التَّطَرُّفُ الدِّينِيُّ.. مِن تَجَلِّيَاتِ الخُومِينِي إلى شَرَاسَةِ دَاعِش
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. بليغ حمدي اسماعيل
فجأة، وبدون مقدمات وجدت ثمة مواقع إلكترونية تجتر ذكرياتها التاريخية باستدعاء ثورة إيران التي تزعمها من الخارج الإمام الخوميني والتي لم يشارك فيها من الداخل بل جاء مفجرا لها عبر أشرطة التسجيل التي انتشرت بصورة مجنونة وقت حكم شاه إيراه الذي بدا مغرورقا في هيامه بأمريكا، ومهموما بأحلام زوجه التي بدت بحق امبراطورة تشبه أسلافها من ملكات فارس .
فباستقراء كافة المشاهدات والممارسات القمعية التي يمارسها أصحاب التيارات الراديكالية المتطرفة، يمكننا الاعتراف بأن ثمة مواجهات متلاحقة ستطرأ من جديد على المشهد العربي الذي بات أكثر احتداما واضطرابا على المستويين السياسي والاجتماعي لظروف تتعلق ببعض البلدان العربية والتي كانت مسرحا مناسبا لاستغلاله من جانب الغرب الأوروربي والإدارات الأمريكية لتحقيق مطامح شخصية من شأنها أن تصب في المصلحة الصهيونية دائما . وبغية استشراف تلك المواجهات التي لن تخرج عن الممارسات المسلحة وترويع المدنيين كما في اليمن الذي كان سعيدا يوما ما، أو في بقاع الجمهورية العراقية التي احتضنت الثقافة والحضارة العربية لقرون طويلة وبعيدة بغير خلل أو تقويض، كان من المناسب القيام بجولة إلكترونية للتفتيش عن ملامح العقلية الراديكالية المعاصرة التي خرجت من عباءات متعددة ليست منها فحسب عباءة تنظيم الإخوان المسلمين وأفكار حسن البنا الممنهجة حسب مراحل، أو من خلال طروحات سيد قطب الأكثر تطرفا وقمعية من شأنها تقليص سطوة الآخر ونفوذه في الحق الإنساني، أو حتى أفكار أبي الأعلى المودودي التي كانت ولا تزال المصدر الرئيس لأدبيات التطرف العقائدي.
لكن هذه المرة هي إعادة إنتاج أفكار الثورة الإيرانية الإسلامية لصاحبها الإمام الخوميني، وهي ثورة في أساسها فكرية تضمنت في ثناياها كافة أنماط الاستلاب والإقصاء والتهميش وتكميم الأفواه وقتل كل صور الحريات لاسيما المتعلقة بالمرأة وحقوقها التي منحها الله لها.
الغريب في الجولة الإلكترونية أن تلك الجماعات الراديكالية التي تنوعت أسماؤها وتعددت من جماعات الجهاد الإسلامي والسلفية الجهادية والجماعة الإسلامية، إلى التكفير والهجرة (وإن كانت هذه الجماعة على وجه التحديد هي خوارج العصر الحديث بأفكارها الضالة المضللة وبرموزها المضللين فاتري الفكر والرؤية والتوجه وهي بالفعل جماعة سعت في الأرض فسادا وقتلا وتدميرا في مصر في فترة حكم الزعيم الخالد محمد أنور الساعات حتى نهاية التسعينيات فترة حكم الرئيس المصري محمد حسني مبارك وهي حاليا فترة حكم الرئيس السيسي تعمل تحت أقنعة وغطاءات أخرى لا تحمل اسمها بل تكتفي بحمل سمتها الأيديولوجي) إلى أنصار بيت المقدس إلى جماعة ولاية سيناء مرورا بجماعات وطوائف متناحرة داخليا في الفكر والتوجه والمقصد وصولا إلى جماعة بوكو حرام انتهاءاً بتنظيم الدولة الإسلامية المعروف إعلاميا وأمنيا أيضا بـ (داعش) بجانب استخدامها للعنف والترهيب والترويع واستغلال ضعف بعض البيئات العربية اجتماعيا واقتصاديا لفرض السيطرة، أنها بدأت مؤخرا من جديد في استقطاب المئات من المريدين عن طريق دغدغة المشاعر والتلاعب بالعقول مجددا.
وهذه التيارات اعتادت منذ فترة مغايرة الفكر السليم ومساومة العقل السديد بطروحات تبدو غير مقبولة أو خاضعة لسيطرة العقل وإعماله ؛ فمن إرضاع الكبير إلى الزواج من الصغيرات اللاتي لم يتعدين التاسعة وفقا واحتكاما لنصوص تراثية مهجورة لا سند لها ولا ضابط أو حاكم شرعي سوى الهوس الجنسي المريض، إلى جهاد النكاح، وصولا إلى جهاد الحب حتى نكتشف أو نستقر صوب حقيقة دامغة في فكر هؤلاء الموتورين ؛ وهي الولوع بالنساء وكأن زمرة وحفنة من أمراء الفتنة ولعوا عشقا حد الهوس بالنساء وباتت العورة التي كانوا يدشنون خطبا طويلة عبر اسطواناتهم المسموعة كما الحال في ثورة الخوميني هي الهدف المطلق لهؤلاء، وأن المرأة هي المركزية الكونية لفقههم . وهم من زاوية علم النفس يحتاجون إلى علاج طويل المدى واختبارات نفسية كثيرة للكشف عن مظانهم العقلية تجاه المرأة، ولهذا فهم في مواجهتهم المعاصرة اليوم مع الحكومات والأنظمة وطوائف المجتمع لن يجدوا سندا لهم سوى المرأة والفتاة كفريسة سهلة القنص من وجهة نظرهم العقيمة البليدة أيضا.
ولم يفطنوا ولو للحظة أن المرأة التي جعلوها في ذهن الشاب المهووس ـ على سبيل المثال ـ هي أم المؤمنين السيدة حفصة، ومن أشهر الحوادث التاريخية في عصرها هو حادثة جمع القرآن الكريم الذي تم في عهد الصديق أبي بكر (رضي الله عنه) حينما عرض الأمر على عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وتشاورا في الأمر، حتى انتهى بهما المطاف إلى جمعه فجمعه الصحابي الجليل زيد بن ثابت. وبعد أن تم جمعه أخذت النسخة ووضعت عند أبي بكر الصديق (رضي الله عنه)، فلما توفاه الله تعالى أخذ النسخة عمر بن الخطاب، ولما استشهد الفاروق وهو يصلي على يد أبي لؤلؤة المجوسي، أوصى عمر بن الخطاب أن تكون النسخة محفوظة لدى السيدة الطاهرة حفصة.
وبعد أن تولى الخليفة عثمان بن عفان الخلافة، توالت الفتوحات الإسلامية في عهده، ودخل الكثير من غير العرب الإسلام، فأثروا في اللغة العربية ومقاماتها كما تأثروا بها أيضاً، وكانت نتيجة هذا التأثر اختلاف القراءة القرآنية لاختلاف الألسنة واللهجات، فعمد عثمان بن عفان أن تحرق كافة النسخ الموجودة للقرآن، ذلك أن يوجد به أخطاء تحرف المبنى والمعنى، وخوفاً من اللحن في اللفظ القرآني الشريف الذي تعهد الله بحفظه، وسعى إلى الاعتماد على نسخة واحدة أصيلة، وكانت هذه النسخة الأصيلة والسليمة هي الموجودة عند السيدة الفاضلة حفصة بنت عمر (رضي الله عنهما)، فأخذت النسخة من عندها وتم نسخ القرآن أكثر من نسخة ووزعت على كافة الأمصار، وأصبحت نسخة مصحف حفصة هي المرجع الرئيس لنسخ القرآن الكريم. ولابد للتاريخ الإنساني أن يحفظ دور السيدة حفصة عليه، فتخيل لو ضاعت هذه النسخة من بيت السيدة حفصة، ولكن كيف تضيع وهي امرأة أمينة حافظة، لكن في زماننا هذا يعتمد أقطاب وأمراء النساء المزعومين بأمراء الجهاد أن يبرزوا المرأة كمصدر فتنة ونموذج للشهوة متغافلين رصد صور رائعة للمرأة عبر التاريخ.
وقناعتي الشخصية أن المواجهة مع فكر هؤلاء حينما يكون إلكترونيا تتم بنفس الدرجة والمهارة ومخاطبة المرأة العربية بصورة تجعلها أكثر حكمة ووعيا وهي تنصت لفكر مرتزقة الدين وخوارج هذا العصر الذين يسعون في الأوطان خرابا عن طريق تقويض استقرار المجتمعات العربية ونزع فتيل الأزمات بصورة مستدامة، وإبراز الصورة الرائعة التي رسمها القرآن الكريم للمرأة وأنه ـ القرآن ـ أعلى من شأن المرأة وهي ليست مجرد وسيط للمتعة وإشباع للذة فحسب، بل هي قوام مجتمع قوي رصين .
ورجعة لمحركات التيارات الراديكالية المعاصرة التي بدأت في حرب جديدة مع المجتمعات العربية المتناحرة، فإنها لم تستغل كما كانت الظروف التاريخية لانتشار الأفكار المتطرفة كما كان العهد منذ ثورة إيران وأتباع الخوميني من تخبط سياسي داخلي ونزوح فكري للشباب المسلم تجاه الغرب والبعد عن ملامح الدين السديد، والاضطراب التاريخي بين الفكر السلفي وأفكار التنويريين، أو حتى هجرة الشباب إلى الدين في فترات الأزمات والكوارث السياسية المتعلقة بالحروب والنكسات، إنما هذه التيارات أصبحت تلعب على هرم احتياجات المواطن الأولية وليس الفكرية هذه المرة، مستغلة اهتمام الشباب بقضايا الجنس تارة، وهموم اختيار الزوجة الصالحة، حتى يتم تجنيد هؤلاء لتدمير المجتمعات بضمان لقاء الحور العين في الجنة وهذا يتم بعد سيناريوهات طويلة للإعداد والتأهيل.
ولا يمكن إغفال اعتماد التيارات الدينية الراديكالية المعاصرة على نفس مفاهيم أهل التشدد من أمثال المودودي وسيد قطب والخوميني في العصر الحديث مثل الحاكمية باعتبار أن أصحاب هذه الجماعات هم وكلاء الله في الأرض وأنهم ـ وحدهم ـ مفوضون بتقنين وتفسير وتأويل شرع الله دون غيرهم، وللأسف كثير من الأنظمة التعليمية في بلداننا العربية والإسلامية ساهمت في رواج خطط الخوميني وأمثاله وأتباعه من حيث فقر التعليم الديني بالمؤسسات التعليمية، وأن أغلبية المناهج التعليمية لم تكترث بإعمال العقل أو تثويره وتجديده، مما يسر مهمة الجماعات المتطرفة في شيوع أفكارها بصورة شرسة متوحشة.
هذا يشدنا إلى اجترار ما أكده السابقون لعصرنا الراهن من أن الحقد الفارسي لا يمكن إغفاله، وأن فرس اليوم لا يختلفون عن فرس الماضي في اعتقادهم بأحقية خلافة العرب بل والعالم أيضا، وأن توغل الفارسيين في الحضارة الإسلامية والعربية لم يكن صافيا أو خالصا في النية والتوجه، إنما نعرات الجنس والأصل هي أساس التوغل وأن هدف إقصاء العرب يظل محورا مهما للفكر الخوميني الذي لم يخرج عن عباءة الحقد الفارسي القديم على العرب.
وأنا أتفق مع الرأي القائل بأنه من غير الطبيعي أو المنطقي أن تجاهر التيارات الراديكالية الأكثر تطرفا وغلوا باتخاذ آراء الخوميني منهجا واتباع شذور سيد قطب وجهلة جماعة التكفير والهجرة دستورا في الوقت الذي يبتعدون فيه عن سماحة نهج ومنهج ومنهاج الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) ولا يمكن إنكار أن كافة الحركات الدينية السياسية التي تولدت من رحم ثورة إيران السريعة هي مجرد تجارة بالدين وتوظيف ساذج لظاهر النص دون جوهره ومخزاه.
وأسوأ استجابة لقارئ هذه السطور أن يظنها تزحف نحو العلمانية وتهرول وراء فصل الدين عن الحياة، وهذا افتراء محض، ودليل على خراب العقل، لأن المقصد هو توجيه الشباب العربي إلى صحيح الدين، إن الإسلام الحنيف يسعى إلى تربية العقول من حيث إخراجها من حيز البساطة الصرفة والخلو من المعلومات وإبعادها عن التصورات والاعتقادات الرديئة، إلى أن تتحلى بتصورات ومعلومات صحيحة تحدث لها ملكة التمييز، أي أن يكون لنور العقل نفوذ تام يفصل بين طيبات الأشياء وخبائثها.
وربما لم يتقبل عقلي فكرة أن يتحكم رجل لا يعرف أصول دينه أو هو مجرد رجل يسعى للزعامة السياسية مستغلا نصوصا تراثية مجهولة أو ضعيفة السند والتخريج في مجريات حياتي، وأن يفرض وصايته الروحية على تفاصيل شديدة الخصوصية للفرد دون أن يسمح لي بإعمال العقل، لأنه بهذا التوجه جاهل وأحمق، فقد سبق الإسلام موجات هادمة للتفكير وحجب النظر والتدبر والتعقل، فجاء مدحضاً هذه الأفكار، داعيا الناس كافة إلى ضرورة النظر العقلي والاعتماد على الحجة والبرهان . يقول الله تعالى: (وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تعقلون).
بل ويدعو القرآن الكريم الإنسان إلى ضرورة النظر في مخلوقات الله وظواهره وإعمال العقل، يقول تعالى: (فلينظر الإنسان إلى طعامه* أنا صببنا الماء صباً* ثم شققنا الأرض شقاً* فأنبتنا فيها حباً * وعنباً وقضباً* وزيتوناً ونخلا* وحدائق غلبا* وفاكهة وأبا، متاعاً لكم ولأنعامكم) . والقرآن الكريم يزدحم بالشواهد والآيات التي تحث الإنسان على ضرورة التفكير وإعمال العقل والتدبر والنظر والاستدلال، كقوله تعالى : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت* وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت* وإلى الأرض كيف سطحت).
ولكن رغم عنكبوتية التيارات الراديكالية المعاصرة وانتشارها في المجتمعات العربية وقت غفلة بعض الأنظمة أو انشغالها بأبعاد وتطورات طارئة، إلا أنها تنتهي إلى زوايا ظلامية من باب استشراف الفكر، فهي تتسم بضيق النظرة والأفق نحو الآخر تماما كما حدث مع تنظيم حسن البنا في مصر وتونس وانهيار المؤسسة التي قامت منذ عام 1928، وأن معظم رجالات هذه التيارات لا تستطيع مواجهة النقد أو الدخول في سجال فكري مباشر إنما اعتادت أن تجلس مع الأتباع والمريدين رجالا ونساء في كهوف ومناطق بعيدة ضيقة بفكر ضيق أيضا، لكن حينما يتم وضعهم أمام مناظرة دينية مستندة على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ونصوص السلف الصالح المتسق مع زماننا فإنهم بالفعل يبدون أكثر اضطرابا تماما كما نرى إيران من الداخل ؛ تشددا دينيا، وصراعا سياسيا، ونزاعات خارجية، وسفور وامتهان للمرأة بل أسواق للنخاسة وممارسات جنسية غير شرعية وحالات طويلة من انتحار الفتيات .
الدكتور بليغ حمدي إسماعيل
ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية (م) .
ـ كلية التربية ـ جامعة المنيا ـ مصر
الذهب الدامي
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عادل حبة
"مركز دبي للذهب" وعلاقته بسويسرا
لقاء تلفزيوني مع بيتر كوينغ*
المصدر: "Global Research:
ترجمة: عادل حبه
ذكرت منظمة "ميدل إيست آي" أنه لا توجد مناجم ذهب تحت رمال دبي ولا عمال مناجم حرفيين أو أطفال يكدحون في محاولة لإلتقاط الذهب. ولكن هناك سوق عامر للذهب في دبي، ومصانع تكريره تنافس أكبر المصانع العالمية، حيث تسعى الإمارات العربية المتحدة إلى توطيد مكانتها كمركز رئيسي للذهب في العالم.
في السنوات الأخيرة، عززت دولة الإمارات العربية المتحدة، ودبي على وجه الخصوص، مكانتها كواحدة من أكبر وأسرع أسواق المعادن الثمينة نمواً، حيث ارتفعت الواردات بنسبة 58% سنوياً، إلى أكثر من 27 مليار دولار في عام 2018، وفقًا لبيانات مرصد التعقيد الاقتصادي(OEC).
ونظراً لعدم وجود مصادر للذهب المحلي للاستفادة منه، على عكس المملكة العربية السعودية المجاورة، يتعين على الإمارات العربية المتحدة استيراد الذهب من أي مكان، سواء كان ذلك بشكل مشروع، أو عن طريق تهريبه دون طرح أية أسئلة حول مصادره، أو أن مصدره من مناطق النزاع، أو مرتبطاً بالجريمة المنظمة.
الذهب الدموي
لقد وجد تحقيق "الحراسة"(The Sentry) (فريق التحقيق التابع للشرطة البريطانية حول غسيل الأموال المتعلقة بجرائم الحرب في أفريقيا وتهريبها)، أن 95 % من الذهب يتم تصديره رسمياً من وسط وشرق إفريقيا، ويتم تعدين الكثير منه في السودان وجنوب السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ثم ينتهي به الأمر في الإمارات.
لقد أصبح الذهب ركناً مهماً للغاية بالنسبة لاقتصاد دبي، حيث أصبح عنصر التجارة الخارجية الأعلى قيمة في الإمارات المتحدة، وتتجاوز قيمة الهواتف المحمولة والمجوهرات والمنتجات البترولية والألماس وفقاً للبيانات الصادرة من إدارة الكمارك في دبي.
ويعد الذهب أكبر صادرات الإمارات العربية المتحدة بعد النفط، حيث صدرت ما مقداره 17.7 مليار دولار في عام 2019. وزادت أهمية الذهب بالتزامن مع تضاؤل احتياطيات دبي النفطية، لذا حاولت الإمارات تنويع اقتصادها.
الاتصال السويسري
دبي ليست اللاعب الذهبي الوحيد الذي تلطخت يديه بالتراب وحتى بالدم.
"إنها ليست دبي فقط، إنها سويسرا أيضاً. إذ يحصل السويسريون على كميات كبيرة من الذهب من دبي. ويتحدث السويسريون إنهم لا يحصلون على الذهب من بلدان معينة مرتبطة بالصراع حول الذهب الصراع، ولكن بدلاً من ذلك فإنها تتجه صوب دبي، علماً أن الذهب في دبي يأتي من هذه البلدان التي تتعرض لمثل هذه الصراعات. ويشير لاكشمي كومار، مدير السياسات في Global Financial Integrity (GFI) في واشنطن العاصمة: إن "دبي متواطئة، ولكن الأيادي السويسرية هي الأخرى قذرة بنفس القدر لأنها لا تستطيع عزل دبي عن سوق الذهب".
تعد سويسرا أكبر بلد في تكرير الذهب في العالم، حيث يمر أكثر من نصف الذهب عبر البلاد في مرحلة ما، وفقاً لفريق مراقبة مكافحة الفساد Global Witness. وترتبط تجارة سويسرا بالمملكة المتحدة، التي تستورد حوالي ثلث الذهب.
وسأل مراسل TV Press بيتر كوينغ إلى أن الذهب أصبح سلعة مهمة لدولة الإمارات العربية المتحدة، حيث أصبح السلعة التي تتجاوز تصدير بعد النفط، حيث تم تصدير 17.7 مليار دولار في عام 2019. ولكن هناك جانب آخر لهذه القصة. كما ذكر تقرير صادر عن وزارة الداخلية ووزارة الخزانة في المملكة المتحدة في وقت سابق من شهر كانون الأول، أن دولة الإمارات العربية المتحدة هي إمارة يمارس فيها غسيل الأموال من قبل الشبكات الإجرامية بسبب السهولة التي يمكن بها نقل الذهب والنقود عبر البلاد. فهل هذا هو واقع الحال؟
سويسرا، عاصمة الذهب الدموي في العالم
وأجاب بيتر كونيغ: أولاً، يعتبر غسيل الذهب الدولي انتهاكاً جسيماً لحقوق الإنسان، وذلك في المقام الأول لأن الذهب المغسول يأتي من العديد من البلدان في إفريقيا وأمريكا الجنوبية حيث تمارس عمالة الأطفال على نطاق جماعي. ولا يتعرض الأطفال فقط لأخطار جسيمة عند العمل في المناجم في أنفاق ضيقة متهالكة تحت الأرض ويمكن أن تنهار في أية لحظة، وغالباً ما تنهار، ولكن هؤلاء الأطفال يتعرضون أيضاً للتسمم بشكل يومي بالمواد الكيميائية المستخدمة في استخراج خام الذهب من الصخور، ولا سيما المواد السامة مثل السيانيد و الزئبق وغيرها.
ثانياً، يعتبر غسيل الذهب جريمة دولية، لأنه غير قانوني ويتم إدارته في الغالب من قبل منظمات على شاكلة المافيا، حيث يمارس القتل وأنواع أخرى من العنف، بالإضافة إلى الاعتداء الجنسي على النساء والدعارة القسرية الذي يحدث يومياً في الإمارات.
ويجب أن يكون هناك قانون دولي - قابل للتنفيذ - صادر عن الأمم المتحدة - وتطبقه المحكمة الجنائية الدولية ضد أي ممارسة لها علاقة بغسيل الذهب. ويجب معاقبة المخالفين. ويجب تحميل الدول المتورطة في غسيل الذهب المسؤولية - ووضعها على القائمة السوداء جراء قيامها بالمعاملات المالية غير القانونية وتسهيل انتهاكات حقوق الإنسان.
الإمارات العربية المتحدة ليس لديها ذهب، لذا فإن كل صادرات الذهب البالغة 17.7 مليار دولار يتم استيرادها و "غسلها" عن طريق إعادة تصديرها بشكل أساسي عبر المملكة المتحدة إلى سويسرا وأماكن تكرير الذهب الأخرى، مثل الهند.
بالرغم من أن الإنتاج العالمي يبلغ حوالي 3500 طن، ولكن يحدث أحياناً أن تستورد خلالها سويسرا مقداراً من الذهب يتجاوز حجم الإنتاج العالمي السنوي، ويأتي معظمه من المملكة المتحدة. لمزيد من التكرير أو إعادة التكرير، ومن أجل "غسيل أفضل أو مزدوج"، يجري التستر على مصادر الذهب. وبعد مروره بمصانع التكرير في سويسرا، يذهب في الغالب إلى النظام المصرفي أو يُعاد تصديره كذهب "نظيف" قادم من سويسرا. ولم تعد مصادره قابلة للتعقب.
ويتم تكرير 70٪ من الذهب في جميع أنحاء العالم في سويسرا.
لقد بلغ إجمالي إنتاج مناجم الذهب في العالم 3531 طناً في عام 2019، أي أقل بنسبة 1٪ مقارنة بعام 2018. ويتم تكرير حوالي 70٪ من إجمالي الذهب في جميع أنحاء العالم في سويسرا. لذلك، من المحتمل جداً أن تقوم المملكة المتحدة، التي تتلقى الذهب من الإمارات العربية المتحدة، بإعادة تصدير الذهب إلى سويسرا، لإعادة تكريره، ولمزيد من التصدير إلى، على سبيل المثال إلى الهند. ويحمل الذهب القادم من سويسرا "علامة" النظافة. فإلى متى ستستمر هذه السمعة "المرموقة"؟
يعتبر "ميتالور" أكبر مصفاة للذهب في العالم الذي تأسس في في سويسرا. ويقوم السؤولون فيه بعملهم في غاية السرية، فلا تسألهم من أين يشترون ذهبهم، لأن الحكومة السويسرية لا تطلب الأصل عندما يدخل الذهب إلى سويسرا.
وبمجرد تكريره، لم يعد من الممكن تحديد المصدر، لأن الذهب لا يحتوي على "حامض نووي" DNA.
مراسل: PressTV إن التحقيق الذي قام به فريق The Sentry أكد أن 95% من الذهب المُصدَّر رسمياً من وسط وشرق إفريقيا، والكثير منه يتم إستخراجه في السودان وجنوب السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ينتهي به المطاف في دولة الإمارات، من خلال ما يُعرف باسم الذهب الدموي: أي الذهب الذي يتم الحصول عليه من خلال ممارسات التعدين الوحشية والأرباح غير المشروعة بما في ذلك استخدام الأطفال، كيف ترون ذلك؟
بيتر كونيغ :نعم، هذا صحيح تماماً.
كما ذكرنا من قبل إن الكثير من الذهب المستخرج في إفريقيا / وسط إفريقيا وغانا وأمريكا الجنوبية، ولا سيما بيرو، هو الذهب الدموي. بالطبع، يمر عبر العديد من الأيادي قبل أن يستقر في مصنع التكرير في المملكة المتحدة أو سويسرا أو أي مكان آخر، وبالتالي لا يمكن تعقبه تقريباً.
لكن الشركة التي تشتري الذهب، مثل ميتالور، تعرف بالضبط من أين يأتي الذهب. لكن كما ذكرنا سابقاً، بما أن الحكومة السويسرية لا تطلب من الشركة المستوردة الكشف عن مصدر الذهب، فإن انتهاكات حقوق الإنسان تظل في الخفاء، ولا تصل إلى دوائر العدالة.
تشير التقديرات إلى أن ما يصل إلى 30٪ من الذهب المكرر في سويسرا يعتبر ذهبًا دموياً. وتخيل ما يتعرض له العمال من معاناة وأمراض وحتى الموت، أو الموت المتأخر جراء التفاعلات الكيميائية البطيئة مثل السيانيد والزئبق.
ومع ذلك، إذا لم يكن هناك قانون دولي - قانون مطبق - يضع المجرمين أمام العدالة، ويضع البلدان التي تسهل غسيل الذهب في قائمة العقوبات الدولية - ليراها العالم ويتم حاسبتها، على سبيل المثال عقوبات مالية، فإن القليل سوف يتغيرفي هذا المضمار.
........................
* پيتر كونيغ (Peter Koenig ): محلل جيوسياسي وخبير اقتصادي أول سابق في البنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية، عمل في أكثر من 30 عاماً في مجال المياه والبيئة حول العالم. يحاضر في جامعات في الولايات المتحدة وأوروبا وأمريكا الجنوبية. يكتب بانتظام في المجلات على الإنترنت وهو مؤلف كتاب"Implosion"؛وهو عبارة عن قصة اقتصادية مثيرة عن الحرب والتدمير البيئي وجشع الشركات. شارك في تأليف كتاب سينثيا ماكيني "عندما تعطس الصين: من تأمين فيروس كورونا إلى الأزمة الاقتصادية والسياسية العالمية" بيتر كونيج باحث مشارك في مركز أبحاث العولمة.
رحلة تشرين ومضائق السلطة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: حسن عزيز الياسري
ساهمت الدسائس الامريكية في خلق نزاعات في اوساط اليساريين، كثيرا ما تحدث عنها زعيم الحزب الشيوعي البوليفي ماريو مونهي في عدة مناسبات محذرا جيفارا من حالة الجزر الثورية والانقسامات التي تعانيها البلاد، فمنذ عام ١٩٦٧ وجد جيفارا نفسه مع مقاتليه العشرين، وحيدا يواجه وحدات الجيش المدججة بالسلاح تحت قيادة السي آي إيه في براري بوليفيا الاستوائية .
من كتاب : جيفارا ثائر لا يموت، السيد عبد الفتاح ص ١٠٤
- فليعتبرها البعض من باب المغالاة، (خاصة اولئك الذين تذوقوا لذة طعم السلطة وتلذذوا مجتَمِعين اكثر، بطعم الانحطاط المجتمعي)، لو قلنا بأن ثورة تشرين اعطت للكثير منا نوعا من التشبث بالحياة، بانتظار ظل غيمةِ امل ٍ قادمة، بانها ستسقي شيئا من ارضنا القاحلة الجرداء ولعلها (سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت) *١ وما اضيق العيش لولا فسحة الامل، وبعض ٌ من احلام اليقظة !! والا فنحن وسط هذا الركام الاخلاقي المعيب الذي قل نظيره وهو يفتك بالمجتمع افرادا ومجموعات بشرية، في ظل هذا الجمود الحضاري والتقهقر المدني الرهيب لصالح مجموعات فكرية رجعية متسلطة غير منسجمة من الاساس لا فكريا ولا مفاهيميا، فكل ٌ يدعي نزوعه نحو قاعدة فكرية واعتقاد سياسي، ليس في نتائجها الا المزيد من التطرف الفكري او الاثني او الحزبي، سلطة غير متجانسة تعيش اقصى مديات التناقض في بلورة تنفيذ قرار يخص الصالح العام، والامر هذا، بات مفهوم الدولة مفهوما خياليا عائما غريقا بمستنقع فسادها الآسن، الذي احال الحياة بعد ١٧ عشر عاما الى اشبه بالمغامرة الضائعة المجنونة والتي حسبتها الاقدار على انها بذور اعوامنا المنسية، التي انتثرت على ارض رخوة، زرعتها حماوات المعتوه الضرورة قبل هذه الاعوام العجاف والهمتها رسوخا، حماقات و حماوات الضرورات من الافاقين الجدد بعدها .
وهكذا ابدا تمضي أمانينا،،، فلا سفن ولا وجود ولا نلقى مراسينا،، على حد قول الشاعر *٢ .
- حينما تدخل الامواج، المضيق، عليها ان تكمل الرحلة نحو المحيط الواسع، لا تتعثر وتتباطئ ثم تموت .
رُسِمَ لثورة تشرين ٢٠١٩ بعد ان تعثر وأدها باطلاقات قناص غادر، ان تدخل مضائق السلطة، من أجل ان تتعثر وتتباطئ بانتظار نشر خبر وداعها المنتظر من قِبلهم !!، لكنها لم تمُت ْ بعد، لسببين :
- اولهما المد العاطفي الذي كان له اكبر الأثر في قلوب الغالبية من الشعب العراقي، قلما وجد بأطاره الشعبي وتأثيره الوطني الكبير على فكر المواطن العراقي من قبل، في ظل اي ثورة شعبية عراقية سابقة *٣
الا ان هذا التأثير سيبقى متفرقا ً غير مؤثر بسبب كونه تأثيرا ذاتيا وشخصيا قابعا بقلب كل ثائر وكل مشارك ومتعاطف مع هذه الانتفاضة الشعبية التي خلفت مئات الشهداء والضحايا وعشرات الاف الجرحى والمعاقين، فقد بات هذا التأثير غير مُجْتمِع اجتماع القوي المؤثر في ساحة الصراع !! فهو لم يخرج عن حدود الذات والافكار والتمنيات العريضة التي لا تتناسب والواقع المفروض !!
- والسبب الاخر هو بقاء مسببات بقائها، فالثورات الشعبية الخارجة من رحم الاحزان لن تموت ابدا، بل تتجذر وتستمد اسباب نموها من اسباب بقائها .
فعلينا ان نستثمر تلك الطاقة التي ستخبو وتموت مالم نحشد فيها اسباب القوة ومبررات البقاء ونعيدها لحلبة الصراع .
- اللغة التي تتفاهم بها السلطات مع منطلق الثورة وسلوك الثوار، تماما كلغة تفاهماتها مع مرتكز الدين وسلوك المتدينين، فالسلطة تريد ان يثوى الدين تحت عهدتها جبلا جاثيا هادئا متمترسا بفقه الطقوس والغيبيات وتفسيرات الاحلام وكذلك سلوك المؤمنين عائما بنظرياته الطقوسية الدعوية المُغيبة، ولا تضر بعض الشعارات الحماسية في ظهيرة نهاية الاسبوع من اسبوع واخر !!
ما دام لا يحرك بالفرد وعيا ولا يستنهض بالمجموع فكرا، فاذا كان يراد بالدين هكذا محصورا بفقه التعبد والزهد والتشرد الذاتي، كذلك يراد للثورة ان تكون محصورة بفكر التمرد الذاتي على الماضي والاعراف وحتى الدين نفسه، لا يهم ما دامت افكارها على ورق او عبر الأثير تحت تأثيرات الديمقراطية التي لا بد منها، ولا يهم ايضا ان كانت افكارها المتمردة تعيش بفكر بعض الافراد او كم هائل منهم ما داموا لا يجتمعون على اساس بلورة تلك الافكار وتكريسها من اجل استنهاض، ثورة قادمة.
- اليوم لدينا من سلاح الوعي الكثير الذي يدفعنا لاختيار من يقود وان نقبل به ونرسم لقيادته الامر المُرجى بالوصول لسفينة تشرين الى ما اردنا، فمرحلة ولادة البيعة السرية للوطن والشعب وما رافقها من الالام ولادة قسرية على الاخر، لا بد ان تنتج مرحلة اخرى من الوعي وهي اختيار من يقود ومن يصل بمبادئ الثورة الى حيز التنفيذ، خاصة وان المدة التي مرت منذ تشرين ٢٠١٩ والى اليوم قد افرزت الكثير من النتائج على نطاق الافراد ومخاض الافكار ومتبنيات المد الثوري، الذي يجب ان يتنزل عن الافكار و الورق، لصالح ارض الواقع البَور .
- سفينة تشرين اليوم قابعة في ميناء للسلام، لتكون كما خُطط لها من قِبل السلطات، مجرد ذكرى عابرة، قابعة في وجدان وضمير شعب حي، حالها حال ثورات كثيرة مرت بتاريخه السياسي، فمن يسير بدفتها نحو وسط البحر، لكي تصل نحو تطبيق متبنياتها التي خرجت من اجلها ؟؟
- والثورات العفوية اذا قامت نتيجة لظروفها المحيطة، فانها لا تركن الى الخلود من منطلقها العفوي مطلقا، فالثورات التي كتبها سفر المجد، تلك التي تخضع لامكانية تطبيق مبادئها وادراج مفاهيمها على ارض الواقع، اما النجاح والفشل بعد انتصارها كائن (او مفهوم اخر) والحديث عنه ليس اليوم .
- لغة السلطات واحدة وديدنها، لحنٌ متكرر واحد وكذلك الثورات، فان لم تكن بلغة وادوات واحدة فهي من منطلق واحد،
حيث ادخلت السلطة، الثورة، مضيق الاتهامات والتبجحات والقذف واللعن، فبادلتهم بها، وفتحوا عليها نيران التقولات ودعاوى ابواب السفارات فردوا اليهم الكرة بالمقدار نفسه والاتهامات نفسها، لقد أكل الثوار الطعم !! وانزوى الثوار بالقيل وقال (وهدأت موجة الثورة من اجل الانقضاض عليها ووأدها الى الابد) .
هكذا ترسم السلطات منهج قتل الثورة وصّد امواجها واقتلاعها ومن ثم رميها نحو الشواطئ البعيدة المجهولة، فتكون بلا تأثير يذكر على ارض الواقع، تاريخا ليس الا .
- الا يستطيع وعي تشرين الذي جابه سلطة قابعة وسط مساحة مليئة بالفوضى والاوحال، الانتفاض على نفسه واستثمار وعيه والخروج بقادة ياخذون بفكره نحو التطبيق !؟ وهناك من يعطي زخم للثورة من السلطة نفسها، وعلى القائمين برفع شعاراتها الوطنية وابقاء ديمومتها الفكرية مشتعلة بالنفوس، استثمار تلك القوى التي آمنت بالثورة ودعمتها وساندتها وطالما حاولت الميل نحوها من اجل لفت انتباه جماهيرها، فالذي يؤمن بثورة قائمة على سلطة هو من المشاركين المؤثرين بها، هو انتصار للثورة واهدافها الثورية .
- لقد فتحوا للثورة، مشاجب سلاحهم الاعلامي واوهموها بالقاء عدة اسلحة مستهلكة فاستخدمها (الثوار) وسرعان ما تبين لنخبة وعيها الجمعي، حجم اللعبة التي ادخلها بهم، الإعلام المضاد للسلطة، ورداءة السلاح المُهدى من الخصوم، دخلت الثورة الحرب بسلاح العدو، وقُتل الثوار بسلاح الخصوم، وفتكوا بهم لانهم يعلمون جيدا حجم السلاح الغير منسجم مع تطلعات وافكار ومنهج ما يدعو اليه الفرسان، فثبطوا العزائم محاولين ترسيخ الفشل منتظرين لحظة رصاصة الرحمة التي للاسف ستأتي من الثوار انفسهم، وتُشيعُ احلامهم واحلامنا كما شيعنا شهدائنا من قبل، مالم،
يتم الاسراع بلم الشتات واظهار كواكبنا التي لا بد ان تشرق من جديد .
- فالسلطات لها المقدرة الكافية والخبرة الطويلة في فك طلاسم الحركات و التظاهرات الشعبية من خلال زجها بمضائق التسييس والتخوين والتأطير الضيق لاهدافها وافكارها الثورية . كما فعلت السلطات بكافة الثورات التي قامت من قبل في العراق دون استثناء .
[ان الثوار لا يمكن ان يصنعوا الحرية، انهم ابدا خصومها، ان الحرية تصنع طريقها بلا تشريع، بلا ثورة، كما النهر يحفر مجراه، بمواصلة السير في جوف الصخور، بمقاومته الطبيعة، ان الحرية لا توجد بالارادة او الخطة او الامر، ان الحرية توجد مع الاشياء الصعبة والمتناقظة والمضادة .
* ان الحرية هي التعود على السير في طريق مسدود بالتناقضات والاحزان !! ]] *٤
- فمفاهيم عبثية وقف العالم عندها !! مثل ابناء السفارات والجوكرية لا تختلف في منطلقها النفسي، عن مفاهيم الذيول او الولائيين،، اقتنع الطرفان باستجابات لا شعورية، فاطلقوا لانفسهم العنان وراحوا يستجيبون لما اُريد لهم بالضبط من بعض المتحكمين بالسلطة !!، فردوا اليهم الهجمة ولكنهم تُرِكوا وسط سديم فوضوي فسيح، من الاتهامات والتقولات والإدعاءات محاولين مسك طوق النجاة، فلم يفلحوا !!
وهذه سُنن ْ الثورات العفوية، التي تُنتَج بعاطفة شعبية جياشة وتلقائية، ليس لانها ولدت دون قيادة، على الاطلاق، فهذا سر من اسرار بقائها، بل لأنها أبت ان تبقى دون قيادة !!
فالقيادة بهذه المرحلة هي هواء الثورة !!
ومتبنياتها وغاياتها، جسدها !!
وسلميتها روحها التي ظلت عصية على الموت .
جسدا وروحا وهواءا لديمومتها والوصول بها الى حيز التطبيق من خلال المشاركة الفاعلة بالانتخابات .
- اما وقود الثورة فهو كالنفط تماما، يحتاج الى قوة استخراج من الباطن لاستثماره بما يتلائم وخدمة الدولة والمجتمع، ولا يتم ذلك الا بظهور قيادات نابعة من نفس تلك الارض التي انتجتها ثقافة التحرير كساحة، والحبوبي والتربية ومجموع ساحات التظاهرات الاخرى اللاتي لملمت كل الاطر الايديولوجية وأطَرّتها بصورة واحدة هي قضية الوطن وحقوق المواطن، فهو ارثها وميراثها القابع بالنفوس وقوتها الدافعة وحماستها المخبوءة وعاطفتها الجياشة التي تحتاج الى عود ثقاب، مصنوع في ارض الوطن، مُدافع ٌ عنها، مراهن ٌ فيها، منسلخ ٌ منها ومن فكر ساحات التظاهر، قريبا من الجوع والحاجة والحزن والحرمان، فكلها عجينة الثورة التي تشكلت عبر تاريخ طويل وهي تنتظر من ينفخ فيها الروح (روح الامل بالألم) التي توارت تحت جمرات العذاب والتاعَت بزيف الوعود، وهَتَكت استارها زُمَر الفساد .
- اليوم سفينة تشرين التي انطلقت لاهداف واضحة جسدتها الجماهير بكلمة واحدة وغاية واحدة وشعار واحد (نريد وطن)، هي بحاجة اليوم الى قبطان يدير دفتها، او عدة قباطنة في هذه المرحلة، لا يهم، ما داموا على ارض واحدة هي ارض العراق ومركب واحد هي مركب تشرين وغاية واحدة هي بناءُ وطنٍ دمره الاوغاد والفاسدون، ويجب الحذر واخذ الحيطة من الدسائس وزرع الانقسامات بين اوساط الثورة (حالة الجزر الثورية)، اليساريين منهم او اصحاب الأيديولوجيات الاخرى او باقي مجاميعها المنظوية تحت لواء الغايات الرئيسية للثورة، فكلهم تقاسموا هدفها والمها ودمعها ودمائها، خاصة وان بلادنا اليوم حاضنة مريحة لكل توجهات وتوجيهات الدول الاخرى والتي لا تدخل الا بوساطة من الداخل وتتحرك بواسطة اجهزتها المخابراتية والاستخبارية تحت ذرائع متوفرة على الدوام .
- ولعل منا من يقول، الانتخابات والدخول من بابها الضيق، هو مضيق ايصا، نعم بالتأكيد هو مضيق ولكنه يقبل بمشاركة كل الامواج الصغيرة المندفعة والكبيرة الهادئة، ومهما ضربت تلك الامواج المراسي والشطآن في النهاية، مبدأ تكافل الفرص موجود ولو نسبيا ! والمشاريع العملاقة عادة تبدأ بفكرة !
كما ان هناك من يدير ادارة ذلك المشروع وطريق الدخول والخروج من بعيد، لا نريد الاندفاع بشأن مغازلتهم حتى وان كانت لهم اليد الطولى بصناعة ادوات المشروع القائم، ولا نريد من الاخرين ان يعطفوا علينا بنعمة المشاركة وهي ملك الجميع، بل علينا فقط وفقط جمع شتاتنا (وجمع دمائنا) التي فرقوها بين قبائل احزابهم وزجوها بين دسائس اقلامهم ونزاعات جهلهم المرير، المتسكع خلف منهج اعلامي حزبي مؤدلج ورخيص، يُعيب على شعب ان يقوم بانتفاضة شعبية للمطالبة بحقوقه، ويُطبل لاصنام فتكت بقدسيتها المخادعة كل المبادئ والاخلاق والقيم السامية .
[ان الحرية هي التعود على السير في طريق مسدود بالتناقضات والاحزان !!
اننا نتعلم الحرية كما يتعلم الاعمى السير في حقول المهالك مبصرا بعصاه !!] *٥
- ولعل عصانا اليوم وعكاز مستقبلنا الاتي القريب، التي ستكون متكئا لعبور الصدمة الكارثة المأساة، هي تشرين، تشرين الأمل والتغيير والمستقبل .
حسن عزيز الياسري - شباط - ٢٠٢١
حوارات القاهرة والسيناريوهات المحتملة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. حسام الدجني
من المقرر أن تبدأ حوارات القاهرة في الثامن من شباط الجاري، وتعتبر هذه الجولة من الحوار الوطني بالغة الأهمية ولا يمكن تعويم نتيجتها بلغة دبلوماسية كما جرت العادة، لأن نتائجها ستنعكس على عمل لجنة الانتخابات المركزية وهو ما يلاحظه المواطن في اليوم التالي لعودة الوفود، وفي هذا المقال نطرح الإجابة على التساؤلات التالية: ما أهم القضايا التي ستطرح على طاولة الحوار الوطني في القاهرة...؟ وما أبرز التحديات...؟ وما أهم السيناريوهات المحتملة في حالة النجاح والفشل...؟
أولاً: أجندة الحوار.
من أهم القضايا التي سيتضمنها أجندة اللقاء من وجهة نظري ثلاث ملفات:
1- المرجعية السياسية والبرنامج السياسي، وهذا الملف عليه شبه إجماع وطني بضرورة الذهاب للانتخابات على أساس مرجعية سياسية بعيدة عن اتفاق أوسلو، كما سيتم البحث في التوافق على برنامج سياسي توافقي تصلح وثيقة الوفاق الوطني كمرجعية له لا سيما لو نجحت الفصائل في التوافق على دخول المعترك الانتخابي بقائمة مشتركة، والبحث في التوقيع على ميثاق شرف للاعتراف بالنتيجة، وأن تقوم الانتخابات على مبدأ المشاركة لا المغالبة بما يعني إقرار الجميع على الذهاب إلى حكومة وحدة وطنية بعد الانتخابات تكون قادرة على إنهاء تداعيات الانقسام.
2- القضاء، وهذه من أهم القضايا التي ستطرح على أجندة اللقاء لاسيما قانون السلطة القضائية الأخير الذي يشكل تغولاً من السلطة التنفيذية على السلطة القضائية بما يخالف مبدأ الفصل بين السلطات، كما سيكون ملف المحكمة الدستورية محط نقاش واهتمام من الجميع، حيث من الضروري العمل على إعادة تشكيل هذا الجسم حسب القانون بما يضمن استقلاليته ونزاهته. وكذلك تشكيل محاكم الانتخابات بالتوافق وبما يضمن نزاهة العملية الانتخابية.
3- البيئة الانتخابية: من المهم التوافق على توفير بيئة انتخابية قائمة على مبدأ تكافؤ الفرص، والحريات العامة والخاصة ووقف الملاحقات الأمنية والإفراج عن المعتقلين السياسيين في الأراضي الفلسطينية، وتذليل العقبات أمام العملية الانتخابية، والعمل الجاد والموحد لمواجهة أي سيناريو لتعطيل الانتخابات بالقدس، والوصول إلى ميثاق شرف يقضي بمنع استخدام أي طرف للمقدرات الحكومية في العملية الانتخابية وإبقائها على حياد.
ثانياً: أبرز التحديات.
من أهم التحديات التي تعترض حوار القاهرة ما يلي:
1- ملف السلطة القضائية، وإعادة تشكيل المحكمة الدستورية.
2- عدم التوافق على رئيس توافقي (محمود عباس) وهو ما يعزز من سيناريو توافق أغلب الفصائل على شخصية أخرى تنافس الرئيس عباس، وهذا التحدي قد يدفع الأخير لعرقلة الانتخابات الفلسطينية وقد يسمح على أبعد تقدير بتمرير الانتخابات التشريعية للحاجة الماسة لوجود سلطة تشريعية داخلياً وخارجياً.
ثالثاً: السيناريوهات المحتملة في حالة نجاح الحوار.
في حال نجح الحوار الفلسطيني بالقاهرة، وتم تجاوز كافة التحديات، وغلب الجميع الصالح الوطني العام على الصالح الحزبي الخاص، فهذا يعني إجراء الانتخابات الفلسطينية في كافة مؤسسات النظام السياسي، وعليه نحن أمام ثلاثة سيناريوهات هي:
1- بناء نظام سياسي ديمقراطي تعددي، وهذا يعني إنهاء الانقسام بشكل كامل ومعالجة كافة تداعياته، وتعزيز الثقافة المدنية التي تؤسس لبناء دولة القانون، وتفعيل كافة مؤسسات منظمة التحرير ودمج الخلايا العسكرية ضمن جيش التحرير، بما يضمن رفع فصائل المقاومة من قوائم الإرهاب الدولي، وتصبح أحزاب سياسية، ويعلن جيش التحرير أن من أهم مهامه في هذه المرحلة مراكمة القوة لمواجهة الاحتلال على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م، ويبدأ الساسة معركة قانونية ودبلوماسية مع الاحتلال في كافة المحافل، ويمارس شعبنا مقاومة شعبية يحمي ظهرها جيش التحرير التابع للمنظمة، ويكون هدف الحكومة تعزيز صمود رأس المال الاجتماعي الفلسطيني.
هذا السيناريو رغم صعوبة تحقيقه إلا أنه ينبغي أن يكون أمل كل فلسطيني وأن نعمل جميعاً على العمل كي يصبح هو السيناريو المرجح.
2- سيناريو الفدرالية: لا شك أن الانتخابات حاجة وطنية داخلية، ولكن الضغط الخارجي ليس بعيداً عنها، وفي ظل الواقع الراهن وأزمة الثقة، وحجم التعقيدات فإن الفدرالية ستصبح أمراً واقعاً بعد الانتخابات، وقد تصلح لإدارة الملف الداخلي لمرحلة زمنية محددة، وتتمثل في تشكيل الرئيس حكومة مركزية تضم الوزارات السيادية، بينما تشكل حماس حكومة في قطاع غزة (حكومة خدمات) بالشراكة مع الكل الوطني على أن تقود الوزارات الرئيسية مثل الداخلية والمالية، ونفس الحال تقوم به فتح في الضفة ويكون هدف حكومة الخدمات تعزيز صمود المواطن وتثبيته وجسر الهوة بين المكونات الشعبية عبر زيادة مساحة الحريات العامة والخاصة والتثقيف المدني. بينما تقوم الحكومة المركزية التي يقودها الرئيس بإدارة الملف السياسي حسب البرنامج المتوافق عليه، وجلب المال والإشراف على توزيعه بعدالة على الحكومتين في الضفة وغزة.
3- سيناريو دمقرطة الانقسام، وجوهر هذا السيناريو يتمثل في أن الانتخابات حاجة خارجية تم تلبيتها لضمان تجديد شرعية الرئيس وحكومته وجلب المال، ولكن يبقى الواقع الراهن على ما هو عليه مع تحسن طفيف في الواقع المعاش.
رابعاً: السيناريوهات المحتملة في حالة فشل الحوار.
وفقاً لسيناريو فشل حوارات القاهرة وهذا أمر محتمل، فإن السيناريوهات المحتملة وفقاً لسيناريو الفشل هو:
1- سيناريو إجراء الانتخابات من طرف واحد وهو السلطة الفلسطينية، على أن تجرى الانتخابات بالضفة فقط وممكن إشراك قطاع غزة ترشحاً وتصويتاً ودفع المواطنين للاشتباك مع الحكومة في غزة التي تديرها حركة حماس، في حال رفض حماس إجراء الانتخابات قد تعلن السلطة الفلسطينية غزة إقليماً متمرداً وتذهب لسيناريو تصويت غزة إلكترونياً. وهذا السيناريو الأكثر ترجيحاً.
2- سيناريو عودة الرئيس عباس لتجديد شرعيته من منظمة التحرير وتسويق هذه الخطوة اقليمياً ودولياً بفشل الحوار، وتكليف المجلس المركزي بمهام المجلس التشريعي، وتكييف ذلك قانونياً في هذا الزمن الذي يغيب في القانون أمراً ممكناً.
الخلاصة: أن يفاوض الكل الوطني لبناء دولة القانون وإنهاء الانقسام وتعديل ما يمكن تعديله هذا أمراً مستحسناً، ولكن في نفس الوقت إياكم وتفويت فرصة إجراء الانتخابات وليكن عنوانها كسر هيمنة أي طرف على النظام السياسي هو عنواناً للمرحلة المقبلة، بالإضافة إلى تحسين الواقع الاقتصادي والاجتماعي كأولوية قصوى ومدخل مهم للحفاظ على مشروعنا الوطني.
د. حسام الدجني
كاتب ومحلل سياسي فلسطيني
حَياة وَردية.. اَلْمُلْهِمَة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. سعاد درير
كأنها قطعة المورفين التي تُخْمِدُ ثورةَ الألم..
في غياب الشعور باللذة هل تتصور أن أي ممارسة حياتية قد تطيب لك؟!
هل من الضروري ألا تقترن اللذةُ بالألم؟!
أليس ضربا من المازوشية أن تتلذذ بآلامك كما يَحْدثُ أن تتلذذ بآلام الآخرين، أو لِنَقُلْ (على وجه التدقيق) كما يحدث أن تتلذذ بتعذيب الآخرين لك؟!
