البنية التحتية المولدة لأفول وغياب ونكران قيمة التعارف، كمقولات احتكار الحقيقة وفتاوى العجب الطائفي وغيرها. حيث تتمركز معضلات ضحالة النظر وتعطيل مشاريع التجديد والانفتاح على بعضنا البعض في ظلال المحبة الإسلامية ...
إن ثقافة التعارف تبقى الوصفة المثلى للتنمية بكل أبعادها، ومركز ثقلها هو التواضع كأفراد وأساسا النخب منهم وكشعوب وقبائل وطوائف وقوميات، حتى نكون أهلا للتعارف والرقي للكرامة الحضارية الحقة التي لا تتجلى عبر الزمن كله إلا تحت لواء التقوى في تفاصيل الحياة كما في العبادات.. فتعالوا إلى نستلهم آفاق قيمة التعارف..
بقلم: مراد غريبي - كاتب وباحث
قراءة في رواية إنتهازيون.. ولكن على خراب العراق
- التفاصيل
- كتب بواسطة: جمعة عبد الله
الكاتب المغدور بكاتم الصوت (علاء المجذوب) الذي اغتيل بدم بارد ب 13 رصاصة من كاتم الصوت، كل جريرته أنه أنتقد الدور الإيراني بالتدخل بالشؤون الداخلية للعراق بشكل سافر، فكان الجواب هو الاغتيال في عتبة باب داره وفي وضح النهار، منذ اكثر من ثلاثة سنوات والقاتل مازال طليقاً وحراً يواصل مهنة الاغتيال. هذا الاغتيال أنذاراً موجهاً لكل من ينتقد إيران، صادر من المليشيات التي تعتبر أيران تحمل العصمة المقدسة. والروائي (علاء المجذوب) شخصية معروفة في الوسط الثقافي والادبي، له مساهمات مبدعة في الشأن العراقي، في السرد الروائي في فن الرواية الحديثة، تتناول المراحل السياسية السوداء والبغيضة قديماً وحديثاً. وهذا المتن الروائي يتحدث، عن الفترة قبل الاحتلال الامريكي وبعده. من زوايا المتعددة في الشأن السياسي والاجتماعي، ويغوص الى الاعماق في دقائق وتفاصيل بذور الانتهازية حتى اصبحت أشجاراً عملاقة بالتفاصيل التي رافقت فترة ما بعد الاحتلال، بالتوثيق الروائي والسياسي في سايكولوجية الانتهازية ومراحل تطورها على الخراب العراقي. التي صاحبت نهج الاحزاب الدينية التي جاء بها المحتل وسلمها مفاتيح العراق، لتدوس في بساطيلها على رؤوس العراق والعراقيين، لتلعب على تقرير مصيرهم وحياتهم، وفق ما تريد وترغب، بعدما اتخذوا من العراق مغارة (علي بابا) في النهب والفساد، وسرقوا البلاد والعباد، بمهارات شيطانية فذة في الاحتيال والاختلاس. في بيع مؤسسات الدولة واملاكها وعقاراتها. أو سرقة أموال المشاريع والصفقات والعقود منها عقود صفقات الكهرباء، التي ضخت لها ماكنة خرافية من الاموال، والتيار الكهربائي يشهد تراجعاً الى الوراء، بانقطاع ساعات طويلة للتيار الكهربائي، ورغم ضخ الاموال الخرافية فأنها لم تنتج وحدة انتاجية للطاقة الكهربائية، مما ظل المواطن يعاني من انقطاع التيار الكهربائي في عز قيظ الصيف الملتهب بنيرانه الساخنة لساعات طويلة،. ان النص الروائي يتابع ويرصد ويراقب عن كثب سلوك هذه الاحزاب الدينية لطريقة اسلوب حكمها،بين الشعارات الدينية البراقة في الايمان والتقوى والنزاهة، وبين النفاق السياسي الداعر بالفساد. الذي عطل ماكنة الدولة وقادها الى الخراب، يوثق جمله من ألاحداث العاصفة التي مرت على العراق، من مرحلة الحروب، الى مرحلة الحصار الدولي، الى مرحلة الاحتلال ومابعدها، والتي تصدرت قمة المآسي والكوارث، في هذا الاحتلال البغيض الذي (أحدث تغييراً اًستراتيجياً في العراق وحياة العراقيين. أنه ببساطة أحتل من قبل أعتى دولة في العالم) ص83. وجلب الديموقراطية التي تحولت الى ديموقراطية الدم، والانتخابات البرلمانية ومجالس المحافظات، ماهي إلا مهزلة صورية مزيفة، كل ما في الامر، تتتفق الاحزاب الحاكمة على المقاعد البرلمانية بالتقسيم الحصص سلفاً لتنتج مخلوقات فاسدة في البرلمان (أعلب النواب عبارة عن بالونات ملونة، وقد سرقوا أموال الشعب والبلد) ص231، وما لعبة الانتخابات إلا مهزلة، لذر الرماد في العيون رأي العام الداخلي والخارجي. لان الاحزاب الدينية كل اهتمامها وانشغالها بالفساد المقدس والسحت الحرام المقدس، على نهب أموال خزينة الدولة. وترك الشعب تحت رحمة الارهاب والتفجيرات الدموية والانفلات الامني والفقر. والغريب ان تصادف هذه الاحداث في اشهر رمضان. وخصص لها المتن الروائي ست رمضانيات بالاسماء والالوان والمعاني البارزة وهي:
1 - رمضان أصفر.
2 - رمضان أخضر.
3 - رمضان بلون صدر الحمام.
4 - رمضان يشبه الاخرين.
5 - رمضان العراق الجديد.
6 - رمضان ليس الاخير.
هذه الرمضانيات تتراكم في فصولها على خنق العراق بالفساد وافقار الشعب، بحرمانه من نعم اموال موارد النفط، التي تذهب حصة الاسد الى الاحزاب الدينية، ونجدها تتنازع وتتطاحن بالخلافات حتى لعلعة الرصاص بينها، بسبب ان حزب ما حصد اكثر حصة مالية من الاخر. او حصد المناصب والمشاريع والعقود الوهمية أكثر من الاخرين. او زج المقاولين من بطانته الحزبية دون غيرهم، للنهب والسرقة اكثر من اللازم. يعني الخلافات على المغانم المالية، مما تؤثرسلباً على الوضع الامني الهش، وحتى بعض هذه الاحزاب هي نفسها تلجأ الى التفجيرات الدموية في الاماكن والاسواق المزدحة بالناس، كعامل ابتزاز ومقايضة برفع سقف مطاليبها الى الاعلى، اي مقايضة ملف الامن بالمال. أن الاحزاب الدينية في نهجها ترسخ الفساد السياسي والاخلاقي، وتعتبر بيوتها الاخطبوطية، عصابات مافيوية بأمتياز في أبتلاع البلاد،
احداث المتن الروائي:
شخصية (جبار) المحورية في الحدث الروائي مع عائلته المتكونة من (الاب والام والاخوان، عادل، حسون. ناهض. خالد، وشقيقتهم صباح) وجبار يمثل المثال الساطع على تطور الانتهازية من مراحلها الاولى الى اقصى مراحلها المتطورة. بزواجه من ارملة غنية طمعاً في المال والارث المتوفي، وزواجه الثاني من زوجة شقيقه (عادل) الذي توفي في حادث مرور، وترك ارث مالي محترم، فتحت شهيته على زواج ارملة شقيقه المتوفي طمعاً بالمال، ولكن تحت غطاء صيانة العائلة والشرف والعرض. وزواجه الثالث من (سلوى) حين وصل الى قمة اشكال الانتهازية وتبدلت احواله الى البذخ المالي المجنون، فلابد ان يغيير حياته بالزوجة الجديدة في عشرينيات العمر، بداية اول صعوده السلم، حشر نفسه في حزب ديني وبالتملق والنفاق والانتهازية، فاز في عضوية مجلس المحافظة، لكن هذا لم يشبع طموحه الانتهازي حتى اصبح في مركز حزبي متقدم، رئيس فرع الحزب في محافظته. ثم حصل على مقعد في البرلمان وأصبح بعد ذلك صوت الحزب المسؤول عن صرماية والاموال التي تدر من الصفقات والعقود ومن المشاريع الوهمية. حتى جلب شقيقه (حسون) في ادارة المقاولات والمشاريع ليساعده على الخمط والنهب. وجلب ايضاً شقيقته الارملة (صباح) وحصلت على مقعد في البرلمان، لكن لم يشبع طمعها وجشعها فطالبت بحقيبة وزارية وناطحت في الحصول عليها، لكن ساومها شقيقها (جبار) بدلاً من الحقيبة الوزارية، ان تكون مسؤولة اللجنة القانونية في البرلمان، وعبر لجنتها القانونية تملك صلاحيات واسعة في الاقرار والرفض المشاريع والقوانين المقدمة الى اللجنة. وهي تعتبر عش الفساد المالي، وشكلت اللجنة قانونية من الموظفين، وانجذبت في علاقتها مع موظفها (توفيق) وطرحت عليه الزواج مقابل فتح مغارة (علي بابا ) وان يشكل جمهورية مالية كبيرة مثل جمهوريات الفساد الاخرى، وبهذه الاغراءات الخيالية وافق على الزواج. هذه فنتازيا الفساد للاحزاب الدينية التي آمنت بقدسية في مبدأ (ميكافيللي) الغاية تبرر الوسيلة. في السلوك في الفساد الاخلاقي والسياسي. فأصبح لكل حزب ديني امبراطورية مالية واسعة الاطراف كالاخطبوط. بهذا النهج اصبحت اكثر ظلماً وفساداً من اسلافهم. ومن اجل خنق الاصوات المعارضة، مارست أسلوب الارهاب الفكري وقمع الحريات بالتهديد بالقتل والاغتيال والبطش والتنكيل، ولابد من الاشارة المهمة والهامة. بأن الكاتب الشهيد (علاء المجذوب) كأن قد حدس وبصر مصيره وتوقع اغتياله برصاصات عمياء من كاتم الصوت من مرتزق جاهل. ضمن خنق الحريات العامة، أو بما يسمى بديموقراطية الدم (لم يدور في حسابي أن أموت مبكراً، أو يتم يتم أغتيالي بطلق ناري أعمى من مغفل لا يفقه من الدين إلا قشوره) ص118. وهذا فعلاً ما حصل وذهب مع قافلة مئات الشهداء. فأصبحت الاحزاب الدينية معزولة منبوذة وبغيضة من الشعب (الاحزاب المسيطرة على الحكومة المركزية. التي وعلى مدى سنوات المنصرمة لم تقدم شيئاً أكثر من الوعود، بد أن أحاطت نفسها بكتل كونكريتية وعزلت نفسها عن الشعب) ص107. لقد تركوا فئات الفقراء والجياع يقتاتون على حاويات القمامة للحصول على رغيف الخبز المر في بلد غني بموارد النفط. هذه نتائج الاحتلال والقمامة التي جاء بها وسلمها رقبة العراق للذبح. ولكن الغطرسة المالية تخلق النزعات والمشاكل والازمات داخل صفوفهم. فزواج (صباح) لم يعمر طويلاً فقد مات (توفيق) زوجها بالسرطان مع شقيقها حسون الذي توفى أيضاً، في زيارة الى موقع قصف من قبل في الحرب واهمل، واصبح مكاناً خطيراً بالاشعة المتلوثة، وكان غرضهم من زيارة الموقع، من اجل سرقته وتقاسمه بينهما. وكما دب الخلاف بين (جبار) وزوجته الثالثة (سلوى) ذات العمر العشرين وهددته بالطلاق، ولم تعد تتحمله وتطيقه. وهذا رمضان ليس الاخير في الصراعات الداخلية والخارجية.