نتحدث عن اللذة الموسيقية التي لم نَعُدْ نَصِل إليها في جُلّ ممارساتنا الإنصاتية التي أَضْحَتْ تُتْعِبُنا أكثر مما يفترض فيها أن تُريحَنا.
نتحدث عن مُحَرِّك الإنصات الذي (إن أنتَ أحسنتَ انتقاء ما تُنصِت إليه) يَقودك إلى ذروة الاستمتاع..
فهل من فَرْطِ الحنين إلى كأس اللذة تُغازلها: «هاتها من يد الرضى»؟!
أم أنك هروبا من ذيل الزمن القاسي تعاقر ما يُخْمِدُ جرعات المرارة في فنجان حياتك تَوَّاقا إلى رَفيف الأمس البعيد: «أَلاَ فَارْوِني»؟!
عُشَّاق الزمن الجميل لا يخونهم ذوقُهم الرفيع في انتقاء ما يَطربون له ويترنمون به. لذلك لا غرابة أن ينجذبوا انجذابا إلى سِحر النغم الحالِم الذي ترقص له الأذن الموسيقية، فما بالك إن كان هذا النغم في مستوى إبداع «LA VIE EN ROSE (حياة وردية)»!
«حياة وردية» (لإيديث بياف ÉDITH PIAF) قطعة فنية فرنسية راقية تُلْهِبُ سمعَك حلاوةً كما تُلْهِبُ حاسَّتَك الذوقية قطعةُ حلوى ملفوفة في حرير من الشوكولا والكاراميل.. فكلاهما (النغمُ وحريرُ الشوكولا والكاراميل) يُذيبُك ذوبانا من فرط اللذة..
عندما تَحزن أشدّ ما يكون الحُزْن، وتكتبُ تلقائيا على صفحاتِ محياكَ قصيدةَ دموع، ستجد لسانَك يُرَدِّدُ في صمتٍ نغما حزينا.. هكذا تجد نفسك ترتمي في أحضان رائعة أخرى من روائع الأغنيات الخالدة في ذاكرتك الهادرة بمواويل رحلة شتاء العمر..
أمّا النَّغَم الْمُهَيِّج للدموع، فإنه يتسلل إليك في لحظات الذروة من الانكسار التي تختلي فيها إلى نفسك على امتداد شارع الليل الطويل، شارع تفتقد فيه الضوء كليا لولا ما يُمْلِيه عليك شمعُ الذاكرة الذي يُحرِق أكثر مما يُضيء..
كلمات أغنية بعينها تُباغتك بإيقاعها الذي ينكأ الجرح، فيدندنُ قلبُك مستعرضا أقوى لحظات ضعفه انتصاره عبر شريط الذاكرة:
«DES YEUX QUI FONT BAISSER LES MIENS
عينان تخجل منهما عيناي
UN RIRE QUI SE PERD SUR SA BOUCHE
ضحكة تَضيع على شفتيه
VOILÀ LE PORTRAIT SANS RETOUCHE
هذه هي الصورة الخالصة
DE L›HOMME AUQUEL J›APPARTIENS
للرجل الذي أنتمي إليه..
QUAND IL ME PREND DANS SES BRAS
عندما يأخذني بين ذراعيه
IL ME PARLE TOUT BAS
يُحَدِّثُني هَمْسا
JE VOIS LA VIE EN ROSE
أرى الحياةَ وردية..
IL ME DIT DES MOTS D›AMOUR
يقول لي من كلمات الحُبّ
DES MOTS DE TOUS LES JOURS
كلمات كل يوم
ET ÇA ME FAIT QUELQUE CHOSE
وهذا يجعلني أشعر بشيء ما يتركه بداخلي..
IL EST ENTRÉ DANS MON CŒUR
لقد تسلل إلى قلبي
UNE PART DE BONHEUR
كجزء من السعادة
DONT JE CONNAIS LA CAUSE
التي أعرف أن له الفضل فيها..
C›EST LUI POUR MOI MOI POUR LUI DANS LA VIE
هو لي وأنا له في هذه الحياة
IL ME L›A DIT، L›A JURÉ POUR LA VIE
لقد قال لي هذا ووعدني به مدى الحياة..
ET DÈS QUE JE L›APERÇOIS
وأنا ما أن أراه
ALORS JE SENS EN MOI
حتى أشعر داخلي
MON CŒUR QUI BAT
بقلبي ينبض..
DES NUITS D›AMOUR À NE PLUS EN FINIR
ليالي الحُبّ التي لا تنتهي
UN GRAND BONHEUR QUI PREND SA PLACE
تملأ القلب سعادة
DES ENNUIS، DES CHAGRINS، S›EFFACENT
تَمْسَح الصعاب والأحزان
HEUREUX، HEUREUX À EN MOURIR
لنكون سعيدين إلى آخر العمر..».
بنبرات صوتها الشجي تَكتب إيديث بياف مَرْثيةَ الوقتِ، حِبْرُها ماءُ الورد والريحان باحثة عن إعادة الاعتبار لمعنى الإنسان المغترب في ظل استنزاف ثرواتِه الباطنية/ آبار الحُبّ التي تَرْقد في قعر القلب..
بصوتها المذبوح الذي يَهْتَاجُ كبحر العاطفة، ولا يُخْطئه الألمُ، تُحَلِّقُ إيديث في سماء الروح كملاك يَلُوذُ إلى عُشّ الحُبّ الدافئ الذي يُلَوِّن زمنَك بالوردي ويَفْرشُ لقدميك الوردَ..
لكن مهلا، فلن تبلغ من رِقَّةِ الورد وَرَقَةً دون أن تسبقها لَدْغَةُ شوكةٍ..
هل كانت إيديث تُصَدِّقُ حقيقةً الجانبَ الوردي الخفي من الحياة؟
هل كذبَتْ إيديث لما آمنتْ بتورُّد خدود الحياة وصَدَّقَتْ كذبتَها الكبيرة وجعلتنا نُصَدِّقها؟
مسارُها كان حافلا بالسقوط والبؤس والخذلان والحرمان.. ومع ذلك تسللت إلى قلوبنا، فكانت بمثابة قطعة السُّكَّر في الفَمِ الْمُرّ..
ليس مِنا مَن يُنْكر أنه وهو يُنصت إلى حياتها الوردية (إيديث) يَهيم هياما في كوكب الحُبّ الذي تدفعنا إلى التعلق بحباله عَلَّهُ ينتشلنا من جحيم الأرض..
الأرض دالية يمتد عذابها عناقيد مُرٌّ عِنَبُها.. لكن إيديث تَنْفخ فيه سِحرا لِتُحْلِيَ لنا عنبَ الأيام.. وأنتَ تُوغل في التجاوب مع الحُبّ الكبير الذي تعتصره لك إيديث حرفا حرفا لا شك في أنك سَتَرْكَعُ للحُبّ مهما جَلَدَكَ..
الحُبّ زيتونة مُرَّة، طيبةٌ نواتُها..
حُقَّ لصُنَّاع السينما أن يلتفتوا إلى حكاية إيديث ليُصَوِّرُوا أيقونةَ الحزنِ أو ثمرةَ الليلِ أو وجهَ الحُبّ المغلَّف بالدموع..
إيديث البرتقالة الْمُرَّة التي زَهد فيها فَمُ الحياة..
إيديث قطعة البلور التي أنهكَتْها النكباتُ كَسرا..
إيديث الحسناء التي أقعَدَتْها الحياةُ.. لم تتقاعدْ عن الحُبّ وتقاعدت عن الحياة..
إيديث الطفلة الكبيرة النائمة عارية في شارع الحُبّ المهجور..
نعم، إنها إيديث بياف.. قطار الحزن الذي يُغَيِّبُكَ قسرا في غير اتجاه خَطّ الرجعة!
إيديث بياف تتراءى لك في صورة قارورةِ حُزْن.. قارورة الحزن هذه نَفِدَ محتواها برحيل إيديث، لكن رائحةَ الحزن مازالت نَفَّاذَةً تفعل بك ما يفعل الزيتُ الطيار مُلامِسا قطعة من جسدك..
إيديث تصور لك في «حياة وردية» وجهَ الحُلم الذي سُرِقَ منها كعنقود حُبٍّ اختطفَتْه يدُ القَدَر قبل أن تَصِلَه أناملها (إيديث).
سيدةُ «LA VIE EN ROSE» كابَدَتْ في دنياها ما جعل منها وريقةَ إحساسٍ تتلاعب بها ريحُ القَدَر في حياةٍ عبثَتْ بها كما تَعبثُ أمواجُ تسونامي بمدينةٍ نائمة على كَفِّ البحر..
أرهقَتْها حروبُ الحياة، وأرهقَها الحُبُّ الذي اشتعل في قلبها كالبركان وتَمَدَّدَ على بساط «حياة وردية» (التعليق الموازي لِنَصّ العشق)..
لم يكن يكفي أن يكون الرجلُ الذي أَحَّبَتْه بجنون متزوجا وأباً لِتَنْعَرِجَ لَذَّتُها ويَتَقَطَّر الفرحُ من قِرْبَةِ حُبِّها، وإنما كانت صفارةُ القَدَر وهي تُشْهِرُ الورقةَ الحمراء في وجه حبيبها الملاكِم كافيةً لإعفائه من دوره في ملعب الحياة بعد أن تحطمَتْ به الطائرة..
ضربة في الصميم لقلبِ طفلة تَكونُها إيديث، ويستمر مسلسل السقوط..
إيديث بياف تُضْرِبُ عن حُبّ الحياة رغم الحُبّ الكبير الذي تَسقينا منه كأسَ «حياة وردية» العَبِقَة بتفاصيل حكاية الحنين..
ايديث بياف الأسطورةُ التي تجاوَزَتْ عَصْرَها..
إيديث بياف كأنها قطعة المورفين التي تُخْمِدُ ثورةَ أَلَمِ نسبةٍ من الفرنسيين وغير الفرنسيين..
ايديث بياف.. المرأة المعذَّبة بإحساسها!
إيديث بياف.. مُلْهِمَةُ الإحساس!
ما أرقّها إيديث!
ما أَرَقَّ العالَم الحالِم الذي تَنقلنا إليه على أجنحة الحُبّ!
حين يكون الفَقْدُ عنوانا والحُزْن فستانا والسقوط مظلَّة والشارع ملاذا والصرخة بَوْصَلَة مشروخة، فَكِّرْ في إيديث بياف وغَنِّ للحُبِّ "الجَنِين النائمِ".
د. سعاد درير
تراث الأندلس وتراثنا!!
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. صادق السامرائي
نتفاخر بتراثنا في الأندلس وفي ديارنا ندمر تراثنا!!
فكلما تكلمنا عن حضارتنا وتأريخنا والشواهد الجميلة التي تشير إليهما تتوجه الأنظار نحو بلاد الأندلس، أي إلى إسبانيا والبرتغال، وتنطلق الأقلام والحناجر بالتغني بتلك الأمجاد، ونتناسى أو نتقصد إغفال دور الإسبان في الحفاظ عليها، ولو كانت في ديارنا لمحقناها، كما محقنا آثار مدينة دمشق وبغداد والكوفة والبصرة وسامراء، وغيرها من حواضر الأمة التي سطعت في زمانها.
أ لم تكن سامراء منافسة لقرطبة، وجامعها الكبير الذي بُني بعد الجامع الكبير في قرطبة بعقود، كان من أجمل جوامع الدنيا في زمانه، لماذا تحوّل إلى ركام، وجامع قرطبة الكبير لا يزال على حاله منذ أن شرع ببنائه عبد الرحمن الداخل؟!!
ويوجد في معظم المدن الإسبانية شواهد حية للزمن العربي المشرق، وهي كما كانت في عصرها الزاهر، ولا تزال تحظى بالرعاية والإهتمام، فالمكتبات والمتنزهات التي شيدها العرب، وكذلك بيوت الأمراء والسلاطين، وعامة التاس، تجدها قائمة بأحيائها، وتعيش فيها الأجواء الدمشقية، فالبيوت التي بنيت في ذلك الزمن قائمة كما بنيت في حينها.
أما الجوامع الجميلة والتي تحولت إلى كنائس، فأن طرازها العمراني لا يزال قائما ويخبرك بأنها جوامع، وإن صار في داخلها ما يوحي بالكنيسة.
إن الذين يتفاخرون بالتراث العربي في بلاد الأندلس، عليهم أن يذكروا جهود الإسبان في الحفاظ عليه، ذلك الإهتمام الذي بلغ ذروته في القرن العشرين، لأن هذه الأمجاد العربية الشاخصة صارت قبلة للسياح من أرجاء الدنيا.
وعندما تجولتُ في مدن إسبانيا وإطلعت على الشواهد العمرانية الخالدة فيها، كدت أبكي على مدينتي سامراء، التي محقنا قصورها وجوامعها وما يشير إليها على أنها كانت عاصمة للدولة العباسية لأكثر من نصف قرن.
إن العيب فينا أجيالا بعد أجيال، والذين لا يرون ذلك، عليهم أن يواصلوا التغني بآثار أجدادنا التي حافظ عليها غيرنا، وكان بإمكانهم أن يمحقوها تماما كما محقنا شواهدنا الحضارية في مدننا، التي كان لها دورها الرائد الأصيل.
فلماذا لا نتفاخر بآثارنا في بلداننا، ولا نملك إلا أن نتفاخر بأمجادنا في بلاد الأندلس؟!!
د. صادق السامرائي
1\2\2021
أفلاطون: الزمان والطبيعة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: علي محمد اليوسف
تقديم: "يرى أفلاطون أن الزمان ليس أزليا، لأنه مخلوق من صانع، افلاطون لم يعتن العناية الكافية بالزمان كمثل عنايته بالمكان، ولم يضعهما في مرتبة متساوية متكافئة في تعالقهما الادراكي المتداخل، كما يرى أفلاطون الزمان مظهرا من مظاهر نظام العالم، بينما المكان إطار موجود – يقصد إطارا للزمان- موجود بالضرورة منذ الازل، مستقل عن الصانع أي أن – المكان – مستقل عن الصانع وغير مخلوق منه"1 وما يبدو مفارقة لنا أن افلاطون " يعتبر الزمان بخلاف المكان شرط ضروري سابق على فعل الصانع وهو عامل ثالث يضاف الى الوجود والصيرورة ولولاه لم يستطع الصانع أن يحدث النظام الظاهر في العالم."2
نستنتج فلسفيا من عبارات افلاطون المار ذكرها ما يلي:
1- المكان بخلاف تصوراتنا المأخوذة عن فلاسفة محدثين بدءا من كانط ما بعد الفلسفة اليونانية يرون حقيقة أسبقية المكان على الزمان أو تلازمهما التزامني بينهما جدليا على الأقل فيزيائيا بما يقبله العقل، والمكان بلا تأطير زماني هو موجود لا يدركه العقل. كانط لا يذهب بالخطأ في تفريقه مايدرك مكانا ليس مايدرك زمانا متلازما به.
نجد حسب رأي افلاطون المكان تأطيرا أزليا لزمان مخلوق سلفا من صانع ليجعل هذا التأطير المكاني للوجود يقوم على وجود زمان نظامي له، وينعدم المكان وجودا تأطيريا بغير هذه العلاقة التي ترى الزمان وجودا أزليا من صانع ولا يرى في المكان (الطبيعة) كوجود نفس النديّة التكافؤية بينها وبين الزمان. الطبيعة أو المكان عند افلاطون هي ليست مخلوقا من صانع فالطبيعة معطى أزلي عشوائي بلا نظام وهي من غير صانع، لا كما هو حال الزمان المصنوع بقدرة صانع ليس للقيام بمهمة تنظيم عشوائية المكان بل العكس في تكييف الطبيعة نفسها لمدركها الزماني وتنظيم نفسها بدلالة الزمان... هنا أفلاطون يؤمن بألجوهر الخالق غير المخلوق الله أنه زمان سرمدي مطلق يسبق وجوده الطبيعة والكون والاشياء التي يتوجب عليها كي تخلص من العشوائية المكانية تنظيم نفسها بالتكيّف مع الزمان المنّظم لكل شيء. لذا يكون كل مدرك مكانا هو موجود بعدي على الزمان لا قبلي عليه دونما زمن قبلي يزامنه ويلازمه الوجود ألمكاني حسب تفسيرنا لافلاطون، وهو فهم قريب من فلسفة كانط بعيد جدا عن فهم برجسون ، فكانط يجد الزمان والمكان هما قالبا الإدراك العقلي الفطريان للأشياء وليس هناك تراتيبية أفضلية في أسبقية أحدهما على الآخر كونهما قالبين فطريين مزروعين بألدماغ بالولادة.
بينما ينكر برجسون أن تكون مدركاتنا المكانية هي في حقيقتها زمانية صرفة كما يدركها العقل لا كما يفترضها المنطق كموجودات. وينكر برجسون أن المكان لا يدرك من غير زمان يلازمه.... وهنا يرفض برجسون حقيقة لا مكان لموجود يمكن إدراكه بلا زمن يلازمه ويزامنه حيث يعتبر برجسون هذه الشرطية الزمانية للمكان أن يوجد بها إدراكيا بدلالة الزمان ليست صحيحة حتى من الناحية الفيزيائية العلمية..
ويفهم برجسون المكان مدركا حسّيا عقليا معطى جاهزا لا يحتاج زمانا يحتويه ويؤكد وجوده الإدراكي إحساس الحواس له فقط بداية قبل أن يأخذ سلسلة المنظومة الادراكية للعقل مثل الجهاز العصبي والوعي والتفسير الذهني ومن ثم ردود أفعال العقل التي تأخذ مضمون الفكر وشكل اللغة التعبيرية عن كل مدرك عقلي. برجسون هنا يقترب كثيرا من افلاطون وبيتعد جدا عن مفهوم كانط.
فالطبيعة موجود أزلي يقوم على تنظيم ذاتي مسبق تحكمّها قوانين ثابتة، وليس الزمان معطى غير مدرك ماهويا يقوم على حفظ إدراكاتنا المكانية بنفس أهمية أنه يحفظ للطبيعة قوانينها العامة الثابتة التي تحكمها وتحكم الانسان معها. هنا نجد نظام الطبيعة الزماني المقترن بأزلية وجود الطبيعة لا علاقة للزمان المخلوق أزليا بها لا من قريب ولا من بعيد.
فأزلية نظام الطبيعة غير المصنوع سابق على أزلية نظام الزمان المخلوق من صانع حسب افلاطون. المفارقة العجيبة الأخيرة حسب العبارة المقتبسة الثانية تؤكد أن الزمان سابق على الصانع، وبهذا يكون المكان والزمان كلاهما غير مصنوعين (قصديا) من صانع بل كلاهما مفروضين قبليا عليه من مجهول يتعالى على الصانع نفسه وهو ما لا تقبل به الميتافيزيقا قبل العقل. بمعنى أن العالم الطبيعي والانسان وجدا منذ الازل هكذا ولا دخل لصانع في صنعهما وخلقهما. هذا الفهم تعبير يلتقي فلسفة كانط بالمضمون فيما وراء معنى تعبير اللغة فقط.
2- على العكس مما نتصوره أن الزمان هو نظام الاشياء في الطبيعة والكون، وعليه لا تكون هناك قوانين طبيعية ثابتة تحكم الطبيعة والكون والانسان لا تكون زمانية مطلقة أزلية. بمعنى أكثر وضوحا أن الطبيعة لم تكن نظمّت نفسها بقدراتها الذاتية التي تحكمها قوانين ثابتة من حيث أن أفلاطون يري أسبقية الزمان على الوجود المكاني الذي هو تأطير زماني نظامي لاحق على الطبيعة بعدي عليها وليس قبلي لها ينظمّها. فالطبيعة هي التي تمنح عشوائية الزمان نظامه المتجانس مع مدركاته المادية التكوينية لها. وليس العكس أن الزمان هو الذي يقوم على تنظيم الطبيعة والمكان من عشوائيتهما الوجودية غير المنتظمة.
بمعنى الطبيعة في قوانينها الازلية هي التي تحكم تأطير الزمان من العبثية وأللانظام وليس العكس أن الزمان هو إدراكنا تنظيم الطبيعة في قوانين ثابتة زمانية لا تتغير. الشيء المهم في هذا التفسير أن الطبيعة مخلوق منّظم ذاتيا بمعزل عن الصانع وعن فكرة الزمان مخلوق لتأطير الطبيعة كوجود له وليس العكس مما يذهب بنا التفكير أن الزمان الذي هو نتاج صانع قام به، هو عشوائي بما يجعل الطبيعة في نظامها غير المخلوق عن صانع تقوم بتنظيم الزمان مخلوق الصانع في عشوائيته العبثية. بمعنى مفارقة غريبة حسب تفسير افلاطون أن الطبيعة غير المخلوقة بقوانينها النظامية من صانع هي التي تقوم بتنظيم عبثية الزمان المخلوق من صانع بعد وجود الطبيعة. لا يمكن تصورنا الزمان مخلوق بعدي على الطبيعة وليس قبليا يتقدمها.
الفهم المسبق الراسخ تداوليا هو كنا نرى تنظيم الطبيعة إنما هي خاصّية الزمان في حفظه قوانين تنظيم الطبيعة الثابتة لها من الإنتهاك وهو خلاف ما ذهب له افلاطون. فالطبيعة عنده مالم تنّظم نفسها في تأطيرها هي الزمان سيكون إدراكها المنّظم ذاتيا معدوما. هنا يمكننا القول أن الطبيعة تعقل نفسها أكثر من إمكانية الزمان يعقل ذاته. وتبدو الفرضية الثانية أكثر مقبولية بالقياس الى الطبيعة التي لا تعي ذاتها ولا تعي الموضوع فكيف يمكنها تنظيم الزمان كمدرك موضوعي لها.تأطير الطبيعة للزمان من غير إدراك قصدي تعيه يجعل من الزمان وجودا يدرك ذاتيته بمعزل عن الطبيعة.
3- والمكان عند افلاطون ليس (مخلوقا) منظمّا من صانع يسبق أزلية الزمان المفروضة على الصانع بلا إرادة قصدية منه في مهمة تنظيم الطبيعة والعالم له وليس تنظيمه هو العالم.. وحسب فهم أفلاطون للزمان الأزلي المخلوق تكون الطبيعة وجودا إعتباطيا غير مخلوق من صانع إنما وجودها مقترن بالضرورة الأزلية في إحتوائها الزمان السابق عليها وتنظيمها لنفسها زمانيا بدلالة لا نظام الزمان نفسه. بمعنى الطبيعة هي تكيّف الزمان لها وليس الزمان يتكيّف إدراكيا معها.
بعبارة ثانية الطبيعة لم توجد تنظيميا كمعطى أزلي وجد هكذا بنظامه في القوانين الطبيعية الثابتة التي تحكمها ويبقى هكذا، يدهش العقل البشري قبل شرط إلزامية وجود الطبيعة من أجل تأطيرها هي لزمن الإدراك لوجودها الازلي. بمعنى يشوبه الغموض أن الزمان هو قلب الطبيعة ومحتواها وليس هو تشكيل إدراكاتنا للطبيعة خارجيا بصفاتها الخارجية البائنة المحسوسة والمدركة. وبالطبيعة المنتظمة ندرك لا نظامية الزمان العشوائية في تعامله معها في تأطيرها الزماني له. بمعنى عشوائية الزمان هو ما تقوم الطبيعة تنظيمه، وليس عشوائية المكان هو مايقوم الزمان تنظيمه. بضوء تفسيرنا لمفهوم افلاطون حول علاقة المكان بالزمان.
4- المفارقة الغريبة في مطلق وأزلية الزمان المخلوق من صانع عند افلاطون، هو أن تكون الطبيعة وجودا عشوائيا من دون زمن سابق على موجوديتها الطبيعية المكانية أنطولوجيا وهي موجود ازلي من غير الصانع للزمان،. حيث المكان يؤطر الزمان وليس الزمان يؤطر المكان. لذا فالزمان ينّظم الموجودات ليس بقوانين الطبيعة العامة الثابتة التي نتعامل بها فيزيائيا علميا، بل الطبيعة والموجودات تؤطر نفسها توافقيا متكيّفا مع الزمن ألإدراكي لها في تبعيتها هي للزمان لا في تبعية الزمان للطبيعة.
5- المكان عند افلاطون كما ذكرنا لا يسبق الزمان ولا يوازيه وجودا ولا يكافؤه ولا حتى يداخله تزامنيا- مكانيا. بمعنى الزمان لم يخلقه الصانع لعلة وسبب تنظيم المكان (الطبيعة).. بل أن المكان حسب تعبير افلاطون موجود بالضرورة الأزلية والذي لم يخلقه الصانع إنما دوره تأطير الزمان في نظام الاشياء والطبيعة.. مما يرتب على هذا إستنتاجنا أن المكان وجود غير موجود ولا يكتسب موجوديته إلا بتأطيره هو لنظام الزمان الذي تخلعه الطبيعة عليه وليس العكس، وليس أسبقية تنظيم الزمان على المكان. فالمكان خلق من أجل أعطاء الزمن معناه الفيزيائي وليس الزمان خلق من أجل أعطاء المكان تعينّه الانطولوجي المنّظم.
6- أخطر الامور التي تترتب على فهم افلاطون لمعنى علاقة الزمان بالمكان هو قول افلاطون أن الزمان غير أزلي لأنه مخلوق من صانع – يقصد الزمان فان فناء زائل بينما هو في فهمنا أزلي أبدي لا يفنى - وهو ما يضعنا أمام محنة أن ازلية الصانع المرتبطة بلا أزلية الزمان تكون قائمة بالملازمة الافنائية العدمية لكليهما معا، والصانع يفنى بفناء محدودية خلقه لزمان غير أزلي. كون ما ندركه من الزمان هو تنظيمه لمدركاتنا ليس في زمنها ألإدراكي عقليا بل في وجودها الانطولوجي. وبعدم أزلية الزمان تنعدم معه أزلية الصانع له. أي في إنعدام ازلية الزمان ينعدم معه بالضرورة السببية عدم أزلية الصانع. وبذلك يكون افلاطون خرق إيمانه الديني بالخالق الذي أوجد الطبيعة والزمان أنه فان زائل وليس سرمدي باق. لإرتباط وجوده بوجود سرمدية الزمان الفانية كون الزمان مخلوقا وليس خالقا لشيء.
7- إن النظرية الكانطية التي تذهب الى عدم إمكانية إدراكنا لموجود مكانيا من غير ملازمة زمانية له، تصبح لا قيمة حقيقية لها، لإنفقاد حقيقة التكافؤ الوجودي بين الزمان والمكان. من حيث أننا لا ندرك الاشياء والوجود عموما إلا في زمانيته فقط حسب الفرضية الكانطية، وكل موجود لا يدرك مكانا- زمانيا لا وجود إدراكي حقيقي له. وأننا نذهب مع الرأي الذي يرى في حقيقة إدراكنا الموجود مكانا أنما هو مدرك موجود زمانا، والمكان الذي لا يلازمه زمن إدراكي لا يعقله العقل كموجود. ولا يبقى معنى لأفضلية أسبقية الزمان على المكان وبالعكس لأن مناقشة هذه الفرضية المعقدة هي من مهام الميتافيزيقا التي يتقاطع معها إدراك العقل في مناقشتها. والمكان يكون لا وجود مادي من غير زمان يلازم إدراكنا له.
علي محمد اليوسف /الموصل
....................
1- عبد الرحمن بدوي /الزمان الوجودي/ ص 59
2- نفسه نفس الصفحة
الإيمان قبل المعرفة والإيمان بمعرفة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. ريكان ابراهيم
في علم النفس الديني (6)
هناك قولٌ لأحدهم مفادُه: إن الإيمان يسبق المعرفة. معنى ذلك أن الإيمان بالله يسبق معرفة الفرد له بوسيلة من الوسائل (مراقبة آثاره الكونية) أو بطريقة الإستنتاج (الإستنباط العقلي والمقارنة).
إن الإيمان الذي سبق المعرفة مرَ بمراحل ومنها ظهور الدين البدائي الذي اعتمد الكائن البشري عنصرين من الدلالة:
1- فضول النفس البشرية في معرفة القوة الأعظم في الكينونة.
2- الخوف من المجهول والبحث عن سندٍ ضد هذا الخوف .
إن هُيولي الكون وعظمة الخلق قادا إلى صعوبة إدراك الإنسان حقيقة أن هذه الظاهرات يمكن، بل يجب، أن تُدار بقوة واحدة.
ومن هذه الصعوبة في الإدراك وزع الإنسان إيمانه على أكثر من قوة فوقع في مصيدة (تَعدُد القوى وفيه تَعدُد الآلهة). إن تَعدُد الآلهة كان منسجماً مع ميل الإنسان الدائم إلى التجزيىء. فما زلنا إلى الآن نميل إلى تجزئة الأمور والمسائل والمشكلات محاولةً منا لإيجاد الحل. والتجزئة هذه تقود دائما إلى قاعدتين:
أ- الإفتراض
ب- الإحتمالات
وفي الإفتراض يلجأ الإنسان إلى الإفتراض وجود الشيء أو إنعدامهِ (موجود أو غير موجود). وفي الطب النفسي يبرز دائماً سؤال من المفحوص إلى الفاحص (الطبيب النفسي): هل أنا مريض أم أن ما أعاني منهُ ليس مرضاً؟ ومثل هذه الحالة واجهت الإنسان: هل الكون بإله أو بدون إله؟ وإذا لم يكن بإله فهل تستطيع الطبيعة خَلق نفسها؟ وإذا كان هناك إله فكيف هو؟ وأين هو؟
إذن، لم يكن البحث مُتجهاً إلى إنكار وجود الله بل إلى معرفة وجودهِ. إن الإلحاد عملٌ إختزالي يمارس فيه الإنسان استراحة عقلية (بلادة وتجاهل) لا يبذل فيها جهداً، بينما الإيمان عملٌ فكري يتطلب المجاهدة.
ومع هذا العقل برزت عواطف الإنتماء إلى القوة التي تُخيف وتَرحم وتُشفي من المرض وتُصيبُ بالداء والكارثة.
إن العقل يؤمن بما يحس وبما يدرك بوسائله الأشياء، لكن العواطف تنحازُ إلى ما يطمئنها من الخوف، ولذلك ظل ويظل للعواطف (وفيها المزاج والمشاعر والحب والكره) السهم الأكبر في الإعتقاد بما يثير من خوف وما يبعث على طمأنينة.
بتلك العواطف صنع الإنسان آلهتهُ، ومن أقرب الأشياء إليهِ (الأفعى لأنها تخيف بالسم، والنار التي تحرق، والزلزال الذي يُدمر....الخ). هذا هو الإيمان الذي يسبق المعرفة، وهذا هو ما نقوله عن الأمراض. أما في مجال الإحتمالات فإن الإنسان كان ينشطر في أفكاره حيث تطول قائمة التوقعات فاحتمالٌ يقود إلى إحتمال في مسلسل لا ينتهي.
من هذا نستنتج أن الإيمان الذي سبق المعرفة كان إيماناً بالمخيف أكثر منه إيماناً بالرحمة والحُب. أي أن الآلهة التي آمن بوجودها الإنسان كانت رموزاً للخوف.
لاحظ الرموز التي صنع منها الإنسان آلهةً: التنين، العنقاء،الطوطم، البرق، الرعد، الأفاعي. وحين تطور العقل الإنساني أضاف إلى هذه الرموز أسماء أقل قدرة على إلحاق الضرر من سابقتها (كيوبيد إله الحب، سايكي آلهة النفس، نرسيس إله العشق...).
ومن بين أسباب التي جعلت الإنسان يختار رموز الخوف أسماء لآلهته هو تأثر هذا الإنسان بصور الرعب البشري من الإنسان الظالم، والإنسان السارق، والأسد المفترس، فأضفى هذه المسميات على آلهته.
وإلى الآن ظل الإنسان يعاني من الحاكم المخيف فيظهر له الطاعة من باب الوقاية من شره لا من باب الطمع في رضاه وحبه. وحين ظهرت الكتب السماوية أعلنت أن طريق العبد (الإنسان) إلى الجنة هو رضا الرب وإن طريقه إلى جهنم هو سخط الرب عليه وإنعدام رضاه.
وشتان بين صورة رب السماء وصورة الإنسان الظالم ولكن الإنسان لم يكن يدرك لأن إيمانه سابق لمعرفته. يقول القران (كتاب السماء): (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ...الآية).
معنى هذا أن مُنطلق الإنسان إلى إدراك الله هو الجبلة أو الفطرة التي تُحببُ الإيمان أصلاً فيها (في تفكيرها وعواطفها وسلوكها)، لهذا لا يوجد مُلحدٌ ما لم تقم نفسه على العناد والمكابرة ضد الميل الفطري، وكل عناد يقود إلى حالة مرضية.
أسباب ظهور الإيمان بالشيء قبل المعرفة:
لأجل ان نتدرج في تعرفنا بالإيمان الذي سبق معرفتنا بالله، نودُ أن نقرب الأمثلة بالتحاور في أشياء قريبة من الحس لأن أكثر الناس الذين عانوا من الإلحاد هم الناس الذين يميلون الى التعامل بالمحسوس.
دعنا أيها القارىء نتكلم على شيءٍ ما مما يقع حولنا فلأجل أن نصل بيقيننا إلى أن ذلك الشيء موجود يجب أن نمر بالمرحلة الآتية التي تُعدُ أسباباً لرسوخ إعتقادنا بوجوده:
1- توقعُ وجود ذلك الشيء: إنك لا تبحث ولن تبحث عن (لا شيء) لأنك مسبوق ذهنياً بتوقع وجودهِ. إن التوقع هو الذي يقودك إلى إحدى النتيجتين: نتيجة وجودِه أو نتيجة عدم وجودِه.
وكثيراً ما يكون إنعدام عثورنا بهذا الشيء سبباً لتأجيل البحث بدلاً من إصدار قرارنا بإنعدام وجوده لأن إنعدام العثور لا يعني بالضرورة عدم أو إنعدام الوجود. إذن يظل التوقع هنا بمثابة (الدافع).
2- ظهور آثار لفعل ذلك الشيء: إن الذي يقود إلى ظهور التوقع هو الحاجة لدينا إليه أو الأثر الذي كان قد أحدثه ذلك الشيء. فحاجتنا إلى الماء تقودنا إلى البحث عن (الماء)، وفي الصحراء يقودنا وجود واحةٍ بأشجار مزهرة خضراء إلى توقع وجود الماء وإلا لما نبتَ النبات فندرك وجود الشيء (الماء) في جوف تلك المنطقة من الصحراء من النبات الذي أزهر. فعلى مستوى المشاهدة والرؤية لا نرى الماء الجوفي لكن ظهور آثاره (النبات) دلل على وجوده.
3- إستحالة تَفسير الأثر بدون وجود مؤثر: أن لكل مُؤثِر أثراً يرتبط به نوعاً وشدةً وزمناً. ففي مثالنا السابق في الفقرة (2) لا يظهر النبات في بقعةٍ صحراوية قاحلة بسبب وجود النفط في باطن تلك البقعة لأن النفط غير قادر على إنبات النبات أو تغذيته بل إنه الماء.
ووجود التلف في الملابس المخزونة في خزانة الملابس لا يمكن ربطُهُ بوجود سابقٍ لسارق في البيت لأن مهمة السارق السرق وليس إحداث التلف في الملبس فيقودنا إستدراكنا للأمر إلى وجود حشرة العِث في الخزانة فكانت سبباً في مثل هذا الأثر المخصص، من هذا نستنتج أن الأثر يكفي للدلالةِ على وجود المؤثر حتى لو لم ندركه أو ندرك هذا الوجود.
هذا على مستوى الأشياء التي يختصُ كل منها بأثر مُعين فكيف يكون الأمر حينما تتعدد الآثار بمؤثر واحد. إننا الآن أدركنا بأن تعددُ الآثار بمؤثر واحد يستلزم وجود هذا المؤثر بقوةٍ عظمى لا ترقى إليها قوة أخرى.
هذه القوة التي تعددت آثارها في الكون على أنواع من اللون والطعم والرائحة والطول والقصر. بهذه البساطة نصل إلى وجود هذه القوة ولكن الذي يحدو ببعضهم إلى الإنكار وصولاً إلى الإلحاد هو العجز الذهني عن إدراك هذه القوة.
إن وجود تِلالٍ من الأرض يمكن أن يقودنا إلى إحتمال أن مجموعةً من الآليات قد عملت على إنشاء هذه التلال لكن وجود جبال الهملايا بقمتها "إفرست" يُحجُم فينا هذا الإحتمال ويقودنا إلى أن القوة التي أنشأت هذه الجبال هي من الضخامة والشدة ما يدعو إلى العجب.
ومثل ذلك ما ينطبق على المكوك المصنوع الذي يُحلق في الفضاء وهو من صنع البشر لكنه لا يجيب عن القوة التي بأثرها يظل المريخ والزُهرة وعطارد أجساماً مُعلقة في الفضاء.
إذن، الأمر واحد لكن العظمة تكمن في وجود النسبة والتناسب في القدرة على إحداث الأثر. إن الإنسان مخلوقٌ على شاكلة الله ولكن هذه الشاكلة تحمل مفهوم (الجزء من الكل) و (المحدود من المُطلق) فتتماهى إلى أن تقف لأنها ستصطدم بالقوة الأعظم (الخالق).
4- إستمرارية الأثر وتكرر صوره: بسبب قانون التطور يحدث التغير، والتغير الذي نعنيه في الشيء هو إما زوالُه أو تحولُه من حالةٍ إلى أُخرى. معنى هذا أن الشيء المؤثر يزولُ يوماً ما أو يتحول إلى حالةٍ أُخرى يوما ما.
وبهذا الزوال يختفي الأثر كما أنه بهذا التحول يتغير الأثر، مثالاً على ما ذكرنا: سُم الأفعى.... كان هذا الشيء في سالف القرون من حياة الإنسان سبباً في حدوث أثر (التسمم والموت). فكانت الأفعى تٌقتَل ليزول هذا الأثر وكلما إزداد قتل الأفاعي في منطقة سكانية بالمبيدات والمصائد، حتى يصل العدد منها إلى الصفر، يَزول أثرها.
وتدرج العلم صعوداً بالإنسان إلى مرتبة أعلى فأصبح سٌم الأفعى علاجاً لأمراض كثيرة فصارت الأفاعي تُربى في أحواض المختبرات، فتحولت بذلك من (شيء) يُقتل إلى (شيء) يُربى ويُرعى.
معنى هذا وعلى وفق مفهوم الزوال أو التحول يتحددُ الأثر. لكن هذا الطرح لا ينطبق على (قوة) ظلت هي الأقوى لأن أثرها، ومن ثَمَ آثارها، ظلت مُستمرة وغير قابلة للنقصان بالزوال أو إختلاف الأثر بالتحول.
هذا ما ينطبق على (الأشياء) من حولنا فكيف يمكن لنا أن نتدبر (القوة الأعظم) التي تمارس حالة الثبات بعيداً من الزوال أو التحول؟
***
بعد هذه المناقشه التي أوردناها عن أسباب ظهور الإيمان بالشيء قبل المعرفة، نَودُ أن نناقش دلائل وجود الإيمان قبل المعرفة.
دلائل وجود الإيمان قبل المعرفة:
1- وجود العقل المفكرِ المتأمل: إن الحيوانات لم تبحث في يوم ما عن رب تعبدُه وتتقرب إليه لأنها بلا عقل يُفكر أو يتأمل فأصبحت تلك الوظيفة خاصةً بالإنسان.
إن الله لا يحتاج إلى أن يؤمن به أحد، لكن الإنسان هو الذي في حاجة إلى هذا الإيمان بحكم ما يقدمه هذا الإيمان من استقرار نفسي وثبات على حالة السواء في القيم والموازين وبناء المملكة الإنسانية.
ولولا تزود الإنسان بعقله لما ظهرت محاولات البحث عن الله. ومَن لا عقلَ سليماً لديه لا يُطالب بهذا البحث. صحيحٌ أن محاولات البحث في العقل البدائي كانت ساذجة لكنها كانت جادة في حياة الإنسان وكلُ طور عقلي محكومٌ بوسائل نضجه.
2- علاقَتهُ بالناحية النفسية (العواطف): ومن الأدلة على وجود الإيمان قبل المعرفة جبلةً وفطرةً، ظهور الميل إلى الإستقرار النفسي لدى من يؤمن بوجود الله منذ بواكير الإنسانية.
فالأديان التي صنعها الإنسان وصولاً إلى رَبه كانت تسدُ شاغراً عاطفياً بالحُب والتقرب تارة وبالخوف واتقائه تارةً أُخرى. إن الإنسان كائن خائف منذ وجودِه على الأرض وحتى زوالها مهما إختلفت مراحل تقدمه الفكري وحالات نضوجه العقلي. إن أكبر دليل على ضرورة إيمان الإنسان بخالقٍ يخشاه أو يحبه هو ظاهرة (الموت).
فلقد أدرك الإنسان أنه لابُد من أن يموت يوماُ فأدرك الخوف وصار الأخير سبباُ للبحث عن الإله الذي يُميت أكثر من بحثه عن الإله الذي يخلق. ولولا وجود الإيمان بالعالم الآخر بما في من عاقبة وثواب لما إنشغل الإنسان بالبحث عن ربه لكن القاعدة التي تقول: إن الموت أصعب من كل ما قبله وأهون من كل ما بعده، هي القاعدة التي رسمت خارطة تفكير الإنسان في كيفية التعرف بهذه القوة التي تَخلُقُ وتُحيي وتميت وتبعث مرة أخرى.
3- علاقة الإنسان بالناحية الإجتماعية: كان المَيل الجمعي، العقل الجمعي والضمير الجمعي، هو الغالب على حياة الناس منذ بواكير الإنسانية الأولى. فلقد أنشأ الإنسان مجموعاته في العيش معاً وعدَ هذا التجمع سبباً للإطمئنان من عزلة وجوده ووحشة إغترابه.
وأمام هذا التجمع في فرق وفصائل وقبائل أصبح الإنسان مُلزما بتقديم التنازل عن أفكارِه الخاصة لصالح ما يُرضي به تَجمُعه وتقرِبه إليه. ويُعدُ الميل المبكر إلى روح الجماعة نوعاً من أنواع الإيمان برب الجماعة إيماناً دالاً على الرب قبل معرفته بأثاره.
ومن دلائل استمرار مناغاة الإنسان لإيمان جماعته فطرةً ظهور الملحدين، حتى في عصورنا هذه، وكأنهم غرباء عن مجتمعهم. فقد يتوحدون في منظمةٍ أو حزب أو مؤسسة تظل مهما تضخم عددها، معزولةً عن (القطيع) نافرةً بخصوصية أفكارها.
ومن دلائل الوحدة الإجتماعية وإجماعها على الإيمان أن الملحد يعاني من النشوز الإجتماعي مشاراً إليه بإنحرافه عن السواء العام.
4- دور الإيمان في الإرتقاء الفكري: وهذا دليلٌ آخر على وجود الإيمان قبل المعرفة. فالمعروف المُطالب به دائماً هو قدرة المُلحد على إثبات إلحادهِ وليس قدرة المؤمن على إثبات إيمانه.
فإذا قلت ببساطة أن لكل مخلوق خالقاً وأن هذه الكائنات موجودة بخالق كفى بذلك دليلاً فيما يظلُ المُلحد يعاني من مسألة إثبات إلحادِه. إن إنعدام إقتناع الإنسان الأول بما تصورهُ عن صورة الإله ورمزُه على هواه هو السبب في إندفاع الإنسان نحو ضرورة المزيد من التفكير بما يكون عليه هذا الخالق وهذا ما نعني به الإرتقاء الفكري.
لقد استطلع الإنسان الآفاق قبل أن يستطلع نفسه فكان البحث عن تفاصيل الكينونة والكون سبباً في ظهور أبحاث الفضاء والأجرام والكُوى والبروج وهذا هو، مرةً أخرى، ما نعني به الإرتقاء الفكري.
5- دليلُ الميل إلى الخلاص من الحيرة والإغتراب: لم تكفِ الإنسان الأول فردانيته وقدراته المودعة في دماغه ومراكز عواطفه سبباً لشعورِه بالإنسجام مع الكون الذي حوله، فلم يجد إلا الإله ونوع الدين الذي أنشأه محطةً لإستقرار عواطفه وخلاصهِ من مشاعر الحيرة في الوجود والغربة عن داخله ومحيطه.
لقد كانت الأسطورة تُوفر عليه عنصر الطمأنينة على الرغم من سذاجتها وإنعدام قدرتها على الصمود مع الزمن. لا يمكن أن يستقر الإنسان وأن يتحدى إغترابه إلا بإيمانه بالإله الخالق.
***
بقي علينا هنا أن نفحص المجالات التي ظهر فيها الإيمان قبل المعرفة لأننا سنصل بهذا الفحص إلى معرفة التدرج الإنساني في مسألة الإيمان النهائي الذي قدمته الكتب السماوية عن صور الخالق العظيم.
وسنقسمُ هذه المجالات على نوعين:
1- المجالات المُبكرة في الظهور
2- المجالات المتأخرة في الظهور
أ- المجالات المبكرة: ونًقسمها على الآتي:
1- الآفاق (الشمس والقمر والنجوم والسماء): لقد سبق تفكير الإنسان في إيمانه إلى تأمل الآفاق قبل تأمله نفسه إنسجاماً مع القرآن الذي نزل متأخراً عن هذه الصورة الإيمانية فأثبت حكمة الله في هذا السبق (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ)، فقدم الآفاق وهي البعيدة عن الإنسان على النفس التي هي بين خوالجهِ.
إننا إلى الآن كثيراً ما ننسى التفكير في دواخلنا وننشغل بالتفكير في ما حولنا. فالإنسان لا يندهش بما يملك أكثر من إندهاشه بما يملك من البعيد عنه (ومن ذلك حالة الحسد حيث يحسد الإنسان حالة غيره ناسياً ما هو عليه من نعمة). هكذا مارس الإنسان حالته الإيمانية بآثار الله في ما حوله من الآفاق.
2- الليل والنهار والزمن: وللزمن مفهومان: الزمن الفسلجي الداخلي الذي لا نشعر به إلا بالتقادم في العمر ودلائله التشريحية والوظيفية. والزمن الرياضي الخارجي المصنوع بحركة الأرض حول نفسها لتصنع الليل والنهار وحول الشمس لتصنع الفصول الأربعة.
والإنسان فطرياً، تنبه على الزمن الرياضي قبل أن يتنبه على زمنه الفسلجي. لقد كان الإنسان يتعامل مع الزمن الرياضي فيتزوج في عمر متأخر ولا يقيم إعتباراً لعمره، على عكس الإنسان المعاصر الذي أقام الفواصل حينما تعامل مع عمره وأصبح يحارب الشيب بالأصباغ وتجاعيد الوجه بالجراحة التجميلية وهرم القامة بزاهي الثياب.
3- الظاهرات الطبيعية المتكررة (المطر والبراكين والزلازل): لقد كانت مخيفةً له، وغامضةً في أسباب حدوثها فكانت بذلك سبباً في إيمانه بكيفية الوقاية منها حباً أو كرهاً فجعلها من جملة منظمة الغيب التي يجب أن تُعبد.
إن الفهم المعاصر لهذه الظاهرات الكونية جردها من صفاتها الدينية وروادعها الأخلاقية واعترف بإمكان حدوثها على رؤوس من آمنوا ومن ألحدوا لأنه لا توجد علاقة بين هذه الظاهرات وقيمتها الأخلاقية.
هذا الأمر كان مختلفاً عند الإنسان الذي آمن قبل معرفته حيث ربطها بالعقاب لذلك أقام للمطر رباً وللبراكين رباً وللزلازل رباً كما أوردنا سابقاً
وعلى الرغم من إكتشاف الإنسان المعاصر لأسباب حدوث هذه الظاهرات، ظل إيمان الإنسان القديم بجانبها الردعي الأخلاقي أحلى تفسيراً وأحب إلى النفس تأويلاً
ب- المجالات المتأخرة: ونقسمها على الآتي:
1- النفس (العقل والعواطف والسلوك): لقد آمن الإنسان بربِه في الآفاق ونسيَ نفسه بكل ما فيها من عمليات النضج وتركيبة الدماغ ومنعكسات الحبل الشوكي ومسيرة الهرمونات والموصلات العصبية وأسرار النوم وكهربائية الدماغ والقلب ووظيفة الحيمن وصورة المبيض وأسرار الدورة الشهرية وإلى آخر ما هناك ان كان هناك من آخر.
ومن بين الأسباب التي جعلت الإنسان ينشغل بالظاهرات الخارجية عن نفسه هو أن الإنسان هذا كان محكوماً بالتطلع إلى كبريات منها نائياً عن فحص الدقيق القريب منه ناسياً أن صورة الكون ممثلة في داخله.
2- الميلاد والموت: عندما تنبه الإنسان الباحث عن خالقه عبر مخلوقاته فأقام لها رموزاً، كان يتوسم فيها نصرته على الموت.وحينما أخفق في الحصول على هذه النصرة بدأ يفقد الأمل في إلههِ المصنوع بواسطته.
واستقر به الحال ان الفسحة الزمنية المحددة بميلاد وموت (وهي حياته) أمرٌ لا يحققه إلههُ الوضعي فآمن أن إله الموت والحياة هو إله آخر يختلف عن آلهة العذاب والنعيم الأرضي لكنه ظل يؤمن بالقوة الأعظم.
3- السلوك الفاجر والسلوك التقي: وهذا المجال هو من المجالات المتأخرة في إيمان الإنسان الذي سبق المعرفة بالله. فلقد كان الإنسان يٌنزه آلهة الخير عن فعل الشر فيجعل للأخير آلهة أُخرى، فيتقرب إلى الأولى بالحب ويبتعد عن الثانية بالنذر والقرابين الواقية من شرها.
إذن كان الإيمان (وقد ظل إيماناً) مُقسماً على مفاصل طبيعة الإله المختص بشرٍ أو خير. إن الإنسان في إيمانه بأن الخير والشر ليسا من صنعه بل من وجود قوةٍ أُخرى تملي عليه السلوكين نحى عن نفسه-بصورة أنانية- فعل الشر ليحيله إلى فاعل خارجي؛ إلى أن جاء النص السماوي الذي يقول: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)، واضعاً أمام الإنسان حرية الإختيار والكينونة بواحدةٍ من الخيارين: الفجور والتُقى.
***
وصلنا الآن إلى مناقشة الإيمان بمعرفة ونعني بذلك المحطة التي نضَجَ فيها العقل البشري وتهذبت العواطف. كيف ظهر هذا الإيمان. بمعنى آخر: هل هناك من عوامل أدت إلى ظهوره؟ نعم هناك عوامل.
عوامل ظهور الإيمان بالمعرفة: نستطيع أن نتكلم على هذه العوامل كالآتي:
1- التقدم العلمي الكوني: مما لا شك فيه أنه كلما طابق ما يصل إليه العلم الإنساني بما حوله وبما يدور من فسلجتِه ما قال به الدين مُمثلاً بالكتاب السماوي إزداد إيمان المؤمن وقل إلحاد المُلحد لأن هذه الكتب السماوية نزلت يوم كانت الأداة العلمية للبحث والإكتشاف ضعيفة وقليلة، فلما تقدم الفتح العلمي فوجد أن لدى الباحثين فيه مطابق لما قالت به هذه الكتب تأكدت مصداقية الداعي إلى الإيمان.
ولو كان الكتاب السماوي يروي أحاديث عن أحداثٍ سبق أن حصلت لأصبح بذلك كتاب روايةٍ عن تاريخ يمكن أن يذكره أي مؤرخ، لكن الكتاب السماوي تحدث عن أحداث المستقبل وظل إلى الآن يحمل الكثير من الأسرار التي يكتشفها التقدم العلمي تباعاً.