جمعة عبدالله
مقدمة في علم الكلام الجديد
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عبد الجبار الرفاعي
كلُّ بداية للتجديد في عالَم الإسلام تتجاهل الدينَ تخطئ الطريقَ. الدينُ مكونٌ أنطولوجي للهوية الوجودية للكائن البشري، وبنيةٌ لاشعوريّةٌ عميقة غاطسة في شخصية الفرد والمجتمع. فهمُ الدين وكيفيةُ قراءة نصوصه يرسم الرؤيةَ للعالَم، وفي ضوء ذلك يتحقق نمطُ وجود الإنسان، ويتشكل نظامُ انتاجه المعنى لحياته، ويتكون فهمُه لذاته وتقديرُه لها، وتتحدّد مكانتُه في الواقع الذي يعيش فيه، وتبتني صلاتُه بما حوله، وطريقةُ إدراة شؤون حياته في المجتمع الذي يعيش فيه، وموقفُه من الآخر، وأسلوبُ تعاطيه مع المختلِف في المعتقَد والرأي والموقف، وقدرتُه على إدارة اختلافاته وتسوية مشكلاته بوسائل سلمية، خارج أدوات العنف الرمزي واللغوي والجسدي.
فهمُ الدين وكيفيةُ قراءة نصوصه من أهمِّ العوامل الفاعلة في تحولات السياسة والاقتصاد والثقافة والعلاقات في حياة المجتمعات. الدينُ هو الحبل السري الذي يتغذى منه تكوينُ الفرد، وتقاليدُ المجتمع وأعرافُه وقيمُه وهويتُه، لكن لم يهتم أكثرُ من يكتبون عن الدين في بلادنا بالأثرِ المهم لاختلافِ طرق فهم الدين وكيفيةِ قراءة نصوصه في تكوين الفرد والمجتمع، ولم يُسلَّط الضوءُ على دورِه في رفد اللاشعور الجمعي وترسيخه، وأثرِه في تشكيل شخصية الفرد في طفولته، وتوجيهِ سلوكه وبناء مواقفه في مختلف مراحل حياته.
الدينُ يمكن أن يكون عاملًا أساسيًا في البناء، كما يمكن أن يكون عاملًا أساسيًا في الهدم، ويعود الاختلافُ في ذلك إلى الاختلاف في طريقةِ فهم الناس للدين، ونمطِ قراءتهم لنصوصه، وكيفيةِ تمثلهم له في حياتهم.
مَنْ يريد أن يُعلِّم الناسَ الحياةَ يمكنه استثمارُ الدين، كما يمكن استغلالُ الدين ممن يريد أن يُعلِّم الناسَ الموت، وهو ما تفعله الجماعاتُ المتشدّدة العنيفة في كلِّ الأديان. مَنْ يريد أن يُعلِّم الناسَ السلامَ يجد الدينَ منجمًا يمكنه استثمارُه فيه، كذلك يمكن استغلالُ الدين في الحروب، مثلما حدث في الماضي ويحدث في الحاضر. مَنْ يريد أن يُعلِّم الناسَ التراحمَ يجد الدينَ منهلًا غزيرًا يمكن استثمارُه في التراحم، كذلك يمكن استغلالُ الدين في التخاصم مثلما نراه ماثلًا في علاقات بعض المختلفين في المعتقَد في مجتمع واحد. مَنْ يريد أن يُعلِّم الناسَ المحبةَ يجد الدينَ منبعًا لا ينضب يمكن استثمارُه في تكريسها،كذلك يمكن استغلالُ الدين في إشاعة الكراهية، وهي من أسوأ أشكال توظيفه في الحياة. مَنْ يريد أن يدلّ الناسَ على الطريق إلى الجنة لا يجده إلا في الدين، ومَنْ يريد أن يسوق الناسَ إلى النار يمكنه أن يزجّهم في جحيمها عبر الدين. مَنْ يريد أن يهدي للناس طمأنينةَ القلب وسكينةَ الروح لا يجد رافدًا يلهمهما أغزر من الدين، وذلك ما نراه ماثلًا في حياة أصحاب التجارب الروحية، الذين ينظرون للدين بوصفه ملهمًا للحق والعدل والخير والمحبة والتراحم والأمل والسلام، يقراؤن نصوصَه ببصيرة مضيئة، فيكتشفون ما يرمي إليه الدين من بناء مجتمع يمكن أن تسوده الأُلفة والأمن الروحي والنفسي والأخلاقي، الذي يتحقّق به الأمنُ الفردي والعائلي والمجتمعي، وتترسّخ فيه قيمُ العيش المشترك. أصحابُ التجارب الروحية يتذوقون نكهةَ الدين وأخلاقياتِه السامية فتنعكس على مواقفهم وسلوكهم، يضيئون مصابيحَه ببصيرتهم، فينكشف لهم الدينُ كأنه مرآةٌ يرتسم فيها كلُّ ما هو رؤيوي من تجليات الرحمة الإلهية وألوانها البهيجة. في نمط تَديّنهم يتعلم الإنسانُ كيف يفرح بلقاء الله، وكيف تسقي قلبَه الطمأنينةُ، وروحَه السكينةُ، وينشرح داخلُه بسلام باطني.
في مقابل ذلك يمكن أن يكون التَديّنُ عنيفًا، حين لا يُفهم الدين إلا بوصفه رسالةً للموت، ولا تُقرأ نصوصُه إلا قراءةً مغلقة غليظة، ويتمثَّله الأفرادُ والجماعاتُ على أنه إعلانٌ لحرب لا تنقضي على كلِّ مختِلف في المعتقد.
للدين في مجتمعنا سلطةٌ على الأرواح لا يضاهيها نفوذُ أيّةِ سلطةٍ أخرى، لذلك يمكن أن تكون كيفيةُ فهم الدين وطريقةُ قراءة نصوصه فاعلةً في إحداثِ تحول أساسي إيجابي أو سلبي في اقتصاد المجتمع وتنمية كافة مجالات حياته. الدينُ يمكن أن يكونَ حافزًا خلّاقًا للعمل والإنتاج والتنمية الاقتصادية، وذلك ما كشف عنه ماكس فيبر 1864 –1920 ، حين فسّر كيفيةَ تأثير البروتستانتية والقراءة الكالڤينية للكتاب المقدس[1] في بناء فهمٍ يكتسي فيه العملُ والإنتاجُ معنى دينيًا، وكيف بعثت الكالڤينية تَديّنا ينشغل فيه المسيحي بحياته الدنيا، لينال الخلاصَ ورضا الله في الآخرة. صنعت هذه القراءةُ الكالڤينية نمطَ تَديّن تبدأ النجاةُ فيه دنيوية، والمعنى الديني للخلاص ينتقل إلى العمل الذي يتركز على تسخيرِ الطبيعة، واستثمارِ مواردها لإنتاج ما يتطلبه معاشُ الناس. أعلى جون كالڤن 1509- 1564، من قيمة العمل الروحية فجعله طقسًا دينيًا، لذلك كانت الأخلاقُ البروتستانتية طاقةً ألهمت العمالَ الإخلاصَ والمثابرة. في ضوء هذه الرؤية أصبحت المصانعُ وورشُ العمل بمثابة كنيسة، وصار العملُ طقسًا يحقّق الخلاصَ بمعناه الديني.
في سياق تفسير ماكس فيبر أضحت الرؤيةُ البروتستانتية الكالڤينية للدين وإعادةُ قراءة الكتاب المقدّس في ضوئها الدافعَ الأهمَّ لتكوين الرأسمالية. ففي كتابه: "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" يرى ماكس فيبر أن الرأسمالية، بوصفها نظامًا مجتمعيًا، وُلدت في سياق الرؤية الدينية الكالڤينية للبروتستانتية، وليس نتيجةَ تطور اقتصادي تاريخي.
أخلاقُ العمل الكالڤينية التي تحثُّ على الانضباط والإخلاص والعمل الشاقّ كانت سببًا أساسيًا في ظهورِ العقلية الرأسمالية في أوروبا، وولادةِ الثورة الصناعية. تشدّد الكالڤينية على قيم: الثقة، والادخار، والتواضع، والصدق، والمثابرة، والتسامح، وترى النجاحَ على الصعيد المادي دلالةَ نعمة إلهية واختيار سابق للخلاص[2]. على وفق القراءة الكالڤينية للبروتستانتية، لا يتحقّق خلاصُ الإنسان من خطيئته إلا بالتقوى، والتقوى ورضا الربّ لا يتحقّقان إلا بالعمل والإنتاج واستثمار الأرض، وليس بالقدّاس في الكنيسة[3].
سحرُ الدين وتغلغلُه في أعماق النفس البشرية مدهش، لم أجد عاملًا شديدَ الفاعلية والحضور وذا سطوةٍ وتأثيرٍ لافت في حياة الناس أكثرَ من الدين في مجتمعنا، كان الدينُ ومازال أحدَ أعمق منابع ترسيخ البنى اللاشعوريّة المكونة لرؤية الفرد والمجتمع للعالَم.
رؤيةُ الدين للعالَم وكيفيةُ قراءة نصوصه فرضها في الإسلامِ علمُ الكلام التقليدي، وصنعتها الأنساقُ الراسخةُ لمقولات الأشعري الاعتقادية، ومختلفُ معتقدات متكلمي الفرق.كان لهذه الرؤية الكلامية تأثيرٌ بالغٌ في تعطيلِ الاجتهاد والتجديد في الدين، والانحطاطِ الذي حدث في مجتمعات إسلامية. جاءت الدعوةُ للانتقال من علم الكلام القديم إلى علم الكلام الجديد استجابةً لما فرضته الأسئلةُ الحائرة للإنسان، وقلقُه الوجودي، وشحةُ المعنى الديني الملهم في حياته، وشعورُه بعدم الأمان، في عالَم يتسارع فيه ويشتدّ إيقاعُ تراكم المعرفة واتساعُ آفاقها، ولا يتوقف العلمُ والتكنولوجيا عند نهايات مسدودة، فكما أن الأسئلةَ لا تنتهي كذلك الأجوبةُ لا تنتهي، والمعرفةُ والعلوم والاكتشافات والاختراعات لا تنتهي، إذ تتوالد على الدوام في سياق الأجوبة أسئلةٌ جديدة، وفي سياق هذه الأسئلة تتوالد أجوبةٌ جديدة، وهكذا.
الانتقال من علم الكلام القديم إلى علم الكلام الجديد يتطلب دراسة علمية للتراث الكلامي، وذلك يعني التوفر على خبرة ودراية في التعاطي معه، واستلهام روحه الحية، والقدرة على توظيفها في منظومة الأفكار الكلامية الراهنة. وكما هو معروف بين أهل العلم أن الاجتهاد في أي حقل من حقول المعارف الإسلامية مما لا يدركه كل أحد، وذلك لأنه يتوقّف على دراسة جادة ومعمّقة للتراث، ووعي دروبه ومسالكه المختلفة، مضافًا إلى الإلمام بالقواعد والأدوات الخاصّة للاجتهاد في ذلك الحقل. فلا يمكن تجديد علم الكلام من دون دراسة وبحث يستكشف مسالك التراث الكلامي المتنوعة، واستيعاب مقولات وآراء المتكلّمين المختلفة. وبموازاة ذلك يتوقّف تجديد علم الكلام على تمثّل روح العصر، والانفتاح على المكاسب الهائلة للعلوم الراهنة، خاصّة العلوم الإنسانية، والتخلّص من الحساسية والوجل أو العقدة في التعامل مع معطيات العلم الحديث، فإن بعض العلوم الإنسانية تطوّرت بدرجة توازي تطوّر العلوم الطبيعية والعلوم البحتة في الغرب، وهي ذات وشيجة عضوية بمناهج علم الكلام ومسائله ولغته ومنظومته المعرفية بأسرها.
أولُ كتاب نُشِر يحمل عنوان: "علم الكلام الجديد" كان لشبلي النعماني، صدر في الهند سنة 1903. وكما أوضحتُ، في سياق بيان مفهومي للكلام الجديد في هذا الكتاب، فإن عمل شبلي النعماني لا يحمل من الكلام الجديد إلا اسمَه.