2- تطور فن الأخلاق: إن الأخلاق التي يسير عليها مجتمعٌ ما من المجتمعات الإنسانية تحمل جانبين: الجانب الفني والجانب العقلي. وكثيراً ما يصادفنا من يقول أن العقل لا أخلاق له ولا يؤمن بها.
هذا هو العقل المجرد الباحث عن المعادلة الحسابية في الأشياء لكن العيش بهذا العقل يعني تصحر النفس البشرية، لأن هذه النفس تحتاج إلى رطوبة العواطف، فنشأ من هذه الحاجة فن الخطاب وأخلاق المعاشرة وأدب النفس وطريقة التعامل.
إن الإلحاد كان يُعلم الإنسان فوضى الكلمات وإهمال الحوار والجدال المثمرين ولو أخذنا القرآن مثالاً على كتب السماء نجده كتاباً ينمي ذوق المحاور وطريقة إمتثال الصغير للكبير والحنو على الضعيف بما لا يجرح فيه نفسه وكرامته، فجاء هذا الكتاب سابقاً دائماً لكل المدارس الوضعية التي تُعلم الإنسان ما يدعي في المدنية الحاضرة ب(الأتيكيت).
3- تقدم دراسات النفس: عندما تحدث الدين عن الثوابت التي تحكم النفس البشرية عارض أهل الإلحاد هذا التوجه وزعموا أنه ضد التقدم العلمي الطبي الذي يحاول أن يسمو بالإنسان نحو الأصح والأفضل.
وحينما توصل الباحثون إلى فسلجة الإنسان والصورة السريرية الناشئة من تفاعل فسلجته مع البيئة شيٌ يفوق الجهد العلمي آمن هؤلاء بما نادى به الدين، حيث الحدود الفاصلة بين المُقرر والطموح وبين الممكن والمستحيل.
كما أثبتت الدراسات المعاصرة في علم النفس الهيولي الكبرى في مغالق وأغوار النفس البشرية فطابق هذا الكشف ما نادى به (علم) الدين من ضرورة الوقفة الطويلة المتأملة أمام هذه النفس، السر المغلق الطلسم الذي يحتاج إلى أقصى الجهد لكشف أبسط الممكن منه.
بهذه المجالات (العوامل) الثلاثة (الكون،الأخلاق، النفس) وجد الفتح العلمي نفسه أمام حالة اللقاء بقول الدين: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ).
***
أثر الإيمان بمعرفة: لقد إختلف الإيمان قبل المعرفة عن الإيمان بمعرفة في ظهور آثار واضحة للأخير تفوقَ بها على الأول. ومن هذه الآثار:
1- زوال أو تجحيم الدين البدائي: قام الإيمان بمعرفة الله في دلائل خَلقه بتفنيد العقلية الأولى التي أنجبت دين الميثولوجيا والرمزية الطوطمية.
وعلى الرغم من ذلك ما زالت هناك مجتمعات تمارس طقوس أديانها القديمة بعيدةً عن الإيمان بخالقٍ واحدٍ لا يعتمد التوسط في الوصول إليه.
وتنقسم تلك المجتمعات من هذا النوع على ثلاثة أقسام:
أ- مجتمعات لا تملك أدلة القطع الجازم بالتوحيد
ب- مجتمعات لا تملك أدلة القطع الجازم بالإلحاد
ج. مجتمعات لا تملك قوة الرفض للقديم من تراثها الذي تملؤه الأسطورة
2- استقرار الإنسان صحياً: ونعني بالصحة هنا: صحة النفس وصحة البدن. فعندما عرف الإنسان ربه عَبر ما خلق فيه وحله من دلائل إعجازه غادر مرحلة القلق.
إن البحث العلمي في المجال النفسي والعقلي والعصبي أثبت أن المؤمن بالله إيماناً مُطلقاً أقل الناس تعرضاُ لأمراض النفس. ولا يُحسب على قولنا هذا ظهور الأمراض تلك في الناس الذين يتعاملون مع حقيقة الله (ووسيلة الإيمان به: الدين) تعاملاً طقوسياً جامداً يخلو من التأمل.
3- زيادة تلاقح الدين والعلم: لقد أضاف الدين إلى العلم الآتي من الأمور:
أ- الأخلاق والتهذيب: حيث علم الدين رجل العلم الصبر والتريث وإحترام المجهول واستقصاء النتائج والمطاولة وإنعدام الإضطراب في البحث.
ب- قصور الحس عن إدراك اللامحسوس وإبطال مقولة (مالا أعرفه ليس موجوداً )، حيث أعاد الدين إلى العلم ضرورة إحترام ما لا نعرفه وإحترام القادم من النبوءة بالأشياء.
ج. ثبات النص الديني في وجه المتغير العلمي: إن نظريات العلم تتغير، فكثيرٌ مما تم الإستقرار عليه تَعرضَ للتفنيد والإلغاء أو للتطوير إلى أن التقى أخيراً مع الثابت الديني ( أثبت العلم ثبات الشمس ودوران الأرض حولها، وقال الدين أن الشمس تجري لمستقر لها، فناقض العلم الدين الى أن ثبت أخيراَ أن كل المجموعة الكونية تتحرك بإتجاه مرسوم ومنها الشمس فالتقى العلم مع الدين، فتغيرت نظرية العلم وظل النص الديني ثابتاً).
***
لقد أفرز الإيمان بالله بواسطة معرفتهِ عبر وجود آثاره المتحول ظهور الدين. إن الإيمان قبل المعرفة، والإيمان بمعرفة سبق ظهور الدين. وحينما ظهر الأخير احتاج، لكي يؤسس ثباتاً له، إلى ظهور المبادىء الأربعة:
1- المعبد (الكنيسة، الجامع) Established Organization
2- الطائفة، الفرقة Sect
3- الإنتساب أو التلقيب Denomination
4- المحتوى (العبادة أو الدين) Cult
***
د. ريكان إبراهيم
واجب المثقف تجاه المجتمع.. مقابلة مع د. ظريف حسين
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. علي رسول الربيعي
هذه أسئلة وجهت للدكتور ظريف حسين (أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة الزقازيق- مصر) من قبل د. علي رسول الربيعي حول واجب المثقف تجاه المجتمع.
يتحدث الكثير من المفكرين والباحثين والكتاب عن أن الخطر الذي يواجهه المثقف في دوره في المجتمع يأتي من سحق "الديمقراطية الأنتخابية" له، أيً الديمقراطية التي تختزل الى الاليًة الأنتخابية وصندق والأقتراع بدون ثقافتها تكون ثاني أوكسيد كربون الديمقراطية كما يُقال إن هكذا أوضاع ربما لا تمكن المثقفين من قول الحقيقة كما يرونها، ولا أن يكونوا نماذج لأستقلال الفكر والعقلانية التي هي من علامات المواطنة السليمة. نقوم هنا بدورنا بطرح على الدكتور ظريف حسين لنرى جوابه عنها ورأيه فيها.
س: د. علي رسول الربيعي: كيف يمكن للمثقفين دفع مواطنيهم الى أن تكون خياراتهم السياسية غير أنفعالية، أو أن لا يغيبوا عن المداولات السياسية، ودفعهم نحو مشاركة سياسية تجمع بين المبدأ الأخلاقي والعقل والحصافة؟
ج: د. ظريف حسين: بما أن الديمقراطية هي حكم الأغلبية فإنها تعتمد علي جماهير المواطنين وليس علي قلة من الصفوة أو علي طبقة أو فئة أو طائفة معينة، وعليه فإن الشرط الوحيد الشكلي لنجاح العملية الانتخابية هو مشاركة جميع من لهم حق الانتخاب، ولذلك فإن أي تقاعس من جانب الناخبين عن المشاركة الإيجابية سيكون من شأنه إجهاض فكرة الديمقراطية نفسها وكأنه تفويض ضمني منهم للحزب الحاكم أو لشخص الحاكم الفعلي أو للقلة المهيمنة علي مقاليد الأمور. ولذلك كانت أهمية المشاركة الإيجابية من كافة المواطنين وضرورتها. وليس للأخلاق دخل هنا إلا لأنها تضمن فكرة المساواة والعدالة، ومن هنا كانت الديمقراطية في أساسها نظاما اخلاقيا، ولكن هذا لا يعني ببساطة أن المشاركة في الانتخابات هي مجرد عملية أخلاقية، بل ضرورة سياسية، أو هي مسألة حياة أو موت بالنسبة للوطن والمواطنين.
س: د. علي رسول الربيعي: ما هو واجب المثقف تجاه المجتمع؟
ج: د. ظريف حسين: المثقفون اليوم هم أنبياء الماضي، بشرط أن تكون ثقافتهم حقيقية وليست زائفة. والثقافة الحقيقية هي نتاج اطلاع ذكي علي نتائج العلوم لا علي مجرد أوهام أو تصورات حزبية أو شخصية... إلخ مما تفقد المثقف صفته الجدير بها. ولذلك فإنه هو وحده من يمتلك بوصلة توجيه الجماهير للاتجاهات التي تصلح أمر البلاد برؤيته الشاملة لتعقيدات العلاقات والتضاربات بين مصالح جميع أطراف الصراع سواء أكان صراعا داخليا أم خارجيا. وغالبا ما يكون هؤلاء المثقفون علي علم بالتوجهات المشتركة للناس والمصالح العامة للشعب بناء علي فهم تراثه وتطلعاته في المستقبل.
س: د. علي رسول الربيعي: ما هو الدور الصحيح للمثقف في مجتمع مطلوب أن يكون ديمقراطيًا؟
ج: د. ظريف حسين: المثقف له أهم الأدوار في كل المجتمعات، بغض النظر عن نظام الحكم فيها، ولكن لأن الديمقراطية الآن هي المثل الأعلي لنظم الحكم في العالم فإن علي المثقفين دعم مشروعات التربية والتعليم في المجتمع وترسيخ التقاليد الديمقراطية في تربية النشء وتعليمهم، وأن تصبح الديمقراطية أسلوب حياة شامل، وطريقة لحل جميع المشكلات. فضلا عن أهمية نشر التعليم الجيد في المجتمعات الديمقراطية حتي لا يستأثر الجهلاء والأميون بمقاليد الأمور، لأن صوت العالِم يساوي صوت الأمي، طبقا لتعريف الديمقراطية، ومع ذلك فيجب ألا نضحي بمبدأ المساواة رغبة منا في التخلص من أغلبية الجهلاء.
س: د. علي رسول الربيعي: ما الذي يجب أن يقوم به المفكرون بالضبط، أيً تلك النخب المميزة الملتزمة بحياة العقل وصحة الجسد السياسي، في نظام سياسي قائم على المساواة وملتزم بحكم الأغلبية؟
ج: د. ظريف حسين: يجب علي المثقفين عدم اليأس من عدم سرعة استجابة الفئات أو قطاعات المجتمع وطوائفه، أو حتي القلة الحاكمة فعليا وصاحبة المصلحة في انهيار فكرة الديمقراطية-أي عدم سرعة استجابة هؤلاء لشروط العملية الديمقراطية. وكما أشرت في إجابة السؤال السابق فإن الديمقراطية هي روح، وتحتاج لتاريخ راسخ وممارسات ومحاولات لتنميتها وتكريس معناها والتدريب علي آلياتها وتقبل نتائجها مهما كانت تبدو ضد رغباتنا علي المدي القصير، ولابد من توعية الشعب بأن الديمقراطية أنجع دواء لكل مشكلات المجتمع، لأنها قادرة علي تصحيح أخطائها أولا بأول، فمثلا لو أخطأت الأغلبية باختيار من يمثلهم هذه المرة فلسوف يختارون غيره في المرة القادمة، والأهم من ذلك أنها قائمة علي مبدأ موضوعي، وهو مبدأ الجماعية لا الشخصية، فضلا عن مبدأ داورن"البقاء للأنفع"، وبذلك تنعدم أي فرصة لعودة الدكتاتورية.
س: د. علي رسول الربيعي: ما الذي يجب أن يسمح لهم مواطنوهم به؟
ج: د. ظريف حسين: للمواطنين بصفة عامة حرية التعبير والاعتقاد والاختلاف والتنوع...، أي كل الحقوق المنصوص عليها في ميثاق حقوق الإنسان، وكلها حقوق ناجمة عن روح الديمقراطية.و قطعا غير مسموح لهم بالخروج علي قوانين البلاد فضلا عن دستورها الذي توافقوا عليه، مهما كانت هناك من خلافات حول بعض البنود، ما دام احترامه سيخدم مصالح الشعب بصفة عامة وليس فئة أو طائفة معينة.و علي المثقفين تنوير المواطنين وتحذيرهم الدائم من أي تفكير في التمرد أو الخروج علي النظام بأي حجة.
س: د. علي رسول الربيعي: في أي مرحلة تبدأ قدرة هذه النخب على قيادة النقاش العام وفرض السيطرة على مقاليد السلطة الحكومية والثقافية التي التعارض مع المبادئ الديمقراطية؟
ج: د. ظريف حسين: تعد المجتمعات ناهضة وتتحمل تبعات النظام الديمقراطي عندما تقل المسافات الثقافية والمادية والنفسية…بين فئاته وقطاعاته، أي عندما تنجح في خلق روح واحد للشعب وإرادة أمة واحدة، كجسد عضوي مؤتلف الأعضاء ومعلوم لكل عضو فيه وظيفته سلفا، ولا يحتمل التقاطع ولا التداخل، ناهيك عن التضارب والتصارع بينها.ففي هذه الحالة سيتعرض الجميع للانقراض، أو بالأحري، الانتحار الجماعي. ولكن يجب ألا نتوقع رسوخ أقدام الديمقراطية في أرض ما زالت هشة بكل السهولة والسرعة، فهي أرض طالما دمرتها سنابك الدكتاتورية. والحقيقة أننا لو كنا قد تخلصنا في العراق مثلا من دكتاتورية الفرد أو الحزب الواحد، فقد ابتلينا بمجموعة من الدكتاتوريات ممثلة في طوائف وعشائر...، أي أنه بعدما كان هناك مركز واحد للسلطة فقد أصبح لدينا مراكز كل منها يريدها لنفسه دون غيره.فالرغبة في استبعاد الآخر والإطاحة به بعيدا عن المركز مرض تصاب بهالمجتمعات غير الواعية، أي الضائعة في متاهات الخصوصية والمصالح الشخصية، وعدم الوفاء للصالح العام، إلي حد التضحية به حتي لحساب أعداء الوطن التاريخيين المهددين لوحدة الأرض. وكل ذلك إذن مرهون بوعي المواطنين بتوجيه من أهل الثقافة بشرط ألا يكون هؤلاء الآخرون متورطين في تحزبات من أي نوع، أو مروضين، أو علي الأقل مأجورين.و لكن كيف لنا أن نكشفهم؟ بإدراك مدي بعدهم عن مطالب المجموع، طبقا لمفهوم الديمقراطي.
زين الدين الخطيب.. وداعاً أيها المفكر المستنير
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. محمود محمد علي
في اليومين الماضيين افتقدنا رائداً من رواد الدرس الفلسفي في مصر المعاصرة، وأحد الأساتذة الجامعيين الذين يقومون بتدريس الفلسفة الإسلامية من وجهة نظر إسلامية خاصة، حيث قدم لنا رؤية جديدة تقوم علي تلمس نشأة التفكير الإسلامي الفلسفي في كتابات المسلمين أنفسهم قبل أن يتصلوا بالفلسفة اليونانية ويدرسوها دراسة وافية، ودعا إلي البحث عن أوجه الأصالة والابتكار في الفلسفة الإسلامي.
إنه الأستاذ الدكتور "زين الدين مصطفى زين الخطيب"، أستاذ الفلسفة الإسلامية المتفرغ بكلية الآداب – جامعة طنطا بجمهورية مصر العربية، وكان الدكتور الخطيب قد حصل علي الليسانس - (جامعة طنطا) - بتقدير جيد جدا - عام 1981، ثم حصل علي شهادة الماجستير في الفلسفة الإسلامية بعنوان " المذهب السلفي من النصف الثاني من القرن الثالث إلى منتصف القرن السابع الهجري (ابن حنبل 241 هـ 661 هـ ابن تيمية)"، عام 1986، كما حصل علي رسلة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية أيضا في موضوع بعنوان " المذهب السلفي من منتصف القرن السابع إلى منتصف القرن الثالث عشر الهجري ( 661 هـ ابن تيمية عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب 1242 هـ ))" عام 1989م.. وبعد ذلك أخذ يتدرج في المناصب الجامعية إلي حصل علي رتبة الأستاذية عام 2004م، وبعدها أخذ يباشر مهامه الإدارية إلي أن تولي منصب عميد كلية الآداب بجامعة طنطا .
كان الدكتور زين الدين الخطيب قمة في التواضع، فهو الإنسان بكل ما تحمله كلمة الإنسان من معاني ودلالات، فلقد وهب حياته كلها للجامعة : تعليماً وبحثاً، وظل اهتماماته الرئيسية هي اهتمامات أستاذ جامعي يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن، ومن هنا فإنه يمثل القدوة والريادة وستظل كتاباته تمثل المنارة التي يهتدي بها الإنسان في الظلام تمثل الشعلة الخالدة، شعلة الفكر، وما أعظمها من شعلة .
لم يكن زين الدين الخطيب ممن يحرصون علي غزارة الإنتاج، بل كان في عمله العلمي يغلب عليه الكيف علي الكم، وكان في ذلك متسقاً مع نفسه تمام الاتساق، فقد كان يبحث دائماً عن النوعية من الحياة، ويعرف كيف يتذوقها ويُرضي بها حسه المرهف. ولكن لعل السبب الأهم في عزوفه عن الإنتاج الغزير، برغم قدرته عليه، هو أنه كان من ذلك النوع النادر من الأساتذة، الذين يلمعون ويمارسون أعظم تأثير لهم من خلال اللقاء المباشر بينهم وبين تلاميذهم، لا من خلال اللقاء غير المباشر عبر الكتب والبحوث.
كما جمع زين الدين الخطيب بين الأفق الفلسفي الواسع، والرؤية العلمية المحددة، والبعد الديني وهنا يتضح عدم تعصبه لمذهب بعينه من المذاهب الفلسفية المعاصرة، فلم يكن وضعياً ولا برجماتياً ولا وجودياً، ولا متمذهبا بأي حال من الأحوال فموضوعتيه غلبت عليه في كل أحكامه، وأراءه وعندما يوجه سهام نقده لأى من هذه المذاهب فهو لا ينكرها أو يريد هدمها أو نقضها، إنما يطالب بإعادة النظر إليها لاشتمالها علي نقائض وعيوب، كما يهتم بصياغة المصطلح صياغة فلسفية، وعلمية دقيقة ويظهر التفرقة الواضحة بين الصياغتين.
أضف إلي ذلك حبه العميق للغة العربية، فقد كان عاشقاً لها، غيوراً عليها، حفياً بها – وقد انعكس ذلك كله علي أسلوبه في كتاباته؛ حيث كان أسلوبه جذلاً، فيه رصانة وطراوة، وإغداق وإثمار، وفيه عذوبة تشد الآذان إليه لسهولته، وإن تكن من نوع السهل الممتنع.
وقرابة أكثر من خمسين عاما قضاها الدكتور زين الخطيب فى خدمة الفلسفة الإسلامية، فقد كان وأحدا من أعظم الأساتذة المصريين الذين نقدوا السلفية، فقد ناقشهم وكشف عيوب ومسالب فكرهم ؛ حيث رأي أن هذا الاتباع للسلف ليس مراداً ولا مطلوباً لمجرد أنهم سلف هذه الأمة فى الترتيب الزمنى بل لكونهم أحرى الناس بفهم كلام الله ومعرفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثم يؤكد الدكتور زين الدين الخطيب في رسالتيه ( الماجستير والدكتوراه) بأنه حين يُذكَر الفكر السلفي، أو المنهج السلفي يطرق السمع أول ما يطرقه أهل الحديث، وهو مصطلح شاع في القرن الثاني الهجري - فيما أذكر- لا بالمعنى الاعتقادي بل بالمعنى العام الذي لا يفيد إلا اتجاها عاما يعتني بالروايات والجرح والتعديل والاستناد إلى المرويات في التلقي والاستدلال في مواجهة أهل الرأي؛ ثم أضحى بعد ذلك علَما على طائفة من طوائف المسلمين لها منهج معلوم، ومقولات محددة في العقائد، من خالف هذا المنهج وتلك المقولات لا يعد من أهل الحديث بهذا المعنى. لكنها لم تكن مقولات متوسعة في الاستدلال، ولم تؤسس على بنيان عقلي وفلسفي وكلامي تفصيلي. ثم في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع جمع أحد العلماء (المعروف بأبي بكر الخلّال) تراث الإمام أحمد بن حنبل في كتاب جامع، وأصبح للحنابلة مذهب منتسب إلى الإمام أحمد بن حنبل، في الأصول والفروع، ومن وافقهم في الأصول يسمّى حنبليا بهذا المعنى وإن لم يأخذ بمذهب أحمد في الفروع؛ ثم جاء عصر ابن تيمية رحمه الله؛ فبرز بروزًا عظيمًا، وقام بدور هائل فريد لم يسبقه به أحد من الحنابلة في القديم، ولم يلحق به أحد منهم بعد ذلك، ولو شئت أن أقول إن إمام الحنابلة بلا منازع هو ابن تيمية لما أسرفت ولا تجاوزت الحدّ، لا من حيث سعة الكتابة والتأليف، ولا من جهة مقارعة المخالفين والخصوم، ولا من جهة البنية المعرفية الاستدلالية التي أستطيع أن أزعم أنها عمارة فكرية متكاملة قائمة على أصلَيْ العقل والنقل باتساع وتفصيل، ووسع دائرة نقد الخصوم، وكتب كتبا خالدة مطوّلة في الرد على الأشعرية (الخصوم التقليديين للحنابلة ثم السلفيين)، وعلى الاثني عشرية، والصوفية، والفلاسفة، وكتب كتابا معرفيا فذا في نقد المنطق الصوري (منطق أرسطو) في جانبيه وأساسييه: التصور والتصديق.
وعن كيفية هذا الاتباع زين الدين الخطيب بـ «أن اتباع السلف لا يكون بالانحباس فى حرفية الكلمات التى نطقوا بها، أو المواقف الجزئية التى اتخذوها، لأنهم هم أنفسهم لم يفعلوا ذلك، وإنما يكون بالرجوع إلى ما احتكموا إليه من قواعد تفسير النصوص وتأويلها وأصول الاجتهاد والنظر فى المبادئ والأحكام، وليس اتباع السلف أن نعمد إلى كلمة السلف فنصوغ منها مصطلحاً جديداً طارئاً على تاريخ الشريعة الإسلامية والفكر الإسلامي، فنجعله عنواناً مميزاً تندرج تحته فئة من المسلمين تتخذ لنفسها من هذا الاسم مفهوماً معيناً، بحيث تغدو هذه الفئة بموجب ذلك جماعة إسلامية جديدة فى قائمة جماعات المسلمين المتكاثرة والمتعارضة بشكل مؤسف فى هذا العصر، تختلف عن بقية المسلمين بمزاجها النفسى ومقاييسها الأخلاقية، كما هو الواقع اليوم فعلاً.
كما يرى زين الدين الخطيب أن «اختراع هذا المصطلح (السلفية) بمضامينه الجديدة بدعة طارئة فى الدين لم يعرفها السلف الصالح لهذه الأمة ولا الخلف الملتزم بنهجه، فالسلف رضوان الله عليهم لم يتخذوا من معنى هذه الكلمة بحد ذاتها مظهراً لأى شخصية متميزة، أو أى وجود فكرى أو اجتماعي خاص بهم يميزهم عمن سواهم من المسلمين، فقد كان بينهم وبين من نسميهم اليوم بالخلف منتهى التفاعل وتبادل الفهم، ولم يكن يخطر ببال السابقين ولا اللاحقين بهم أن حاجزاً سيختلق، ليقسم الأجيال الإسلامية إلى فريقين، يصبغ كلاً منهما بلون مستقل من الأفكار والتصورات والاتجاهات، بل كانت كلمتا السلف والخلف فى تصوراتهم لا تعنى أكثر من ترتيب زمانى كالذي تدل عليه كلمتا (قبل وبعد)".
وثمة نقطة أخري مهمة نود الإشارة اليها ألا وهي أن الدكتور زين الدين الخطيب كانت له أفكار مهمة في الفلسفة الإسلامية نذكر منها قوله أن :"الإسلام دين، والدين وحي، والوحي يقين وإيمان، والفلسفة علم ونشاط فكري وأداة تحليلية مصدرها الإنسان ومركزها العقل، ووظيفتها الأولي تدور حول عدم التسليم، وهناك وهم كبير لدى كثير من الناس بأن الفلسفة تتعارض مع الدين، وهو قول يقوم على غير ذي أساس، لأن الفلسفة هي نشاط عقلي يسعى لإدراك الكون الذي نعيش فيه، وتحليل العلاقة بيننا وبين هذا الكون، والدين بدوره يقوم بتفسير هذا الكون، كما يحدد كيفية تعاطينا مع الحقائق الموجودة فيه، سواء كانت مادية أم روحية.
وحول مصدر الفلسفة الإسلامية، فقد كان زين الدين الخطيب من المؤيدين لفكرة أن الحركة الفكرية لمدارس علم الكلام الأولى هي الأب الشرعي للفلسفة الإسلامية، التي استقت فيما بعد من ينابيع أخرى على رأسها فلسفة اليونان، وأن الفلسفة الإسلامية ماهي إلا فلسفة يونانية بلسان عربي، زينت بأفكار أخلاقية أملاها الإسلام، لكن هذه الإضافات لا تبدل جوهرها، ولعل أقرب الآراء للاعتدال القول إن الفلسفة اليونانية استمرت في المحيط العربي، مع ملامح جديدة للفكر الإسلامي.
وفيما يتعلق بموقف المسلمين من الفلسفة اليونانية يري زين الدين الخطيب بأن الفلسفة اليونانية كان لها تأثير في غير العلوم الطبيعية والرياضيات «الفقه، والكلام، والنحو، والتاريخ، والأدب». فمثلًا الخطابة لأرسطو والمنطق اليوناني عمومًا أثرا في النحو العربي والبلاغة بشكل واضح، فالجاحظ، مثلًا، أدخل أشكال القياس المنطقية في أساليب البلاغة. وقد كان التأثر العربي إيجابيًّا متفاعلًا؛ إذ أضاف العرب إليها إضافات ضخمة أصيلة ومبتكرة، ومن ثم أسسوا منها علومهم الخاصة.
وفي نهاية هذا المقال أقول : تحية طيبة لزين الدين الخطيب الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.
وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.
رحم الله الدكتور زين الدين الخطيب، الذي صدق فيه قول الشاعر: وليس موت إمرئ شاعت فضائله كموت من لا له فضل وعرفان.. والموت حق ولكن ليس كل فتى يبكي عليه.. إذا يعزوه فقدان في كل يوم .. ترى أهل الفضائل في نقصان عد وللجهال رجحان.
د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط
الريحاني وفكرة القومية العربية الحديثة (4-4)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. ميثم الجنابي
القومية ووعي الذات العربي
أدت حصيلة التأمل الفكري، والمعايشة الشخصية، والاحتكاك المباشر بالواقع العربي، وثقل التاريخ المعنوي، وحماس الوجدان الأدبي إلى تعزيز المقدمة المعنوية لتأسيس الفكرة القومية، أو الانتماء الوجداني العقلاني للعالم العربي من اجل تذليل تجزئته الداخلية. ومن هنا دعوته إلى ما اسماه بضرورة "رفع القومية على العصبية الدينية والمذهبية". كما طالب برفع "الحياة المدنية على الدين"، وتفكيك الطائفية والاستعاضة عنها بالوطنية التي تشكل "الوحدة الجغرافية" ركنها الأول[1]. وإذا كان في البداية يقول، بأنه "لا حياة للسوريين واللبنانيين دون العربي، ولا حياة للعربي مع العصبية والتجزئة"[2]، فانه أصبح يقول "كونوا عرب أولا ثم سوريين ولبنانيين وفلسطينيين"[3]. بل اخذ يطالب بعد ذلك "بموت العصبيات، باستثناء عصبية واحدة هي العصبية العربية"[4].
فقد وجد الريحاني في غياب العصبية العربية عصب المشكلة، التي لازمت فقدانهم للحرية. وهو سبب نقده اللاذع والشديد والمتطرف أحيانا للسيرة التركية والأتراك. فعندما تعرض "لنكبات" العالم العربي، فانه صاغها بالشكل التالي: "وجاءك هولاكو عدو العمران، وتيمورلنك عدو الإنسان، وابن عثمان كابوس الزمان"[5]. واعتبر النزعة التركية وبقاياها أحد الأسباب الخطرة لاستمرار انحطاط العالم العربي وقطع السبل أمام ارتقاءه الأدبي. إذ اعتبر بقايا الظواهر التركية في الحياة الاجتماعية والسياسية خطرا على الدولة والمجتمع. فعندما شاهد بعض مظاهر الأبهة عند الملك حسين، تساءل "إن كان في الحجاز يبتدأ التتريك أم ينتهي"؟[6]. واعتبر ضعف الملك حسين ناشئا عن تشربه بالروح التركية بسبب عيشه بينهم ما يقارب العشرين سنة. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه "مهما كان من انتصار العرب على الترك في الحجاز وفي سوريا باسم الدين أولا، فان انتصار الروح التركية على زعيم النهضة وكبيرها، إنما هو رأس الخيبة"[7]. ومن هنا يمكن فهم سبب تمجيده لشخصية محمد الإدريسي، الذي وجد الريحاني فيه "عربيا صميميا وجسورا في سبيل ما يبتغيه، يحالف أية دولة كانت على عدائه للترك"[8]. كما أيد فكرة الإدريسي القائل، بأن "أكثر ما تضرر العرب به هو من الأتراك"[9].
شكلت حصيلة هذه المواقف النقدية من الأتراك مقدمة استنتاجه القائل، بأن دخولهم الإسلام قد أّخر الإسلام أيضا"[10]. لهذا اعتبر "التساهل العثماني" تجاه الأديان سياسة ترمي أساسا إلى إخضاع العرب (مسلمين ونصارى). كما وجد في اعتقاد الأغلبية الساحقة في سوريا (والعام العربي ككل حينذاك) بأن الرقي والعمران والسعادة القومية لا تكون إلا بدولة إسلامية فيها العدل والمساواة والرفق بالرعية، بينما إحياء المشاريع الاقتصادية من الأمور ثانوية، هو الذي أّخر سوريا وجعلها خاضعة للسيطرة التركية[11]. من هنا مطالبته بالثورة على السيطرة التركية، معتبرا أن من "الأفضل الاضطراب والعذاب على الراحة المصطنعة"، كما فّضل الثورة على ما اسماه بالراحة الممقوتة، راحة الذل والجهل والعبودية[12].
فكرة العروبة الحية
دفع الريحاني أولوية العروبة على كل معيار آخر. ووضعها في صلب تصوراته عن الاستقلال والحرية والرقي والتمدن وبناء الدولة العصرية. وانطلق من "الحقيقة التاريخية" المباشرة والقائلة، بأن "العرب كانوا قبل الإسلام والنصرانية، وسوف يبقون بعد النصرانية والإسلام"[13]. ولم يقصد هو بذلك وضع أحدهما بالضد من الآخر، بقدر ما كان يقصد تمجيد الكيان الثقافي العربي وضرورة استقلاله في العلم والعمل. ووجد في ذلك استجابة حقيقية لحقيقة الإسلام نفسه، بل أن صيرورته الروحية والوجدانية العربية كانت بمعنى ما الاستجابة الحقيقية لحقيقة الإسلام الحضارية كما عثر عليها للمرة الأولى في كتاب (الحمراء) لارفنغ واشنطون، الذي دفعه للرجوع إلى "مهبط الوحي والنبوة - الجزيرة العربية"[14]. وعلى الرغم من تأكيده المتكرر على انه مسيحي عربي، فإن انتماءه الواعي للعالم العربي جعله أكثر قربا من الإسلام وأشد اندماجا بمكوناته الثقافية. وهو إدراك أوصله إلى القول بأنه لا يمكن للعربي ألا يكون مسلما للثقافة الإسلامية. وهو "قدر" تحسسه للمرة الأولى عندما وصفه ويلز في إحدى مقالاته بعد لقائه به "بالسوري المسلم"!
لقد أدى الاندفاع الروحي والوجداني للريحاني صوب "مهبط الوحي" الثقافي العربي أن يصبح تدريجيا أكثر النصارى العرب آنذاك إسلاما. ووجد ذلك انعكاسه في كل ما خطّه قلمه وخطت قدماه. إننا نعثر على ذلك في شعره ونثره، سجعه ومعارضته للسجع، في رحلاته إلى الجزيرة وصحاريها، وفي بحثه عن شيمة ملوكها وأمرائها العرب، وفي رغبته تصوير قلوبها النابضة. ففي قصيدته التي كتبها عام 1907 في نيويورك تحت عنوان (ريح سموم) نقرأ:
بربك القيوم فالذي تظنه يدوم
صوت سمعته في الكروم
***
يومئذ تنقلب المجتمعات
وترتعد فرائص الطغاة العتاة
وتهب على الأرض الذاريات السافيات
يومئذ ورب الأكوان
لا بقاء لسوى الجد والعرفان
والمعروف والإحسان
وفي قصيدة (الثورة) التي كتبها أيضا في نيويورك عام 1907، نقرأ:
ويل للظالمين، المستكبرين والمفسدين
هو يوم من السنين، بل ساعة من يوم الدين
ويل يومئذ للظالمين
وفي قصيدة (هتاف الأودية) نقرأ:
أنا رسولك إلى صفوة العباد
إلى خير من زين الأحلام في المعاد
وإلى من هام في كل واد
وخط بيراعه (ملوك العرب) و(قلب لبنان) و(قلب العراق)، كما لو أنه أراد إحياء تراث تليد مخفي تحت غبار النسيان لا يكلف المرء مهمة رؤيته سوى أن يصرخ بأعلى صوته من اجل رؤية حروفه الناصعة وكلماته المثيرة ومعانية الجلية. وأشار بهذا الصدد إلى انه جاء إلى الجزيرة العربية من اجل إعادة الارتباط الروحي بتاريخ العرب وبهم[15]. وجعله ذلك مرة يقول "أنا عربي جنسيتي على لساني وفي وجهي وطيّ ضلعي. أنا عربي أرمل البادية عزيز عندي كدم أبنائها. وسيئات العرب أجمل في نظري من حسنات عبيد التمدن"[16]. وهو موقف استقاه فيما يبدو من الفكرة الصوفية القائلة، بأن حسنات الأبرار سيئات المقرّبين. لكن إذا كان للفكرة الصوفية مقدماتها الخاصة في الطريق ومستوى "قهر الإرادة" وتسويتها في مساعيها صوب المطلق، فأن لموقف الريحاني أبعادا وجدانية فقط، أي انه حوّر الفكرة الصوفية التي رفع من شأنها كما هو الحال عند كل الوجدانيين الكبار، إلى نموذج للتذوق الحياتي والفعل الواقعي. وليس مصادفة أن يقول الريحاني مرة، بأن "أجمل الكمالات التي نتمناها محققة في الحياة هي تلك التي تفترض فيها روحية الصوفي الحقيقي بالأعمال السياسية والاجتماعية والأدبية كلها"[17].
لكنه أدراك بحسه العملي، بأن "الكمال الصوفي" هو الكمال الذي ساعده على رؤية العظمة الخفية في تاريخ العرب، المستترة تحت غبار الزمن. وهي رؤية لا تتطلب أكثر من أن ينفضوا هذا الغبار عنها. لأننا في هذا العالم مجرد "رموز زائلة لحقائق خالدة. وكل حقيقة تتكون تكوّنا روحيا جديدا كلما طوى رمزها، وفي كل تكوّن تزداد انتشارا وقوة"[18]. وليست هذه "الحقائق الخالدة" المستعدة للتكوّن الروحي الجديد كلما طوى رمزا سوى حقائق التاريخ العربي. وانطلق في يقينه هذا من الفكرة القائلة، بأن "الأمم التي كان لها في نشر المدنية أيد بيضاء لا تضمحل، بل هي خالدة في مآثرها، وحيّة على الدوام في يقضاتها ووثباتها. والعرب لمن هذه الأمم الخالدة"[19].
كما جعل الريحاني من العروبة معيار الحقيقة التاريخية أيضا. فالفضل الأكبر في بروز سوريا و"عظمتها التاريخية تعود للفتح الإسلامي واستعراب شعوبها"[20]. بل نراه لا يجد في تاريخ سوريا شيئا يستحق التقدير والاعتزاز من جانب ذاتها والعالم سوى "الحقب العربية المجيدة"، التي كانت "الدولة العربية العزيزة الجانب، التي استمرت نحو تسعين سنة، وبالتدقيق إحدى وتسعين سنة وعشرة أشهر، هي الوحيدة الحقة، وما عداها مجرد تخبط بالدماء"[21]. وليس هذا الغلوّ العروبي، الذي يتجاهل قيمة العروبة في الكلّ الإسلامي اللاحق سوى الصيغة الوجدانية الحساسة في مساعيها استنهاض العروبة الخالصة من تحت رماد العثمانية المحترقة في أتون التحلل والفساد. لهذا نراه يضيف "سبب الجهل" إلى جملة الأسباب التي أوردها محمد علي كرد في بحثه عن شقاء سوريا في ظل السيطرة التركية. والمقصود بالجهل هنا هو جهل الأمة بذاتها. وأوصله ذلك في نهاية المطاف إلى إقرار ضرورة بلوغ الأمة إدراك وجودها المستقل من اجل تلافي مصيرها كدمية تتلاعب بها أيادي الأمم الأخرى. ولكي لا يجري استخدام الدول الأجنبية أيا كانت أغراضها، كما استخدمتها الدولة العثمانية. وطالب سوريا بالتخلص من إرث الماضي العثماني القائم على مبدأ "دفع الخراج وأكل الكرباج"[22]. لهذا نراه يقدّر عاليا كل إنجاز مهما بدا صغيرا في مساعي الاستقلال الذاتي العربي، واستعادة الأمة العربية لكيانها الخاص. بحيث نراه يبحث ويَجِدُ في الرمل النظيف لكثبان الجزيرة العربية عما يمكنه أن يبعث الرغبة والشوق اللذين يمكنها تعميق الانتماء الوجداني للعروبة. فعندما يتطرق إلى الحجاز آنذاك، فأنه يكتب قائلا "بأن الحجاز كتاب مفتوح، وأهم ما في هذا الكتاب اليوم بعد الحرمين هو الفصل الذي عنوانه الملك حسين والنهضة العربية"[23]. بل نراه يرفع شأن الملك حسين للدرجة التي يجعله نموذجا للملك الديمقراطي العربي. بل ووجد في شخصيته تجليا "للديمقراطية العربية" وللروحانية الشرقية المتأثرة بالتأدب الغربي. ونفس الشيء قاله عن الملك فيصل ملك العراق، باعتباره "اقرب ملوك العالم المعاصرين إلى الديمقراطية"، وفي ذلك يكمن سبب عدم ارتياح الإنجليز له[24]. ولكنه حالما قارن الملك حسين وابن سعود والإمام يحيى والملك فيصل، نراه يشدد على أن "رعية الملك حسين تطيعه وتخافه، ورعية ابن سعود تطيعه وتحبه، ورعية الإمام يحيى تطيعه دون حب ولا خوف، ورعية الملك فيصل لا تخافه ولا تطيعه ولا تكرهه"[25]. وهي تقييمات متضاربة، وجزئية لحد ما، ولكنها تصبّ في الاتجاه العام للعروبة الوجدانية. وهو السبب القائم وراء محاولات الريحاني إبراز الهوية القومية للملوك العرب والتأكيد على أنهم أولا وقبل كل شيء عرب. وليس مصادفة أن يمجد المتنبي بهذا الصدد ويصفه بشاعر العرب الأكبر، ويستشهد بأحد أبياته الشهيرة بهذا الصدد:
إنما الناس بالملوك وما
تفلح عرب ملوكها عجم
لقد بحث الريحاني في المتنبي عن "واسطة عقد الجوهر في العروبة". ووجد في "شعره الصافي رسالة العروبة" التي جسدها في كل أشعاره[26]. بحيث تمثل في شعره الروح العربي. لذا أصبح كل ما قاله عن كل شيء عربيا خالصا، كما في أشعاره التي أوردها الريحاني
أنا صخرة الوادي إذا زوحمت
وإذا نطقت فإنني الجوزاء
أو أن يقول:
تحقر عند همتي كل مطلب
ويقصر في عيني المدى المتطاول
أو كما في قوله:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
عقيدة الروح القومي العربي
وكما فعل في انتقاده اللاذع للمتنبي وإبراز "العقل العربي" للمتنبي في الشعر، كذلك فعل في موقفه من الملوك العرب في السياسة. فقد انتقد الريحاني بصورة غير مباشرة رذائلهم، ولكنه ابرز ما اسماه بالفضائل العربية الأصيلة. لهذا نراه يقف موقف المعارض الشديد للتغريب الظاهري عند الملوك، ويتعاطف مع ابن سعود. وسجل في إحدى ملاحظاته العميقة هذا التعاطف الوجداني عن صلاة الملك حسين في البادية، وكتب بهذا الصدد يقول، بأن صلاة العرب في البادية وهم يرددون "آمين" اهدنا الصراط المستقيم، لها بعدا وجوديا ومعنويا متطابقا يدرك حقيقته من يقوم في البادية. إذ تصح حقيقة كما تصح مجازا "في تلك الفيافي والمفازات التي تمحو كل أثر بحيث تجعل من الصراط المستقيم نعمة للحياة بالمعنى الحرفي للكلمة"[27]. كما يسجل المعنى الضيق للعروبة في تصورات وأحكام الملوك العرب. ويستنتج من ملاحظاته عنهم، بأن دعوة العرب بالنسبة لهم هي دعوة إسلامية غير قابلة للتجزئة دينيا وقوميا ووطنيا ولغة. وأورد معنى العروبة على لسان الملك عبد العزيز، الذي صورها بأنها "الدين والشرف".
لقد أدرك الريحاني البعد الظاهري في استيعابهم للفكرة القومية، ومن ثم تصوراتهم عن الأبعاد السياسية والثقافية للقومية. إلا انه وجد فيها مع ذلك الحد الضروري الأدنى آنذاك لتوحيد العرب. لذا نراه يقترح للجزيرة أن تتوحد على أساس جعل الملك حسين ملكا دينيا (خليفة) وابن سعود ملك المشرق ككل، والإمام يحيى ملك المغرب، مع بقاء جميع الإمارات ضمنها ولكل منها استقلالها وحكمها الذاتي في الدولة الموحدة. وهو مشروع لم يفقد جوهريته إلى الآن رغم التغيرات الكبرى التي حدثت وتراكمت في مجرى صيرورة الدول العربية الحديثة في الجزيرة.
إلا أن الهاجس الأعمق وراء التقييمات والمشاريع التي اقترحها الريحاني لتوحيد الجزيرة كان يكمن في اعتقاده بقيمة ما اسماه "بعصمة الروح القومية". لذا نراه يعلن على الملأ من أن روحه عربية سورية لبنانية. وهي روح تجنبّه الوقوع في الخطأ. انطلاقا من أنه "إذا كان هناك من عصمة للإنسان ففي هذه الروح التي تربط الإنسان بشعبه وقومه"[28]. وهو موقف وجداني خالص، له معناه السليم من حيث معاييره الصادقة في "ارتباط" الإنسان بشعبه وقومه بما يخدم الوحدة والازدهار والأبعاد الإنسانية فيهما. لقد أراد الريحاني من وراء إعلاء شأن "الروح القومية" وجعلها "قوة عاصمة" من الخطأ تقديم الصيغة الأيديولوجية الأولى للملوك العرب من اجل التمسك بها بوصفها "عروة وثقى" تقيهم من الوقوع في أخطاء التاريخ السالفة، تحت أي غلاف كانت إسلامية أو غيرها. لذا نراه يبرّز في "وثيقة الاستقلال" لعام 1916 التي سجلها للملك حسين ترتيبه لأخطاء السيطرة التركية على العالم العربي ابتداء "من مخالفة نصوص الشريعة وإهانة النبي(!) ومخالفة نصوصا واضحة في القرآن إلى الاحتجاج على إعدام الأحرار في سوريا"[29]. وجعل الريحاني من هذه "العصمة" المقدمة الضرورية واللازمة للدول الجديدة في بناء كيانها الذاتي اقتصاديا وسياسيا وثقافيا. من هنا إشاراته المتكررة إلى أن أهم ما في الاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمت (والتي شاهدها ورعاها شخصيا) هي المواد التي تختص بادخار الأموال من اجل إقامة مشاريع اقتصادية مشتركة[30]. وأطلق بهذا الصدد أيضا تنبؤات عميقة. فهو أول من أشار في كتابه (قلب العراق) إلى ما سيلعبه النفط من دور في المنطقة (على مثال العراق آنذاك). وكتب بهذا الصدد يقول "وقد يصير النفط في العراق في المستقبل روحها الكيماوية العظمى، وروحها المركبة في بوتقة هذا الزمان البراق الخناق"[31]. كما حذر من مغبة تغير النظام السياسي مطالبا بضرورة دعم الأنظمة الملكية من اجل استقرار المنطقة وتطويرها. بل اقترح بأن لا يطالب أيا كان بالنظام الجمهوري وإسقاط الملكية إلا بعد عقود من الزمن. واقترح لذلك ألا تقل هذه المدة عن عشرين إلى ثلاثين سنة. كما طالب الدولة العربية الناشئة بالاهتمام الجدي بالثقافة والتربية والتعليم. واعتبر مساهمة الدولة في إحياء التراث العربي الحي ضرورة كبرى. على أن يجري ذلك بصورة مخططة ومدروسة. بل نراه يقف بالضد من الانهماك في ترجمة الدراسات والآداب الأوربية المعاصرة له، لأنه وجد في كثير منها مؤلفات رجعية أو مادية مبتذلة تختلف شديد الاختلاف عما هو مميز لبداية تطور أوربا وفكرها الإنساني. إذ وجد في هذه الترجمة تخريبا للاستقلال الفكري وترسيخا للاتكالية الفكرية على إبداع الآخرين. وذلك لاحتياج الفكر العربي المعاصر إلى التمرين على التدقيق والتماسك في التفكير، كما يقول الريحاني. وهي مكونات موجودة في التمدن الحديث، أما الشيء الوحيد الذي يحتاجه العرب من الغرب فهو الإنتاج العلمي[32].
وهو تصور مرتبط بالفكرة التي توصل إليها الريحاني عن أن "مشروع الوحدة العربية" يحتاج إلى "سيادة العقلية العربية الجديدة" التي تساوي عنده سيادة الفكرة القومية العربية. وهي فكرة ومشروع اقترحه الريحاني على أساس وجود وفاعلية "الحكومة المنظمة العادلة" و"المدارس الوطنية العامة" و"طرق المواصلات الحديثة"، بوصفها الأسس المادية التي تربط جغرافيا العالم العربي ي كل واحد.
لقد مثّل هذا التيار مساعي الملوك الجدد والرؤساء الجدد والسياسيين الجدد والرعاع الجدد. وبالقدر الذي أراد تحرير النفس من قيودها التقليدية، فأنه وضعها في قيود التجديد العارم، الذي لم يدرك مخاطر الفطام المبكر. أنه لم يدرك الحقيقة البسيطة القائلة، بأن أصوات الرجال القوية تفترض تمرسها بالبكاء الحار والصادق لمرحلة الطفولة. لهذا كان هذا التيار كالعاصفة في صحراء لا تنبت أشجار ولا تحفر انهارا. وأكثر ثمارها خيرا هو صنعها واحة للمسافرين، بوصفها الحلقة الرابطة بين الصحارى الثقافية التي نشأت تاريخيا بسبب الانقطاع الطويل والانفصال العميق عن مصادر الديمومة الفعلية للدولة العربية وثقافتها المتوحدة.
ا. د. ميثم الجنابي
.......................
[1] أمين الريحاني: التطرف والإصلاح، ص49.
[2] أمين الريحاني: الريحانيات، ج2، ص7.
[3] أمين الريحاني: التطرف والإصلاح، ص50.
[4] المصدر السابق، ص58.
[5] أمين الريحاني: النكبات، ص10.
[6] أمي الريحاني: ملوك العرب، ج1، ص28.
[7] المصدر السابق، ج1، ص61.
[8] المصدر السابق، ج1، ص316.
[9] المصدر السابق، ج1، ص347.
[10] أمين الريحاني: النكبات، ص109.
[11] المصدر السابق، ص109.
[12] أمين الريحاني: الريحانيات، ج1، ص19.
[13] أمين الريحاني: أدب وفن، ص125.
[14] أمين الريحاني: ملوك العرب، ج1، ص6.
[15] أمين الريحاني: ملوك العرب، ج1، ص10.
[16] أمين الريحاني: الريحانيات، ج2، ص129.
[17] أمين الريحاني: ملوك العرب، ج1، ص288.
[18] المصدر السابق، ج، ص287.
[19] أمين الريحاني: أدب وفن، ص101.
[20] أمين الريحاني: النكبات، ص57.
[21] المصدر السابق، ص14.
[22] المصدر السابق، ص147.
[23] أمين الريحاني: ملوك العرب، ج1 ص12.
[24] المصدر السابق، ج2، ص321.
[25] المصدر السابق، ج2، ص433-439. إن ما يشير له الريحاني هنا هو الوجه الظاهري المتعلق بشخصية الملوك العرب آنذاك، أما الوجه الباطني لهذه العلاقة فانه يعكس تقاليد وطبيعة العرب في هذه المناطق من الملوك ومن أنفسها.
[26] أمين الريحاني: أدب وفن، ص116.
[27] أمين الريحاني ملوك العرب، ج2، ص47.
[28] أمين الريحاني: الريحانيات، ج2، ص16.
[29] أمين الريحاني: ملوك العرب، ج1، ص60.
[30] المصدر السابق، ج1، ص390.
[31] أمين الريحاني:الأعمال الكاملة، 1980، ط1، ج4، ص93.
[32] أمين الريحاني أدب وفن، ص147-148.
تروتسكي والحب والنهاية المفجعة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. مصدق الحبيب
ليون تروتسكي، واسمه الحقيقي لف ديفدوفج برونستين المولود عام 1879 في يانوفكا (أوكرانيا حاليا).
هو الثائر الماركسي وأحد ابرز قادة ثورة اوكتوبر السوفيتية. بدأ نشاطه السياسي المناوئ للقيصر منذ صباه فنـُفي الى أواسط آسيا وسيبيريا، ومن هناك هرب الى إنگلترا وتنقل بين عدة بلدان كسويسرا وفرنسا واسبانيا . وكان في كل مرة يُطرد من بلاد، يجد بلادا أخرى يهاجر اليها. كان قد التقى بفلاديمير لينين أيام المنفى في لندن واصبح صديقا وحليفا له كقائد بلشفي رغم انه كان يميل فكريا للمناشفة. عاد مع لينين الى موسكو عند تفجير ثورة أكتوبر عام 1917، فعينه لينين وزيرا للخارجية، ثم قائدا سياسيا للجيش الأحمر. وهكذا بقي عند موضع ثقة واعتماد لينين الذي كان يفكر ان يجعله خليفة له، لكن تدهور صحة لينين عام 1922 ووفاته عام 1924 قلبت كل الموازين وتميزت بصعود قوة وسطوة ستالين الذي كان يعتبر تروتسكي منافسا غير مرغوب فيه. فمباشرة بعد رحيل لينين شن ستالين حربه التدريجية ضد تروتسكي فبدأ بتجريده من منصبه الرسمي كوزير عام 1925، ثم فصله من المكتب السياسي عام 1927، ثم نفاه الى مقاطعة ألما أتا النائية عام 1928، ثم الى تركيا، وبقي يطارده الى ان جعله يهرب الى اقصى بقاع الارض خوفا على حياته فذهب الى المكسيك بعد مدة في فرنسا والنرويج.