لم يصل البحثُ حول مشروعية فتح باب الاجتهاد في علم الكلام إلى غايته، لرسوخِ التراث وتصلّبِه وتجذّرِه في البنى اللاشعوريّة، وممانعتِه وإجهاضِه لأية محاولةٍ لعبوره، وانحيازِ أكثر الباحثين والدارسين لعلم الكلام لمقولات المتكلمين القدماء، وتلقيها كما هي بلا مراجعة وتدبر وفحص وغربلة وتمحيص. أكثرُهم يرتاب من الحديث عن الاجتهاد في علم الكلام، لظنه بأنه محاولةٌ للخروج من الدين، فيلتمس مختلفَ الذرائع لرفضه، ويشدّد على الانصياع للمسلمات والمقولات الكلامية الموروثة، ينظر إليها بوصفها مسلماتٍ لا تقبل النقاش، ولا يتعامل معها على أنها اجتهاداتٌ بشرية قالها أئمةُ الفرق والمجتهدون الأوائل في علم الكلام، وكلُّ اجتهاد يفترض أنه قابلٌ للصواب والخطأ.
انشغلتُ سنوات طويلة في علم الكلام الجديد، وقرأتُ وسمعت البلبلةَ والغموضَ والتشويشَ والالتباسَ في تعريفه، وتحديد مفهومه وموضوعه وأركانه ومرتكزاته، فأدركتُ الحاجةَ الماسة لتأليف مقدمة تحدّد الإطارَ العام لهذا العلم، وتضع المعيارَ الذي يمكن اعتمادُه في تصنيف هوية المتكلم والكلام الجديد، وتوفر للباحثين والدارسين في علم الكلام وفلسفة الدين خارطةَ طريقٍ ترسم المعالمَ الأساسية للكلام الجديد.
ينطلق هذا الكتابُ من رؤيةٍ تبتني على أنه مادام هناك إنسانٌ فهناك أسئلةٌ ميتافيزيقية كبرى، وهذا النوعُ من الأسئلة لا جوابَ نهائي له، وهو ما يقوله لنا تعدّدُ وتنوّعُ إجابات الفلاسفة واللاهوتيين والمتكلمين المتواصلة لهذه الأسئلة، وتجدّدُها في مختلف مراحل تطور الوعي البشري، وفي منعطفات الفكر الفلسفي واللاهوتي والكلامي.
تطمح الأسئلةُ والآراءُ الواردة في صفحات هذا الكتاب أن تثري النقاشَ في علم الكلام الجديد، عبر محاورةِ مقولات اعتقاد يعتقد من يعتنقها أنها نهائية، وزحزحةِ آراء جزمية، وإعادةِ النظر في قناعات جاهزة، ومسائلةِ مواقف متصلبة، ترتكز على التعاطي مع اجتهادات الأوائل في علم الكلام كمقولات اعتقاد أبدية، تراها صالحةً في كلِّ زمان ومكان، وترفض إعادةَ النظر فيها مهما تغيّر نمطُ عيش الإنسان، ومهما اتسعت آفاقُ معارفه، ومهما تطورت علومُه، ومهما تقدّمت التقنياتُ المستخدَمة في حياته.
يبدأ علمُ الكلام الجديد بإعادة تعريف الوحي بنحو لا يكرّر تعريفَه في علم الكلام القديم كما هو. اقترحتُ في هذا الكتاب معيارًا يمكن على أساسه أن نصنِّف مفكرًا بأنه "متكلم جديد"، ويتمثل هذا المعيارُ في كيفية تعريف المتكلم للوحي، فإن كان التعريفُ خارجَ سياق مفهوم الوحي في علم الكلام القديم، يمكن تصنيفُ قوله كلامًا جديدًا، لأن طريقةَ فهم الوحي هي المفهوم المحوري الذي تتفرّعُ عنه مختلفُ المسائلِ الكلامية، ومن أبرزها مسألةُ "الكلام الإلهي" وغيرُها من مقولات كانت موضوعًا أساسيًا لعلم الكلام القديم. إن كيفيةَ تعريف الوحي والنبوة والقرآن يتفرع عنها ويعود إليها كلُّ شيء في الدين، لا يبدأ تجديدُ فهم الدين إلا بإعادة تعريف هذه المفاهيم المحورية الثلاثة، في سياق متطلبات الإنسان اليوم للمعنى الديني، واحتياجه لما يثري حياتَه الروحية والأخلاقية والجمالية. في حدود تعريف الوحي وسياقه يتحدّد مفهومُ النبوة، ويتحدّد حضورُ الإلهي في القرآن في حدود مفهوم النبوة. "الوحي والقرآن والنّبوّة هي أصل كلّ شيء، وبقيت العمود الفقريّ للحضارة الإسلاميّة على طول الزّمن التّاريخيّ"[4]، كما يقول هشام جعيّط.
إن كلَّ من يقدّم تفسيرًا جديدًا للوحي، بشرط أن يكون مؤمنًا بمصدره الميتافيزيقي، يمكن أن يُصنَّف تفسيرُه على أنه علم كلام جديد. أما من يقدّم تفسيرًا جديدًا للوحي، لكنه لا يؤمن بالله، أو يؤمن بالله لكنه لا يؤمن بمصدر إلهي للوحي والنبوة والقرآن، فهو ليس متكلمًا جديدًا، يمكن أن يكون فيلسوفَ دينٍ لأن المتكلمَ غيرُ فيلسوف الدين، فيلسوفُ الدين يُفكِّر خارجَ إطار الدين، أما المتكلمُ فيُفكِّر في إطار الإسلام، كاللاهوتي في كلِّ دين وحياني الذي يُفكِّر في إطار ذلك الدين، وإن كان يستعير مناهجَ بحثه مما أنجزته العلومُ والمعارفُ البشرية.
المتكلمُ كاللاهوتي في كلِّ الأديان الوحيانية يؤمنُ بالمصدر الإلهي للوحي، مهما كان فهمُه للوحي، ومهما كان رأيُه في حقيقته، ومهما كان رسمُه لحدوده، ومهما كانت طريقةُ بيانه في التعبير عنه.كما يؤمن المتكلمُ بمصدرٍ إلهي للقرآن الكريم. وفي ضوء ذلك لا ينطبق على من يُنكِر الوحيَ والنبوةَ عنوانُ المتكلم. "وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ"، هود 88.
د. عبدالجبار الرفاعي
.................................
مقدمة كتابنا الجديد: "مقدمة في علم الكلام الجديد"، يصدر الاسبوع القادم في بيروت.
[1] نسبة إلى جون كالڤين John Calvin""، مصلح لاهوتي فرنسي تنسب إليه الكالڤينيّة، هاجر إلى مدينة بازل في سويسرا، بعد تعرض البروتستانت إلى عداء عنيف في فرنسا. اشتهر عنه (مبدأ "النداء"، أي أن لكل إنسان نداء في هذه الدنيا إذا لبّاه فهو سيقوده إلى تحقيق هدفه في بلوغ مكانة ترضي الرب في الآخرة).
[2] أخلاق العمل البروتستانتية، مقالة منشورة على الأنترنيت.
[3] للتفصيل راجع: شرح نظرية ماكس فيبر وكيفية تأثير البروتستانتية الكالڤينيّة في نشوء الرأسمالية في مقدمة محمدحسين الرفاعي لكتاب حسن الضيقة: موضوعات في السوسيولوجيا الألمانية. نموذج ماكس فيبر، 2019، مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد، ودار التنوير ببيروت.
[4]هشام جعيط، في السّيرة النّبويّة، الوحي والقرآن والنّبوّة، دار الطّليعة، بيروت، 2008، ص 9.
جماليات أصالة الوجود في الفكر الفلسفي
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. محمد كريم الساعدي
لقد قدم الفلاسفة في العالم الإسلامي نظرة عن الوجود والماهية، وهي تختلف عن النظرة الغربية، ولاسيما في المرحلة التي تزامنت مع نشوء الإسلام وقيام أركان دولته وما بعدها، إذ اتجه الفلاسفة في العالمين العربي والإسلامي الى مسألة الوجود وربطها بالإله الواحد، وبدأت مرحلة البحث عن الوجود على وفق هذه المسّلمة، ولكن بطرق وأساليب مختلفة بحسب نوع النظرة الفلسفية والفكر الفلسفي في المدارس الإسلامية المختلفة، علماً بان هذه الطرق الفلسفية استندت في اغلبها الى المصادر الفلسفية اليونانية، ولاسيما ما عرف بالاتجاهين الرئيسين في الفلسفة اليونانية (الأفلاطوني، أو ما أطلق عليه في العالم الإسلامي بالفلسفة الإشراقية)، والثاني (الأرسطي أو ما نسميه بالفلسفة المشائية)، حتى انقسم فلاسفة في العالم الاسلامي الى إشراقي ومشائي، ومن ثم أصبحت النظرة الى الوجود تأخذ احد الاتجاهين .
إن القول بأصالة الوجود، أو أصالة الماهية توزعت بين الفريقين مثلما توزعت المرجعيات الفلسفة اليونانية فيها ايضاً، حتى أصبحت بلاد الغرب الإسلامي ترجع الى فلسفة (أرسطو)، ولاسيما عند (أبن رشد) من خلال ترجمته (لأرســـطو) ومؤلفاته، إذ إنَّ بلاد الشــرق ترجــــع الى فلـــــسفة (أفلاطـون) ولاسيما مع تبني شيخ الإشراق (السهروردي) لمقولات (أفلاطون) الفلسفية في إثبات أصالة الماهية.
لقد انطلقت فلسفة الأصالة والاعتبار بين الوجود والماهية من أراء كل من (أفلاطون وأرسطو)، فقد سعى (أفلاطون) الى حل إشكالية المعرفة بتقرير عالم المثل وصرف العلم الى الماهية الثابتة، الأصيلة، وعلى الرغم من ذلك، فأن (أرسطو)، هو أول من وضع (الأرغون) في محاولة لضبط عملية التفكير، واستقراء قوانين الفكر الإنساني، يحاول عبر آلته المنطقية، إنزال الفلسفة الى العيان، وجعل القياس سبيلاً من العام الى الخاص، ومن الكلي الذهني الى الجزئي الواقعي، وهكذا كان انتساب (أرسطو) لأصالة الوجود، بل عَدّ من المؤسسين الرئيسيين له .
إن نظرية أصالة الوجود في الفلسفة الإسلامية لم تطلق بشكل صريح وواضح، بل كانت هناك أراء تنادي بها، لكن دون التنظير لها على العكس من أصالة الماهية التي وضع أسسها في الفلسفة الإسلامية ونظر لها بشكل صريح شيخ (الإشراق السهروردي)، مما دعا ذلك الى ظهور فيلسوف آخر في الشرق عمل على إيجاد نظرية فلسفية تقوم على أصالة الوجود، وأسس لها بشكل جلي الفيلسوف (صدر الدين محمد) وموقفه هذا يعد موقفاً نقيضاً لما دأبت علية الفلسفة الإسلامية في الشرق التي كانت تنادي بأصالة الماهية .
إن المصادر التي استقى منها (صدر الدين) فلسفته في الوجود هي: (الفلسفة المشـائية، وتراث المتــكلمين المرتبطة بالمصادر العقائدية، والعرفاء المتصوفة) والمصدر الأخير (العرفاء والمتصوفة) الذين طرحوا فكرة وحدة الوجـــود، إذ طرحت وحدة الوجـــــود وبحثت للمرة الأولى وتمت صياغة أصولها النظرية بشكل تام في تراث الشيخ (محي الدين بن عربي)، ثم أضحت هذه المسألة محوراً لأفكار (جلال الدين الرومي) في كتابه الشهير (المثنوي)، وبعد ذلك من خلال تراث العرفاء عبرت هذه الى البحث الفلسفي عند (صدر الدين) .
تقوم نظرية أصالة الوجود في الفكر العربي والاسلامي على ثلاث مراتب للوجود، سعى الفلاسفة المسلمون الى إثباتها وهذه المراتب الثلاثة هي:
1- أولا: الوجود الحق: هو الوجود المجرد عن جميع الألقاب والأوصاف حتى عن هذا الوصف . وهو أعلى درجة الوجود التي لا يمكن وصفها إلا بأنها أعلى الدرجات ولا حد لها إلا أنها لا حد لها. وهذا الوجود متفق عليه في الفلسفات الإسلامية حتى أن القرآن نص عليه في قوله تعالى:"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ.
2- الوجود المطلق: وهو عبارة عما لا يكون محصوراً في امر معين محدوداً بحد خاص .وهذا الوجود يقع خارج المحسوسات كما هو الأول، ويختص هذا الوجود بخصوصيات مراتبية غير خارج عن المراتب نفسها.
3- الوجود المقيد: وهو خلاف الوجود المطلق كالإنسان والفلك والنفس والعقل وجود الأعيان والماهيات والإمكانية التي احتاجت الى الحيثية التقييدية والواسطة في العرض، كما احتاجت الى الحيثية التعليلية في حمل الوجود عليها .
وهذا الوجود هو الذي يقع في عالم الإمكان، وهو الموضوع الذي سنركز عليه، وهذا النوع الثالث من الوجود، هو المتمثل في عالم الطبيعة والمحسوسات، ويسمى بالوجود الممكن لإمكان حواس الإنسان من إدركه والتعامل مع معطياته العينية بطرق مباشرة، و يقوم على الحقيقة العينية التي يقابلها العدم، والتي يتألف منها الواقع الخارجي، ويحكي عن تلك الحقيقة العينـية والواقعية الخارجية بمفـهوم الوجود العام البديهي، الذي يعد من المفاهيم الفلسفية. وتكون أصالة هذا الوجود نابعة من وجوده بحد ذاته في الحضور العياني الخارجي، وليس من ماهيته، أو ما يراد من الألفاظ المقرونة به، أي أن الأصالة المقصودة في هذا النوع الثالث من الوجود هي الأصالة الحقيقة العينية، وهي الخارجية التي يترتب عليها الآثار، وليس بأصالة الوجود أصالة المفهوم، ولا أصالة المعنى الحرفي للوجود، لأن المعنى الحرفي، سيكون مرتبطاً بماهيته المرسومة في ذهن المتلقي للشكل الوجودي للموجود.
إن الآثار المترتبة على التكوين الأنطولوجي للموجود، هي التي تعطي الصور الخارجية له، وتشكل هيأته التي تنتقل بالمشاهدة الى صورة ذهنية الى عقل المتلقي، ولذلك يكون لهذه الحقيقة الوجودية ثبوتاً وتحققاً بنفسه، بل الوجود عين الثبوت والتحقق، وان للماهيات – وهي التي يقال في جواب ما هو، وتوجد تارة بوجود خارجي فتظهر آثارها، وتارة بوجود ذهني فلا يترتب عليها الآثار – ثبوتاً وتحققاً بالوجود، لا بنفس ذاتها، وأن كانا متحدين في الخارج، أن المفاهيم الاعتبارية العقلية - وهي التي تنتزع من الخارج، وإنما اعتبرها العقل بنوع من التّعمل لضرورة تضطره الى ذلك، كمفاهيم الوجود والوحدة والعلية ونحو ذلك – أيضا لها ثبوت بثبوت مصاديقها المحكية.
إن للوجود حقيقة عيانية مستقلة بذاتها، وأن الماهية هي أمر يرجع ليس لجوهر الموجود، بل لما يسمى الأمر العارض، وهي مختلفة باختلاف العارض الذي يحمل على وجود الموجود، أي أن أصالة الوجود الممكن حقيقة مستقلة، وأن الماهية هي ليست أصله بل هي مضاف اليه، أو هو زائد عليها، على اعتبار أن لكل موجود أصيل ماهية عارضه على وجوده، وهذا الأخير زائد عليها، فكل وجود ذو ماهية، هو ممكن، وكل ممكن هو زائد الماهية، ومن ثم فالماهية هي من خصائص الوجود الإمكاني لا الواجب.
يقسم الفكر الاسلامي الوجود الممكن الى قسمين رئيسين هما (جوهر وعرض)، أما الجوهر فيقسم الى خمسة أقسام هي المادة والصورة والجسم والنفس والعقل .مستند هذا التقسيم في الحقيقة إستقراء ما قام على وجود البرهان من الجواهر . فالعقل هو: الجوهر المجرد عن المادة ذاتاً وفعلاً . والنفس هي: الجوهر المجرد عن المادة ذاتاً والمتعلق بها فعلاً . والمادة هي: الجوهر الحامل للقوة . والصورة الجسمية هي: الجوهر المفيد لفعلية المادة من حيث الامتدادات الثلاثة . والجسم هو: الجوهر الممتد في جهاته الثلاث.
أما (العرض) فقد قسمه الى تسع مقولات وهي (الكم والكيف وألاين ومتى والوضع والجدة و الإضافة وان يفعل وان ينفعل)، وهذا ما اتفق عليه المشاؤون مستندين في ذلك على إستقراء الأعراض . ويقسم الكم في أقسامه الأولية: الى الكم المتصل: وهو ما يمكن أن يفرض فيه أجزاء بينهما حد مشترك، والكم المنفصل: وهو ما كان بخلاف المتصل. أما الكيف فقد قسمها الى أربعة أقسام، الأولى: الكيفيات النفسانية، مثال ذلك كـ(العلم والإرادة والجبن والشجاعة)وغيرها . والكيفيات المختصة بالكميات، مثال (الاستقامة والانحناء والشكل). والكيفيات الاستعدادية، مثال (الانفعال واللين) . والكيفيات المحسوسة المختصة بالحواس الخمسة .أما (الأعراض) المتبقية في: الأين: هيأة حاصلة من نسبة الشيء الى المكان .ومتى: هيأة حاصلة من نسبة الشيء الى الزمان . والوضع: هيأة حاصلة من أجزاء الشيء بعضها الى بعض والمجموع الى الخارج . والجدة: يقال لها(الملك)وهي هيأة حاصــلة من إحــاطة شيء بشيء بحيث ينتقل المحيط بأنتقال المحاط . والإضافة: هيأة حاصلة من تكرر النسبة بين شيئين . والفعل: هيأة حاصلة من تأثـير المــؤثر ما دام يؤثر . والأنفعال: هيأة حاصلة من تأثير المــتأثر ما دام يتأثر .
ويرى الباحثون في الفكر الاسلامي بأن للوجود مفهوماً عاماً ينتزع من الوجود العيني ولهذا يضع ثلاث مقدمات لهذا الانتزاع وهي كالآتي:
1- عند مواجهة الشيء الواقعي فأننا نكون، أما مفهومين الأول هو الوجود وهو مشترك بين المشاهدين والثاني، وهو مختص وهو الماهية .
2- ان المفهوم المشترك بين المشاهدين للشيء هو الوجود، والمختص هو الماهية، ومن ثم يقع هذا التصور تحت بحث زيادة الوجود على الماهية على أعتبار أن تكرر الوجود عند المشاهدين يكون أكثر من مفهوم الماهية المشكلة ذهنياً عند كل مشاهد، وبحسب ثقافته ومعرفته بذلك الشيء .
3- إن انتزاع أي مفهوم حاكي عن الشيء (المشاهد)، يتوقف على مدى تحقق الأمر المنتزع عنه خارجاً، وإذا لم تتحقق المعرفة بالشيء، أو المطابقة في الافهامية بين الشيء والمشاهد فلا تحقق محاكاة الشيء ذهنياً، ومن ثم لا يكون التواصل المعرفي موجود .
ويضع المفكر الاسلامي للوجود مراتب يجعلها موزعه ليس فقط بين الداخل والخارج، أو بين الوجود والماهية بل تأخذ صيغاً أخرى وهي كالآتي:
1- الوجود الكتبي: وهو عبارة عن مجموعة من النقوش الخطية المجعولة والموضوعة من لدن الواضع وهو الإنسان، وفائدتها الحكاية عن الألفاظ بدلاً من النطق بها، فالكتابة وجود جعلي اعتباري حاك عن الوجود اللفظي للأشياء.
2- الوجود اللفظي: وهو عبارة عن أصوات مشتملة على تقاطيع الحروف موضوعة من قبل الواضع، وفائدتها الحكاية عن المفاهيم الذهنية، وهي حكاية قائمة على أساس العلاقة الوضعية بين اللفظ وبين المفهوم في الذهن.
3- الوجود الذهني: وهو عبارة عن مجموع المفاهيم الذهنية الحاكية عن مصاديقها في عالم نفس الأمر، فكل مفهوم حاك عن مصداقه النفس الأمري وان كان مفهوماً عدمياً، إذ إن مفهوم العدم يحكي مصداقه في نفس الأمر، وإن لم يكن له مصداق في الواقع الخارجي.
إذن، فأن نظرية أصالة الوجود تعطينا التصورات التي يمكن ان نبني على وفقها التكوين المسرحي وكما يأتي:
1- الوجود هو وجود الأعيان والماهيات التي تحتاج الى حيثية تقييدية وواسطة في العرض، وكذلك تحتاج الى حيثية تعليلية في حمل الوجود عليها، ويكون أما بالحمل الذاتي أو بالحمل التركيبي .
2- ان للموجود آثاراً تترتب عليه صور خارجية وصور داخلية ذهنية، وبذلك يتحول هذا الوجود الى وجودين خارجي يترتب عليه أثار ووجود ذهني لا يترتب عليه آثار في داخل الذهن .
3- ان الوجود الذهني لا يأخذ شكله في داخل الذهن دون وجود ماهية للوجود الخارجي، هذه الماهية تكون مضافة الى الوجود الخارجي، وكذلك زائدة عليه وتكون رابطة بين الوجودين الخارجي والذهني.
4- ان الماهية هي صورة وشكل لا تعود الى جوهر الوجود بل الى العرض الناتج عن الوجود الخارجي .
5- الوجود يقسم الى جوهر وعرض ولكل واحد منهما له تقسيمات تكون الوجود وأصالته واستقلاليته عن الماهية، بل ان الماهية تأخذ أعتباراتها الثلاثة (المجردة والمطلقة والمخلوطة) من الوجودات الثلاثة (الحق، المطلق، المقيد).
6- للوجود ثلاث مراتب (كتبي، ولفظي، وذهني) هذه المراتب تعطي للوجود أمكانية منة خلال ووسائل للتعبير عن الوجود لتحقيق صوره أو إقرانها بمدلولات أخرى .
7- ان للموجود مفهومين عند المشاهد، الأول مفهوم مشترك بين المشاهدين، ويسمى الوجود، والثاني مفهوم خاص هو الماهية , ويكون الوجود أكثر زيادة وعدد من مفهوم الماهية، وذلك بسبب اشتراك المفهوم الأول بين المشاهدين، في حين يبقى مفهوم الماهية خاص بحسب كل شخص يشاهد الموجود وبحسب خلفيته الفكرية والثقافية .
8- يكون الارتباط بين الوجودين الخارجي والذهني من خلال الحمل الذي يقع بين الموضوع والمحمول، ويكون أما حمل ذاتي من ذات الموضوع، أو حمل تركيبي من خارج ذات الموضوع.
الاستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي
القانون في فلسفة العدالة الكانطية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. علي رسول الربيعي
تحليل من منظور هابرماسي
ساهم كانط في الفلسفة القانونية كثيرًا كما فعل في فروع الفلسفة الأخرى، تمامًا. لقد تأثر واستلهم جان جاك روسو، الذي سعى عقده الاجتماعي إلى حل مشكلة التوفيق بين الإكراه والحرية الفردية. سعت فلسفة كانط للعدالة التي تلعب فيها الحرية دورًا رئيسيًا بالطريقة نفسها إلى تقديم فهم منهجي للمبادئ الأساسية لجميع القوانين التي ستمكننا من تقرير ما إذا كانت هذه القوانين تتفق مع المبادئ الأخلاقية أم لا. سقأوم في ما يلي بأبراز الأفكار الأساسية التي تقف وراء فلسفة كانط للقانون والأخلاق، حتى نتمكن من أن نرى بشكل واضح، مراحل تطور هذه النظرية ومشاكلها أيضاً.