في المكسيك كان الفنان التشكيلي المعروف هناك دييگو ريفيرا قد تزوج الفنانة فريدا كالو، وكانا معا عضوين في الحزب الشيوعي المكسيكي ويميلان بحماس الى الخط التروتسكي، حتى انهما التمسا الرئيس المكسيكي لازارو كارديناس ان يوفر اللجوء السياسي لتروتسكي، فكان لهما ما أرادا. ومن هنا جاءت فرصة الانتقال الى القارة البعيدة، فسافر تروتسكي وزوجته نتاليا سدوفا على ظهر ناقلة نفط الى المكسيك فكانت فريدا في استقبالهما في الميناء ولم يرافقها وقتذاك زوجها ريفيرا بسبب مرضه في ذلك اليوم. أخذت فريدا ضيفيها الى بيت يعود لها ولزوجها، وكانا قد اعداه ليكون مسكنا دائما لتروتسكي وزوجته. ومنذ ذلك الحين اخذت علاقة الأربعة تتوثق، لكن بوادر علاقة رومانسية بين فريدا وتروتسكي بدأت تنضج بعد عام واحد على لقائهما ، أي في عام 1937، وأصبحت مكشوفة لحد ما لريفيرا الذي كان موضع تندر وخصام دائم من قبل فريدا . كما اصبحت العلاقة مكشوفة أيضا لنتاليا زوجة تروتسكي التي اضطرت بعد ان نفذ صبرها ان تضع تروتسكي في قفص الاتهام وتمنحه الفرصة لاتخاذ قراره الاخير"!! كان ذلك بعد ان رسمت فريدا بورتريتا شخصيا لها واهدته الى تروتسكي في عيد ميلاده وكان البورتريه يظهرها وقد حملت باقة ازهار وكاردا كتبت فيه الى ليون تروتسكي مع كامل حبي!
عن تلك العلاقة كتبت بعدذاك سكرتيرة تروتسكي جين فان هيجنورت :
" كانا يتبادلان الغزل والدعابة باللغة الانگليزية بشكل متواصل وفاضح وعلى مرأى ومسمع نتاليا التي لم تكن تفهم الإنگليزية جيدا لکنها تستطيع بالتأكيد أن تفهم لغة الغزل والمداعبة والتلميحات الجنسية. كما كانا يلتقيان سرا في بيت شقيقة فريدا ويتبادلان رسائل الحب التي كانا يخفيانها بين صفحات الكتب المتبادلة بينهما".
كما وتقول الكاتبة جري سوتر في كتابها عن الفنان ريفيرا المنشور عام 2014:
"ان نتاليا زوجة تروتسكي كانت قد طفح بها الكيل للحد الذي واجهت فيه تروتسكي واعطته الخيار الحاسم "أما أنا أو هي"!
وأما عن البورتريه، هدية الحبيبة للحبيب، فقد كتب الاديب السريالي الفرنسي أندريه برتن الذي زار تروتسكي هناك عام 1938، قائلا :" لقد رسمت فريدا نفسها ملفعة برداء من الاجنحة تطرزه الفراشات، وقد اطلت بنفسها من بين صفين من الستائر أزاحتهما الى الجانبين.. ربما كانت تلك ستائر الدواخل وقد أزاحتها امرأة شابة خبرت معاشرة الرجال المهمين ذوي الشأن والاعتبار"
بعد اكثر من ثلاث سنين، وفي أواخر عام 1939 كانت العلاقة الرومانسية بين فريدا وتروتسكي قد تقادمت وذوت من الداخل لكونها مجرد نزوة عابرة انقضى أوانها، مما جعل فريدا تقف الى جانب زوجها ريفيرا الذي انقلب الان لصالح الصف الستاليني أمام سخرية تروتسكي المتواصلة وتعليقاته التي كان يصفه فيها بالرجل الساذج الذي لايفهم شيئا في السياسة، رغم ضيافة هذا الرجل له وكرمه وتحمل خيانة زوجته!!
أما ستالين فلم يكف عن مطاردة غريمه السياسي حتى لو كان يعيش بعيدا بآلاف الاميال عن موسكو. ففي مايس عام 1940 جندت مخابرات ستالين فنانا مكسيكيا متحمسا اسمه ديفد الفارو سكويار لاغتيال تروتسكي . فذهب سكويار الى بيت تروتسكي وامطره بوابل من رصاص رشاش اوتوماتيكي لكن تروتسكي لم يلحقه اي ضرر بليغ إلا ان ابن شقيقته الصبي الذي كان في زيارته اصيب بعدة عيارات نارية.
بعد ثلاثة اشهر من هذه المحاولة كانت المخابرات السوفيتية قد دفعت بالخطة- ب للتخلص من تروتسكي. ففي 20 آب من عام 1940 وبينما كان تروتسكي منكبا على القراءة خلف مكتبه، هجم رامون مركيدار وهو عميل مكسيكي محلي للمخابرات السوفيتية وهوى على رأس تروتسكي وهو مطرق بفأس حاد كان من المخطط له ان يفلع رأسه الى نصفين! يقول متحدث البوليس المكسيكي ان الفأس دخل لاكثر من انجين في جمجمة تروتسكي لكنه لم يؤد الى موته في الحال. فقد نقل الى المستشفى وفارق الحياة في اليوم التالي.
مرت الاعوام وطوت معها علاقة فريدا بالشيوعي الكبير طي النسيان لكنها لم تطو علاقتها بالشيوعية! فعند وفاتها عام 1954غطى الرفاق نعش الفنانة بغطاء يحمل شعار المنجل والمطرقة.
ا. د. مصدق الحبيب
نظرية الاستقطاب
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عتيق العربي
مقدمة: إن البحث عن مصادر الدينامكية العفوية للمجتمعات، هي محاولة جادة للبحث عن أسباب العصرنة والغنماج التكنولوجي الحداثي المعاصر. لهدافكل لنظريات السابقة لم تكن مجانية العرض بل كانت نتيجة جهيد وتجربة القرون التي مرت بها الإنسانية عبر التاريخ، والدين قدموا تلك النظريات؛ كانوافي مقربة الوعي الكامل من الحياة وفلسفة التعايش المجنمعي المتكامل والمتطور. ومنها كان إبن خلدون وهيغل وماركس وإشبينجلر وتوينبي غيرهم في قلب السؤال الإشكالي لدينامية الحياة الإجتماعية عبر تغيرات الزمن المتلاحق ..
المتن
لقد كانت النظرة المثالية والروحية لدى هيجل والإقتصادية لدى الماركسية والبيولوجية لدى إشبينجلر وإثر المعوقات عند توينبي، نظرات صائبة وخاطئة؛ لسبب بسيط؛ أن كل مفسر من هؤلاء كان يرى من إتجاه محدد وطبق هدف معين .
ان محاولة فهم التنظير السوسيولوجي والانتروبولوجي للفعل المستقبلي الذي يتحرك ضمن قوى بنائية واخرى مهدمة، يتفاعل داخل بنية متشابكة محافظة على القيم والمعايير التقليدية سوف لن تكون اكثر من استعراض لمنظومة فكرية مغلقة لا تعرض ذاتها بالقدر الكافي الذي يمكننا من سبر اغوارها النفسية والاجتماعية والاقتصادية والعقائدية التي تحرك الفعل وديناميكيته ضمن استقطاب افقي او عمودي او مجرد تفاعل نفسي ملتهب سريع الانفعال .فالمجتمعات تنطلق من قاعدة مثلثية وتنتهي على قطب ومن القطب تبدأ عملية إستقطاب جديد تحركه الفعاليات المثيرة إجتماعيا م ثقافيا .
لذا ان هناك محاولات يقدمها ابن نبي ويسبقه في ذالك العميد ابن خلدون من خلال العصبية وديناميكية الحضارة علميا وعبر كل مراحل التاريخ الانساني لذا نجد الاسقاط السيكولوجي عند بن نبي اكثر عمقا والتوغل الاجتماعي في الظاهرة الاستعمارية اقرب تفسيرا لدى ابن خلدون مع ملاحظة ان الاستقطاب هي اخر فهم للظاهرة بعيدا عن كل انسحابية او تشاركية والعصبية هي مرحلة اخر تحرك للجماعات الفاعلة في المجتمع في اي مجتمع في العالم ام اليوم النظرية البنائية والماركسة ونظرلة التبعية هي المفسر لكل ذلك التغيرات والتطورات عندنا في هذه الدراسة النموذج الجزائري
وفي هذه المرحلة تكون المسافات بين مثلث وأخر بعيدة عن بعضها في الرأس الاستقطابي بينما تكون متصلة او قريبة الاتصال في القاعدة العريضة مما يخلق فضاء بسيط للحوار والتواصل ولكن نجدالقمم في كافة الثلثت متباعدة ولا يمكن الاتصال بينها
والحل المفيد لذلك عند بن نبي، هو تعديل الكف لأنه وجد ضده لدى الدوائر الاستعمارية. حيث تقوم عناصر الاستعمار بتأسيس هيئات بشرية ومادية تتوجه نحو عناصر محددة لكي يحتويها ويحملها في ظلاله . وهذا ما يمكن أن نسميه، استقطاب أفقي يمارس الاجتذاب وللتعايش القائم على الروح الإنسانية المغطى بالتطوير الحضاري والتحديث البنائي .مما يجعل عضو البلاد المستعمرة طرفا متفرجا على لعبة يسميها بن نبي « لعبة الظل» عناصرها، المخرج، والممثل والضوء، والمتفرج، وكأنها مسرحية هادئة.فالمستعمر يركب جهاز مضاد، تكرسة الأفكار والمعاملات المدروسة بكل أحكام لإفشال الأفكار المضادة له، لذلك فالمنظور الاستشرافي يخضع لعدة متغيرات ة من خلال فهم الأسباب والمعوقات التي تتمثل في البناء الاقتصلدي والبشري والقيم السائدة بينهما.
الخاتمة
إدن نحن أمام تحدي يعبر عنه توينبي وهيغل بدقة رغم الفرق الواسع بينهما في التفسير التصاعدي والروحي عندهما ومنها نستشف ديناميكية التغير والتحديث، وبناء الأسس الجديدة لوضع استشراف علمي دقيق تتمثل في، القراءة المقارنة لنماذج التنمية العالمية، والأخذ بمنظور التنمية الشاملة، و ادراك المتغيرات في تغير خطي، وادراك اتجاه التنميةفي توسع أفقي وكذلك اعادة مكانة الفرد الى الواجهة وقراءة محلية للتنمية المستدامة المستحدثة اليوم من كافة المنظمات العالمية.
الاستاذعتيق العربي
كلية العلوم الاجتماعلة الجزائر
نحوُ القُرون الوُسطى
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. عبد الله الفيفي
(متى تصحو العربيَّة من تركاته؟)
قال صديقي التراثيُّ الحداثيُّ (ابن أبي الآفاق):
- اعلم، علَّمك الله، أنَّ من عيوب علم النحو العربيِّ القديم، إبَّان عصور العُجمة والانحطاط الحضاري- وإنْ كابرَ (أبو جهل) و(أُميَّة بن خلف)، ممَّن لم يعتادوا النقد، بل اعتادوا "اعْلُ هُبَل!"-: تشقيقاتٌ مسرفةٌ في صغائر، ما أنزل الله بها من سلطان. متونٌ تتلوها حواشٍ، وحواشٍ على الحواشي!
- أضف إلى ذلك فرضيَّات فارغة. ولا معنى لفرضيَّةٍ من وجهةٍ عِلميَّةٍ جادَّةٍ، ما لم تكن محتمَلة الوقوع. تراهم كثيرًا ما يفترضون ما لا يخطر على ذهن العَرَبيِّ استعماله أصلًا. مثل منعهم الجمع بين التعريف والإضافة، قالوا: كأنْ يقال، ولن يقال: "الغُلامي"!
- بهذا وأشباهه يحشون كتبهم! وهو ما لن يقوله عربيٌّ إلى يوم الدِّين!
- فلماذا ينشغلون بهذه التوافه ويشغلون الناس؟
- يبدو- إنْ أُحسِن الظنُّ بهذه "الحركات"- لأنَّ معظم النُّحاة أعاجم، وهو يؤلِّفون لمجتمع فيه أعاجم، فمن المحتمَل أن يكون لفرضيَّاتهم الغريبة تلك ورودٌ بينهم.
- بل يبدو أيضًا أنَّ النحو كان قد تحوَّل، ولا سيما في القرون المتأخِّرة، إلى تجارةٍ، وحِرفةٍ مِن استعراض العضلات النحويَّة والمنطقيَّة والتعالم اللغوي.
- صدقتَ. فـ(ابن هشام، عبدالله بن جمال الدِّين الأنصاري، -761هـ= 1360م)، مثلًا، يؤلِّف في النحو مَتْنًا سمَّاه: "شذور الذهب"، والعنوان نفسه دالٌّ على ما وَقَرَ في ذهن صاحبه من نزوعٍ إلى إضفاء هالةٍ تجاريَّةٍ تسويقيَّةٍ على منتَجه!
- على أنك ستجده مَتْنًا لا يخلو من تعمية.
- وربما بدت متعمَّدة، وكأنه يؤلِّف نظريَّةً غيبيَّة، من تلكم التي انتشر وباؤها في القرون الوسطى الإسلاميَّة، قرون العجائب والغرائب والشعبذات، حتى لتَلحظ فيه أحيانًا التقديم والتأخير بلا مسوِّغ.
- قف بنا، نبكِ أو نضحك، من ذكرى شذرةٍ من شذوره!
- وما أكثرها! خُذْ، عافاك الله، قوله في باب (المعرفة: المحلَّى بأل)، مثلًا: "ويجب ثبوتها [أل التعريف] في فاعلَي نِعْمَ وبئس المظهَرَين، نحو: "نِعْمَ العَبْدُ"، و"بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ"، "فنِعمَ ابنُ أُخت القَوم"، فأمَّا المضمَر فمُستترٌ مفسَّرٌ بتمييز، نحو: "نِعم امْرَأً هَرِمٌ"، ومنه: "فَنِعِمَّا هِيَ"، وفي نعتَي الإشارة مطلَقًا وأيُّ في النِّداء، نحو: "يا أَيُّها الإِنْسانُ"، ونحو: "ما لِهذا الكِتابِ"، وقد يقال: يا أيهذا." فلعلَّ سائلًا يسأل هنا: ما الذي جعل ابن هشام يقدِّم مثال نعت (أيّ) على مثال نعت الإشارة، بخلاف ترتيب كلامه عنهما من قبل، ثمَّ يعود إلى (أيّ) مرةً أخرى؟
- لِمَ هذه الرقصة الغريبة، إنْ كان يريد تسلسل المعلومات في ذهن الطالب؟! أ هو اضطرابٌ في التأليف؟
- لا أظنُّ. إنَّ النحو عِلم التركيب والتأليف في أدقِّ صُوَره. بل قل: كأنَّما ليدوِّخ القارئ؛ كي تحتاج دوختُه إليه في الشرح، وإلَّا لفقدَ مهمَّته ووظيفته!
- حرامٌ عليك!
- لا تستغرب! فهكذا كانوا يفعلون، لو استقرأتَ نهجهم بعيدًا عن التبجيل المتوارث والحصانات الممنوحة جزافًا. إنَّ ابن هشام، على سبيل النموذج، كان يبتدع مَتْنًا ملتبسًا، عويصًا على الفهم؛ وكأنَّه وحيٌ تنزَّل عليه من السماء، "مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ"، ولله المثل الأعلى؛ لكي يُتحِف القارئ بعد ذلك بشرحه الكريم وتفسيره لمغازي ملغزاته، في عمله الآخر "شرح شذور الذهب".
- وما لمَتْنِه سِوَى شرحه؟!
- وبهذا فمَن لم يستطع منهم النَّظْم في أرجوزةٍ ألفيَّةٍ، كـ(ابن مالك)، فليَنْظِم لعباد الله طلاسمَ نثريَّة، كابن هشام، ما كان يقتضي غموضَها لا المعنى ولا المبنى، بمقدار ما هو نزوع التحذلق، والقصد إلى الإلغاز، والإيهام بخطورة الموضوعات، في عِلْمٍ لا يُشَقُّ له غُبار. والضحيَّة، عبر العصور، لغتنا العربيَّة الجميلة وطلبتها التعساء.
- كيف لا، وصاحبنا يقدم لفقراء خلق الله "شذورًا من الذهب"؟!
- مع أنَّ شذوره قد صارت من أيسر كتب التراث لطلبة النحو في الجامعات، ما زال يقرَّر كتابه على طلبة العربيَّة منذ ألَّفَه، وربما إلى يوم يُبعَث من قبره.
- لهذا تولَّى ابن هشام بنفسه شرح نفسه، لإيضاح ما تولَّى كِبره من "الشذور"، تحت عنوان "شرح شذور الذهب"؟
- نعم.. وما هذا المدار البعيد والنجعة الشاقَّة إلا إمعانًا في شغل نفسه والناس ببضاعته الذهبيَّة! والحقُّ أنَّه لولا هذا لما وجدَ له عملًا أفضل، ولما حقَّق صيته التاريخيَّ العريض.
- إنها لعبة تأليفية قديمة، إذن، حسب رأيك؟
- ولقد جنى بها هؤلاء وتلاميذهم على اللغة العربيَّة وأبنائها، حتى لقد جعلوا النحو يبدو عِلمًا طلسميًّا، لدُنِّـيًّا، مضنونًا به على غير أهله. بل لا قِبل لأحدٍ به، إلَّا من أوتي بسطة في العِلْم والذهن والفراغ.
- وإنْ اتَّهم الناسُ، منذ القدم، بعض المشتغلين بهذا الضرب من النحو بأنه قد أورثهم الحمق!
- تلك مسألةٌ أخرى. لكنَّ السؤال المُلِحَّ هنا: متى تصحو العربيَّة من هذه التركة الثقيلة، فتنفض عن النحو العربيِّ متراكمه عبر عصور الانحطاط، ولا سيما منذ القرن الخامس الهجري؟!
- أي منذ بدأ الفراغ يوهم صاحبه بالامتلاء، والضعف يحمل صاحبه على ادِّعاء القوَّة، والموبقات تدعو العاجز إلى ادِّعاء العظمة.
- تقريبًا. حتى إنَّ أحد أعلام تلك العصور ليُضفي على نفسه ما لا تضفيه الأُمُّ المقلات على وحيدها من النعوت المستحيلة، كأنْ يقول (الشيخ محيي الدِّين بن عربي، -638هـ)، عن نفسه: "قال الشيخ الإمام، العالم الكامل، المحقِّق المتبحِّر، محيي الدِّين، شرف الإسلام، لسان الحقائق، علَّامة العالم، قدوة الأكابر، ومحلُّ الأوامر، أُعجوبة الدهر، وفريدة العصر... إلخ. إلخ. إلخ"!
- لكن هذا كان طابع تلك القرون من التعاظم.
- وذاك بيت الداء. فيا ليت شِعري، ماذا سيقول المرء بعد هذه الديباجة؟ وماذا سيفعل مَن يعتقد في نفسه كل هذه النعوت؟!
- وإذا كان هذا شأن المتصوِّف في النظر إلى نفسه، مع أن منهاجه المفترض التزهُّد والتواضع، فكيف بمن منهاجه التكبُّر والتعالي؟ لكن ربما قيل: إنَّ مثل هذا من نسج النسَّاخ، لا من عند المؤلِّف.
- ربما. ولئن صح هذا- وهو ما لا برهان عليه، ولم تذهب إليه (د. سعاد الحكيم)، محقِّقة كتابه "الإسرا إلى المقام الأسرى أو كتاب المعراج"- فما يعنينا هنا إدراك أن هذا كان ديدن تلك العصور، بأعلامها، وعلمائها، وعلومها. ولا غرو أن نجد آثاره ظاهرةً على المؤلَّفات والمناهج، في شتَّى الفنون، ممَّا خلَّفتْه لنا تلك القرون من تركة. وهي تركةُ- على حدِّ قول (المزرِّد الغطفاني)-: "دُلامِصَةٌ تَرْفَضُّ عنها الجَنادلُ"! ولا يزال لجنادلها روَّادها ومنافحوها.
أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيفي
الاختراع والاكتشاف في حياة الإنسان الاجتماعية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ابراهيم ابو عواد
الأسئلةُ المطروحة على الأنساق الاجتماعية لا تهدف إلى إيجاد تفسير عقلاني لحركة الأفراد من أجل تقييدها لصالح السُّلطات الأبوية، وإنما تهدف إلى بَلورة وَعْي اجتماعي يُحرِّر العقلَ مِن ثقافة القطيع، ويُحرِّر طريقةَ التفكير مِن ضَغط المُسلَّمات المصنوعة لتحقيق مصالح شخصية. وهذا يعني أن الغاية مِن عملية العَقلنة هي تحرير العقل مِن سُلطة العناصر الاجتماعية الضاغطة المُحيطة به، وليس تَدجين العقل وإخضاعه لإفرازات العقل الجمعي. ولَن يَقْدِر العقلُ على الانطلاق نَحْو الإبداع إلا بكسر القيود، والتخلص مِنها، وليس تنظيفها وإزالة الصَّدَأ عنها، فالتَّحَرُّر والحُريةُ يَعْنِيان كَسْرَ القيود على العقل لا تَلْميعها . وإذا تحرَّرَ العقلُ الفردي فإنَّ العقل الجمعي سيتحرَّر تلقائيًّا، وإذا تحرَّرَ العقلُ الجمعي، فإنَّ الأنساق الاجتماعية ستُصبح حاضنةً شرعية للإبداع والإنتاجِ المعرفي .
2
وُجود الشَّيء على أرض الواقع لا يَعني بالضَّرورة إمكانيةَ الوصول إلَيه، فالوصولُ إلى الهدف يَختلف عن طبيعة الهدف، وخصائص الوسيلة تختلف عن خصائص الغاية . والطريقُ إلى البَيت لا فائدة مِنه إذا كان الفردُ لا يملك مِفتاح البَيت . والضوءُ في نهاية النفق الاجتماعي مَوجود، ولكنَّ الأفراد والجماعات عاجزون عن رؤيته والوصول إلَيه لأن هناك حاجزًا بَيْنهم وبَيْنه . لذلك، يَنبغي أن تتوجَّه العلوم الإنسانية والمناهج الفكرية والظواهر المعرفية نَحْو إزالة الحواجز والعَقَبَات مِن طريق الإنسان إلى غايته وحُلْمه، وليس صناعة الطريق، أو اختراع معنى جديد للإنسان، فالطريقُ مَوجود، والإنسان مَوجود، لكنَّ المُشكلة في العَقَبَات التي تَقطع طريقَ الإنسان نَحْو إنسانيته، وبالتالي تَمنعه مِن التقدُّم، وتَحُول بَينه وبَينه تحقيق أحلامه . وهذا يعني أن فلسفة الفكر الاجتماعي هي عملية إزالة للعَقَبَات، وتنظيف للطريق، ونَفْض للغُبار عن القُلوب . إنها عملية إعادة اكتشاف المَوجود، ولَيست عملية اختراع شيء غَير مَوجود . فلا معنى للبحث في الأوهام والخيالات، ولا جَدوى مِن مُحاولة اختراع إنسانية جديدة . كُل شيء موجود في الواقع، ولا جديد تحت الشمس، والذهب موجود في التراب، والمهمة الرئيسية ليست اختراع الذهب، أوْ تغيير خصائصه وصفاته، وإنَّما التنقيب عنه، واستخراجه، وتحويله إلى أشكال يُمكن الاستفادة مِنها باستخدام التكنولوجيا الحديثة، والأدوات المتطورة .
3
في حقيقة الأمر، إنَّ الإنسان لا يُصنَع، لأنَّه مَصنوع وموجود وجاهز للتَّلَقِّي والتفاعل مع العناصر، وإنَّما يُعاد اكتشافه، بِصَقْل مواهبه، ونَفْض الغُبار عن إمكانياته وأحلامه، وإظهار نقاط قُوَّته، وإزالة نقاط ضعفه . والإشكاليةُ في بِنية العلوم الإنسانية وطبيعة الأنساق الاجتماعية هي عدم التفريق بين الاختراع والاكتشاف، فالاختراعُ هو إيجاد علاقات اجتماعية غير موجودة على أرض الواقع، أمَّا الاكتشاف فهو إظهار العلاقات الاجتماعية المَدفونة في ضجيج الواقع اليومي، واستخراج المواهب الإبداعية المُتفرِّدة مِن زِحام الحياة العملية،
والوصول إلى الأشياء المَيتة في قلب الإنسان بُغية إحيائها، وإبراز الأحلام المنسية في أعماقه السحيقة، وإخراجها مِن الظلام إلى النُّور. لذلك، يجب على الفكر الاجتماعي أن يبتعد عن إعادة اختراع العَجَلة، وأن يُركِّز في اكتشاف المَوجود، وليس اختراع اللاموجود. والإبداعُ الحقيقيُّ يتجلَّى في التَّنقيب عن الإنسان في أنقاض الحياة ورُكام الواقع، وإخراج الشعور الإنساني مِن المَوت والاندثار إلى الحياة والانطلاق . والتغييرُ الفَعَّال إنما يكون في مجال السُّلوك الواعي، ولَيس في مجال الشعارات الرَّنانة، ولا شَكَّ أنَّ تجديد السُّلوك أكثر أهمية وتأثيرًا مِن تجديد الخِطَاب .
إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن
رواية (ثلاث وستون) للروائي احمد الجنديل
- التفاصيل
- كتب بواسطة: حميد الحريزي
(ياتي زمان على أمتي القابض على دينه كالقابض على جمرة) النبي محمد (ص)
ثلاث وستون عنوان الرواية دلالة على عمر التقاعد الالزامي للموظف في الحكومة العراقية ومايسمى بسن التقاعد والذي اصبح الان وحسب القانون الجديد 60 عاما، حيث يقدم موظف الخدمة العامة عصارة عمره وشبابه وخبرته العلمية والمهنية من اجل الصالح العام، ونحن نتحدث هنا عما يفترض ان يكون عليه موظف الخدمة العامة وما عشناه خلال كل فترات الحكومات السابقة، حيث التفاني والامانة والنزاهة والابداع الا ماندر من المرتشين والفاسدين محل نبذ واحتقار من المجتمع ومحل المحاسبة والعقاب من قبل الحكومات على الرغم من قلة الرواتب وهزالة المعاشات ولكن مع وفرة في القيم الانسانية والوطنية والاخلاقية النبيلة .
ولكن للاسف الشديد انقلب الحال في زمن الديمقراطية واصبح الفاسد والمرتشي هو السائد والنزيه والشريف والمضحي عملة نادرة ومحل تندر السفهاء لانه لم يلتحق بركب الفاسدين ويبقى يعيش حياة الفاقة والضنك والتهميش.
وبدلا من تكريمه وتثمين جهده وماقدمه من خدمات لبلده ولشعبه خلال فترة خدمته الطويلة كما يجري في اغلب بلدان العالم التي تحتلرم مواطنيها وتكرم من يستحق التكريم وتوفر له كل اسباب الراحة من سكن وسفر وخدمات صحية وحتى زيادة في راتبه على ماكان يتقاضاه اثناء الخدمة لتوفر له حياة كريمة، للاسف في بلدنا يترك يعاني الكثير من المشقة والعناء والروتين القاتل اثناء انجاز معاملته التقاعدية التي قد تستمر لاشهر حتى تكتمل، كما ان راتبه يقلص الى مايقارب النصف مما كان يتقاضاه اثناء الخدمة وليس ههناك اية ميزات صحية او ترفيهية خاصة بالمتقاعد .
(وليد عبد العظيم) معلم مخضرم عاش زمن الحكم الديكتاتوري واحيل على التقاعد في زمن الديمقراطية وحينما ذهب الىمديرية التربية لانجاز معاملة التقاعد تبلغه (حمدية) الموظفة في المديرية بان عليه ان يجلب كتاب مباشرته وخدمته في مدرسة الزهور المدرسة التي كان يدرس فيها سابقا دون ان تداري كبر سنه وصعوبة سفره في ظل ظروف تصاعد عمليات الارهاب ومخاطر السفر،ولم ينتصر له السيد المدير المختم بخاتم ازرق امرا اياه بتنفيذ امر (حمديه) وجلب كتاب تاييد لاكمال المعاملة، يعرض عليه احدهم خارج الدائرة بان يقدم له خدمة في سبيل الله وان ينجز له معاملته ويجنبه متاعب السفر والخطر مقابل دفع مبلغ مليونين دينار، يرفض وليد عبد الحليم ان يكون مرتشيا في اخر عمره ويتجاوز الكلام المهين للمتبرع بالمساعدة عند اعلانه الرفض(درب الكلب على القصاب) منوها بانه سيظطر العودة اليه لاكمال معاملته، كما يعو الكلب للقصاب نتيجة جوعه رغم طرده واهانته .
يتالم كثيرا كما يرفض مقترح ولده رياض بالموافقة على تقديم الرشوة واراحة نفسه ويقرر السفر الى مدينة مدرسة الزهور لجلب الكتاب، والذهاب لوحده ويرفض مرافقة ولده له
تتدعى الذكريات والصور في مخيلة وليدوتبدل الاحوال من حال الى حال وكيف اصبح الانسان الشريف النزيه الذي لم يهادن الديكتاتورية وتحمل التعذيب والاذى ثمنا لصموده وعدم افشائه اسرار الناس والمصلين في المسجد، فقد تفاجأ وليد في احد الايام بمداهمة منزله واقتياده من قبل امن السلطة الديكتاتورية الى دائرة الامن من دون ان يعرف السبب، فهو ليس سياسيا ولايتكلم في السياسة ولم ينتمي لاي حزب سياسي، ولم يسبب الاذى لاحد ولم يقصر في واجبه التعليمي .
يتعرض للاهانة والضرب والتعذيب ومطالبته بالاعتراف على جماعته؟؟
لاينفع معهم الانكار كونه انسان مستقل لاعلاقة له بالسياسة ولا ينتمي الى اية جماعة سياسية، يضرب بقساوة ينزف دما من انفه وشفته، يهدد بالاغتصاب ان لم يعترف !!!
بماذا يعترف (وليد عبد العظيم)، لا اعتراف لديه الا كونه انسنا نزيها شريفا يحب الناس والناس يحبونه، يكره الظلم والظالمين. يتعاطف معه احد افراد الشرطة وهي دلالة الى كون ليس كل من انتمى الى قوات الامن هو شرير وقذر وجلاد فقد يكون هناك من اضطره رغيف الخبر للانتماء الى هذه المؤسسة الامنية .
كان معه عدد من السجناء منهم الشاب الصلب العنيد زهير ابن الخبازه، وعلوان وغيرهم،ولكل منهم سلوكه وردود فعله امام الجلاد، فقد كان علوان خنوعا ذليلا متملقا للجلاد وقد ادلى بكل اسماء الناس الذين يدخلون المسجد لاداء الصلاة، وقد كان محل احتقار من قبل زهير ابن الخبازة ورفاقه .
بعد ان يأس المحقق من حصوله على معلومة من استاذ وليد اطلق سراحه مع اعتذار ثعلبي مخزي من قبل الجلاد .
وهو مستغرق في ذكرياته الاليمة يصل الى مدينة مدرسته القديمة (الزهور) وقد كان الناس كل مشغول بحاله في واقع الخوف من وباء الكورونا ووباء الفساد والزيف والخرافة والدجل (لو كان الامر بيدي لقطعت كل الالسن الملتوية التي تمتهن المواعظ الخيصة وارحت البلاد والعباد من شرها) ص72هكذا كان يفكر استاذ وليد وهو يشهد ظاهرة النفاق والزيف للكثير من ادعياء الدين والتدين وممن يعتلون المنابر لموعظة الناس وهم الاكثر فسادا وخرقا لتعاليم الدين (اقذر الفساد ماكان يحتمي خلف اسم الله) ص73.
يتوجه الى فندق في المدينة كان على معرفة بمالكه فيشهد بابه قطعة مكتبوب عليها بدلا من فندق الامل (جمعية احباب الله الخيرية) ص80.
ثم يشهد ان مدرسته (الزهور) تحول اسمها الى مدرسة (جند الله)! فيصاب بالدهشة بسبب تغير كل شيء ليكون منسجما مع فكر اسلامومي مزيف يهيمن على ثقلفة القطيع، وأدعياء الدين من المزيفيين والمنتفعين والوصوليين والانتهازيين (الناس في هذا اللد امامهم الظاهر، ولهذا اهتمت بالظاهر مثلما اهتمت بالمستور، طالما ان الظاهر يحقق مايريده المستور) 101.لذلك اجتهد هؤلاء الادعياء الى الحفر في الماضي القريب والبعيد لكي يلبسوا كل مظاهر الحياة بلباس الدين والتدين كالمظاهر الشخصية للافراد مثل اطلاق اللحى وحلق الشارب (اكرموا اللحية واهينو الشارب)، وتتالختم بالخواتم مختلفة الالوان والاصول والاشكال ولمختلف الاغراض كما يدعون، وتغيير الاسماء فمثلا الانتقال من مدرسة الزهور الى العروبة ومن ثم الى جند الله ...الخ، من غازي الى قاسم الى جمال الى صدام الى محمد باقر ...الخ . فلكل زمان جلد ومظهر وسلوك طبعا دون تفكر او تدبر وانما هي موجات تأتي ثم تضمحل ... وبذلك يحل الدجل والنفاق وازدواج الشخصية في مثل هذه الظروف يتكاثر اهل الفساد وممارسيه وينحسر دور النزيه والصريح والصادق في زمن (النهضة الشاملة) كما يسمونها فتكون (النزاهة في مجتمع غارق في الجهل انتحار) ص102.
يتوجه الى المدرسة (جند الله) حيث تخبره الست ربيعه بان السجلات اتلفت ولايمكنها تزويده بمثل هذا الكتاب لعدم وجود اوليات، فيعود ادراجه وهو في حيرة من امره في مجتمع (الحقائق لا وجود لها، حلت محلها الشعارات والكذب المطعم بذكر الله) ص117 يعود الى حنش ابن حواس الخياط الذي اصبح من وجهاء المدينة هو واخوانه حيث ركب الجميع الموجة الطاغية فأصبحوا من اصحاب الشأن والنفوذ، حنش الذي كان استاذ وليد معلمه واستاذه مازال يذكر له افضاله عليه وعلى والده واخوانه فاراد ان يساعده ويرد له معروفه ايام زمان وباعتباره احد ابطال مقاومة النظام الديكتاتوري فهو يمثل تنقية وتزكية لكل من يرافقه ويصاحبه ويدعي قربه اليه، يعده حنش ان لا يبتئس ابدا فالكتاب سيتدبر امره هو، مكث في المدينة بضيافة حنش وكرمه مايقارب الاسبوع، زار خلالها (منتدى الصفوة الاسلامي) ص114، ليلتقي كذلك بالشخصية الهامة حيث وعده حنش انهم يترقبون قدومها للمدينة والقاء خطبة لوعظ الناس هناك، وقد حصل ذلك، والمفارقة الكبرى ان هذه الشخصية الكبيرة هو علوان المتخاذل الجبان الذي اعترف على كل جماعته زمن الديكتاتورية وقد كان الشرطي (قاسم ابن الحاج عبد الامير) اشرف وانظف منه، ناهيك عن المقاوم الجريء زهير بن الخبازه حيث (اصبحت الحياة تسير على بوصلة معطوبة بيد اعمى مجنون) ص67.
وقد اصبح (الناس صنفان، صنف يذهب الى حبل المشنقة وعلى شفتيه عصفور يغني للنصر، وصنف يختبيء بين فخذي زوجته وهو يرتجف خوفا، وعندما تتبدل الاحوال والادوار، يطوي النسيان الصنف الاول ويخرج الصنف الثاني حاملا تاريخ البطولة والشجاعة والاقدام) ص139 ولاشك ان وليد عبد العظيم من الصنف الاول وعلوان كان الصنف الثاني وهاهو اليوم يحتل ارفع المناصب ويحصد اعظم المكاسب، يتعرفه وليد عن طريق حنش ويزوده بورقة لانجاز معاملته وقضاء حاجته .
يكشف له حنش عن حقيقته فهو ينافق الوضع القائم في العلن حيث الزهد والورع والسعي لمنفعة الناس في العلن بينما هو يمارس كل ملذاه الدنيوية في السر من شراب ونساء ومالذ وطاب من الطعام وافخر الملابس والسكن الباذخ من حيث السعة والتاثيث وهذا ماشهده وليد بالفعل، عاش وليد وتذوق كل هذه الملذات م فيض كرم حنش، ليكون من(اصحاب الرؤوس المزدوجة والالسن المتعددة الاشد فتكا من جميع الفيروسات التي ارعبت العالم) ص157.
يجهز له حنش كتاب التاييد من المدرسة وبامر مدير التربية خوفا من الشيخ علوان، يرافقه الى مدينته محملا بالهدايا الثمينة في حقيبة كبيرة، تكمل الست مديحة ومديرها المختم معاملته وهو جالس في غرفة المدير وبسرعة قياسية بفضل نفوذ الشيخ البطل (علوان).
يعود حنش الى مدينته بعد وداع استاذ وليد مع مزيدا من الود والاعتذار عن اي تقصير .يعيش وليد حالة من الازدواجية المؤلمة حيث يقول (شعرت بأني محجوز بين رأسين متنافرين، رأس مستنسخ من رأس الشيخ علوان، ورأسي الاخر الذي يلقنني أن الانتصار الحقيقي هو البحث عن القيم العليا داخل نفوسنا والارتقاء بها الى عالم السلوك) ص143.
وقد (كان الالم يتزايد ومع وصوله ذروته رأيت الرأس المغشوش يسقط دفعة واحدة وهو يقطر بالنجاسة والعفونة ومعه سقط شعار (جئنا لنبقى)، ورايت الشيخ علوان يتدحرج وسط الدماء المتعفنة التي خلقتها الشعارات الكاذبة) ص150 .
يصحو استذ وليد على نفسه يعود الى ذاته النقية القوية المقاومة لكل اشكال الفساد والقمع والزيف بكل انواعه ومسمياته .
يترك وليد متابعة معاملة التقاعد ويستشعر ان لامكان له في مثل هذه الحياة المزيفة الفاسدة، يشعر انه يقترب من منيته، فيهيء كل جسده وروحه للرحيل وبالفعل تغادر روحها الى ربها راضية مرضية، نقية زكية لم تخضع لاغراءات البطولات ولا المناصب ولا المكاسب كان الروائي ااحمد الجنديل موفقا جدا في سرد واقع معاش ويرافق تحولاته وتبدلاته واساليبه في عراق الامس واليوم وان كان يقول في مستهل الرواية بانني (دونت ما بقي من ذيول حكايته – يعني حكاية استاذ وليد عبد العظيم – لمن يعشق الخيال، اما المغرمون بالواقع فلا املك لهم غير النصيحة بالابتعاد عن قراءة هذ الرواية التي كتبتها للمتعة فقط، ولاشيء غير المتعة في هذه الرواية) ص5 .
لكن من يبحث في الواقع يراه اكثر مرارة وتوصيفا مما وصفه وقدمه لنا الروائي في روايته الجميلة والمكتملة من حيث المبنى والمعنى، وباسلوب سردي بليغ يحمل بين طياته الكثير من الحس الشعري والبلاغي والفلسفي.
حميد الحريزي
وبالوالدين إحسانا.. آباء تحت خط العنف
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مريم لطفي
{وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23-24/
الآباء تعني الوالدين كلاهما مع الميل لجهة الاب، وقد دعانا الله في كتابه العزيز لبرهما والاحسان اليهما لما بذلاه من جهد وسهر وعمر فني في سبيل رعايتنا حتى نبلغ اشدنا، فالاب لم يدخر وسعا وهو يتصبب عرقا يخوض غمار العمل بكل مااوتي من قوة ليأمن حياة كريمة لأبنائه تجعلهم فخورين بأنفسهم وهم يتسلقون سلّم الحياة بكل ثقة مستمدين العزم والقوة من أم افنت حياتها ساهرة على راحتهم ملبية طلباتهم باذلة الغالي والنفيس من ايامها وسنينها التي تحترق تباعا لتنير لهم الطريق حتى الوصول، وعند الوصول!!
وصل الأبناء الى مبتغاهم و أكملوا دراستهم الجامعية والعليا او اكتفوا بمهنة حرة حددها معهد ما او مهنة تعلموها بالصغر، المهم انهم وقفوا على ارجلهم متأبطين ذراع الحياة بكل ثقة، فالابن تزوج والبنت كذلك واستقل كل في بيته، ولان الفطرة والتقليد والدين يوجب على البنت ان تتبع زوجها، وقد تبعته واستقلت بخيرالحياة وشرها، اما الابن الذي اختار العيش مع والديه لسبب اولآخر، كأن يكون ضعف الحال، أو لتعلق ابويه به كأن يكون الأبن الوحيد أو الصغير أو الكبير..أو..أو..الخ
رتب الابوين حياتهما ليعيش الابن معهم وبالتأكيد اعطوه أحسن غرفة، وتأثثت باجمل الاثاث كل حسب سعته، وقد هيأوا له اسباب الراحة ليحيا على حب الله كما يقول المثل ويعيد لهم جزءا ولو يسير من تضحياتهم الجسام، وقد يكون هذا اليسير معونة بسيطة تعينهم على مصاعب الحياة، او هدية ترسم على وجوهههم الابتسامة، او ربما كلمة تزرع في ا نفسهم الرضا من باب رد الجميل، وماايسرها، لكن مايجري الان ومع القفزات الواسعة للعولمة ويبدو انها بدات تقفز على القيم والمبادئ الانسانية القيمة وتجتازها معلنة العقوق وباعلى درجات الجحود!!
بات الابن المدلل الذي لم يدخر والداه جهدا في سبيل إسعاده يتطاول على والديه بالكلام البذئ والالفاظ النابية لانهم عجزوا عن توفير طلب ما من طلباته التي باتت تتزايد يوما بعد اخر بل ساعة بعد اخرى، ويبدأ الابتزاز العاطفي بابشع صوره متجسدا بالتهديد وا لمساومة على كل شئ حتى على حياته فأما تحقيق الطلب او انه سيلجأ الى ايذاء نفسه!!
مستخدما هذه الحيلة الرخيصة التي مررت وروجت له الكثير من الامور التي تحققت بفضل ابتزاز والديه الكادحين ولايهم ان باعت والدته ماتملكه من حلي حتى وان كان خاتم زواجها! او الاستيلاء على سيارة ابيه لان الاب الان لايحتاج الى السيارة بعد ان شاب شعره واحيل الى التقاعد!!
او حتى الاستيلاء على بيت اهله راغبين او راهبين تحت اي بند واي مسمى!!
بل ان الامر تعدى المساومة والابتزاز العاطفي والكلام البذئ الذي ماانزل الله به من سلطان، لانه لم يعد يجدِ نفعا مع من افنى حياته ليسعده، بات الضرب الوسيلة الانجع لتلبية المطالب!! نعم هذه هي الحقيقة المرة التي اتت ا’كلها في الآونة الاخيرة ضرب الوالدين والاعتداء عليهما دون رحمة، واستغلال صمتهم العاطفي الذي يأبى ان يصيبه اي مكروه، اضافة الى سطوة العيب من المجتمع ليتعدى الامر الى القتل مع سبق الاصرار!!
للاسف الشديد ان اقدام الابن على رفع صوته بوجه ابيه وامه ورفع يده عليهما دون رادع افضى الى رفع الرحمة من قلب الابن واستخدام العنف والقتل دون رحمة لمن خصنا الله برعايتهما"وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا"، اما بسبب المال وهو الامر السائد او لاي سبب كان.
ان ظاهرة العقوق بدأت تنتشر في المجتمع كالنار في الهشيم متخذة
طرقا شتى، ومع التقدم والانفتاح التكنولوجي اكتسب الابناء عادات وافعال واقوال لاتمت للدين والاخلاق بصلة، وباتت الفضاضة سمة الموضة الحديثة، والاستخفاف والاستهزاء والاستحقاروالازدراء مفردات حلت بكارثتها محل المبادئ السامية والخلق السليم، واذا تامل القارئ الكريم قليلا وكثيرا لوجد ان الاجيال السابقة تحلت بكم هائل من الاخلاق الفاضلة التي انتقلت من الخلف الى السلف بكل امانة، ولم نكن نسمع بحالات العقوق الاماندر وهي حالات فردية لاتتعدى اصابع اليد.
ان هذه الظاهرة الدخيلة على مجتمعنا بدأت تستفحل لاسباب سنذكرمنها:
-الافراط بدلال الطفل الذي تلبى كل طلباته دون قيد اوشرط يخلق فيه روح الانانية والقسوة فيما بعد لاقرب الناس اليه، خصوصا اذا عجزوا عن تلبية مطالبه.
-الثواب المستمر دون العقاب، يخلق مساحة من العبث بكل شئ لان من أمن العقاب ساء الادب!
-سوء التربية الذي يتخذ سبلا شتى قد تكون القسوة المفرطة في الطفولة التي تولد الكبت، تجعل الطفل بركانا مايلبث ان ينفجر عند اول فرصة، او ترك الحبل على الغارب دون رقابة.
-كثرة الحروب التي ولدت أ’سر تنتقص الى مقومات الحياة الاعتيادية منها فقدان الاب الذي تكون له السلطة المركزية في التربية والتقويم، هذا الفقدان الذي يشتت افراد الاسرة فيعيش الطفل تحت كنف زوج الام الذي يذيقه الامرين، او عند اهل الام او اهل الاب، ممايجعله حاقدا على امه التي تزوجت وتركته تحت وطأة الظروف، اوانها لم تستطع ان توفر له حياة كريمة.
-غياب الوازع الديني في ظل الوجه الاخرللعولمة التي حرقت الاخضر واليابس، مع كل السيئات التي يتناقلها جيلا معينا من الشباب الذي بات اعمى عن القيم والاخلاق تحركه نزواته والسعي للحصول على مايريد لتلبية رغباته اللااخلاقية.
-غياب القدوة الصالحة لان الطفل ورقة بيضاء يكتب عليها كل شئ وهو المرآة العاكسة لابويه، فاذاكان الاب والام قدوة صالحة نشأالابن اوتوماتيكيا صالحا متخذا نفس النهج، اما اذاكانت القدوة سيئة اصلا فما بال النسخة التي تنشأ عنها!!
فبالتاكيد مايراه الابن من افعال والديه تجاه اهلهم سيقوم بتقليده حتما، لان التربية اكتساب بالدرجة الاساس.
-صديق السوء الذي له اليد الطولى بالانحرافات الخلقية التي تزين له كل شئ تحت اي مسمى.
-الاسر المفككة التي يكثر فيها العنف الاسري تنشئ افرادا غير اصحاء معتلين نفسيا، حاقدين على كل شئ، ينتظرون الفرصة المناسبة لرد الجميل!!
- ابتعاد الابوين عن الساحة الاسرية بحجة العمل يخلق فضاءا شاسعا لاكتساب عادات وعلل من الاخرين ايا كانوا، لان الباب مفتوح على مصراعيه وكل يدلوا بدلوه مستغلين الغياب الكبير لملئ الفراغ، وحقيقة لايوجد عمل لمدة اربع وعشرون ساعة، فلكل وقت اذان!
- انعدام الاحترام المتبادل بين الابوين الذي يخلق جوا من الحميمية تنعكس ايجابا على سلوك الطفل الذي ياخذ نفس الدورمع اهله واسرته مستقبلا.
- ضعف الدور المدرسي الذي لايقل اهمية عن دور الاسرة في تعلم المبادئ الاخلاقية الفاضلة.
- ضعف دور الثقافة و الاعلام النزيه من خلال البرامج الثقافية وحتى الافلام والمسلسلات والمسرحيات التي تنقل المعلومة الجيدة عن طريق الايحاء بكل امانة، بل ان تناول الفيلم الكوميدي او احد المسرحيات عقوق الابناء بشكل كوميدي تحبب للابن التجاوز بالفاظ نابية على الاب والمعلم واختراق الحد الفاصل والخطوط الحمراء للاحترام، فهذا حقيقة شئ مؤسف، لان للاعلام دورا كبيرا في بث الوعي والوعظ الاخلاقي عن طريق الايحاء لشريحة مهمة وهي شريحة اليافعين تلك الشريحة المسؤولة عن مستقبل المجتمع، وتلك مسؤولية عظيمة يجب الانتباه اليها ومراقبتها جيدا، لان الموضوع ليس مزحة ابدا.
ومع كل هذه الاسباب وغيرها، فالتربية الاولى ثم التربية الاولى هي حجر الاساس الذي يعتمد عليه بناء الانسان، لان التعلم في الصغر كالنقش على الحجر، وهذا ماتربينا عليه في صغرنا، احترام الكبيروالعطف على الصغير، والمعاملة الحسنة للوالدين من باب العرفان بالجميل وهذا حقهم علينا نظير العمر الذي بذلاه في سبيلنا، لا ان يكون الجزاء شتمهم ورميهم في الشارع او ايداعهم في دار العجزة، وقد وصل الامر الى القتل مع سبق الاصراروالترصد لسبب اولاخر، وتلك كارثة مجتمعية لابد من الوقوف على اسبابها والحد منها قبل ان تنخر جسد الاسرة وتعيث فسادا في المجتمع الذي تربى على قيم البر والتسامح والخلق الكريم.
واخيرا اقول:وبرهما فالجنة تحت اقدامهما، وكن كاتبا جيدا لافعالك وناقلا واعظا لاقوالك لانها سترد اليك حتما..
مريم لطفي
انتخابات فلسطينية مثيرة للقلق
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. ابراهيم أبراش
بقدر الاهتمام الكبير بالانتخابات من كل قطاعات الشعب الفلسطيني شعبياً ورسمياً وحتى إقليمياً إلا أن حالة من القلق الشعبي تصاحب الإجراءات والاستعدادات وما تم اتخاذه من قرارات بهذا الأمر، ليس فقط من حيث فرص إتمامها في مواعيدها المحددة والتحديات التي تواجهها من أطراف خارج الحقل السياسي الفلسطيني سواء تعلق الأمر بإسرائيل أو أمريكا والدول المانحة وحتى دول عربية، بل أيضاً من حيث قدرة الانتخابات التشريعية على إحداث تغيير حقيقي في النظام السياسي وإخراجه من حالة العجز والانقسام .
لو كان الأمر يتعلق بانتخابات عادية في دولة مستقلة لكانت الأمور أكثر وضوحاً وطمأنينة، مع أنه حتى بالنسبة للانتخابات التشريعية في الدول العربية التي تجري فيها انتخابات فإن هذه الأخيرة لا تغيِّر في النظام السياسي كما لا تعكس حالة ديمقراطية لأن البرلمان الذي يُفترض تمثيله للشعب وتعبيره عن إرادته ليس صاحب سلطة وقرار، بل مجرد ديكور لإضفاء طابع ديمقراطي على نظام سياسي غير ديمقراطي وحتى مهمة التشريع والرقابة تكون بلا معنى أو قيمة لأن القرار في النهاية يبقى بيد السلطة التنفيذية والرئيس / الملك وبطانته، وفي بعض الدول بيد الجيش والأجهزة الأمنية .
والأسئلة المركزية حول الانتخابات في السياق الفلسطيني هي :مَن هي الجهة المقررة للانتخابات؟ ولماذا يريد الفلسطينيون الانتخابات؟ وما وظيفتها في النظام السياسي؟.
حتى لا نكرر ما سبق وأن كتبناه في عديد المقالات حول الانتخابات فإن الانتخابات كما هي مطلب شعبي فإنها مطلب وجزء من الاشتراطات الدولية ومنصوص عليها في اتفاقية أوسلو، والتحدي الكبير هو كيف نجعل الانتخابات مهمة نضالية لتحرير النظام السياسي من استحقاقات أوسلو ومن الاشتراطات الأمريكية والأوروبية ؟
الشعب الفلسطيني يريد انتخابات نزيهة لإحداث تغيير جذري في النظام السياسي وفي الطبقة السياسية في غزة والضفة حتى يتم إخراج النظام السياسي من أزماته المتراكمة الناتجة عن الاحتلال وممارساته وعن ويلات الانقسام طوال 14 سنة، وإحداث هذا التغيير لا يكون من خلال انتخاب أعضاء مجلس تشريعي فقط لأن المشكلة ليست في المجلس التشريعي لا المُنحل أو سابقه، كما أن المجلس أو البرلمان ليس صاحب قرار سيادي بل مجرد أداة ببد السلطة التنفيذية وخصوصاً عندما تقوم حركتا فتح وحماس وهما السلطتان الحاكمتان في الضفة وغزة بتشكيل القوائم الرئيسية أو بتشكيل قائمة مشتركة، هذا بالإضافة إلى أن الشعب الفلسطيني لا يقتصر على ساكنة غزة والضفة فأهلنا في الشتات يجب ان يكون لهم رأي وحضور، وأي حديث عن إرادة الشعب يجب ان تشمل كل الشعب .
الانتخابات التشريعية لوحدها لا تعني وجود الديمقراطية، وفي الحالة الفلسطينية الانتخابات التشريعية لوحدها لن تُخرج النظام السياسي من أزماته، وإن كانت تمهد لذلك، إنها مجرد أداة لتداول السلطة، والمجلس التشريعي ليس السلطة المقصودة، كما أن السلطة بحد ذاتها ليست هدفاً حتى تكون الانتخابات وسيلة لتوزيع مغانمها وامتيازاتها، بل هي في الحالة الفلسطينية أداة في سياق نضال الشعب من أجل الحرية والاستقلال وإن لم ترتبط العملية الانتخابية بهذا الهدف فلا قيمة لها .
التداول الحقيقي على السلطة أو تغييرها يجب أن يمس من يملك السلطة الحقيقية في النظام السياسي وهذه السلطة –إذا تجاوزنا إسرائيل- بيد مؤسسة الرئاسة واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير واللجنة المركزية لحركة فتح، وفي قطاع غزة السلطة بيد القيادات والأجهزة الأمنية والعسكرية والمرجعيات الخارجية لحركة حماس.
لا شك أنه من حق حركة فتح وحركة حماس، اللتان تملكان السلطة الفعلية، تشكيل قوائم خاصة بهما وهما اللتان ستتحملان نتيجة استنكاف الشعب عن التصويت لقوائمهم في حالة تصدر هذه القوائم وجوه كالحة وفاسدة ، ولكن الشعب هو الذي سيدفع الثمن وسيتحمل المسؤولية أيضاً عن إعادة انتاج نظام عاجز وفاشل.
إن كان الشعب يتخوف من إعادة انتاج نفس النظام السياسي ومن عودة رموزه أكثر قوة لاستنادهم لمجلس تشريعي موال فإنه أيضاً يتخوف من عدم قدرة المجتمع وقواه الحية وكل من هم خارج الإطار التنظيمي للحزبين الحاكمين من تشكيل قوائم انتخابية قوية وتشكيل جبهة يمكنها منح الانتخابات قيمة ومصداقية وجعل المجلس التشريعي القادم به من التنوع ما يشكل قوة ضاغطة على السلطة الفعلية.
التخوف في هذا السياق أن تفشل القوى المجتمعية والسياسية خارج الحزبين الكبيرين في تشكيل قائمة موحدة تستطيع التنافس مع قائمتي فتح وحماس والقوائم الرديفة التي سيشكلها هذان الحزبان، وفي حالة تعدد القوائم قد لا تتجاوز أغلبها نسبة الحسم أو تحصل على مقاعد محدودة، وفي هذه الحالة لن يؤثر وجودها في البرلمان على السياق السياسي ولن تغير فيه بل قد تؤدي مشاركتها لتجديد شرعية الطبقة السياسية النافذة.
التخوف الأخير يتعلق بمستقبل المقاومة والشروط الأمريكية والإسرائيلية للقبول بالانتخابات وبنتائجها والتعامل مع الحكومة التي ستنبثق عنها، فحتى الآن كل الجدل والنقاش حول الانتخابات يتعامل معها وكأنها شأن فلسطيني داخلي ويتجاهل الاشتراطات الخارجية.
مع أن الرئيس أبو مازن في خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة في السادس والعشرين من سبتمبر 2019 قال بأنه سيجري انتخابات عامة مطالباً الأمم المتحدة وجهات دولية اخرى بالإشراف عليها إلا أن تحريك الملف مؤخراً له علاقة بالاستعداد لمفاوضات قادمة مع إسرائيل وبطلب إدارة بايدن بتجديد شرعية النظام السياسي، وواشنطن لا تريد انتخابات فلسطينية لأنها تريدنا أن نكون ديمقراطيين، بل تريد انتخابات تشريعية تشارك فيها كل القوى الفلسطينية وخصوصاً الفصائل المسلحة، لأن كل من سيشارك في الانتخابات وفي الحكومة الائتلافية التي ستُشكل بعد الانتخابات عليه الالتزام باتفاقية أوسلو والاعتراف بإسرائيل ووقف المقاومة المسلحة، وهنا سيكون التحدي لأنه سيتم فتح الملف الأمني والسلاح وجماعات المقاومة وخصوصاً في قطاع غزة، وفي حالة تمسك بعض القوى المشاركة بموقفها من المقاومة المسلحة وحقها بالحفاظ على سلاحها فلن يسمح لها بالمشاركة بالحكومة وإن شاركت سيكون مصيرها مصير حكومة إسماعيل هنية بعد انتخابات يناير 2006، أو استنساخ التجربة اللبنانية، فهل الفصائل التي ستشارك في الانتخابات مستعدة لدفع هذا الثمن؟.
وفي حالة رفض بعض الأحزاب ،مثل الجهاد الإسلامي، المشاركة في الانتخابات إن كانت هذا الأخيرة خاضعة لاشتراكات أمريكية وأوربية والالتزام بالاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، فهل يمكن لهذه القوى أن تستمر على نهجها بعد الانتخابات وأن تستمر في رفع شعار المقاومة والجهاد وخصوصاً إن شاركت حماس في الانتخابات وكانت جزء من الحكومة القادمة؟.
لا نروم من كل ما سبق نشر الإحباط والتشكيك بالانتخابات بل المرام معرفة ما نحن مُقدمون عليه لأن الانتخابات ليست مجرد استحقاق ديمقراطي أو فرصة للبعض لتحقيق مصالح شخصية من خلال عضوية التشريعي، بل تحدي وطني به يرتبط مستقبل النظام السياسي والقضية الوطنية برمتها، وفي حال فشلها قد تعود الحالة أسوأ مما كانت عليه قبل الانتخابات؟ وحوارات القاهرة في الأيام القادمة ستكون محورية وستكشف مدي المصداقية وحسن النية عند القوى المجتمعة وقدرتها على مواجهة الاشتراطات والمطالب الخارجية التي قد يتم عرضها على المجتمعين .
قد يقول قائل إن الانتخابات ستبدأ بالتشريع ويليها انتخابات رئاسية ثم (استكمال المجلس الوطني)، ونعتقد أن انتخابات الرئاسة ستكون أكثر تعقيداً حيث سيكون هناك تداخل ما بين الرئاسات- رئيس السلطة ورئيس الدولة ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية, وهذا موضوع سنتطرق له لاحقاً.
وأخيرا، ومع تلمسنا لكل المحاذير والمخاطر التي تهدد العملية الانتخابية، ولإيماننا بأن حركة فتح بقيادة الرئيس أبو مازن تقع عليها المسؤولية والرهان ولأنها تملك أوراق القوة داخلياً وخارجيا أكثر من غيرها، وهي التي ستتحمل المسؤولية في حالة نجاح أو فشل الانتخابات، نتمنى عليها في حالة إجراء الانتخابات النزول بقائمة واحدة من شخصيات وطنية حتى وإن كانت تخالفها الرأي في بعض المواقف وأن يكون على رأس القائمة الأسير مروان البرغوثي.
إبراهيم أبراش
فلسفة النشوة الجنسية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: احمد دلول
في علم النفس يُسمُّونه بالطاعون النفسي.[2] وفي علم اللاهوت هو سبب أساسي للدنَس الذي يُوجِب الغسل. ليس الغسل الجسدي فحسب، وإنما النفسي أيضا في بعض الأحيان؛ إذ أنه من الأسباب الأكثر عُمقا وتأصُّلا للشعور بالذنب، بل وحتَّى لنشوء العُصاب.[3] هو النواة التي ينبثق منها تأويلنا الوجداني لمفهوم "التابو" وأوَّل ما يترادف في أذهاننا، مع مفهوم "الشهوة الحرام". عند ذِكرهِ تحمرُّ الوجنات وتتوه العيون، مع أنه الوسيلة الحصرية والشرعية لاستمرار الحياة. هو موت صغير، أو حياة كبرى لامتناهية، كمُعاند للفناء؛ فناء النوع. هو رابض في مياهنا الجوفية، وينسلُّ خلسة إلى كؤوسنا من حيث لا ندري، مُحتويا لضده في ذاته؛ فقد يراودنا كشيطانٍ مُتَخَفٍّ على هيئة ملاك أبيض، أو قد يُداهمنا كذئب يُخفي شدقيه بقناع طفل بريء؛ ثم تقع بسببهِ الحماقات الكبرى. هو منتصف الجسر الذي يلتقي عنده الحائرون من الذكور والإناث، ثم يعود كلٌّ إلى ضفته أكثر حيرة؛ ثم لا يجدون تفسيرا لحيرتهم، إلا بالعودة لانتظار بعضهم عند منتصف الجسر. هو المُهر الجامح الذي يرمح ما بين النساء والرجال، فاجتمع الحكماء منهم لكي يلجموه، ولكنهم ألجموا البشر، وبقي هو جامحا حرَّا، يرمح فيما بينهم وفيما حولهم وفيما وراء دوافعهم وأفعالهم. صهيله للحياة بلسمها ودافع استمرارها؛ إن قيَّدوه يصهل من عيونهم، من مسامات جلدهم، يصهل في عمق وجودهم وفي فضاء وجدانهم إلى أن يُطلقوه. ذلك اللاعب الخفي الذي يُحرِّك الدُمى من وراء الستار، ذلك الشغف الذي كلَّهُ شغف، والذي لا يجاريه أي شغف؛ ما هو؟ ما مصدرهُ؟ أو ما هي "ماهية" ذلك الشعور المُبهم اللذيذ الذي نعايشه أثناء الجنس؟ وما هي آلية حدوث تلك النشوة الغامضة، التي تومض عندما تتشابك الأجساد العارية؟
بما أن العلم بطبيعته تجريبي، فهو لا يستطيع أن يجيبنا على تساؤلات من تلك الخامة؛ إذ أنه يبحث عن مأربه في الأشياء، يغوص فيها، ويتحرَّى في قوانينها وخواص عناصرها، ولكنه لا يحاول استنطاق جوهرها ولا يستطيع الالتفاف على كثافة موادها للنفاذ إلى ماهيتها. فتلك بطبيعة الحال ليست مهمته، وأدوات الماهية والماوراء ليست أدواته. وبالمقابل فإن الفلسفة تستطيع الذهاب إلى حيث لا يستطيع أن يذهب العلم؛ إذ أن لها من الخفَّة في ذاتها، ما يمنحها القدرة على التحليق إلى آفاق، لا يستطيع العلم بلوغها بثقالته التجريبية، التي تشدَّه وتُقيِّده غالبا، ضمن ما هو محسوس ومُدرَك. ولذلك، فلكي نحاول النفاذ إلى "ماهية" تلك الظاهرة العجيبة، لا مناص لنا من اللجوء إلى الفلسفة والاستعانة بأدواتها.
علاوة على ذلك، فنحن هنا لسنا أمام مُجرَّد ظاهرة ڤيزيولوجية بسيطة، كعمل الأمعاء مثلا، لكي نستطيع الإحاطة بها بيسر وشمول. ثم أن العلوم البيولوجية عموما، لم تُطفئ ظمأنا تماما، حتى ولو فسَّرت لنا الآلية الڤيزيولوجية لحدوث الرغبة الجنسية، عبر تسليط الضوء على دور الهرمونات وآلية تحفيزها، وعلى آلية عمل الغدد، وآلية عمل أجزاء من المخ، كمنطقة تحت المهاد المُخّية مثلا.[4] فكل هذا لم يُقرِّبنا كثيرا من الإحاطة بكنهها؛ ذلك أن فاعلية الدماغ وڤيزيولوجيته، لا يُحيطان بالضرورة بفضاء سيكولوجية الكائن الحي، تبعا لما يُشير إليه عالم النفس "كارل يونغ": بأن النفس ليست مُجرَّد "ظاهرة ثانوية ناجمة عن سياق كيميائي عضوي في الدماغ [...] إن ارتباط النفس بالدماغ لا يُثبت بحد ذاته، أن النفس ظاهرة لاحقة؛ وظيفة ثانوية تتوقف سببيا على سياقات كيميائية عضوية [...] لا تُزودنا بنية الدماغ ولا ڤيزيولوجيته بتفسير للسياق النفسي"[5] وعلى الرغم من أن علم النفس قد ذهب بعيدا، وأضاء لنا أعماق مملكة اللاشعور مثلا، مما يفتح لنا "مدخلا" لا غنى عنه، بغية الخوض في تفكيك تلك الظاهرة. إلّا أن علم النفس لم يكشف لنا "الماهية" مما نتوق لمعرفته في هذا المضمار. وبالتالي لا يُمكننا حصر تلك الظاهرة، على أنها مُجرَّد ظاهرة نفسية خالصة فحسب؛ بمعنى "الاكتفاء" بآخر ما توصل إليه علم النفس الحديث، عند مُحاولة سبر عُمق أغوارها. ولا هي ظاهرة روحية مثلا؛ بمعنى أن نتمكَّن من النفاذ إلى خفاياها عبر مرجعية روحية ما. وفي الحقيقة حتى ولو كانت محاولة تعليلها مزيجا من كل هذا، ولكن ما نبتغيه هو أبعد من ذلك؛ فنحن هنا نروم "الماهية". فما هي "ماهية" تلك الغريزة اللغز، الحاكمة بلا تاج أو صولجان، والتي تمنحنا كل تلك اللذَّة الجامحة وكل ذلك الدفق من الفرح العارم، الذي ينهمر بسخاء في عمق خلايانا ويجتاح عناصرنا كلها، كدهشة لا تشبه أيا من الأحاسيس المنطقية أو المفهومة التي نعايشها؟ ومن أين يأتي كل هذا؟
قبل التوغل في ألغاز الحكاية وحيرتها ومتاهاتها، لا بأس من البدء بمُقدِّمة قصيرة، حول تطور مفهوم فضاء النفس الفردية في العصر الحديث؛ حيث ظهر بأن للنفس بُعدا جماعيا، تبعا للمؤرخ وعالِم الاجتماع الفرنسي "غوستاڤ لوبون" مثلا، الذي كان من الرواد الأوائل الذين تحدَّثوا عن علم نفس جماعي بالمعنى الأفقي والعامودي، عبر سعيه لتأسيس مفهوم "علم نفس الجماهير" الذي يرتبط أساسا لدى "لوبون" بالعِرق الذي ينحدر منه الأفراد، والذين يتفاعلون بدورهم لاشعوريا، تبعا للرسابات الموروثة عن الأسلاف.[6] أما "سيغموند فرويد" فقد ذهب إلى أبعد من ذلك؛ إذ تحدَّث عن قاعدة لاشعورية أحادية الشكل ومشتركة؛ ليس في العرق الواحد فحسب، وإنما لدى جميع البشر، وتمتدُّ جذورها حتى الإنسان البدائي، الذي لا يزال على قيد الحياة في كل فرد منا. ومن ثُمَّ، فإن القليل من المُثيرات كافية، لكي تجعله يستيقظ ويُبعَث من جديد؛ كما يحدث عندما يتفاعل الأفراد مثلا، مع انفعال جمهور ما، ينتمون إليه، ثُمَّ ليتحوَّل الجمهور فجأة إلى عشيرة بدائية، أو أنه يمتلك الميل لذلك.[7] ومَرَدُّ ذلك حسبما يفترض "فرويد" هو وجود استمرارية في الحياة العاطفية للبشر، تسمح بتجاوز الانقطاعات في الوقائع النفسية، بسبب زوال الأفراد؛ عبر توريث الاستعدادت النفسية مثلا.[8]
ذلك الذي كان قد بدأه "لوبون" و"فرويد" وغيرهما، قام "يونغ" بالاجتهاد في فهمه وتأويله، ضمن مفاهيم عدَّة، منها مفهوم (النفس الموضوعية - objektiv psyche) التي تحلُّ موضوعيا على صاحبها من حيث لا يدري؛ إنها "النفس الخافية" التي تتجلى على هيئة دوافع داخلية ومشاعر وانفعالات وأحلام، من دون أن يكون لذاتية العقل الواعي، أي دور في صياغتها أو تجلّيها.[9] بمعنى أنه عندما يتعلَّق الأمر باللاشعور، فإن "الذات الفردية" ليست "ذاتية" تماما، ولا هي "فردية" خالصة، بل إنها ذات موضوعية، لا بل وجماعية كذلك في مُعظم ما تخفيه؛ حيث تَزاحَم لصياغتها واستمراريتها، كل من سبقونا من أسلاف، منذ أزمان بعيدة مضت، لتوريثنا بشكل مُتعاقب، ما أسماه "يونغ" بالـ "الخافية الجمعية" أو "اللاشعور الجمعي".[10]
وذلك ما يُمهِّد لنا الطريق للولوج إلى مفهوم في علم الأحياء يُسمَّى بالـ (تأسُّل - Atavism)[11] والذي يُشير في سياقه النفسي، إلى وجود قناة اتصال، تحمل لنا شحنات انفعالية من أجدادنا القدماء، وتمتدُّ من تجاربهم ومخاوفهم، وصولا إلى أعماق لاشعورنا، الذي لا يزال يترسَّب فيه ما عايشوه.[12] فالطفل يُولَد ولديه خوف فطري، مما كان قد عايشه هؤلاء الأجداد، كالخوف من الأفاعي والظلام مثلا. مثل ما يتلقف الإنسان في نومه أحلاما كانت نائمة في لاشعوره الجمعي، ثم لتنهض خلسة من أعماقه، على هيئة رموز أو "نماذج بدئية" تأتيه فجأة من الإنسان البدائي.[13] ويُفسِّر ذلك المفهوم في سياقه البيولوجي، ظاهرة عودة بعض الصفات الآتية من الأجداد القدماء، بحيث تظهر تلك الصفات فجأة في نسلنا، من دون أن تظهر فينا، أو فيما نعرفه من أجيال سبقتنا؛ كعودة ظهور عضو زائد في المواليد الجدد، كان موجودا لدى أسلاف البشر، ولكنه اختفى عبر المسار التطوري الطويل في الأجيال السابقة. ولكن نظرا لندرة حدوث تلك الظواهر المُتأتية من أسلاف البشر، وتجنبا للخوض في تعقيدات وإشكاليات "نظرية التطوُّر" نسوق مثلا موازيا، هو أكثر تحديدا ووضوحا، بغية مُحاولة إيجاد مقاربة حول ما نسعى لتبيانه؛ كأن يُنجِب أبوان ذوي بشرة سمراء وعيون بنيّة مثلا، طفلا أشقرا عيونه زرقاء، مما يدل بشكل واضح ولا يحتمل الشكَّ أو التأويل، إلى أن الطفل ينتمي إلى خلفية عرقية، تختلف تماما عن تلك التي ينتمي إليها والداه المُفترضان، ثُمَّ لتُثبِتَ نتائج تحليل الحمض النووي “DNA” بأن كِلا الوالدين، هما فعلا الآباء البيولوجيون الحقيقيون للطفل.[14] وتعليل ذلك، أن الطفل هو ليس ابنا لوالديه فحسب، بقدر ما هو ابن حياة تمتدُّ منذ الأزل.[15] وبالتالي، فإن سجن فرديتنا الضيِّق، الذي له فُوَّهة أمامية مفتوحة على الموت، له بالمُقابل سراديب خلفية مفتوحة على حياة لامُتناهية؛ إذ أن عُمر الفرد منا، ليس سوى بضعة عقود فحسب، ولكن تلك الفردية، هي امتداد لحياة عمرها ملايين بلا عدد من السنين.[16] فالحياة التي تسكننا، كانت قد وصلتنا عبر سلسلة لا متناهية من الأنفس المتمثلة بآبائنا وأجدادنا الذين تناسلوا لنكون، والذين لا يزالون ينبضون في أعماقنا. وتلك السلسلة التي نحن امتداد لها لم تنقطع أبدا، وإلا لما كُنَّا موجودين أصلا. وبذلك فنحن لسنا مُجرَّد أفراد مُعلَّقين في الخواء، بل أن لكل فرد منَّا نَسَبا ثريَّا وسيرة جماعية عجائبية وطويلة، تمتدُّ جذورها بعيدا إلى قاع تاريخ الحياة، وتكمن في ثنايا خلايانا، كمنظومة تُخفي ملامح وتجارب كل من سبقونا من أنفس؛ أي أن عناصر دمنا مجبولة بالأزل.
فإذا استهلّينا بحثنا هذا بالذكور؛ نظرا ليُسر ووضوح عمل الآلية الجنسية لديهم، لأمكننا القول: بأن كل نطفة من ملايين النطاف الموجودة في ثمرة نفس الرجل، تحمل الكثير من صفات عرقه ولونه وتفاصيل شكله ومزاجه وميوله واستعداداته النفسية المُسبقة، وكذلك نقاط قوَّته وضعفه، بالإضافة إلى خلاصة تجاربه ومخاوفه الكامنة، هو وأسلافه وأجداده القدماء. ونحن عندما نستحضر تلك النطاف من أعمق أعماقنا، نكون قد أيقظنا منظومة سلسلة طويلة من الحياة، حيث يكمن في كل نطفة، الصفات العامة للسلسة برمَّتها. أو لنكون قد طُفنا من حيث لا ندري، على عدد غير مُحدَّد من أطياف أنفس أسلافنا، لإيقاظهم بما فيهم من صفات. تلك الأطياف التي تصبح في داخلنا كسربٍ لا متناهٍ من دوائر الظل، أو الشموع المُطفأة، التي تتسارع تدريجيا بالحضور والتهافت على دائرة روحنا، لكي تتقاطع معها ولتستمدَّ منها نشوة الحياة والنور من جديد؛ بسرعة وغزارة يتناسبان مع جمال شريكنا الجنسي ولهفتنا نحوه. ولنكون قد دعوناهم للاحتفال بما يُشبه العُرس في داخلنا، ومن ثمَّ لينفضَّ العُرس فجأة وليخلُد المدعوون ثانية إلى النوم، مُباشرة بعد بلوغ النشوة. فإن أسعدهم العُرس، رقدوا بهدوء وعُمق وسلام، إلى أن يحين وقت نهوضهم ثانية، فيستنهضون شهوتنا للتناسل مع الجنس الآخر، الذي يجدون في وصاله قيامتهم وبعثهم من جديد، وكذلك إمكانية بقائهم من خلال استمرار صفاتهم في نسلنا.
تبعاً لهذه الفرضية إذن، فإن اللذَّة التي نشعر بها أثناء الجنس، ناتجة عن مُعايشة الحياة الأزلية في داخلنا؛ وكأن النفس الفردية هي ومضة من نور، تجرُّ وارءها سلسلة لا متناهية من الأنوار الخامدة المُطفأة. وفي تلك اللحظات التي نُمارس فيها الجنس، يتم تفعيل أو إنارة تلك الأنوار المُطفَأة في داخلنا من جديد، وهذا ما يُفترَض بأنه يمنحنا ذلك الشعور المُبهم اللذيذ؛ بمعنى أن فعل الجنس هو تفعيل لفضاء لامتناهٍ من الحياة، أو الحيوات الكامنة في أعماقنا. أو أنه تفعيل لأزلية نفس فردية تجرُّ سلسلة لامتناهية من الأنفس التي تحيا في داخلها. تلك الأنفس التي عادة ما تكون في حالة كُمون، أو في حالة سُبات، ولكن أثناء مُمارسة الجنس تُبعَث من جديد؛ حيث يمسك المرء بحبل أزلي من أنفس أسلافه وينزلق إلى أعماق وادي الأزل، إلى أن يبلغ ذروة ما، من سلسلة الأنفس الكامنة فيه. وهناك في "ذروة الوادي" تبدأ النفس الفردية بالانفتاح على سلسلة لامتناهية من أنفس سبقتها، فتصبح وكأنها فضاء من الأنفس أو الحيوات. وبذلك يزول البرزخ ما بين النفس وأزليتها فيتعانقان، وبعناقهما يشتعل البرق في عمق ظلام الأزل، ليُضيء في لحظات غامضة ملايين من السنين، تُسافر فيها النفس إلى أعماق بعيدة الغور.
في سرده للنظريات والآراء حول تاريخ الغريزة الجنسية، وحول أصل التناسل عن طريق اندماج الخلايا المُختلفة الجنس، يقول "فرويد" مُستندا على المعقول من آراء "داروين": "وعلى ضوء هذا الرأي، لا يكون الجنس أمرا عريقا في القِدم، وتكون الغرائز القوية العنيفة، التي تهدف إلى الجمع بين الجنسين، تكرارا لأمر حدث يوما عن طريق الصدفة، ثم بقي واستقر، لما تبيَّن من نفعه وجدواه"[17] بمعنى أن الغريزة الجنسية، لم تصبح عنيفة وقوية، إلا بفعل التكرار الطويل، عبر الأجيال المُتعاقبة، وبأنها كانت في بدايات الحياة العضوية، أقرب إلى الأمر العملي النافع، من قربها إلى المُتعة العارمة التي نعرفها.
استنادا لما يُمكن فهمه وتأويله، مما ذهب إليه "فرويد"، نجد أن في افتراضاته سببا منطقيا للاجتهاد والتساؤل: ما معنى أن تصبح الغريزة الجنسية قوية وعنيفة بسبب التكرار الطويل عبر تاريخ الحياة؟ وكيف لها أن تتحول من مُجرَّد فعل نفعي روتيني، إلى حاجة وجودية تترافق ممارستها مع أقصى ما يُمكن تحصيله من لذَّة؟ ومن ثُمَّ، ما هو دور الإعادة والتكرار عبر الأجيال المُتعاقبة، في التصاعد التدريجي للشهوة والمُتعة وفي الترسيخ المُتطارد للغريزة الجنسية؟
كمحاولة لتعليل الجانب المحوري من نظريتنا حول ماهية المُتعة الجنسية، نفترض بأن السبب وراء ذلك، هو أن المُتعة الجنسية القوية والجامحة، تتناسب طردا مع وجود إرث طويل من الحياة، ورصيد زاخر بها، وذلك ما لم يكن متوفرا لدى الكائنات، في بدايات الحياة العضوية؛ إذ أن الأحياء وقتذاك، لم يكن قد سبقتهم سلسلة طويلة من الأسلاف بما يكفي، لكي ينتشوا بالطواف عليهم، وليقتبسوا منهم نشوة الحياة أثناء فعل الجنس؛ بمعنى أن عُمق الحياة في داخلهم كان ضحلا، أو أن سلسلة تعاقب الحياة قبلهم كانت محدودة، وليس فيها تراكمٍ كافٍ من الحيوات، لمنحهم ذلك الفرح العارم، عند محاولتهم "للحجِّ إلى الحياة" في داخلهم؛ عبر فعل الجنس.
ثمَّة معرفة يقينية لدى البشر، بأن الجسد مصيره الفناء. وثمَّة من يعتقد بأن للروح خامة إلهية مصيرها الخلود. أما النفس، فتتميَّز بقابليتها لنوع من البقاء "الموازي" المشروط بالتناسل. ويبدو أن من يقسرنا على طلب ذلك البقاء الموازي عبر الجنس، هو ليس ذواتنا الفردية، وإنما ما تراكم فينا من ذوات، لم تَمُتْ تماما، ولا تحيا في واقع خارج عن ذواتنا؛ إنهم أسلافنا المُستترون في خلايانا، والذين لا بُدَّ لهم من نوع من النهوض والفاعلية أثناء مُمارستنا للجنس، وذلك لكي يطبعوا نطافنا ببصماتهم؛ ذلك النهوض الذي يُتيح لهم فرصة افتراضية للخلود، عبر استمرارية صفاتهم في نسلنا. فنحن أتينا أصلا عبر نطافهم، ولكنهم في الحقيقة كامنون أيضا في نطافنا، بل وكامنون حتى في سلوكنا ويتحكمون في أدقّ تفاصيل حياتنا عبر جيناتهم الكامنة فينا. وبالتالي، فإنه عندما يستحضر الرجل خُلاصة ماء عناصره، عبر ذلك الكمّ الهائل من النطاف أثناء فعل الجنس، فإن تلك النطاف تصبح دائمة الحركة والسعي بعد إطلاقها، لكي تجتهد في سباق، للظفر بفردوس الحياة المُتمثّل ببويضة مُفترضة بغية تلقيحها. والنطفة التي تستطيع بلوغ هدفها، سوف تضمن نوعا من الاستمرارية لوجودها، عبر المولود القادم، الذي هو مشروع امتداد لحياة مُستمرَّة لامتناهية، أو أنه أشبه بجسر غرائزي، سوف يبقى دائم السعي إلى الامتداد، مشرئبا نحو ضفة الأبدية؛ من خلال التناسل. أما النطاف الأخرى، التي ضلَّت هدفها وخاب سعيها في الاستمرارية عبر حياة جديدة، فسوف تتوه ثمَّ تسقط في هاوية العدم.
وبذلك، فإن رغبتهم في نيل الخلود والاستمرار، هي التي تدفع أنفس أسلافنا في داخلنا، لكي يستنهضوا شهوتنا للتناسل بشكل دوري، ثم لينهضوا بدورهم للاحتفال، عندما نطاوع رغبتهم عبر ممارسة الجنس، ولكي يدلوا بدلوهم في محاولة مصيرية للبقاء؛ بمعنى أنه من المُفترض أن يكونوا هُم من يُولِّد الحنين إلى الجنس في داخلنا، وعندما نمتلأ بحنينا، لا بُدَّ لنا من البوح به إلى الضفة الآخرى من الجسد، في عُمق جسد أنثوي مُفترَض؛ أي أننا نفترض، بأن من يقف وراء "الليبيدو الجنسي" هم أسلافنا وأجدادنا القدماء، الذين هم "علَّة" الدافع الجنسي الذي يتفاعل في داخلنا، أما الجنس الآخر فهو مُجرَّد "سبب" لهُ، أو أنه مُجرَّد وسيلة فحسب. وبما أن عددهم ليس بالقليل أبدا، فنحن في الحقيقة، لا طاقة لنا على مقاومة جيش لامتناهٍ من أطياف أنفس أسلافنا، ولذلك فنحن نخضع لرغبتهم في بَسْطِ ومَدِّ وجودهم الموازي، عبر فعلنا للجنس، بشكل دوري وقسري رغما عن أنفنا، ولو بعد حين؛ إذ عندما تهبُّ نسائم الأزل، ففي البداية تداعب أبواب وجداننا بِرِقَّة وحنان، ولكن عندما يشتدُّ عصفها، فمن له الاستطاعة على كَبْح حنينه إلى امتداده الأزلي، ومن يقوى على الترفّع أو التعفّف عنه! وهل يتعفّف النهر عن الماء! أم هل يتعفّف الأنف عن الهواء! فكما للجسد، فإن للنفس أنفا وتنفسا وهواء أزليا عليلا؛ حتى لو كان أنف النفس يتموضع بالمقلوب من أنف الجسد.
عندما يرى الرجل مثلا، امرأة فاتنة تتعرَّى، فإننا نفترض بأنه يرى من خلال جسدها أطياف أزليته، فيتوق إلى عناق ذلك الجسد والالتحام فيه؛ لكي ينفذ من خلاله إلى عمق تلك الأزلية. مثلما تتراءى للمرء أطياف مشهد ساحر من خلال نافذة مُوارِبة، فيتوق لأن يقترب منها ويفتحها؛ ليطلّ عبرها على فضاء ذلك المشهد. ويبدو أنه هذا هو حال النساء والرجال؛ إنهم ينظرون إلى بعضهم كنوافذ، يقفزون من خلال بعضهم، من أجل إطلالة خاطفة على فضاء أزليتهم. وبذلك فإن حُبَّهم لبعضهم، هو ليس بالضرورة حُبَّا بالآخر لذاته، وإنما رغبة به، كوسيلة للعبور من خلاله إلى منتهى رغبتهم؛ فتلك الكأس التي تدور على شفاه العطاشى، ينهلون حلو شرابها من بعضهم، مع انهم ليس لهم من بعضهم غاية سواها. وهذا ما يُذكِّرنا بقول "جبران خليل جبران": "يُعانق المُحبَّان ما بينهما، أكثر مما يُعانق أحدهما الآخر"
ولكن ماذا عن المرأة؟ وما هي ماهية ذلك الشعور المُبهم اللذيذ لديها؟ ما دامت ومضة نشوتها لا تُمطر شيئا من مادة أزليتها، كما يحدث لدى الرجل. في الحقيقة أن الرجل قد يبلغ مُنتهى شهوته بِحَكَّة من نسيم عابر، أما شهوة المرأة فهي سرٌّ تائه في مغاور سحيقة. وبما أن نشوة المرأة تحكمها مزاجية مُعقَّدة، وغير مُتاحة دائما. فلذلك، وربما حرصا على استمرارية الحياة، فإن إفراز ثمرة نفس المرأة أو بويضتها، غير مُرتبط بنشوتها، وهي ثمرة لا تحتاج إلى تفعيل كما عند الرجل، بل تأتي دوريا من تلقاء نفسها.
ولكن مع ذلك، فإن تلك الثمرة تحمل في الحقيقة خلاصة أزلية نفس المرأة وصفات أسلافها، مثل ثمرة نفس الرجل. ولذلك فإنه عندما يتم طرح تلك الثمرة في داخلها، تصبح المرأة في ذروة شهوتها. ثم عندما يتم إيجاد متنفس فعلي لتلك الشهوة عبر الجنس، فإننا نفترض بأن المرأة أيضا، تحصل على ذلك الشعور المُبهم اللذيذ من خلال معايشة أزلية نفسها، ولكن من دون أن ترتبط نشوتها بطرح أي ثمرة؛ أي ان المرأة تُرعِد وتُبرق، ولكنها لا تُمطر بإرادتها. بل أن المطر لديها قد يكون سابقا للرعد والبرق ومُحفّزا لهما، على عكس الرجل. وبذلك يُمكننا القول تبعا لهذه الفرضية، بأن مصدر الرغبة واللذّة، واحد لدى الرجل والمرأة، حتى ولو اختلفت الأولويات والنتائج.
إذن، تتعدد الأعراض وعلَّة اللذَّة واحدة؛ فعلى الرغم من أن النفس مُتَّصلة لاشعوريا بأنفس أسلافها، إلَّا أن ذلك الاتصال يبقى مُنفعِلا وغير فاعل، خفيا، خاملا، يتوسل التفعيل. وبذلك تبقى النفس الفردية نفسا جزئية معزولة عمَّا سبقها من أنفس؛ بمعنى التحقق والإحساس والمُعايشة للحياة المُتوارية في أعماقها. وذلك ما يتوق الإنسان لِكَسرِه، عبر إطلالة خارج محدودية نفسه الفردية، إلى فضاء أزلي بلا حدود، وليس هناك من وسيلة مُتاحة لتحقيق ذلك سوى فعل الجنس، الذي هو تفعيل للحياة الأزلية في داخلنا واستحضار لرحيقها وجَني لشهدها؛ حيث يزور المرء أزليته، ومن هناك يقطف كذلك ثمرات الخلود. أوإنه ينهل من حلاوة أزليته، إلى أن يشتعل جرح الفناء من فرط الرغبة بالحياة، فيغرف من تلك الأزلية ثُمَّ ينثرها في وجه الأبد، ليترك نسخة عن أزلية نفسه في نسله. وما مُمَارَسة الجنس، سوى تقاطع نفسين في عمق الأزل؛ إذ أن تشابُك الأجساد العارية هو مقدمة لتقاطع الأنفس، التي تُرعد فتُومض أزليتها، مُبشِّرة بإمكانية إضاءة نفس جديدة.
وعلى الرغم من أن الإنسان يُدرك في أعماقه بأن "الخلود الشخصي" مُجرَّد وهم، ولكنه مع ذلك لا يستطيع أن يتقبَّل الموت كحقيقة؛ فيهيم لاشعوريا، نحو أسباب التناسل لكي يتحايل على الفناء. ولذلك فإن كل سعي نقوم به، قد يكون دافعه الخفي غالبا: إما الهروب من الفناء، أو التوق الكامن لنشوة وصال الجنس الآخر، ويبدو أننا نلجأ إلى الثاني هربا من الأول. حتى أن الكثير من طقوس حياتنا، بما في ذلك البريئة منها، قد لا تكون سوى مُجرَّد تغليف وتذويق، لتوقنا للقرب من بعضنا، بغية الذهاب معا، للتنقيب في خفايا سراديب الأزل؛ نكاية بالفناء. وبالتالي، فإن التذكير والتأنيث ليسا مجرَّد سبب لاستمرار الحياة، بل إنهما الدافع لها أيضا. ويبدو أننا نسير في طريق قسري، لا نُدرك بكامل وعينا فحوى وجودنا فيه؛ ذلك أن طريق الحياة ليس مرصوفا لنا فحسب، وإنما هو أيضا مرصوف بنا، وينسلّ عبر الفارق ما بيننا كأنثى وذكر، في امتداده نحو اللانهاية.
فنحن العابرون ونحن الطريق، ونحن الحاصدون ونحن الحصاد. وعَبْرنا سوف يمتدُّ طريق كنا قد عبرناه. ولسوف نستمرُّ في الرقص حول تلك النار التي أوقدت في شرايننا منذ الأزل. ولسوف يستمرُّ النحل في لسع أجسادنا، ثم لا نُطلِقه إلى أن يملأ جرارنا بالعسل. وكلما حبلت سماؤنا بالوجد، سوف نتوق إلى من يَحُكّ مكمن البرق فيها، لكي تفتح أبوابها وتُمطرنا بالياسمين. وكلما أينعت كرومنا، لا بُدَّ لنا من قاطف لها، لكي يعصرها ويبعثها خمرا. فإذا هبَّ النبيذ على خيال الكروم وأيقظ شهوتها، تاقت لأن تُفني نفسها لتكونه؛ كفتيل سراج مُطفَأ مسَّهُ لهب، فانتشى وصبا، ليغمد حنينه في نهم النار، توقا لرعشة النور. كرحيق زهرة أغواهُ الحصاد، فأغوى نحلة لكي تعبر به نحو الشهد. فإذا تساررت الأنفس، ثم تكاشفت الأجساد وتوحدت، فثمة خمر عتيق يغلي في العروق، ومنه يندلع اللهب.
ولكن لماذا تترافق مُمَارَسة الجنس أحيانا مع الشعور بالإثم والخزي؟ ولماذا تقترن زيارات الأزل بالخصوصية والتستّر والخجل؟ مع أنها كما أسلفنا، هي الوسيلة الحصرية والشرعية لاستمرار الحياة!
أما عن الشعور بالإثم والخزي؛ فنفترض ان سبب ذلك هو خيبة أمل تشبه الصدمة الناجمة عن سقوط مُفاجئ من مكانٍ عالٍ، كانت قد رفعتنا إليه الشهوة. وذلك ما يحصل غالبا إذا ذهب المرء إلى أزليته وحيدا، بدون رفقة نافذة. أو إذا كانت النافذة ذات إطلالة سيئة. وكذلك إذا اصطدم المرء بنافذة، كان قد اندفع نحوها ولم تُفتَح له. أو إذا أطلَّ من نافذة مُحرَّم عليه الإطلال منها؛ مع أن ذلك التحريم يبقى نسبيا، وغالبا ما ترسم حدوده التربية الأسرية وثقافة الجماعة التي ينتمي إليها الفرد. ولكن مع ذلك، يبقى "التابو الجنسي" راسخا في جميع الثقافات، ولو ضمن هوامش متفاوتة.
وأما عن الخصوصية والتستر والخجل؛ فنفترض أن السبب وراء ذلك، أن العملية الجنسية هي أشبه بمكاشفة مع الآخر حتى الهتك النهائي. ولكن ذلك يتطلب منا التعرّي؛ ليس فقط من ثيابنا، وانما كذلك من "الأنا العليا" أو من أقنعتنا التي نتقنَّع بها أمام البشر. أي أنها تُجبرنا على خلع قناع إنسانيتنا، أو إزاحته ولو قليلا، لكي يتسنَّى للوحش المُحاصَر في داخلنا لأن ينطلق ويتنفس بحُرِّية وفطرية ولامبالاة، وإلا فلن يكون هناك لذَّة حقيقية، وهذا ما نخجل من أن يراه فينا الآخرون. وفي الحقيقة، حتى عندما تكون العلاقة الجنسية سويَّة وشرعية تماما، تبعا للمرجعية الدينية والأخلاقية والإجتماعية، ولكن مع هذا، لا بد من التحلّل ولو نسبيا، من عبء الموروث الأخلاقي المُكتسَب، ومما تراكم في داخلنا من عناصر دخيلة؛ بغية إطلاق الغرائزي الأصيل، الذي قيَّدته الإنسانية فينا. أو لا بُدَّ من الدخول في "إجازة شرعية" إلى الساحة الخلفية للأخلاق، حيث يتحرر المرء هناك من الكثير، مما اعتاد أن يلتزم به علانية أمام الجماعة من أدب ولباقة وتهذيب، وذلك أثناء ممارسته لأخطر وأغرب الغرائز فيه؛ ففعل الجنس أصلا (بما هو كمُمارسة وفعل) يتنافى مع السلوك الإنساني المألوف، ولذلك فإنه فمن المُستهجَن والمُستقبَح، بل ومن الممنوع مُمارسته في العلن، أو في فضاء عمومي مفتوح، تبعا لقوانين أي جماعة، مهما تحضَّرت أو تحرَّرت. ومهما اجتهد البشر في وضع القيود والحدود والمُقدّمات والحواشي لممارسة تلك الغريزة، ومهما أحاطوها باللباقة والتنميق، إلا أنها تبقى نوعا من الحنين إلى الحيوان القديم وغير المُدَجَّن فينا، وذلك على الرغم مما قد يُمهِّد لتلك الغريزة أو يتداخل معها، من إحاسيس نبيلة ووجدانيات راقية ومشاعر إنسانية سامية، والتي تُميّز فضاءها بلا شك، وبشكل جوهري، عن الغريزة الحيوانية البحتة. ومما يمنحها طابع مُقايضة وجدانية، هي من أعدل وأجمل ما يُمكن مُقايضته بين إنسانين؛ تلك المقايضة التي تثقب الروح وتسكُب في الثقب بلسما، يتعافى معه كلُّ ما في الوجود من أشياء إلى حين.
ثمة سؤال آخر يُعتبر مدعاة للعجب والتأمل؛ فكيف للمتعة أن تتجلَّى أحيانا على هيئة ألم؟ ذلك أن مُمَارَسة الجنس قد يرافقها أصوات وآهات، هي أقرب إلى الأنين والنحيب، أو حتى الصراخ والعويل أحيانا. فكيف للمرء أن يتألم من فرط اللذَّة والسرور!
في الحقيقة يُمكننا أن نُشبِّه ظاهرة النشوة بموت صغير معكوس؛ فالإنسان يتألَّم عندما تداهمه أسباب الموت، ولكنه يتألَّم أيضا عندما تداهمه أسباب الحياة بسخاء أكثر مما يحتمل. ذلك أن النشوة الجنسية تؤجّج في أعماقنا بركانا من الحياة كان خامدا، عمقه هو عمق ما نستطيع بلوغه من أزليتنا، وذلك ما يُحطِّم لوهلة حدود أنفسنا الفردية وينثرها فجأة في فضاء من الأزل.
إنها سَكرة الحياة المُتماهية عكسيا مع سَكرة الموت؛ ذلك أن الحياة والموت هما أشبه بعجلتين لعَرَبَة واحدة، يسيران بالتوافق والتوازي على سكَّة وجودنا. وكلَّما دارت عجلة الحياة، اقتربنا من الفناء؛ وذلك لأنها مُرغَمة لأن تدور بالتوافق مع عجلة الموت، بفعل عامل الزمن. أما أثناء مُمارسة الجنس، فهما يدوران باتجاهين مُتعاكسين؛ حيث تحاول عجلة الحياة في تلك اللحظات ان تُعاند الفناء، فتدور في الاتجاه المعاكس لدوران عجلة الموت. وذلك يتطلب بأن يمتلك المرء نوعا من الطاقة والحيوية، لا بُدَّ من هدرهما.
وعلى الرغم من أن عجلة الموت هي التي ستُقرِّر وجهة العَرَبَة في النهاية، إلا أنه في تلك اللحظات القليلة تنتصر عجلة الحياة؛ فتنخطف عَرَبة وجودنا فجأة إلى الوراء، لتعود بنا لوهلة، إلى بدايات سكَّة الحياة، في سفر فُجائي غريب وبعيد. ولكن بعد أن تنتشي العَرَبة بالنهل من ينابيع الحياة الأولى، لا يلبث أن يُعيدها الصحو إلى مكانها، الذي كانت عليه قبل النشوة. ثُمَّ لتُعاود السير من جديد على سكَّة وجودنا نحو الفناء؛ تلك السكَّة التي ستنتهي على أي حال عند تخوم الموت.
ختاما، وكامتداد لنظريتنا الافتراضية حول ماهية النشوة الجنسية، ثمة سؤال يطرح إجابة افتراضية كذلك؛ أفلا يمكننا القول، بأن ثمة عوامل قد تؤدي إلى ملامسة أزلية الحياة في أنفسنا، مما يُسبب بدوره رغبة جامحة للجنس، من دون أن يكون لتلك العوامل علاقة مباشرة بالجنس، ولكنها قد تؤدي مع ذلك إلى إثارة جنسية مُفاجئة وغريبة أحيانا؟ كما يحدث عند نشوة الإنسان بشرب الخمر مثلا. أفلا يمكن أن تكون تلك النشوة الناتجة عن الخمر، معلولة لدغدغة أزلية الحياة في داخلنا، عبر استنهاض الحياة النائمة فينا، أو عبر مُمَاحكة أطياف أسلافنا وإيقاظهم في داخلنا، ليستنهضوا بالتوازي، رغبتنا في النشوة الجنسية، المتشابهة افتراضيا، في ماهيتها وعلّتها مع نشوة الخمر، ولو بشكل نسبي؟ فمن المنتشي في كلا النشوتين: نحن، أم من يتوارى في عروقنا من أسلافنا؟ ولكن هل نحن حقا، شيء آخر سواهم؟
أحمد دلول
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك.
........................
[1] - هذا البحث مُستوحى؛ بفحواه وباقتباسات لبعض نصوصه، من رواية "فلسفية" لكاتبهِ، بعنوان "الحجُّ إلى الحياة".
[2] - بيير داكو، "الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث"، ترجمة: وجيه أسعد، مؤسسة الرسالة، دمشق، الطبعة الثانية، ص 575.
[3] - يقول سيغموند فرويد في كتابه "الطوطم والتابو": "يتبين للمرء لدى التحليل الدوافعي للعصابات، أن القوى الدوافعية ذات المنشأ الجنسي، تُمارس تأثيرا حاسما فيها" ص 96. كما يرى في "عُقدة أوديب" - ذات الدافع الجنسي أصلا - بأنها "العُقدة النواة لعموم العصابات" ص 155. أو "نواة جميع العصابات" ص 184/ سيغموند فرويد، "الطوطم والتابو"، ترجمهُ عن الألمانية: بوعلي ياسين، دار الحوار للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1983، سوريا، اللاذقية.
[4] - جيرالد هوتر، "الرجل والمرأة أيهما الجنس الأضعف؟ الفروق الفيسيولوجية والنفسية والتربوية" ترجمة: د. عُلا عادل، العربي للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى 2011، ص 172، حيث يتطرق الكاتب لشرح الآلية الڤيزيولوجية لحدوث الشهوة الجنسية.
[5] - كارل غوستاڤ يونغ، "التنقيب في أغوار النفس"، ترجمة: نهاد خياطة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 1996، ص 47.
[6] - سيغموند فرويد، "علم نفس الجماهير"، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 2006. أنظر مقدمة المُترجم الصفحة 5 والصفحة 18، وكذلك اقتباس "فرويد" لكلام "غوستاڤ لوبون" حول مفهوم "علم نفس الجماهير" في الصفحة 27. تمَّ النقل بتصرُّف.
[7] - المصدر نفسه، الصفحة 28 والصفحة 108 بتصرُّف.
[8] - سيغموند فرويد، "الطوطم والتابو"، مصدر سابق، ص 185بتصرُّف.
[9] - كارل غوستاڤ يونغ، "التنقيب في أغوار النفس"، مصدر سابق، ص 81 بتصرُّف.
[10] - كارل غوستاڤ يونغ، "البنية النفسية عند الإنسان"، ترجمة نهاد خياطة، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا، اللاذقية، الطبعة الأولى 1994. فصل "مفهوم الخافية الجامعة أو اللاشعور الجمعي" ص 75-87.
[11] - أنظر مثلا، كتاب سيغموند فرويد، "الطوطم والتابو"، مصدر سابق، ص 89. أنظر كذلك كتاب "الإنتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث"، مصدر سابق، حاشية الصفحة 184.
[12] - أنظر مثلا كتاب "الانتصارات المُذهلة لعلم النفس الحديث"، مصدر سابق، ص 316 حول دور "التأسُّل" في تثبيت الشعور بالدونية لدى النساء مثلا.
[13] - أنظر مثلا كتاب"البنية النفسية عند الإنسان"، مصدر سابق، ص 70-73 وكذلك ص 85-86.
[14] - نتائج تحليل الحمض النووي، تُعيد الأطفال الشقر إلى العائلات الغجرية، كما يظهر في الرابطين أدناه:
Mystery girl Maria's parents found in Bulgaria by DNA / bbc news
غجر الرومان في عين العاصفة.. بعد قضية الطفلة الشقراء في اليونان/ جريدة الشرق الأوسط.
[15] - باستعمالنا لمُصطلح "الأزل" لا يعني بالضرورة أننا ننفي وجود نقطة بداية للحياة، وإنما هو مُجرَّد إشارة، إلى أن بدء الحياة يمتدُّ إلى أزمان سحيقة، كما يرد في الحاشية التالية.
[16] - "يعتقد العلم الحديث أن الحياة بدأت على الأرض قبل ثلاثة أو أربعة بلايين عام، وجميع أنواع الحياة على الأرض لها العمر نفسه تماما؛ فيمكن القول أن فيلا، أو إنسانا، هو في الحقيقة مستعمرة ملتحمة من كائنات وحيدة الخلية، لأن كل خلية في جسمنا تحمل المادة الوراثية نفسها. فالصيغة الكاملة لما نحن، تختبئ في كل خلية صغيرة" / نقلا عن: جوستاين غاردر. "عالم صوفي" (رواية حول تاريخ الفلسفة) ترجمة: حياة الحويك عطية، دار المنى، استوكهولم 2012، ص 445-446.