يقول هابرماس لا يتم، عند كانط، تبرير الإكراه أو الإذن بالإكراه إلا على أساس منع إعاقة الحرية، أي منع التعدي على حرية كل فرد؛ وأن المطالبة بصحة القانون يتم التعبير عنها بالاقتران الداخلي بين الإكراه العام المتبادل مع حرية كل فرد.[1] وكما لاحظنا، تلعب الحرية دورًا رئيسيًا في فلسفة كانط. وتتضح أهمية الحرية في فلسفته حول العدالة من الشعور الحقيقي بالاستقلالية والمسؤولية الأخلاقية. لا يمكن للإنسان أن يكون مسؤولاً أخلاقياً عن أفعاله إلا أذا كان كائن مستقل وعقلاني وحر. وبعبارة أخرى، إن جميع الأعمال التي تُنفذ تحت وطأة القوة أو الإكراه لا تتحمل أي مسؤولية أخلاقية. ينطبق هذا الفهم للحرية فيما يتعلق بالأخلاق على نظامه القانوني أيضًا. وأن من الدلائل الأخرى، تدعم نظريته هي فكرة أن يكون الشخص حراً أو يتصرف بحرية قبل أن يعتبر مسؤولاً عن أفعاله قانونياً.
إن حماية هذه الحرية التي تقوم على أن كل شخص يتمتع بالأستقلالية، والأخلاقية، والقانونية تخدم الإكراه في نظرية العدالة في الفلسفة الكانطية. يجذب الإكراه في القواعد القانونية انتباه كل شخص (لأن حريته معنية).وبعبارة أخرى، إن قدرة الشخص على الحرية بعبارة أخرى، تتحد القدرة على الحرية لشخص ما مع قدرة كل شخص آخر، وفقًا لقانون الحرية الشامل. سيتم،في هذه الحالة، فهم الإكراه كوسيلة للحفاظ على الأنتظام في مجتمع من الأعضاء الأحرار. وبالتالي، فإن الإكراه الذي يحمي الحرية ويربط كل الحريات الأخرى يضبط الحرية ويضعها تحت السيطرة في الوقت نفسه. و يشكل هذا أيضا البنية الأساس للعقود الاجتماعية. ومن ثم، وفقًا لنموذج العقد الاجتماعي، يكتب كانط: لا يمكن أن تعزى السلطة التشريعية إلا إلى الإرادة الموحدة للشعب. لأن من المفترض أن تنطلق جميع الحقوق والعدالة من هذه السلطة، فلا يمكن أن تؤدي الى أي ظلم على الإطلاق. عندما يأمرأحدهم الآخر، من الممكن أن يؤدي ذلك الى ظلم الآخر، لكن هذا ليس ممكنًا أبدًا عندما يقرر الشخص هو لنفسه. ومن ثم، فإن الإرادة الموحدة والموافقة للشعب التي بموجبها يقرر كل فرد الشيء نفسه للجميع ويقرر الجميع الشيء نفسه لكل منهم، يمكن التشريع.[2]
السؤال الأول الجاد هنا هو كيف تتحد أو تتحق الإرادة الموحدة للشعب؟ يؤكد النقاد وفقًا لهابرماس أن خيال الإرادة الشعبية الموحدة لا يمكن أن يتحقق إلا على حساب إخفاء أو قمع تجانس الوصايا الفردية. أنا شخصياً أشعر أن طغيان الأغلبية (في ظروف معينة) سيجد منزلاً في فكرة الإرادة الموحدة هذه. يجب مراعاة مجموعة متنوعة من المصالح وتعدد الآراء.
لايمكن، وفقا لهابرماس، من وجهة نظر تحليليلة، إن يكون التصرف طبقاً للواجب، أي طاعة القانون بدوافع أخلاقية، وفقاً لهابرماس، قد حصل بالإكراه. فلا يستدعي هذا التصرف أي حاجة للإكراه، لأنه ليس من المناسب تأديب شخص يطيع القانون. لا يمكن، من ناحية أخرى، توحيد أو مزج بين الاختيار الحر لكل شخص مع أختيارات الآخرين من أجل التكامل الاجتماعي، إلا على أساس قواعد صالحة من الناحية المعيارية ودون إكراه، وهذا يعني، أن ياتي بدوافع عقلانية، واعتراف من وجهة النظر الأخلاقية، ووفقًا لقانون الحرية الشامل.[3]
إن التصرف حسب الواجب هو أختيار حر، حتى عندما يكون الأختيار صعبًا، لكن طالما أنه تصرف أو فعل أخلاقي، فلا يلزم الإجبار به أو إعاقته بالإكراه. عندئذ، يتطلب توحيد الاختيار الحر لكل منها مع الآخرين بعض التحديد، حتى لو تم ذلك وفقًا لقانون الحرية الشامل. سيكون، هنا، السؤال الضروري هو: ما الذي يمكنني اختياره ويتوافق مع اختيارك واختيار كل شخص آخر؟ مع الأخذ في الاعتبار الاختلافات في الذوق ووجهات النظر. يشير هابرماس إلى أن هذا (التكامل الاجتماعي) لا يمكن تحقيقه إلا على أساس قواعد صالحة من الناحية المعيارية دون إكراه. يبدو لي أن هذه القاعدة المعيارية الصالحة اليوم حتى أكثر مما كانت عليه في زمن كانط. يجب أن يكون لهذه القاعدة الصحيحة ما يبرر أسبابها أو مطالبها في مجتمع تعددي قبل أن تستحق اهتمامًا بعدم قسريًة خطابها. ما أقوله في الواقع هو أن توحيد كل اختيار حر يتطلب تحديداً وتعريفًا في عصرنا أكثر مما هو مطلوب في وقت كانط . ويلاحظ هابرماس أيضا من من منظو نظر نظرية الفعل التواصلي أن هناك جوانب مزدوجة للصلاحية القانونية وهي الإكراه والحرية. هذان العنصران موجهان نحو الشرعية والاعتراف الاجتماعي وهما من الصفات المميزة للقانون الشرعي الساري. يتم تحديد الصلاحية الاجتماعية للمعايير القانونية، وفقًا لهابرماس، من خلال الدرجة التي يتم بها تطبيق هذه المعايير، وبالتالي بمقدار ما يمكن للمرء توقع فعليًا قبولها من قبل دائرة التوافقات القانونية. كذلك يتم قياس شرعية القواعد من قدرة الخطاب أكتساب متطلبات صلاحيته المعيارية؛ أيً وفقًا لما إذا كانت قد حصلت من خلال عملية تشريعية عقلانية، أو على الأقل يمكن تبريرها من وجهة نظر براغماتية أو أخلاقية.[4] هذا يعني أن كل قاعدة يجب أن تكون قادرة على تبرير سبب وجودها. ولا يكفي وضع القواعد، فالمطلوب أن تكون القواعد مقبولة اجتماعيًا وأن تكون متسقة مع النظام القانوني المعترف به وأن تأتي من سلطة شرعية صحيحة تتمتع بحق التشريع.
عندما نسلط الضوء على هذه الشروط على خلفية فلسفة العدالة الكانطية، يصبح الفرق واضحاً. أقام كانط نظريته المثالية الأخلاقية والقانونية على الحرية. ومع ذلك، فقد أدرح الحرية نفسها من بين النقائض في "نقد العقل المحض"، وهي تلك الأشياء التي يمكن أن تكون أو لا تكون. وفي حالة الحرية، قد تكون محدودة أو غير محدودة، اعتمادًا على مسارالحجة. يطرح هذا التوجه مشكلة جدية في مايتعلق بتطبيق النظرية القانونية الكانطية في مجتمعات الحالية. فلا يزال بوسعنا أن نتصور هذه الطبيعة القطبية للحرية في النظرية القانونية الأخلاقية. هنا، تتمثل الوظيفة الفريدة للإكراه في منع إعاقة الحرية، أو عرقلة الحرية في حماية الحرية. يمكن للمرء أن يجادل بأن إعاقة الحرية غير المسيطر عليها والخطرة، يتم بالقانون، وبهذا المعنى، هي حرية مؤسسية مقبولة تفرض قيودا على بعض الحريات الأخرى..على الرغم من ذلك، طالما أن السلطة غالبًا ما تُسكر بعض أصحابها، فقد نحتاج إلى بعض المعايير لتحديد الوسائل القسرية وكيف ومتى نطبقها لحماية الحرية.
لقد أرسى كانط، تحت تأثير روسو، الأساس القانوني للأعتراف بحقوق كل شخص، أو يفترض أن يتم الاعتراف بها من قبل جميع الأشخاص الآخرين. ويعتمد هذا بدوره على الشرعية التي تأتي من إعطاء حرية متساوية لكل شخص. ومن ثم يمكن ان تتعايش حرية الجميع.
ومع ذلك، يبدو أن هذا الإنجاز أو صحة الأساس القانوني عند كانط أحد ضحايا مصادفات التاريخ في التطور القانوني. كان يمكن أن ينجح بشكل جيد لو لم الفصل والتمييز بشكل كبير بين القانون والأخلاق. اذ لم يعد، العصر وفقًا لهابرماس، من الممكن أن تستمد الشرعية القانونية من الحرية الأخلاقية في هذا سأوضح هذا لاحقاً. علاوة على ذلك، تم تطوير فلسفة كانط عن العدالة تحت تأثير ما يسميه هابرماس فلسفة الذاتية أو فلسفة الوعي، أي في الوقت الذي كانت تلعب فيه الذات دورًا رئيسيًا في الفلسفة. فلسفة الذاتية هذه ابدأت مع الكوجيتو الديكارتي واستمرت مع كانط ..الخ.، حيث سيطرت الأنا، النفس، أو الذات، على الأفكار الفلسفية. ونشهد هذا في ثورة كانط الكوبرنيكية، حيث لم يعد العقل سلبيًا ولكنه نشط وفعاًل، ويقوم بفرضَ الشروط المسبقة للمعرفة والفهم.
لقد حصلت أشياء كثيرة داخل النظم الاجتماعية منذ زمن كانط حتى اليوم. فقد حدث ترشيد النظم الاجتماعية وهذا أثر كثيراً على النظم القانونية. ونما المجتمع وتحول من التوحيد إلى التعددية، من الذاتية إلى الموضوعية ومن عالم واحد إلى العديد من العوالم. وعليه، فإن بعض المبادئ التي استندت أو استمدت من الافتراضات الشائعة للحقيقة غير القابلة للنقاش في ذلك الوقت أصبحت قضايا محل جدل. فعلى سبيل المثال يكتب كانط، عندما أفكر في ما يجب أن أقوم به، فأنا أفكر أيضًا في ما يجب أن تفعله جميع الكائنات العاقلة، لأنه إذا كان القانون أو القانون الأخلاقي صالحين بالنسبة لي ككائن عاقل، فيجب أن يكون صالحًا لجميع الكائنات العاقلة. لذلك، هناك اختبار رئيس لجميع الأعمال الجيدة من الناحية الأخلاقية، وهو ما إذا كان يمكن تطبيق مبدأه على جميع الكائنات العاقلة بشكل ثابت ومستمر.[5]
دون أي شك بشأن حقيقة المبادئ الأخلاقية الصحيحة أو التي تمتلك الشرعية الآن، قد يكون من الصعب تبرير الادعاء بأن نظرتي الى الفعل الصحيح من ناحية الحق يمكن أن تمثل بشكل مطابق وصحيح وجهة نظر جميع الكائنات العقلانية المتساوية. وهذا لأن العقلانية نفسها تم ترشيدها. ويصبح الأمر أكثر أشكاليًة و صعوبة عندما نكتشف أنه لا أحد يتحدث من موقع معلق في الفراغ. وبالتالي قد يكون من الصعب تجنب سلاسل من التأثيرات مثل الوراثية - الجينية والاجتماعية والثقافية والبيئية والتقنية والنفسية والأنثروبولوجية والنفعية والسياسية والدينية، على سبيل المثال لا الحصر. قد يجادل المرء بأن الخير أو فكرة الخير تتجاوز كل هذه العوامل المذكورة. يمكن أن تدعي مثل هذه الحجة أن الدليل هو تقديرنا المشترك لأشياء مثل أن الحياة هبة، والصفات الجمالية، والموسيقى، وما إلى ذلك. يمكن الأعتقاد أن هذه الحجة قد تصمد لكن جينالوجيا الأخلاق لنيتشه تتركنا في حيرة، من أمرنا .وعلى كل حال، منذ زمن نيتشه إلى اليوم يرفض صوت الأخلاق أن يدفن حيًا. المشكلة العنيدة هي كيف نحدد القضايا الأخلاقية؟ أعتقد أن هذه واحدة من أولى المهام التي يجب على الكانطيين الجدد الوفاء بها، قبل مراجعة المبادئ الأخلاقية الكانطية.
مرة أخرى، في زمن كانط، قد يكون من المفيد استخدام تقديري الشخصي للأفعال الأخلاقية كمعيار لجميع الموضوعات العقلانية الأخرى، واليوم، فإن مقولة " رأسان أفضل من واحد '' هي أكثر صحة. ومن ثم، ينصب انتباهنا على البيذاتية. لقد انتقلنا من المونولوج إلى الحوار، من الإملاء إلى المناقشة، من نظرية التأمل إلى نظرية الخطاب. يتساءل المرء إلى أي مدى يمكن أن يذهب الاختبار الكانطي لفعل أخلاقي جيد في المجتمع التعددي مثل مجتمعنا، حيث يتنافس الأشخاص الذين لديهم العديد من وجهات النظر والتوجهات والأهداف العالمية المختلفة في عالم حر. الموقف الذي تعتبر فيه الأفعال المبررة أخلاقياً لمجتمع أو جماعة أو جمعية ما تشهيرًا وغضبًا وفجورًا من قبل الآخرين.
تصبح مسألة صحة أساس النظرية القانونية الكانطية أكثر إشكالية بسبب حقيقة أن نظريته القانونية مشتقة من المبادئ الأخلاقية. إن النظرية هي تطبيق لنتائج الفلسفة الأخلاقية على ظروف البشر الذين يعتبرون مجرد بشر. يوضح هابرماس ذلك بجلاء عندما يلاحظ أن كانط يحصل على المبدأ العام للحق من خلال تطبيق المبدأ الأخلاقي على العلاقات الخارجية ويبدأ نظريته القانونية بهذا الحق المستحق لكل كائن بشري بحكم إنسانيته، أي الحق في التبعية المتساوية. حريات فعلية مدعومة باستحقاقات الإكراه.[6] سوف نفهم هذا بشكل أفضل بعد إلقاء نظرة على المحتوى المعياري لنظام الحقوق.
إن نظام الحقوق هذا (الحقوق الشخصية)، الذي ينتمي إلىه كل كائن بشري غير قابل للتصرف، ولايمكن التخلي عن هذه الحقوق حتى لو اراد المرء، ويتم إضفاء الشرعية عليها قبل تسن في شكل قوانين، على أساس المبادئ الأخلاقية، و بشكل منفصل عن أن الاستقلال السياسي للمواطنين الذي يشكل في البداية مع العقود الاجتماعية فقط.[7] وهذا يعني، أن شرعية نظام الحقوق الكانطية يتم قبل استيعاب أو تشريع هذه الحقوق على شكل قوانين. وتستند شرعيتها إلى مبادئ أخلاقية مستقلة عن الاستقلال السياسي. وعليه ليست شرعيتها سوى جزء من الكل. إنها شرعية خاصة فقط ولا يمكنها التأثير على الاستقلال العام أو السياسي للمواطنين. الحق المدني فقط هو المؤهل لهذا الاستقلال السياسي. لذلك، تؤكد فلسفة العدالة الكانطية على الاستقلالية الأخلاقية على حساب الاستقلال السياسي.
تسبق حرية الذات عند كانط إرادة المشرع السيادي، وفقا لهابرماس. وبالتالي، فإن سيادة الإرادة المتوافقة و المتزامنة والموحدة للمواطنين مقيدة بحقوق الإنسان القائمة على اسس أخلاقية. يحمي هذا الحق الأفراد من التدخل الخارجي. وغالبا ما يطلق عليه حق سلبي أو حرية سلبية. يمكن للأفراد، من خلال الحقوق السلبية أن ينسحبوا من الفضاء العام للالتزامات المتبادلة.
ومع ذلك، فإن اشتقاق النظرية القانونية من الحرية الذاتية يضع قيودًا خطيرة على هذه النظرية القانونية. يحمل مصطلح الحرية الذاتية معنى الحرية والحق والاستقلال والامتياز والحكم الذاتي. ومن هنا يمكن قراءة مصطلح حرية الذات وفهمها كحق شخصي أو حرية ذاتية وما إلى ذلك. تكشف نظرية الخطاب في القانون أيضًا أنه وفقًا للحق الشخصي الذي يحمي خصوصية كل فرد، يتمتع كل مواطن ( كل شخص) أيضًا بالحق المدني أو بالحق السياسي. فبينما يكون الحق الشخصي خاص، تكون الحقوق المدنية عامة. ويمكن للشخص مع الحقوق المدنية الانخراط في التواصل البيذاتي والأنشطة العامة، السياسة مثلاً. لا يمكن للحق الذاتي وحده أن يؤهل الشخص للأنشطة السياسية. كذلك، لا يمكن أن ينبثق القانون الحديث من وراء الترتيب السياسي. لذلك، فإن النظرية القانونية الكانطية، التي تنبثق من الحقوق الشخصية، تحرز درجات أقل في النسق أو مجال الحقوق اليوم، وبالتالي لم تعد مؤهلة لمجابهة التحديات والأختيارات والتفضيلات الحالية. لا يدمر هذا نبل الشرعية الكانطية، لكنه لا يدخل في السياق القانوني الحالي. وحتى اذا مازال يستخدمها بعض المحامين والقضاة فأن هذا لا يبرر صلاحيتها في تقييمنا الحالي.
في الدولة الديمقراطية التي تدار فيها الحكومة بموجب القانون، القانون الوحيد هو القانون الذي يتمتع بالحماية التشريعية. لا يمكن تحقيق مثل هذه الحماية إلا من خلال ترخيص الحقوق المدنية. ويمكن أن يأتي هذا من خلال سلطة الهيئة التشريعية أو السلطة القضائية في بعض الأحيان. وحتى المدخل الأساسي للمنصب التشريعي يتطلب هذا الحق المدني أو السياسي. ولا بد من إضافة مؤهلات أخرى إلى هذا الحق. وبالاسلوب نفسه، تتمتع شرعية القانون بدعم الحقوق المدنية من قبل المواطنين الذين يقبلون مثل هذا القانون على انه قانون خاص بهم.
وعلى اساس هذا الفهم، سيكون هناك تشويش خطير إذا كانت السلطة التشريعية تعتمد على الحقوق الشخصية. هذا يعني أن أي شخص في أي مكان له الحق في المشاركة السياسية في كل موقع، فيما يتعلق بحرية الشخص. يجب أن نتذكر أن الحرية الذاتية هي حق خاص - شخصي يبقى مع الفرد بقدر ما هو هي شخص بشري. أحد الأسئلة الحاسمة هو كيف يمكننا إذن أن نوفر للقانون الحديث، البعد الأخلاقي المهم الذي يتمتع به القانون في النظرية الكانطية؟ إن فصل الأخلاق عن القانون بطريقة محكمة قد يعطي وجهاً غير إنساني للشرعية. بعد كل شيء، نفس الشخص الذي هو كائن قانوني هو أيضًا كائن أخلاقي؛ من المفترض أن تكون المعايير القانونية والأخلاقية موجودة من أجل رفاهية الإنسان.
الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ
............................
[1] Habermas, J, Between Facts and Norms: Contributions to a Discourse Theory of Law and Democracy, Polity Press; 1997.28.
[2] Kant; Metaphysical Element of Justice, trans. J.
Ladd, New York, 1965 p78.
[3] Habermas, J, Between Facts and Norms: Contributions to a Discourse Theory of Law and Democracy,28-29.
[4] Habermas, J, Between Facts and Norms: Contributions to a Discourse Theory of Law and Democracy,30.
[5] S.E. Stumpf; Philosophy History and Problems. McGraw-Hill, Inc. 1994 p.316.
[6] Habermas, J, Between Facts and Norms: Contributions to a Discourse Theory of Law and Democracy,100.
[7] Habermas, J, Between Facts and Norms: Contributions to a Discourse Theory of Law and Democracy,101.
ليوناردوا دافنشي رائد التشريح الحديث
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. محمود محمد علي
كانت دعوة الفنان الإيطالي ليوناردوا دافنشى فى الرجوع لكشف أسرار الطبيعة ذات أثر فعال فى أن يتناول أموراً مختلفة المدى من مسائل تتعلق بتشريح ووظائف الأعضاء، حيث كان يعد بحق عبقرية من طراز فريد، فهو فناناً، ومهندساً، ومعمارياً، ومكتشفاً، وباحثا فى ميكانيكا الجسم البشرى، بالطبع هو لم يتلق تعليما طبيا لكن مخططاته التشريحية تظهر محاولته للربط بين تشريح الجسم البشرى وفن العمارة، تتركز حول تشريح الرأس ورسم الجمجمة من الخارج والداخل، ولكن رؤيته للمخ البشرى ظلت تقليدية.
ويذكر أنه قضى ليالى طويلة فى المقابر يشرح الجثث على ضوء الشموع ويقال أنه قام بتشريح 30 جثة، بعدها قدم اسهاماته الأساسية لفن التشريح بالرسم والشرح، بدءا بتشريح العضلات والأوعية الدموية والأعصاب والجهاز التنفسى وأغشية الجنين والقلب وترك آلافا من الرسوم التوضحية بقى منها سبعمائة وخمسون لوحة تشريحية، وكان اول من رسم أعضاء الجسم البشرى من أربع جهات بما يعطى رؤية متكاملة للعضو او الجزء المرسوم وكان أيضا أول من استخدم تقنية حقن الأعضاء المجوفة بالشمع السائل لكى تظل محتفطة بشكلها الطبيعى.
سجل ليوناردو دافنشى مقاييس التشريح أبرع تسجيل فى لوحته الشهيرة "الرجل الفيتروفى "Vitruvian Man، حيث ساعده معرفته الواسعة بالتشريح والهندسة المعمارية، واللوحة تعبّر عن فهم الفنان للعلاقة الوثيقة بين الإنسان والطبيعة، إذ كان دافنشى يعتقد بأن وظائف جسم الإنسان تشبه كثيرا وظائف الكون وتتكامل معها؛ حيث يقول في مذكراته: " على المصور أن يلم بالضرورة المعارف التشريحية المتعلقة بأشكال العضلات والأوتار والعظام والأربطة، وذلك لكى يصبح قادراً على عمل صياغات جيدة لأعضاء الجسم العادى، وأن يختار أوضاعاً لحركات مناسبة لشخوصه، لأن بإلمامه لهذه العلوم سيدرك أين يكون موضع هذا الوتر أو العضلة عند أداء هذه أو تلك الحركة وما هى العضلة التى تسبب الحركة .
ثم يذكر دافنشى فى أكثر من موضع من مذكراته على أنه أنجز بحثاً مفصلاً فى تشريح جسم الإنسان. وقد تمكن بعض الباحثين من العثور على قطع متناثرة من هذا الكتاب . ومن أقواله الشهيرة التي وردت عنه في تلك لقطع قولة: " سأوضح لك تصويري الإنسان تماماً كما لو كان أى إنسان حقيقي أمامك. والسبب هو أنك لو رغبت فى معرفة أجزاء الإنسان مشرح معرفة وافية، فيجب أن تدير عينيك لتفحصه من جميع الجوانب – من أسفل ومن أعلى، ومن الجانبين، مقلباً الفحوص وباحثاً عن أصل كل عضو . وبهذه الطريقة ترضى نفسك بشأن معرفتك بالتشريح الفعلى .
ويصف دافنشى كمثال للطريقة التى يأمل أن يوضح أجزاء معينة من الجسم مثل اليد من الداخل، فيقول: " عندما تبدأ يدك من الداخل، قم أولاً بفصل كل العظام قليلا عن بعضها البعض حتى يمكن التعرف على الشكل الصحيح أو التعرف على كل عظمة على الجانب الداخلي لليد، وكلما كانت المسافة بينهما أكبر كلما حصلت على العدد والموضع الصحيح لكل منهما، ثم قم بإعداد بعصهما منشورة من منتصف سمكها، أى طولياً، حتى يمكنك أن تبين أيهما خاوى، وأيهما ملئ. وبعد ذلك ضع العظام معاً مفصلة بشكل مناسب، واسحب ثم سجل مفاصل أشكال العظم الأولى . والتوضيح التالي سيكون توضيح العضلات التى تربط عظام الرسغ وشط اليد وسلاميات أو عظام الأصابع معا، والخامس سيوضح الأحبال التى تحرك المفاصل الثانية للأصابع، والسادس سيوضح الأحبال التى تحرك المفاصل الثانية للأصابع، والسابع سيوضح الأعصاب التى تمنح الحساسية، والتاسع سيوضح الأوردة والشرايين . والعاشر سيوضح اليد السليمة كاملة بجلدها وقياساتها، وأي القياسات ينبغي أخذهما للعظام . وآياً كان ما تفعله لهذا الجانب من اليد ستفعله أيضاً للجوانب الثلاثة الأخرى ؛ أى من الجانب الداخلي، ومن الجانب الظهري ومن الجانب الخارجي .
ولم يكتف دافنشى بوصف تشريح الإنسان بالقول، بل أضاف إلى أقواله الرسوم التى فاقت كل ما رسم قبلها فى هذا الميدان، والتى لا يخطئها الحصر للجنين والقلب والرئتين والهيكل العظمى والجهاز العضلى والأمعاء والعين والجمجمة والمخ …الخ .
وإذا تتبعنا جهود دافنشى فى التشريح، فإن معظم الباحثين يؤكدون أنه مارس التشريح بعناية أثناء ثلاثة مراحل فى حياته: فى ميلانو حوالى 1490، وفى فلورنسا ما بين 1503-1506، ثم فى ميلان مرة أخرى بين 1510-1511 وكانت هذه المرة الأخيرة بالتعاون مع الطبيب" مارك ديلاتور" .
ومن الدراسات التشريحية التي قام بها دافنشى خلال تلك المراحل - منها أنه على حد قوله قيامه بتشريح ثلاثين جثة آدمية، ابتداء من الجنين إلى العجوز المئوى، وقد كتب فى ذلك ما نصه: " شرحت أكثر من ثلاثين جثة بشرية، وكنت أشرح كل عضو من أعضائها، واستهلك كل جزء من لحومها، لكى استخرج العروق التى من حولها دون أن نخرج الدماء منها، إلا فيما يتعلق بالشرايين التى كانت تصيبها بعض الجروح الخفية، ولم يكن يكفيني العمل فى جثة واحدة، بل كنت أنتقل من جثة إلى جثة لأحصل على معلومات كافية، وأكرر العملية لكى يتضح الفرق بين النتيجتين، وما أكثر هذه الجثث، حيث كانت تصلني هذه الجثث بمجرد أن تخرج من أيدي من كان موكلاً إليه أمر الكشف عليها، فتصبح هذه الجثث مشوهة بحيث لا يجرؤ أى إنسان علي الاقتراب منها.
ويذكر " ادموندوا سولمى " في كتابه بعنوان " ليوناردو" ؛ أن دافنشى كان يتعلم تشريح تلك الجثث فى مستشفى " سانت ماريا نودفا " بمدينة فلورنسا، ولقد كانت ممارسته لأعمال التشريح فى تلك المستشفى، أن اكتشف كثيراً من الأخطاء التى وقع فيها السابقون عليه .
فمثلا أثبت دافنشى خطأ قول جالينوس" من الوريد الرئوي يحمل الهواء مباشرة إلى القلب، وأن للقلب تجويفين فقط، وأثبت أن للقلب أربعة تجاويف . وبحث فى حركة فيها بواسطة النماذج التى عملها. وعمل قالباً للشمع على بطينات القلب وأوعيتها الدموية، ومنه أنه عمل قالباً من الجبس وطبقه على زجاج، وبواسطة هذا النموذج الزجاجي وفحص الدورات التى يقوم بها الدم بالسير فى اتجاه واحد فقط .
وأثبت فى أكثر من موضع من دراساته التشريحية، أنه يستطيع أن يعطى أفكارا صحيحة عن جسم الإنسان، وقد كتب فى ذلك يقول: " وهكذا نستطيع إعطاء أخبار صحيحة عن جسم الإنسان الذى لم يستطع الكتاب القدامى والعصريون إعطاء أخبار صحيحة عنه بدون ذكر أوصاف مضطربة وغامضة ومستفيضة عنه. ولكن هذه طريقة مختصرة لتصويره من مختلف مظاهره تجعل من السهل إعطاء أخبار حقيقية وكاملة عنه، ولذلك فلن تضيع إرشاداتي للناس فى هذا السبيل سدى، إذ أنى أعلمهم طريقة إظهاره فى نظام وترتيب .
ومما يؤكد تفوق دافنشى فى التشريح على من سبقه أنه توصل بالتجربة عن تركيب تجاويف المخ ؛ بأن أدخل شمعاً مذاباً فى مخ انتزعه من الجمجمة، وطريقته فى ذلك: " اعمل ثقبين للهواء فى قرن التجويف الأكبر، وأدخل الشمع المذاب فيه، وفى نفس الوقت ‘مل ثقباً فى المخ الحقيقي فى التجاويف الثلاثة، ولكن أدخل أولاً الأنابيب الدقيقة فى ثقوب الهواء ينزح الهواء ليحل محله الشمع .
واكتشف دافنشى من تجاربه على الضفادع أن النخاع الشوكى أسبق بيولوجياً من المخ، وقال: " تستمر الحياة فى الضفدعة لبضع ساعات بعد انتزاع قلبها ورأسها وقلبها وأمعائها، ولكنها تفقد الحياة إذا ما خرق النخاع الشوكى، ومن ذلك يظهر أنه أصل الحياة والحركة "؛ ولاحظ دافنشى من بحوثه فى الرئة أن التراب ضار، ويبدو أنه كان يدرك سبب أمراض الرئة .
كما اكتشف من تجاربه أن تشكيل الطفل فى رحم الأم يخضع لعامل الوراثة، وفى هذا يقول: " أن الناس السود في إثيوبيا ليس سببهم الشمس، لأنه إذا قام رجل أسود بتخصيب إمراه سوداء فى سيكيثا (أوربا الشرقية) فإنها تلد طفلاً أشيب اللون، وهذا يدل على أن منى الأم له قوة مساوية فى الجنين لمنى الأب .
وفى دراساته لعمل العظام كروافع وخاصة فى ميكانيزم كمب، أي إدارة اليد، بحيث تصبح راحتها متجهة إلى أدنى عند الذراع إلى الأرقام على أفقى أو استلقاء الساعد، حول دافنشى موقفه العظيم بالتشريح إلى وصف ممتاز يفوق الخيال .
ويطول بنا السرد لو تتبعنا ريادة دافنشي فى التشريح عند دافنشى، خاصة، وأن رساماته التشريحية لا حصر لها سواء فى علم العظام وعلم الأجنة وعلم التشريح المقارن . هذا بالإضافة إلى الآراء التشريحية القيمة حول الجهاز العصبي والجهاز التناسلي والجهاز البولي . وهذا إن دل على شئ، فإنما يدل على أن دافنشى يعد بحق من أعظم فنانى عصر النهضة الذين اهتموا بعلم التشريح ووضع أصوله قبل " أندرياس فيساليوس" Vesalius Andereas .
د. محمود محمد علي
قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط
محمد إقبال المفكر.. شاعر التصوف والتسامح
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. يسري عبد الغني
حتى اليوم ما زال النشطاء السياسيون من كافة الأطياف السياسية في باكستان يستشهدون بما قاله محمد إقبال، الأب الروحي لباكستان وأحد أهم الفلاسفة في القرن العشرين. ومن المتوقع أن يظل إقبال يضطلع بدور مهم في مستقبل باكستان أيضاً.
الفردية، وتفتح الشخصية في حرية، والعمل بحماسة لخير الجميع: هذه هي أسس الإسلام في نظر الأب الروحي لباكستان، الشاعر محمد إقبال (1877 – 1938).
من بين الشخصيات التي أسست باكستان هناك أيضاً شاعر، هو محمد إقبال (1877 – 1938). وليس هذا بمستغرب، إذ إن القصيدة يُنظر إليها في كل القارة الآسيوية على أنها التعبير المباشر لثقافة الإنسان. إضافةً إلى كونه شاعراً، كان محمد إقبال أحد الفلاسفة المهمين في القرن العشرين. كان ينظر إلى الفردية وتفتح الشخصية في حرية والعمل بحماسة لخير الجميع أساس الإسلام، كما كان ضليعاً في أعمال الفلاسفة كانط وهيغل ونيتشه وبرغسون، أكثر من أي مفكر مسلم آخر. كل هذا صاغه في أبيات شعرية، وهكذا تحول إلى قرين إسلامي للشاعر طاغور، وبعد رحيله أضحى الشاعر القومي لباكستان. أما فلسفته فتُدرس في مدارس باكستان، كما تُضمّن العديد من الصحف اليومية هناك أبواباً يومية تحتوي على أبيات من شعره.
ولد محمد إقبال في سيالكوت، وهي مدينة غير بعيدة عن إمارة كشمير آنذاك، والتي تشتهر اليوم بكرة القدم على وجه الخصوص. كان والداه يتمتعان بالتقوى والورع الشديدين، وكانا يتبنيان اتجاهاً صوفياً في الإسلام يؤمن بوحدة الوجود، وهو ما اعتنقه إقبال في البداية قبل أن يكافحه لاحقاً بضراوة. غير أنه بقي مسلماً ورعاً طيلة حياته.
أفكار مؤثرة
وفي المرحلة المدرسية تعرف إقبال على الشعراء الرومانسيين في انكلترا، وعلى غرار أسلوبهم صاغ قصائده الأولى. وكما كان معتاداً آنذاك تزوج مبكراً في سن الثامنة عشرة، ثم بدأ دراسته في لاهور، عاصمة إقليم البنجاب. كانت لاهور آنذاك مدينة متعددة الثقافات تعيش فيها أقلية إسلامية ضئيلة، غير أنها كانت مشهورة بحياتها الثقافية، أما أفكارها التحديثية ونزعاتها الرومانسية القومية فكانت محل جدل شديد. من جانبه شارك محمد إقبال في الندوات الشعرية، كما أنه كان ينشر قصائده الأولى باللغة الأُردية بانتظام منذ عام 1901. كانت تلك الأشعار متأثرة بالنزعة الرومانسية، وفيما بعد كانت رومانسية قومية، مثل الأنشودة الهندية التي تُغنى اليوم في العيد القومي الهندي. كما كتب إقبال قصائد للأطفال، كانت هي الأولى في الأدب الأُردي.
لقاء مع العالم الفكري الغربي:
بدأ محمد إقبال يدرس الحقوق والفلسفة في جامعة كامبردج عام 1905 قبل أن يعود عام 1908 إلى لاهور.
وفي عام 1905 رحل محمد إقبال إلى كامبردج، حيث شرع في دراسة الفلسفة لدى جون ماك تاجرت، أحد أنصار المذهب الهيجلي الجديد، وإلى جانب ذلك درس الحقوق. ولأنه كان لا بد أن يقرأ أعمال هيجل بالألمانية، سافر في عام 1907 إلى هايدلبرج، وهناك أحب المعلمة إيمّه فيجيناست التي كان يتلقى على يديها دروس اللغة الألمانية. عرفتّه المعلمة بكتاب "فاوست" لجوته، وكذلك بأعمال هاينريش هاينه ونيتشه. كان المستقبل موصوداً أمام تلك العلاقة – التي كانت بالتأكيد عفيفة للغاية – غير أنها أثرت بشدة على إقبال ورؤيته الفيلهلمينية للثقافة الألمانية. حصل محمد إقبال على رسالة الدكتوراة من جامعة ميونيخ عن أطروحة بعنوان "تطور الفلسفة في إيران"، ثم عاد في عام 1908 إلى لاهور.
التقدم والأخلاق...
في لاهور بدأ يدّرس في الجامعة إلى جانب عمله محامياً. غير أنه وقع في أزمة روحية عنيفة أدت به إلى أن يهتدي إلى طريقه الخاص إلى الإسلام، المتأثر بآراء غوته وهيغل ونيتشه. وحسب تأويله فإن تحقيق الذات والطموح إلى نموذج الإنسان الفاوستي (الباحث عن المعرفة) هما جوهر الإسلام. ومن قصائده التعليمية في تلك الفترة التي توضح ذلك قصيدة "شكوى وإجابة" (1912) التي كتبها بالأردية، وقصيدة "أسرار الذات" (1915) بالفارسية. وقد اعتبرت الدوائر التقليدية كلا القصيدتين تعدياً على الذات الإلهية، أما الفضيحة التي أعقبت ذلك فقد جعلت من إقبال شاعراً مشهوراً. استطاع إقبال أن يدفع عن نفسه تهمة الهرطقة بعمله التالي الذي يحمل عنوان "أسرار إنكار الذات" (1918).
ليس الأفراد وحدهم هم من يحققون ذاتهم، كلا، إن الشعوب يمكنها أن تحقق ذاتها أيضاً: هذه هي النقطة الأساسية في فلسفة إقبال بخصوص تحقيق الذات، وهو ما يعني الاستغناء عن الاستعمار في حالة الهند البريطانية؛ فالايديولوجية الاستعمارية تدّعي أنها تجلب العلم العقلاني والتقنية للهنود "العاطفيين". قلب إقبال هذا الادعاء بإعلانه أن القيم لا يمكن سبر أغوارها إلا بالعاطفة، وأن الانهيار سيصيب الغرب ما لم يتعلم أن يتحمس للقيم مثلما يفعل الإسلام. إن التحمس للتقدم الأخلاقي بمعنى تحقيق الذات الشامل يسميه إقبال "الحب"، أما موطن هذا الموقف الذهني فكان بالنسبة له الشرق. هذه الرؤية ما زالت منتشرة حتى اليوم في باكستان.
"الرومي، القائد الروحي ذو القلب المنير، قائد قافلة الحب والنشوة الروحية ...": بهذه الكلمات تغنى إقبال بالصوفي الفارسي مولانا جلال الدين الرومي.
في سنوات الأزمة لم يتحول إقبال إلى شخص يدعو إلى التحديث الإسلامي فحسب، بل أيضاً داعية للأمة الإسلامية الواحدة. رأى إقبال أن القومية قد أدت في أوروبا إلى إشعال نيران الحروب، لذلك وجد في الإسلام قوة رائدة توحد بين البشر جميعاً وتقودهم إلى "الحب" والأخلاق وتحقيق الذات. وفي عام 1923 نشر إقبال ديوانه "رسالة الشرق" (وقد ترجمت الديوان إلى الألمانية المستشرقة آنه ماري شيميل)، وهو بمثابة رد على "ديوان الشرق والغرب" ليوهان فولفجانج فون جوته، ويضم مجموعة من القصائد التي صاغها بالأردية، وفي عام 1924 نشر ديوانه التالي بعنوان "رنين أجراس القافلة" (وترجم كريستوف بورجل مختارات منها إلى الألمانية).
في السنوات التالية اتجه إقبال إلى السياسة، ثم شرح فلسفته في كتاب "ست محاضرات لإحياء الفكر الديني في الإسلام" (1928/1929). وفي افتتاح اللقاء السنوي لحزبه ألقى إقبال خطاباً عام 1930 اعتبره اللاحقون في باكستان بمثابة الساعة التي ولدت فيها فكرة باكستان كدولة. طالب إقبال في الخطاب بضم المناطق ذات الأغلبية المسلمة في غرب الهند وصهرها في منطقة واحدة. ولم يحدد إقبال ما إذا كانت تلك المنطقة ستكون داخل الهند أم خارجها. ولا شك أنه كان سيشعر بالغبطة عند تأسيس دولة باكستان، لكنه – مثل كثيرين – كان يستشعر سريعاً بخيبة أمل بسبب سيادة التفكير المحلي وغياب إرادة التحديث.
شاعر للمستقبل
في عامي 1931 و1932 شارك إقبال في المؤتمر المنعقد في لندن حول مستقبل الهند، وسافر مرة أخرى في ربوع أوروبا (غير أنه لم يقابل إيمّه، معلمته الألمانية السابقة). بعد ذلك نشر ملحمة بعنوان "كتاب الأبدية" (ترجمتها إلى الألمانية آنه ماري شيميل). وتمثل هذه الملحمة مدخلاً جيداً إلى فكره، وفيها يقوم إقبال برحلة سماوية مُتخَيلة يحاور خلالها شعراء ومفكرين وسياسيين راحلين. وفي عام 1933 كان محمد إقبال أحد مؤسسي جامعة كابول. وفي العام التالي نشر ديواناً شعرياً آخر بالأردية بعنوان "رفرفة غبريال"، ومنه هذه الرباعية: "في كل شرارة قلب خبئ / متى ظهرت يكون القلب مستعداً / ورغم القيود التي تكبله بالأمس والغد / لا يقف عبداً أو مُكرَهاً أمام الزمن."
في تلك الفترة بدأت صحة إقبال في الوهن، ثم توفي في العشرين من أبريل (نيسان) عام 1938. ولا يمكن تجاهل أهمية إقبال بالنسبة إلى باكستان وإلى أفغانستان أيضاً. إن الجميع يستشهد بأقواله، من طالبان إلى نصيرات الحركة النسوية. وما زال على باكستان أن تحقق مطلبه بالتحقق الذاتي. إن أنصار الديمقراطية على وجه الخصوص يعودون إلى أفكاره، وهكذا سيظل يضطلع بدور مهم في مستقبل باكستان.
د. يسري عبد الغني
صناعة القدوات السلبية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. صالح الفهدي
سَخِرَ الناس منه لأنه لم يُحسن صياغةَ كلامه، فعتبنا عليهم ذلك بعد أن تعاطفنا معه، ووضعنا لذلك أسباباً كثيرة، إلاَّ أننا تفاجئنا بأنَّه استمرأ التمثيل فانغمس ممثلاً في مقاطعَ أو مروِّجاً لمشروع تجاري..! تلقَّفَ هو تلك السُّخريةَ بترحاب لذيذ، وبدأ ينسجها حكايةً مقنعةً لنفسه، فقد وجدها باباً للشهرة، وربما "للمال"..! نفس القصة –وفق السيناريو نفسه- حدثت للشاعرِ الشعبي الذي سخر منه الناس في أحد اللقاءات التلفزيونية حين ضحكت المذيعة، فكانت ضحكتها سبباً لانتشار المقطع، وشهرة الرجل الذي ترقَّى من شاعرٍ مغمور إلى شاعرٍ مشهور يفتتح المحلات التجارية، ويشارك في المناسبات الشعرية حيث يتقدم إسمه بقية الشعراء، ويصبح أيقونةً الاحتفالات، وسبقهم ذلك السكران الذي انتشرت مقاطعه، يتندَّر الناس عليها، فإذا رأوه في مركز تجاري هرعوا للتصوير معه..! التصوير مع من؟ مع سكران لا يملك إلا قنينةَ خمرٍ وكلامٍ ليس له أساس..! والقصة ذاتها للفتاة التي تدَّعي (التحرُّر) وتنتهك التابهوات التي لا يجرؤ المجتمع على انتهاكها ليس لأنها مجرَّد أعراف وإنما هي عقيدةٍ راسخةٍ فيه، ثم حين يرونها يتدفقون نحوها لالتقاطات مع صاحبة الانجازات العلمية أو الاجتماعية العظيمة..!! والأمر نفسه مع المتهمُ بالخبلِ؛ صاحبُ العين الذي أحرج الكثيرين وسخر منهم..!!
بهذه الوسيلة الساخرة يولِّد المجتمع قدواتهُ السيئة بإرادته، دون أن يعي، ويجعل من العاهات والعيوب مفاتيح لهم، حتى أصبحَ بعض التجَّار هم أوَّل من يدعونهم دون اكتراثٍ بالقيم الاخلاقية والوطنية للترويج لهم فهؤلاءِ همَّهم شهرة الآخر بغضِّ النظرِ عن ماهية تلك الشهرة، ولهذا رأيناهم يفتتحون المشاريع بصفتهم (نجوماً) في المجتمع، ورأيناهم يتقدمون القدوات الصالحة في الصفوف الأمامية حتى أصبحوا هم القدوات الوجيهة للمجتمع يتابعهم الصغير والكبير..!
كنتُ أتابعُ لقاءً على قناةِ إعلامٍ رسميٍّ استضافت أحد هؤلاءِ فسأله المحاور: ما هي أسباب شهرتك؟ فقال: تصدِّق إنني لا أعرف..!!
كلمة "لا أعرف" هي مدخل الشهرة في هذا الوقت، لأن من "يعرف" يعني أنه تخذُ من العقل مركباً، ومن المنطق منهجاً، ومن الصدق وسيلةً، وهذا لن يجد له من الشهرة ما يجذبه نحو الناس في عمومهم، والذين لم يعد يعنيهم أن يعرف الآخر أو لا يعرف؛ أي لم يعد يهمُّهم إن كان يملك المحتوى النافع أم لا! المهم أن تتكرر كذبته، وهذا بالضبط ما قاله جوزيف غوبلز، مسؤول الدعاية السياسية لهتلر إبان الحكم النازي:" "كرر الكذبة كثيراً بما يكفي وستصبح هي الحقيقة"، فهؤلاءِ مجرَّد "كذبة" تتكرر حتى يصبحوا هم ذاتهم "حقيقة"..! إذا كان ذلك (المشهور) لا يعرف سبب شهرته، فما بالك بالناس الذين يتشبَّثون بأطرافِ إزارهِ؟!.
كل ذلك يحدث لأن من يتابع هؤلاءِ، ومن صنعهم أصناماً اجتماعية إنما افتقد إلى قيم مثلى في حياته، وإلى مباديء راسخة، ومن ذلك تقدير الذات واحترامها، فمن قدَّر نفسه لن ينزلها منزلة هؤلاءِ الرُّعاع الهُمَّجْ، ومن رفع معاييره عالياً فقد رفع أخلاقياته، وأذواقه، ونظراته، وأفكاره لترتقي به عالياً فوق متابعةِ هؤلاء.
إنها الثقافة الضحلة التي تودي بالإنسان إلى (هُوَّة اللامحتوى)، تلك الهوَّة القاتلة التي تسحقُ الكائن الإنساني، فتجعلهُ مجرَّد شبحٍ فارغ، لا هدف له في الحياة عدا الركضِ وراء التَّافهون. ولا شك أن الآثار التي يخلِّفها الجري وراء نوعية من (المهرِّجين) فرغوا من المحتوى كبيرة وعميقة، ومن ذلك: أنهم أصبحوا قدوات للمتَابِع كيفما كان محتواه، وأنهم أفرغوهُ من رصانةِ المحتوى إلى هزالته، وأنهم جعلوهُ مجرد شبحٍ يتراقصُ وراءهم، وأنهم سوَّقوا له تربوياً في المجتمع، وأنهم ساعدوه على تحطيم القيم الاخلاقية والوطنية..!
ولأجل علاج هذه النتوءات، هناك ثلاثة مستويات؛ هذا (الفارغ المحتوى) عليه أن يمارس رقابة داخلية على نفسه، وينتبه للمحتوى وأثره. ثانياً: المجتمع الذي عليه أن ينتبه للآثار المدمِّرة لهذا (الفارغ المحتوى)، ويستعيد رشده، ثالثاً: فرض القوانين التي تمنع السُّخرية سواء لدى الأفراد أو المؤسسات.
د. صالح الفهدي