[17] - سيغموند فرويد، "ما فوق مبدأ اللذة"، ترجمة: د. إسحق رمزي، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الخامسة 1996، ص 97.
النسبية منهج عقلاني نقدي في التفكير
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عدنان عويّد
إذا كان الإطلاق في المواقف الفكرية، يعني الثبات والجمود أو الموت، وبالتالي عدم القبول بالمراجعة أو التعديل أو التغيير ولو قيد أنملة بالموقف المتخذ، فهذا يعني ايضاً عدم القبول بالرأي الأخر، وغالباً ما يتوقف على هذا التمترس بالرأي تكفير الآخر وزندقته وتخوينه، وربما يصل الآمر إلى حد سجن المختلف وتعذيبه أو حتى تصفيته جسديا، من باب الحفاظ على ما تَحَوَلَ من مواقف فكرية عند الإطلاقين إلى مقدس لا يمكن المساس به أو انتقاده أو تغييره أو مراجعته كما أشرنا قبل قليل، بغض النظر هنا عن دوافع الإطلاق بالرأي، دينية كانت أو سياسية أو ذات مصالح أنانية ضيقة.
إن رفض الآخر تحكمه بالضرورة دوافع مصلحية يريد حواملها الاجتماعين من وراء هذا الرفض، إما التفرد بغنائم ما اجتماعية او سياسية او اقتصادية من جهة، أو نتيجة لدرجة الوعي المتخلف التي وصل إليها الحوامل الاجتماعية للرأي المطلق، أو نتيجة إجراء مسح عقول لهم مورست عليهم بفعل تصور أيديولوجي مغلق يدعي بأنه هو من يمتلك الحقيقة المطلقة وغيره لا. وفي كل الحالات يأتي النفي لمن يقف ضد الحقيقة المطلقة وأصحابها.
أما القول بالنسبية. فهذا موقف عقلاني نقدي من قبل المتحاورين تجاه الظواهر أو المسائل المتحاور حولها. على اعتبار أن النسبية هي موقف منهجي يؤمن بنسبية الحقيقة شكلا ومضمونا. ومن يؤمن بالنسبية يؤمن بالرأي والرأي الآخر، ولديه القدرة على مراجعة أفكاره دائما والعمل على خلق توازن بين حركة الواقع وتطوره وتبدله، وبين البنية الفكرية التي يحملها أو يقبل بها، لذلك تظل أفكاره قابلة للنقاش والتعديل والمراجعة. وعلى هذا الأساس دعونا نتعرف على هذه النسبية:
النسبية في جوهرها تعني الحركة والتطور والتبدل في الظواهر، اجتماعية كانت أو سياسية او اقتصادية أو ثقافية. والنسبية تقوم على أساسين هما:
أولاً: النسبية المطلقة: وهي نسبية تقر بأن أي ظاهرة في الطبيعة أو المجتمع، هي ظاهرة تقوم على الحركة، أو تسكنها الحركة، والحركة تولد داخلها تناقضات بين مكوناتها ستؤدي إلى تجاوز ما اتلفه التغير أو الحركة ذاتها من داخل الظاهرة أومن خارجها، على كون الظاهرة ليست بنية معزولة عن عالمها الخارجي، بل هي بنية لها محيطها الذي تؤثر فيه ويؤثر فيها.
ثانيا: النسبية النسبية: وهي من حيث المبدأ لا تخرج عن جوهر النسبية المطلقة من حيث تحكم الحركة في الظاهرة، ولكن الفرق بين النسبيتين برأيي، أن النسبية المطلقة تتعلق بالوجود المادي (الأنطولوجي) للظاهرة، أما النسبية النسبية فتتعلق بالوجود المعرفي (الابستمولوجي) الذي يتعامل مع الظاهرة. فالحقيقة (الظاهرة) وفق هذا الوجود المعرفي تقوم على معرفة ناقصة، والمعرفة الناقصة تتوقف على درجة ثقافة المتحاور واهتماماته والتوجه الأيديولوجي الذي يتبناه ومصالحه، فهذه عوامل كلها تلعبا دوراً في تقويم الظواهر عند المتحاورين. ولنعطي مثالاً على ذلك:
لو اجتمع مجموعة أفراد ذوي اهتمامات مختلفة في غرفة عند صديق ووجدت أمامهم مزهرية جميلة، لنظر كل منهم إليها من حيث اهتماماته بالضرورة. فالفنان سينظر إليها من حيث رؤيته الفنية، الوانها وامبلاجها وترتيب الزهو داخلها.. الخ. وتاجر البلور سينظر إلى نوع بلورها وجودته وعن سعرها ومصدر توريدها.. الخ. والإنسان العادي ستحقق عنده حالة الإدهاش الفني المجرد من أي قيمة فنية اكاديمية أو قيمة سلعية. هذا ونستطيع القول من جهة اخرى: إن كل منهم سيراها بصورة تختلف عن الآخر من حيث موقعه في الجلسة وزاوية نظره.
هكذا نرى إذن أن النسبية في شكليها المادي والفكري، سترفض الإطلاق ومحاربة الرأي الأخر والاستهانة به أو العمل على اقصائه وتهميشه.
النسبية في المحصلة منهج حياة يسعى إلى التعامل مع الظواهر بعقلانية، أهم ما تجسده هذه العقلانية، هو الايمان بالآخر وأن الحقيقة ملك للجميع طالما أن الهدف الأساس من البحث عنها هو مصلحة الجميع ومن أجل الجميع حاضراً ومستقبلاً.
د. عدنان عويّد
كاتب وباحث من سورية
شهادة المفكر حسن حنفي في حق فؤاد زكريا
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. محمود محمد علي
في الأسبوع الماضي نشر أستاذنا الدكتور حسن حنفي علي صفحته علي الفيسبوك، مقالاً مطولاً بعنوان "صديق نصف العمر "فؤاد زكريا"- ونظراً لأن شهادة الدكتور حسن حنفي، ليست بشهادة عادية ؛ فقد رأيت أنه من الواجب نشر هذه الشهادة للقارئ العربي في الشرق والغرب .
يقول الدكتور حسن حنفي:" كان فؤاد زكريا أقرب الناس إلىّ فى النصف الأول من العمر، عقلانيا تقدميا ناقدا للأوضاع القائمة. أرادنى زميلاً له كما أرادنى عبد الرحمن بدوى فى جامعة عين شمس، وأرادنى على سامى النشار بالإسكندرية، ولكن ذكرياتى فى جامعة القاهرة جعلتنى أنتظر عاما، حتى يتم تدبير الدرجة المالية التى أعين عليها. وبعد أن حدث ذلك زاملته منتدبا على مدى خمس سنوات قبل أن يغادر إلى الكويت. وكنت أراه هناك فى المؤتمرات الفلسفية أو فى أجازات الصيف بالقاهرة. ونتراسل بالبريد 1971-1975 وأنا بالولايات المتحدة الأمريكية، ثم وأنا بالمغرب فى 1982-1984، وتقابلنا فى ندوات الجمعية الفلسفية العربية بعمان. ثم انقطعت علاقاتنا إلا فى فترات متقطعة، مساندته ضد الجماعات الإسلامية المتطرفة التى هددته، تأبين أحد الزملاء الراحلين أو محاولة بعض الأصدقاء الجمع بيننا. فهو صديق نصف العمر علنا، والنصف الآخر صمتا".
ثم يعلن الدكتور حسن حنفي ليست فيقول " أثر فؤاد زكريا فى الحياة الثقافية المصرية فى أربعة اتجاهات: الأول الترجمة. وقد ساعده على ذلك عمله مترجما بالأمم المتحدة بنيويورك عدة سنوات. ترجم الكتب العلمية مثل "مبادئ الفلسفية العلمية" لريشنباخ، ومراجعته لترجمتى "رسالة فى اللاهوت والسياسة" لسبينوزا. هو صاحب أسلوب فى الترجمة وكأنها تأليف، بعيدا عن الترجمة الحرفية. كان يضع إحدى عينيه على العبارة الإنجليزية ويخرجها بالعين الأخرى عبارة عربية بعد المرور على الذهن فتتحول إلى معنى. منه تعلمت الترجمة بعد أن وقعت فى مطلع الشباب فى الترجمة الحرفية. عرفت فى هذه الفترة كيف تتحول الزمالة إلى صداقة، والوظيفة إلى رسالة. كان يدافع عنى عندما يسمع نقد الزملاء لى بلباسى المتعثر، وربطة العنق التى عليها بقع الطعام، والحذاء غير اللامع بأن وراء ذلك كله "مخ" نظيف. أول من عرّفته بخطيبتى عام 1969، ودعوته إلى عرسى عام 1970. كان نموذجا للأخ والصديق والشريك فى "هموم الفكر والوطن. والثانى العقلانية والدفاع عنها، مثال ذلك "فلسفة اسبينوزا". وكان أول مصدر أطلع فيه المثقفون العرب على فلسفة اسبينوزا قبل ترجمتى "رسالة فى اللاهوت والسياسة". كتاب واضح بفصوله المرتبة عن حياته وأعماله وكتابه "الأخلاق" الذى يعرض فيه نظريته فى التوحيد بين الله، الطبيعة الطابعة، والعالم، الطبيعة المطبوعة. ومن خلاله عرف العرب كيفية التجرؤ على نقد المعجزات وأنها تنشأ من الجهل بقوانين الطبيعة والعجز عن التأثير فيها، فى ثقافة المعجزة فيها دليل على النبوة وعلى فعل خوارق العادات. وأبرز أهمية الفصل الأخير للرسالة "مواطن حر فى جمهورية حرة" دفاعا عن حرية الفرد وديموقراطية الحكم. يكفى عنوانها الفرعى "فى أن حرية الفكر ليست خطرا على التقوى ولا على سلامة الدولة بل إن القضاء على حرية الفكر فيه تهديد للتقوى ولسلامة الدولة"... والثالث نيتشه والفلسفة الوجودية الملتحمة بفلسفة القوة. فالحياة دراما مثل العمل الفنى. وهو أثر من آثار أستاذه عبد الرحمن بدوى عضو مصر الفتاة والذى كان أول من عرّف المصريين والعرب بنيتشه واشبنجلر وكبار الفلاسفة الألمان وهو مازال فى العشرينيات. وكان سلامة موسى قد عرض فى أوائل القرن الماضى "السوبرمان". وكتب صفحات قليلة عنه فى "هؤلاء علمونى" مع سبعة وعشرين من الفلاسفة الأوروبيين الآخرين ليس منهم فيلسوفا عربيا واحدا أو غير أوروبى إلا غاندى. وتتضمن العقلانية الاتجاه النقدي. فالوظيفة الرئيسية للعقل ليس التبرير لما هو قائم بل نقده من أجل تطويره إلى ما هو أفضل. فالاتجاه النقدي نتيجة طبيعية للعقلانية. وتتجلى العقلانية فى نقد الخطاب الدينى ومقولاته اللاعقلانية مثل المعجزات. وقد التصق هذا الاتجاه بالغرب الحديث. فى حين أنه تيار أصيل فى تراثنا القديم، الكلامى الاعتزالى، والفقهى الحنفى، والأصولى الاستدلالى. ولما انزوت هذه العلوم طغت العلوم النقلية الخالصة التى تعتمد على سلطة النص، الأشعرية التى ورثتها السلفية التى تعتمد الآن على حجة القول، "قال الله"، "قال الرسول"، ومن ثم "قال السلطان"...والرابع علم الجمال وفلسفة الفن خاصة الموسيقى الكلاسيكية التى كان كثير الاستماع إليها وتحليلها. وبين الفلسفة والموسيقى أواشج قربى منذ أفلاطون والفارابى وهيجل وفاجنر. وخرج أولاده فى تيارين: تيار العلم، الطب، وتيار الفن، الموسيقى. فالموسيقى هى وسيلة الاتصال بالعالم، نغم الطبيعة المتفق مع نغم النفس. وهو تيار إخوان الصفا فى "رسالة الموسيقى". فالتناسب أو التناغم أو التآلف أساس الكون. هناك النغم الرياضى فى الأعداد فى الحساب، والطول والعرض والعمق، والتوازى والتقاطع والزوايا فى الهندسة. وضم الحساب والهندسى فى حساب المخروطات. والفلك يخضع لقانون نغم الكواكب والنجوم. والجسم يخضع لقانون نغم العضو وتآلفه. وما المرض إلا اختلال هذا التناسب. والتفاعل الكيميائى يقوم على التناسب بين العناصر. فما يحدث فى الطبيعة يحدث فى النفس. هو تيار فيثاغورس وأفلاطون وإخوان الصفا والفارابى من القدماء.
ثم يقول الدكتور حسن حنفي ليست:" وأثره الأوسع هو توصيل الفلسفة للآخرين على حساب إبداعه الفلسفى الخاص. ويتمثل ذلك فى رئاسة تحرير "الفكر المعاصر" بعد رحيل زكى نجيب محمود. وكان بافتتاحيته يحدد معالمها، العقلانية والتقدم والفكر العلمى والعلمانية. وظل فى رئاستها حتى توقفت وغادر إلى الكويت حيث استأنف نشاطه الفلسفى من خلال تأسيسه للكتاب الشهرى "عالم المعرفة". وظل مستشار السلسلة حتى بعد أن غادر الكويت وحتى مرضه الأخير. وقد أصبحت دائرة معارف متنقلة مترجمة ومؤلفة على مستوى رفيع من التحليل والإخراج والتقديم بحيث تحولت الكويت إلى منارة للثقافة كما كانت مصر فى الستينيات مع "العربى" الشهرية و"عالم الفكر" الفصلية. وهو ما استأنفه المشروع القومى للترجمة فى مصر، مقتصرا على الترجمة دون التأليف. وكانت العلاقات الشخصية بالصداقة أو العداوة تتدخل أحيانا فى قرارات ما ينشر وما لا ينشر مما دفع البعض إلى التقرب إليه لنيل الحظوة. كان يقبل الحوار، الرأى والرأى الآخر إذا وجد ما يستحق. فعندما كتبت "موقفنا من التراث الغربى" فى يناير 1971 أحدد فيه معالم علم الاستغراب رد عليه فى نفس العدد بمقال "دفاع عن الثقافة العالمية". فى حين أنه فى ندوة المجلس الأعلى للثقافة عن الكتاب "مقدمة فى علم الاستغراب" أتى مهاجما إياه مبينا استحالته، لم يكن من المناقشين ولكنه حضر خصيصا وتكلم من القاعة مع الحضور."
كما رأس فؤاد زكريا كما يقول الدكتور حسن حنفي ليست بعد عودته من الكويت "لجنة الفلسفة" بالمجلس الأعلى للثقافة. أسر البعض وأغضب البعض نظرا لأن فى مصر أحيانا تطغى العلاقات الشخصية على الأحكام الموضوعية خاصة فى الترشيح للجوائز. وغضب عندما خلفه محمود أمين العالم مقررا للجنة. وقاطعها. فالرئاسة مدى الحياة ليست فقط رغبة سياسية عند الرؤساء بل أيضا عند رؤساء المؤسسات. فالرئاسة فى حد ذاتها قيمة. وفى تحقيقها سلطة.
كان فؤاد زكريا لا يريد أن يربط نفسه كما يقول الدكتور حسن حنفي ليست بتيار سياسى معين حتى لا يُحسب على أحد. فلما مات عبد الناصر فى سبتمبر 1970 طلب منى أن أكتب افتتاحية عدد نوفمبر لأن أكتوبر قد طُبع لكى أقول ما يقال عادة فى مثل هذه المناسبات، تعظيما وتفخيما ومدحا. وأن مصر والأمة العربية قد خسرتا قائدها وزعيمها. فرفضت وآثرت كتابة "الشعب ومؤسساته" وهما ما يملآن الفراغ. فرفض نشره. وطلب من د. عبد الغفار مكاوى أن يكتب الافتتاحية بدلا عنه ففعل بطيبته ودماثته. وخرج العدد متلحفا بالسواد. فلم يشأ أن يحسب على الناصريين بعد أن كان من بناة الناصرية الثقافية. ورد على هيكل فى "خريف الغضب" بكتاب "كم عمر الغضب؟.
ولما قوى ساعد الجماعات الإسلامية كما يقول الدكتور حسن حنفي ليست بعد أن أفرج عن أعضائها فى أوائل السبعينيات لاستعمالهم من أجل تصفية البلاد من الناصرية نظرا للعداء بين الثورة والإخوان منذ 1954، وتخلصت من رئيس الجمهورية الثانية فى 1981، وعادت العداوة بينهما من جديد، بدأ الفيلسوف الراحل فى الهجوم على الجماعات والثورة الإسلامية فى إيران واتهامها بما هو شانع، التخلف والعنف والدولة والدينية ونقد شعاراتها: الحاكمية لله، الإسلام هو الحل، الإسلام هو البديل، تطبيق الشريعة الإسلامية. فبدأت الجماعات تستهدفه كما فعلت مع المرحوم فرج فودة ومحمد سعيد العشماوى وباقى العلمانيين الجهوريين. وكتب "الحقيقة والوهم فى الحركة الإسلامية" الذى ذاع صيته واعتبرنى بأننى منها، وأننى ممثل الإمام الخمينى فى مصر نظرا لتفكيرى المستمر فى الثورة الإسلامية وهو ما سميته من قبل "اليسار الإسلامى". وكان النظام السياسى يعاديها إلى أقصى حد. ويتهم كل من يتحدث عن الثورة الإسلامية بأنه من أنصارها. كان يبحث عن دور سياسى. وكان يظن أن مكانه الطبيعى بين الليبراليين، الوفد، لو أنهم قدروا زعامته التى تنقصهم. وكانت مقالاته فى "الأهرام" بين الحين والآخر تحاول أن تفسح مجالا لهذا الدور المفتقد.
وفى النصف الثانى من العمر 1984-2009 يقول الدكتور حسن حنفي ليست افترقنا لعدة أسباب:
الأول، مغادرته قسم الفلسفة بآداب عين شمس بعد أن كان عبد الرحمن بدوى قد غادر إلى إيران ومن إيران إلى باريس. فأصبح القسم بلا رائد. والأستاذية هى الريادة. ثم سحب كل أساتذة القسم الباقين بعده. بنى هناك وهدم هنا. ولما كان إغراء المال قويا لم يعد منهم أحد. ولم يفكر أحد فى قسم الفلسفة فى جامعة عين شمس فوقع فى أيدى المعيدين أو المدرسين المساعدين أو الأساتذة الموظفين الإداريين الذين لا يمثلون أى اتجاه. وإلى الآن انهدم القسم ولم تقم له قائمة بعد ذلك، يرأسه العميد لأنه لا وجود لأستاذ يوثق به. لم تعد للقسم قيم علمية فانحدر إلى بيع الكتب المقررة عن طريق أكشاك الجامعة أو يبيعها الأستاذ بنفسه عند فراش القسم أو داخل المدرج مع الاطمئنان أن كل الطلاب قد اشتروا الكتاب. وهو ما حدث فى قسم الفلسفة فى جامعة الإسكندرية أيضا عندما ذهب عبد اللطيف خليف إلى قطر ولم يعد. وكان كبير الأساتذة. ووقع الجيل التالى أيضا فى بيع المذكرات والكتب المقررة. وعُرف أحد الناشرين بذلك حتى أنه كان يدخل إلى العميد بلا استئذان أو موعد سابق. فسلطة المال تسبق سلطة العلم. غابت الريادة. وكان القسم قد بدأ بإرساء بعض المدارس الفكرية فى فلسفة العلم والفلسفة الإسلامية خاصة علم الكلام والتصوف.
أصبح أمل فؤاد زكريا الإعارة إلى الخارج وليس التأسيس فى الداخل، وفضل مصلحته الشخصية على المصلحة العامة. ومع ذلك، شارك فى تأسيس اتحاد الجمعيات الفلسفية العربية فى عمان فى 1982 وكان أحد مفكريها المرموقين فى نداوتها.. والثانى ترك الوطن فى لحظة عصيبة، وهو ينهار من النهضة فى الخمسينيات والستينيات إلى السقوط فى السبعينيات والثمانينيات وذلك حسب قول الدكتور حسن حنفي.
كان فؤاد زكريا كما يقول الدكتور حسن حنفي :" من بناة النهضة بدعوته إلى العقلانية والعلم، ورئاسته تحرير "الفكر المعاصر". كان فؤاد زكريا من دعاة الناصرية، ومبادئها الثلاثة" الحرية والاشتراكية والوحدة. كان أحد ممثلى الجبهة التقدمية والتيار اليسارى ضد اليمين الرجعى. كان نجما بازغا فى السبعينيات قبل وفاة عبد الناصر فى سبتمبر 1970. صحيح أن فؤاد زكريا لم يأخذ حظه فى المناصب الجامعية أو الحزبية ولكن قلمه كان يكفى فى تجاوز كل المناصب. لم تنقصه الشجاعة فى أى موقف. فكان أول المتحدثين فى أى اجتماع أو منتدى. لم يكن من المداهنين المتملقين بل كان من النقاد الواعين. تحولت الفلسفة لديه إلى نقد اجتماعي مثل ماركوز الذى ترجم له "العقل والثورة". وكانت تطوف حوله مجموعة من الشبان الجدد، مفكرين ورواة وقصاصين وشعراء وفنانين. يفتح لهم بيته فى منتدى ثقافى غير رسمي. كان يشير إلى أحد طرق الخروج من الهزيمة، العقل والعلم. فالهزيمة لم تكن عسكرية فقط بل كانت اجتماعية وثقافية. والنصر لن يكون عسكريا فقط بل إذا تغيرت طرق التفكير وكيفية النظر إلى الواقع والبداية بإعادة بناء الإنسان.. والثالث ترك علمه. وانتبه إلى العمل الثقافى العام. وهذا لا يجُب ذاك. فالعلم هو المشروع الأساسي الذى عليه تتأسس النظرة للحياة وللكون. ترجمة "ريشنباخ" لا تكفى. ونقد الثقافة مجرد مقدمة. والإشكال هو كيف يمكن أن يُوظف نقد الثقافة لتأسيس العلم. على مدى خمس وعشرين عاما لم يكتب إلا كتابا واحدا فى تأسيس العلم بناء على نقد الثقافة هو "التفكير العلمي" والذى نشر فى سلسلة "عالم المعرفة" التى يديرها والذى بقى مستشارا لها حتى بعد مغادرته الكويت، فى نهاية المطاف، عائدا إلى مصر وهو فى حالة صحية سيئة لا تساعده على استئناف أى عمل، داخل الجامعة أو خارجها. بل إن مقالاته النقدية فى الثقافة العامة التى بدأ نشرها فى الأهرام لم تستمر. لم يعد قادرا على السير، ولا على النظر. وربما غيابه عن مصر على مدى أكثر من ربع قرن جعله يفقد الدافع الجديد الذى نشأ فيها. لم يشأ الكتابة من جديد حتى لا يكرر نفسه. فقد جمهوره وواقعه. ولم يعد قادرا على إعداد جمهور جديد أو واقع جديد. فانزوى على جسده. وانعكف على همومه الخاصة واهتماماته الشخصية، سماع الموسيقى.. والرابع، تفريطه فى الأصدقاء. فقد كان مثل المفكرين المغاربة، لا يطيقون إلا مفكرا واحدا فى سماء الفكر مع أنه فى الليل البهيم تستطيع السماء المظلمة أن تتسع لأكثر من نجم. فلا يوجد صديق حميم وإلا واختلف معه باستثناء المنافقين أصحاب المصالح والذين لم ينالوا منه شيئا. فقد كان على علم بهم. ووصل بأحد الأصدقاء إلى أنه أهداه كتابا له مصدّرا إياه بعبارة "الهوية فى الاختلاف". إذا وجد نجما بازغا كتب تقارير علمية ضده مثل ما كتب ضد "الطاغية" لإمام عبد الفتاح إمام، و"مقدمة فى علم الاستغراب" لى. ويوزع تقاريره على كل العارفين حتى لا يخلفه أحد كفيلسوف. ويهاجم ما يسمون أنفسهم أصحاب المشاريع. وهى كلها فى رأيه لا تتعدى مجلدات ضخمة، كم لا كيف. فلا أحد من أصحاب المشاريع العربية المعاصر يعد فيلسوفا حتى لا يبقى فى الساحة إلا هو. كان هو الوحيد صاحب الفرقة الناجية، والآخرون الفرق الضالة الهالكة. وكتب ضد صديق عمره "الحقيقة والوهم فى الحركة الإسلامية (حسن حنفى)" زاعما أنه أصولى متخف، وأنه خمينى مصر فى وقت كان رئيس النظام فى مصر يحمل على الثورة الإسلامية فى إيران التى كان يدعمها عبد الناصر ضد الشاه، ويشوه الشعار الفارسى "الله أكبر الخمينى هردر" أى قائد أو زعيم إلى "الخمينى أكبر" أى أكبر من الله. ونصب نفسه مدافعا عن العلمانية الغربية التقليدية ضد الأصولية السلفية، لا فرق بين يمينها ويسارها. وهاجم الحركة الناصرية فى "عبد الناصر، ماله وما عليه" كى يفسح المجال لنفسه كزعيم أو قائد ضد الخطرين العظيمين، الناصريين والإسلاميين. أما الوفد، الليبرالية المصرية التقليدية، فهو فى حاجة إلى زعيم. وهو مستعد، ولكن أحدا لم يلتفت إليه. فهو فارس بلا ميدان، ومقاتل بلا مقاتلين، وزعيم بلا جمهور، فقد الدور فى الداخل بعد أن قضى ربع قرن أو يزيد فى الخارج. ولا يستطيع إنسان أن يجمع بين الثروة من الخارج، والوطنية من الداخل.
وكانت صورة العزاء كما يقول الدكتور حسن حنفي: " مثل صورة الحياة، جمهور قليل من المشتغلين بالفلسفة أو بشئون الثقافة فى الحياة العامة. وفى ذكراه خصصت "الجمعية الفلسفية المصرية" إحدى جلساتها الشهرية له. وتعد بعض المجلات الثقافية في الخليج ملفا حوله، بالإضافة إلى هذا الملف فى "أفكار". يظل فى الذهن وإن لم يستقر في القلب. لحقه آخرون فى العقل وفى القلب. والتاريخ، فى النهاية، هو الفيصل والحكم".
د. محمود محمد علي
قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط
التعليم الزائف
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. محمد الربيعي
يلعب التعليم دورا حاسما في تنمية الفرد، وبالتالي المجتمع بأكمله. وعلى الرغم من أن تاريخ نظام التعليم العراقي يتضمن بعض الأمثلة الإيجابية التي يمكن الافتخار بها، إلا أنه في الوقت الحاضر يعاني من ازمة حادة على الصعيدين المدرسي والجامعي ويتلقى انتقادات واسعة فلا يمكن إنكار حقيقة أننا بدأنا بالتأخر منذ عدة عقود حتى الآن.
وفي حين أن جزء كبير من مناطق العراق تشكو من انعدام المدارس او من الأبنية الطينية وخلوها من المرافق الضرورية، فإن الغالبية من الطلبة المتفتحين ذهنيا ومن الذين تمكنوا من تحقيق مستوى عالي من التعليم هجروا الوطن بحثا عن حياة أفضل وفرص عمل لا تتوفر في الداخل. ومن الواضح ان الحكومة لا تولي اهتماما مقبولا للتعليم، ولا تبذل جهودا كافية لضمان تعليم كل طفل في العراق كحق أساسي. ولا زالت الإجراءات التي تقوم بها الحكومة هي إجراءات فاشلة ونتيجة لذلك، فإن معدل معرفة القراءة والكتابة يزداد نسبة مقارنة بدول المنطقة، والظاهر هو وجود اختناقات عسيرة في العملية التربوية معظمها تعود الى اعتماد التعليم الزائف كأسلوب ومنهج مميز له فلسفته وأهدافه وطرقة "التربوية"، وما ساعد على ترسيخ دعائم هذا النوع من التعليم هو انتشار الفساد، وجهل القيادات السياسية.
السؤال الملح هو لماذا يتجه تعليمنا نحو الهاوية؟
مشاكل نظام التعليم الزائف
الاعتماد على درجات الامتحان
في بلدنا، نقيس الموهبة حسب درجات الطلاب. ليس من غير المألوف اعتبار الطالب الذي يحصل على أكثر من 90٪ من الدرجات على أنه "لامع" في حين أن أولئك الذين يحصلون على درجات متوسطة يعتبرون ضعيفين ليس لديهم مستقبل ملموس. ولا يزال شكل المناهج التي صممت في بدايات القرن الماضي ساريا الآن دون العديد من التغيرات والتعديلات التي حصلت في العالم حيث يتم التركيز بشكل كبير على الحصول على درجات جيدة بدلاً من تحقيق التنمية الشاملة للفرد. المدرسة والجامعة في مجتمع اليوم تكسب الطالب "ثقافة سطحية"، لانهما يوليان أهمية كبرى للتلقين كطريقة في التدريس، وبهذا يقّيم الامتحان قابلية اجترار المعلومات.
انعدام الاهتمام بالتعليم العملي
التعليم بمعظمه تعليم نظري مع مجال ضئيل للتعليم العملي، والبحث من جانب الطلبة. لا توجد مساحة للتعلم والتفكير الإبداعي، والطلاب ملزمون دائما بمنهج معين ولا يتم تشجيعهم على طرح الأسئلة والتجريب وتنمية المهارات. منهجية التدريس لدينا رتيبة للغاية وهناك انعدام كامل للمرونة، ويمنع الخروج عن مفردات المنهج. يخضع الطلاب في الغالب لساعات طويلة من المحاضرات حيث يكون محصلة التعلم الذي يحصلون عليه موضع شك كبير. ولا يسمح اي أسلوب للتدريس يثير اهتمام الطالب خارج الصف لمتابعة موضوع الدرس بطريقة مختلفة.
الدراسة مملة
نتائج نهاية العام وامتحانات البكلوريا في مجال التعليم العراقي لها أهمية قصوى، وقد يؤدي عدم الحصول على معدلات عالية إلى تعريض الطلاب لسلسلة من الخذلان والإذلال وفقدان الثقة. لا تحظى الأنشطة الرياضية والفنية والحرفية والأنشطة اللاصفية باحترام كبير من قبل المجتمع وأولياء الأمور والمؤسسات التربوية. تُعطى الموضوعات الأكاديمية أهمية كبيرة لدرجة أن المعلمين غالبا ما يُنظر إليهم وهم يستغلون الفترات المخصصة للرياضة والأنشطة الأخرى خارج المنهج الدراسي لإنهاء المنهج الدراسي الخاص بهم. يجب هنا أن يكون هناك فهم أساسي لعملية التعلم ذاتها. التعلم هو عملية إبداعية، من المتوقع أن يفكر الفرد ويتفاعل ويتصرف، ويعالج المعلومات بمزيج من الاستنتاجات الإبداعية والعملية. يجب تحويل الوزن بالكامل إلى التعلم وليس مجرد للحصول على درجات عالية في الامتحان. يجب أن يتحقق ذلك من قبل المدرسة والعائلة على حد سواء.
عدم الاهتمام بالفرد
الهدف من التعليم هو تثقيف الطلاب وتمكينهم من تحقيق النجاح المنشود في حياتهم. لا يرغب كل طفل في أن يصبح طبيبا او محاميا او مهندسا عندما يكبر، فقد يرغب في أن يصبح شاعراً، أو مغنياً، أو رياضياً، أو تاجرا. تكمن المشكلة في نظامنا التعليمي الحالي في أن جميع هؤلاء الطلاب سيتعين عليهم دراسة نفس الموضوعات، والقيام بنفس طريقة التعليم على الرغم من أن العديد من المواد التي يتم تدريسها لن تكون ذات صلة بهم بعد بضع سنوات. بالطبع، القراءة والكتابة الأساسية ضرورية، لكن جعلهم يدرسون نفس الموضوعات لمدة 10 سنوات طويلة، وبعدها لن يتمكنوا حتى من اختيار مجال التخصص فهذا يعتبر قسمة ضيزي.
التعليم ينبذ الابداع
نظامنا التربوي يعتمد على معايير مقيدة للمواضيع المدرسية. لا يوجد تركيز متساوٍ على الموضوعات العلمية واللغوية والاجتماعية، ومنهج التربية الإسلامية يتجاوز حدود مفرداته ليشمل اللغة العربية والاجتماعيات والتاريخ. في الواقع، لا توجد مواد إبداعية إلى جانب الرياضيات والعلوم وإضافتها سيكون مزيجا رائعا، ويساعد الطالب على فهم الصورة الأكبر في المدرسة. النظام التربوي يغلق عقل الطالب بدل ان يفتحه على العالم بسبب ضعف تدريس اللغات. لا تتكلف المدرسة ولا حتى الجامعة ببناء شخصية متكاملة للشاب العراقي والتي تتطلب الانفتاح على ثقافات وحضارات العالم، وهذا بدوره يتطلب تمكين الطالب من التحدث والمواصلة بلغة اجنبية بطلاقة.
سوء منهجية التدريس
المنهج هو ما يحتاج إلى تغيير، ويتطلب ايضا تغيير كامل لطرق التدريس على صعيد المدرسة والجامعة. طرق التدريس لدينا قديمة. ما زلنا نستخدم السبورة والطباشير كأسلوب التدريس الوحيد. على الرغم من وجود موجة من التبديل إلى وضع التعلم الإلكتروني كاستخدام التقنيات الرقمية كالباوربوينت، إلا أن ذلك يحدث بنسبة صغيرة جدا. ليس فقط طريقة التدريس لدينا غير فعالة، ولكن أيضا المعلمين والمدرسين. يجب أن تتخذ المدرسة والجامعة تدابير لتزويدهم بمهارات أساليب التدريس الحديثة بالإضافة إلى تكييفهم مع التعلم الإلكتروني السريع. التعلم الإلكتروني هو عملية تعلم إبداعية، ولكن فقط مع وجود معلم جيد ودعم مؤسساتي. إذا تمكنا من الجمع بين معلم جيد ومنهجية تعلم حديثة، ودعم وزاري ومؤسساتي، فيمكننا جني العجائب منها.
انعدام المعرفة الوظيفية ومعرفة السوق
إذا استطعنا النظر فيما يقرب من عقدين من المنهج الدراسي من أي مرحلة دراسية، فيمكننا بسهولة أن نستنتج أنه كانت هناك تغييرات طفيفة في المنهج الدراسي لكنها لم تكن تستجيب لحاجة المجتمع والسوق. الشيء المهم الذي يفتقر إليه نظام التعليم في العراق هو معرفة حاجة السوق والوظائف التي يحتاجها المجتمع. بعبارات بسيطة، الطالب يعلم كيف يشرح عملية معينة، ولكنه لا يعرف أبدا كيفية القيام بها. لا تحتوي المناهج على أي أساسيات حول كيفية عمل السوق وكيفية إدارة الاقتصاد. يجب توفير تعليم عمليات السوق الأساسية للطلاب على الأقل من المستوى الثانوي حتى يكون لديهم فهم أوسع للاقتصاد وتسير الاعمال.
الخلاصة
يجب أن يكون التعليم الحقيقي متاحا للجميع، ولكن يجب أن يكون التطوير الشامل جزءً من المنهج أيضا. إن الحاجة الآن هي تطوير نظام لا يُجبر الأطفال فيه على أن يكونوا نماذج ببغائية بأسلوب التعليم الزائف. لنسمح لهم بأن يكونوا فضوليين (حب الاستطلاع)، ولنشجعهم على طرح الأسئلة، وتناول الموضوعات التي يهتمون بها حقا في وقت مبكر من حياتهم. يمكن أن تلعب التكنولوجيا دورا حيويا في عملية التعلم. مع ظهور الوسائل السمعية والبصرية واللوحات الذكية والمحتوى عبر الإنترنت والصفوف الدراسية المدمجة، يبدو أن المهمة أصبحت أسهل طالما توفرت الإرادة وقضي على الفساد. يتمتع الطلاب في الوقت الحاضر بوسائل للتعلم عبر الطرق التفاعلية أكثر من أي وقت مضى. لقد حان الوقت لبدء الاستثمار في أساليب أكثر حداثة للتعليم والتعلم. على المدرسة والجامعة ان تضطلع بأدوارها في بناء الانسان العراقي ولتحقيق هذا الهدف تحتاج للعمل معا جنبا إلى جنب مع المعلمين والمدرسين وأولياء الأمور للبدء بتنفيذ برامج تربوية لإعداد افراد للحياة وعناصر أساسية للتقدم والتغيير الاجتماعي والاقتصادي. خطوتان ايجابيتان قد يؤدي انتهاجهما الى تسهيل هذه المهمة ألا وهما القضاء على الفساد أولاً، وثم الاستثمار في التعليم بالنظر الى حقيقة ان العراق يقع في قمة البلدان الفاسدة، وقمة البلدان في تدهور التعليم.
محمد الربيعي
ستارت - 3
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عبد الحسين شعبان
كان برنارد باروخ مستشار الرئيس الأمريكي هاري ترومان أول من استخدم مصطلح "الحرب الباردة" في 16 إبريل (نيسان) عام 1947، التي تعني المجابهة العالمية الجيوسياسية والإقتصادية والآيدولوجية بما فيها الحرب النفسية ووسائل القوة الناعمة الإعلامية والثقافية والرياضية ضد الإتحاد السوفيتي السابق، وبعده جاء خطاب ونستون تشرشل الذي ألقاه في مدينة فولتن بولاية ميسوري الأمريكية، ومع أنه لم يكن حينها رئيساً لوزراء بريطانيا، لكن فكرته سرت مثل النار بالهشيم حين طرح تشكيل حلف عسكري للدول الإنكلوساكسونية بهدف "مكافحة الشيوعية" وكان ذلك ترسيخاً لفكرة الحرب الباردة، حيثُ تأسس حلف الناتو في العام 1949 وبالمقابل أُنشأ حلف وارشو في العام 1955 من جانب الإتحاد السوفيتي وحلفائه .
وقد دامت الحرب الباردة والصراع الآيديولوجي طيلة فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ولغاية نهاية الثمانينات، وشهدت سباقاً محموماً للتسلح على الرغم من محاولات الطرفين البحث عن فرصٍ لتخفيض ترسانة الأسلحة عبر معاهدات واتفاقيات دولية جماعية أو ثنائية دون أن تخلو من عقباتٍ وكوابح تعكّر صفو علاقات "التعايش السلمي" وتزيد من سباق المنافسة التسليحية والتي كان آخرها ما عُرف بـ "مشروع حرب النجوم"الذي خصصت له واشنطن ترليوني دولار، وكان ذلك أحد أسباب فشل الإتحاد السوفيتي وتفكّكه في تلك المنافسة غير المتكافئة التي جرّته إليها الولايات المتحدة، خصوصاً في عهد الرئيس ريغان، إضافة إلى أسباب إقتصادية وسياسية واجتماعية وغيرها .
خلال شهر فبراير (شباط) الجاري 2021 سينتهي مفعول إتفاقية ستارت - 3 التي تمّ التوقيع عليها في 18 إبريل (نيسان) 2010 بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما والرئيس الروسي السابق ديمتري مدفيديف، وقد توصّلت واشنطن إلى "إتفاق مبدئي" مع روسيا على تمديدها لخفض ترسانة الأسلحة النووية، علماً بأنها كانت قد طلبت من الصين الإنضمام إلى المفاوضات التي يشهد برنامجها النووي نموّاً مطرّداً، لكنه لا يقارن من حيث الحجم بالترسانتين الأمريكية والروسية، حيث تمتلكان نحو 93 % من القنابل النووية في العالم، ويدرك الطرفان إن من شأن عدم تمديد المعاهدة رفع جميع القيود المتبقية على نشر رؤوس حربية نووية، وكذلك الصواريخ والقاذفات القادرة على حملها، مما سيؤدي إلى تأجيج سباق التسلح، ويزيد من حدّة التوتر ويعيد الأجواء إلى مناخ الحرب الباردة .
ولعلّ فوز جو بايدن الذي كان نائباً للرئيس أوباما حين تم التوقيع على ستارت - 3 إلاّ أنه يعتبر روسيا العدو الرئيس والأول للولايات المتحدة، أما الصين فيعتبرها منافساً وليس عدواً، الأمر الذي قد يجعل العلاقات الروسية - الأمريكية تعيش أوقاتاً صعبة، على الرغم من توفّر الفرصة لتمديد إتفاقية نيوستارت - 3، وكان قد عبّر عن نيّته في تمديد المعاهدة خلال حملته الإنتخابية .
تعتبر ستارت - 3، واحدة من 9 إتفاقيات نووية وقّعتها موسكو مع واشنطن خلال العقود الماضية ويعود تاريخها إلى ستينات القرن الماضي، ومن أهمها معاهدة منع التجارب النووية وهي معاهدة متعددة الأطراف تمّ التوقيع عليها العام 1963 وما تزال سارية المفعول، إضافة إلى معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النووية لعام 1963 وهي معاهدة متعدّدة الأطراف تم تمديدها في العام 1995 وهي مفتوحةٌ وغير محدّدة بزمن .
ومن المعاهدات الثنائية بين البلدين معاهدة سالت - 1 و ABM و سالت - 2، الأولى تم التوقيع عليها في العام 1972 لغرض تجميد عدد قاذفات الصواريخ البالستية العابرة للقارات بين البلدين (لمدة 5 سنوات) في حين أن الثانية منعت إنشاء درع مضاد للصواريخ، أما الثالثة (سالت - 2) فقد تم التوقيع عليها العام 1979 بشأن الأسلحة النووية، لكنها لم تدخل حيّز التنفيذ، إضافة إلى معاهدة الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى التي تمّ التوقيع عليها في العام 1987 بين دونالد ريغان وميخائيل غورباتشوف، وهي المعاهدة التي انسحب منها دونالد ترامب في فبراير (شباط) 2019، ومن المعاهدات المهمة ستارت - 1 (1991) و ستارت - 2 (1993) التي لم تدخل حيّز التنفيذ، وتكمن أهمية ستارت - 3 بتحديد عدد الرؤوس النووية بـ 1550 رأساً، وهي خاصة بالأسلحة الهجومية، وقد أبدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إستعداد بلاده لتمديد المعاهدة، كما أعلن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس أهمية تمديد ستارت - 3، وذلك خدمة للسلم والأمن الدوليين .
وسيؤدي تمديد المعاهدة إلى تفعيل نظام الرقابة النووية وتخفيف حدّة التوتر في أوروبا وآسيا ومنطقة المحيط الهادي وإقامة نظام مؤتمن في مجال التكنولوجيات، بما يطمئن واشنطن من إلتزام موسكو بأحكام المعاهدة، ويطمئن موسكو من حسّاسيتها بنصب صواريخ نووية في بولونيا وأوكرانيا وتشيكيا وعلى حدود روسيا .
عبد الحسين شعبان
قصر البارون.. ميثولوجيا العالم ومرايا الفكر والجنون
- التفاصيل
- كتب بواسطة: سارة فؤاد شرارة
البارون الجنرال إدواد لويس جوزيف امبان ولد عام ١٨٥٢ في بلجيكا وتوفي ٢٢ يوليو عام ١٩٢٩..تاركاً عالمه الغامض وإرثه والذي يتكون من ضاحية مصر الجديدة وعدة مشروعات هامة، قصره الذي يحمل اسم البارون مزخرف على الطراز الهندي يحاكي معبد انجكور وات في كمبوديا ومعابد أوريسا الهندوسية والمعابد الخميرية في شمال الهند. القصر لامس الكثير من المعتقدات وظل سحراً مثيراً للخيال والفضول أَو الخوف لدى البعض،
من يكون البارون امبان؟ وما إنجازاته؟
كان البارون موهوباً في كل شيء يفعله سواء في الهندسة أو الصناعة والإقتصاد أو المعمار، وكان يعد أغنى أغنياء العالم. سافر إلى الكثير من البلدان المكسيك، البرازيل، أمريكا الجنوبية، إفريقيا، الهند والكونغو.. حيث أقام العديد من المشاريع، ولكنه عشق مصر إلى حد رغبته في الإقامة بها بقية عمره، كما أوصى بدفنه في تراب مصر حتى وإن وافته المنيه وهو خارجها، كان عبقريا وأكبر وحوش الصناعة في العالم، فشارك في مشروعات التطور الصناعي الهائلة بأوروبا وأسبانيا والصين ومصر، منحه ملك فرنسا لقب "بارون" نظراً لجهوده في إنشاء مترو باريس، ثم تقدم إلى الحكومة المصرية بمشروع إنشاء ضاحية جديدة في صحراء شرق القاهرة وأخذها بسعر جنيه واحد للفدان الأرض وبتسهيلات من الحكومة المصرية، وكان هذا في عهد الخديوي "عباس حلمي الثاني" (١٨٩٢–١٩١٤) واختار البارون لمدينته اسم "هوليوبوليس" أي مدينة الشمس والتي تعرف ب"مصر الجديدة".وضع تصميمها المهندس المعماري البلجيكي "إرنست جسبار" ورأى البارون أن الخدمات والمرافق تنقصها، فأقام بها محطات الكهرباء والمياه والمترو بالتعاون مع مبعوث شركة "مترو باريس " المهندس البلجيكي" أندريه برشلو"، وأنشأ ثلاثة خطوط من الترام في أماكن مختلفة بمصر الجديدة ليسهل الوصول إليها من وسط العاصمة، أقام أكبر فندق بالشرق الأوسط واستغرق منه عامين، وكان ينوي تسميته ب"الواحة" لكنه غير النية آوان افتتاحه إلى اسم "هليوبوليس بالاس"الذي أصبح حالياً " قصر الإتحادية" الرئاسي، واستضاف كبار العظماء في العالم آنذاك مثل "ألبرت الأول" ملك بلجيكا وزوجته الملكة "إليزابيث دو بافاريا ".كما أقام أكبر ملاهي بالشرق الأوسط، ثم بنى بعد ذلك خمس مدارس وأندية رياضية وحلبة لسباق الخيل وملاعب جولف. اختار المهندس الفرنسي" ألكسندر مارسيل" لبناء قصر" البارون امبان" بضاحيته المكتملة بجوار البيوت الكبيرة والتي صممها على الطراز البلجيكي والأوروبي والإسلامي.
تصميم قصر البارون..
تم بناء القصر على مساحة ١٢.٥٠٠ ألف متر، هي عبارة عن القصر الرئيسي والبرج وحديقته الواسعة، ويقع في قلب مصر الجديدة، في قلب شارع العروبة ويطل على شارع ابن بطوطة وابن جبير وحسن صادق. بني القصر ممزوجاً ومتأثراَ بمختلف الفنون الهندية والبوذية والعربية، بداية من تماوج زخارفه (والتي هي عبارة عن الفيلة الهندية والتنين الأسطوري والفرسان المحاربة بالسيوف وتمثال بوذا الذي يصارع غواية مارا وبناته في الأسطورة البوذية والذي يجسد برواية المنحوتات قوة النفس والتصميم) وانسيابها مع حدود النوافذ، على الأعمدة وحول البوابة الرئيسية في محاكاة واضحة لمعابد انجكور وات بكمبوديا وأوريسا الهندوسية، وفي تناغم مع نوافذ صممت على الطراز العربي، والقصر يضم تحفاَ بلاتينية وبرونزية وذهبية وساعة أثرية تعرض الوقت بالدقائق
والساعات والأيام والشهور والسنين مع توضيح تغييرات أوجه القمر! أرضيته من الرخام والمرمر المستورد من إيطاليا وبلجيكا، قيل أن البرج بني على قاعدة متحركة بحيث يدور دورة كاملة كل ساعة ليتيح الرؤية من جميع الإتجاهات، وحديقة القصر واسعة تجمع نباتات وزهور نادرة. القصر الرئيسي ينقسم إلى طابقين ويبلغ عدد الغرف ٧، بالطابق الأول توجد غرفتان للإستقبال وغرفة للعب البلياردوا، بداخل قاعة مائدة الطعام انتشرت رسوم مأخوذة عن مايكل آنجلو ودا فنشي ورامبرانت ومشاهير عصر النهضة، كما حمل كل ركن عموداً
رفيع الصنع من التماثيل الهندية الثرية بالأساطير البوذية والطابع الباعث على الرهبة بعض الشيء.وبالطابق الثاني أربع غرف للنوم وكل غرفة بها ملحق حمام خاص بها، صمم القصر بقصد ألا تغيب عنه الشمس فكانت تدخله من جميع غرفه ونوافذه، أما سطح القصر فتنتشر به زخارف النباتات والحيوانات الخرافية التي تكمل أسطورتها، فاستغله البارون لإقامة الحفلات وشرب الشاى وكان يصعد إليه بواسطة سلم من خشب الورد. أبدع زخارف القصر الفنان جورج لويس كلود.كما صممه بالكامل المهندس المعماري" ألكسندر مارسيل" وقيل أن للقصر سراديب ثلاثة، واحد يصل بين القصر وكنيسة البازيليك والثاني بينه وبين قصر الرئاسة والثالث بينه وبين فندق هوليوبوليس. في اليوم الذي توج فيه امبان بلقب البارون عام " ١٩٠٧" تم وضع حجر الأساس لقصره الجميل والذي اكتمل عام ١٩١١ حيث استغرق بناؤه ما يقارب خمس سنوات، وهناك وثائق فرنسية بتاريخ ١٩١١ تكشف أن لونه الأصلي هو الطوبي المحروق
" burnt sienna "
ما بين الوقائع والخرافة والجنون
ظل قصر البارون مساحة خصبة للروايات والشائعات وأساطير الجرائم الغامضة، فقيل أن البارون كان له أخت تدعى هيلينا وقد لقيت مصرعها إثر سقوطها من شرفة بالبرج الرئيسي بالقصر وقيل أن البرج توقف عن الدوران منذ ذاك الوقت، كل ذلك على خلفية الظن بأن مقتلها فعل فاعل ولذلك توقف دوران القصر فجأة، فروحها غاضبة من أخيها البارون الذي تخاذل عن مساعدتها، وهناك مزاعم تروي أن للبارون زوجة كانت تفضل الجلوس في الغرفة السفلية أو البدروم والتي سميت بغرفة المرايا ولقيت مصرعها هي الأخرى.. وجدت جثتها مفصولة الرأس في مصعد لتوصيل الطعام من الدور السفلي إلى غرفة البارون العلوية ! وعن ابنته آن تعرفت إلى سيلفيا وهي ابنة صديقه والتي قادتها إلى عبادة شيطانية حيث أهدتها ورقة مفضضة مرسوم بها الصليب بوضع معكوس وثبتتها آن على حوائط غرفتها، ومن ثم انزلقت معها في أفعال المجون والممارسات الشيطانية والشذوذ وإشعال البخور وغناء التراتيل الغريبة بداخل السرداب، حتى وجدت آن مقتولة بعد عامين من تعارفها على سيلفيا الشريرة..! ظلت غرفة آن تذرف الدم فقيل أن أباها يحاول استحضار روحها مما جعل الدم يتدفق من الجدران وسميت غرفة الدم لذلك السبب "قبل ترميم القصر كان الحراس يقولون في هذا الشأن :نمسح الدم ويخرج غيره اليوم التالي ! " ولكن أثبتت وثائق بلجيكية تخص البارون أنه لم يتزوج إلا من امرأة أنجبت له ولدين هما جان ولويس ولم ينجب البنات أبداً، كما أنه توفى قبل كل إخوته، وسابقاً صرح فريق إحياء قصر البارون المفوض للإشراف على القصر من جهة وزارة الآثار أنه لا يوجد ما يثبت حتى الآن أن القصر دوار فالفكرة صعبة قليلاً، ولكي يدور القصر سيحتاج أن يثبت على قاعدة رمان بلي بمساحات واسعة جدا تتيح للقصر آلية الدوران والتحرك، وفي تصريحات سابقة مع إحدى الصحف قال د.رفيق جورج صاحب كتاب "قصر البارون" أن الدم على حوائط الغرفة قد يعود إلى اصطدام الوطاويط لدى طيرانها في الظلام (وهو مستحيل علميا كون الوطاويط تشعر بالمجسمات أمامها!) أو نتيجة لممارسات عبدة الشيطان في فترة التسعينيات حيث جذب غموض القصر والأساطيرالحوامة حوله مجموعة من الشباب المنتمين لعبادة الشيطان واستغلوه كمساحة خصبة تتيح ممارسة الطقس الشيطاني وذبح الحيوانات وإقامة حفلات الميتال ! الدماء المنتشرة بغرفة الدم نتيجة ذبحهم الحيوانات مما فجر الدماء على الجدران أو ربما صدأ نتيجة عوامل الزمن أصاب الحوائط وأعطى لون الدم
رأي
القصر ليس مجرد انعكاس لحضور الفنون القديمة وأساطير الميثولوجيا، وليس مجرد أثر لسيرة عبقرية مرت بظروف زمنية واقتصادية لها سماتها الحضارية ثم التقت بسحر مصر فأبدعت المشاريع والإنجازات، ولكنه أيضاً فضح سطوة تأثير الخرافة في طبقة لا بأس بها من المجتمع المصري، كأنه كان المرآة بوجهيها وجه يعكس الجمال ووجه يعكس الإنقياد وراء الخرافة والتبريرات الضالة والهروب والإهمال، القصر الهائل برواياته وفترة خرابه وسكونه يعكس تلذذ البعض بسماع الخزعبلات بدلا من اقتحام الحقيقة وسبر أغوارها والبحث عنها، وبدلاً من فعل شيء جاد كما فعل البارون امبان الأجنبي، تأخرنا كثيرا في إحيائه والعناية به حيث ترك مهملاً لسنين. إذا تأملت ما جرى عبر العقود الماضية وما أصاب حالة القصر أدركت مدى تصديق أغلبية الناس والمحيطين به أنه مسكون بالجن والأشباح والماورائيات، لتجد البعض يؤكد سماع أصوات الأثاث تتحرك في غرف القصر، ورؤية الحرائق تشتعل وتنطفئ من تلقاء ذاتها وهي حادثة رواها بعض حراس القصور المجاورة في الثمانينات بيقين مخيف، ورغم تناثر تلك الأقاويل لم يظهر واحد منهم يجزم أنه رأى بعينه شيئاً فالجميع يتناقل الأخبار في سلسلة لا نهاية لها ! ورغم أن الجن مذكور في العقائد السماوية إلا أن الإثبات للقصص قبل تصديقها واجب أدبي هام.. لا يوجد ما يبرر إهمال القصر والبعد عنه لسنوات حتى أصبح خرابة مهجورة وساحة لعبدة الشياطين وشواذ الخيال، ما أدى إلى حادث القبض على عبدة الشيطان ١٩٩٧ الذي شغل الرأي العام، فالقصر باختصار موضوع هام ظل طي التغافل والركون إلى السلبية لما يقارب مائة عام، إلى أن بادرت أخيراً ومتأخراً وزارة الآثار بفكرة إحياء قصر البارون تحت ظل سلسلة من مبادرات الحكومة الجيدة بغرض البناء والتخطيط العمراني وأيضاً إحياء المعمار القديم، فعقد المهندس "محمد ابراهيم سليمان" اتفاقاَ مع ورثة القصر من عائلة امبان يقضي بالتنازل عن القصر للحكومة المصرية لطرحه ضمن الآثار المصرية، مقابل منحهم قطعة أرض في القاهرة الجديدة تصلح للإستثمار مما مهد لإعادة ترميم تلك التحفة "البارون" والإهتمام به، عاد تاريخ البارون مع فكرة الإحياء وفتحت السجلات المنطقية الخاصة بوقائع هليوبوليس وأهم ما حدث برأيي أن حواجز الأكاذيب حول القصر بدأت في التلاشي بشكل طريف فالوهم نهايته السقوط .وليتها كانت خطوة مبكرة تهتك ستر العفاريت! .. وعن ذلك بادرت مصر في ١١ سبتمبر ٢٠١٩ بتوقيع " اتفاقية التفاهم" مع بلجيكا بغرض التعاون معاً لإقامة معرض عن تاريخ مصر الجديدة "هوليوبوليس والمطرية" عبر العصور بقيمة ١٦ مليون جنيه في إطار مبادلة الديون البلجيكية، وتم ترميمه وافتتاحه فعلا بتاريخ الإثنين، 29 يونيو 2020 كمزار سياحي ولولا ذلك لاستمر القصر ساكناً في جنون الوهم دون مردود عملي ولظل صرح حيث تلهو الهلاوس بالخيالات وبالعقول كما يروق لها، ولو تحدث البارون من قبره لأعلن رغبته في حماية القصر منذ زمن طويل مضى، ولكن تكلفة ترميم القصر بلغت في النهاية ما يقارب١٧٥ مليون جنيه مصري !
لقد أحب البارون مصر حتى ود أن يخلق بها مشاريعاً ومدناً ويكرس أمواله لأجلها، وهو الشيء المفترض تقديمه من ذوي رؤوس الأموال ورجال الأعمال والمسؤولين، الشيء المفترض عمله من ناحية المصريين قبل الأجانب فنحن أولى بالأسبقية في حب مصر وتقدير ثقلها كما قدرها البارون الأجنبي والغريب عنها أصلاً، ولذلك كانت خطوة جيدة لإحياء القصور القديمة تقود إلى فكرة إحياء عشرات البيوت والقصور والتي تعد من الآثار القديمة بدلا من هدمها أو تركها للإنهيار والخسارات وعوامل الزمن، وبرغم التكلفة العالية التي تم إنفاقها على القصر إلا أن الجدار الأقرب إلى حديقة القصر يعاني الآن تسرب الرطوبة والأملاح التي شوهت منظره بشكل يبعث على الدهشة نظراً لحملة الترميم والصيانة الكبيرة والتي لم يمض عليها فترة طويلة ! وتناقلت السوشيال ميديا بعض الصور في حالة من الإستياء تحت عناوين "من المسؤول !!"، كما عاب البعض سوء الإهتمام بالتسويق لقصر البارون مما جعل نسب الزيارات ضئيلة
بينما ردت وزارة الآثار باتخاذ كافة الإجراءات العملية اللازمة لعلاج الرطوبة بالجدار على أسس علمية، قائلة بأن الجدار المتضرر هو الأقرب من الحديقة فمن الجائز أن تمسه الرطوبة وخاصة في المنطقة السفلية منه لتسرب الأملاح بسبب الري ولذلك استبعدت ري المضخات واستخدمت الري بالتقطير حفاظا على القصر، كما أكدت أن نسب الزيارات جيدة لا بأس بها ولا يعاني القصر نقص السائحين بل هناك توافد مستمر للقصر..على حد قولهم ! كما بررت الوزارة مؤخراً سبب ارتفاع تكاليف ترميم القصر من مائة إلى ١٧٥ بأن تلك الزيادة كانت من أجل ترميم السور المحيط بالقصر والوزارة ترغب في إقامة الحفلات داخله دون المساس به لإسترداد ثمن التكاليف لأن بيع التذاكر بثمن زهيد لايكفي!
الإهتمام بالقصر والتسويق له يعد شيئاً بسيطا نقدمه لإحياء "سيرة البارون" الذي عاصر حقبة مصرية بظروف اقتصادية" واجتماعية معينة وعكس تاريخها بمشروعاته المثمرة على أكمل وجه، قدم خلال حياته إنجازات ومشاريع حضارية عظيمة لمصر وجديرة بالذكر والإنصات، البارون أحب مصر من صميم قلبه أكثر مما يحبها بعض حاملي الجنسية والأصول المصرية ربما. فهل يصح أن نهمل ونتغافل عن أبسط الأشياء والتفاصيل الأولى بالرعاية والبحث؟! لا..لم يكن البارون ذاته ليتوانى عن رعاية خططه الإقتصادية والحضارية أو يتخاذل بالتقصير في أدق تفاصيلها لأنه يقدر سحر تلك البلاد! فإنها مصرنا العزيزة ونحن أولى بحبها أكثر مما أحبها البارون امبان العظيم.
سارة فؤاد شرارة
أربعينية الراحل الكبير الدكتور حسين سرمك
- التفاصيل
- كتب بواسطة: جمعة عبد الله
يصادف يوم 5 - 2 - 2021 مرور اربعين يوماً على وفاة المثقف والباحث الكبير الدكتور حسين سرمك، وبرحيله فجعت الثقافة العراقية بفاجعة ومصاب كبير وفادح، بفقدان احد اعمدتها البارزة في الاصالة الثقافية والفكرية، فقد سطع أسمه بشكل البارز منذ اكثر من ثلاثة عقود من الزمن، تفوق بها بالشموخ في العطاء الابداعي المرموق والاصيل. واعتبر عند الكثير من الكتاب والادباء الذين احتلوا مكانة مرموقة في المشهد الثقافي والادبي، بأن الفقيد الكبير يعتبر من حملة لواء الابداع الحديث والمعاصر بالحداثة والتجديد الخلاق، وعرف عنه في تمرسه في عملية الابداع المتنوع، في اصناف الادب والثقافة بكل براعة استاذية. في دراساته وابحاثه، وفي غزارة الانتاج الابداعي بكل المجالات المتنوعة. وبالجهود المثابرة والخلاقة. ويتميز بالاصدارات والكتب الكثيرة والمتنوعة، ولا يمكن حصرها في هذه المقالة، فكان بمثابة مؤسسة ثقافية وفكرية قائمة بنفسها لوحده وبجهوده الذاتية الكبيرة، وعرف عنه بالالتزام بالرصانة الهادفة والرصينة في البحث والتناول والطرح، وفي التحليل والتشخيص،من أجل رفع شأن الوعي الثقافي والفكري التنويري، بما يملك من خبرة موسوعية واسعة او معجمية متنوعة من المعارف والمعرفة. أهلته هذه القدرة الفذة في تأسيس حركة نقدية شمولية في الطرح والتناول، في توظيف مهنته الطبية في علم النفس في المجهر النقدي كأحد اساليب التحليل للنصوص الادبية. بالتناول الواسع من عدة زوايا، وفي اتجاهات الاديبة المتنوعة، وفي الموضوعية الرشيدة في اسلوبها المنهجي. مما وضعته في مكانة حامل التجديد في الحركة النقدية المعاصرة، بل اعتبر أيقونة النقد العراقي والعربي الحديث، في التأليف والدراسة والبحث، فقد اصدر الكثير من الكتب النقدية، تتناول الاعمال البارزة في مجال الشعر والرواية والقصة. بما يملك من طاقات فذة في الغوص في عمق النصوص المنقودة، وكذلك ساهم في الابحاث والدراسات في مجال علم النفس وله اصدارات كثيرة في هذا الجانب. وكذلك في مجال حقل السرد الروائي، فقد قدم تحفته الروائية المرموقة، رواية (ما بعد الجحيم). اضافة الى جهده الحثيث في مجال التنوير الثقافي والفكري. وكما يملك خصال أنسانية نبيلة وسامية في المعاني الجميلة والخلاقة، وطينته بمعدنها الطيب بالبساطة والتواضع الجم. وكان يمد يد العون والدعم للادباء والكتاب، ويساهم في معاناتهم ومحنتهم الحياتية. فهو شخصية نابغة وملهمة بالفكر والثقافة وله سجل طويل في المآثر الابداعية التي احتلت موقعاً مرموقاً، وكذلك متفاني بالثقافة الوطنية بدعم الوطن واعلى شأن ثقافته الوطنية الحرة، والدفاع عن ارثه التاريخي والحضاري المجيد. ولكن ما يؤلم النفس ويحزنها، بأن مشروعه الكبير، في تناول أدب السجون العراقية، في أنظمة البغض والاستبداد والطغيان الشمولية، لم يكتمل من مشروعه الكبير، سوى اصدار الجزء الاول، واشتغل على الجزء الثاني، لكن مع الاسف داهمه الموت المفاجئ في رحيله الى فردوس الابدية، وبرحيله ترك ارثاً بحجم كبير في كل مجالات صنوف الادب والثقافة والفكر، وفي مجال علم النفس. ستبقى هذه الاعمال، ارثاً خالداً على مدى الاجيال القادمة. وان برحيله الى رحمة الله الواسعة، خسر العراق شخصية مرموقة لا تعوض. انها خسارة فادحة للثقافة العراقية والعربية، وفي الابداع العراقي والعربي. ولا يمكن نسيان جهوده الكبيرة في تأسيس موقع الناقد العراقي، وبجهوده الكبيرة المضنية، احتل موقع الناقد العراقي مكانة بارزة بين المواقع الثقافية. وكان الموقع بمثابة واحة الادب والثقافة والنقد في أريجه الجميل. رحيله المفاجئ، يعتبر خسارة واحد من الرموز العملاقة التي رحلت قبل أوانها. ولكنه سيبقى خالداً في اعماق القلوب، وفي ذمة الأدب والثقافة والعلم التنويري.
رحم الله الفقيد الكبير برحمته الواسعة.
جمعة عبدالله
تأملات واكتشاف بعض الحقائق بعد سنة من تكليفي بتشكيل الكابينة الوزارية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: محمد توفيق علاوي
" ... مع العلم اني احترم رأي كل من يرفضني إذا كان معتقداً انه على الحق، بل يجب علي ان ادافع عن حقهم في حرية التعبير عن رأيهم حتى ولو كانوا ضدي ..."
تمر علينا في هذه الايام ذكرى مرور سنة على تكليفي بتشكيل الكابينة الوزارية لرئاسة مجلس الوزراء، ومن ثم اعتذاري عن تشكيل الحكومة؛ سأتطرق بشكل مختصر لحيثيات هذا الامر وبعض الاحداث التي يجب ذكرها لتبقى شاهداً في التأريخ؛.. بعد حدوث انتفاضة تشرين ومقتل عدة مئات من المتظاهرين وآلاف الجرحى واستقالة السيد عادل عبد المهدي رشحت هذه الاحزاب بعض الاشخاص لرئاسة الوزراء فخرجت عليهم تظاهرات رافضة على مستوى واسع مما اضطرهم للانسحاب، على اثر ذلك انبرى مجموعة من النواب المستقلين بين ستين الى سبعين نائب حيث البعض منهم خرجوا عن إرادة أحزابهم وشكلوا كتله اسموها كتلة الشعب برئاسة النائب الشيخ محمد الخالدي واجتمعوا في منزل الشيخ هشام السهيل ورشحوا مجموعة من الاسماء وقاموا بالتصويت عليهم، فنال اسم محمد علاوي العدد الاكبر من الاصوات، على اثر ذلك كتبوا كتاباً الى رئيس الجمهورية يعلنوا عن ترشيحهم لمحمد علاوي مع اسماء وتواقيع الاخوة النواب، اتصل رئيس الجمهورية بجميع الاحزاب في مجلس النواب بشأن ترشيحي فأعلن الجميع عن عدم تبني محمد علاوي لكن لا يوجد فيتو على محمد علاوي ما خلا طرفاً واحداً (طرف السيد نوري المالكي) الذي اخبر رئيس الجمهورية برفضه لمحمد علاوي.
حيث تم الاتصال بي من قبل فخامة رئيس الجمهورية واخبرني بهذا الواقع وبقيت الامور تراوح في مكانها لعدة ايام فغادرت الى بيروت؛ (وهنا اذكر بعض التفاصيل التي لا داعي لذكرها ولكني اذكرها بسبب ما قد حدث من الكثير من اللغط بشأنها) [حيث اتصل بي الشيخ وليد الكريماوي ظهر احد الايام ممثلاً عن سماحة السيد مقتدى الصدر وقال لي ان السيد مقتدى الصدر قد قرر ان يدعم شخصين لهذا المنصب وهما محمد علاوي ومصطفى الكاظمي، وإن حظوظ مصطفى الكاظمي ضعيفة وحظوظك قوية لذلك لا بد من مجيئك الى بغداد اليوم، ولما كانت جميع الطائرات الى بغداد قد غادرت اتصل بي شخص قريب عن الموضوع وقريب من رئيس الجمهورية وقال ان هناك طائرة خاصة يمكنها ان تنقلك الى بغداد، وعند مجيئي الى بغداد في مساء ذلك اليوم اخبرني رئيس الجمهورية ان السيد مقتدى الصدر قد سحب دعمه لك] وبقيت الامور تراوح في مكانها حتى تم الاتفاق مرة اخرى على ترشيحي لهذا المنصب.
أخبرت فخامة رئيس الجمهورية اني لا يمكن ان اقبل بهذا المنصب استمراراً على منهج السبعة عشر عاماً الماضية، فأنا لن اقبل بالمحاصصة ولن اقبل ان يكون لأي حزب اي وزارة فيمول الحزب نفسه من هذه الوزارة على حساب مصلحة البلد، فقال لي رئيس الجمهورية، إذاً تحدث مع الاحزاب واخبرهم بهذه الشروط؛ في يوم التكليف وبعده مباشرةً حضر الكثير من النواب وممثلة الامم المتحدة وحشد من المتظاهرين مهنئين ومؤيدين، وجلست بعد ذلك مع الاحزاب وعرضت هذه الشروط، فجاءتني الاجابة من الدكتور حيدر العبادي والسيد عمار الحكيم وآخرين بالموافقة على تشكيل كابينة مستقلة من دون تدخلهم واتصل بي سماحة السيد مقتدى الصدر فقال (نحن معك في تشكيل كابينة مستقلة ولا يحق لأي شخص من التيار ان يرشح اي شخص لهذه الكابينة) وقد اعترض بعض افراد الفتح واخبروني ان الاخ هادي العامري لا يمثلهم وانهم يريدون بعض المناصب، وكان موقف كتل السادة اسامة النجيفي وخميس الخنجر ومثنى السامرائي انهم مع كابينة مستقلة ولن يتدخلوا في ترشيح الوزراء، فقط كتلة السيد الحلبوسي طالبوا بوزارات فرفضت ذلك، وكذلك الاخوة في الحزب الديمقراطي الكردستاني حيث تم الاتفاق معهم على وزراء مستقلين وإن لهم وزارة دولة لشؤون الاقليم فوافق الاخ نجيرفان البرزاني ولكنه طلب مني التفاهم مع السيد الحلبوسي، فعرفت ان هناك تفاهمات مسبقة انه لا يمضي اي منهم دون الآخر، ومع هذا فقد حضر الاخوة من حركة التغيير الكردستانية ومن الاحزاب الاسلامية الكردستانية حيث وافقوا على وزراء مستقلين ولا يتدخلوا في تعيينهم؛ لقد كانت النقاشات حادة في تلك الفترة حيث كانت اكثر الاحزاب في واقع الامر ترفض انهاء المحاصصة والتخلي عن الوزارات وعن منهج السبعة عشر عاماً الماضية ، لقد وصل الامر من خلال بعض المفاوضين الطلب مني التنازل عن وزارة واحدة لكي أحصل على تمرير الكابينة الوزارية، ولكني اخبرت المتفاوضين اني لن اقبل ان يكون في كابينتي وزير واحد لا يعمل للمصلحة العامة ويعمل من اجل مصلحة حزب او جهة سياسية، وقلت لهم ارجو ان تكون رسالتي واضحة، فليس همي ان احصل على منصب رئيس الوزراء بل همي بناء البلد؛ لقد كنت اعلم ان الكابينة لن تمرر ولن اكون رئيساً للوزراء، ولكن الحمد لله لم اتخلى عن مبادئي في خدمة الوطن ولم اقدم المصالح الخاصة على المصلحة العامة؛ لقد قدمت اعتذاري في خطاب عام ومتلفز عندما اختلفت مع اغلب الاحزاب التي اصرت على المحاصصة السياسية ورفضت الوقوف الى جانب الشعب ضد المصالح الضيقة للأحزاب وضد الفساد والمفسدين ...
خلال فترة التكليف عندما وجدت الاحزاب اني لا استجيب لمطالبهم قاموا من خلال الخيم والتنسيقيات التابعة للأحزاب في ساحات التظاهر بنشر صوري مع تعبير ان (محمد علاوي مرفوض) على اعتبار ان محمد علاوي يمثل الاحزاب الفاسدة، وقد وصلتني معلومات دقيقة بعد بضعة اشهر بشأن من قام بطباعة هذه الصور ونشرها بين المتظاهرين، نعم لقد انخدع الكثير من المتظاهرين ولكن بعد تقديم الاعتذار عن التكليف من قبلي اتصل بي المئات من المتظاهرين معربين عن ندمهم طالبين ان ابرئهم الذمة بسبب موقفهم في رفع صوري مع إشارة اكس، مع العلم اني احترم رأي كل من يرفضني إذا كان معتقداً انه على الحق، بل يجب علي ان ادافع عن حقهم في حرية التعبير عن رأيهم حتى ولو كانوا ضدي، ولكن وقفت بعض الفضائيات في ذلك الوقت وبعض السياسيين ضدي ونشروا الكثير من الاكاذيب واني كنت ابيع الوزارات بمبالغ خيالية، وحينما تم الاتصال بهذه الفضائيات وبعضها فضائيات مشهورة ومميزة (كقناة الشرقية) اجابوا بذلك المضمون (نحن نعتمد في تمويلنا على ما نأخذه من الاحزاب وقد واعدونا بعض الاحزاب بمبالغ كبير لإسقاطك في الاعلام ، فإذا كنت قادراً على تمويلنا فنحن مستعدون لكشف الحقائق والسكوت عن نشر الاكاذيب) والحقيقة فأني حتى لوكنت امتلك المبالغ الكبيرة فلست مستعداً ان اصرف دينار واحد من اجل الدعاية الاعلامية، لاني لست من طلاب السلطة ولن اسعى لها، ولكن سعيي كان ولا زال من اجل خدمة بلدي وخدمة المواطن الكريم .......
لقد مرت فترة ما يقارب السنة على حكومة السيد مصطفى الكاظمي والمواطن يمكنه تقييم الانجازات خلال هذه السنة سواء على مستوى القضاء على الفساد او توفير الامن او تقليص البطالة او القضاء على الفقر او توفير الخدمات او كشف قتلة المتظاهرين او تحسين الوضع الاقتصادي او تحقيق اي انجاز ملموس على الارض؛
وهنا استطيع ان اقول بكل ثقة انه مع استمرار نهج المحاصصة فلن يتحقق اي انجاز للنهوض بالبلد والخروج من هذه الازمة الخانقة وتقليل معاناة المواطنين وتحقيق التقدم والازدهار لبلدنا....
لقد قررت في يوم تقديمي الاعتذار عن رئاسة الوزراء ان لا اعود للعمل السياسي في العراق لأن مبادئي تتعارض بشكل كامل مع مبادئ اكثر المتصدين للعمل السياسي منذ عام 2003 حتى يومنا الحالي، ولكن وجدت بعد ذلك زخماً كبيراً غير متوقع واتصلت بي اعداد مهولة من كافة الفئات المستقلة ومن الاساتذة والمهنيين والعلماء والشيوخ بل اعداد غفيرة من شباب الحراك الشعبي من كافة المحافظات طالبين رجوعي الى واجهة العمل السياسي؛ وإن تحركي الآن ما هو إلا استجابة لهذه المطالب، فالبلد متجه نحو انهيار كامل ومخيف، ونتساءل هنا إن كانت هناك امكانية لإنقاذ البلد ومن هم المنقذون؟ الجواب اننا فقط نقدر على انقاذ البلد والقضاء على المفسدين بتظافر جهود كافة المخلصين من ابناء الشعب - المخلصين والطيبين والنزيهين والمحبين لبلدهم الذين يقدمون المصالح العامة للمواطنين على مصالحهم الخاصة، فهؤلاء وحدهم القادرون على النهوض بالبلد.
قريباً سينتهي بمشيئة الله عهد المفسدين فقد حان الوقت لاجتماع هؤلاء المخلصين للتحرك لإنقاذ البلد ولتقدمه وتطويره وازدهاره، وليس ذلك على الله ببعيد....
محمد توفيق علاوي
4 فبراير 2021
الطفولة في خطر ما لم نتدارك
- التفاصيل
- كتب بواسطة: سارة طالب السهيل
الطفل العربي يمثل ركن أصيل في اهتماماتي الشخصية والعملية، لانه يمثل المستقبل كله، ورعايته هو رعاية وأمان وازدهار لمستقبل عالمنا العربي .
ولكن للاسف فان الطفل العربي في عالمنا المعاصر يواجه تحديات شديدة القسوة لا يتحملها قلبه الصغير نتيجة تعرضه لانواع فتاكة من العنف المنزلي والمدرسي والمجتمعي والفضائي منها فالمشكلات العائلية تؤثر سلبيا على الطفل، خاصة في حالات الزواج الفاشل حيث يشعر الطفل بالضياع، ويتعرض للتعنيف من جانب أمه أو أبيه.
كما يتعرض الاطفال لأنواع من العنف النفسي، مثل الصراخ، والقسوة اللفظية، والكلامية، والتهديد عند التعامل مع الطفل، كما يتعرض لاشكال عديدة من العنف الجسدي، مثل الضرب القاسٍ والمبرح، والتعذيب باستخدام أدواتٍ مختلفةٍ محدثةً له آلاماً وجروحاً أحياناً كما يجري في بعض دور رعاية الايتام
وشهدت منطقتنا العربية اشكلا جديدة من العنف منذ احتلال امريكا للعراق مرور بثورات الربيع العربي بحيث اضطر الطفل للخروج للعمل كما في حالة العراق فتعرض لاشكال عديدة من الاستغلال ، كما جرى تجنيد الاطفال في اعمال الارهاب مثلما فعلت داعش باطفال العراق وسوريا .
انعكاسات العنف على الطفل
تتسبّب إساءة معاملة الأطفال في اصابتهم بمشكلات صحية ونفسية تكبر معهم في مراحل عمرهم المختلفة، حيث يؤدي تعرضهم للعنف في حدوث إجهاد يؤدي إلى عرقلة نماء الدماغ في المراحل الأولى. كما يمكن أن يؤدي الإجهاد الشديد إلى عرقلة نماء الجهازين العصبي والمناعي.
ونتيجة لذلك تزيد مخاطر تعرّض الأطفال الذين عانوا من إساءة المعاملة لمشاكل صحية سلوكية وجسدية ونفسية عند الكبر، ومنها اقتراف العنف أو الوقوع ضحيّة له؛ الاكتئاب؛ التدخين؛ السمنة؛ ويمكن أن تسهم إساءة معاملة الأطفال، من خلال تلك العواقب السلوكية والصحية النفسية، في التعرّض لأمراض القلب والسرطان والانتحار والعداوى المنقولة
ويواجه الطفل مشكلات عديدة من ضعف وسوء النظام التعليمي الذي يكرس للحفظ والتلقين دون ان يحرص على تنمية مهارات الطفل الفردية ويشجعه علي الابتكار، فالنظام التعلمي العربي يقدس حصول الطفل على اعلي الدرجات والحصول على الشهادة، دونما العناية بالجانب التربوي والمهاري والسلوكي الحضاري .
وتغفل النظم التعليمية في اوطاننا اهمية التربية الوجدانية وضرورة العناية بالجوانب العاطفية والشعورية التي تشكل الشخصية الإنسانية المتكاملة.
وتعتمد التربية الوجدانية علي محضن الاسرة الاساسي باعتبارها أهم مؤسسة اجتماعية تؤثر في شخصية الكائن الانسانى، برعايته له في فترة الطفولة التي تشكل فترة بناء وتأسيس ورسم شخصيته ولذلك فان الباحثين المتخصصين يرجعون الانحراف السلوكي و بين نشأتهم في الأسرة المفككة.
وتأتي المدرسة في المرتبة الثانية من حيث الأهمية في تنشئة الطفل، بتحملها تعليم الصغار بالتعاون مع الأسرة من أجل توسيع مدارك الطفل وجعله يحب المعرفة والتعليم، مما أدى إلى بروز المدرسة كمؤسسة اجتماعية مهمة، ، فيتعلم الطفل في المدرسة الحقوق والواجبات، وضبط الانفعالات، والتوفيق بين حاجته وحاجات الغير، ويتعلم التعاون، ويتعلم الانضباط السلوكي".
في اعتقادي ان النظام التعليمي لابد وان يشعرالطفل بالأمان والحب والجمال حتى يسهل علينا تعليمه القيم والمبادئ الخلقية في الاديان السماوية بأساليب غير مباشرة مثل: العدل، المساواة، الحرية، الحق، الإخاء. وتعليمه قيمة التسامح والانتماء الوطني ليشمل حبه واهتمامه أبناء وطنه كافة على اختلاف أديانهم, وتعليمه الانتماء الإنساني ليشعر بالأخوة الإنسانية تجاه أبناء آدم.
وتلعب حكاية القصص الخيالية لطفل ما قبل المدرسة دور مهم في اشباع رغبته في التخيل. مع ربط هذه القصص بالواقع الذي يعيشه من خلال الدراما الخلاقة والاجتماعية .
كما الطفل بحاجة شديدة الي مشاهدة ومعرفة نماذج مختلف من القدوة الحسنة للطفل ليقوم بملاحظتها وتقليدها .
ولعله من العوامل المهمة في تشكيل البناء الوجداني للاطفال هو تشجيعهم باستمرار فتشجيع الطفل يؤثر في نفسه تأثيراً طيباً, يحثه على بذل جهده لعمل التصرف المرغوب فيه, وتدل الدراسات أنه كلما كان ضبط سلوك الطفل وتوجيهه قائماً على أساس الحب والثواب أدى ذلك إلى اكتساب السلوك السوي بطريقة أفضل, ولا بد من مساعدة الطفل في تعلم حقه, ماله وما عليه, ما يصح علمه وما لا يصح, وذلك بصبر ودأب مع إشعار الأطفال بكرامتهم ومكانتهم, مقروناً بحسن الضبط والبعد عن التدليل.
ويدخل في تشكيل شخصية الطفل عنصر مهم هو تعليمهم وتعويدهم علي التعامل برفق ولين ، وذلك مصداقا لقول المصطفي ا صلى الله عليه وسلم: " إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف "
أدب الطفل
ويعتبر أدب الأطفال، بما يحويه من قصص وأشعار وحكايات، في صيغة كتاب أو مجلة أو شريط مسموع أو مشاهد، ميدانا هاما لتنمية قدرة الطفل على الإبداع وتنمية القدرات الابتكارية عندهم.
كما يعتبر وسيطا مناسبا في الجانب التربوي للتعليم، وتنمية القدرات الذهنية، واستقرار الجوانب النفسية لدى الطفل، كما انه يتيح للطفل الشعور بالرضا، والثقة بالنفس، وحب الحياة، والطموح للمستقبل، ويؤهله لكي يكون إنسانا ايجابيا في المجتمع.
غير الادب الموجه للطفل العربي ـ للاسف ـ لا يقدم له ما يناسب عقله ، وتسيطر عليه الترجمة بجانب انتشار الخرافة والمبالغات والخيال فيه ، وهو ما يتطلب من المجتمعات العربية تشجيع المبدعين في حقل الكتابة للاطفال ليبدع أدبا نابعا من مجتماعتهم ويعبر عن ثقافاتهم وقيمها الاصيلة.
تأثير الإعلام علي الطفل
يتعرض الطفل العربي لمخاطر انفجار البث الفضائي تحمل ثقافات بعيدة عن ثقافة مجتمعنا العربي ، وكثير منها يمثل ثقافة نفعية انتهازية ، مثل كارتون الشهير(توم وجيري) يعرض للطفل كيف يمكن للفأر الصغير الضعيف الخبيث أن ينتصر على القط الضخم بالخداع والحيل واستسهال الإيذاء والتسبب في الألم الشديد له، وتنزل كلمة النهاية على وجه الفأر وهو يتلذذ بقهر القط بدهائه وخبثه.
الانترنت سلاح ذو حدين
يلعب الانترنت دورا رئيسا في عالمنا الكوني المعاصر، خاصة لدي الصغار الذين وجدوا فيها علما افتراضيا يتفاعلون معه بكل الصور سواء تعلمهم او تثقيفهم او العابهم، لكنه أثر سلبيا علي النمو الفكري للصغار، حيث أفقدهم القدرة علي التمييز بين ماهو واقعي وماهو خيالي كما أنهم غير قادرين على تطبيق الواقع في العالم الافتراضي.
ويرى البروفيسور جيمس كولنز ـ وهو متخصص في الكتابة وطرق التدريس في جامعة نيويورك ـ أن العديد من المشكلات التعليمية تتمحور حول مدارس الأطفال التي تتيح الدخول للانترنت بشكل غير مقنن. فالطلاب الذين يعانون من مشاكل في مواد الكتابة يتخذون الغش وسيلة لعمل مشاريعهم البحثية. بجانب مشاكل الإملاء واستخدام عبارات عامية بسبب التعود على استخدامها في برامج التواصل. ولاتعد هذه التأثيرات السلبية تهديدا كبيرا على الأطفال فقط، بل على طلاب الجامعة أيضا.
كما يؤثر الانترنت علي النمو الاجتماعي للاطفال، فبرغم قد يدفع الصغار للتفاعل الإبداعي والثقافي مع الآخرين، غير ان سوء استخدامه يمنع الطفل من القيام بنشاطات اجتماعية، كالواجبات المدرسية والمنزلية ، وقضاء وقت مع الأسرة والأصدقاء.
كما انه قد ترعض لاشكال من العنف عند مشاهدته للمواقع العنيفة وقد يكتسب صفات سلبية عن نعرضه للانتنت مثل التحيز والكراهية والمواد الاباحية التي تعلم الصغار الجمس بطرق خاطئة وقد يتعرضون ايضا للتحرش .
وهذه القضية بالذات تتطلب رقابة اسرية ومجتمعية وحكومية لمنع مصادرالمواد الإباحية على شبكة الإنترنت، ووضع قوانين صارمة للحفاظ علي الطفولة من هذه الاعتداءات الغاشمة على براءتها ونموها العقلي والوجداني .
تأثير أزمات المنطقة على الاطفال
لا شك ان الازمات السياسية التي تمر بها العديد من دولنا العربية كما في العراق وسوريا واليمن وليبيا وما افرزته من حروب، دفع الاطفال العرب ثمنا باهظا لها من امانه النفسي نخاصة ممن انتقل منهم لمراكز الايواء او تم تهجيره لبلاد بعيدة مع اهله كلاجئين. وهي معاناة انسانية بكل المقاييس، لانها زرعت الخوف والقلق في نفوس الصغار .
وللاسف هذه الفئة من الاطفال ضحايا النزاع السياسي والعسكري يتأزمون كثيرا نتيجة هذه الكوراث ويمليون للعنف، ويتغير مزاجهم العام ويعانوني من فقدان للشهية، والشعور بعدم الاستقرار، واضطرابات النوم والقلق والكأبة والحزن والخوف، وعدم المبادرة والتردد، وتشتت الذهن وضعف الذاكرة والتذكر خاصة تلك الأمور المتعلقة بالدراسة والمدرسة، وتظهر لديهم أيضا مشاعر القلق والخوف ومشكلة التبول اللاإرادي.
واعتقد ان العالم العربي بحاجة شديدة لعلاج هؤلاء الصغارنفسيا واجتماعيا علي أيدي متخصصين بمعاونة الأسر لكي يعيدوا اليهم مشاعر الامان التي افتقدوها وعصفت بهم، والعمل علي زرع الافكار الايجابية في نفوسهم بشرح ان هذا العنف الدموي امر مؤقت وسيزول، مع شغل اوقات الصغار بالدراسة المحببة واللعب لتفريغ شحنات غضبهم وخوفهم بطرق مسلية .
سارة السهيل
محنة خلق القرآن!!
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. صادق السامرائي
إنطلقت (محنة خلق القرآن) في عصر المأمون سنة (212) هجرية، بإيحاء من فقيه المعتزلة (أحمد بن أبي داؤد)، الذي تمكن من عقله وهيمن على مداركه، فجعل القول بخلق القرآن من أهم أركان حكمه، ويُقتل من لا يقبل به.
إستمرت هذه المحنة في السنوات الستة الأخيرة من خلافة المأمون، وزمن المعتصم ومعظم فترة حكم الواثق، أي أنها تواصلت على مدى عقدين (212 - 232)، فتسببت بقتل العديد من أعلام الأمة.
إنها مسألة رأي وتأويل، فما هي علاقة الدولة بالموضوع؟
وتأويل الخلق ضعيف، ويستند على الآية : "إنا جعلناه قرآنا عربية " الزخرف: 3، وجعلناه أي صيّرناه، مما يعني خلقناه، ففي تأويلهم كل مجعول مخلوق، وإن صح أو لم يصح، ما هي دواعي إتخاذها منهجا للحكم؟
القول بخلق القرآن تعني أن القرآن قابل للتأويل، والقول بغيره لا يجيز الخروج عن النص القرآني، وهذا صراع فكري لا يزال قائما في واقع المسلمين، والمأمون كان يميل إلى إعمال العقل في كل شيئ، وتأثرَ بالفلسفة اليونانية، وأمعنَ بالدراسة والتعلم وتقريب العلماء ومحاورتهم، ولهذا مال إلى مناهج ورؤى المعتزلة، وتمكن منه فقيهم البارز (أحمد بن أبي داؤد)، وصار يأتمر برأيه، وينفذ إرادته، وقد إستغل هذه الفرصة لفرض رؤيته في الحكم، فابتدع فكرة (خلق القرآن)، ليجبر الفقهاء والممثلين للدين بإتباع مدرسة المعتزلة، وهي فكرة ذكية مختصرة بكلمتين.
وولعُ المأمون بالفكرة كان غريبا وقويا وحازما، وما تردد بسفك دم من يرفضها من أعلام الأمة وفقهائها، وهذا سلوك يستحق وقفة طويلة وإمعان بدراسة شخصية المأمون التي يبدو أنها تعاني من عاهات مزمنة.
وكانت وصيته للمعتصم عندما عهد له بولاية العهد واضحة وصريحة، بضرورة إتباع (إبن أبي داؤد) والإذعان لإرادته، وتنفيذ أوامره بمسألة (خلق القرآن) وإمتحان الناس بها.
و(إبن أبي داؤد) تسبب بمقتل عشرات الفقهاء، وتحكم بثلاثة خلفاء لتمرير نواياه الخفية، التي روّعت فقهاء المسلمين وأعلامهم في كل مكان.
وقدم مثالا واضحا على العدوانية والإنتقامية، والتعبير عن العاهات النفسية والسلوكية بأساليب دينية، وكأنه التقي الورع النقي المنزه من السوء والبهتان، وهو عدواني متبرقع بلباس الدين، الذي خدع به خلفاء تمكن من وعي ما في نفوسهم من أهواء ورغبات.
فكانت وحشيته تتألق عندما يوضع الفقهاء على النطع، ويقترح بدم بارد على الخليفة بضرب أعناقهم بالسيف، لأنهم كفرة وزنادقة لعدم إقرارهم بخلق القرآن، فينفذون أوامره!!
ويبدو أن لكل فترة حكم قميص، فمنذ (قميص عثمان) التي إبتكره (معاوية بن أبي سفيان)، وحتى اليوم، هناك قميص لكل نظام حكم، وخلق القرآن قميص إتخذه الخلفاء الثلاثة وسيلة للتحكم بمصير العباد، وإذعانهم لإرادتهم المطلقة.
وفي تأريخ الخلفاء للسيوطي: " قُتِلَ أحمد بن نصر الخزاعي، وكان من أهل الحديث، قائما بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أحضره من بغداد إلى سامرا مقيدا وسأله عن القرآن، فقال: ليس بمخلوق، وعن الرؤية في القيامة، قال كذا جاءت الرواية، وروى له الحديث، فقال له الواثق: نكذب، فقال للواثق: بل تكذب أنت، فقال: ويحك يُرى كما يُرى المحدود المتجسم، ويحويه المكان ويحضره الناظر؟
إنما كفرت برب صفته ما تقولون فيه؟
فقال جماعة من فقهاء المعتزلة الذين حوله: هو حلال الضرب، فدعا بالسيف، وقال: إن قمت إليه فلا يقومَن أحد معي، فأني أحتسب خطواتي إلى هذا الكافر، الذي يعبد ربا لا نعبده ولا نعرفه بالصفة التي وصفه بها، ثم أمر بالنطع فأُجلِس عليه وهو مقيّد، فمشى إليه، وضرب عنقه، وأمر بحمل رأسه إلى بغداد، فصلب بها، وصلبت جثته في سر من رأى، واستمر ذلك ستة سنين إلى أن تولى المتوكل، فأنزله ودفنه. (فهل يُعقل أن تبقى جثة معلقة لستة سنوات؟!!).
ولما صُلبَ كُتبتْ ورقة وعلقت في أذنه فيها :هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك، دعاه عبد الله الأمام الهارون إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه، فأبى إلا المعاندة، فعجله الله إلى ناره."
هذا فقيه ثقافته لا تضاهى يؤتى به ليقف أمام خليفة قليل الثقافة، ومشحون بالإنفعالية ومُحشد من فقهاء المعتزلة لمناصرة مسألة (خلق القرآن) وقتل مَن لا يقبلها، ويوهمونه بالمعرفة والقدرة على المحاججة، وأنه على حق، ويحِق له أن يكّفر مَن يكّفر ويقتل مَن يقتل، وهو كالدمية في أيديهم، ويحللون له ضرب عنق الفقيه، الذي عليه أن يفتخر به ويعزه، بدلا من إذلاله وقتله.
وما فعله به وإبقائه لجثته ورأسه معروضة على الناس، إنما يشير أن (خلق القرآن) قميص للترعيب والتخويف وتأمين الإذعان المطلق، فالمشكلة في تأكيد فاعلية (الأمر والطاعة)، فلا رأي ولا قول غير ما يهذرب به السلطان، ومَن حوله من المتسولين الميتين الضمائر والفاقدين للقيم والأخلاق، والذين يهمهم ما يكسبونه من العطايا والجاه.
واليوم هناك العشرات من أمثال (إبن أبي داؤد) في مجتمعاتنا التي تعيث فيها العمائم فسادا وسفكا للدماء، وما أكثرهم وهم يتصرفون من وراء حجاب، فكل سلوك بشع مسوّغ بقتاوى المبرقَعين بدين!!
ولعنة الله على كل أفّاكٍ مُتاجرٍ بدين!!
وأتمنى أن يدحض ماتقدم قلم مختص من العارفين!!
د. صادق السامرائي
علاقة مكسيم گوركي بالثورة البلشفية وما كان مخفيا حولها
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. مصدق الحبيب
تعرّف الاديب مكسيم گوركي على الثائر الشيوعي فلاديمير لينين واصبح صديقه القريب عام 1902، أي قبل اندلاع الثورة البلشفية بخمسة عشر عاما. كما كان قريبا من ستالين بعد وفاة لينين، على الاقل كما أظهرته الصور الكثيرة لهما معا وما عرف عن دور گوركي الرئيس في توجيه الثقافة السوفيتية بعد الثورة. تقول الكاتبة يولاندا ديلگادو: برغم مراسيم التشييع الرسمية المهيبة فان مكسيم گوركي کان قد مات كمداً، ممزق المشاعر بين مبادئه الانسانية العليا وبين ولاءه للنظام الذي أعاده من المنفى وكرمه (.Russia Beyond, July 14, 2014)
وكان راديو موسكو قد قطع البث في 18 حزيران عام 1936 ليذيع نبأ وفاة مكسيم گوركي الذي وصفه بأنه " أديب روسي عظيم، صديق العمال وحليف الثورة الشيوعية". وقد أصر ستالين أن يكون في مقدمة من حملوا نعش الاديب على الاكتاف، وأمر أن يوضع في الساحة الحمراء ليلقي الناس عليه تحية الوداع. وقد قدر عدد من اشتركوا في التشييع و أولئك الذين داروا على نعشه بنصف مليون مواطن سوفيتي. ودفنت رفاته تحت جدار الكرملين جنبا الى جنب مع كبار المسؤولين والشخصيات المهمة. تقول ديلگادو ان ذلك كان خلافا لما ورد في وصيته وهو دفنه الى جوار ابنه في مقبرة نوفوديفيجي.
ولد گوركي في نزني نوفگورد في الامبراطورية الروسية عام 1868، وكان اسمه الحقيقي ألكسي ماكسموفچ بشكوف. عمل في صباه وشبابه اعمالا عديدة من أجل العيش وطاف في أرجاء الامبراطورية من اجل العمل الاحسن والعيش الافضل، مما جعله عارفا بطبيعة وطنه وخبيرا متآلفا مع شعبه بكل طبقاته الاجتماعية، وهو ما انعكس جليا على اعماله الروائية ومقالاته. اصبح ماركسيا في مقتبل العمر ودأب على معارضة حكم القيصر وقد ساعدته على تركيز ذلك في دواخله علاقته العقائدية بلينين وبگدانوف وعلاقاته الفكرية العميقة مع الاديبين تولستوي وتشيخوف والفنان التشكيلي ايليا ربن والفنان المسرحي ستانسلافسكي وآخرين من رجال الثقافة المعروفين. اعتقل واودع السجن بعد ثورة 1905 ولم يطلق سراحه الا بعد حملة استنكار اوربية شاملة اشترك فيها رجال ونساء العلم والثقافة منهم العالمة مدام كوري والنحات رودان والاديب اناتول فرانس. وفي عام 1906 نفي الى أوربا فأمضى ثمان سنوات منفيا في كابري الايطالية، ولم يعد الى روسيا إلا عام 1914عندما أصدرت سلطات القيصر العفو العام. كتب الكثير من المقالات اضافة الى قصصه ورواياته المعروفة واهمها ستة وعشرون رجلا وفتاة 1899، نذير العاصفة أو اغنية المشاغب 1901، الحضيض 1902، بين الناس 1904، اطفال الشمس 1905، الأم 1906، وطفولتي 1913.
بعد اندلاع الثورة البلشفية عام 1917 رأى گوركي مالم يكن في الحسبان. رأى الثورة تتحول الى فوضى والثوريين يتحولون الى طغاة قساة وكأنهم رموا بمبادئهم التی عرفها في سلة المهملات. كان غاضبا بالذات من لينين وتروتسكي، وكان قد كتب بشجاعة:
" السلطة هي التي سممت لينين وتروتسكي بسمها الزؤام فتراهم قد سحقوا حقوق الناس لمجرد تحقيق احلامهم الثورية.. انهم مستعدون ان يصادروا الحريات ويقمعوا رفاقهم ويطلقون حملات الاعتقالات الواسعة لأي سبب .. أما لينين فلايعرف حياة العمال بحقيقتها كما يدعي لانه لم يعش معهم ". وكانت جريدة گوركي "الحياة الجديدة" قد اخضعت للرقابة الشديدة. أما الحلقات التي كان يكتبها بعنوان "افكار خارج وقتها" فقد منعت من النشر، ولم يكشف عنها النقاب الا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. ومع انتقاداته الصريحة فقد كان گوركي يسرع الى استرحام لينين والقادة الاخرين كلما اعتقلت السلطة أحدا من زملائه الادباء والفنانين.
وفي مرة من تلك المرات اعتقل الشاعر نيكولاي گملوف عام 1921، وهو شخصية لا يطيقها گوركي، لكن ذلك لم يثنه عن ان يهرع الى موسكو مسترحما لينين مرة اخرى وراجيا اطلاق سراح الشاعر الذي كانت تهمته الثرثرة وامتداح ايام القيصر ووصفها بانها كانت الافضل. وبالفعل استطاع گوركي ان يحصل على أمر باطلاق سراح الشاعر من لينين، ولكن حين وصل بالامر الى الجهات المعنية قالوا له لقد تم اعدام هذا السجين. وفي نفس العام وجه گوركي مناشدة الى احرار العالم يرجوهم فيها انقاذ البلاد التي ضربتها المجاعة التي سميت Povolzhye Famine والتي راح ضحيتها خمسة ملايين نسمة. وبالطبع لم يلق ذلك قبول لينين الذي كان منزعجا بالاصل من استرحامات گوركي وتدخلاته بامور السلطة وانتقاداته الجارحة المستمرة! ولذا فقد قام باستدعاء گوركي وطلب منه ان يحزم حقائبه ويغادر البلاد، على الاقل ليريح اعصابه ويهتم بصحته!! وهكذا أذعن گوركي للامر واصطحب عائلته الى برلين كبداية لمنفاه الثاني. وهناك سمع خبر احالة 12 من القادة الشيوعيين الكبار الى المحاكمة فسارع الى شجبها علنيا وكتب الى رئيس الوزراء ألكسي رايكوف مترجيا اياه ان يخبر تروتسكي بأنهم لو قاموا باعدام هؤلاء الرفاق لكان ذلك قتلا مع سبق الاصرار والترصد. وقد اغضبت كلماته تروتسكي ولينين معاً، فوصفاه بأنه "أديب ساذج لايفهم في السياسة شيئا". بعد أن امضى گوركي مدة قصيرة في برلين غادرها الى عدة مدن اوربية فاستقر به المقام في سورنتو ايطاليا التي بقي فيها الى ان دعاه ستالين للعودة الى الوطن.
بعد وفاة لينين عام 1924 واستلام ستالين للسلطة، فكر ستالين باعادة الاعتبار لگوركي والاستفادة منه في صياغة الحياة الثقافية الجديدة للثورة بحكم تأثيره البالغ في الوسط الثقافي وحجم الثقة الممنوحة له من هذا الوسط، محليا وعالميا. في عام 1932 استجاب گوركي للدعوات الملحة والواعدة التي تلقاها من ستالين والتي يحثه فيها بالعودة الى وطنه وشعبه. وفعلا، فقد استقبله ستالين بحفاوة واغدق عليه تكريمات ومناصب مهمة. فانتُخب رئيسا لاتحاد الادباء السوفيت، وفي بيته وتحت اشرافه تأسست مدرسة الواقعية الاشتراكية في الادب والفن لتبدأ حياة ثقافية اممية جديدة، وسميت بإسمه العديد من الاماكن وانهالت عليه التكريمات والحفاوات فغطس الى اذنيه في كنف النظام وبشكل لا رجعة من بعده، وكان عليه وبحكم موقعه ان يظهر مع ستالين في كل النشاطات المهمة ومنها ما آلمه الاشتراك فيها كما حصل في تكليفه بقيادة حملة حفر قناة البحر الابيض التي استخدم النظام في انجازها آلافا من سجناء الگولاگ ولقى المئات منهم حتفه في عمل السخرة المضني ذلك.
صيف 1934 كان موعد انعقاد المؤتمر الاول لاتحاد الادباء ولكن قبل موعد الانعقاد توفي ابن گوركي، بشكوف بعد ان عاد من حفلة سكر باذخة وصارخة اصطحبه الیها وزير الداخلية ياگودا مما اثار اللغط والاسئلة والشكوك، فكان هذا الحدث صفعة بليغة لگوركي حالت دون استعداده المناسب للمؤتمر فطلب تأجيله الى الخريف. ويبدو ان موت ابنه الشاب التراجيدي والاسئلة التي اخذت تحوم حوله ، كان الحدث الذي ايقظ گوركي وجعله يواجه دواخله فيراها ترفض الدور الذي تقمصه دون قناعة ودون حماس حقيقي! وهنا بدأ البرود مع ستالين يدب شيئا فشيئا ، خاصة وانه اعتذر عن كتابة مذكرات ستالين الذي كلفه بها، يضاف الى ذلك ان صحة گوركي تردت سراعا في ذلك الوقت جراء اصابته بمرض السل الرئوي.
في هذه الاثناء أراد النظام تنفيذ ما خطط له مسبقا وهو تبني المؤتمر العالمي الاول للادباء الذي اراده ستالين ان ينعقد في باريس وأمر بانفاق مبالغ طائلة من اجل تحقيقه وأراد گوركي ان يترأسه، وهو الاديب الذي اكتسب وقتذاك شهرة عالمية ورشح خمس مرات لنيل جائزة نوبل في الادب. لكن گوركي خيب آمال ستالين بانسحابه من المؤتمر قبيل انعقاده. وهنا اصيب ستالين بغضب هستيري فقال انه لايقبل ذلك مطلقا وان مرض گوركي عبارة عن حجة باطلة. وهنا اعتقل گوركي في بيته ووضع تحت المراقبة على مدارالساعة وقطعت كل الاتصالات معه بما في ذلك امكانية اتصاله بأي جهة في الخارج . يقول المؤرخ الروسي أركادي فاكسبرك " ان وفاة گوركي لم تكن بسبب السكتة القلبية كما ثـُبت في شهادة الوفاة، انما مات مسموما وبأمر من ستالين، ودماغه مايزال محفوظا الى اليوم في مختبرات المعهد العصبي الروسي في موسكو، وبالامكان تشريحه والوقوف على الحقيقة المخفية".
ا. د. مصدق الحبيب
الريحاني: الفكرة السياسية للثورة والاعتدال (3)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. ميثم الجنابي
اعتقد الريحاني، بأن تغلغل السياسة والرؤية السياسية المتطرفة للأمور هو سبب التفاؤل المفرط والتشاؤم المفرط. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن "المتشائمون والمتفائلون في الشرق لا يتجاوزون في نظراتهم ومساعيه الحدود السياسية"[1]. وهو حكم دقيق ينطلق من فكرة الريحاني نفسها عن أن الإصلاح هو تدرج في ارتقاء من المستوى الطبيعي إلى المستوى الاجتماعي ومنه إلى الأخلاقي، أي عملية مترابطة ومعقدة تفترض التوازن والتجانس بين مكونات التطور والرقي. لهذا حذر من مغبة التطرف وتجاهل قيم الإصلاح الحقيقي. وتوصل هنا إلى أحد أهم استنتاجاته الفكرية العميقة القائلة، بأنه "إذا اختل التوازن في المنفعة ومالت كفة الميزان فهناك السيادة الفاسدة أجنبية كانت أم وطنية، من القوي كانت أم من الضعيف، وهناك الاستيلاء والاغتصاب والظلم والاستبداد"[2].
من هذا المنطلق يمكن فهم موقفه من تقييم ثورة العشرين في العراق، التي وجد فيها تسرعا. إذ اعتقد حينذاك بأفضلية وجود الإنجليز المؤقت في العراق انطلاقا من أن العراق تحمل السيطرة الأجنبية (من فرس وأتراك) حوالي الف سنة، وبإمكانه أن يتحمل ذلك سنة أخرى! لاسيما وأن المعتدلون والمتطرفون يدركون بأن الاستقلال لا يعطى مجانا. وأن الانصياع والاندفاع وراء رجال الدين مهما كان إخلاصهم، لا ثبات فيه، لأنهم عرضة للتغير السريع. وليست الثورة في الواقع سوى نتاج مغامرات رجال السياسة وتأييد القبائل، وليست نتاج تطور اجتماعي وإدراك حقيقي للتقدم. لهذا أدت إلى صنع أحد أسباب التخريب الكبيرة، ألا وهو تأسيسها لشرعية استخدام السلاح وتقاليد الاقتتال عوضا عن دفع أولوية صراع الفكر وحاكميته في حل الخلافات. ولعل القدر الإيجابي الوحيد في ثورة العشرين في العراق، أنها وحّدت العراق في مدنه وقراه وقواه[3]. ولم يعن ذلك انتقاده للثورة كما هي أو انتقاصه منها. على العكس. فقد قيّم الريحاني الثورة عاليا، بل اعتبرها ضرورة تاريخية ووجد فيها "كلمة الله مجسدة في الأشياء"[4]. بل وجد تجليها في كل شيء، بما في ذلك في الطبيعة من زلازل وبراكين وسيول وطوفان. ومن هذا المنطلق توصل إلى أن تاريخ الإنسان هو "هزات هائلة تسمى بالثورات والحروب"[5]، أي انه أعطى لها بعدا ناموسيا (طبيعيا)، واعتبرها حلقة ضرورية في كسر مسار التاريخ "السيئ". من هنا استنتاجه القائل، بأن الثورة هي "مطهر الأمة وقد ثارت على ما فيها من الظلم والفساد، ومطهر الإنسان وقد ثار على ما في نفسه من قديم التقاليد والخرافات"، وبالتالي فأن من لا يثور على ما في نفسه لا ينجو من العبودية، ولا حق له بأن يشكو من العبودية[6]. واعتبر نفسه لهذا الغرض إنسانا ثوريا. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه ثوري لا تهمه الكعبة أكثر مما يهمه الدستور[7]. ولكنه "ثوري روحي سلاحه الكلمة". وأكد في إحدى مقالاته على أنه كان متخصصا في البداية بحياة روبسبير وكتب سلسلة مقالات عن "زعيم الثورة المعصوم" لجريدة شبلي شميل[8]. وهي "عصمة" وجدها في كل تاريخ الثورة الفرنسية والثورة البلشفية بالنسبة لتاريخ العالم ككل. وأورد بهذا الصدد الحكاية التي تروي قصة الملك الذي أمر باختصار حجم الكتاب الكبير الذي دوّن له حسب طلبه لأجل معرفة تاريخ الشعوب كلها. وعندما اختصره للمرة الأولى رده إليه ثانية وأمر باختصاره مرة أخرى. وفي كل مرة بعد اختصاره يأمر باختصار إلى أن شارف على الموت. عندها اختصره له الحكيم بعبارة واحدة:"لقد تنفسوا وتنافسوا وتعرفوا وماتوا"! وعلق على هذه الحكاية، قائلا بأن "في الأمة الفرنسية من نتائج الثورة العظيمة ما تبقى آثاره حية في ترقي الأمم"[9]. ونفس الشيء قاله عن الثورة البلشفية، التي "زرعت بذور الإصلاح البشري الأكبر، بحيث وجد فيها أسلوبا لتطهير الشرق من أمراضه واستثارته صوب الترقي"[10]. واعتقد بأن الثورة البلشفية أو ما اسماه أحيانا "بالكارثة الحمراء" تغطي برياحها "على كل الأضاليل الروحية والمدنية والسياسية والاقتصادية التي قيدت الإنسانية منذ البدء حتى الآن"[11].
فالثورة بالنسبة للريحاني هي ليست فعلا مرتبطا بالبطش. ولهذا عارض فكرة كارليل، الذي وجد فيها فعلا لأجل الخبز. ورد عليه قائلا، بأن المؤرخ الذي يعتقد "بالصعود المتواصل والترقي الدائم فهو لا شك يرى أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"[12]، أي أن للثورة أبعادا تتجاوز المتطلبات المادية المباشرة. فالثورة هي "كلمة الله المجّسدة في الأرض"، أي أنها معنى البديل الحق. لهذا نراه يقول، بأن قوة الفوضى زمن الثورات يتبعها نظام جديد مبني على الخير والعدل هو أفضل من المظالم المستمرة[13]. لاسيما وأن الثورات في الأمم هي "نوع من العدل البشري الذي يمده من جهة عدل الإنسان، ومن جهة أخرى عدل الله"[14]. وليس عدل الإنسان وعدل الله هنا سوى الصيغة "التقليدية" لوحدة العدل كفضيلة (أخلاقية) والارتقاء (كحاجة طبيعية). وفي نهاية المطاف يرتبطان بحرية الإنسان وإرادة الخير باعتباره تحررا. وهي فكرة نعثر عليها واضحة في بحثه الذي قدمه عن (الشاهنامة) وفي تمثيليته (وفاء الزمان)، التي جعل من الثورة فيها أسلوبا للتحرر من الظلم كما جعل من الفعل الإنساني شرطا ضروريا للتحرر. ومن ثم ليس الإبداع الحق للحرية سوى الفعل الذي لا يحدده شيئا غير الحق. وليس مصادفة أن يشيد الريحاني بالخوارج ويعتبر نفسه خارجيا، على الأقل في ميدان اللغة والأدب[15]. وأن يفسر فكرتهم عن أنه "لا حكم إلا لله" بمعناها الصحيح، معتبرا إياها تمثلا وتمثيلا للحق المطلق، أي حق الجماعة (المجتمع). بل اعتبرها كلمة عظيمة لم ينضج آنذاك المجتمع ولا الآن لتمثل حقيقتها كما هي. وذلك لأن تنفيذها يفترض ارتقاء المجتمع إلى مصاف الحق[16]. كما وجد في المسيح اشتراكيا مبشرا بالحرية والعدل والمساواة وعدوا للمسيحية المعاصرة والكنيسة، لأنهما على طرفي نقيض. إذ لو ظهر المسيح الآن لخاطب المسيحية والكنيسة قائلا: أين عهد الإيمان؟![17].
لم تكن آراء الريحاني المبعثرة عن الثورة في مقالاته وتعليقاته وتمثيلياته ويومياته سوى الوجدان الذي تحسس وتلمس معنى الانتفاضة على الواقع القائم والرد إلى الرذيلة المنتشرة بوجد الفيلة ونفيها لمضاداتها. لهذا اعتبر طريقة الشخصية المثلى في الثورة هي إنجاز الثورة الفكرية. من هنا فكرته عما اسماه بأولوية الثورة الأدبية على الثورة السياسية، وأولوية الثورة الروحية على الثورة الاجتماعية[18]. ولهذا السبب وجد في الفلسفة الرواقية "أصلح الفلسفات"، لأنها "تعلمّ الواجب والإرادة والهمّة"[19]. وفي هذا تكمن رؤيته للدنيوية (العلمانية) والمجتمع المدني باعتبارهما ميدان تجلي الثورة السياسية والاجتماعية. وبهذا المعنى أيضا يمكن فهم آراءه عن ضرورة إصلاح الدين وتنقيته من خلال "تخليصه من السياسة". ووجد في ذلك الشرط الضروري للإصلاح، الذي لا تتم بدونه النهضة الفكرية والروحية الحقيقية[20]. ومن هنا شعاره "كن من أنصار الدعوة الإصلاحية التي تنير بنور الوطنية"[21]. وليس مصادفة أن ينتقد بهذا المعنى كل من الأفغاني وسليم سركيس اللذين اشتركا في اللهجة الحرة والغيرة الشرقية والجرأة، إلا أنهما لم يتجردا من التقاليد الدينية، الأول من الإسلام والثاني من النصرانية. واعتبر ذلك ضعفا[22].
إن الشيء الوحيد الذي يجمع آراء الريحاني المتضاربة هو وجدانيتها الصادقة، أي ليس فقدان النظام الفكري فيها سوى الصيغة التي تتفاعل مع متغيرات الوجود. أما هذه المتغيرات فهي الوحيدة التي تستحق الانتباه والتأمل والتحليل وتحديد المواقف. وهي وجدانية أرادت جمع كل شيء من اجل قول كل شيء. لهذا ظلت عائمة مع ما هو قادر على العوم، وغائصة مع ما هو قادر على الغوص، ومتحركة مع ما هو حي، وجامدة مع ما هو ساكن. كما احتوت على أنواع المتضادات دون أن ترتقي إلى مصاف الوحدة. ولم يكن ذلك معزولا عن رغبتها الوجدانية الصادقة في الوحدة. بل يمكن القول، بأن الوحدة هي علة التنوع والمتضادات في إبداع الريحاني وهاجسه الخفي. وقد أجاب مرة على سؤال عن ماهية ذاته، قائلا "من الناحية العنصرية هي سامية آرية (آشورية-إيرانية-يونانية-عربية)، ومن الناحية الدينية هي بعلية-ادونيسية-مسيحية-إسلامية-صوفية، ومن الناحية الأدبية هي شرقية-غربية، ومن الناحية السياسية هي أرستقراطية (شرقية بالإرادة) وديمقراطية (غربية بسيطة)"[23]. وهو خليط يمكن عقله والقبول به، باعتباره أمرا "طبيعيا" من الناحية التاريخية والثقافية "للنشوء والارتقاء" الفردي للريحاني. ولكنه خليط ظل "متجزئ" في المواقف، أي انه لم يتحول إلى نظام معقول له مبادئه المستقلة. وهي نقيصة لها فضيلة في ميدان المعركة الدائرة آنذاك في العالم العربي بشكل عام وفي سوريا الطبيعية بشكل خاص، من اجل "الارتقاء" عن حضيض التجزئة والطائفية.
لقد أراد الريحاني القول، بأن الوجود "الطبيعي" للعالم يفترض انطلاقه من المستوى "الطبيعي"، والإرتقاء إلى مصاف المستوى الأدبي والروحي. وهو ارتقاء لا يمكن تجسيده دون ما اسماه بالتساهل، حيث وجد فيه مبدأ ضروريا ومطلوبا في كل أمور الحياة[24]. إذ أنه "أساس التمدن وحجر زاوية الجامعة المدنية"[25]. وفي هذا يكمن سرّ معاداته للحزبية والسياسة المبتذلة، باعتبارهما الأساليب الأشد تدميرا للكينونة العربية ووحدتها الداخلية. واستغرب أن يكون ما اسماه بالأمة السورية التي لا يتجاوز عددها ثلاثة ملايين أن يكون فيها خمسة عشر حزبا وملة. وجعل من شعر ابن عربي
لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان
شعاره العملي في محاربة التجزئة والحزبية والطائفية بمختلف ألوانها وأشكالها ومستوياتها. وردد في أكثر من مكان آراء ابن عربي عن أن قلبه يتسع للأديان جميعا، لأن دينه هو دين الحب، فكيفما توجهت ركائبه فالحب دينه وإيمانه. وهو رد يستند إلى ملاحظاته ودراسته لتاريخ سوريا، باعتباره تاريخ النكبات بسبب العصبية والقبلية والجهوية والأسرية والطائفية. ووجد في العصبية سبب سقوط الدولة العربية، التي طابقها مع المرحلة الأموية فقط. واعتقد بأنها عصبية ظالمة وليست عصبية عربية جامعة للكلّ[26]. وتجربة التاريخ العربي تكشف عن انه حتى الدين التوحيدي (الإسلام) لم يستطع القضاء على عصبيات العرب من قبلية وجهوية ومذهبية. وجعله ذلك يصف سوريا ببابل العصبيات وبابل الأديان[27]. وهي تسمية يهودية توراتية تفتقد لما يسعى إليه الريحاني نفسه، لأن بابل هي ليست رمزا للعصبية والتجزئة، بل رمز القدرة الكبيرة على ردم عصبيات اليهود وأمثالهم. إلا أن معناها هنا يقوم في ذم التجزئة. وقدم نفسه نموذجا لتجاوزها، عندا كتب يقول، بأنه لبناني المولد عربي اللسان، ماروني مسيحي، روحه في العالم العربي ككل. وتوصل إلى هذا الإدراك في مجرى رحلته المديدة إلى أمريكا ورجوعه منها إلى مسقط رأسه. ذلك يعني أن العصبية التي نشأت معه عرضة للتغير والتبدل والارتقاء، شأن كل شيء آخر. من هنا اعتقاده بإمكانية حل العصبية في سوريا والعالم العربي ككل. أما حلها فيفترض القضاء عليها. إذ العصبية بحد ذاتها ليست حكما أزليا، بل عرضة للتغير. ومن ثم فهي عملية تحوير وتحرير. وحلها الحقيقي يقوم عبر استبدالها بفكرة القومية أو الوطنية السليمة. والتجربة التاريخية لسوريا تكشف عن أن "الأقليات" الدينية والطائفية والمذهبية وما شابه ذلك عادة ما تكون "طعما للسائد من الحكام" و"مطية للمظالم" و"سيفا بيد الغزاة" وفريسة للمنتفعين". كما أنها كانت في الأحوال جميعا ويلا على نفسها وعلى الأكثرية في البلاد[28]. ولعل أشد هذه الأشكال إثارة في التعصب هو التعصب الديني والطائفي. بحيث وجد فيه "آفة الشرق الكبرى". من هنا استنتاجه الراديكالي القائل، بأنه "إذا كان الكفر هو السبيل الوحيد للقضاء على هذا التعصب، فلا بأس من أن يكون الكفر لازما للشرق"[29]. (يتبع....).
ا. د. ميثم الجنابي
.........................
[1] المصدر السابق، ج2، ص137.
[2] المصدر السابق، ج1، ص353.
[3] أمين الريحاني: ملوك العرب، 2، ص335-336.
[4] أمين الريحاني: بذور الزارعين، ص38.
[5] أمين الريحاني، التطرف والإصلاح، ص24.
[6] المصدر السابق، ص24.
[7] أمين الريحاني: الريحانيات، ج2، ص129.
[8] أمين الريحاني: وجوه شرقية وغربية، ص146.
[9] المصدر السابق، ص56.
[10] أمين الريحاني: التطرف والإصلاح، ص19.
[11] المصدر السابق، ص23.
[12] أمين الريحاني: وجوه غربية وشرقية، ص52.
[13] أمين الريحاني: التطرف والإصلاح، ص19.
[14] أمين الريحاني: وجوه غربية وشرقية، ص19.
[15] أمين الريحاني: الريحانيات، ج2، ص154.
[16] المصدر السابق، ج2، ص133-134.
[17] المصدر الساق، ج2، ص142-143.
[18] أمين الريحاني: الطرف والإصلاح، ص31-32.
[19] أمين الريحاني: الريحانيات، ج1، ص183.
[20] المصدر السابق، ج2، ص130.
[21] أمين الريحاني: التطرف والإصلاح، ص15.
[22] أمين الريحاني: وجوه شرقية وغربية، ص111-112.
[23] أمين الريحاني: الريحانيات، ج1، ص10.
[24] المصدر الساق، ج1، ص15-16.
[25] المصدر السابق، ج1، ص25.
[26] أمين الريحاني: النكبات، ص74.
[27] المصدر السابق، ص59.
[28] المصدر السابق، ص5.
[29] أمين الريحاني: الريحانيات، ج2، ص15.
التاريخ والحروب المتغيرة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. محمود محمد علي
منذ بدء التاريخ والبشر يعيشون في صراعات وحروب متتالية راح ضحيتها ملايين البشر، فعلي مدي أكثر من ثلاثة آلاف عام شهد العالم حروباً ساهمت بشكل كبير في تشكيل خريطة العالم، وتطورت خلال أشكال الحروب والتي ظلت تعتمد في مجملها علي الجيوش النظامية للدول، ووفقاً للدراسات العسكرية، فقد تم تقسيم الحروب إلي عدة أجيال.
ورغم أن تلك الحروب في تغير مستمر، إلا أنه يمكن تقسيمهم إلي حروب الجيل الأول، وهي الحرب التقليدية بين جيوش نظامية وعلي أرض معارك محددة ومواجهة مباشرة بين الدول، وهذا النوع من الحروب يعتمد علي التكتيك المباشر في استخدام السلاح بصورة مباشرة وصفوف من القوات. وقد حكم هذا النوع صراعات القرن التاسع عشر، ويعتبر هو الجيل المؤسس للتكتيكات والتقاليد العسكرية .ثم ظهرت حروب الجيل الثاني قبل الحرب العالمية الأولي، وقد شهدت تلك الفترة استخدام القوة النارية الشاملة متمثلة في نيران المدفعية غير المباشرة، وأصبح الهدف هو استنزاف العدو، كما لُخصت العقيدة القتالية الجديدة في أن “المدفعية تقهر والمشاة تحتل”، وفيها تم الحفاظ علي ثقافة النظام العسكري والتراتبية التي يفرضها ، كما تم التركيز علي التعليمات، والإجراءات، والقواعد العسكرية، وظهرت الأولوية في طاعة الأوامر عن الارتجال، حتي دشنت الحرب العالمية جيلاً ثالثاً من الحروب؛ حيث أطلق الجيش الألماني الاستراتيجيات التي عرفت بالحرب الخاطفة، أو حرب المناورات، وقد بنيت العقيدة القتالية علي أسس السرعة، وعنصر المفاجأة، والتشويش الذهني والمادي للعدو، وبالتالي انتهت فكرة الحرب كسباق دفع بين الطرفين .
ولم تصمت أصوت مدافع الحرب العالمية الثانية في ألمانيا والمحيط الهادي، حتي بدأت الحرب الباردة من خلال صراع غير مباشر بين القوتين العظميين المتبقيتين في العالم : الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، والتي شهدت مواجهة غير مباشرة في ألمانيا، والشرق الأوسط، وفيتنام، وأفغانستان، وكوبا، وكوريا، وغيرها من الأماكن .
وقد استمرت تلك الحرب منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتي نهاية القرن العشرين، حين أفاق العالم يوم التاسع من نوفمبر عام 1989 علي لحظة سقوط “سور برلين” ، وكذلك تفكيك حلف وارسو وتساقط دوله واحدة والأخرى، ثم انهيار الاتحاد السوفيتي بقوة الشارع المدني معلناً بذلك عن بداية ظهور ما عرف بعد ذلك باسم “الجيل الرابع من الحروب Fourth-Generation Warfare ” ، ويعتمد هذا النوع الملحوظ علي “مبدأ اللامركزية”؛ حيث تصطدم فيه مجموعات غير نظامية بكل الوسائل التكنولوجية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعسكرية، بهدف إجبار القوة العسكرية النظامية للدولة علي التخلي عن سياساتها وأهدافها الاستراتيجية، فتنتقل الحرب في هذه المرحلة من صراع مسلح بين قوتين عسكريتين نظاميتين إلي صراع بين دولة وبين مجموعات غير نظامية، معتمدة في ذلك علي استراتيجية الهدم من الداخل، وتوسيع الخلافات الموجودة، والدفع بالدولة نحو التآكل البطيء، والانهيار الداخلي، والتفتيت إلي الحد الذي يسمح للسيطرة عليها، وفرض واقع جديد علي نظامها الحاكم، مع تأزيمه وتشويه صورته .
إن موضوع حروب الجيل الرابع يثير من الجدل والأسئلة أكثر مما يؤدي إلي اتفاق أو توافق أو يوفر إجابات؛ حيث يصعب الفصل بين أجيال الحروب المختلفة، لأنها لا تأتي بصورة متعاقبة؛ بمعني أن الجيل الجديد من الحروب لا يكون إذن حتماً بانتهاء الجيل السابق، فكل جيل من الحروب جاء ليعالج سلبيات الجيل السابق والاستفادة من دروسه وخبراته.
ولكن ما سوف نتحدث عنه في ثنايا هذا المقال يقع تحت مسمي الجيل الرابع من الحروب، يمثل نوعية جديدة وصورة مختلفة عن أجيال الحروب المتعارف عليها، إلا أنها لا تلغي وجود الحروب التقليدية واستمرار الحروب غير المتماثلة بأشكالها وأبعادها المختلفة .
إن حروب الجيل الرابع والتي أشعلتها الولايات المتحدة بمساعدة بعض الدول الغربية، كانت تمثل ناتجاً طبيعياً لظروف استراتيجية وفرتها الثورة العلمية في الاتصالات والمعلومات والتقدم في أدوات إدارة العلاقات الدولية، ومتطلبات الحد من التدخل العسكري المباشر، حتي لا تتعرض القوات المسلحة لهذه الدول لخسائر مادية، أو بشرية، أو عسكرية، فهي إذن حرب وسائل أخري تسمح بتحقيق الأهداف الاستراتيجية والعسكرية بأقل قدر من التكلفة والخسائر، إنها حرب تدار علي الدولة المستهدفة في كل المجالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإعلامية، والثقافية، والعسكرية، والأمنية، فهي لا تقتصر علي المسرح التقليدي للحرب بأبعاده البرية، والبحرية، والجوية.
كما أن حروب الجيل الرابع تختلف بصورة جذرية عن الجيل المعروف للحروب، سواء من حيث الهدف منها، أو أدوات تنفيذها أو طرق إدارتها؛ إذ كانت الجيوش تقود الحرب بصورة مباشرة وفق أهداف سياسية ، فإن في حرب الجيل الرابع يتراجع دور القوات المسلحة، ليحل مكانه قوات أخري تستطيع إدارة مثل هذه الحروب عن بعد ، إنها حرب بالوكالة وبالقيادة من خلف الكواليس تعمل علي إسقاط الدولة المستهدفة دون حاجة إلي التدخل العسكري الخارجي المباشر.
إن الصفة التي تميز حروب الجيل الرابع هي الطبيعة الغامضة للصراع ، خاصة مع عدم وضوح الفرق بين حالة الحرب والسلم ، ولا بالقانون الدولي، ولا بالقانون الإنساني، ولا تحكمها قوانين الصراع المسلح، ولا بأخلاقيات الحرب، فهي ليست حرباً بين جيوش نظامية تشارك فيها الدول وتخضع فيها للقوانين والمعاهدات والاتفاقيات الدولية .
إنها الحرب يجب أن نكون مستعدين لها لتحقيق النصر فيها خاصة ، وإنها المواجهة مع خصم يريد أن يدمر النظام والقانون والنسيج الاجتماعي، إنه يريد أن يبسط نفوذه وإرادته على الدول . إن ما يحدث في المنطقة في الوقت الراهن من قيام المجموعات والتنظيمات الإرهابية بأعمال لم يعهدها العالم من قبل لهو دليل على أننا في مرحلة جديدة من مرحلة حروب الجيل الرابع؛ حيث أصبحت الجماعات الإرهابية تسيطر علي شريحة واسعة من الأرض، في ظل غياب النظام والقانون وتمتلك الموارد الاقتصادية، التي تساعدها على زيادة نفوذها ونقل عملياتها عبر الحدود الدولية، وفي هذا الصدد يجب علينا أن نستخلص الدروس والعبر المستفادة من الماضي، لمواجهة هذا الخطر ومنح تهديده لسيادة الدول، حيث إن المجتمع الدولي يتحمل مسؤولياته في دعم هذه الدول وعدم تركها تصبح قابلة للانهيار يتحكم فيها التنظيمات والجماعات الإرهابية.
لذا يجب علينا التفكير في الكيفية التي تتعامل بها القوات في هذه البيئة وما القدرات الجديدة اللازمة لهذا النوع من بيئة القتال، وكيف نستطيع أن نحمي بيئتنا المعلوماتية؟، وهل يمكن أن تتطور نظرية حروب الجيل الرابع؟ ، وهل سوف تستمر الجماعات والتنظيمات التي هي الخصم في هذه الحرب؟، أو أننا يمكن أن نصبح أمام حرب هجينة تكون مزيجاً من الحروب التقليدية وحروب الجيل الرابع؟، وما يتطلبه هذا من تكاتف المجتمع الدولي لتجنب هذه التهديدات والمخاطر في ضوء استمرار التنظيمات والجماعات غير الرسمية في استقلال البيئة العالمية المنفتحة وتطوير أساليبها واستقلال مجالاتها في التقنية والاتصالات وغيرها من الوسائل التي يمكن الحصول عليها هنا للتأثير على أسلوب حياتنا .
ومن هنا يتوجب علينا أن نتصدى لهم ليس باستخدام الطرق التقليدية فقط ، بل أن نطور عقائدنا و استراتيجيتنا علي التركيز علي الانطلاق من قدرات لا متماثلة لمواجهة هذا الخطر .
ونحن علي يقين بأننا سوف نتمكن من الإجابة على كيف يمكن للدول ردع وحماية وهزيمة عدد يستخدم استراتيجيات وتكتيكات حروب الجيل الرابع دون التأثير علي حريات الناس وأسلوب حياتهم؟.
د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط.
القرآن والعقل!!
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. صادق السامرائي
"عندما كنا عقلاء بلغنا ناصية السماء"
ثورة الإسلام الجوهرية عقلية، وهي واضحة في آيات قرآنية، وهذا ما يميزه عن غيره من الأديان، فهو دين يحث على إعمال العقل.
وفي القرآن العديد من الآيات التي تشير إلى ضرورة، بل وفريضة إعمال العقل، وإنّ أول كلمة نادى بها الإسلام هي "إقرأ"، أي فكّر وتعقل.
الإسلام توجه نحو العقل، وفي هذا تكمن أعظم معجزاته وآياته.
وهذه بعض الآيات الواردة في القرآن التي تحث على التعقل، وأن البشر لكي يكون إنسانا عليه بعقله وإعماله في حياته، فهو هبة الله إليه وبه فضله على خلقه.
"وهو الذي يحي ويميت وله إختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون" المؤمنون: 80
"...والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآياتٍ لقوم يعقلون" البقرة:164
"...فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا يعقلون" البقرة: 76
"...فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون" يونس: 16
"لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون" الأنبياء: 10
"وهو الذي يحي ويميت وله إختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون" المؤمنون:80
"...وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون" القصص: 60
"وبالليل أفلا تعقلون" الصافات: 138
"...فيحي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون" الروم:24
"....تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون" الروم: 28
"ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون" يس: 68
"...وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون" الجاثية:5
"...ذلك وصاكم به لعلكم تعقلون" الأنعام:151
"كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون" البقرة: 242
"...ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون" يوسف: 109
"....تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك أنهم قوم لا يعقلون" الحشر: 14
"أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون" البقرة: 44
"...صم بكم عمي فهم لا يعقلون" البقرة: 171
"...يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون" المائدة:103
"إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون" الأنفال: 22
"وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون" يونس:100
"...إلا من بعده أفلا تعقلون" آل عمران: 65
"...ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون" النحل:67
"أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها....."الحج:46
"....والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون"النحل: 12
"ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون" العنكبوت: 35
"...قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون"العنكبوت: 63
"...فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون" النور: 61
"...ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون" غافر: 67
"...ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون" الرعد:4
"وإذا ناديتم إلى الصلاة إتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون" المائدة:58
"...وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون" الأنعام:32
"...إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون" هود:51
"أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون" الأنبياء:67
"إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون" يوسف:2
"...قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون" الحديد:17
وفي الحديث:
"قِوام المرء عقله"
"لا مال أعوَدُ من العقل"
"دواءُ القلب العقل"
لست معنيا بتفسير ما ورد من آيات، ولكن أتساءل : أين المسلم من عقله؟!!
السائد في تعاليم أدعياء الإسلام من المعممين والملتحين والمطررين وغيرهم، أنهم يعطلون العقل، ويريدون الناس تتبعهم، ويوهمونهم بأنهم لا يعرفون الدين، وعليهم أن يتخذوا من أحد أدعياء الدين قدوة لهم ويمتثلون بالأمر والطاعة له.
فالمسلم وفقا لرؤيتهم دمية أو روبوت يحركونه تبعا لأهوائهم، وأتحداكم إذا جئتم بمعمم، ولم تكتشفوا فيه بأنه يرى أنه يعلم ويدري، بل الأعلم، وغيره جهلاء في الدين، وهم أعلم منه ألف مرة ومرة.
هكذا هي عقليتهم ونفسيتهم النرجسية الأنانية المتعالية المشحونة بالعاهات، ويحسبون أنفسهم يمثلون الدين، ومن حولهم رعاع، وهم الرعاع ولكن لا يعلمون!!
د. صادق السامرائي
النفاثة الزرقاء
- التفاصيل
- كتب بواسطة: بدر ثاني
بقلم: ماريا تممينغ
ترجمة وتجرير: بدر ثاني
رصدت محطة الفضاء الدولية نوعًا غريبًا من البرق المقلوب رأسًا على عقب يسمى طائرة زرقاء (مصورة) تنطلق من سحابة رعدية إلى طبقة الستراتوسفير في عام 2019.
تنطلق النفاثات الزرقاء إلى الأعلى من السحب الرعدية إلى طبقة الستراتوسفير، لتصل إلى ارتفاعات تصل إلى حوالي 50 كيلومترًا في أقل من ثانية. في حين أن البرق العادي يثير مزيجًا من الغازات في الغلاف الجوي السفلي ليتوهج باللون الأبيض، فإن النفاثات الزرقاء تثير في الغالب نيتروجين الستراتوسفير لخلق لونها الأزرق المميز.
شوهدت هذه النفاثات من الأرض والطائرات لسنوات، ولكن من الصعب معرفة كيف تتشكل دون أن ترتفع فوق السحاب. الآن، رصدت الأجهزة الموجودة في محطة الفضاء الدولية نفاثة زرقاء تنبثق من انفجار قصير للغاية ولامع للكهرباء بالقرب من قمة سحابة رعدية، حسبما أفاد باحثون على الإنترنت في 20 يناير في مجلة Nature.
يقول فيكتور باسكو-عالم فيزياء الفضاء في ولاية بنسلفانيا، والذي لم يشارك في العمل-: يعد فهم النفاثات الزرقاء وظواهر الغلاف الجوي العلوي الأخرى المتعلقة بالعواصف الرعدية، مثل العفاريت والجان، أمرًا مهمًا لأن هذه الأحداث يمكن أن تؤثر في كيفية انتقال موجات الراديو عبر الهواء، خاصة تأثيرها المحتمل على تقنيات الاتصال.
لاحظت الكاميرات وأجهزة استشعار الضوء التي تسمى مقاييس الضوء في محطة الفضاء أن النفاثة الزرقاء تتدفق في عاصفة فوق المحيط الهادئ، بالقرب من جزيرة ناورو، في فبراير 2019. يقول تورستن نوبيرت-عالم فيزياء الغلاف الجوي بجامعة التقنية في الدنمارك "كل شيء يبدأ باعتقادي وكأنه انفجار أزرق". ويضيف: "كان ذلك الانفجار وميضًا مدته 10 ميكروثانية من الضوء الأزرق الساطع بالقرب من أعلى السحابة، على ارتفاع حوالي 16 كيلومترًا. فمن النقطة المضيئة تلك، انطلقت نفاثة زرقاء إلى طبقة الستراتوسفير، لتصل إلى ارتفاع حوالي 52 كيلومترًا على مدى عدة مئات من الميلي ثانية. "
ويقول نيوبرت أيضا: "إن الشرارة التي ولّدت النفاثة الزرقاء ربما كانت نوعًا خاصًا من التفريغ الكهربائي قصير المدى داخل السحابة الرعدية. وتتشكل صواعق البرق العادية عن طريق التفريغ بين مناطق سحابة مشحونة بشكل معاكس - أو سحابة وأرض - تفصل بينهما عدة كيلومترات. كما يقول نيوبرت: " ولكن المزج المضطرب العالي في السحابة قد يجلب مناطق مشحونة معاكسة على بعد كيلومتر واحد من بعضها البعض، مما ينتج عنه دفعات قصيرة جدًا ولكن قوية من التيار الكهربائي. رأى الباحثون أدلة على مثل هذه التصريفات عالية الطاقة وقصيرة المدى في نبضات موجات الراديو من العواصف الرعدية المكتشفة بواسطة الهوائيات الأرضية.
.....................
رابط المقال:
Space station detectors spot the source of weird ‘blue jet’ lightning | Science News
إنها طرابلس.. مدينة العلم والعلماء
- التفاصيل
- كتب بواسطة: نبيل عرابي
إستناداً إلى مقدمة كتابها (عُلماء واعلام طرابلس في القرنين الخامس عشر والسادس عشر)، الصادر عن المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس لبنان، 2018، تتحدث الدكتورة نعمة شعراني عن مكانة طرابلس منذ 800 عام، مؤكدة أنها لم تأخذ لقب "مدينة العلم والعلماء" من فراغ، بالرغم من أنها لم تكن تمثّل في ذلك الوقت إلا حيّاً متواضعاً من أحيائها الآن، لكنها كانت تضم في تلك المرحلة 360 مدرسة، إضافة إلى مكتبة دار العلم التي كانت أكبر مكتبة في وقتها، وتضم3 ملايين مخطوطاً، وتضيف المؤلفة أن طرابلس قد اتخذت أهمية كبرى منذ الفتوح الاسلامية لبلاد الشام عام 636م، حيث بدأت المدينة بالنمو والتوسّع حتى أصبحت في العصرين العباسيين الثالث والرابع عاصمة إدارية وفكرية مرموقة، كما اتخذها الفاطميون عاصمة.
وأضحت طرابلس منتدى للأدباء والشعراء والعلماء الذين كانوا يقصدون حكّامها لما حظوا به عندهم من عناية ورعاية وتشجيع، فقد قصدها الشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري، كما زارها المتنبي والرحالة الشهير ابن بطوطة، حيث أفرد لها فصلاً خاصاً في كتابه المعروف برحلة ابن بطوطة.
وأشارت باهتمام إلى أن الفيحاء أخذت دوراً كبيراً في تنوير الناشئة، وإن كانت السمة البارزة لإنتاج علمائها هي العلوم الدينية والشرعية والفقهية إضافة إلى علوم العربية من نحو وصرف وشعر، منوّهة إلى أن ذلك لم يحُل دون ظهور محاولات جادة لدى أبنائها دفعتهم للغوص في مواضيع أخرى، ككتاباتهم في المباحث الحضارية والتاريخية وإصدار الصحف وتأسيس المطابع والقيام بترجمة الكتب الأجنبية والإقدام على التأليف المسرحي.. وإنشاء المدارس والمكتبات والمجلات والجمعيات الأدبية.
وفي الخاتمة، اعتبرت المؤلّفة أن مضمون الكتاب شكّل بعض الأمور المضيئة من أبناء وزوار طرابلس الذين أعطوا بجدارة مدينة الفيحاء لقبها التاريخي " مدينة العلم والعلماء " بعد أن صنعوا تاريخ هذه الحضارة بأقلامهم، آملةً أن يُكمل الأجيال بعدهم مسيرة العلم والمعرفة، ليعود لطرابلس بريقها الثقافي الذي عرفته على مر العصور.
وبخلاصة سريعة يعتبر هذا الكتاب عصارة جهد لا يستهان به، فقد ضمّ بين دفتيه، وعلى مساحة 224 صفحة، استطاعت الدكتورة شعراني من خلاله تقديم نتاج تاريخي، بأسلوب الاختصار عن قرابة 240 عالماً وعلماً، في فصلين الاول عن القرن الخامس عشر، والثاني عن القرن السادس عشر، وفقاً لتسلسل الحروف الابجدية، مستعينة ب 36 مرجعاً عربياً ومرجعاً غربياً واحداً، ليفيد منه الباحث والمهتم بالشأن التاريخي والثقافي لقلب الشمال اللبناني النابض : طرابلس الفيحاء.
نبيل عرابي
طلاسيم الكتابة بعد أن تناولت الجرعة الأولى من التطعيم ضد "كوفيد 19"
- التفاصيل
- كتب بواسطة: محسن الأكرمين
قد نغرد خارج السرب كتابة، قد لا نحتمي بأكياس أمان تقينا من حوادث الفضح والتبيين، وحتى من أعراض تلقيح (كوفيد 19) الثانوية. لكنا قد نلتزم بأدبيات الكتابة، حين تحضر الذاكرة، وقد نجعل منها مفاتيح لفك طلاسيم الأبواب العاجية لما بعد التطعيم الجماعي. هي الكتابة التي لا نلقي على أحد بها ورود المدح ولا تنتنة التزيين، وقد لا نفسد على أحد متعته في قيادة القصبة /الحصان، ونحن نقول بفرح ماكر: (مبروك العــود).
هي ذاكرة المواقف التي علمتنا طينة الرجال بالفرز والترميز الذهبي، هي الحكايات التي حدثتنا أن من نون النسوة تبدأ الحياة وتنتهي بالحمق. قد نتنطع كتابة غير ما مرة بالنقد والتعرية الفاضحة، لكنا نبقي الوفاء للقيم حضورا، نبقي اللفظة دالا ويحمل جذره اللغوي دون تأويل مفزع.
من سر الكتابة ما بعد تطعيم جسمي باللقاح، أن الخط الذي أكتب عليه لا يحمل علامات التشوير بمنتهى (منعرج غائر)، أن هذا الخط جوانبه غير مؤهلة لسماع التصفيق والتهليل. من شظف الكتابة الحادث (ما بعد التلقيح) حين لم أستطع تحريك حروفي أمامي بالطواعية والتحكم، وتصبح من الرعية المحظية. إنها حروف أمتلكها بالنكرة والتعريف ولا تمييز بينها. أصاحبها، أتخاصم معها، أتجادل مع رموزها المكونة لفعل أمر (قف) و(صه).
غير ما مرة أطلق الكتابة وأتنحى جانبا، لكن في ليلة التطعيم الأولى جربت الكتابة خوفا عن ذاكرتي من المحو. الليلة أنظر إلى حروفي الماكرة بالذكاء العاطفي. أتنحى جانبا، وأنا أتابعها تنفض التحكم الذي أمارسه عليها عنوة من شدة الاحتراز. أتابعها حين أجدها ترقص على نغمات ثقافة كلمات نظيفة، وكلمات المغنية الشعبية خربوشة (الزيدية )ضد القايد عيسى بن عمر العبدي. ألاحظها أنها ماكرة في الذكاء الصناعي وتريد التحرر من مقاسات التباعد الاجتماعي، وعيش أيام من الحمق والدلالة الغبية حتى داخل حاسوبي الخاص.
في كل صبح تسألني حروفي: هل نام تفكيري أم لا؟ حقيقة أكذب عليها، وأحمد الله بكرة وعشية من حكمة النوم والرقاد بالمنومات الاصطناعية، ومن تناولي لجرعة التلقيح ضد (كوفيد 19). تسألني: عن سر الغباء الذي يمكن أن أمارسه في حياتي الفردية والجماعية؟ حينها أجد نفسي مكتوفة أجنحة الجواب، ولا أقدر أن أنافق تلك الحروف المتنطعة نحو رمز الحرية الديمقراطية، وحب عيش الكرامة. فلم تكن أجوبتي عن الغباء غير الفطري، إلا بتشبيهه بسؤال الفلسفة الأولى : ما المعرفة؟ نعم الغباء والذكاء نعمة من الله مثل الصمت والكلام المباح بالمسؤولية، مثل الحمق النووي المفزع، مثل تسبيق حرف الميم في دلالة لغتنا الدارجة العالمة (سبق الميم ترتاح).
اليوم لم أمتحن تفكيري لأجل صياغة دالة للغباء، لأنه الآن يمتلكني. وأحب أن أجاريه الليلة كي لا يفسد عني نومي المريح وأنا في أول نشوة ليلة من التطعيم ضد الوباء. اليوم أنادي كل الحروف لتصطف تحت يافطة فعل الأمر، مع تحميلها حروف الزيادة والتعدي بالقسوة. حينها وجدتها في تسلية مفرحة ولا تطيق رزانة القول، ولا التحديق الفاضح. بحثت عن حروفي اللازمة وغير المتعدية فوجدتها تعيش متعة حلم التجريب بين الغباء والذكاء و نشوة التطعيم المناعي الصناعي. الآن لم أحفل بدا من تدمير حروفي كافة برأس الممحاة، لم ألازمها بالرؤية والتمحيص بل تركت لها الفرصة لكي ترتاح من ضغط قلمي العلوي بتحريكها نحو النقد والتجريح، وبتت الليلة أتحسس من جسمي، هل تقبل التمنيع ضد وباء (كوفيد 19)؟.
محسن الأكرمين
لماذا التعتيم الأوربي تجاه حضارات الشرق القديم؟
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. محمود محمد علي
يهدف هذا المقال إلى الكشف عن قضية إنسانية شائكة للغاية وخلافية إلى أقصى حد، ألا وهى قضية ” التعتيم الأوربي تجاه حضارات الشرق القديم”، وقد أصبحت مثل هذا المقال ضرورياً وملحاً، بسبب الخلط والفوضى الفكرية والأخلاقية التى تحيط بهذه القضية. فمعظم المؤرخين والعلماء والفلاسفة الغربيين يحاولون تعتيم هذه القضية، من خلال الغرس فى الأذهان، أن اليونانى هو مبدع الفكر والعلم والأخلاق والاجتماع والسياسة والفن والرياضيات والفلك والطب والمنطق والفلسفة…وغيرها. وكأن الحضارة اليونانية خلق عبقرى أصيل جاء على غير منوال، لم تسبقها حضارات أخرى، ولم تتصل بها مصر القديمة ولا كنعان ولا بابل ولا أشور ولا فارس ولا الهند ولا الصين….بل هى فى زعمهم ـ أوربية النشأة والتطور.
أصحاب هذا الرأي هم دعاة ” المعجزة العلمية اليونانية ” الذين يسعون بكل ما أوتوا من قوة إلى أن يمجدوا الحضارة اليونانية – حضارة أجدادهم، فتحدثوا طويلاً عن ذلك الإنجاز الهائل الذى حققه اليونانيون فجأة دون أى مقدمات تذكر، ودون أن يكونوا مدينين لأى شعب أو حضارة سابقة عليهم.
وهؤلاء هم أكثر الناس إيماناً بأن أقدم الحضارات كانت مزدهرة وناضجة كل النضج بالقياس إلى عصرها، ومن ثم فقد كان من الضروري أن ترتكز فى نهضتها على أساس من العلم.
إلا أن هذا العلم فى نظر دعاة المعجزة العلمية اليونانية كان يعتمد على الخبرة والتجربة المتوارثة؛ وأن تلك الحضارات كانت تكتفى بالبحث عن الفائدة العملية أو التصرف الناجح دون سعى إلى حب الاستطلاع الهادف إلى معرفة أسباب الظواهر، كما أن تلك الحضارات لم تملك نفس القدر من البراعة فى التحليل العقلى ” النظرى” لهذه المعارف .
أما الحضارة التى توصلت إلى هذه المعرفة النظرية، والتى توافرت للإنسان فيها القدرة التحليلية التى تتيح له كشف المبدأ العام من وراء كل تطبيق عملى فهى الحضارة اليونانية .
فمثلاً قالوا أن المصريين القدماء قد استخدموا الرياضيات فى مسح الأرض وشق الترع وغيرها من أغراض عملية، استعانوا بها وبالميكانيكا على إقامة الأهرمات التى مازالت تتحدى الزمن، أقاموها لحفظ الجثث المحنطة، اعتقادا منهم فى خلود النفس وحساب اليوم الآخر، وتوسلوا بعلم الكيمياء فى تحنيط الجثث واستخراج العطور والألوان، وغير هذا من أغراض دينية. ولكن اليونان هم الذين أنشأوا هذه العلوم فى صورتها النظرية الخالصة، وتجاوزوا فى الرياضيات مرحلة الأمثلة الفردية المحسوسة إلى مرحلة التعاريف والبراهين، فتوصلوا إلى القوانين والنظريات التي تستند إلى البرهان العقلي .
وكذلك كان الحال فى علم الميكانيكا، كان اليونان فيما يقول دعاة المعجزة العلمية اليونانية – أول من عالج دراساته بروح علمية؛ إذ كان لأرسطو الفضل فى إنشاء هذا العلم النظري، وإن جانبه التوفيق فى صيغة عبارته ؛ وأكمل الاسكندريون من أمثال ” أرشميدس” (ت212ق.م) ممن قننوا المعلومات الميكانيكية لأول مرة فى تاريخ العلم .
وكان البابليون والكلدانيون قد سبقوا إلى مشاهدة الكواكب ورصدها، فأنشأوا بهذا علم الفلك العملى، ولكنهم كانوا مسوقين بأغراض تنجيمية أو عملية ( كمعرفة فصول الزراعة ومواسم التجارة ونحوها ) .
أما اليونانيون فهم الذين أقاموا علم الفلك النظرى فى رصد الكواكب لمعرفة ” القوانين ” ووضع ” النظريات ” التي تفسر سيرها وتعلل ظهورها واختفائها. ويرجع الفضل الأكبر فى هذا إلى ” بطليموس” الإسكندري ( فى القرن الثانى ) بكتابه” المجسطى” الذى ظل المرجع الرئيسي حتى مطلع العصر الحديث.
ومثل هذا يقال فى العلوم التى أدت إليها فى الشرق بواعث دينية أو أغراض عملية؛ عالجها اليونان بروح علمية، حتى نشأت علوماً نظرية تستند إلى البرهان العقلى وتقوم على” تقنين ” المعلومات بغير باعث ديني أو عملي.
ولم يكتف دعاة ” المعجزة العلمية اليونانية ” بذلك؛ بل خرج منهم فريق يرى أن التنقيب فى أطلال الماضي للتوصل إلى حضارات مزدهرة قبل اليونان ليس سوى مضيعة للوقت إزاء الطابع الملح للمشاكل القائمة، وهو موقف عفا عليه الزمن، وعلينا أن نقطع صلتنا بكل هذا الماضي المشوش والهمجي واللحاق بالعالم الحديث الذى تندفع تقنياته بسرعة الالكترونات، والعالم فى طريقه إلى التوحد. وعلينا أن نكون فى طليعة التقدم، وسيحل العلم فى القريب العاجل كافة المشاكل الكبرى، بحيث تصبح تلك المشاكل المحلية والثانوية غير ذات موضوع. ولا مجال لأن تكون هناك لغات تعبر عن ثقافة ما سوى غير ثقافة أوربا التى أثبتت أصلاً قدرتها على ذلك، مما يعنى أنها قادرة على نقل الفكر العلمي الحديث، وأنها عالمية فعلاً.
وفي كتابنا « الأصول الشرقية للعلم اليوناني والذي نشرناه في عام 1997م من خلال مؤسسة "دار عين" المصرية، والذي يدور حول نشأة العلم في مصر القديمة، ووادي الرافدين، والصن، والهند، وتهافت نظرية المعجزة اليونانية، حيث طرحنا من خلاله عدة قضايا نظرية تدور حول مشكلة الأصول الشرقية للعلم الغربي، جاعلين من مصر علماً على الشرق، ومن اليونان علماً على الغرب، من حيث إن مصر هي أقدم الحضارات في الشرق، وفي العالم كله بالتالي، أما اليونان فهي كما يقال أكثر البلاد الأوروبية أوروبية، وخلص من هذا الطرح إلى بعض النتائج المبدئية، التي يمكن أن تصلح مرتكزاً، لا لمسألة الأصول المصرية للفلسفة اليونانية فحسب، بل لمسألة الأصول الشرقية للفلسفة الغربية.
كما بينا في هذا الكتاب أيضاً بأن نظرية المعجزة اليونانية التي استند إليها مؤرخو الفلسفة الغربية، وبعض من يجاريهم في الشرق، لتأكيد انفراد الحضارة الغربية وحدها بالفلسفة، نظرية متهافتة؛ لأنها لا تقوم على أي أساس علمي من أي نوع، بل تقوم على أسس وأفكار ثبت أنها ليست من العلم في شيء، كفكرة التمييز العنصري، أو التفرقة بين الأجناس، هذه الفكرة التي واكبت المد الاستعماري الغربي، منذ بداية الانقلاب الصناعي في أوروبا، وظلت محتفظة بقدرتها على خدمة سائر الأغراض غير النبيلة، منذ ذلك التاريخ إلى اليوم.
كذلك أوضحنا في هذا الكتاب أيضا أن المعجزة اليونانية تقوم على مبادئ وأفكار مغلوطة، تقع في صميم الفلسفة نفسها، كفكرة الفصل بين النظر والعمل مثلاً، فصلاً يراد منه إلصاق العمل بالشرق، والنظر باليونان، ومثل هذه الفلسفات تتجاهل وحدة الخبرة البشرية من ناحية، وجدل العمل والنظر من ناحية أخرى، وتتجاهل أيضاً النزعتين العملية والنظرية، لا تختص واحدة منهما بالشرق والأخرى بالغرب، بل هما موزعتان هنا وهناك، وفق معايير تعود في مجملها إلى الظروف التاريخية، وما يرتبط بها من عوامل ثقافية واجتماعية.
د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط