رغوة الزمكان (1)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. جواد بشارة
قراءة في كتاب جون بيير لومينيت "رغوة الزمكان L’écume de l’espace-temps
النماذج القياسية للجسيمات وعلم الكونيات وتعدد الأكوان ومعضلة ماقبل البغ بانغ الانفجار العظيم.
كل ما تحتاج لمعرفته حول الكون مع جان بيير لومينيت، عالم الفيزياء الفلكية الشهير، جان بيير لومينيت، يتحدث إلينا عن الكواكب الخارجية والطاقة المظلمة والثقوب السوداء خلال هذه المقابلة وخلال العرض الموجز لمحتويات كتابه الأخير رغوة الزمكان الصادر حديثاً في أكتوبر 2020.أود التنويه إلى أن جون بيير لومينيت يحتل مكانة مرموقة في الوسط العلمي إلا أنه لايتردد في أن يقرن نفسه بالفطاحل من العلماء من باب تقليل أهمية الآخرين لإبراز نفسه وتسويق أهميته ومكانته ودوره. فلقد كرس ثلاث فصول للعبقري البريطاني الراحل ستيفن هوكينغ ليخلص إلا أن شهرته أكبر من منجزه العلمي ونفس الشيء مع علماء آخرين من قامة روجر بينروز الذي انتقد بشدة وقلل من أهمية ومصداقية نظريته الجديدة عن الكون المتطابق الدوري ccc وكذلك الاستخفاف بأعمدة نظرية الأوتار الفائقة وبالنظرية نفسها من أمثال برايان غرين ونقد نظرية الأكوان المتعددة التي تحدث عنها باسهاب ماكس تيغمارك وأورليان بارو وكرسا لها كتابين هما الكون الرياضياتي للأول والكون التعددي للثاني.
لمدة 35 عامًا تقريبًا، سعى أينشتاين إلى نظرية موحدة للمادة، والزمكان، ودمج قوة الجاذبية بالقوة الكهرومغناطيسية، والقادرة أيضًا على تفسير الظواهر الكمومية. منذ ما يقرب من 50 عامًا، تم استئناف هذا البحث ذي الآثار الفلسفية العميقة. في أحدث أعماله، يخبرنا عالم الفيزياء الفلكية الشهير جان بيير لومينيت عن المسارات السبعة التي تم استكشافها حول هذا الموضوع للوصول إلى نظرية الجاذبية الكمومية.
موضوع جائزة نوبل في الفيزياء لهذا العام والذي كان مثار اهتمام القائمين على هذه الجائزة هو العلماء الذين ساهموا باكتشاف وتطوير وتصوير الثقوب السوداء. تخيل العلماء النظريون الثقوب السوداء قبل عقود من عمليات الرصد والمراقبة والملاحظات الفلكية التي جعلت وجودها ممكنًا. أصبح الوجود ملموسًا بشكل أكبر بفضل تقدمين حديثين. من ناحية، منذ عام 2015، تم الكشف عن موجات الجاذبية المنبعثة أثناء اندماج ثقبين أسودين، مع تسجيل عشرات من هذه الأحداث حتى الآن. من ناحية أخرى، قبل بضعة أشهر، أنتجت شبكة من التلسكوبات الراديوية الصورة الأولى لثقب أسود: الصورة الضخمة الهائلة، التي تحتل مركز المجرة M87.
وهكذا تدخل الملاحظات الفلكية لهذه الأجسام حقبة جديدة. وسوف يقدمون معلومات طال انتظارها عن هذه النجوم الضخمة والمضغوطة لدرجة أن جاذبيتها تمنع الضوء من الهروب منها. وهو حدث منتظر للغاية على وجه الخصوص لأن الثقوب السوداء تشكل صعوبة كبيرة للمنظرين وجون بيير لومينيت من أحد أهم المتخصصين بالثقوب السوداء. في عام 1974، قدر الباحث البريطاني الشهير ستيفن هوكينغ أن الثقب الأسود يجب أن يصدر إشعاعًا ضعيفًا، وبالتالي فإن هذا "التبخر" ينتهي، بعد وقت طويل جدًا، بجعله يختفي. لكن هذه الظاهرة تعني أن المعلومات المتعلقة بالمادة التي يبتلعها النجم ستضيع إلى الأبد، وهذا يتعارض مع قوانين فيزياء الكموم.
كيف يتم حل هذه المفارقة؟ يقدم الفيزيائي الأمريكي ستيفن غيدينغز دراسة السبل الرئيسية التي تم النظر فيها. يتضمن البعض منها مراجعة المفاهيم الأساسية للفيزياء. لفرز ذلك، ستكون الملاحظات المستقبلية حاسمة. علاوة على ذلك، ربما يرتبط حل مفارقة المعلومات داخل الثقب الأسود بمشكلة أكبر: عدم التوافق الحالي بين نظرية النسبية العامة، التي تصف الثقوب السوداء، ونظرية الكموم. وهكذا، تشكل هذه النجوم الغريبة اليوم مصيدة للفيزياء النظرية، لكن من الممكن أن تجلب لها الخلاص غدًا.
الثقالة أو الجاذبية الكمومية، هل هي رغوة الزمكان، هل هي مفتاح الانفجار العظيم وظهور الكائنات الحية؟ من هذا التساؤل المهم ينطلق جون بيير لومينيت لعرض أفكاره عبر فصول كتابه " رغوة الزمكان".
تقرر إعادة فتح المكتبات، بعد إغلاقها بسبب الحجر الصحي لمكافحة فيروس كورونا، لذا اغتنمت الفرصة للحصول على كتاب رغوة الزمكان أو "زبد الزمكان"، ملحمة نهاية العام، بقلم جان بيير لومينيت، الذي نُشر في أكتوبر 2020 بواسطة إصدارات Odile Jacob. تمتعت بقراءته، " فالكتاب يتعامل مع الجاذبية الكمومية ومناهجها المختلفة لمحاولة حل عدد من الصعوبات في الفيزياء الحالية: توحيد النسبية العامة وميكانيكا الكموم، والقضاء على الجاذبية المتفردة، فهم طبيعة المادة السوداء أو المظلمة والطاقة السوداء أو المظلمة، ومفارقة المعلومات المرتبطة بالثقوب السوداء، ودور الفراغ الكمومي، والكون المتعدد، وجبهة الانفجار العظيم، إلخ.
المناهج السبعة التي تمت مناقشتها هي الجاذبية الكمومية الحلقية، ونظرية الأوتار الفائقة، والهندسة غير التبادلية، والمجموعات السببية، والجاذبية الآمنة المقاربة، والتثليث الديناميكي السببي، والجاذبية الناشئة. وبصرف النظر عن الأولين، لم يتم الكشف عن أي شيء حتى الآن لعامة الناس ".
نحن مدينون بالكتاب لشخصية معروفة جيدًا لعشاق فيزياء الثقوب السوداء والأكوان المنهارة التي ستتعرفون عليها فورًا عندما يقدمها بنفسه. بالنسبة لأولئك الذين لديهم الوقت والإرادة لمعرفة المزيد، إليكم شيء لوضع الكتاب في منظور بسيط وحتى اكتشاف بعض أجزاء منه.
الفلسفة الطبيعية، مفتاح أساسي للفلسفة:
لماذا هناك شيء بدلا من لا شيء؟ ما هي مكانة الإنسان في الطبيعة؟ هذه الأسئلة فلسفية وكانت موضوع تأملات المفكرين اليونانيين، سواء أكانوا قبليين أم لا، ولكن أيضًا وربما حتى بشكل خاص من الفيدا الهندية وديانات الهندوس الذين ندين لهم بتعريفنا بملحمة الأوبنشاد. ومع ذلك، يبدو أن الإغريق كانوا أول من فهم أنه من أجل الأمل في حل هذه الأسئلة، كان من الضروري الجمع بين الرؤية البديهية المسبقة للعقل البشري، المستحثة والمستوحاة من التجربة الشعرية للظواهر الطبيعية، مع التصوف ومطالب الفكر العقلاني والرياضياتي، كبداية، ثم السعي للحصول على جزء من الإجابات من خلال ذلك الجزء من الفلسفة الذي كان لا يزال يُسمى في عصر نيوتن بالفلسفة الطبيعية.
يمكن العثور على ذروة هذا المفهوم بلا شك في حوارات أفلاطون والجمهورية وتيماوس على وجه الخصوص، وأهميتها تكمن، كما قال الفيلسوف وعالم الرياضيات ألفريد نورث وايتهيد بالفعل في عمله الشهير "العملية والواقع"، "أضمن توصيف عام للتقليد الفلسفي الأوروبي هو أنه يتكون من سلسلة من الهوامش لأفلاطون".
لا يزال واضحًا بشكل خاص في أعمال ونصوص مؤسسي الفيزياء الحديثة - من أينشتاين إلى أوبنهايمر مروراً بـهايزنبرغ (تشكل ذهني من خلال دراسة الفلسفة وأفلاطون وما إلى ذلك)، وباولي وشرودنغر - - الذي أنتج أيضًا الفيزياء الحديثة بلا شك كصدى لما قاله بالفعل أرخيتاس من تارانتو، عالم الرياضيات والفلك والمهندس والفيلسوف الفيثاغوري العظيم لأفلاطون: "يمكننا القول أن الفلسفة هي رغبة أن يعرفوا ويفهموا الأشياء بأنفسهم، متحدون بالفضيلة العملية، مستوحين ذلك من حب العلم وتحقق الغاية بواسطته. بداية الفلسفة هي علم الطبيعة. البيئة والحياة العملية؛ مصطلح العلم نفسه ".
الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء وولفانغ باولي (1900-1958) في السنوات عام 1930. نحن مدينون له بالعديد من المساهمات في نظرية المجال الكمومي وفيزياء الجسيمات، والنيوترينوات، ونظرية CPT، ونظرية دوران الإلكترون، ناهيك عن النظريات التي توقعها (نظريات القياس والكالوزا- كلاين - Kaluza-Klein) لكنه تحدث فقط في مراسلاته مع زملائه. مثل آينشتاين وهايزنبرغ وشرودنغر، ارتبط فكره وعمله ارتباطًا وثيقًا بأعمال العديد من الفلاسفة ونشأ، كما قال هايزنبرغ عنه، من نوع من التصوف العقلاني. يمكننا أن نقتنع بهذا من خلال هذا الإعلان: "أنا أدافع عن حق غير محدود للعقل للتحكم في أنظمة الفكر. ومع ذلك، فإنني أشير إلى طريقة غير عقلانية للمعرفة، والتي يتم اكتسابها بموارد أخرى غير العقل. أعتقد أن هذا النمط غير العقلاني للمعرفة أساسي وضروري. لا يوجد فكر فحسب، بل هناك أيضًا غريزة، وعاطفة، وحدس، وما إلى ذلك، ويبدو لي أن هذه الوظائف النفسية الإضافية ذات أهمية قصوى حيثما يتم إدراك امتلاء البشر. "؛ ويضيف قائلاً: "آمل ألا يؤكد أحد حتى الآن أن النظريات يتم استنتاجها من خلال التفكير المنطقي الصارم المستمد من مذكرات التجارب المعملية، وهي وجهة نظر كانت لا تزال عصرية تمامًا في ذلك الوقت.. تُبنى النظريات من خلال فهم مستوحى من المواد التجريبية، وهو الفهم الذي يمكن تحقيقه على أفضل وجه، وفقًا لآراء أفلاطون، كمراسلات ناشئة بين الصور الداخلية وسلوك الأشياء الخارجية. تثبت إمكانية الفهم هذه مرة أخرى وجود نزعات نموذجية تنظم كل من الظروف الداخلية والخارجية للبشر ".
كل هذه الاعتبارات تهدف فقط إلى المساعدة في تفسير سبب البحث عن نظرية الكموم للجاذبية وتوليف قوانين الفيزياء، والتي يجب أن تتوج بتوحيد نظرياتنا عن المادة، فهذا الموضوع والهدف المنشود يسحر علماء الفيزياء والزمكان والقوى لأن الفيزيائي بيتر بيرغمان، المتعاون مع ألبرت أينشتاين ورائد نظرية الجاذبية الكمومية، قال: "في كثير من الجوانب، لا يقوم الفيزيائي النظري إلا إذا اقترن بالفيلسوف وقيل عنه: هل هذا فيلسوف في ثوب العالم؟ ".
تلتقي الفلسفة والفيزياء على مقياس بلانك:
كل تطور الكون تحكمه "في نهاية المطاف" نظرية الجاذبية الكمومية التي توحد كل قوى وجسيمات المادة المعروفة. مثل هذه النظرية يجب أن تجعل من الممكن، أو على الأقل نأمل بذلك، فهم المرحلة البدائية للغاية من الكون البدائي وبنيته العامة، بحيث يكون من الممكن على الأرجح تحديد ما إذا كان ظهور الحياة والوعي ما هو إلا ظاهرة ظاهرية تنتجها أكوان متعددة عشوائية تمامًا، تلعب بلا هدف بأشكال الزمكان والمادة التي يحتويها منذ الأبد. إذا كان ينبغي النظر في فرضية معاكسة ودراستها على النحو الذي اقترحه بعض الفيزيائيين المؤيدين لأطروحة المبدأ الأنثروبي القوي - بالنسبة لقراءة اللغة الإنجليزية الفضولية، هناك عمل رائع يتعامل مع المبدأ الأنثروبي: المبدأ الكوني الأنثروبولوجي بواسطة جون بارو وفرانك تيبلر.
حتى أن عالم الكونيات أندريه ليند قد تكهن حول إمكانية توحيد المادة ليس فقط مع المكان والزمان للجاذبية الكمومية ولكن أيضًا توحيد نهائي مع فيزياء العقل التي لم يتم اكتشافها بعد (انظر نهاية كتابه الجسيمات: الفيزياء وعلم الكونيات التضخمية ص.230-232). من المثير للاهتمام مقارنة أفكار ليند حول هذا الموضوع بتكهنات روجر بنروز الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء فيما يتعلق بنظرية للوعي، تتضمن الأخيرة تأثيرات الجاذبية الكمومية على مستوى ما يسميه الفيزيائيون على وجه الخصوص هيكل الرغوة للزمكان من الفيزيائي الشهير جون ويلر. ونحن نعلم أن باولي كان منشغلاً بشدة بنظرية توحد الروح والمادة.
في الخلفية، أعلى اليسار، إحدى النظريات الوحدوية التي اقترحها ألبرت أينشتاين مع استخدام الأعداد المركبة مثل فيزياء الكموم.
نحن نعلم أن رأيه في طبيعة الإبداع، فيما يتعلق بالفيزياء النظرية وأهميتها الفلسفية، كان قريبًا جدًا من رأي باولي كما تثبت الاقتباسات التالية: "إن المهمة العليا للفيزيائي هي الوصول إلى هذه القوانين الأولية العالمية التي من خلالها يمكن بناء الكون عن طريق الاستنتاج المطلق. لا يوجد مسار منطقي لهذه القوانين. فقط الحدس، على أساس الفهم الودي للتجربة، يمكنه الوصول إليهم "و" فكرة في الفيزياء النظرية ... لا تنشأ في الخارج وبشكل مستقل عن التجربة؛ ولا يمكن اشتقاقها من التجربة من خلال إجراء منطقي بحت. يتم إنتاجه من خلال عمل إبداعي. بمجرد الحصول على فكرة نظرية، من الجيد التمسك بها حتى تصل إلى نتيجة لا يمكن الدفاع عنها ". عن 2015 المعهد الأمريكي للفيزياء.
على أي حال، أظهر بنروز في منتصف الستينيات - في ظل ظروف معينة معقولة جدًا، وفي الواقع، والتي تبدو حتمية من الناحية العملية - أن نجمًا نفد وقوده النووي وهو ضخم جدًا يجب أن ينهار لإعطاء ثقب أسود كما أوضح أنه، في إطار معادلات نظرية النسبية العامة، يجب أن يحدث تفرد للزمكان داخل هذا الثقب الأسود، التفرد حيث انحناء الفضاء والكثافة يجب أن تصبح المادة لانهائية ولا تسمح بعد الآن بأي تنبؤ بالحالة النهائية لانهيار مادة الزمكان في النسبية العامة.
لاحقًا، سيتعاون بينروز مع ستيفن هوكينغ لإثبات أن تفرد الزمكان يجب أن يكون موجودًا أيضًا في نظرية أينشتاين عند تطبيقها لبناء النموذج الكوني للانفجار العظيم الذي تشير إليه. هذا في الواقع ليس مفاجئًا جدًا. إن هندسة الزمكان داخل نجم منهار جاذبيًا تشبه إلى حد بعيد هندسة الزمكان في نموذج من نوع الانفجار الكبير عن طريق عكس اتجاه مسار الزمن، الانهيار أصبح توسعًا من التفرد الأولي أو الفرادة الكونية التي ولد منها الانفجار العظيم. لكنها كارثة لأنها تعني أننا لا نستطيع حقًا فهم ما الذي يحدد ولادة الكون الذي يمكن ملاحظته، وبالتالي لماذا يتميز بالخصائص التي نراها فيما يتعلق ببنيته وتطوره. ومع ذلك، في كلتا الحالتين، الانفجار العظيم والثقب الأسود، ينتهي بنا المطاف بزمكان أصغر من ذرة بالقرب من التفرد، مما يعني أنه يجب علينا تطبيق نظرية الجسيمات الأولية وفيزياء مقياس الذرة أو في النطاق مادون المجهري أي اللامتناهي في الصغر وبالتالي نظرية الكموم. كما أوضح جون ويلر، يجب أن يؤدي الجمع بين نظرية الكموم ونظرية النسبية العامة إلى علم الكونيات الكمومية. كما يشير أيضًا إلى أنه في مقاييس زمنية قصيرة جدًا، تلك التي تسمى بلانك، إذا قارنا، كما هو معتاد، سلوك الزمكان بسلوك السائل، فإن الأخير يصبح شديد الاضطراب بما يعادل الفقاعات والرغاوي التي تتشكل مع رغوة الأمواج.
لسوء الحظ، ثبت أن البحث عن نظرية كمومية للجاذبية أكثر صعوبة مما كان يتصور. تم اقتراح العديد من النظريات لهذا الغرض وأكثرها شيوعًا هي تلك الخاصة بنظرية الأوتار الفائقة ونظريات الجاذبية الكمومية الحلقية. لكن هناك أمورًا أخرى مثل تلك التي تستند إلى الهندسة غير التبادلية للفائز بميدالية فيلدز، الفرنسي آلان كونيس، أو تلك الخاصة بالمثلثات الديناميكية السببية. تقوم هذه النظريات الموحدة والجاذبية الكمومية أحيانًا بعمل تنبؤات يمكنها حل الألغاز المرتبطة بالفيزياء بالوجود المفترض للمادة والطاقة السوداوين أو المظلمتين. يمكن أن يكون لها آثار على مفهوم الأكوان المتعددة، وبالتالي، كما أشرنا بالفعل، على الأسئلة المرتبطة بالمبدأ الأنثروبي وبالتالي بمكانة الإنسان، وبشكل أكثر واقعية من الأحياء، في أسرار الحياة والتطور الكوني.
أعمدة الحكمة السبعة:
جان بيير لومينيت معروف جيدًا، ولا سيما من خلال المقابلات التي أجراها والمحاضرات التي ألقاها، ناهيك عن العديد من أعماله وكتبه التبسيطية حول فيزياء الثقوب السوداء، وتاريخ العلوم المتعلقة باختراع الانفجار العظيم أو مكانة اللانهاية في الفيزياء وعلم الكونيات؛ يشتهر جان بيير لومينيت أيضًا بعمله الرائد في الفيزياء الفلكية للثقوب السوداء، من الصورة الأولى لمظهرها المحسوب على الكمبيوتر إلى حدوث الفطائر النجمية، مما أدى إلى ظهور ملاحظات ناجحة، كما يتضح من حدث تعاون Horizon Telescope. فهو تمامًا مثل أينشتاين أو هايزنبرغ، فإن جان بيير لومينيت موسيقي أيضًا، وهذا ليس مفاجئًا عندما نعلم أنه منذ أكثر من 2000 عام، قال آرتشيتاس بالفعل أن علم الفلك والرياضيات والموسيقى كانت تخصصات شقيقة. مثل أينشتاين وهايزنبرغ وشرودنغر وباولي أيضًا، لا تخلو أعماله من تفاعلات مع الأدب والفلسفة والفن بشكل عام.
يحمل أحدث أعماله التي نشرتها أوديل جاكوب علامات هذا التنوع الخلاق، وأثناء استكشافه للبحث عن عالم الجاذبية الكمومية وتوحيد الفيزياء في جوانبها غير المعروفة بالضرورة لعامة الناس، فهو أيضًا نداء حيوي لـ مفهوم وممارسة للعلم أثبت جدارته من كبلر إلى بنروز، بعيدًا عن الأوصاف الجافة لفلسفة وضعية معينة أو السلوكيات الغريبة المهتاجة لهيدغر الذي ادعى أن العلم لم يعتقد بعد ذلك أنه هو نفسه كان غير قادر على سبر الحقيقة كدليل لا لبس فيه، ولا ننسى حقيقة أن هيدغر كان لا يزال عضوًا، في أبريل 1942، في لجنة فلسفة القانون، وهي هيئة نازية، كما أظهر الفيلسوفة سيدوني كيلرير قبل بضع سنوات.
أول ما تم تقديمه للعمل من السنوات 1950-1960 يتعلق في البداية بما يسمى بالنهج الكنسي للجاذبية الكمومية والذي أدى إلى نظرية الجاذبية الكمومية الحلقية، ثم حلقة علم الكونيات الكمومية مما يجعل من الممكن القضاء على الفرادة الكونية singularité أو التفرد الكوني الأولي للانفجار العظيم وحتى تخيل ما قبل الانفجار العظيم.
الجاذبية وعلم الكونيات الكمومي في حلقات هي من بين فرضيات العمل التي تم استكشافها لنظريات الكموم للجاذبية. وهي تستند إلى معادلة ويلر-ديويت الشهيرة وتسمح بالنظر فيما قبل الانفجار العظيم والأكوان الموازية، تمامًا مثل نظرية الأوتار الفائقة. حسب جون بيير لومينيت
من الجاذبية الكمية الحلقية إلى الهندسة غير التبادلية:
تقترح نظرية الجاذبية الكمومية الحلقية أن الزمكان يمكن أن يكون متقطعًا، فما الذي يمكن أن يغيره لأفكارنا حول توحيد الفيزياء؟
في آخر ملحق لكتابه الشهير "معنى النسبية"، كشف ألبرت أينشتاين عن نتائج سعيه الدؤوب لتوحيد قوانين الفيزياء من خلال تعميم معادلات النسبية العامة. يجب أن تكون حقول المادة والقوة مظهرًا من مظاهر الهندسة الجديدة للزمكان المنحني. كان يأمل في أن يتمكن أيضًا من استنباط نسخة أعمق من ميكانيكا الكموم، حتمية تمامًا وقائمة على مجال مستمر.
وبوضوح، أنهى الأب اللامع لنظرية النسبية العامة، مع ذلك ملحقه بهذا الإعلان: "يمكننا تقديم أسباب وجيهة لشرح سبب عدم إمكانية تمثيل الواقع على الإطلاق بمجال مستمر. يبدو أنه يتبع على وجه اليقين من الظواهر الكمومية أن نظامًا محدودًا من الطاقة المحدودة يمكن وصفه بالكامل بسلسلة محدودة من الأرقام (أرقام كمومية). لا يبدو أن هذا يتفق مع نظرية الاستمرارية وينبغي أن يؤدي إلى محاولة إيجاد نظرية جبرية بحتة لوصف الواقع. لكن لا أحد يعرف كيفية الحصول على الأساس لمثل هذه النظرية. "
يعود تاريخ هذه الكلمات إلى عام 1954 وتظهر كنبوءة وكتحية جديدة لعبقرية أينشتاين عندما يلاحظ المرء عمل عالم الرياضيات الفرنسي آلان كونيس فيما يتعلق بالتطبيقات المحتملة لنظريته في الهندسة غير التبادلية لمشاكل توحيد قوانين الفيزياء في بحثه الموسوم مقدمة في الهندسة غير التبادلية وتطبيقاتها لتوحيد الفيزياء والذي حاز عليه جائزة نوبل.
كرست المجلات المتخصصة العديد من المقالات لهذه الهندسة، وفي كتابه، تناول جان بيير لومينيت أيضًا نظريات آلان كونيس.
إن ملحمة البحث عن الجاذبية الكمومية لم تنته بعد، واليوم لدينا سبب أقل للاختلاف مع روح ما قاله عالم الرياضيات العظيم هيرمان ويل بالفعل في ختام كتابه الشهير دورة حول نظرية النسبية قبل بداية العشرينيات: "الشخص الذي يقيس المسافة المقطوعة، من المقياس الإقليدي إلى المجال المتري المتغير اعتمادًا على المادة ويحتوي على مظاهر الجاذبية والكهرومغناطيسية، الشخص الذي يسعى إلى احتضان ما لدينا في لمحة مكشوف ومفتت بالضرورة، يجب أن يشعر هذا الشخص بالحرية، كما لو كان يخرج من قفص حيث كان محبوسًا حتى الآن ؛ يجب أن يكون مشبعًا باليقين بأن عقلنا ليس فقط حاجزًا إنسانيًا مؤقتًا للنضال من أجل الحياة، ولكنه تطور بالرغم من كل المزالق والأخطاء حتى نقطة حيث يمكنها اعتناق الحقيقة بموضوعية. وصلت بعض الأوتار القوية لهذا التناغم بين الكرات التي حلم بها فيثاغورس وكبلر إلى آذاننا ".
قام عالم الرياضيات والفيزياء العظيم هيرمان ويل، أكثر طلاب هيلبرت موهبة، بالكثير لإظهار أهمية المجموعات في فيزياء الكموم. نحن مدينون له أيضًا بكتاب ترويج صغير ممتاز حول مفهوم المجموعة (التناظر والرياضيات الحديثة) والصلات مع مفهوم التناظر في العلوم الطبيعية، سواء كان ذلك في علم البلورات أو علم الأحياء أو للنظرية النسبية، حتى في المجال الفني. ومع ذلك، يمكننا أيضًا الاستمرار في الاشتراك في إعلان ألبرت أينشتاين هذا بعد 50 عامًا من الاجترار المستمر للعالم الكمومي. "شيء واحد تعلمته على مدى العمر الطويل هو أن كل علومنا، مقاسة بالواقع، بدائية وطفولية. ومع ذلك فهو أغلى ما لدينا ".
"لقد ولدت في بيئة، لا أعرف من أين أتيت أو إلى أين سأذهب أو من أنا. هذ هي حالتي مثل حال كل واحد منكم. حقيقة أن كل رجل كان دائمًا في هذا حتى لو كان يواجه النهاية وسيظل هناك دائمًا لا يعلمني شيئًا. كل ما يمكننا ملاحظته لأنفسنا حول السؤال الملح عن أصلنا ووجهتنا هو البيئة الحالية.
لهذا السبب نحن حريصون على معرفة كل ما في وسعنا حول هذا الموضوع. هذا ما يتكون منه العلم، المعرفة، هذا هو المصدر الحقيقي لكل الجهود الروحية البشرية. نحن نحاول أن نكتشف قدر الإمكان عن السياق المكاني والزماني الذي وضعنا فيه ولادتنا. وفي هذا الجهد نجد الفرح، ونجده ممتعًا للغاية (ألن يكون هذا هو الغرض الذي نحن هنا من أجله؟). هذا ما قاله أحد آباء ميكانيكا الكموم، الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء إروين شرودنغر. لقد وفرت ميكانيكا موجات المادة التي تحكمها المعادلة التي تحمل اسمه نظرة ثاقبة لخصائص الذرات والجزيئات. اكتشف مع أينشتاين في عام 1935 ظاهرة التشابك الكمومي التي ضمنتها معادلته. كان إروين شرودنغر شغوفًا أيضًا بالفلسفة. كانت هذه هي الأطروحة التي دافع عنها إروين شرودنجر في عام 1950 في إحدى المحاضرات العامة الأربع بعنوان "العلم كعنصر أساسي في الإنسانية". حتى أنه أضاف، باعتباره أحد مؤسسي ميكانيكا الكموم، بعد أن عمل على توضيح طبيعة الحياة وظهور المادة في نموذج نسبي لعلم الكونيات: "المعرفة المعزولة التي حصل عليها مجموعة من المتخصصين في مجال ضيق ليس لها في حد ذاتها قيمة من أي نوع؛ لها قيمة فقط في التوليف الذي يوحدها مع بقية المعرفة وفقط بقدر ما تساهم حقًا، في هذا التوليف، في الإجابة على السؤال: من نحن؟ "نحن نعلم الآن أننا على الأقل غبار النجوم لاستخدام التعبير الذي غالبًا ما يستخدمه هيوبرت ريفز وربما نعيش في كون به زمكان متكدس، كما يقترح جان بيير لومينيت.
حلم التوحيد:
لطالما كان طموح الفيزياء هو شرح التنوع الحقيقي للواقع من خلال وحدة أساسية. يشرح قانون واحد سقوط التفاحات وحركة القمر، وآخر يشرح كلاً من الكهرباء والمغناطيسية. من خلال تجميع الظواهر المختلفة معًا في أوصاف فريدة، تمكن الفيزيائيون من وصف جميع الظواهر الطبيعية المعروفة · باستخدام أربع قوى جوهرية فقط، عرفت باسم "التفاعلات الأساسية". الثقالة تفسر الجاذبية وسقوط الأجسام، ولكن أيضًا المد والجزر ومسارات القمر والكواكب والنجوم والمجرات، حتى توسع الكون. تم وصفها بكفاءة ملحوظة من خلال نظرية النسبية العامة التي صاغها ألبرت أينشتاين. يشمل التفاعل الكهرومغناطيسي جميع الظواهر الكهربائية والمغناطيسية والضوء والتفاعلات الكيميائية أو البيولوجية أي علم الأحياء - في الواقع، تقريبًا جميع ظواهر الحياة اليومية باستثناء الجاذبية. يتم وصفها بشكل كلاسيكي بواسطة النظرية الكهرومغناطيسية لماكسويل. بعد حل العديد من المشاكل التقنية، ظهرت نظرية أكثر اكتمالا، وهي في آن واحد نسبية وكمومية في نفس الوقت، وتحمل اسم الديناميكا الكهربائية الكمومية. Électro¬ dynamique quantique.
يضمن التفاعل النووي القويL’interaction nucléaire forte تماسك النوى الذرية، وبالتالي وجود المادة التي نعرفها والتي تشكلنا. يتم وصفه بواسطة نظرية الديناميكا اللونية الكمومية. La chromo¬ dynamique quantique.
التفاعل النووي الضعيف يسبب الاضمحلال الراديوي النشط للجسيمات دون الذرية ويسمح بالانصهار الحراري أو الاندماج النووي la fusion thermonucléaire ¬ بين النجوم. ويتم وصفه بواسطة النظرية الكهروضعيفة. La théorie électrofaible تم تسليط الضوء على هذين التفاعلين الأخيرين فقط في منتصف القرن العشرين، عندما بدأ فهم بنية النوى الذرية. تم تصنيفهما على أنهما "نوويان" لأنهما يمارسان فقط في مقياس النوى الذرية؛ وبالتالي فهي تفاعلات قصيرة المدى للغاية. ومن ناحية أخرى، فإن التفاعل الثقالي l’interaction gravitationnelle (الذي يكون تأثيره ضئيلًا على النطاق المجهري) والتفاعل الكهرومغناطيسي l'interaction électromagnétique لهما نطاق لانهائي، وتتناقص شدتهما مع مربع المسافة بينهما. أربع تفاعلات لشرح كل الظواهر الفيزيائية وهي قليلة. لكن هذا لا يزال كثيرًا بالنسبة للمنظرين الباحثين عن الوحدة أو توحيد القوانين الفيزيائية الجوهرية. فهم يريدون تقليل هذا العدد. هل يمكن أن تكون التفاعلات الأساسية الأربعة جوانب أو مستويات مختلفة لنفس الواقع الذي يمكن وصفه على مستوى أعمق - أي، يتم التعبير عنه من خلال تفاعل واحد موصوف بواسطة "نظرية وحدوية توحيدية؟»، وتسمى أيضًا نظرية كل شيء Théorie du Tout؟ في غضون ذلك، قد يكون هذا الهدف بعيد المنال، عملية التوحيد تم الحصول عليها جزئيًا في إطار ما يسمى بنموذج الجسيمات "القياسي". يستخدم تعبير "النموذج القياسي أو النموذج المعياري modèle standard " بشكل عام للإشارة إلى نموذج علمي متماسك بدرجة كافية ومستقر لكسب الإجماع بين الخبراء في هذا المجال. وغني عن القول إن صفة "نظرية متماسكة" أمر ضروري لأنه لا يمكن أن يحتوي نموذج علمي توافقي على تناقضات، سواء كانت ذات طبيعة نظرية (يجب ألا تكون الرياضيات الأساسية غير متسقة، والقوانين الأساسية لـ الفيزياء المعروفة، مثل السببية أو الحفاظ على الطاقة، يجب ألا تنتهك)، أو تجريبية (لا يمكن أن يكون النموذج القياسي الذي يتعارض مع التجارب أو الملاحظات بمثابة نموذج قياسي معياري) . يتجاهل مصطلح "مستقر" حقيقة أن النموذج يجب أن يتم إنشاؤه على أسس صلبة بدرجة كافية حتى نتمكن من الاعتماد عليه من أجل تفسير جميع الظواهر التي تقع ضمن المجال. من الناحية اللغوية، يأتي مصطلح المعيار من الحامل الصلب القديم bas francique stand hard، المستخدم لتعيين معايير القياس مثل النقود والأوزان المستقرة إلى حد ما والثابتة لتحديد المعيار، متوسط القيمة المرجعية. يلبي النموذج القياسي أو المعياري لفيزياء الجسيمات، الذي يصف الجسيمات الأولية وتفاعلاتها، والنموذج القياسي أو المعياري لعلم الكونيات le modèle standard de la cosmologie، الذي يصف بنية الكون المرئي والمراحل الرئيسية لتطوره، هذه المعايير تمامًا. هذا لا يضمن استدامتها بأي حال من الأحوال: وهي مثل أي نموذج، محكوم عليها بالتغير بمرور الوقت اعتمادًا على تطور معرفتنا. لذلك فمن الصحي والشرعي التشكيك في "ما وراء" هذه النماذج القياسية
نموذج الجسيمات المعياري أو القياسي Le modèle standard des particules
إن النظرية الحالية هي التي تجعل من الممكن شرح جميع الظواهر التي يمكن ملاحظتها على مستوى الجسيمات، دون معالجة تفاعل الجاذبية. على الصعيدين الكمومي والنسبية في آن واحد، يحتوي النموذج القياسي للجسيمات على تفاعلين متميزين: التفاعل القوي الموصوف بالديناميكا اللونية الكمومية، والتفاعل الكهروضعيف، وهو توحيد التفاعل الضعيف والكهرومغناطيسية. يتم تفسير جميع هذه التفاعلات المختلفة من خلال تبادل "البوزونات المقيسة bosons de jauge " بين الجسيمات الأولية المسماة الفرميونات. Fermions. يشتمل النموذج القياسي أيضًا علب بوزونات Brout-Englert Higgs ااختصار BEH)، المرتبط بمجال قوة جديد كان موجودًا فقط في الكون البدائي للغاية، وهو حقل هيغز le champ de Higgs، وهو شكل من أشكال طاقة الفراغ الكمومي. نقرأ بشكل عام أن بوزون BEH هو الذي أعطى، في الأيام الأولى للكون، كتلة لجسيمات أخرى (باستثناء الفوتون). وفي الواقع، تفاعلت الجسيمات، عديمة الكتلة في البداية، بشكل أو بآخر مع مجال أو حقل هيغز، وهذا التفاعل هو الذي أعطاها القصور الذاتي l'inertie الذي نخلط بينه وبين الكتلة la masse. وبالتالي، فإن كتلة الجسيمات، بمعنى ما، لا تأتي من تلقاء نفسها، بل تأتي من نوع من "الاحتكاك" بالفراغ. الجسيمات الأولية للنموذج القياسي هي 25 جسيماً بينها : 12 بوزونا، وهي نواقل التفاعلات المختلفة، وهي: - الفوتون الذي ينقل التفاعل الكهرومغناطيسي ؛ - 8 غلوونات، والتي تنقل التفاعل القوي ؛ - 3 بوزونات W+, و w- و Z0، والتي تنقل التفاعل الكهروضعيف. • 12 فرميونا، وهي جزيئات من مادة خاضعة لتفاعلات، مقسمة إلى فئتين: - 6 كواركات وكواركاتها المضادة، والتي تشكل جميع الجسيمات المركبة (مثل البروتون أو النيوترون) ؛ - 6 لبتونات (بما في ذلك الإلكترون والنيوترينو) ومضاداتها. • 1 بوزون هيغز BEH، الذي يعطي كتلة للفرميونات الأولية والبوزونات W و Z0 •
ما وراء النموذج القياسي:
تم إنشاء النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات في التسعينيات " وهو يعمل" بشكل رائع، لكنه لا يمثل النظرية النهائية للفيزياء، والسبب الرئيسي هو غياب الجاذبية في هذه النظرية المعيارية. ولكن، حتى من خلال التمسك بالتفاعلات الأساسية الثلاثة الأخرى، فإن النموذج القياسي غير قادر على تفسير نسب الكتلة بين الجسيمات المختلفة (ما يسمى بمشكلة التسلسل الهرمي problème dit de la hiérarchie)، ويتوقع كتلة صفرية من النيوترينوات بينما هذا ليس موجوداً في الواقع. إنه لا يأخذ في الحسبان تكوين المادة السوداء أو المظلمة غير الذرية التي يبدو أنها موجودة في الكون، ولا طبيعة الطاقة السوداء أو المظلمة التي تسرع توسع الكون. أخيرًا، إنه لا يوحد فعليًا التفاعلات الكهرومغناطيسية، والتفاعلات النووية الضعيفة والقوية في تفاعل واحد يمكن للمرء أن يطلق عليه "الطاقة النووية". أو الكهرونووي électronucléaire .
في هذا الصدد، بعد النجاحات المبكرة لنظرية الكهرو ضعيفة la théorie électro¬ faible التي وحدت جزئيًا الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة، بدا أن الطريق إلى هذا التوحيد الأكثر اكتمالًا يمكن الوصول إليه بسرعة. في وقت مبكر من سبعينيات القرن الماضي، اقترح شيلدون غلاشو وهوارد جورجي Sheldon Glashow et Howard Georgi النظرية الموحدة الكبرى (GUT Grand Unified Theory) بناءً على شكليات فيزيائية رياضية مشتركة مشتقة من نظرية مجال القياس الكمي. كان التنبؤ الرئيسي لهذه النظرية الجديدة هو تفكك البروتونات، وبالتالي تفكك المادة العادية التي تشكلنا (مع احتمال ضئيل بما يكفي بحيث لا يزال أمامنا بضع مليارات من السنين!). لكن تبين أن النتائج التجريبية تتعارض مع هذه التوقعات: لا يمكن ملاحظة أي تحلل للبروتون، مما يضمن عمر البروتون لأكثر من 1035 عامًا. لذلك لا يبدو أن نظرية التوحيد العظيم صحيحة.
من المفارقات، في سياق النسبية العامة، أن الجاذبية ليست قوة أو تفاعل. في هذا الوصف، وهو هندسي بحت، فإن أي شكل من أشكال الطاقة يحني الزمكان. تتحرك الأجسام الضخمة في هذا الزمكان دون التعرض لقوة الجاذبية، متبعةً الجيوديسية géodésiques المكافئة للخطوط المستقيمة في الفضاء بدون انحناء. بما أن النسبية العامة ليست نظرية للحقول الكمومية، فهي لا تفترض وجود جسيم وسيط للجاذبية. ولكن، نظرًا لأن العديد من الفيزيائيين مقتنعون بأن الجاذبية أو الثقالة تفاعل أساسي وأنه سيكون لها يومًا ما نظريتها الكمومية، فقد قاموا بتعميد الجسيم المسؤول عن الجاذبية (إن وجد وأسموه غرافيتون graviton) وابتكروا تجارب من شأنها أن تسمح أو تقود لاكتشافه. لم ينجح أي منها حتى الآن. لملء هذه الفجوات العديدة، طور الفيزيائيون امتدادات للنموذج القياسي مثل التناظر الفائق la supersymétrie والجاذبية أو الثقالة الفائقة la supergravité والنظريات ذات أبعاد الزمكان الإضافية أو حتى النماذج المركبة les modèles composites. لقد كرس جيلين من الباحثين حياتهم لاستكشاف هذه الاحتمالات المختلفة، ولكن حتى الآن لم يتم ملاحظة أي من الجسيمات الجديدة التي تنبأت بها هذه الامتدادات extensions للنظريات، سواء بشكل طبيعي من الكون أو بشكل مصطنع أثناء التجارب التي تم إجراؤها فيمصادم الجسيمات العملاق LHC، وهو أكبر مسرع للجسيمات في العالم.
النموذج القياسي لعلم الكونيات: Le modèle standard de la cosmologie
النموذج القياسي لعلم الكونيات المعروف بــ ACDM، المبني حول الفكرة المركزية للانفجار العظيم Big Bang، خضع للعديد من التعديلات في العقود الأخيرة. مطابقة بنجاح قيود الرصد والمراقبة والملاحظة الجديدة، لا تزال هناك بعض المناطق الرمادية التي فشل النموذج في تسليط الضوء عليها، والتي تشكل مصدر نقاش حاد في المجتمع العلمي. هذا هو السبب في أن النموذج لديه معارضون. ومع ذلك، لا أحد منهم قادر اليوم على تقديم مثل هذا النموذج العلمي البديل المرضي أو المقبول، والذي من شأنه أن يفسر جميع الملاحظات التي تمت خلال القرن الماضي. لفهم حدود النموذج القياسي بشكل أفضل، دعونا نرى كيف يتم بناء النموذج الكوني بشكل عام. الشيء المادي المدروس، وهو هنا الكون، له خصوصية كونه فريدًا وغير قابل للتكرار. على عكس العديد من الظواهر الفيزيائية الأخرى، فإن هذا يمنع أي مقارنة وأي نهج تجريبي ذي طبيعة إحصائية. de nature statistique نحن أيضًا مراقبون موجودون داخل هذا الكائن أو الشيء الذي نريد دراسته، سواء من حيث الموقع المكاني أو لحظة الملاحظة. لذلك فإن الرؤية التي يمكن أن نحصل عليها عن الكون خاصة جدًا ومحدودة في الجزء الذي يمكن ملاحظته. ينتج عن هذا افتراضان أساسيان على الأقل: الأول هو أن أي نموذج كوني قياسي يجب أن يقدم حلاً علميًا يجعل من الممكن حساب جميع الملاحظات التي تم إجراؤها. قد لا يكون مثل هذا الحل فريدًا، ولا يوجد ما يثبت تفرده المحتمل. الفرضية الثانية هي أن قوانين الفيزياء التي نلاحظها محليًا - على الأرض وفي المختبرات وفي بيئتنا المباشرة - صالحة في أي نقطة أخرى في الكون وفي أي لحظة أخرى من تاريخه. هذه الفرضية ليست تافهة، وقبل كل شيء، لم يتم توضيحها. حتى بدون تغيير القوانين، يمكن لمعايير مختلفة مع ذلك أن تتطور وتتغير. وهكذا، تم إجراء العديد من التجارب لقياس ترتيب حجم التباين المحتمل بمرور الوقت للثابت الشمولي للجاذبية أو الثقالة أو سرعة الضوء في الفراغ. العديد من المقاربات والمناهج النظرية، مثل نظرية الأوتار la théorie des cordes، تأخذ في الاعتبار الاختلافات المحتملة في الثوابت الأساسية على نطاقات زمنية كبيرة، لكنها مقيدة بشدة بالملاحظات، التي ليست كذلك أي التي لا تظهر أي اختلاف قابل للقياس على مجمل التطور الكوني. بالإضافة إلى هذين الافتراضين المبدئيين، فإن النموذج الكوني المعياري أو القياسي le modèle standard cosmologique ¬ تم بناؤه حول أربع افتراضات رئيسية. الأول هو صحة نظرية النسبية العامة، والتي تقدم تفسيرًا متماسكًا لظواهر الجاذبية التي نلاحظها، والتي تتوافق تنبؤاتها بشكل استثنائي مع جميع القياسات التي تم إجراؤها. ومع ذلك، هناك العديد من النظريات البديلة التي، على الرغم من اختلافها العميق عن النسبية العامة، تؤدي إلى نفس التنبؤات ولكنها تختلف عندما يتعلق الأمر بوصف بدايات الكون. لأن المشكلة موجودة: النموذج القياسي لعلم الكونيات يُدخل نظريتين مع أسس غير متوافقة، النسبية العامة للهندسة "على النطاق الكبير" للزمكان والفيزياء الكمومية للسلوك المجهري لمحتواها المادي والطاقوي. إنها مواجهة مباشرة بين فيزياء "المستمر" continu أو المتصل، حيث يُنظر إلى الزمكان على أنه متشعب أو متغير سلس، وفيزياء "غير متصل discontinu «، حيث يكون للزمكان بنية يمكن وصفها بأنها "حبيبية " granulaire، حتى أنه لا يمكن وصفها بأنها أقل من طول بلانك (حوالي 10-33 سم)، والذي سيمثل نوعًا ما حجم أصغر الحبوب التي وصفتها نظرياتنا الفيزيائية. تصبح المشكلة مستعصية على الحل عندما يقترب المرء من "لحظة الصفر" المفترضة للكون، الانفجار العظيم، لأن أيًا من النظريتين غير كافيتين لوصف سلوك الكون في جواره. إن مجالات صدق كل منهم عفا عليها الزمن، ويحتاج الفيزيائي إلى أدوات أخرى لفهم ما حدث بالفعل أثناء الانفجار العظيم، أو حتى إذا كان موجودًا. الفرضية الثانية للنموذج القياسي الكوني هي الوصف الذي أعطي للمادة بواسطة قوانين الفيزياء المعروفة. على سبيل المثال، منحنيات سرعة دوران المجرات، وديناميات المجرات داخل مجموعاتها أو حشودها leurs amas، أو تكوين هياكل كبيرة ليست قابلة للتفسير، عبر النسبية . بشكل عام، وذلك بفضل إدخال كمية كبيرة من المادة السوداء أو المظلمة غير الذرية، التي يؤثر تأثيرها أو فعلها الثقالي على المادة المضيئة. وبالمثل، لا يمكن فهم التوسع المتسارع للكون، إلا في النموذج الكوني القياسي، من خلال افتراض وجود شكل من أشكال الطاقة الطاردة répulsive، وهي الطاقة السوداء أو المعتمة أو المظلمة، التي تمثل حاليًا ثلثي إجمالي محتوى الطاقة في الكون. من الواضح أن إدخال هذه المكونات الكونية الجديدة له تأثير مباشر على النموذج القياسي الآخر، وهو نموذج الجسيمات: ما هي طبيعة المادة المظلمة والطاقة المظلمة؟ هل يجب أن نكتشف جسيمات جديدة؟ تؤكد هذه الأسئلة على الارتباط العميق الموجود بين فيزياء "اللامتناهي في الصغر" وفيزياء " اللامتناهي" في الكبر". تستدعي الفرضية الثالثة خصائص معينة لتناظر الزمكان والتي تجعل من الممكن حل معادلات أينشتاين للنسبية العامة. إنها تعكس الإيزوتروبي l'isotropie (أي عدم وجود اتجاه مميز) الذي لوحظ في شعاع الخلفية الكونية أو حتى في توزيع المجرات على نطاقات كبيرة جدًا. ينتج عن هذا التناظر انخفاض جذري في عدد الاحتمالات لتحديد مقياس الكون. في الواقع، يقدم الإيزوتروبي اثنين فقط من الاحتمالات: إما أن كوننا متماثل كرويًا symétrie sphérique، ونحن موجودون بالقرب من مركزه، أو أنه متناح أو إيزوتروب isotrope عند كل نقطة من نقاطه، وهو ما يُترجم بحقيقة أن الكون متجانس مكانيًا بالإضافة إلى كونه موحد الخواص. هذا الاحتمال الثاني يشكل ما يسمى بالمبدأ الكوني le principe cosmologique. وبغياب القدرة على الحسم واتخاذ القرار من خلال الملاحظات، فهذا هو الذي يتم الاحتفاظ به كمسلمة للنموذج القياسي، بافتراض أنه لا يوجد سبب يجعلنا نحن المراقبين نحتل مكانًا متميزًا في الكون. يؤدي هذا إلى حل رياضياتي دقيق لمعادلات أينشتاين، مقياس فريدمان-لومتر la métrique de Friedmann-Lemaître، الذي سمي على اسم مكتشفيه الأوائل في عشرينيات القرن الماضي. يخبرنا أن شرائح الفضاء، محليًا، متناحية إيزوتروب ومتجانسة homogènes et isotropes ولا يمكن أن تكون هندستها إلا من ثلاثة أنواع مختلفة فقط، وهي كروية ذات انحناء إيجابي sphérique à courbure positive، أو إقليدية مع انحناء صفري euclidienne à courbure nulle أو تحدبية بانحناء سلبي. hyperbolique à courbure négative الفرضية الرابعة تتعلق بالهيكل العام لـ الكون، والذي لا يمكن استنتاجه من الهندسة المرصودة محليًا. على سبيل المثال مقياس فريدمان-لومتر la métrique de Friedmann-Lemaître، تحتوي الأسطوانة على نفس المقياس أو نفس الهندسة المحلية مثل المستوى plan، لكن هيكلها sa topologie، أي شكلها العام، مختلف تمامًا. لقد كرس العالم الفرنسي جون بيير لومينيت أكثر من عشرين عامًا من العمل لهذا المجال الرائع من البحث الذي سماهسنة 1995 "الهيكل الكوني topologie cosmique ". تكمن المشكلة في أنه من الصعب للغاية، إن لم يكن من المستحيل، تحديد شكل الكون بفضل الملاحظات والرصد فقط، خاصةً عندما يتجاوز حجمه نصف قطر الجزء المرئي منه. في الختام، يسمح النموذج القياسي لعلم الكونيات شرح بطريقة بسيطة واقتصادية نسبيًا جميع الملاحظات التي لدينا حاليًا على الكون واسع النطاق، من ديناميات المجرات إلى تكوين الهياكل الكبيرة، بما في ذلك توسع الفضاء، الوفرة النسبية للذرات المختلفة وخواص إشعاع الخلفية الكونية. لا يوجد نموذج مثالي، إلا أنه يعاني من بعض المناطق الرمادية التي من المرغوب توضحيها: من بينها، تعد طبيعة المادة المظلمة غير الذرية وهي نقطة حاسمة، وإدخال الطاقة المظلمة التي تهيمن تمامًا على محتوى الطاقة في الكون. يعاني النموذج أيضًا من عدم اليقين فيما يتعلق بعملية التضخم المحتملة التي قد يكون الكون قد اختبرها في مهده، والعلاقة بين التقلبات الكمومية البدائية les fluctuations quantiques primordiales وولادة الأجسام ذات الحجم الفلكي الأول .لاحظ أيضًا أن التعيين ذاته للنموذج الكوني القياسي، modèle standard
cosmologique ACDM، والذي تسبب في الفوز بجائزة نوبل في الفيزياء لعام 2019 لأحد المبادرين جيمس بيبلز James Peebles، يؤكد هذا بشكل متناقض المشاكل المحتملة. المصطلح A هو الرمز التقليدي للثابت الكوني، والذي لا يعرف على وجه اليقين ما إذا كان يجب تحديده مع الطاقة المظلمة التي تسرع من التوسع الكوني. يشير الرمز DM (المادة المظلمة Dark Matter) إلى أنه من أجل حساب حركات وتشكيل الهياكل الفلكية الكبيرة، يجب إدخال شكل من أشكال المادة المظلمة ذات الطبيعة غير المعروفة، حيث يشير الحرف C (بارد Cold) إلى أنه يمكن أن يكون " بارد "، وهذا يعني أنه متحرك بسرعات منخفضة مقارنة بسرعات الضوء.
أوفي حالة قرب إلى لحظة الانفجار العظيم، تكمن المشكلة في الفيزياء ككل، لأنها تتعلق بخصائص المادة بمقاييس المسافة والطاقة التي تتجاوز مجالات صحة وصلاحية ركيزتان أساسيتان للنموذج الكوني القياسي، ألا وهما النسبية العامة وميكانيكا الكموم. من الضروري إذن اللجوء إلى نظرية أكثر عمومية تشمل هاتين النظريتين، تمامًا كما تم استيعاب نظرية نيوتن في الجاذبية الكونية قبل قرن من الزمان بواسطة نظرية أينشتاين. يعتقد العديد من الفيزيائيين أن نظرية الجاذبية الكمومية théorie de gravitation quantique ضرورية لحل الأسئلة المتعلقة بالمادة السوداء أو المظلمة والطاقة المعتمة أو المظلمة، وتبرير بحثهم بهذه الحجة. ومع ذلك، فإن الثابت الكوني، الموجود بالفعل في النسبية العامة الكلاسيكية، يفسر تمامًا الطاقة المظلمة، بينما يمكن تفسير المادة المظلمة غير الذرية من خلال ما يسمى بالنيوترينوات العقيمة. في حين أن هذه المكونات الكونية تنطوي على فيزياء تتجاوز نموذج الجسيمات القياسي، فإنها لا تتطلب بالضرورة قياس الجاذبية. في الواقع، المبرر الوحيد المقنع لنظرية الجاذبية الكمومية، إلى جانب توحيد ركيزتي الفيزياء الحالية، هو القضاء على التفردات l'élimination des singularités. ولكن، هناك مرة أخرى، يمكننا الاستغناء عنها باستخدام علم الكونيات الارتدادي les cosmologies à rebond ...
وحدات بلانك: Les unités de Planck
يتم التحكم في مقياس الظواهر الفيزيائية المعروفة من خلال ثلاثة ثوابت أساسية:
- سرعة الضوء في الفراغ c كلم/ثانية, 3000000 (299792458 م / ث) ثابتة المقياس الذي تكون فيه التأثيرات النسبية هي الغالبة ؛
- ثابت نيوتن G (6,673.10-11 m3/kg.s2) يقيس شدة تأثيرات الجاذبية ؛
- ثابت بلانك المخفض fi= h/(2rr) (1,054.10-34 kg.m 2/s ) يميز مقياس التأثيرات الكمومية. في وقت مبكر من عام 1899، أشار الفيزيائي الألماني ماكس بلانك (1858-1947) إلى أنه يمكن الجمع بين هذه الثوابت بثلاث طرق مختلفة لإعطاء الوحدات الأساسية للطول والزمن والكتلة: -
طول بلانك، Lp = [fi GlcT 12 = 1,61.10-35 mètre، هو a نوع من الطول الموجي الأدنى، أو "كم الفضاء" quantum d'espace ؛ -
زمن بلانك، tp = [fi G/c5 ] 112 = 5,39.10-44 seconde،، هو الزمن الذي يستغرقه الضوء في السفر بطول بلانك، أي مقدار الزمن الكمومي quantum de temps - كتلة بلانك، Mr = [fi c/GJl12 = 2,18.10-s kilogramme، ومع ذلك، ليس كمًا للكتلة. في الواقع، إذا بدت كبيرة نسبيًا (تساوي تقريبًا كتلة حشرة السوس acarien)، فهي في الواقع بمقياس الحجمين الآخرين ؛ يمثل في الواقع كتلة الثقب الأسود الذي سيكون نصف قطره هو طول بلانك ووقت التبخر الكمومي d'évaporation quantique، أي زمن بلانك
- يكمن جمال وحدات بلانك بشكل عام وطول بلانك بشكل خاص في أنه من خلال اعتمادها كمراجع لا يهم الوحدات التي يتم اختيارها لأخذ القياسات. سواء كنت فرنسيًا أو صينيًا أو أمريكيًا أو حتى من المريخ، فالجميع كذلك سوف يتفق على نفس الطول أو نفس الوقت. فيما يتعلق بوحداته، كتب بلانك نفسه في مقالته إلى أكاديمية العلوم البروسية: "سوف يحتفظون بالضرورة بمعناهم لجميع الأزمنة وجميع الحضارات، حتى غير البشرية وكائنات خارج الأرض، ويمكن للمرء أن يقوم بتعيينها كوحدات طبيعية. " ما المعنى العميق الذي يمكن أن نعطيه لهذه الكميات؟ هذه هي المقادير التي تصبح فيها تأثيرات الجاذبية والكمومية والنسبية ذات شدة مماثلة في نفس الوقت. على سبيل المثال، في نماذج Big Bang، كان زمن بلانك هو الزمن الذي كان من المقرر أن يخضع الكون الناشئ خلاله بشكل أساسي للتأثيرات الكمومية. يشير هذا إلى أن الوصف الصحيح للزمكان والمادة في الكون المبكر جدًا، وبالمثل داخل الثقوب السوداء، يتطلب نظرية تجمع بين الجاذبية النسبية وميكانيكا الكموم. القوى الأساسية الأربع المعروفة:
- القوة الشديدة (strong force) (النووية) وهي تعمل في نواة الذرة وتربط بين البروتونات والنيوترونات.
- القوة النووية الضعيفة (weak force) وهي تعمل داخل نواة الذرة وهي المسؤولة عن النشاط الأشعاعي لنواة الذرة.
- قوة الجاذبية أو الثقالة (gravity) وهذه تعمل بين الكتل، ويبلغ مداها إلي مالا نهاية. وقوة الجاذبية تعمل بين جميع الأجسام، وتظهر واضحة في التكوين الكري للأجسام السماوية من كواكب وشـموس، وكذلك تتحكم في أفلاك الكواكب حول الشمس، ودوران المجرات.
- القوة الكهرومغناطيسية هي التي تربط الإلكترونات بأنوية الذرات، وتربط الذرات بعضها البعض مكونة جزيئات وهي القوة المتحكمة في البنية البلورية. والقوة الشديدة هي التي تربط الكواركات في نواة الذرة وتربط ومكونات النواة (البروتونات) رغم شحناتها المتنافرة الموجبة. وقوة الجاذبية هي التي تكوّر الأرض وتكور الشمس وتجعل الكواكب تدور في أفلاك حول الشمس، وهي التي تربط المجرات بعضها البعض، وهي التي تجعلنا منجذبين إلى الأرض.
هذا هو ما يسعى إليه العلماء منذ أكثر من قرن من الزمن.
لابد من التذكير بأن أهم الثوابت هو " الثابت الكوني" الذي أضافه آينشتاين لمعادلاته في بداية القرن العشرين ثم تخلى عنه واعتبره أكبر خطأ ارتكبه في حياته العلمية ثم عاد " الثابت الكوني هذه المرة على شكل الطاقة السوداء أو المعتمة او المظلمة" التي يعتقد أنها تتسبب في تسارع التوسع الكوني.
لإنقاذ الموقف، اعتقد علماء فيزياء الطاقة العالية بعد ذلك أن الثابت الكوني قد لا يكون ثابتًا حقًا. على سبيل المثال، اقترح روبرت كالدويل ومعاونوه في عام 1998 وجود كيان جديد، عنصر خامس، من شأنه أن يضفي على الفضاء نفس المسحة، تمامًا كما فعل الأثير في كون أرسطو، وهذا العنصر الخامس يسمى "الجوهر". تم اختيار المصطلح من قبل الباحثين لتطبيقه على مجال الطاقة الجديد الافتراضي هذا. والذي يُعزى إلى اختلاف بطيء للغاية، لا يزال من الممكن تمثيله في نماذج الكون باستخدام المصطلح الكوني، والذي يتوقف عندئذٍ عن تعريفه على أنه ثابت. يمكن تفسيره دائمًا على أنه ما يبقى في الكون عند إزالة كل المادة وكل الإشعاع منه. وبهذا المعنى، فإن الجوهر يتوافق مع شكل معين من الفراغ، ولكنه أكثر مرونة من الثابت الكوني لأنه يتغير بمرور الوقت. قيمة هذا المجال، عالية للغاية في الكون البدائي (لذلك وفقًا لحسابات علماء فيزياء الطاقة العالية. ستنخفض القيمة بشدة أثناء التطور الكوني، ووفقًا للقيمة التي يقيسها علماء الفلك اليوم. بتعبير أدق، فإن مجال الجوهر سيتطور بشكل طبيعي نحو الجاذب مما يمنحه قيمة منخفضة مهما كانت قيمته الأصلية. وبالتالي، فإن عددًا كبيرًا من الظروف الأولية المختلفة للانفجار العظيم سيؤدي إلى نفس الكون الحالي – يجب أن ننتبه بدقة للالتفاتة اللطيفة! التي قادتنا نحو نهج آخر هو نظرية الأوتار، الممتدة من نظرية التناظر الفائق المقصود منها تضمين وصف للغرافيتون وكذلك أحد أكثر مقترحاتها الأكثر إثارة للدهشة الذي يتعلق بالتعدد الكوني أو الكون المتعدد. نظرية الأوتار، كما قلنا هي امتداد للتناظر الفائق الذي يهدف إلى تضمين وصف للغرافيتون، وهو الجسيم المكون للثقالة أو الجاذبية، أكثر مؤيديها حماسة (وشهرة) مثل ليونارد سسكيند وبرايان غرين وماكس تغمرك Brian Greene أو Max Tegmark الذين يأملون في تحويل الإخفاق في الإقناع والتوضيح إلى تحايل رياضياتي جديد أكثر إسرافًا بكثير من ذلك الخاص بالجوهر أو العنصر الخامس quintessence: إذا لم نفهم القيم التي تأخذها الثوابت الأساسية في كوننا، فيكفي الافتراض أن كوننا ينتمي إلى مجموعة لا نهائية تقريبًا وغير قابلة للرصد من الأكوان المتنوعة، كل منها مزود بمعلمات ومعايير موزعة عشوائيًا. في "مشهد" الكون المتعدد، يكون الثابت الكوني كبيرًا بشكل غير عادي في معظم الحالات، ولكن لا بد أن يكون هناك كون بعيد الاحتمال حيث يكون الثابت الكوني صفرًا تمامًا، وكون آخر غير محتمل تمامًا حيث يكون له "القيمة الصحيحة". كما هو حال كوننا بالطبع. لذلك، بالنسبة لهم، يمتلك كوننا المعلمات والمعطيات غير المحتملة التي يمتلكها هو فقط لأن هذه المعلمات والمعايير والمعطيات هي التي تجعله صالحًا للسكن، وبالتالي باستخدام حجة من النوع الأنثروبي التي تبدت حدودها أعلاه. تعد النظرية M، امتداداً لنظرية الأوتار التي اقترحها إدوارد ويتن، وتطمح لأكثر من ذلك. وفقًا لمؤيديها، في عالم "الأغشية" متعدد الأبعاد الذي نشأ من النظرية أم M، يمكن استيراد الطاقة المظلمة المقاسة في غشاء الكون من الأبعاد الإضافية لـ "المصفوفة" التي سيكون مغمورًا فيها. يرى باحثون آخرون أصل التنافر الكوني في التفاعلات المحتملة بين الأغشية - والتي ترقى إلى القضاء على أي لجوء إلى الطاقة المظلمة. هذا لا يلقي أي ضوء على المشكلة، إذا تذكرنا أن النظرية M هي أكثر غموضًا من الطاقة المظلمة، التي لها على الأقل تأثيرات ملحوظة على سرعة التوسع الكوني. كما نرى، لا توجد أي من هذه النظريات الجديدة، مهما كانت مثيرة من هي قادرة على أن تحل الصعوبات بشكل أفضل من إصداراتها السابقة التي تتعاطى مع الطاقة المنخفضة. ففي كل مرة يتم دفع المشاكل إلى الوراء أكثر قليلاً، مما يزيل قدرًا من الخيال مثل النظريات المذكورة أعلاه: فيزياء موحدة تمامًا والتي ستكون على وشك الانتهاء. أتجاهل محاولات أخرى لا حصر لها لشرح طبيعة الطاقة المظلمة. حتى أن بعض الباحثين ينكرون وجودها، على سبيل المثال من خلال استدعاء كون غير متجانس بدلاً من نموذج فريدمان-لومتر المتجانس القياسي؛ في هذه الحالة، ستختلف سرعة التمدد في الزمان والمكان وفقًا للاختلافات في الكثافة، ولن تكون الطاقة المظلمة أكثر من مجرد قطعة أثرية. باختصار، يتم نشر اقتراح جديد للطاقة المظلمة في المتوسط كل شهر. يكفي القول إن الوضع مشوش إلى حد ما. قبل بضع سنوات، تطوع جيرارد هوفت، الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1999، لكتابة مقال في مجلة بعنوان "100 حل لمشكلة الثابت الكوني، ولماذا جميعها خاطئة". قرر أخيرًا ترك المهمة لأحد طلاب الدكتوراه تحت إشرافه، معتبرًا أنها ستكون تمرينًا جيدًا للطالب في هذه المرحلة، من المشكوك فيه ما إذا كان اكتشاف التسارع الكوني، الذي يعتبر أحيانًا الأهم في العشرين عامًا الماضية في الفيزياء، يؤدي إلى الكثير من الالتواءات النظرية. من ناحية أخرى، يمكننا أن نعتقد أن الأمر يتطلب المزيد من الخيال والإبداع لإخراج الفيزياء النظرية مما نعتقد أنه طريق مسدود. من ناحية أخرى، يمكن للمرء أيضًا أن يتساءل عما إذا كانت الفيزياء الحالية لا تعاني من فائض من الخيال مقارنة بنقص البيانات التجريبية. بالإضافة إلى ذلك، يصبح الخيال، رأس المال للإبداع العلمي، غير منتج إذا لم يطرح الأسئلة الصحيحة. من غير المجدي أن نتعجب من حقيقة أن التناظر يمكن أن يوحد الجسيمات الأولية والتفاعلات الأساسية إذا كان الفيلسوف وعالم الرياضيات جوتفريد فيلهلم ليبنيز يؤمن بذلك في القرن الثامن عشر، ومؤخرًا المنظر البريطاني روجر بنروز، نحن نفهم الطبيعة بشكل أساسي، كلما بدت لنا قوانينها أقل تناسقًا. لقد رأينا أن ظاهرة التسارع الكوني يمكن وصفها ببساطة من خلال الثابت الكوني الكلاسيكي لمعادلات أينشتاين، دون اللجوء إلى الفيزياء الجديدة. لكن مجرد كونها أبسط تفسيراً وأكثرها طبيعية لا يعني أنها التفسير الصحيح: على مدى خمسة وعشرين قرناً من ممارستها، لم تتوقف العلوم، وجميع التخصصات مجتمعة. عن مفاجأتنا. ولكن إذا لم يكن الثابت الكوني المرتبط بالفراغ الكمومي هو الذي يسبب التسارع الملحوظ للتوسع الكوني، فما هو السبب الذي يقف وراء التسارع في التوسع الكوني؟ من خلال طرح مشكلة التوافق بين الوصف الكلاسيكي للمكان والزمان والجاذبية مع الطبيعة الكمومية للمادة التي لا تزال غامضة. تشير خطورة الطاقة المظلمة إلى أن شيئًا أساسيًا مفقود في فهمنا للكون المادي. على هذا النحو، يمكن أن يكون توضيحها بمثابة دليل حول كيفية تطوير نظرية جيدة للجاذبية الكمومية. كما هو الحال مع القضاء على التفردات أو حل مفارقة الانتروبيا للثقب الأسود، مثلما يعتبر تفسير القيمة الصحيحة لكثافة الطاقة المظلمة هو اختبار لهذه النظريات. سنرى أنه فيما يتعلق بالثابت الكوسمولوجي أو الكوني حيث فشتل نظرية الأوتار، فإن المناهج الأخرى مثل الجاذبية الكمومية الحلقية، والجاذبية الآمنة مقاربًا أو حتى المجموعات السببية لم تنجح. إنها تحية فريدة من نوعها إلى عباقرة مثل آينشتاين ولوميتر لنرى كيف سلك "الحمل الصغير، أي الراهب جورج لومتر" الذي ناقشوه بأدب في مؤتمر باسادينا منذ أكثر من ثمانين عامًا، مسارًا متعرجًا لا تزال نهايته غير مرئية.
معادلات الطاقة المظلمة:
هل يمكننا تخيل أجهزة تجريبية قادرة على تقييد النماذج المختلفة للطاقة المظلمة بشكل أفضل؟ يتميز هذا العامل " أي الطاقة السوداء أو المظلمة" بالضغط السلبي. هذا الأخير يعادل في الواقع التوتر، تمامًا مثل الأجسام المرنة والألواح المطاطية أيضًا، عند الشد، يوجد ضغط سلبي كامن موجه إلى الداخل. يتضح أنه عندما يكون ضغط الطاقة المظلمة أقل من ثلث كثافة الطاقة، تتغير قوة الجاذبية وتصبح نابذة. المعلمة الرئيسية هي معادلة الحالة التي تشرح العلاقة بين الضغط p للطاقة المظلمة وكثافة طاقتها p في p = wpc2، حيث w هو معلمة paramètre تعتمد على طبيعة الطاقة. للحصول على طاقة طاردة، يجب أن تكون w سالبة وأقل من -1/3. تنص إحدى المعادلات الأساسية للنموذج الكوني القياسي (المعروف بمعادلة فريدمان الثانية) على أن معدل تمدد الكون يتناسب مع- (p + 3p / c2). في الفيزياء اليومية، تكون الكثافة p والضغط p موجبة، لذا فإن معدل التمدد سالب، وهو ما يتوافق مع التباطؤ. ولكن إذا أخذنا في الاعتبار مجال طاقة يكون فيه (p + 3p / c2) سالبًا، يصبح معدل التمدد موجبًا ونحصل على تسارع. كما رأى لومتر في عام 1934، فإن الثابت الكوني الفراغ الكمومي يتميزان بـ w = -1 ؛ ولذلك فهي طاردة للغاية. أشكال أخرى من الطاقة المظلمة، مثل نماذج العنصر الخامس modèles de quintessence، والتي تترواح قيمة w فيها بين -1 و -113. يتميز الشكل الأكثر تطرفاً للطاقة النابذة أو الطاردة d'énergie répulsive، والمعروف باسم "الطاقة الوهمية énergie fantôme أو الطاقة الشبح"، بـ w <-1. المرونة النظرية تسمح أيضا إلى معادلة الحالة]'équation d’état بأن تتغير بشكل تعسفي بمرور الوقت. وضع علماء الفلك برامج مراقبة طموحة قادرة على تقييد القيم الممكنة لـ w، وبذلك تكون نماذج الطاقة المظلمة مختلفة. الرهان أو التحدي كبير بالنسبة لعلم الكونيات لأنه، كما سنرى لاحقاً، فإن المستقبل طويل الأمد لكوننا يعتمد كليًا عليه.
مسح الطاقة المظلمة Le Dark Energy Survey ويختصر بــ DES هو برنامج مسح ضوئي دولي للأشعة تحت الحمراء وبالقرب من الأشعة تحت الحمراء باستخدام تلسكوب قطره 4 أمتار يقع في تشيلي ومجهز بكاميرا قوية عالية الوضوح للغاية. هدفه هو رسم خرائط لمئات الملايين من المجرات. يحلل DES البنية واسعة النطاق للكون باستخدام أربعة مؤشرات مختلفة:المستعر الأكبر أو السوبر نوفا من نوع la supernovae للكشف عن تاريخ توسع الكون، والتذبذبات الصوتية الباريونية للكشف عن توزيع المجرات ثلاثية الأبعاد، وتوزيع العناقيد المجرية، واستخدام عدسات الجاذبية الضعيفة. تتكون هذه الطريقة من قياس تشوه شكل المجرات تحت تأثير عدسة الجاذبية الناتجة عن المادة المرئية والمظلمة الموجودة بين الأرض وهذه المجرات. درجة التشويه تجعل من الممكن استنتاج كيفية توزيع المادة المظلمة، عن طريق طرح تأثير المادة المرصودة. برنامج المراقبة، الذي بدأ في عام 2012 واكتمل في يناير 2019، جمع كمية هائلة من البيانات التي بدأ تحليلها للتو. ستتولى مهمة إقليدس Euclid مسألة التتابع، وهو تلسكوب تابع لوكالة الفضاء الأوروبية (ESA)، ومن المقرر إطلاقه في المدار الأرضي في غام 2022. يشير اسمه إلى عالم الرياضيات والفلك العظيم في العصور القديمة، والذي كان قادرًا على قياس الزمن من ظل عصا عالقة في الأرض. ستستمر ملاحظات هذه الأداة الجديدة، التي تغطي 10 مليارات مصدر فلكي، ست سنوات على الأقل. تعتمد المهمة على قياسات القص الثقالي cisaillement gravitationnel والتحديد عن طريق التحليل الطيفي spectroscopie لمسافة المجرات المعنية. تم تطوير العديد من الطرق للكشف عن خصائصها على مدى السنوات الماضية. واحدة من أكثرها فعالية هي عدسة الجاذبية الضعيفة، والمستخدمة بالفعل في برنامج DES. علاوة على ذلك، من خلال قياس الانزياح الطيفي décalage spectral نحو اللون الأحمر للمجرات في الخلفية (انعكاس لعصر صورة المجرة)، يمكننا علاوة على ذلك، من خلال قياس الانزياح الطيفي نحو اللون الأحمر للمجرات في الخلفية (انعكاس عمر صورة المجرة)، يمكننا تقدير كيفية تطور ظاهرة التشويه بمرور الوقت. الهدف النهائي هو تحديد المعلمة w لمعادلة الحالة المتعلقة بضغط الطاقة المظلمة وكثافتها، بدقة 2٪ فيما يتعلق بجزءها الثابت، و 10٪ من أجل أن يعكس المكون تباينًا محتملاً لهذا الضغط بمرور الوقت - أي مرتبط بالتحول أو الانزياح الطيفي نحو الأحمر. إذا تبين أن المعلمة w قريبة جدًا من -1، فإن نظرية النسبية العامة وثابتها الكوني ستعطي حسابًا جيدًا لمعدل تمدد الكون ووجود الطاقة المظلمة. من ناحية أخرى، فإن الاختلاف الكبير في المعامل w يعني إما وجود شكل آخر من أشكال الطاقة المظلمة، أو مراجعة للنظرية النسبية العامة.
مستقبل الكون والطاقة المظلمة:
يعتمد تطور الكون بشكل أساسي على الكثافة الكلية للمادة والطاقة التي يحتويها في جميع أشكالها. عندما يقوم علماء الفيزياء الفلكية بتقييم ذلك، فإنهم يواجهون عددًا من المضاعفات والتعقيدات. سيطرت أشكال مختلفة من الطاقة بدورها على مسار التطور الكوني وفرضت ديناميكياته، أي، تغير عامل المقياس المكاني R بمرور الوقت – وهو عامل مقياس يمكن تحديده بالنسبة لنصف قطر الكون المرئي. يمكننا التمييز بين أربع مراحل تقريبًا. الأولى، المرحلة الافتراضية، وهي الفترة القصيرة جدًا من التضخم، حيث كان R يتوسع بشكل كبير تحت تأثير شكل متطرف من طاقة الفراغ d'énergie du vide. خلال هذه الفترة كان من الممكن إنشاء المادة. في المرحلة الثانية، سيطر الإشعاع، ولكن مع انخفاض كثافة طاقته مثل R-4 بينما زادت R، في المرحلة الثالثة حلت محلها المادة، أو تم استبدالها بالمادة، التي تقل كثافتها فقط كـ R-3 • لـ لأسباب مماثلة، في المرحلة الرابعة، استحوذت الطاقة المظلمة على امتداد ما يزيد عن 7 مليارات سنة، وهي تهيمن على الكون الحالي. تأثيرها هو تسريع التوسع، وإن كان بسرعة أقل مما كان عليه أثناء التضخم. نحن لا نعرف إلى أين ستقودنا تلك الطاقة الغامضة السوداء أو المظلمة، لأننا لا نعرف طبيعتها الحقيقية ولا نعرف قانون التباين الخاص بها بمرور الوقت. ولا ماهيتها الحقيقية. أخيرًا، دعونا نلخص عواقب الفرضيات المختلفة المتعلقة بالطاقة المظلمة على المستقبل البعيد جدًا للكون. • إذا كانت الطاقة المظلمة ثابتة، فإنها ستهيمن أكثر فأكثر على التوازن الطاقوي في الكون، وسيستمر التوسع الملحوظ للفضاء في التسارع حتى يصبح أسيًا exponentielle. ستتحطم الهياكل غير المتصلة ثقاليًا بالفعل وستبتعد أجزائها عن بعضها البعض بسرعات ظاهرة أكبر من سرعة الضوء. سوف يمنعنا التسارع في النهاية من مراقبة أجزاء مهمة من الكون والتي يمكن رؤيتها اليوم: وبعد حوالي 100 مليار سنة، ستكون جميع المجرات شديدة الانزياح نحو الأحمر بحيث لا يمكن ملاحظتها أو رصدها. ومع ذلك، فإن الهياكل المرتبطة بالجاذبية، مثل المجرات وأنظمة الكواكب، ستبقى كذلك. لذا فإن النظام الشمسي أو مجرة درب التبانة سيظلان كما هو عليه حالهما الآن، بينما سيبدو باقي الكون وكأنه يهرب منا. إن ما يسمى سيناريو البغ تشيلي Big Chili (التبريد الكبير grand refroidissement) وهو، في المستوى الحالية لمعرفتنا، السيناريو الأكثر منطقية. • إذا انخفضت كثافة الطاقة المظلمة في المستقبل (النمط الجوهري أو نموذج العصر الخامس modèle de quintessence)، فيمكن أن تصبح المادة مهيمنة مرة أخرى. سينمو الأفق الكوني ليكشف لنا عن جزء أكبر من الكون. ستنتصر الثقالة الجذابة مرة أخرى ولن يتوقف التوسع عن التسارع فحسب، بل سينعكس أيضًا، وسوف ينكمش الكون ككل ليختفي فقط في أنكماشة كبيرة Big Crunch قد تحدث خلال 18 مليار سنة. على العكس من ذلك، إذا زادت الطاقة المظلمة بمرور الوقت، أو إذا هيمنت عليها الطاقة الوهمية شديدة التنافر، فإن الفضاء سوف يتوسع بمعدل متزايد باستمرار، وسوف يتسارع التسارع نفسه. في هذه الحالة، ستكون النتيجة تمزق كبير Big Rip قاتل أي grand déchirement تمزق عظيم مدمر، وذلك في حال أصبح التسارع غير محدود تقريبًا بعد فترة زمنية محدودة. سيتم تمزيق كل مادة في الكون، حتى الذرات، بسبب توسع الفضاء. في السيناريو الأكثر تطرفًا، قد يحدث هذا الحدث "بالكاد" بعد 22 مليار سنة. أولاً، سيتم فصل المجرات عن بعضها البعض وستتحلل العناقيد المجرية. حوالي 60 مليون سنة قبل التمزق الكبير Big Rip، ستكون الجاذبية أضعف من أن تحافظ على تماسك مجرتنا التي ستتشتت ؛ قبل ثلاثة أشهر من الانهيار الكبير، سيتمزق النظام الشمسي. في الدقيقة الاخيرة، النجوم والكواكب سيتم تمزيقها، في الجزء I0-19 من الثانية، قبل ذلك، سيتم تدمير الذرات والأنوية أو النوى الذرية نفسها، تاركة كوناً فارغاً بدون أي بنية.أو هيكيلية
إذا تم تقليل الطاقة المظلمة إلى طاقة الفراغ الكمومي وظلت ثابتة بمرور الوقت، فسوف تهيمن أكثر فأكثر على طاقة المادة والتوسع، وسيظل الكون متسارعًا ليؤدي إلى البرود الكبير Big Chili (المنحنى الأوسط). إذا كانت الطاقة المظلمة مجالًا متغيرًا جوهريًا بمرور الوقت، فيمكنها تغيير معادلة الحالة وتصبح جاذبة. لذلك يصبح الإنكماش الكبير Big Crunch ممكناً مرة أخرى ويمكن أن يحدث في غضون 18 مليار سنة (منحنى القاع). إذا تم استيعاب الطاقة المظلمة في طاقة فانتوم وهمية أو شبحية أكثر كثافة وأكثر إثارة للنبذ ، فإن توسع الكون سيصبح سريعًا أسيًا لينتج عنه تمزق كبير Big Rip (منحنى علوي).
د. جواد بشارة
نجيب محفوظ.. ملك الرواية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عبد الجبار نوري
تحية لنجيب محفوظ الذي وصفته جريدة لوموند الفرنسية الواسعة الأنتشار في ثمانينات القرن الماضي، قائلة: {صباح الخير.. ياملك الرواية} .
فهو كاتب البورجوازية الصغيرة والفقيرة المعدمة والتي تكافح من أجل البقاء، ولآجل أثبات وجودها، فهو أكثر فهماً للطبقة الوسطى، وأقدرهم تعبيراً عن مشاكلها، وأستعراض دقائق حياتها، وكشف واقعها وطبيعتها والظروف الحضارية والتأريخية وطبيعة القوى الأجتماعية وصراعاتها وحركتها التطورية في المجتمع المصري بالذات، ووضع محفوظ للمتلقي رؤية واضحة عن الظواهر الأجتماعية بتقديراتٍ سليمة، فهو ديمقراطي تقدمي في مجتمع شرقيٍ متخلف .
هو صاحب (الثلاثية) والتي تعتبر أفضل رواية عربية في تأريخ الأدب العربي حسب رأي أتحاد كتاب العرب، وتتكون الثلاثية من ثلاثة حكايات مصرية:
بين القصرين 1956
قصر الشوق 1957
السكرية 1957
وأظهر نجيب محفوظ في الثلاثية النمط الأنساني، معتمدا التحليل النفسي والنقد الأجتماعي بحيث جعل التأريخ شاهدا حقيقيا حياً في سوسيولوجية المجتمع المصري وتراثه الحضاري والعلاقات الأجتماعية عبر رسم شخوص الرواية وتناقضاتها وأرهاصاتها الداخلية وبفطنته البارعة عطر بين سطورها بخط الكوميديا، لكون الكوميديا طابع أصيل للأمزجة المصرية .
وأن أسلوب محفوظ متأثرا بالمدرستين الواقعيتين الفرنسية والأنجليزية مع أنفاس الأديب الفرنسي "أميل زولا " ومدرسته (الطبعانية) أي فلسفة المذهب الطبيعي في الفن والأدب والعلوم الطبيعية .
نجيب محفوظ1911-2006 روائي مصري أول أديب عربي حاز جائزة نوبل في الأدب، تدور أحداث جميع رواياته على مساحة جغرافية مصر، ويؤكد في نتاجاته الأدبية ثيمة (الحارة) التي توازي العالم، فقد شغل ذاكرة الأمة الأدبية والثقافية بعالمه الروائي والقصصي المتسم برموزه وشفراته المراوغة والتي أصبحت حبلاً سريا مغذياً للسفر التراثي الأدبي لعصرنا الحاضر ورافداً غزيراً لا ينضب من الأعمال الرصينة ذات الشفافية العالية لسفرالأمة الثقافي ...
فهو العزيز في زمن الجدب، فصاغ لنا مفهوم الحداثة ببراعته الفائقة وبشخصنة محفوظ المعصرنة بناءاً ومادة وتكنولوجية بمقاربات في التطور الجمعي السوسيولوجي والتي يهدف منها محفوظ في أعادة صنع الأنسان المصري ضمن حاضره ليستشرق فيه المستقبل بخطى واعية ونظرة حصيفة وقدرة على الأبتكاربدون قيود ويجعل لها رافعة واحدة هي (التعليم)، لذا تفتحت أمامهُ كل سبل المجد بفوزه بسيمياء الشخصنة المحبوبة قبل فوزه بجائزة نوبل، حيث تمكن برصانة أسلوبه السحري في أختيار الألفاظ من الحصول على رضا (اليمين والوسط واليسار والقديم والحديث) .
فنجيب محفوظ مؤسسة أدبية و فنية مستقرة وضعت هذا الأديب الأسطوري بموقع المؤسسة الشعبية، ولأن أسلوبهُ يجمع بين الحدث التأريخي والحكواتية الشعبية الواقعية .
ويعتمد الرمزية الجزئية وبواقعية سحرية غريبة ينحو مندمجاً مع الرمز الكلي بدلالاتٍ متعددة منتجاً أكثر من تفسير، وأن عالم محفوظ يضمُ بين جنباته عدة مدارس في آنٍ واحد فهو ينحو من الواقعية النقدية ألى الواقعية الوجودية ثم ألى الواقعية الأشتراكية أضافة ألى تزويق الرواية بجماليات السريالية، لذا وجد النقاد بأنهُ (متحف) لألمامهِ الموسوعي بجميع مذاهب ومناهج وأتجاهات النقد الأدبي أبتداءاً من التأريخية وأنتهاءاً ب(البنيوية).
كما تحتوي كتاباته على مفارقات تنحو أحياناً كثيرة ألى التعداد والتنوع والتضارب والتعارض ومتناقض الأضداد فأنهُ يقدم حالة نموذجية لدارسي (الهرمينوطيقا الأدبية)* فهو يقدم مادة غنية لألوانٍ مغايرة في الدرس النقدي وهو ما أطلقتْ عليه الحداثة الأدبية أسم نقد النقد أو ما بعد النقد . وأن كتاباته الروائية أو مجموعاته القصصية تربطها مجموعة من العلاقات تتخلل النصوص جميعاً وتوحده ألى نصٍ واحد كما نرى هذا المنظور في رواياته : أولاد حارتنا واللص والكلاب والقاهرة الجديدة وعبث الأقدار .
أولاد حارتنا --- هذه الرواية قد كتبها محفوظ بعد ثورة يوليو1952 بعد أن رأى أن الثورة أنحرفت عن مسارها، ولم يتم نشرها في مصر ألا بعد 2006، ولعل ملخص القصة تبدأ ببطل الرواية (الجبلاوي) كان شخصاً عنيفاً صلباً متسلطاً ومزواجا لهُ الكثير من النساء – وهنا عقدة الرواية في أحتدام الجدل بين الأوساط الدينية بأن محفوظ يقصد بالجبلاوي الذات الألهية لذا كفروا الكاتب ومنعوا نشر الرواية، وتعرض لحادثة أغتيالٍ فاشلة في 14 تموز1994 من جانب أنصار التيار الديني المتطرف .
وحسب أعتقادي الفكري وقراءاتي المتعددة للرواية وفي أزمنة مختلفة : أرى أن محفوظ يقصد بالبطل رمزيا بالحكومات المستبدة الذين حكموا مصر الفراعنة والمماليك والأتراك والأسرة الفاروقية وعساكر أنقلاب تموز، أما الأخوة عباس وجليل ورضوان – عدا أدريس – يمثلون الطبقة الضعيفة والمستلبة في المجتمع المصري .
- أنتهج فيها أسلوباً رمزياً يختلف عن أسلوبه الواقعي، فهو ينحو في هذه الرواية جاهداً على أبرازالقيم الأنسانية التي نادى بها الأنبياء كالعدل والحق والسعادة الروحية، ولكنها أعتبرتْ نقداً مبطناً لبعض ممارسات عساكر الثورة والنظام الأجتماعي الذي كان قائماً.
-على العموم كانت أكثرجدلاً من حيث المضمون بين الأوساط الدينية بالذات، حاول الكاتب أن يصوّر للفقراء والمعدمين مدى الظلم الذي لحق بهم وبالبشرية عموماً منذ طرد آدم من الجنة وحتى اليوم حيث الأشرار يعيثون فساداً في الأرض ويستبدون ويستعبدون الضعفاء وقد غلقوا أبواب الأمل أمام الطبقات المسحوقة أن تتمتع من نصيبها في الحياة .
- سلط ضوءاً على العبودية والقهر مبيناً وبجرأة فائقة حركة التأريخ في الصراع الطبقي للمجتمع المصري الذي يعيش الخوف والجوع ووضوح الفروق الطبقية بشكل مذهل ورهيب، ووضحها محفوظ ببراعة بليغة وهو يحرك خيوط شخوص الرواية في توزيع الأرث من قبل رب الأسرة بصورةٍ غير عادلة تكتنفها الأنتقائية والأزدواجية والتحيّزْ والتعسف بأعطاء الحظ الأوفر ل (أدهم) والذي يقصد به آدم وحرمان (أدريس) الذي يقصد به أبليس، وبهذه الرمزية وهي الصفة المتعارف عليها عند الحكومات المستبدة، وهي أدانة للنظم الشمولية والدكتاتورية .
- وأنهُ لم ينتقص من الدين ورموزه ولا من ثوابته ومسلماته الفكرية بل هو أستعملها كماشة نار في تقليب الحوادث المأساوية على مساحة جغرافية مصر والعالم العربي، وما كانت حكاية (عرفة) في نهاية الرواية والتي رسم له شخصية معرفية وموسوعية لكي يجلب أنتباه القاريء والمتلقي بأن رافعة التغيير تكمن في (التعليم والمعرفة) الذي يمثله (عرفه) وجعل العلم البلسم الشافي والطريق القويم ألى " أولاد الحارة " في النهوض من كبوتهم، ولعل أهم شاهد على عدم تعرضه للأديان وبالذات الدين الأسلامي هو ما جاء في الصفحة 583 من الرواية (---الدين الذي هو منبع قيم الخير والعلم الذي هو أداة التقدم والنهضة في حاضرنا ومستقبلنا).
- وكان يرى أن الدين قد أُستغلّ ووظّف توظيفاً خاطئاً أدى ألى شقاء الأنسان كما رأينا في سطوة الكنيسة في القرون الوسطى والفتوحات الأسلامية في القرون الماضية وتعسف الدولتين الأموية والعباسية وعبث ولصوصية الدين الراديكالي وتسلطه على رقاب العراقيين بعد الأحتلال الأمريكي البغيض .
وأعتقد بأن أتهام محفوظ بالزندقة والألحاد فهو محض أفتراء على الرجل حسداً وغيرة لنجوميته الأدبية المتألقة وهو الأديب العربي الوحيد الذي فاز بجائزة نوبل في الأداب ونتاجاته الثرة التي وصلت ألى أكثر من خمسين بين روايات وقصص وبحوث ونقد، وسوف أفند بطلان هذا الأتهام الظالم: بأن محفوظ في مجمل سير الرواية آمن بالموت لجبلاوي، وهل تموت الآلهة ؟؟؟وكذا بطله العلامة (عرفه) مات وفنى كجسد وبقيت معارفه شاخصة ألى الأبد، وهنا أتكأ محفوظ على ركيزتين في أحترام الثوابت الدينية وهما { الخلود لله والموت والفناء للبشر وركيزة العلم }، وثم أصطفاف أعداء الرجل من رجال الدين والأزهريين والمد الأخواني ووعاظ السلاطين وجماعة الوفد وعساكر الثورة البورجوازية ورجال الحقبة الملكية التي عاصرها الكاتب والذين أخضعوا مصر للمستعمر، وهو الذي سفّه آراء من أعتقد ويعتقد أن الأمور سوف تتغيّرْبعد ثورة 1952 معلناً حقيقة تأريخية (أن صنماً هُدم ليبنى صنماً آخر أو بعبارة أدق ذهب الظالم وبقي الظلم) وعرض بشكلٍ جزئي سلبيات نظرية الحق الألهي في فرض عبودية بطل الرواية الجبلاوي على أسرته وهي رموز تشبيهية لدكتاتوريات حكام العرب قديما وحديثا، وأن تشبيهات الكاتب لشخوص الرواية بالرموز الدينية قد خدم النص والفكرة التي أنشيء من أجلها المتن .
أخيراً/ لقد آن الأوان لأولاد هذه الحارة أن يعرفوا سر ضعفهم وخنوعهم وأن يثوروا لكرامتهم وكبريائهم وأن يلقوا بالتخلف والجهل والأنقياد والعبودية بعيداً، هذه هي الروح التي تبنتها الرواية " أولاد حارتنا " فهو لم يدعو للحرب بل للحوار والسلم لذا أنهُ أستحق جائزة نوبل .
وأن الرواية تبشر بيومٍ يستطيع فيه الأنسان أن ينتصر على السلطة الغاشمة وأدواتها الفتوات والبلطجية وعاظ السلاطين والجهل وكانت آخر كلمات الرواية والتي حركت مشاعري وأحاسيسي من الأعماق {--- لكن الناس تحملوا البغي ولاذوا بالصبر وأستمسكوا بالأمل وكانوا كلما أضرّ بهم العنف قالوا لابد للظلم من آخر ولليل من نهار ونرى في حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب}، نعم... نعم سوف يولد يومٌ جديد في عراقنا المأزوم والمسروق وتشرق شمس الحرية في وادي الرافدين الجميل ويتحقق شعار الشباب المنتفض اليوم في عراقنا الحبيب {وطن آمن وحر} .
أديب وباحث عراقي مقيم في السويد
.......................
*الهيرمنيوطيقا: هي نظرية أدبية تعني بالمعنى الدقيق للكلمة: الدراسة المنهجية لطبيعة الأدب، فهي مرتبطة بمذاهب الفلسفة وعلم الأجتماع وهي فن دراسة فهم النصوص في فقه اللغة واللاهوت والنقد الأدبي لذا يستعمل الأصطلاح في الدراسات الدينية (ويكيبيديا للحرة)....
بعض المصادر والهوامش
- جبرا أبراهيم جبرا – الأسطورة والرمز – ترجمة – بغداد 1973 ص 258
- سليمان الشطي – الرمز والرمزية في أدب نجيب محفوظ- الكويت 1976 ص29
- لويس عوض – دراسات في النقد والأدب – القاهرة ص 345 – ص346
- احمد ابراهيم الهواري - مصادر نقد الرواية في الادب العربي الحديث – القاهرة 1979 .
- ادور الخراط – عالم نجيب محفوظ –مجلة المجلة 1963 – ص 37
الإنقاذ ممكن في لبنان.. وهذا طريقه
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عدنان برجي
تتخبّط الطبقة الحاكمة في لبنان، في كل مجالات السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، وبناء الإدارة العامة، والتربية والتعليم، ويظهر تخبّطها جليّا للقريب والبعيد، ، فهل هذا التخبّط جديدًا، وطارئًا ، ام انّه ملازم لوجودها؟ وتعبير قاطع عن فشلها؟. وكيف يمكن الخروج من المآزق الكبرى التي يعيشها اللبنانيون نتيجة فشل وتخبط هذه الطبقة؟.
القارئ الموضوعي لتجربة هذه الطبقة، منذ ما بعد اتفاق الطائف، في اوائل تسعينيات القرن الماضي، لم يفاجأ بحجم التخبط والفشل، بل المفاجأة كانت لماذا تأخر الانهيار الى هذا الوقت؟ وكيف استطاعت هذه الطبقة ان تداري فشلها حتى أتت على كل مقومات الدولة، وعلى أموال الناس ولقمة عيشهم.
لقد رسم اتفاق الطائف عام 1989، طريقًا لإعادة بناء الدولة بعد حرب قاتلة لمدّة خمسة عشر عامًا. وهذا الاتفاق، جاء ثمرة طروحات مختلف أطراف الطيف اللبناني، حيث انتصرت وحدة لبنان على طروحات التقسيم، والتفتيت، والفدرلة، وكان يُفترض ان يكون الحكّام وطنيّون، وحدويّون، ديمقراطيّون. لكن بسبب التحالف الإقليمي الدولي المُهيمن آنذاك، تسلّمت الميليشيات والمافيات مقاليد السلطة، فجرى الإلتفاف على اتفاق الطائف، ولم تُطبّق بنوده، ولم يتم الإلتزام بالمواعيد التي حدّدها، كإطار زمني للوصول الى دولة المواطنة بدل دولة الطوائف والمذاهب.
كمثال على ذلك: غاب الإنماء المتوازن، فتم تهميش المحافظات، ولم يتم النهوض بالمدن وبالعاصمة تحديدا، غاب الإهتمام بالزراعة والصناعة والإنتاج، وذهب الجميع الى اقتصاد ريعي هجين.
تعمقّ التعصّب المذهبي والطائفي، باعتماد قوانين انتخابيّة مناقضة لما ورد في اتفاق الطائف، ولم تنشأ الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، ولم يقم مجلس الشيوخ. والمجلس الاقتصادي الاجتماعي تم تحويله الى فولكلور، وكذلك مجلس محاسبة الوزراء والنواب، وحيل دون قيام سلطة قضائيّة مستقلّة. اما الإدارة العامّة فاستُبيحت، وهُمشّت المؤسّسات الرقابيّة، وحل التعاقد الوظيفي مكان الكفاءة، والخبرة، والجدارة، والتجرّد عن الأهواء والعصبيّات والمحسوبيّات. لم يبنَ تعليم رسمي، ولم يُحصّن مستشفى حكومي، ولم تُشق طرقات، بل تضاعفت الديون العامّة مئة ضعف، باقتصاد ريعي، تعاون في انجازه حاكم مصرف مركزي، وجمعيّة مصارف، وحيتان مال، وتجار سياسة، وبائعو أوهام، وإعلام مأجور وتابع.
هل يمكن الخروج من كل هذه المآزق؟ وقد تم إفشال تحرك 17 تشرين 2019 ؟. الجواب نعم، لكن الطريق طويل وشاق، ولن يستطع سلوكه المترددون، والخائفون، والتابعون، والمزايدون، والمغامرون، والمقامرون.
الطريق يُختصر باعتماد مطلب واحد، يُشكّل المدخل للتغيير والتطوير وضمان حقوق الوطن والمواطن.
فلبنان يتبع النظام البرلماني، ولا سبيل الى تغيير هذا النظام، ولا مصلحة في تغييره. اذن بداية الطريق: قانون انتخابي وفق ما جاء في الدستور: نسبي، وعلى أساس المحافظة، ودون قيد طائفي، وبضوابط صرف مالي. لقد كان مفترضًا الغاء طائفيّة مجلس النواب، بعد ستة عشر عامًا على انتخاب اول مجلس نيابي بعد الطائف، وقد انتهت المهلة. بالمقابل يتم انتخاب مجلس شيوخ على أساس طائفي كما ورد في اتفاق الطائف وتُناط به حقوق الطوائف، بينما يُناط بالمجلس النيابي حقوق المواطن.
ان اجتمع الثائرون، والديمقراطيون، ودعاة بناء لبنان الوطن لا المزرعة، على هذا الهدف، تكون مسيرة الإنقاذ قد بدأت بخطوتها الأولى على طريق الألف ميل.
ان وحدة المطلب تضيّق مساحة الاختلاف في الاجتهادات، وتجعل تحقيقه اكثر يسرًا، وتقلّل التجاذبات والتدخلات الخارجيّة، في حين أن طرح جميع المطالب في وقت واحد يؤدّي الى المثل الشعبي: من كبّر الحجر ما صاب.
عدنان برجي
مدير المركز الوطني للدراسات في بيروت
الفَم الباحث عن قُبلة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. سعاد درير
نَنكمش تحت قطن سحابة الأمل الهارب انكماشَ دودة لا تُجيد الزحف، نتوارى خلف ضوء الحياة المنطفئة شيئا فشيئا في عيوننا الملتهبة تحت وطأة الانتظار، ونُمَنِّي نفوسنا بموعد آخَر مع السلام ذاك الحالف أن يَتأبَّط حقيبة أوراقه ويَرحل.
في كل وقت وحين، نَجُرّ جُثَّة القلب المسكين، ولا نَكُفّ، لا نَكُفّ عن أن نَتفق على الاختلاف، صَدِّقْ يا صديقي أنه الاختلاف الجاثم رَغم أَنفِك، بل هو الاختلاف الذي يُفسد كل قضية للودّ.
المُمكن يَتهاوى كجبل من الثلج، والمستحيل تتمدد رقعتُه يوما بعد يوم في اتجاه الذي لا يأتي، وأنا وأنتَ يا إبريقَ الشاي ها نَحْنُ نُعانق أنفاسَ الناي لَنَحِيك تنُّورةَ قِصَّة غابت عن بنائها الفني وضعيةُ الانفراج الكابح لجماح ذيل التعقد الواعد بأكثر من ضَربة سَوط في زمن ابتلاع الصَّوت.
طُيور الحُبّ تفارق أعشاش قلوبنا الدافئة بِشَدْوِها هي الغِرِّيدة في زمن الفَم الباحث عن قبلة، و أيامنا تَربط أحزمَتَها خَشيةَ أن تَسقط سراويلُها القصيرة بعيدا عن نِية الاستحمام في بِركة آسِنة للسان أفلتَ مِن قبضة اللجام.
لكِ اللهُ يا شِفاهُ، يا شِفاهُ نَامي قبل أن يَلسعك فُلفل الحقيقة الحارّ، وأنت يا دماءُ ثُورِي، ثُوري أنتِ وارْسُمي لِلمَدى عيونا لا يَحلبها بَطْشُ قيثارة الزمن الممزَّقة الأوتار.
لِنَرْسُمْ للأمل ثغرا لا تَسرقه نارُ الاختيار، ولْنُؤْمِنْ بأن لخنجر السقوط قَدَما سَبَّاقة إلى مَلعب أحلامنا الهزيلة ما لَمْ نُخْتَبَر بجرعة أخرى مِن عصارة بُرتقال الحياة المُرّ.
د. سعاد درير
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (200): التجربة الدينية والأخلاق
- التفاصيل
- كتب بواسطة: صحيفة المثقف
خاص بالمثقف: الحلقة مئتان، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، رئيس مؤسسة المثقف، حيث يجيب على أسئلة الأستاذ الدكتور صادق السامرائي:
التجربة الدينية والأخلاق
ماجد الغرباوي: لا ريب أن للدين متمثلاً بنصوصه التأسيسية قدرة على تحريك مشاعر الإنسان المؤمن، وخطاباته ذات مرونة تسمح بتوظيفه لحماية القيم الأخلاقية. مما يؤكد انتفاء المشروط بانتفاء شرطه. فهل هداية نصوصه المقدسة وقف على معتنقيه والمؤمنين به، خاصة ثمة شرط تفصيلي يحد من مساحة تأثيرها: (الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)؟. فهداية الكتاب، وفقا للآيات، تشترط الإيمان والتقوى ليكون هاديا ومؤثرا. وهو إشكال صحيح، رغم وجود إمكانية عالية لاستثمارها، أي النصوص والآيات القرآنية، لذا أكدت على الإيمان بمفهومه العام، الإيمان بالغيب، بالمطلق، بالخالق، بالكائن الأسمى. كما ركزت على التجربة الروحية للأديان، التي تتصف بنقائها وصدقها وإخلاصها فيكون لها وقع حقيقي ينعكس على مشاعر الإنسان وسلوكه. أو ما يعرف اصطلاحا بالتجربة الدينية، وهي تجارب فردية. وقد توصف بالتجربة الروحية أو المقدسة أو الغامضة. ويقصد بها: عندما يُقرر الفرد التواصل مع واقع متسامٍ (متعالي)، لقاءً أو اتحادًا مع عالم اللاهوت. وقد بدأت الدراسات حول التجربة الدينية مع عالم النفس والفيلسوف الأمريكي ويليام جيمس (William James) في محاضرات جيفورد (Gifford Lectures) الخاصة به عام 1902/1901 والتي نُشِرت لاحقًا باسم أصناف من التجربة الدينية (The Varieties of Religious Experience). (أنظر: ويكبيديا). وللتجارب الدينية تقسيمات معروفة لديهم، تبدأ بالمتعارفة إلى الغامضة التي تعجز اللغة عن وصفها، كتجارب الأنبياء، حيث تحلق النفس في عوالم غرائبية، وتستولي عليها حالة انفصال عن العالم المادي، يشعر معها صاحب التجربة، بآثر تجربته حينما يفيق لنفس، ويعود لوضعه الطبيعي، كالاقتراب أكثر من الحقيقة، أو يشعر بفيض العلم وحضوره، والتفصيلات كثيرة تذكر في محلها.
إذاً وفقا للتعريف أعلاه أن التجارب الدينية تنطوي على قرار فردي للتواصل مع واقع متعالٍ، بهدف اللقاء أو الاتحاد، فهي تجارب خاصة وفردية مقصودة وعن تخطيط مسبق، ولا شك بقوة تأثيرها لولا أنها نادرة ومحدودة ومثالية.
ما أقصده بالتجربة الدينية هنا، تجربة روحانية، يجد فيها الإنسان نفسه فجأة معلقا بالغيب، بالمطلق، بالله. مشدودا لعالم لا دليل له عليها سوى قلبه، في لحظة يشعر أنه بحاجة ماسة للتماهي معه والانفتاح عليه. وهي لحظة نورانية دافئة، قد تتطور وتسمو وترتفع به إلى مستوى الإنسان الأخلاقي تبعا لنقاء سريرته وكيفية استثماره للحظة النور الرحمانية في أعماقه. وهذا النوع من التجارب الدينة مشترك إنساني رغم تفاوتها، تضفي معنى أخلاقيا على الحياة، وتساهم في ترسيخ قيم الفضيلة والحق والاعتراف بالآخر، وحقه في الاختلاف. وهي تدفّق وجداني ونقاء روحي، ينعكس على وعيه وعلاقاته الاجتماعية، فتسمو فوق الأنانية والظلم والجور والعنف، وكل ما يعكر صفو المجتمع الإنساني. فالدين بمعنى التجارب الروحية للأفراد قادر على تهذيب ضمير الإنسان وحمايته. فيصدق أن التجارب الدينية - الروحية مرجعيات أخلاقية ملهمة، وهذا القدر لا يتحقق في ظل المفهوم الأيديولوجي للدين، لأنه مفهوم متحيز، ونحن بحاجة إلى مرجعية كونية، شاملة، تشارك فيها البشرية جمعاء، وهذا سبب تأكيدي على استقلالية الأخلاق عن الدين بمعنى التشريع. التجربة الروحية للأديان ليست حكرا على دين واحد، بل هي مفهوم شامل لكل تجربة بشرية تؤمن بوجود كائن أسمى، له سلطة فوقية، وقدسية تستغرق مشاعر المؤمنين، بل حتى مع عدم تحقق هذا القدر من الاعتقاد سوى الإيمان بإنسانية الإنسان. وبهذا نكون قد أحيينا الدين كقوة روحية، نابعة من أعماق النفس البشرية، تكافح لترقى بها في سلم الفضيلة، فيكون ديدنها التزكية والمراجعة. ومع كل مرتبة من الكمال تتجرد النفس من مشاعر الكراهية والظلم والعدوان. فيكون الإنسان فيها رقيبا ومراقبا. أو هي رقابة ذاتية، وإحياء لقيم يتوهج معها الضمير الإنساني، ويكون أقدر على مقاومة التحديات والإغراءات. فالتجربة الدينية، لا غنى عنها في مجال العلاقات الاجتماعية، تثري الأخلاق وتطهر القلب من أدرانه، وترقى بالفرد إلى مستوى إنساني رفيع، يجد في الآخر امتدادا لوجوده. وكل ما تعمقت التجربة الروحية كلما اتسعت الرؤية، وانفتحت آفاق جديدة لوعي الذات، ومعرفة حقيقتها. يتجلى هذا في سلوك الأخلاقيين، بغض النظر عن انتمائهم الديني، فهم مصادر للإلهام بفضل تجاربهم الروحية، وقدرتهم على أدائهم السلوكي، عندما يترفعون عن الرذائل ويبادرون لكل عمل أخلاقي. وهذا طموح مجتمع الفضيلة أن يرقى الفرد لمستوى نقد الذات وتهذيبها من وحي قيمه الأخلاقية الأصيلة، ويأتي بالفعل استجابة للواجب الأخلاقي. حينما يجعل من نفسه ميزانا لوعي الآخر، فيحب له ما يحب لها، ويكره له ما يكره لها. التزكية والنقد والمراجعة والرقابة الذاتية كفيلة بحماية الضمير من الانهيار.
لكن يبقى السؤال: كيف تخدم التجارب الدينية منظومة القيم الأخلاقية؟ وما هي مرجعياتها؟. فإذا كانت مرجعياتها ذات النصوص الديني فمن يضمن لنا فهما محايدا لها، فربما تخضع لقراءات تسلبها حياديتها، وتنعكس على وعيه وتجربته، كما هو الملاحظ في سطوة المنحى الطائفي على الوعي الديني، وتأثر التجارب الروحية به بشكل ما. وأبسط مثال، لو أتخذ رمزا دينيا أو تاريخيا مرجعية أخلاقية له، فإنها سيتأثر لا شعوريا بدلالات الرمز وإيحاءاته عندما يكون مخلوقا أيديولوجيا، وصناعة تاريخية، وتراكم عاطفي، وردود أفعال أفرزتها السياسة وصراعاتها المريرة. فعندما يتخذ من الإمام علي رمزا أخلاقيا، ويبدأ بتمثّل تلك الأخلاق، لا يكتفي بالمنظومة الأخلاقية لسيرته، بل تتداخل معها قبلياته وأحكامه المسبقة ودلالات وإيحاءات ما تختزنه الصورة التاريخية للإمام ومواقفه السياسية، فهو لا يتمثل أخلاق الإمام كقيم روحية وأخلاقية مجردة عن تاريخه، وما توحي به دلالاته كرمز ديني وسياسي، خاض صراعا مع مناوئه حد الاقتتال وسفك الدماء، بل يتمثل أخلاقه ضمن مسيرته وسيرته، ويحضر التاريخ بكل حمولته، وما يترتب عليه من مشاعر، خاصة ضد الآخر، فيهدر حياده الأخلاقي لضمان ولائه الطائفي أو المذهبي. وهذا مكمن الخطر. وقس على ذلك جميع الرموز التاريخية والدينية.
ولا تحسب أنها مشكلة بسيطة يمكن تجاوزها، فقد عاصرت أخلاقيين ظاهرا أو هكذا يصفهم الناس، لا يتخلون عن طائفيتهم، ينظر للآخر بعين الريبة والشك والشفقة. فهو بالنسبة له ضال يرجو هدايته، أو رميه بالانحراف وربما الكفر حينما يكون معاندا يتمرد على إرادته. وهذا النوع من التجارب الدينية وبال على الأخلاق، حينما يضطهد الآخر، ويحرمه حق الاختلاف. المهم في الأخلاق حياديتها وتحررها وإنسانيتها، وهذا لا ينسجم إطلاقا مع التحيزات الطائفية والاتجاهات الأيديولوجية. بل سنخسر الدين ونحن نستجير به. الخطاب الطائفي خطاب معبأ ضد الآخر، فيشكّل خطرا حقيقيا على مبادئ الدين. ومنطق الفرقة الناجية لا يسمح بأية تسويات عقدية ومذهبية، وما تسمعه عن التسامح الديني، والتعددية الدينية، ما هي سوى شعارات مخادعة تخفي حقيقتها، وتتستر عما يريده الخطاب الطائفي حقيقة، باعتباره رسالة يريد إقناع المتلقي بها. وأداة لاقتحام خصمه الديني أو الطائفي. فالحيادية مستحيلة في الخطاب الطائفي، لأنه قائم على نفي الآخر، ونبذه، وحرمانه من النجاة والفوز يوم المعاد. فكيف يعترف به، ووجوده قائم على نفيه. كل المذاهب الإسلامية فرضت وجودها من خلال نبذ الآخر، ولم تتضح معالمها الحقيقية إلا بإقصائه وتكفيره. فليس هناك معنى للتسامح الحقيقي سوى نفي الذات، لأن العلاقات المذهبية قائمة على تأكيدها وتقديسها مع نفي الآخر. الخطاب الطائفي خطاب نفي، قائم على رفض الآخر وحرمانه، مهما كانت ضآلة النفي وتجلياته. (أنظر كتاب: النص وسؤال الحقيقية). فكيف نضمن حيادية التجربة الدينية لتكون مرجعية أخلاقية تخدم العلاقات المجتمعية، على أساس العدل والحق؟. وبالتالي لا يوجد ضمان لوجود تجربة دينية بريئة، ونزيهة. بل إن هذا اللون من التجارب يكرّس نرجسية الفرد، ويعمق روح التفوق، وهذا يكفي دليلا على تحيزه. فكيف نضمن حيادية التجربة الدينية لضمان نزاهة الضمير في رقابته على الفعل الآخلاقي؟.
لا ريب أنها إشكالية في سياق العلاقة بين الأخلاق والتجربة الدينية، خاصة أن الإنسان بطبيعته متحيز لقبلياته، وطالما أكدت: أن التحيز قدر الإنسان مهما بالغ في موضوعيته واستقلاليته، لأنها حتمية النظام المعرفي التي يتوقف عليها فعل القراءة والفهم والتفكير والإدراك. فالجميع محكوم لقبلياته وثقافته وأحكامه. والكل يرسف في أغلاله، تطوقه أوهام الحقيقة، ومغالطات التفوق، ونرجسية الأنا. ولا خلاص للفرد من سجونه إلا بمواصلة النقد والتفكيك، وتجاوز رهاب الحقيقة، لكن ثمة فرق بين من يعتبرها نهائيات مقدّسة، تفرض سلطتها وأحكامها، وبين من لا يعتقد بوجود نهائيات بل نقد مستمر لتلك اليقينيات والقبليات. (المصدر نفسه: ص21). بهذا يتضح أن الأخلاقي والمتصوف والروحاني وصاحب التجربة الروحية ليس استثناء، ويبقى كغيره مرتهنا لوعيه وأفق تفكيره وطبيعة تعامله مع يقينياته وما يعتبرها نهائيات، يرفض مقاربتها فضلا عن مراجعتها أو نقدها. لكن كيف نضمن عدم انحيازه ومن ثم ضمان فعل أخلاقي محض، ينظر للإنسان بما هو إنسان بعيدا عن خصوصياته وانتمائه؟ وهذا هو محور الإشكالية التي يستدعي جوابا يطال إشكالا ملازما: هو أن التجارب الروحية تجارب شخصية فكيف نستخلص منها قاعدة عامة، شاملة، كما هو الشعور الفطري، فإنه شعور انساني عام وكوني؟. نحن بصدد تأسيس قواعد عقلية (عقل عملي) لضمان فعل أخلاقي اجتماعي، يساهم في تعزيز مجتمع الفضيلة.
أما الإشكال الثاني، فرغم أن التجارب الروحية تجارب شخصية، نسبية، تتفاوت من شخص إلى آخر، لكن هناك قدر مشترك بينها، هو ذات التجربة التي يعيشها الفرد وما يتولد عنها من مشاعر وأحساسيس توجه وعيه وسلوكه. وأقصد به ذات الحالة الروحية، وذلك الصفاء الذي يعيشه الإنسان في لحظة وجد وخلوة مع الذات طالت أم قصرت. وذلك التعانق مع الغيب بدرجة سامية من الصدق والموضوعية. وهي حالة عامة يعيشها كل إنسان حسب ظرفه، وقدرته على التأمل الروحي. فيستجيب لها الضمير الحي ويتجاهلها من (رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) . في تلك اللحظة بالذات يجري مراجعة سريعة لسلوكه، ويلتفت إلى نفسه وقلبه، يقلبهما بنظرة فاحصة من وحي فطرته، التي مافتئت تنبض مهما تراكم من رين بفعل الرذيلة وهو ما تعول عليه آية: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). هذه الحالة هي مشترك إنساني، يمكن أن تتطور في لحظة يقظة تهز أعماق النفس البشرية وتعيدها إلى الطريق السوي. وعليه رغم أن التجارب الروحية تجارب شخصية غير أنها واحدة من حيث تحققها ونتائجها، مهما كانت متفاوتة في كلا الحالتين، يمكن استثمارها وتطويرها لتعزيز القيم الأخلاقية. وهذه الروح الشفافة، الموغلة بإنسانيتها، تلازم مشاعر أغلب الناس. فأنا لا أتحدث عن حالات نادرة أو شاذة، ويمكن لكل شخص أن يتحقق من ذلك من خلال نفسه ووجدانه. فالحديث عن حالة فطرية سلمية تلازم الإنسان، فتجده لا يكف عن التأوه والحسرة والشعور بالضجر والقلق، الذي هو تعبير آخر عما يخالج النفس من مشاعر متضاربة، فيراجع ويستغفر إذا كان مؤمنا. وهذه المشاعر الروحية الطيبة التي تمثل طهارة القلب في لحظة التأمل الوجداني، هي رهان شعور الناس بالأمان، وفي ضوئها يقيمون علاقاتهم ويتبادلون مشاعرهم وتعاطفهم مع بعضهم، ما لم تلوثهم براثن الظلم والعدوان، وأولها ظلم الإنسان لنفسه، حينما يودي بها إلى الخسران بسبب تصرفاته وسلوكه المنحرف: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ). فتلك المشاعر الروحية هي حالة إنسانية مشتركة، نتاج تجارب روحية شخصية، نتوسل بها لتدارك طغيان النفس وانهيار الضمير البشري، من أجل مجتمع فاضل تسوده القيم الأخلاقية. فنحن نعترف بفردانية التجارب الدينية، لكننا نتوخى نتائجها وثمارها. ولا شك أنها متفاوتة، تبدأ بسيطة جدا لدى الناس الفطريين، وتتطور مع العرفانيين والأخلاقيين، وبين المرحلتين مئات الدرجات والمستويات، وبعضها حالات مثالية في نموذجها الأعلى كالأنبياء، لذا عدلت كما سيأتي للتوسل بالدين بطريقة أخرى، كي لا نخسره قوة روحية لتقويم سلوك الإنسان، وحماية ضميره، بل الدين يمثل وجدان الناس، ويقّوم هويتهم وانتماءهم، خاصة المجتمعات الشرقية.
وأما ضمان عدم تحيز الفرد وهو يعيش تجربته الروحية فإنه مضمون بداهة، لأننا نقصد من مفهوم التجربة الروحية ذلك التجرد الكامل، حينما يعيش الفرد مع ذاته خالصة، لا تشارك مشاعره أية خصوصية. بمعنى أدق، إن حضور الخصوصية في وعي الفرد ليس حضورا لا شعوريا، غائبا تماما، بل هو حضور شعوري، حينما يلتفت الفرد لنفسه، رغم قوة تأثيرها في حالات اللاشعور. وأما انعقاد التجربة الروحية وتوالد المشاعر الروحية الفكرية فهي حالة من الرقي الإنساني، لا تخالطها الخصوصيات. والمقصود بالتجرد: تجرد الفرد من كل شيء باستثناء ذاته الإنسانية، حينما يتأمل سلوكه وتصرفاته وفقا لمرآته الإنسانية، فيشعر بخطأه، ويوخزه ضميره، وقد يفيق لنفسه، ويقّوم سلوكه. وهذه نتيجة مهمة جدا، نعوّل عليها. وبالتالي لا أقصد بالتجربة الروحية، الانغلاق على الذات، واعتزال الحياة، والاستغراق في التأمل، رغم شمول المفهوم لها، فهذه حالات خاصة ومثالية، لا يرقى لها كل إنسان، وتتطلب مجاهدة مستمرة للنفس وسوءاتها (وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ). ونحن نتطلع لسلوك أخلاقي عام، ونتشبث بكل ممكن يرفد الحياة بالقيم الأخلاقية لتسود العدالة والأمن والاستقرار. وجميعها مطالب إنسانية عامة. فالرهان على تجرد النفس، في لحظة روحانية، لا يعي فيها سوى نفسه عارية من كل شيء سواها. هي لحطة مكاشفة ومصارحة مع الذات، عندما يكون الفرد خارج سلطة الخصوصية والانتماء. وعندما يتحرر من قبلياته، وتراكمات الأيديولوجيا. في ذلك الظرف الروحي، عندما يغمر نور الحقيقة أرجاءه، يكون الإنسان شاهدا على نفسه، بصيرا بعوالمه الداخلية. وهو المقصود بالتجرد المطلق. أو تجرد الذات التي لا تخالطها الولاءات الفرعية، كالولاءات العقدية والمذهبية والسياسية والطائفية، فقط وفقط الإنسان ونفسه، حينما يشعر بها وهي تتعذب بفعل قلقها الوجودي، فتنفتح على أعماقها وعينها ترمق السماء، وترجو ذلك الغيب. تتأمل المطلق بكل جوارحها، لتستمد منه ما يساعدها على تحري حقيقتها. هذه الحالة حينما يستعرض الإنسان مواقفه، ويكتشف بسهولة عيوبه ونواقصه. يقلّب ذنوبه وما اقترفت يداه من ظلم وجور، طالما تستر عليه أمام الناس، وطالما اعتذر لسلوكه بضرورات حقيقية أو مصطنعه، في تلك التجربة الروحية والمشاعر المتوهج يكون الإنسان على نفسه بصيرة، من خلال مكاشفاته مع الذات، تقول الإية: (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ). بل الاعتذار والبحث عن الأعذار دليل على صدق ما يعاني من توبيخ الضمير. هذه هي التجربة الدينية، الروحية، الإنسانية. هي تجربة خالصة، تتعالى على الخصوصيات، لكن الإنسان، سرعان ما ينسى، ينسى حالة الندم والاستغفار ويعود لما كان عليه، موغلا في طائفيته وخصوصيته. وبالتالي ذات التجربة كفيلة بحماية نفسها من الطائفية والخصوصية، وكل ما يفسدها، حينما ينفصل الفرد عن عالمه المادي، ويشعر بتجرد مطلق، ليس بينه وبين خالقه سوى أعماله ومشاعره.. وبهذا تخرج كل تجربة دينية – روحية، تعجز عن التعالي على خصوصياتها، وهي جميع التجارب المرتهنة لخصوصيتها الطائفية.
بهذا نفهم كيف تؤثر التجربة الروحية في حماية ضمير الإنسان، وتعزيز دوره الرقابي. وهي نقطة مهمة، هل سيكون مباشر وما هو دور العقل؟، وهل هي قضية واعية أولا شعورية؟
قلنا أن التجربة الدينية نقد ومراجعة مستمرة، ومكاشفة صريحة مع الذات، وهذا يعني انكشاف تام للحقيقة الإنسانية، بما هو إنسان له ماهيته ووجوده المستقل، يخضع لنظام نفسي وعقلي دقيقين، فثمة لا شعور، هو أنساق مضمرة تتشابك مع بعضها أو تستقل في أدائها، يرتبط بعضها بالمقولات التأسيسية، وقد يستمد فاعليته من ذات البنية المعرفية، مما يؤكد عمق اللاشعور، وتعقيده، لكن رغم هذا تجد الإنسان على نفسه بصيرة، كلما طال تأمله في نفسه كلما اكتشف مجاهيلها وخباياها وطريقة توليدها للمشاعر والأحاسيس. والمشاعر عنوان عام لجميع المشاعر الإنسانية فتكون شاملة لمشاعر الضمير ذات البنية الرقابية، يشعر النفس بتأنبيه أو يوخز الفرد في أعماقه، فهو رقيب صارم، لكنه مرتهن في سلطته ليقظته، فقد يخبو وربما يموت عندما تتراكم موبقات الإنسان. فالتجربة الدينية والروحية للفرد تتدارك إخفاقات النفس، كما يستمد من وهجها قوة فعليته ونشاطه. وهذه العملية ليست غائبة عن العقل، والعقل العملي بشكل خاص، بل تساهم في برمجته، من خلال استشعاره لانعكاسات السلوك على الفطرة السليمة. وقد تقدم أن احتكام العقل للفطرة ليس كاحتكام الحاكم للقوانين واللوائح القضائية أو الشرعية. وإنما يستشعر ما ينعكس عليها. وذلك أن مدركات العقل العملي ليست قضايا خارجية مجردة، وإنما مزيج من المشاعر والأحساسيس التي تتجلى من خلالها الصفة الإنسانية للإنسان. فالعقل يستشعر انفعالاتها وتأثرها، سلبا أو إيجابا، ليتمكن من إدراك "ماذا يجب أن أفعل؟". النفس البشري مجهزة بمشاعر تعتبر شرطا لصدقية إنسانية الإنسان. إضافة لعقله وحريته وإرداته.
وبالتالي أن الاشتراك النفسي للمشاعر، ينعكس على ضمير الإنسان، كما أن مشاعره تنعكس أيضا على النفس وخصوص الفطرة البشرية. فالضمير يتلقى إيحاءات التجربة الروحية، ويستلهم من العقل العملي موقفه من سؤال: ماذا يجب أن أفعل؟. وفي ضوئهما، وما يمتلك من استعدادات فطرية يستعيد نشاطه وحيويته، يحدث هذا في كل مرة يراجع الإنسان قلبه، ويتأكد من نقائه من الحقد والغيض، ونقاء المعرفة، وعدم الخضوع لأوهام الحقيقة، والخرافات، وكل ما يسلب الإنسان إنسانيته وعقله.
يأتي في الحلقة القادمة.
............................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه
الكاتب بين الموقف واللاموقف
- التفاصيل
- كتب بواسطة: أياد الزهيري
يمكننا التميز بين الكتّاب على أساسين، الأول فني ومعرفي، كأمتلاكه لناصية اللغة، والأدوات الفنية للكتابة، وخزين معرفي ومعلوماتي، ولا شك أن الكتّاب يختلفون في مستوياتهم بهذا الشأن، أما الأساس الثاني فهو مواقفهم أزاء قضايا شعوبهم وأمتهم، وأوطانهم، وهم هنا كذلك مختلفون، فمنهم من يحمل روحه على راحته مدافعاً عن قضايا شعبه، متصدياً للطغاة الحاكمين، وللغزاة المحتلين، مسجلين مواقف بطولية عظيمة، وهناك النوع الثاني من الكتاب الذين يمثلون واجهات للسلطة الحاكمة المستبدة، فيزوقون وجه السلطة القبيح، ويحاولون التغطية على جرائمها الفظيعة، وهذا اللون يكون من المتاجرين بالقلم، ومن الجبناء والمتخاذلين، وممن يبيعون كلماتهم لمن يدفع لهم بالدولار.
السؤال الذي يطرح نفسه . لماذا يكتب الكاتب؟ هل يكتب لأجل الكتابة فقط كما هو الحال في نظرية الفن من أجل الفن؟ أم يكتب لأجل المال والشهرة؟ أم يكتب من أجل قضية عامة ومصيرية، مثل مكافحة الجهل والتخلف والفقر، أو مكافحة الظلم والأستبداد؟ أو يكتب عما يدور في خلجات نفسه من ضغوط الحياة والحكام؟ والأفصاح عن مكامن مشاعره وبواطن آماله ورغباته؟. فالكتّاب يتوزعون على كل ماذكرنا، لكن يبقى الكاتب الذي يمتلك موقفاً من الحياة، وخاصه المواقف الكبرى والمصيرية،هو الكاتب الذي يرفد الحياة بما يجعلها أكثر أنسانية، وأعظم أشراق، وأرقى أبداع، وأقل ظلم، وهذا ما يذكرنا بالكاتب يوسف أدريس، وهو نموذج للكاتب الملتزم لقضايا شعبه فيقول (أنا أداة حية في المجتمع، فأذا فقد مجتمعي وعيه، أهمس إليه وأنفخ عليه ليصحو، وأدفعه ليخرج الى المعركة وأحياناً أخزه في قلمي لأجدد نشاطه....)، وهذا نموذج للكاتب الحقيقي الذي يحمل عبء الواجب على عاتقه . أنه يحمل مشروع يعتقد بصلاحه للأنسان، يبغي تحقيقه لمصلحة عامة، لا لهاجس شخصي، وأنما لصالح أرتقاء الأنسانية، وتقليل معاناة الأنسان، وهذا ما يميز الكاتب الحامل للقضية، عن الذي يتميز بالأنانية واللا أبالية، فهو يكابد، ويحترق من أجل أشعال شمعة ينير بها دروب الحقيقة، عبر رفع الألتباس، وكشف المغالطات، وفضح كل ما هو مزيف وفاسد، والأنتصار للحقيقة عبر الكشف عن مسالكها وتوضيح دروبها . فالمعرفة التي تؤدي الى كشف الحقيقة هو دأب هذا النوع من الكتاب. فكتّاب من أمثال محمد باقر الصدر لم يهادن نظام دكتاتوري، وقَبلَ التضحية من أجل أن لا ينهزم أو ينحني أمام طاغية، فآثر أن يخط موقفاً بطولياً يكون درساً لشعبه في جهاده ضد النظام الأستبدادي البعثي، ورمزاً في دروب جهاده ضد الطغاة،كما أن التاريخ سجل لنا موقف بطولي آخر للفيلسوف سقراط في موقفه بالدفاع عن آرائه، وعدم تنازله عنها وواجه حكم الأعدام ببسالة، وهناك الكثير الكثير ممن ناضلوا من أجل حرية شعوبهم، ومنهم الكاتبة الأندونيسيه (ليندا كريستانتي) التي ساهمت بسقوط الدكتاتور الأندنوسي (سوهارتو) في التسعينات من القرن الماضي، في حين هناك من باع نفسه للحكام ولهث وراء مطامعه الشخصية، فزوروا الحقائق، وشوهوا التاريخ، مقابل الجاه والمال، وللأسف كان هناك الكثير من هؤلاء في واقعنا العراقي، الذين مجدوا النظام البعثي وكتبوا له القصائد العصماء في مدحه بالرغم مما أرتكبه من مجازر وحشية بحق شعبه. في حين وقفت الصحفية الأمريكيه (هيلين توماس) العضوه في فريق البيت الأبيض للصحافه موقفاً بطولياً كلفها موقعها الوظيفي المتميز عندما واجهت الحاخام اليهودي تيزيانوف عندما سألها أين يذهب يهود أسرائيل أذا لحقت بهم الهزيمه في حرب قادمة، فأجابته هيلين (عليهم أن يخرجوا من فلسطين ويعودوا الى ديارهم وبلدانهم الأصلية في ألمانيا وبولونيا والولايات المتحدة... وأن فلسطين لأهلها العرب) وهذا القول يذكرنا بالموقف المتخاذل والجبان لكثير من كتاب الخليج العربي، الذين روجوا للتطبيع أستجابةً لأوامر حكامهم المتخاذلين، وهذا أيضاً يذكرنا بالموقف الشجاع للكاتب الفرنسي (البير كامو) وهو فرنسي، عندما وقف ضد الأستعمار الفرنسي للجزائر.
أن ما يصب في مصلحة الشعوب وقضاياها المصيرية، هو ليس عبقرية الكاتب الكتابية، بل مواقفه الوطنية، فمثلاً ماقيمة المستوى الفني واللغوي لشعر الشاعر عبد الررزاق عبد الواحد، وهو لاشك شاعر نحرير، ولكن للأسف وَظف هذا الشعر لتزويق وجه نظام دكتاتوري مجرم، فماذا تفيدني شاعريته، وقامته الكتابيه العظيمة أتجاه ما سوق للنظام في توظيفه لهذه الطاقه الشعرية الكبيره بتزويق وجه النظام الكالح، وما خدع به من جمهور يطربه شعره من ستر جرائم النظام والتغطية على أفعاله الخبيثة والشيطانية.
أن الكتّاب وخاصةً في عالمنا العربي قد أنقسموا من خلال مواقفهم مما جرى ويجري من أحداث، وما تعرض له واقعنا من أزمات الى ثلاث أقسام، فمنهم من أنهزم وركع وأدى طقوس الطاعه والتمجيد للحكام الظلمه، ومنهم من أعتزل وتوارى عن الأنظار وهاجر أتقاءاً من سوط الطغم الحاكمه، ومنهم من صمد، وكافح، ودفع ثمناً غالياً لمواقفه المبدئيه والوطنيه، وهم للأسف قله قليله . أن واقع الكاتب العربي عامه والعراقي خاصةً، بما يتميز فيه من موقف مرتبك، ومتخاذل، وضعيف، هو من ألقى بظلاله على واقعنا المتهالك والمنهك، وهو من أسس لحالة الأرتباك في المواقف لكثير من الناس . وأن حالة الوهن والضعف التي تعيشها مجتمعاتنا يتحمل الكتّاب القصد الكبير منها . نحن الآن بأمس الحاجه الى كتّاب ينتجوا نصوص من خلال تجربتهم النضالية والحياتية، وأن تتميز كتاباتهم بالواقعية، لا كتاب الأبراج العاجية التي لا تهمهم ألا أناقة نصوصهم، وتزويقاتها اللفظية . نحن بحاجة الى كتاب يعون مواقعهم، ومهامهم الوطنية، وواقع مجتمعهم الآيل للأنهيار والتمزق، وأن يأخذوا دور أجهزة أنذار لشعوبهم عندما يلمحون رياح الخطر تهب من مكامنها البعيدة، ليتقوا شرها، ويتجنبوا خطرها.
أياد الزهيري
الشرعية وحكم الدولة.. كيف دمرها اللامؤمنون بها؟
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عبد الجبار العبيدي
الشرعية هي الالتزام والتقيد بأحكام القانون، وهي اساس السلطة التي تحكم مجتمع معين وتمارس فيها الحقوق. اما المشروعية وان تشابهت مع الشرعية لكنها تمثل العلاقة القانونية التي تختص بالحق القانوني وقراره الملزم وكل التعليمات القانونية الصادرة من الاعلى الى الادنى.
كلمة مشروعية مشتقة من الفعل شرع َ يُشرع، يقال شرع فلان بالآمر، أي اذا سار فيه وسلكه.. وقيل الشريعة والشراع ما سُن الله تعالى من الدين وأمر به كقوله تعالى (ثم جعلناك على شريعة من الامر فأتبعها ولا تتبع أهواء الذين لايعلمون، الجاثية18). وقوله تعالى (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، المائدة 48).، هنا تكون الشريعة هي قانون الدين والمنهاج هو الطريق او الاسلوب الذي به تنفذ اوتطبق الشريعة على المجتمع) لسان العرب، كلمة شرع).
والشريعة هي النظام او المنهج الواضح الذي يرسُم أو يُسن للناس في شؤونهم. وبهذا المعنى يفهم قول الشافعي) الا سياسة الا ما وافق الشرع (.أي المنهج والنظام الذي أختارته الجماعة وأتفقت عليه وأرتضته لنفسها ميراثاً أو أكتساباً لصالحها وخدمة شؤونها لينتفع منه عامة الناس .من هنا يتبين لنا ان السياسة الاسلامية هي ما تقره الشريعة، وأنها منها بمنزلة الجزء من الكل. وهي في الاسلام المبدا الاعلى والمنطق الاسمى الذي يتوج النظام الاسلامي، وهو التضامن الحقيقي بين الناس في تنفيذ ماأمر الله به دون اعتراض..والشريعة الاسلامية هي الشريعة الوحيدة بين الشرائع السماوية والارضية التي اهمل المسلمون تطبيقها بين الناس بعدالة القانون.. حين طبقوا العدالة الأنفرادية وأبعدوها عن عامة الناس كما مطبق اليوم في العراق والدول المشابهة له.
وكلمة الشريعة والمشروعية ليست جديدة، فقد ولدت في الحضارة العراقية القديمة مثل شريعة أصلاحات آوركاجينا، وشريعة آور نمو السومرية، وشريعة حمورابي البابلية المتمثلة، بمجموعة قوانين حمورابي الملزمة التنفيذ في وقتها والتي هي اكثر عدالة مما يطبق اليوم في ظل عدالة الاسلاميين الذين انحرفوا عن الشريعة الاسلامية واستبدلوها بشريعة السلطة الميتة المبتكرة ظلما على المسلمين .، والمعروف ان حمورابي قد وضع في شريعته ما مجموعه 282 مادة قانونية في مختلف النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية. وتعتبر الشرائع العراقية القديمة من اقدم الشرائع العالمية..وأفضلها وغالبية ما جاء به الاسلام قوانين شرعية مُستل منها..
لكن الكلمة لم تظهر بمعناها الواسع الا في العصر الحديث بعد الثورةالفرنسية عام 1789 والنهضة الاوربية وحركات الفصل الديني عن السياسة حيث أصبحت ذات معنى عريض، ومكانة عظيمة، فهي تدل على سيادة القانون وحقوق المواطنين في الحرية والاخاء والمساواة في الدولة، وربما كانت جزء من مصطلح الايديولوجيا. اي المبدأ والعقيدة والفلسفة التي يقوم عليها النظام المعاصر في بلد معين، ولربما أستعملت الشرعية بمعنى مطابقتها الفعل اوالعقد اوالقرار لنظام قانوني صحيح، فيكون شرعياً بهذا..وليست شرعية المتدينيين الذين حصروا الحقوق بهم دون الأخرين والذين تجاهلوا ان العلاقة بين القديم والجديد هي علاقة جدلية يتبادل الاثنان فيها التاثر والتاثير وصولا الى حالة من الاستقرار يلتقي عندها الاثنان في تركيب لا يشبه اياً منهما .
ولا يستطيع اي باحث او كاتب ان يتعرض لمعطيات شرعية دولة من الدول في النظام او القوانين، في الحياة الاجتماعية او السياسية او الثقافية لبلد معين، سواءًًكان هذا في الماضي او الحاضر، مالم يدرس او يبحث ويسلط الضوء على المنهج او الشريعة لانها طبيعة الفلسفة والقوانين التي كانت تحكم ذلك النظام، او هذه الدولة، في هذه الحقبة او تلك، لاننا لا نستطيع ان نتفهم كيان أسمه نظام أو دولة مالم نتلمس معنى دقأئق تلك الفلسفة أو المعتقدات التي أرتضتها الجماعة لتكون لها قانوناً.
ان الحكم في الاسلام اساسه التراضي او التوافق وفق مبدا الحق والعدل وليس مبدأ التفرد والأستغلال كما يعمل به اليوم، لأن الشرعية علاقتها واضحة بمبدأ الشورى والرضى عن المُولى يأتي عن طريق توليته وحقه الشرعي، ثم يكون المُولى أهلا للحكم وليس غاصباً له "كما يقول نوري المالكي: "أخذناها وبعد ما ننطيها"، وهو يمثل حزبا أساسيا تعامل بخيانة الوطن مع التغيير.لان الخلافة او الرئاسة في المفهوم الاسلامي تمثل السلطة التي تقوم نيابة عن الرسول(ص)بالنظر في مصالح المسلمين حيث يعتبر الخليفة او الرئيس الحاكم الاعلى للدولة ويجب طاعته بشرط ان لا يخالف الوصايا العشر التي وردت في الفرقان شرطا مكتوبا عليه.
ويبقى الشرط مقرونا بشروط الكفاءة التي يجب ان يتمتع بها الحاكم وبأخلاقية التطبيق، منها العدالة والعلم وسلامة الحواس وسلامة الاعضاءوالشجاعة في قول الحق وحقوق الرعية والرأي المفضي الى تدبير المصالح للامة او الشعب.يقول الحق :"ألم*الله لا آله الا هو الحي القيوم* نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والانجيل من قبل هدىً للناس.. وأنزل الفرقانآل عمران 1-3".أي ان القرآن قد صادق على ما ورد في الكتابين السابقين، لأن الوحي لا يتجزأفي جوهرة الذي يأتي في أتفاق مع كل عصر..من هنا فالشرعية الدينية واحدة لا تختلف يجب ان تطبق على الجميع لا كما فهمها فقهاء الدين الذين حول الاسلام الى مذاهب دين والدين الى أديان ومن يتبعهم بالانفرادية بهم دون الاخرين.
اما التراضي والتوافق فقد حددت الشريعة المتكاملة له شروط اقسى وأمر منها :ان لايقدم المفضول على الافضل لاي سبب كان.وان يختار صاحب المنصب المتوافق عليه ممن تنطبق عليه شروط التولية وان يكون أمينا يتمتع بالسمعة والسلوك الحسن دون ان يحق لاحد مجاراته لاي سيبب كان.، كما في رفض الامام علي(ع) تولية اخاه عقيل لعدم توفر شروط الطلب فيه.فأين نحن من تطبيق الشرعية الملزمة بالقرآن اليوم؟..في دولة فقدت الشرعية هي ومن تسير في ركبها والتي ساهمت بتدمير اربع دول اسلامية وترغب في المزيد املا بتكوين امبراطوريتها الجديدة المبنية على الوهم وعلى ما قال احد مسئوليها اليوم ..من اجل تطبيق مبادىء ولاية الفقيه والمهدي المنتظر التي ليس لهما من أصل في الدين.
لكن النقطة التي يجب التنويه اليها هو ان الشيعة العلوية لا يلتزمون بهذا المبدأ العام في تطبيق الشرعية السياسية، بل بمبدأ شرعية التفضيل لاهل البيت دون سواهم وأهل البيت ابرياء منهم ومما به يعتقدون. حين جوزوا ان لا احد يسمى امير المؤمنين الا علي بن ابي طالب، ولا يجوز لغير الأئمة من نسل الامام علي وزوجه فاطمة الزهراءان يتلقبوا بهذ اللقب. لان كل أمام يوصي للذي يليه في الامانة، حتى يصبح المرشح الشرعي للوظيفة المقدسة( السيوطي، اللآلىء المصنوعةج 1 ص 184-185).وماذا بعد انتهاء الأئمة الأثنا عشر ..ابتكروا قضية المهدي المنتظر لتبقى صلة امامة الحكم فيهم الى يوم الساعة..علما ان الامام الحسن العسكري(ع) مات دون عقب.ويقول كولد سيهر المستشرق الالماني في كتابه العقيدة والشريعة ان سورة الشمس بأدعاء الشيعة الامامية جاءت في القرآن بحق محمد وعلي والحسن والحسين( عقيدة الشيعة ص175).من هذا المنطلق فقد عد الشيعة الامامية كل من يخرج على هذه المفاهيم خارجاً على المصادر الشرعية والارشاد الديني وقيادة الجماعة الاسلامية. وهذا يعني من وجهة نظرهم هم اولياء الناس دون غيرهم.فأي شرعية هذه التي بها يعتقدون. .
من هذا التوجه الخاطىء هم يعتقدون ان وجود الامام لكل عصر آمر ضروري برأيهم لا يمكن الاستغناء عنه لتنفيذ الشريعة واحقاق الحق وقواعده وأرساء العدل والمساواة التي جاء بها الاسلام وياليتهم يطبقون مبادىء الاخيار. وعلى هذا الاساس فالامامة واجبة وتنتقل بوراثة لا تنقطع للحائزين على هذه الصفات، .بينما يرى الشيعة العلوية تغليب المصلحة الدينية ولا ندري اي دين يعبدون؟، لانهم كانوا لا يرون الحكومة الا ان تكون حكومة مقدسة .ويا ليتهم كانوا اوفياء لاهل البيت لا ان مسخوا تاريخهم الى الابد .. ان من يدعون بهذه القيم الشرعية أولى بهم ان يكونوا هم المطبقون لها وليس الخارجون عليها في كل آدوار التاريخ الاسلامي..كما في الدولة المهدية في المغرب والفاطمية في مصر والبويهية في العراق..
كم هو جميل لو ان الذين يدعون بهذ المثل العليا التي جاءت بها مدرسة أهل البيت العظام ان يتمسكوا بها وينقلونها الى واقع التطبيق على الارض لكانوا اليوم هم الأعلون.نعم وبكل حيادية وصدق وصراحة اقول ان السيرة العطرة التي رافقت اهل البيت ابتداءً بالامام علي ومرورا بالامام الكاظم وجعفر الصادق وانتهاءً بالحسن العسكري الذي مات دون عقب.. قد ألتزمت بهذا الاتجاه الديني والسياسي بالكامل دون نقص.
ان مسألة الشريعة والتشريع مسألة في غاية الدقة والاهمية بعد ان رأينا ان التجربة الكبرى التي بدا بها صاحب الدعوة قد توقفت بعد وفاته حين اشتد الخلاف على الرئاسة بين المهاجرين والانصار وكأن الامة التي كونها محمد(ص) قد انتهى وجودها ولم يبق منها الا المهاجرين والانصارحين نادوا منا امير ومنكم أمير، وكأن الدولة اصبحت شركة قابلة للقسمة بينهم
. ولقد خاض الفقهاء الذين لم يستوعبوا فلسفة الرسالة الدينية اثناء الخلافة الراشدة مساجلات ومناقشات ادى الى تشريد وقتل الكثير منهم، فكان الصحابي ابو ذر الغفاري منهم، فكانت اول ثورة على الواقع المزري في خلافة عثمان (رض)حين بدأت اعوان الخلافة بتفريق اموال بيت المال على الاقربين والمحاسيب دون حسيب او رقيب من وراء ظهر الخلافة..كما نشاهده اليوم في دولة الشيعة العراقيين الذين خانوا الوطن مع الاجنبي الذي يسمونه بالكافر ونهبوا اموال الناس وزوروا كل حق الى باطل بعد ان سكتت مرجعياتهم الدينية المقدسة عن الأعتراض لا بل شاركت في الجريمة وقبضت الثمن . لذا كان هذا مبدأ خطير جر على الدولة الويلات..
وسط هذا الزحام من النصوص يقف المؤرخ حائرا في شرعية الدولة، فيختلط الحابل بالنابل وسط منهج دراسي لم يراعي اصولية المنهج ولا مسئولية العقيدة ولا حقوق الناس.واليوم كل يدعي انها له دون الاخرين وها ترى الفرق تتقاتل والناس تجري من ورائها دون هدى ولا صراط مستقيم حتى حولوا الدولة الى فوضى المنتفعين .من يعتقد ان الامة ستخرج من النفق المظلم فهو واهم فهل من مشروع اسلامي جديد او ميلاد مجتمع جديد واكتشاف القانون الذي يحكم الظاهرة الحالية لكي يفرض نفسه على مجتمع مزقته المصالح والانانيات، وأورثت فيه من العادات والتقاليد التي ما جاء بها الاسلام ابدا ولا شرعها في شريعته هذا مستحيل ..لا حل اليوم الا بالعلمانية وتنحية النص الديني في سياسة دولة المواطنين .
لقد اصبح من الصعب جدا ازاحة الخطأ الذي لم يتعلموا منه عبر العصور من رؤوس الناس بعد ان اعتقدوا بصحته عبر الزمن الطويل، ان الفكر المضاد الذي يريد ان يعالج الواقع الموضوعي عليه ان يعالج الكل الاجتماعي بظروفه وقوانينه التي تركزت في الاذهان .وهنا لابد من ان يسلك الطريق الصعب طريق الاستقراء والاحصاء والاستقصاء والتمحيص والتصنيف والتمييز بين الطبيعة الاصلية وبين الظواهر العارضة، أنظر ابراهيم الغويل، المشروع الاسلامي ص193).
هنا يقف الكل امام حيرة التطبيق ومن اين نبدأ ؟ وكيف؟ ومن يستجيب؟ ويبقى السؤال المطروح، هل ان الاسلام يستطيع معالجة مشكلات العصر الحديث اليوم وسط هذا الضجيج العالمي الكبير ؟ وهل لديه ايديولوجية ترقى الى هذا المستوى؟وهل لديه من المفكرين الاحرار الذين يستطيعون نقل الصورة الحقيقية للاسلام للاخرين؟ بكل صدق وصراحة بعيدا عن العاطفة الدينية، أقول:
. اذا بقينا نتعكز على التفسير والمفسرين القدامى الذين فسروا القرآن وفق منطوق اللغة العربية القديمة التي لم تستكمل تجريدانها اللغوية على عهدهم بعد..وفقه الفقهاء للقرون الثلاثة الاولى الثاني حتى الخامس الهجري ونظرية ولاية الفقيه والمهدي المنتظر الوهمية ومراكز التوجيه الديني الحالية، فسنبقى نراوح مكاننا الى ان يرث الله الارض وما عليها. أذن كيف يجب ان نختار ؟ هذا ما يجب ان نبحث فيه بروح التجرد لا بمنطق الفرق الدينية المتعارضة اليوم..لا يوجد مستحيل لمن يحاول .. وهو يطلب الحق وان قل..ولكن بقناعة المنطق لا بقناعة التهريج.
د. عبد الجبار العبيدي
بعيداً عن قفص النسوية قريباً من حرية الاختلاف
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. سهام جبار
تعمد هذه المقالة الى شجب فكرة حصر كل كتابة تأتي بها الكاتبة على أنها من الأدب النسوي، وهذا الشجب قائم على الضيق من الدأب الذي يعمد اليه النقد في تحديد حرية الكتابة ومن ثم التلقي بسلطة قراءة مسبقة للأثر الأدبي تترك طابعاً من التوصيف الجاهز الذي يخضع لجاهزيته كلُ ما يرد من الكاتبة مهما سعى للأبتعاد عن أن يُحجر عليه في قفص نسوية ضيق.
لقد كتبتُ مرة: (لا بدّ من ان التكامل الإنساني يفترض تحقق ثنائيات مهمة تتحرر بتمازجها أي أنها تكسر القيد عند دخولها في علاقة مع الآخر الأمر الذي لايمكن حدوثه وهي مجردة ومعزولة في شكلها الأول (الشكل البايلوجي) لذلك تخطئ المرأة عميقاً عندما تنتهي عند حدود الخصائص البايلوجية الأولى دون اندغام مع الآخر في فعل الكتابة. الكتابة إذن عملية تمازج قوى متعددة في المرء (...) أما اللائي يملن الى التمييز الجنسي لترويج بضاعة من الميوعة والخفوت النفسي والبوح الحسي في ادعاء أن ذلك يمثل المرأة لأنها لا تتوفر على خصائص ذكورية موجودة ضمناً فيها فإن ذلك يعني القبول بمخلوقات أحادية غير كاملة الخلق بل هي مخلوقات عاجزة عن استمرارية الحياة فكل كاتب أنثى كان أم ذكراً هو خنثى في الكتابة ولا يمكن التمييز بين كاتب وكاتبـ ـة إلا بإعلان تراتبية من مستوى عال وآخر دانٍ أو واطئ))[مجلة نرجس ع3]..
أتعمد هنا أن أقتبس هذا الذي كتبتُه مرة لأنه يلخص رأياً أساسياً عندي، ولأني بعده يمكن أن أؤشر أننا نعاني من تشويه للمفاهيم التي نستوردها من الغرب، إذ نجردها من سياقاتها لنعطيها من دون أن نغيّر من لفظها شيئاً الدلالة التي نريد لا الدلالة التي أنتجت بها في بيئتها. ومثل هذه الآفة ليست بجديدة على الفكر العربي وللحصر هنا النقد العربي الذي عمد على نحو مستمر الى جانب اتباعيته وضعف قدرته أو بسبب منهما الى محاولة تغييب وطمس للمصدر الذي ينقل عنه فيخلق التشويش المناسب لأن تكون المفاهيم المستعملة مفاهيم محلية معبرة عن واقع التفكير العربي بكل مشكلاته وقصوره، مع استمرار الوهم بأنها مفاهيم حديثة ومجددة في إطارها. ومن هنا يتم تفريغ المفهوم من محتواه الدلالي ليكون تداوله شكلياً استعراضياً محدود القدرة وبعيداً بمسافات عن حقيقة التعامل وجدوى المفهوم المستعمل. إن ما يحكم هيمنته في الفكر العربي لهو أبعد من إمكانية إزاحته أو تغييره، وهو يستمد كل هذه القوة من تاريخ موغل في القدم مما أعدّهُ ثقافة انتماء لماضٍ، ولمجموع، ولنصوص مقدّسة، ولاعتبارات من ثم فئوية عنصرية قومياً ودينياً. مثل هذا المرجع لا يمكن أن يسمح بتداول علمي دقيق للمفاهيم وللمصطلحات المنتجة في بيئة ثقافية حداثوية تحترم الفرد وتعلي شأنه على كل الصيغ الإجتماعية التي تلتف عليه ها هنا ضمن حلقات مفرغة وخانقة بدءاً من الأسرة وانتهاءً برأس الهرم في الأنظمة الأستبدادية العربية عامة بكل الضغوط والإيهامات وقدرات التدجين في كل المستويات. من هنا ابتعد مفهوم الأدب النسوي عن الأساس الأيديولوجي الذي قام عليه في الغرب عبر تاريخ من حركات تحرير المرأة التي حققت نجاحاً على المجتمع البطرياركي في كل مجالات التعبير والعمل والإبداع، ولم يكن ذلك على نحو مباشر أو نهائي بل تطلّب ذلك مراحل من التغيير والعمل، ولقد أسهمت الحركات التحررية والثورية في العالم في تغيير وضع المرأة من خلال ما قدمته في أدبياتها من جدال فكري وسياسي واجتماعي تمت به مراجعة الطروحات التي تحط من شأن المرأة أو تغذّي أوهام دونيتها مثل عقدة الخصاء الفرويدية وأوهام أخرى عبر مناقشات ونظريات جديدة آخرها ما حققته التفكيكية من فك التمركز العقلي الذي يتمظهر عبر ثنائيات رائجة مثل الأنا/ الآخر، المتن/ الهامش، الرجل/ المرأة.. الخ وممارسات وتجارب أيضاً (يمكنني التمثل بما حققه انتحار الشاعرة سيلفيا بلاث من أثر في الأرتفاع بالأدب النسوي في الغرب، أما قول نظيرتها في الأنتحار فرجينيا وولف: (إن أية امرأة تولد بموهبة عظيمة لا بد من أن تصبح مجنونة، أو تنتحر، أو تقضي أيامها في كوخ منعزل خارج القرية، نصف ساحرة، نصف عرافة، يخشاها الآخرون ويسخرون منها) فهو قول يلخص المعنى العميق للمحنة التي تجد المرأة نفسها فيها عندما تقابل بردود أفعال أجتماعية لا تلتقي أبداً مع منطلقاتها للإبداع وللتفرد).
لستُ بصدد استعراض تاريخ ظهور مفهوم الأدب النسوي أو الحركة بحد ذاتها الـ Feminism في الغرب، ولقد تولّت هذه العملية الترجمات البحوث والمقالات التي انتشرت منذ عقدين تقريباً في العالم العربي وانتشرت موضة اعتماد طروحات هذه الحركة بغض النظر عن طبيعة التعامل مع المرأة و أدبها في مجتمعاتنا العربية عامة، بل إن ما يمكن ان أؤشره هو إن هذا الإنتشار لهذه الموضة نكص بالمرأة وبالتعامل معها الى الوراء إذ تراجعت الطروحات الثورية في العالم العربي التي كانت تستند الى تعامل ليبرالي وعلماني استمد ثوريته غالباً من الحركات اليسارية التي كانت منتشرة في منتصف القرن العشرين أوبعد ذلك بقليل، وابتدأ المد الديني الذي أعاد تأسيس الهوية الجنسانية على وفق التراتب الأجتماعي المقنن في الماضي، وقد استطاع التراث أن يفعّل وجوده في التفكير المعاصر بحيث أعيد للترتيب السلطوي الذكوري قدرات هيمنته وتأثيره في الصيغة الأجتماعية الصغرى (الأسرة) وصولاً الى الصيغة الكبرى (المجتمع) بمؤسساته ونظامه الأجتماعي الأبوي عامة. وفي مثل هذه النكوصية والأرتداد الى الخلف أصبح ترديد مفهوم الأدب النسوي فخاً للحط من التجارب الأدبية المتميزة لحشرها مع تجارب غير متميزة وخلط الغث بالسمين على أساس ـ النوع ـ وهو معيار عنصري آخر يزاد على المعايير التي يعمد إليها النقد أو الوسائل للتصنيف والتبويب مثل مفهوم (الجيل) المستخدم باستسهال فج وتعميم هو الآخر، ومثل هذا الأمر أدى بأديباتٍ متميزات الى رفضه، وقد بيّن مفيد نجم في دراسته (النسوية أشكال المصطلح) بمجلة نزوى ثلاثة مواقف في تلقي المصطلح هي: 1. الرفض الكلي له 2. موقف الوسطية بمعنى تقبّل وجود المصطلح على أساس أنه نوع من تفسير الواقع 3. موقف تلقّف المصطلح وتبنّيه من دون وعي منهجي.. ولم ينتهِ الخوض في مناقشة المفهوم وتقديم مقترحات لتطويعه أو لتحويره أو لجعله منتجاً بسبب من المعاناة في إبقائه على ما هو عليه من تشويش. ولقارئ الآراء والطروحات المبثوثة في هذا المجال ان يضع يده على تناقضات هنا واختلافات أو دوران بما يشبه الحتمية في تقرير الأخذ بالمفهوم حتى إن أقتُرحتْ تسميات أخرى أو محاولات للفكاك منه. ولقد قدّم ناقد مثل الدكتور عبد الله الغذامي نوعاً من تأصيل لكتابات المرأة بفرضية يزحم بها مجال الحرية الخاص بالكتابة وظروفها وسياقها، ويذهب بمراجعة التراث العربي الى تجريده من العوامل الموضوعية في التأثير على وجود كتابات من نوع معين عند المرأة ليجعل الخيار مطلقاً للكاتبة في ما تقدمه وهذا غير وارد، أو هو نوع من خوض مثالي متعالٍ على الواقع الذي يختار عيناتٍ منه من دون أن يفسّره. وأكثر من ذلك يذهب هو ونقاد آخرون أمثال طراد الكبيسي في مقالته المتضمَّنة في كتاب عن نازك الملائكة الى تكريس دونية المرأة على نحو يتم فيه إرسال الإتهام بدونيتها أو ضعف نتاجها من دون العودة الى الظروف السياسية والأقتصادية والأجتماعية المؤدية الى ذلك.
يمكنني القول إن هناك نقاداً مؤدلجين راقت لهم عملية مناوءته بوعي أو من دون وعي إذ يعمد بعضهم الى تناول الموضوع بنيّة الإسهام في تناول قضيته الرائجة، في حين هم يكشفون عن أهداف أيديولوجية مضادة (ولقد توصلتُ الى نتيجة بهذا المعنى في دراسة لي عن نقد جورج طرابيشي لإحدى روايات نوال السعداوي، وليس هذا النقد مثالاً باهراً على ما أقول فهناك أمثلة أكثر دقة ويمكن تبيّنها على درجات متفاوتة عند النقاد العرب عامة).
ولكي لا أخوض في كل الآراء والمعالجات وهي كثيرة لا يكفي المجال لتناولها هنا يمكنني الوقوف عند بعض ملامح النقد الذي تعامل على نحو مضاد أيديولوجياً للكتابات على مختلف أنواعها التي تكتبها المرأة بغض النظر عن اهتمامها بتبنّي الأدب النسوي أيديولوجياً أو لا، ومثل هذه الكتابات هي مقابلة أو تسمية مضادة للنقد النسوي مما يدخل في النقد الجنساني أو أياً كانت التسمية التي تظهر فيه صورة Negative سلبية عن الصورة الإيجابية الأصلية المشرقة التي يكتب بها الآخر (الرجل). ما دامت الثنائيات قائمة بقوة أو فعّلتْ لتستمر الى ما لانهاية في التفكير العربي الدائر حول نفسه فـ (الأنا/ الآخر)، (الرجل/ المرأة) يمكن للأثنين قلب طرفيها بحسب الوعي الذي يكتب به المهتمون في هذا المجال رجالاً ونساء.
أولاً: من الملاحظ إن استعمال المصطلح وتقديمه يتمّان عبر آلية أحتواء فوقية تقدم حكماً مسبقاً سواء من كتابات نسوية أو رجالية ويمكن التمثيل على ذلك بكثرة مما يحضرني مما قيل أو كُتبَ عن مجموعتي الشعرية (الشاعرة) فثمة أديبات كتبن عن المجموعة من هذا المنطلق مصدّراتٍ قضية المرأة بوصفها مثار تلقٍّ أساسي لديهن (ينظر مثلاً ـ الشاعرة هنا.. المرأة هناك ـ لميسلون هادي، مجلة آفاق عربية 1996، وـ الأنوثة رائية ومرئية في كتاب الشاعرة لسهام جبار ـ للطفية الدليمي في مجلة ألف باء 20 آذار 1996، أعيد نشره في صحيفة القدس العربي ع 2386، 4 كانون الثاني 1997)، ولقد كتب الناقد حاتم الصكر عن المجموعة منزّهاً إياها من الأنضواء تحت سلطة الذكر: (لا تقدم الشاعرة أثماناً أو تنازلات كما تفعل كثير من الشاعرات فهن يخرجن من ضلع الرجل مباشرة ليقدمن له ما يتمناه) وهكذا يكون المعيار جنسوياًً ضمن منطق الإحتكام الى وجود شعر أنوثة في المجموعة أو عدمه (ينظر مجلة أسفار ع19_20 1995)، وهذا ما يقودني الى النقطة الثانية التي يمكن صوغها كالآتي: لم يعتدّ النقاد بما تكتبه الشاعرة في سياق التحديث الشعري العربي المعاصر فلقد وجدوا منفذاً ممتازاً لإزاحة كل سعي الشاعرة الخاص والمتفرد الى هذه الخانة وعزلها عن مسار التأثير، فتاريخ الشعر المعاصر تاريخ شعر ايديولوجي بامتياز، ولعل تقليل شأن ريادة نازك الملائكة في الشعر الحديث أمر رائج أيضاً والتفضيل الأكثر جاذبية هو للسياب.
ثالثاً: عمد النقد العراقي إن لم أقل العربي عامة الى آلية المفاضلة بين الشاعرات، شاعرة وأخرى، أو مجموعة شاعرات ومجموعة أخرى من بيئة مختلفة، كما فعل سعيد عبد الهادي في دراسته للشعر النسوي الكردي (مجلة كلاويز ع7 2004) عندما فضّل الشاعرات العراقيات الكرديات على نظيراتهن العربيات من نواحي الجرأة المضمونية (وهو معيار جنسوي أيضاً) في فصل غير محبّذ منهجياً بين الشكل والمضمون، ويقدم في العادة نقاد تقليديون دراسات ببلوغرافية _ إن شئنا وصفها كذلك _ عن أدب المرأة يتم بها سحب خصائص أو سمات عامة على الكاتبات جميعاً والتمثيل عليها بمقتطفات نصية من كل كاتبة او شاعرة، وفي الحقيقة إن مثل هذه الطريقة التعميمية شاعت بكثرة عند دراسة الشعر الثمانيني في العراق بسبب من قلة المتابعة والإلمام بالنتاج الشعري والسرعة والخلط بين الشعراء لكثرة الملتقيات والمناسبات التي تدعو للكتابة بعجالة وتجوّز تسهل معهما الإشارة الى وجود شاعرات هن فلانة وفلانة وفلانة، وقد أصدر بعض الكتاب ببلوغرافيا في هذا الشأن تتضمن مثل هذا الخلط (ينظر لوحات وأساور لعبد الجبار البصري مثلاً) أما محمد الجزائري فحدثْ ولا حرج عن طريقة تناوله لشاعرات في الداخل (وهنا تحضر ثنائية الداخل والخارج أيضاً) في مقارنات عامة وغير مجدية منهجياً بل غير دقيقة في تقصي المعلومة إذ يذكر مثلاً عن شعري أنني كتبته قبل عشرين عاماً وجمعته في ديواني، وهذا أمر غريب فالديوان صدر في عام 1995 وقصائده مؤرخة بسنتين أو ثلاث قبل صدوره، فضلاً عن أني قبل عشرين عاماً من ذلك التاريخ لم أكن قد أكملت دراستي المتوسطة، فمن أين جاء الجزائري بما ذكره؟ لا أعرف! (تنظر مقالته في صحيفة الزمان ع 1381).. وكتابات أخرى كثيرة مشابهة لهذا الذي ذكرته في ركوبها موضة الكتابة في هذا الأتجاه.
إن هذه المقارنات والمفاضلات تعبر عن عقلية قد إختارت واعتادت إصدار الأحكام الفوقية القاطعة غير القابلة للتفسير في مجال لا يحتمل مثل هذا الجزم السطحي بين وجود إنساني وثقافي وإبداعي غاية في الحساسية ووجود آخر، ولا أكتم القارئ إنني كنتُ أنزعج كثيراً من الحكم الصادر من هذا أو ذاك من الكتاب لفكرة الأفضيلة بين الشاعرات خاصة فضلاً عن الآخرين عامة، أولاً لأن في ذلك نوعاً من التبعية الى مدى محدود لا يمكن التحرر منه او الخروج عليه، وأقصد هنا فكرة الإنتماء أصلاً، لما في الأرتهان بالمثيل أياً كان من تحديد للحرية وخنق لآفاق الأختلاف، وثانياً بسبب من الحصر ضمن إبداع درجة ثانية يقوم على معيار الجنس الثاني الأقل في الأعتبار على طول الخط، وربما ثالثاً للشعور بعدم إنضباط التلقي بغير الأقاويل والكلام الشفاهي.
من النقاط المؤشرة على النقد الجنسوي أنه يعمد إلى إدانة ذكورية المجتمع في اعتماده معيار الجنس بايولوجياً لكنه يحتكم عنده وينظر من خلاله الى النصوص الأدبية، والأمثلة من كل من ذكرنا ومن غيرهم. وفي ذلك يزداد حصر المبدعة في نطاق الإعتبار النسوي إهتمت بذلك أم لم تهتم، إذ غالباً ما يكون التعامل معها في إطار قيامها برد الفعل لا الفعل إذ لا تخرج معاملة نصوص الشاعرات على أنها دائرة حول الآخر، هذا فضلاً عن وجود كثرة كاثرة من الشاعرات من تحوم حول هذا المهيمن في استمرارية لدور الجارية القديم في التراث العربي، وغالباً ما تكون نصوص الشاعرات اللائي من هذا النوع منغّمة في تعاقب لا نهائي، ومتهافتة بالميوعة والتوسّل والنقص حدّ البلاهة، ولا يعدَمْنَ من يصف هذا التهافت والعجز في الشخصية بأنه دليل الأنوثة الباهر وعلامتها المقدّسة بحكم التوارث والإمتداد مع عصور البلاط القديمة التي ميّزتْ بين شاعر بلاط وشاعرة حريم.
وفي نقطة أخرى يمكن الإنتباه الى حلول مثالية مرفوعة في وجه الكاتبة ليكون في تبنّيها تحقيق شعرية أنثوية جاهزة لا على أساس انها كائن متفاعل مع المجتمع، وأشكال هذا التفاعل لها دخل فيما يقدمه من نتاج، وفي ذلك إستباق قمعي يصادر حرية الكتابة ومدياتها ليزداد الإبعاد والتهميش والعزل في إطار قفص كتابة مشابه لقفص الحريم إسمه خانة الأدب النسوي. يمضي كل ذلك قدماً مع تجاهل النص الشعري المكتوب ضمن سياقه، وبتجاهل للجوانب الفنية ولهموم التحديث الشعري المكتوب والإختلاف الإبداعي، وليستمر تناول السادة الشعراء في كل مرحلة الى جانب حفنة من الشاعرات يُذكرْنَ على حدة.
د. سهام جبار
رحلة الوجود والعدم.. سارتر مقابل كانط
- التفاصيل
- كتب بواسطة: حاتم حميد محسن
في مقال له بعنوان (مقال في الانطولوجيا الظواهيرية) يعرض سارتر الوجود والعدم كأعظم تعبير عن فلسفته الوجودية. هذه الفلسفة اساسا، هي دراسة لوعي الوجود. الانطولوجيا تعني دراسة الوجود، اما الظواهيرية تتصل بالوعي الادراكي. في هذا المدخل للوجود والعدم يعلن سارتر بالتفصيل رفضه لمفهوم كانط في "الشيء في ذاته" او noumenon. كانط كان مثاليا، يعتقد ان ليس لدينا طريقة مباشرة لإدراك العالم الخارجي وان كل ما نستطيع الوصول له هو افكارنا عن العالم، بما في ذلك ما تخبرنا احاسيسنا به. كانط يميز بين الظاهرة phenomena والتي هي تصوراتنا للاشياء او ما تبدو لنا عليه الاشياء، والشيء في ذاته، الذي ليس لنا معرفة به لأنه مستقل عن وعينا(1). وبالضد من كانط يجادل سارتر ان مظهر الظاهرة هو خالص ومطلق. الشيء في ذاته يتعذر ادراكه، هو ببساطة ليس هناك. الظهور هو الحقيقة الوحيدة. ومن نقطة البدء هذه، يجادل سارتر بان العالم يمكن رؤيته كسلسلة لامتناهية من المظاهر المتناهية. هذه الرؤية تزيل عدة ثنائيات ولاسيما الثنائية التي تقارن بين الداخل وخارج الشيء. مانراه هو ما نحصل عليه (او ان ما يبدو هو ما نعرف).
وبعد التخلص من مفهوم الشيء في ذاته، يطرح سارتر التمييز المزدوج الذي يسيطر على بقية نظريته (الوجود والعدم)، وهو التمييز بين الوجود غير الواعي (الوجود في ذاته) والوجود الواعي (الوجود لذاته).(2) الوجود في ذاته هو مادي، يفتقر للقدرة على التغيير وهو غير واع بذاته. اما الوجود لذاته هو واع بوعيه لكنه ايضا غير تام. سارتر يرى ان هذه الطبيعة غير المحددة هي التي تعرّف الانسان. طالما الوجود لأجل ذاته (مثل الانسان) يفتقر للجوهر المقرر سلفا، فهو مجبر على ان يخلق ذاته من العدم. العدم، وفقا لسارتر هو الخصائص المعرّفة للوجود لأجل ذاته. الشجرة هي شجرة وتفتقر للمقدرة لتغيير او خلق وجودها. الانسان، من جهة اخرى، يصنع نفسه من خلال الفعل في العالم. بدلا من مجرد وجود، كما يفعل الشيء في ذاته، فان الانسان، كشيء لأجل ذاته، يجب ان يحرّك وجوده.
بعد ذلك يعرض سارتر الحقيقة ذات الصلة وهي ان الوجود لأجل ذاته يمتلك معنى فقط من خلال اندفاعه الأبدي نحو المستقبل المجهول. بكلمة اخرى، الانسان ليس بالضرورة ما يصفه المرء كما الآن. فمثلا، اذا كان هو مدرس، فهو ليس مدرس بنفس الطريقة التي تكون بها الصخرة كوجود في ذاته، صخرة. في الحقيقة، الانسان ليس جوهر ابدا، لايهم كم هو يكافح في الجوهرية الذاتية. الطريقة التي يفسر بها ماضيه ويتوقع بها مستقبله هي ذاتها سلسلة من الخيارات. وكما يوضح سارتر، حتى لو أمكن القول ان الفرد لديه طبيعة مادية معينة، كما في الكرسي "الذي هو 2 قدم طول، بينما طوله هو ستة أقدام"، فان الفرد مع ذلك يجسد نفسه بإضفاء معنى او أخذ معنى من خصائصه المادية وبهذا ينفيها. المفارقة هنا كبيرة. الوجود لأجل ذاته يرغب في ان يصبح وجود ضمن الوجود في ذاته، يفرض ذاتيته على موضوعية الآخرين. الوجود لأجل ذاته هو وعي، وبهذا تتأكد الفجوة غير القابلة للتسوية بين الوجود في ذاته والوجود لأجل ذاته .
يوضح سارتر انه كوجود واعي، الوجود لأجل ذاته يعترف بما هو مناف لذلك: انه ليس وجود في ذاته. من خلال الوعي بما هو ليس كذلك، يصبح الوجود لأجل ذاته ما هو عليه: العدم، متحرر بالكامل في العالم، في لوحة فارغة يخلق عليها وجوده. هو يستنتج ان الوجود لأجل ذاته هو الوجود الذي يدخل من خلاله العدم والنقص الى العالم، وبالنتيجة، الوجود لأجل ذاته هو ذاته نقص. ان الغياب الذي يشير له هو غياب المركب (الوجود لأجل ذاته والوجود في ذاته) غير القابل للاكتساب. الوجود لأجل ذاته يُعرّف من خلال معرفته بكونه ليس في ذاته . الانسان لايعرف ابدا وجودا كما هو حقيقة، لأنه لكي يقوم بذلك، لابد للمرء ان يكون الشيء ذاته. لكي نعرف الصخرة، نحن يجب ان نكون الصخرة ذاتها (وبالطبع، الصخرة كوجود في ذاته، تفتقر للوعي). غير ان الوجود لأجل ذاته يرى ويحدس العالم من خلال ما هو ليس حاضر. بهذه الطريقة، يكون الوجود لأجل ذاته هو سلفا حر بالكامل، ويحوز ايضا على قوة التصور. حتى لو ان الجمال المطلق (لدى سارتر الاتحاد المطلق للوجود والوعي) لايمكن فهمه، فان معرفته من خلال غيابه، كما في حالة المرء الذي يشعر بالفراغ الحاصل اثر رحيل محبوبه، هي حقيقته الخاصة به.
عند الخوض في الطرق التي يتصل بها الوجود لأجل ذاته بوجود آخر، يجادل سارتر اننا ككائنات بشرية يمكن ان نصبح واعين بانفسنا فقط عندما نُواجه بنظرة الآخر. نظرة الآخر هي تشيؤ بمعنى انه عندما يرى المرء فردا آخر يبني بيتا، هو يرى ان الفرد مجرد بنّاء للبيت. يكتب سارتر اننا نتصور أنفسنا كوننا متصورين ونأتي لتجسيد أنفسنا بنفس الطريقة التي نتشيأ بها. وهكذا، نظرة الآخر تسلبنا من حريتنا المتأصلة وتجعلنا نحرم أنفسنا من وجودنا كوجود لأجل ذاته وبدلا من ذلك نتعلم تزييف الهوية الذاتية كوجود في ذاته.
حاتم حميد محسن
........................
الهوامش
(1) طبقا لكانط، من المهم دائما التمييز بين عالمي الظواهر والشيء في ذاته. الظاهرة هي ما يبدو لنا والذي يشكل تجربتنا، اما الشيء في ذاته هو الاشياء المفترضة ذاتها والتي تشكل الواقع. جميع أحكامنا القبلية التركيبية تنطبق فقط على عالم الظواهر وليس على عالم الأشياء في ذاتها. (فقط عند هذا المستوى بشأن ما نستطيع اختباره، يكون لدينا تبرير في فرض هيكل من المفاهيم على موضوعات معرفتنا). طالما الشيء في ذاته هو حسب التعريف مستقل تماما عن تجاربنا، لذا نحن جاهلون تماما في عالم الشيء في ذاته. وهكذا، حسب رؤية كانط، القوانين الاساسية في الطبيعة مثل حقائق الرياضيات يمكن معرفتها فقط لأنها لا تبذل جهدا لوصف العالم كما هو حقا وانما بدلا من ذلك تصف هيكل العالم كما نلاحظه. عبر تطبيق الأشكال الخالصة للحدس المعقول والمفاهيم الخالصة للفهم، نحن ننجز رؤية منهجية للعالم الظواهري ولكن لا نتعلم أي شيء عن عالم الشيء في ذاته. الرياضيات والعلوم هي بالتأكيد ظواهرية حقيقية، لكن الميتافيزيقا فقط هي التي تبلغنا عن الوجود في ذاته.
(2) الوجود في ذاته يشير الى الأشياء في العالم الخارجي، هو شكل من الوجود غير الواعي، فهو لا فاعل ولاسلبي، ولايحمل أي إمكانية للتعالي. هذا الشكل من الوجود يلائم الجمادات وليس الانسان الذي يقول عنه سارتر يجب ان يتخذ خيارات. اما الوجود لذاته فهو شكل من الوجود الواعي له فعاليته وطبيعته الهادفة. الوجود في ذاته هو مجرد شيء. في أي لحظة نحن وجود في ذاته، بعد ذلك وفي اللحظة القادمة، نحن وجود في ذاته مختلف. اما الوجود لذاته فهو رحيل دائم من الوجود في ذاته نحو وجود آخر في ذاته. الوجود لذاته هو العدمية او الفراغ بين كل وجود في ذاته كنّا فيه ولازلنا فيه حتى الآن، انه الوعي بكوننا وجود له إمكانية ان يصبح وجودا آخر. الوجود الذي نصبح فيه هو الاختيار الذي نقوم به اثناء الرحلة من الوجود في ذاته الذي كنّا فيه تواً نحو وجود في ذاته نحاول ان نصبح فيه. ان العلاقة بين هذين الوجودين(الوجود في ذاته والوجود لذاته) هي علاقة ارتباط وابتعاد في آن واحد، فالوعي حينما يدرك الاشياء هو يختلف عنها لكنه ليس منفصلا عنها لأن الاشياء تقع ضمن مجال الفهم.
متلازمة حمار جان بوريدان وكلب بافلوف.. قراءة فلسفية في وهم حرية الاختيار
- التفاصيل
- كتب بواسطة: علي عمرون
نحن الاثنان في السجن انا داخل الجدران وانت خارجها
وأسوء من ذلك ان نحمل السجن في نفوسنا
ناظم حكمت – حرية حزينة-
مدخل عام
كثيرا ما نجد أنفسنا أمام خيارات متعاكسة وفي وضعيات تبدو لنا في الواقع متشابهة وامام نتائج هي في الظاهر متساوية ومتماثلة، هذا التناقض يضعنا فلسفيا امام مفارقة (paradox). نفقد فيها ومن خلالها حرية الاختيار ونعجز عن اتخاذ القرار، والسبب في ذلك انه عندما تتساوى الاحتمالات وتتعارض الغايات مع الوسائل نتردد ونشعر بالحيرة ونتوقف عن التفكير، وقد نجد لذة في تأجيل القرار والهروب الى الأمام، وذلك بممارسة بعض المغالطات تحت تأثير دوافع لاشعورية في الأكثر . هي لحظة قاسية ومؤلمة في بعدها الوجودي والأخلاقي لحظة تعطل الإرادة والتعايش مع وهم الحرية .وقد قيل:" وهم الحرية أخطر بكثير، من أي زنزانة أو أقفاص ضيقة "
صحيح ان جميع الكائنات الحية تمتلك قابلية التكيف مع بيئتها، والتوافق والانسجام مع عالمها ووسطها الخارجي، غير ان الانسان السوي ينفرد هنا بقدرته على حسن توظيف معارفه وتعديلها وتجديدها، بشكل يسمح له ببناء استجابة تكيفية ناجحة، وهي العلامة الحقيقية على النضج والتوازن المعرفي وأيضا على قوة الإرادة وقدرة الاختيار، وعلم النفس تفطن الى هذه الحقيقة وتحدث عن اللاتوازن، الذي هو حالة يفقد فيها العقل قدرته على ترتيب الأولويات وتحديد المسار الصحيح، حيث يفقد الانسان تفكيره المنطقي ويتحول الى حمار عنيد، يدفعه الكبرياء الحميري الى التصرف وفق مبدأ اللامبالاة، يرفض الحركة مفضلا السكون وقد يميل الى النوم تماما ككلب بافلوف عندما فقد القدرة على الاستجابة للمنبهات، لقد لاحظ إيفان بتروفيتش بافلوف وفق منهج استقرائي، أنه إذا تم وضع كلب امام نوعين من ردود الفعل المشروطة، في نفس الوقت وبنفس الكيفية، فإن الكلب يبقى ساكنا عاجزا عن القيام بأي شيء. ومن ثم النوم ضمن متاهة التردد. فهل قدرنا اليوم ان نتأرجح بين حرية حزينة ولامبالاة قاتلة؟ وهل من الممكن ان نتحرر من حيرتنا ونقرر ما نريد؟ أم أن التجهيل والاستبداد – كما قال عبد الرحيم العطري - فعل فعلته فينا ولن يكون قدرنا أحسن من مآل حمار بوريدان؟ وهل أصبحنا اليوم نتحرك ونتصرف مثل كلاب بافلوف؟
مفارقة حمار بوريدان
(تفلسف الحمار فمات جوعا)
جوهر كل مفارقة هو التناقض والتعارض في المنطلقات والمواقف، وهي تتقاطع مع شبكة من المفاهيم المركزية في التفكير الفلسفي : كالمعضلة والمآزق والدهشة والمغالطة والاحراج و مفارقة حمار بوريدان
ترتبط بفكرة جان بوريدان (1300-1358) ومفادها انه لا يمكن اتخاذ القرار عندما تكون الأسباب متساوية وذات معاني متناقضة سواء كانت الخيارات جيدة او سيئة، هذه المفارقة اقحم فيها حمار بوريدان، كان جائعا عطشا وكان يقف على مسافة من دلو الماء وكومة الطعام لم يعرف الى أي طريق يسير ظل المسكين مترددا حائرا دون اختيار في حالة من اللاتأمل دون تصور او مداولة ودون قدرة على اتخاذ القرار ...لقد تفلسف الحمار فمات جوعا* . ولذلك قيل من الناحية المنطقية ان التفضيل بدون اختيار مستحيل. خاصة إذا كانت الدوافع متساوية و الاختيارات متشابهة فان حال الانسان كحال الحمار كلاهما يبقى عالقا، وفي مواجهة حيرة الاختيار يموت الحمار ونفقد الانسان.
الواقع ان الحمير- كحال بعض الناس - عنيدة رغم تواضعها، معروفة بقدرتها على التحمل تستطيع العمل لمدة عشر ساعات في اليوم دون انقطاع وقد تحمل في بعض الحالات حتى 110% من وزنها. لكن معدل عمرها في البلاد العربية لا يتجاوز سبع سنوات انهم يموتون نتيجة سوء التغذية وسوء المعاملة. وهذا ما يحدث لنا للأسف عندما تتعطل عندنا إرادة الاختيار تتحول الحرية المزعومة الى سراب، و نعيش وهم الحرية نفكر ونتصرف وفق مبدا اللامبالاة، . في رسالته إلى شولر، رفض وندد سبينوزا بما سماه وهم الإرادة الحرة . حيث “يتوهم الناس انهم أحرار لجهلهم الحتميات التي يخضعون لها .فلو كان للحجر شعور لقال إني اسقط بحرية ..! ” صحيح ان الرجال كما قال سبينوزا يتفاخرون بانهم احرار لان الرغبة في ان تكون حرا متأصلة في الطبيعة البشرية تلك الطبيعة التي تحركها الانانية والمجد والفخر والكبرياء وبما أن هذا التحيز فطري لدى جميع الرجال، فلا يمكن إطلاق سراحهم بسهولة“.
هذا الوهم هو الذي جعلنا في الواقع عبيدا في الوقت الذي نعتقد فيه اننا نمتلك الحرية . والوهْمُ يرتبط في نظر فرويد بالرغبات اللاشعورية، لكن حسب نيتشه، هو كلُّ ما أنتجَه الإنسانُ من معارفَ. لأنها ناتجةٌ عن رغبة لاشعورية في البقاء. حيث تقدِّم الأوهامُ نفسَها على أنها "حقائق". ومَصْدر الأوهام، بحسب نيتشه، الفكر أولاً، حيث يلجأ إلى الكذب والتضليل وإخفاء الحقيقة التي يتوهَّم أنها خطِرة على وجودِه فيخفيها تحت غلاف المنطق، واللغةُ ثانيًا، لأنها أداة الفكر، وهي تشبيهات واستعاراتٌ صنعَها الفكرُ. ويرى نيتشه بأنَّ التخلُّصَ من الوهم صعبٌ إنْ لم يكنْ مستحيلاً. لكنَّ الأوهامَ قد تكون نافعةً. وقد نحتاج إليها لنعيش. [1]
يمكن ان نتفق ونحن في بداية مقالنا مع أستاذة فلسفة العلوم ومناهج البحث الدكتورة يمنى طريف الخولي في ان مشكلة الحرية فضفاضة، بل هلامية مترامية الأطراف، ضائعة الحدود، لا مبتدأ لها ولامنتهى، فهي تبدو منذرة بالتشتت والضياع [2]، أولا لأنها مشروطة بقدرة اختيار امر ممكن من عدة أمور ممكنة دون ان تكون نتيجة الاختيار معروفة مسبقا وثانيا هي تتطلب تجاوز مختلف الحتميات مع وعي الأسباب الدافعة الى ذلك وثالثا الحرية هي المقولة الوحيدة التي تتداخل فيها شتى كليات وجزئيات التجربة الإنسانية وسائر جوانب عالمه المعاش وأيضا عقله الفعال ومن ثم يمكن جعلها مضافا لأي مضاف اليه شئنا : الميتافيزيقا، اللاهوت، الاخلاق، السياسة، الاقتصاد، الاجتماع، الدين العلم، الشخصية...." ولذلك اشعيا برلين كتب بنبرة اليائس انه :" لن يناقش اكثر من مائتي تعريفا للحرية " [3]
الحقيقة اننا لن ندخل في متاهة تعدد مفاهيم الحرية وتنوع وتناقض نظريات الاختيار بل الذي يعيننا هنا تحديدا هو الحديث عن وضعية الرهينة وعن وضع تمت فيه مصادرة الحرية دون وعي منا، ففي كل القضايا الصعبة التي اصطدمنا بها يبدو اننا لم نتخذ القرار الصحيح يل كنا سجناء لحالة الارتياب واللاتعين، وفي النهاية الطريق ابتعدنا عن الخيار الصحيح عالقين في متاهة اريان نتعايش مع الواقع وما يحمله من أوهام، نساير سوء الاختيار.وبالعودة الى عالم النفس البولندي كورت ليفين (1947-1890) (مؤسس نظرية المجال في علم النفس)، نجده في إحدى كتاباته، بعد الإشارة إلى قصة حمار جان بوريدان يصف هذا النوع من الصراع على انه صراع غير مستقر. يتكون عندما يترك شخص ما، بسبب عوامل عرضية، نقطة التوازن ويتحرك نحو إحدى المناطق المستهدفة، حيث تزداد القوة التي يدركها في هذه المنطقة، لذلك يتحرك بعيدًا عن نقطة التوازن. حيث قوة الانجذاب للمنطقة المستهدفة تزداد تدريجيًا مع انخفاض المسافة بين الشخص والهدف.
حين يكون الخيار بين أمرين غير متناقضين بل متشابهين تماماً إلى حد التطابق، يعْطَى للعقل تقريراً واحدًا لا يستطيع فيه عمل الترتيب المنطقي أو لنقل ترتيب للأولويات فيصعب عليه الوصول للخيار .الصحيح وعندما يترك لنا الخيار، نشعر بالعجز مثل الحمار...كل شيء يبدو فجأة مربحا ومع القلق من فقدانه والخوف من اختيار خاطئ، لا نختار رغم أننا في نهاية المطاف قد نُطوق لكلا الأمرين ونجد في وضع وقت إضافي للتفكير، مخرجاً مؤقتاً ونستمر في ذلك حتى نفاذ الوقت كله دون خيار، ونسلم العصا لشخص آخر ليختار لأننا خائفون من أن نصبح حمار بوريدان.*
وهم الحرية يتمظهر في مستويات عديدة وسنشير حسب عدد من المقالات والبحوث الى أهمها:
01- الدولة الحقيقة هي التي تصل فيها الحرية الى اعلى مراتبها هذه القاعدة التي وضعها هيجل كمقياس لكمال الدولة من الناحية الفلسفية، والدولة في نظر سبينوزا وجدت في الأصل لتحرير الانسان من الخوف، لكنها اليوم تعمل على عزل الناس وإجبارهم على التصرف بشكل غريزي وليس بوعي. بل و تخويف الناس من خلال خلق تصور بأن وجودهم البيولوجي في خطر لأنهم يعرفون أن الأشخاص الخائفين، خاصة إذا وصل هذا الخوف إلى مستوى الذعر، سيتصرفون بغرائزهم، وليس بوعي وستمنعهم غريزة الحماية الفردية من أن يكون كائنًات اجتماعيًة حرة. يقول نعوم تشومسكي: "الأكثرية تتعوّد على استهلاك الخيال، فأوهام الثروة تباع للفقراء، وأوهام الحرية للمضطهدين، وأحلام النصر للمهزومين، وأحلام القوة للضعفاء" وهذا ما ذهب اليه أيضا فرانز كافكا حيث كتب قائلا :" إن الحرية بين البشر غالبا ما تكون وهما كبيرا . وبما أن الحرية تعد من أسمى المشاعر، فإن الوهم الناتج عنها هو أيضا من أسمى الأوهام"
02- مصادرة الحرية من خلال غرس وهم المعرفة ونشر ثقافة الجهل والخوف وقد تنبه الكواكبي الى هذا الامر وأشار الى ان المستبد لايخشى علوم اللغة، تلك العلوم التي بعضها يقوم اللسان وأكثرها هزل وهذيان يضيع به الزمان.. وكذلك لا يخاف المستبد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد المختصة ما بين الانسان وربه، لاعتقاده انها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة .. اذا نبغ منهم البعض ونالوا حرمة بين العوام، لا يعدم المستبد وسيلة لاستخدامهم في تأييد امره، ومجاراة هواه في مقابل انه يضحك عليهم بشيء من التعظيم، ويسد افواههم بلقيمات من فتات مائدة الاستبداد.. ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع والسياسة المدنية ..ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول وتعرف الانسان ماهي حقوقه وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب، وكيف النوال ...والحاصل ان العوام يذبحون انفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباوة[4]
03- تم تقييد الحريات في جميع أنحاء العالم بشدة بذريعة تفشي فيروس Covid-19. تم تدمير العديد من الحريات بالكامل. حظر التجول، وحظر السفر، والحجر الصحي الكامل للمدن، ومنع الاجتماعات والمظاهرات وقد صرح وزير الصحة الفرنسي أوليفييه فيران لصحيفة "لو باريزيان" الأحد 24/01/2021 انه يفترض أن يتم "تقييم آثار حظر التجول" (من الساعة 18,00 حتى السادسة) خلال الأسبوع.وأضاف محذرا "إذا لم ينخفض (حجم العدوى) وإذا بدأت النسخ المتحورة تنتشر في كل مكان" فستقوم الحكومة "باتخاذ إجراءات إضافية"، موضحا أن "هذا يسمى احتواء (...) إذا رأينا أن الفيروس يبدأ في التقدم بقوة فسنغلق".يقول ميشال فوكو في كتابه " المراقبة والعقاب" :" "إن المدينة المنكوبة التي يصيبها وباء الطاعون هي النموذج الأمثل الذي تحلم به السلطة لتوسيع هيمنتها. وإذا كان أهل الحقوق والقانون يحلمون بالحالة الطبيعية والمنطقية لاحترام القانون، فإن أهل السلطة يحلمون بقدوم وباء الطاعون لفرض السلطة التامة على الناس"
04- في مقال المسرح التونسي: أوهام الحرية.. والقمع أيضا، الكاتب التونسي شوقي بن حسن تحدث عن ندوة "أوهام الحرية في واقع منفصم ورقابة متخفية" المنعقدة في قاعة "مربّع الفن" في تونس العاصمة وأشار الى تشبيه الباحث بن إبراهيم الحريات في المرحلة الأخيرة بانتشار الباعة المتجوّلين حيث يمكن أن تكون الحرية مُربحة ولكنها مُضرّة مثل بضائع السوق السوداء.
05- الاشتغال على ورقة الإرهاب وفزاعة التدخل الأجنبي وإرهاب المجتمع. والعمل على رفع هذا الشعور إلى درجة الرعب والذعر، حيث يشعر الفرد بالضعف وعدم الحماية والعجز .وخلق فوبيا الخوف من الزحام و من الأماكن المكشوفة. الخوف يضعف الناس خصائص وجودهم الاجتماعي، ويزداد قلقهم الفردي وأنانيتهم، وكلما زاد تفتيت الناس، زادت سهولة التحكم بهم واستلاب حريتهم.
06- هناك أكثر من 200 مليون كاميرا تراقب الشوارع والشوارع 24/7.في الصين حيث يمكن لبرامج التعرف على الوجه بالذكاء الاصطناعي المدمجة في نظام الكاميرا واكتشاف الأشخاص بسرعة ومزاجهم ومع من هم على اتصال.
07- وهم الحرية في مجال الصحة هذا الوهم يتغذى من حاجات الانسان المختلفة فهناك هرمًا يبدأ من الاحتياجات الفسيولوجية الأساسية ويصعد نحو الاحتياجات الاجتماعية والروحية والثقافية الأعلى. ومن المعلوم علميا ان من أهم العوامل التي تحدد السلوك البشري غريزة حماية الوجود المادي، أي سلامة الحياة أو البقاء على قيد الحياة. وهنا وقعنا في الفخ يجب اغلاق الأبواب أمام الجميع. وثانيًا، التضحية بحرياتنا "مؤقتًا" من أجل صحة كل منا! وضع الناس في مثل هذه المعضلة يعني جعلهم يتنازلون طواعية عن حريتهم، لأنه من الواضح أن الغالبية ستختار الصحة.
08- هناك تجربة اجتماعية أجراها أستاذان. حول وهم الحرية في المجال الاقتصادي ؛ حيث تم وضع جناحين مختلفين مقابل بعضهما البعض في احد المتاجر الكبيرة، تم وضع 6 أنواع مختلفة من المربى على الحامل المقابل لـ 24 نوعًا مختلفًا من المربى في حامل واحد.، لوحظ أن الغالبية العظمى من المتسوقين توقفوا عند المنصة حيث عرض 24 نوعًا مختلفًا من المربى. و 3٪ فقط من الذين زاروا الجناح مع 24 مربى مختلفة اشتروا المربى. والسبب هو عدم القدرة على الاختيار .
وماذا عن كلاب بافلوف؟
جعل بافلوف يجري الاختبارات على الحيوانات ويبحث هو اتباعه في نشاط الانعكاسات وموقعها من السلوك . وبذلك حصل على معلومات قيمة . واستطاع بتنشيط بعض الانعكاسات على بعضها الاخر وضع الكلب في حالات من النوم والتنويم والنورستانيا . اطلق بافلوف على نظريته النيوريزم أي التنظيم العصبي للسلوك او هيمنة الجهاز العصبي على كل مظاهر السلوك واكد ان الفعل هو اللبنة الأولى للسلوك الحيواني والإنساني حيث دراسة السلوك مفتاح فهم حقيقة الانسان وكان منهجه هو منهج الفعل المنعكس الشرطي وطبق نظريته في دراسة أنماط الجهاز العصبي لدى الكلاب.وهذه النظرية تطبق علينا اليوم .
لقد اتضح له ان الكلاب ليست على نوع واحد وكذلك البشر في الاستجابة وهذا واضح في موضوع الارتباط بين عمليتي الاثارة والكف واليقظة والنوم وحدد بافلوف نوعين من الامراض النيورستانيا والهستيريا وخصائص الأولى هي غلبة الاثارة وضعف الكف والثانية عكس الأولى يقول بافلوف: " تقوم نظرية النشاط الانعكاسي على ثلاثة مبادئ أساسية من البحث العلمي الدقيق: أولا مبدا الحتمية، أي كل فعل او حدث معين له دفع ما او حافز او علة . وثانيا مبدا التحليل والتركيب .. وثالثا مبدا التوافق بين الحركة والتكوين " [6]
يقول الشاعر نصار عبد الله في قصائد الى بافلوف
كلبك يا "بافلوف" جن
انت ادرت اعين الزمن ....في وجهي المرتاب
انت قلبت صفحة المجن .....للص والسيد والكلاب
حين أرى الدائرة البيضاء تقصر او تطول ....حين يدق جرس الإنذار ساعة الإفطار
وحيت تصعقني دائرة التيار ....سوف أقول ما تقول سوف اشاء ما تشاء
هأنذا أشحذ من حدائق السماء
فاكهة الرحمة لا اعطي ولا أرد
هأنذا اواجه القضاة فوق الأرض
لا مبرؤ ولا مدان
انقطعت يداي ياسؤالي العقيم
واحترق اللسان .
كيف يمكن التغلب على متلازمة حمار جان بوريدان وكلب بافلوف؟
اقترح مجتبى شيخ علي ثلاث طرق:
01- تحديد النقاط السلبية وإزالة الخيارات
الحل الأول لمشكلة اتخاذ القرار هذه، هو سرد الجوانب السلبية للخيارات المختلفة واختيار الخيار الذي يحتوي على أقل سلبيات.
02- أهداف محددة في الحياة
الشخص الذي لديه هدف محدد في حياته ويعرف منظور حياته، يتخذ القرارات بسهولة أكبر. تساعدنا الأهداف المحددة على اتخاذ القرارات التي ستقودنا إلى هدفنا في وقت أقرب.
03- الخطوط الحمراء واضحة
هذه المسألة قابلة للتطبيق أكثر في المفاوضات، لكنها تعميم على أجزاء مختلفة من الحياة. الشخص الذي يكون خطه الأحمر واضحًا في الحياة والعمل والتفاوض لن يكون مهووسًا بالاختيار.
الخلاصة
كتخريج عام نقول ان الانسان اذا فقد حرية الاختيار اصبح دون الحمار ففي قصة قصيرة للجزائري محمد دلومي بعنوان عندما كنت حمارا استهل قصته بهذا القول: " ما أروعك وأنت حمار حر وما أتعس الانسان وهو عبد" وتساءل بعمق: إن كان هو أنا فمن تراه يكون الحمار؟ وفي مقال اقزام الثقافة والحمار القصير للكاتب الجزائري محمد خريف أشار الى هذا الصنف من الناس بأسلوب تهكمي قائلا : الحمار الثقافي في نظر البعض سهل الامتطاء ..في متناول كل قزم يطمح الى الرفعة والصعود ...هذا الحمار مسالم يعاني من غباوة راكبيه وهذيانهم المتواصل.. انه يصبر على الأذى ...ويجابه أحيانا بالنهيق والصغور. وللخروج من هذا الوضع المخزي لابد من النضال والثورة على كل ماهو سطحي وتافه في الحياة وذلك من اجل التحرر، بغرس إرادة الاختيار في النفوس فكرا وسلوكا و التأكيد على انه لا يمكن التنازل عن الحرية تحت أي اكراه فلا يوجد ألم اشد من حالة سيزيف فقد حكمت الآلهة عليه بأن يدحرج بلا انقطاع إلى قمة الجبل صخرة تعود لتهوي إلى الأسفل بسبب ثقلها. فقد ظنوا، ولسبب معقول، أنه ليس هناك عقاب أبشع من العمل التافه والذي لا أمل منه. وغياب الحرية يفتح ولاشك أبواب التفاهة ومن ثم موت الانسان. *
عمرون علي - أستاذ الفلسفة
المسيلة – الجزائر
...........................
المراجع المعتمدة
[1]- يمكن العودة الى مقال -مصادر الوهم-
محمد علي عبد الجليل
http://www.maaber.org/issue_october10/editorial.htm
* كان جان بوريدان (1358-1300) فيلسوفًا فرنسيًا مؤثرًا وعالم لاهوت من العصور الوسطى عاش في القرن الرابع عشر. كان من أتباع ويليام أكامي. قام بالتدريس في جامعة باريس وكان في عصره أعظم مدرس للفلسفة والمنطق. كان مهتمًّا بدراسة سلوك الإنسان، ومسألة الدوافع التي تحرك الكائن الحي، وتدفعه لما يقوم به من أفعال، وتحدد ما يفضله من اختيارات. "معضلة الحمار" أو" مفارقة بوريدان" "Buridan's Paradox" كما يطلق عليها نسبة للفرنسي جان بوريدان وهي من المفارقات المثيرة التي نسبت ل بوريدان
[2]- الحرية الإنسانية والعلم، يمنى طريف الخولي، دار «نيو بوك» للنشر والتوزيع القاهرة، ص:85.
[3]- الحرية الإنسانية والعلم، يمنى طريف الخولي، دار «نيو بوك» للنشر والتوزيع القاهرة، ص:85.
[4]- طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، عبد الرحمن الكواكبي، دار الكتاب المصري، ص : 65
*هذا ما أشار اليه أحد المفكرين الاتراك في مقال له عن حمار بوريدان
[5]- المسرح التونسي: أوهام الحرية.. والقمع أيضاً، العربي الجديد، عدد 28مارس 2017
[6]- بافلوف ابحاثه في الجهاز العصبي والتعلم والتدريب وظواهر اخرى، عبد المجيد كركوتلي، الطبعة الثالثة 1986، مطبعة الهلال، ص : 39
* موت الانسان حالة وصفها المفكر علي شريعتي في عبارة موجزة: كسروا الأقلام .. كمموا الأفواه.. الأفكار مشلولة ... العقول مخدرة.. الأوفياء يعيشون الوحدة .. الشباب يائس ومنحرف ... هذه سمات هذا العصر.
فكر المهدي المنجرة تحت المجهر
- التفاصيل
- كتب بواسطة: علجية عيش
هل مفهوم "الذلقراطية" له علاقة بـ: "القابلية للإستعمار"؟
لطالما شغل هذا السؤال بال المفكرين العرب والمسلمين واثار اهتمامهم بل شكّل بالنسبة لهم هاجسا، ولطالما تعرضوا للمضايقات والحصار في بلدانهم ومنعوا من تقديم محاضراتهم أو عرض أفكارهم، بسبب مواقفهم، منهم من تم نفيه وآخرون اعتقلوا واغتيلوا ومن هؤلاء المفكرين نذكر المفكر المغربي عالم المستقبليات المهدي المنجرة، والمطلع على أبحاث هذا الرجل نجد أن فكره يتقارب مع بعض المفكرين، فإذا نظرنا إلى كتبه التي أصدرها نجد أن المنجرة يتقاسم الفكر البنابي (نسبة إلى مالك بن نبي) من حيث تناولهما مسألة الحضارة، ويتقارب فكره أيضا مع فكر الدكتور غسان الخالد في مسألة الديمقراطية، إلا أن الإثنان تناولا المسألة من وجهة نظر مختلفة، فغسان الخالد تحدث عن "البدوقراطية" عندما قال أن النظم الديمقراطية في الدول العربية نشأت وفق منظور غربي.
وقد جعل الديمقراطية قاعدة للحكم على ما هو ديمقراطي آو غير ديمقراطي يصعب مقارنته عند العرب وفي العالم الثالث بشكل عام، لأن البيئة مغايرة، ومن هذا المنطلق قدم الدكتور غسان الخالد بديلا آخر للديمقراطية، وهو "البدوقراطية"، وذلك انطلاقا من فكرة "المواءمة" التي تعني بين مفهومي الشورى الإسلامي والديمقراطية الغربية، لأن الديمقراطية في نظره مشروع لم يكتمل بعد حتى في أكثر البلدان ديمقراطية، أما المنجرة تحدث عن "الذلقراطية"، حيث ناقش سياسة الحكام والأنظمة في زرع الخوف في الشعوب، خاصة شعوب دول العالم الثالث التي عاشت الإستعمار، حتى تتمكن هذه الأنظمة من السيطرة والهيمنة في ظل غياب المؤسسات الديمقراطية وفي ظل الإستيلاب الثقافي، مستغلة في ذلك ظروف هذه الشعوب التي لا تزال محكومة بالذهنية القبلية (أي انتمائها الدائم للقبيلة أو العشيرة)، ما جعل المنجرة يقف بفكره أمام إشكالية التمييز بين مفهومي الرعية والمواطنة وكيفية الحفاظ عن الهوية، يبقى الحديث عن المقاربة الفلسفية إن كان مفهوم "الذلقراطية" له علاقة بالقابلية للإستعمار الذي تحدث عنها الفيلسوف مالك بن نبي أم لا؟
والمتتبع لأفكار المنجرة يجده من الذين ينشدون التغيير، باعتباره قاعدة عامة في كل حركة تاريخية حضارية، فهو يُجَدِّدُ ويُطَوِّرُ ويصنع الإبداع والابتكار والتقدم في مختلف جوانب حياة الإنسان الفكرية الاجتماعية والمادية، وقد أخضعت أكاره وأبحاثه للدراسة والتحليل، خاصة ما تعلق بالبعد المستقبلي، وهو ما قام به يحي اليحياوي الذي تناول فكر المنجرة واعتبره من أبرز الإستشرافيين في العالم في الربع الأخير من القرن العشرين، إذ يقول عنه: "إن اقتران اسم المنجرة بالمستقبليات لم يأت من باب التخصّص الصرف الذي يحصر الاقتصاد في المؤشّرات الاقتصادية، والمجتمع في المؤشرات الاجتماعية، والثقافة في المؤشرات الثقافية... بقدر ما أتى من باب الوعي بضرورة إدماج كلّ هذه المؤشّرات في منظومةٍ جامعةٍ، متداخلةٍ ومتفاعلةٍ في "الزمكان"، تنطلق من حالة هذه الظواهر في ماضيها، وتُسائل تموّجاتها في الحاضر وتستشرف مآلاتها ومخرجاتها وإفرازاتها في المستقبل.
كما يتقارب فكره مع كثير من الذين تناولوا في بحوثهم ظاهرة العولمة، إلا أن المنجرة ذهب إلى أبعد من ذلك، بحيث تحدث عن "عولمة العولمة"، ولعل المهدي المنجرة من المفكرين القلائل الذين دعوا إلى المصالحة مع الذات قبل المصالحة مع الآخر، والمصالحة مع الذات تعني محاسبتها أولا والوقوف على أخطائها، ثم غربلة ما مَرَّ عليها من مواقف إلى حين يتم التصالح معها، فقد كان فكره بمثابة الضمير الإنساني ليس في المغرب العربي فقط، بل في العالم العربي كله، فقد لعب دورا متعدد الأبعاد وهو يتناول القضايا التي تسعى إلى بناء جسرا للتواصل الثقافي والحضاري بين الشعوب والحضارات بدل الصدام الثقافي والحضاري، وهو بذلك يسير على نهج صامويل هنتنجتون من أجل إعادة تشكيل النظام العالمي، تقول بعض الكتابات أن المهدي المنجرة سبق صامويل هنتنجتون نفسه في طرح الإشكالية الحضارية، وهذا باعتراف من صامويل عندما قال أن المهدي المنجرة، هو من اكتشف بأن تاريخ العالم الذي قام على الإستقرار والسلام، ليس سيرورة، ولكنه صراع مستمر، لأنه يعيش في حوار وتعايش وتفاعل ما بين الحضارات والثقافات.
علجية عيش
صحافة الفيديو تقلب قواعد اللعبة الإعلامية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عدنان ابو زيد
مقاطع الفيديو القصيرة في الحاسوب والهاتف، التي تسحب اهتمام الجمهور، عبر تطبيقات سهلة التنزيل، تصبح مرجعا للمعلومة، مستغنية عن النص الخبري المكتوب، الذي مهما كسب المصداقية، لن يكون أكثر اقناعا وبرهانا، من الحدث الملتقط، صوتا وصورة.
أذلك نهاية عصر الصحافة التقليدية؟، بعد أن شهدت السنوات القليلة الماضية انفجارًا في تداول فيديو الحدث عبر الإنترنت، مدفوعًا بالتحسينات التقنية على منصات مثل فيسبوك، تويتر، انستغرام، والاستثمار من قبل الشركات الإعلامية في تنسيقات جديدة لنشر الاحداث بطريقة مرئية.
سرعة تطور تقنيات اقتناص اللقطة وسرعة النشر المباشر، تنبأ بالانقلاب العظيم في أساليب سيناريو المعلومة، يقلب بشكل تام، قواعد اللعب في ساحة الصحافة.
المواطن في كل مكان في انحاء العالم، يصبح صحافيا، طالما بحوزته موبايل وانترنت، ولا تحتاج منه تقنيات نقل البيانات من خلال تطبيقات الهواتف الذكية سوى ضغطة زر، موثّقا أعظم الاحداث واكثرها حساسية، بطريقة عفوية، بل وخالية من مقاصد التسييس، أو الإعلان، والتضخيم او التهميش، لتتحول تقنيات نشر مثل غوغل بلاي، تطبيق تيك توك الاجتماعي، الى منصات اعلامية تفاعلية، يرسل لها المليارات من الناس، الأحداث الملتقطة، في تواصل اجتماعي لم تشهده الكرة الأرضية من قبل.
الصحافة الفيديوية الجديدة، لم تعد تمتلك نقل المعلومة فقط، بل المال أيضا، محققة رأسمالا ضخما لم تسبقه اليها اية مؤسسة صحافة تقليدية طوال التاريخ، ومن ذلك ان قيمة شركة Bytedance بلغت نحو الـ 75 مليار دولار، فيما يبلغ رأسمال شركة TikTok نحو المائة مليار دولار، وحقّق تطبيقها نسبة تنزيل بأكثر من 660 مليون مرة في العام 2019 ، ويستخدمه أكثر من 500 مليون شخص على مستوى العالم شهريًا.
كما يتابع تطبيق الفيس آب FaceApp أكثر من 80 مليون مستخدم.
الأمر يتعدى المال الى النفوذ السياسي، وبحسب "وول ستريت جورنال" فإن صفقة بين مايكروسوفت الامريكية، وتك توك الصينية، سوف تعيد تشكيل المشهد التكنولوجي العالمي وتؤثر على العلاقات الأميركية الصينية.
يلجأ بشكل متزايد، الكتاب والاعلاميون والسياسيون، والاكاديميون والمهتمون، في الوقت الحاضر، الى انشاء القنوات على الفيديو، لإيصال أفكارهم ونظرياتهم، ورسائلهم الثقافية والسياسية والعلمية، عوضا عن كتابة المقالات وتأليف الكتب والنصوص.
ومنذ ظهور صحافة الفيديو في الستينيات من القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية، أصبح واضحا جدا انها ستكون البديل المهم لصحافة الصورة والنص.
في العام 2001، انتقلت بي بي سي البريطانية، إلى صحافة الفيديو، ثم لحقت بها اذاعة صوت أمريكا، وفيديو نيوز إنترناشونال، ووظّفت نيويورك تايمز وحدها 12 تقنيا في صناعة الفيديو، في ذلك الوقت.
تطغى في أوربا الغربية وأستراليا وكندا، صحافة الفيديو بشكل ملموس جدا، ولم يحسّن ذلك من سرعة نقل الخبر
صوتا وصورة فقط، بل وفّر في النفقات أيضا.
لكن التحول الأهم في كل ذلك، ان صحافيي الفيديو لم يعودوا، أبطال اللعبة، لان كل من يمتلك هاتفا ذكيا اليوم، يستطيع ان يوثّق الحدث ويرسله في ثوان معدودة الى انحاء العالم.
تارا ساتون، مثال صارخ على صانع الفيديو الخبري الميداني، وقد عملت في العراق، ووثّقت الكثير من مشاهد الحرب، متخفية، لتجنب المخاطر الشديدة -كما تقول-، وفازت بالعديد من الجوائز الدولية.
تفوقت مقاطع الفيديو عبر الإنترنت التي يتم إعادة توجيهها من منصات البث، على الأخبار التلفزيونية التقليدية في نسب المشاهدة.
في تقرير لمعهد رويترز، فان مستخدمي مواقع الويب في 26 دولة يتابعون الاحداث عبر الفيديوهات على منصات التواصل لا عبر الفضائيات، كما تميل الإعلانات العالمية الى التحول الى مسار صحافة الفيديو، الامر الذي يجعل من الصحافة التقليدية، الخاسر الأكبر في سوق الإعلانات.
عدنان ابوزيد
الناصرية.. حكاية الشجرة الخبيثة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. قاسم حسين صالح
اشاع النظام السابق تسمية الناصرية بـ (الشجرة الخبيثة) ليصف اهلها بالخبثاء، لأن اهوارها احتضنت الثائرين عليه من التقدميين والاسلاميين، وفيها مدينة الشطرة التي منحها لقب (موسكو الصغيرة) وأوجعت رأسه فتقصد اهمالها. وفي انتفاضة آذار" 91" كانت الناصرية آخر مدينة تمت السيطرة عليها في 23/3/1991 بعد ان اعتقل ثوارها رئيس اركان الجيش العراقي السابق نزار الخزرجي الذي رأس وفدا للتفاوض مع قوات التحالف في سفوان، وأقالوا المحافظ وسيطروا على المدينة بالكامل.. وكنت حينها في مدينتي الشطرة.. وشهدت كيف تجمع شبابها ظهر ذلك اليوم الذي انتفضوا فيه واعتلوا سطوح دوائرها الرسمية وهم يهزجون.
و(للشجرة الخبيثة) حادثة هي ان القوات البريطانية التي احتلت العراق عام 1917 دخلت من البصرة. وكانت الامدادات العسكرية والجنود تنقل في سفن عبر الفرات مرورا بالناصرية باتجاه بغداد.
وذات ليلة كانت السفن راسية قرب الناصرية، فامطرها الثوار برصاص بنادقهم (البرنو) وقتل منهم من قتل. وفي الصباح تبين للقائد العسكري البريطاني ان مصدر النار كان من شجرة صفصاف كبيرة تسلقها الثوار، فأمر جنوده قائلا: (اقلعوا هذه الشجرة الخبيثة).
هذا يعني ان التسمية تشير الى حادثة بطولية تشّرف اهل الناصرية، وعشائر العراق الجنوبية تحديدا التي قاتلت المحتلين الانكليز لاسيما في واقعة (الشعيبة) التي شكلّت رمزا للوحدة الوطنية العراقية شارك فيها الكورد ايضا.
وتاريخ الناصرية يحكي الجزء الأكبر من تاريخ العراق الحضاري والسياسي والثقافي. فأبو الانبياء ابراهيم ولد في اور، والحضارتان السومرية والاكدية نشأتا في محيط الناصرية، ومعظم الحركات السياسية الحديثة، التقدمية والقومية والاسلامية نشأت في الناصرية، وعدد من رؤساء الوزارات، والوزراء كانوا من الناصرية، واول ثلاثة مطربين غنوا في اذاعة بغداد عند تأسيسها عام 1936 كانوا من الناصرية: حضيري ابو عزيز، داخل حسن، ناصر حكيم. فضلا عن شعراء ومثقفين معروفين.. بينهم الأديب وزميل دراستي الفقيد عزيز السيد جاسم، وزامل سعيد فتاح كاتب اغنية (اعزاز)، وآخرهم طائر الثقافة.. الوديع الدمث الأخلاق.. كامل شياع.. المسفوح دمه في آب 2008 الذي اطلق أسمه على قاعة ثقافية بصقيلية في أيطاليا فيما طوى النسيان ذكراه بوزارة الثقافة العراقية التي عمل فيها مستشارا، وبالوطن الذي لم يسأل عن قاتله ولم يثأر لدمه!.
ولقد زرت الناصرية لأمر يستدعي حضوري دائرة التسجيل العقاري. واخذت المعاملة طريقها نحو (المدير) وانا مع صاحبها، فوصل الى شخص كان واقفا في الممر الرئيس المزدحم بالمراجعين. ولأن الجو حار، والبناية قديمة، وكهرباء (ماكو)، اشرت له ان يستعجل بالدخول على المدير، فقال لي: هذا هوالمدير.. يقصد الواقف أمامنا الذي ترك مكانه ليستلم معاملات الناس ويوقعّها في الممر!.
ولقد اثارت هذه الظاهرة الايجابية فضولي فسألته عن السبب الذي يستدعيه لفعل ذلك.. فاصطحبني من يدي وادخلني مكتبه الواسع والمؤثث والمحترم.. وأجابني بأن معظم المراجعين هم ناس بسطاء يحتاجون الى المساعدة وانه يسهل ابتزازهم من قبل الدلالين والمعقبين، ولأن دائرة التسجيل العقاري تعدّ الاخطر في دوائر الدولة لانها تتعلق بنقل املاك الدولة والمواطنين، فضلا عن ان هذا التصرف يرفع همّة الموظف حين يرى مديره يشاركه المتاعب نفسها. شكرت (ابا محمد) وتمنيت لو ان كل المدراء في دوائر الدولة كانوا مثله.
في الممر ذاته كان المطرب حسين نعمة.. وحين رآني فتح ذراعيه وصاح بلهجة اهل الناصرية المحببه: (هاي انت اهنا.. يا يابه!).. واخذني بالحضن.. وتذكرنا حادثة، انني كنت في السبعينيات جالسا بغرفتي بالقسم الثقافي باذاعة بغداد. ولما التفت الى الجالسين معي وجدتهم: (الملّحن طالب القره غولي، الشاعر زامل سعيد فتاح، حسين نعمة، الصحفي عادل سعد، وانا مقدّم البرامج الثقافية وخبير برامج الأطفال). قلت لهم:
- تدرون انتو الكاعدين بنص اذاعة بغداد.. كلكم ناصرية!
ضحكنا للمفارقة.. وعلّق أحدنا قائلا:عوزها "خضير مفطوره ".. وكان هذا أشهر مطرب في الناصرية سبق المطرب العمارتلي سلمان المنكوب.
ومع ان حسين نعمة شكا لي اهماله واهمال المبدعين عموما، وحكى لي كيف ان دولة خليجية استضافته في فندق ست نجوم وتذكرة الطائرة وسائق تحت تصرفه لعشرة ايام و 25 الف دولار.. وكيف ان المبدعين العراقيين يحضون بتكريم الخارج واهمال الداخل، الا ان اهل الناصرية حملّوني عتبا شديدا لأبناء منها.. نسوها ونفظوا أيديهم منها حين صاروا في الدولة!.
ولأنهم (حلّفوني بأيمانهم!) ان اوصل عتبهم الى الاعلام، فاني برّأت ذمتي حينها بذكر من يخصّهم العتب "مع أن بينهم من لا يستحقه": (عادل عبد المهدي، شيروان الوائلي، حسن السنيد، عزيز العكيلي، خالد الأسدي، صادق الركابي، احمد الجلبي، وموفق الربيعي).
اللهم اشهد ان عتب اهل (الشجرة الطيبة) قد اوصلته الى اصحابه.. عسى أن أحدهم يقول لنفسه (والله حقهم علينا) فيخصها بزيارة ليرى كيف حالها.. وياحيف على أهل الناصرية أن يضطرهم الزمن النحس الى ان يستنجدوا بمن جاءت بهم حليفة من امطروا جنودها برصاص " البرنو" من على شجرة الصفصاف!.
أ. د. قاسم حسين صالح
المهدي المنجرة.. رائد فلسفة المستقبل (1)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. محمود محمد علي
يعد عالم المستقبليات المغربي البروفيسور الدكتور المهدي المنجرة مفكراً موسوعياً، لما يطرحه من أفكار ووجهات نظر حول مختلف قضايا العالم: السياسية والاقتصادية، والثقافية، والعلمية، والتربوية، ولعل ذلك مرده إلي سببين: يرجع أولهما، إلي أن المنجرة يملك نظرة شمولية عن العالم، والتاريخ، والإنسان، والهوية، حيث ينبغي للباحث ألا يفصل بين قضية وأخري، أو أن ينصب الحواجز النظرية والإجرائية بين أبعاد الموضوع ومستوياته. وباختصار، إنه يرفض الرؤية التجزيئية للأشياء، والوجود، والمجتمع، وذلك كي لا يؤول الأمر بالباحث إلي إغفال الترابط القائم بين مكنات الحياة، مما سوف يوقع رؤيته في الإسقاط، والانتقاء، والابتسار .أما السبب الثاني فيتعلق بالمرجعية التي يبني عليها المنجرة تفسيراته وتقديراته، وتوقعاته، وهي كذلك مرجعية شمولية تستثمر مختلف ما أنجزه الفكر العالمي وحققه من مكاسب، سواء في الغرب، أو في الشرق، في الماضي أو في الحاضر، مما يكسبها بعداً إنسانياً قلما نعثر عليه عند غيره من المفكرين والمحللين والمستقبليين.
لقد شهد بمكانته عدد لا باس به من المفكرين نذكر منهم علي سبيل المثال لا الحصر: ما قاله عنه "حسن أوريد" المفكر السياسي والكاتب مغربي: "إن تقييم أو تقدير الحاضر أو المؤسسات الرسمية ليس مهماً، المهم هو تقييم أو تقدير المجتمع والمكانة التي يمكن أن يخطئ بها الشخص في التاريخ، واعتقد أن للمهدي المنجرة مكانة في تاريخ المغرب وتاريخ الإنسانية". كما قال عنه أيضاً " هو من إحدي المنارات المهمة المضيئة والمشعة من المثقفين الذين كانوا واعين مثلاً بمخلفات الاستعمار، وكان منخرطاً في الصراع من أجل الاستقلال، سقراط لم يأخذ حقه لما كان في حكم أصينا ولكن أخذ حقه في تاريخ الإنسانية".
كما قال عنه " محمد بريش" خبير في الدراسات المستقبلية فقد اعتبر أن الدكتور المنجرة " علم بذاته وعالم فريد من نوعه، يؤمن بأفكاره إيماناً قوياً، ويدافع من أجلها دفاعاً مستميتاً، أفكاره نيرة شديدة الارتباط بالقيم، القيم المثلي للإنسانية، وعلي رأسها العدل، والحرية، والكرامة ". وتابه " فمنذ صباه وهو يقاوم الاستبداد، والظلم الاجتماعي، وأشكال الهيمنة بأنواعها كافة، وكل من لازمه أحس أنه يتعامل مع شخصية علمية بارزة في تألق علمها وقي مستوي فكرها، شخصية إنسانية تتميز بصفات نظرتها وصدق إنسانيتها، مناضل لا يتردد في الجهر بالتنديد الفوري لما يلمسه أو يراه من ظلم، وجهل، وفساد.
والسؤال الآن: ما الدراسات المستقبلية؟، وما هي إسهامات المنجرة فيما يختص بتلك الدراسات المستقبلية؟
وفي الإجابة علي السؤال نقول: لا شك أن العلم بالمستقبل هو علم متطور وليس علماً مستحدثاً ؛ فلقد مارس الإنسان القديم طرقاً عديدة في اكتشاف صور للمستقبل. وقبل عصر العلم كانت الكهانة قد تكفلت بهذه المهمة . وسوف يتأكد لنا أن عصر العلم لا يعني بالضرورة القطع مع مخلفات عصور ما قبل العلم في كيفية تدبير الزمان . فالعلاقة التي تنشئها الأيديولوجيا مع الزمان من شانها أن تقع في أنماط الأسطرة والكهانة . فالإصرار علي انتهاك السادة للأمم قد يوقعنا في ضرب من التخييل الكهاني للمستقبل . إن أصل الخطيئة هي خطيئة الزمان . وحينما أكل آدم من الشجرة، إنما فعل ذلك بداعي أنها شجرة الخلد ؛ الخلد في الزمان، الزمان الممتد واللانهائي .. لكن الزمان الممتد واللانهائي هو وحده الزمان الذي يعفينا من مسؤولياتنا في المستقبل . في الخلود ينتهي القلق من المستقبل . إن قلق المستقبل يبدأ حينما ندرك أن هناك نهاية للتاريخ، وبالتالي ضرورة تدبير الزمان . إذن خطيئة الإنسان تبدأ حينما لا يصح المستقبل مجالاً للتفكير والمسؤولية أو حينما يركن إلي الخلود المطلق، فيصبح زمانه مهدورا . إن المستقبل هو أفق زماني ومجال لتجلي تطور الإنسان. وحيث لا يوجد تطور تنعدم قيمة الزمان، وتغيب فكرة المستقبل . كان لا بد لأدام أن ينزل إلي المكان المحصور ليدرك أهمية الزمان المحصور أو جغرافيا الزمان لتبدأ رحلة المستقبل .
ولا يمكن أن يكون المستقبل إلا ملازما لشروط الجغرافيا . إنه مستقبل المكان وليس مستقبل الزمان . بعد ماكيندر والجغرافيا السياسية أصبح التاريخ تابعا للجغرافيا. تصبح المستقبليات من فروع الجغرافيا . هنا لا بد أن نتحدث عن زمان أفريقي، وزمان أوربي، وزمان أسيوي .. حتي النزاع المفتعل بين التاريخ، والبينات هو في حد ذاته يعكس صداما خفيا بين أنواع الأزمنة نفسها ؛ زمن الأمد الطويل وزمن الظرفيات المتعلقة بالزمان الاجتماعي حسب التقسيم الثلاثي البروديلي. إن التحول بمفهوم الزمان خارج المفهوم التاريخي ومقاييسه الكلاسيكية تولدت عنه أمكنة جغرافية جديدة ذات مقاييس متدرجة . التنمية المستدامة هي أهم منتج بفضل انفتاح الجغرافيا علي الزمان والمستقبل بل هي تدبير الماكن والجغرافيا عبر الزمان . لم تعد الجغرافيا مجرد مكان بل هي منذ اليوم علم تداخل المكان والزمان، علم أثر المكان في الزمان واثر الزمان في المكان ؛ وذلك في سياق محاولة لتكريس الأركيولوجيا المستقبلانية الذي يقدحها السؤال المشروع دائما: أي مستقبل نريده؟ تحاول الأيديولوجيا غير عابئة بالزمان ولا حتي بالمكان مع أن ضرورتها هي غير زمكانية . ولذا فهي لا تترك فرصة للاختيار بين طبقات المستقبل وممكناته، وهنا نركز علي قياس النموذج الذي اعتمده مهدي المنجزة في نقد الوضعية التنموية في العالم الثالث . وحينئذ كان لا بد أن أؤكد أن مشكلة المهدي المنجرة كانت دائما تتعلق بغياب الحدسي السياسي.
كان مهدي المنجرة (13 مارس 1933م - 13 يونيو 2014م) ممن اهتدوا إلي دراسة الزمان بوصفه مجالا حيوياً قابلاً للاستعمار . وليس التاريخ وحده من تعرض للاحتلال عبر محاولات تحريف حقائقه، بل المستقبل هو الآخر تم احتلاله بصورة من الصور . وأعتقد أن تحريف أي فصل من فصول الزمان هو احتلال لكل الفصول الأخرى . إن تحريف الماضي هو شكل من أشكال الهيمنة علي الحاضر والمستقبل أيضا . ومن هنا ستكون المستقبليات تعاني التحدي نفسه الذي عاناه التحقيق التاريخي .
والمستقبلي كما يقول المنجرة هو الذي يكتب لزمن يعتقد أنه لن يكون حياً فيه ؛ أما ذلك الذي يكتب كتابة لحظية، فأي حساب ما تبقي من حياته، فهو بذلك يتوقع مصالحه الخاصة، ولا يتوقع ما قد يأتي به المستقبل . فالمستقبلي الجيد، هو الذي يكتب لفترة، يكون مؤكد أنه لن يعيش فيها، وهو بذلك يتحرر من المصالح الشخصية الآنية، ومما يمكن أن يجذبه إلي الأسفل، ليبقي كمن يركب طائرة ؛بحيث كلما ارتفعت تلك الطائرة، كلما اتسع أفق رؤيته .
وفيما يخص علم المستقلبليات فنجد المنجرة يؤكد علي أنه علم فتي، لكن مجتمعات الجنوب أو دول العالم الثالث، هي في أمس الحاجة إليه، لأنه سوف يساعدها علي تحديد الملامح لرؤيتها التنموية، للخروج من التخلف، واللحاق بركب الدول المتقدمة ؛ خاصة وأننا نعيش عالم العولمة المشحون بالتنافسية والسباق .
والمستقبليات في نظر المنجرة ليست علماً؛ لأن العلم لفظ كبير وواسع، في حين أن المستقبليات، هي محاولة للرؤية البعيدة ؛ فهي نوع من الخيال الذي يحيل علي المتمنيات، وعلي كيفية تطبيقها في المستقبل ؛ وكلما كانت تلك الرؤية بعيدة، كلما تطلب ذلك جدولاً زمنياً، ليس هو الجدول الزمني للسياسيين، إذ ليس هنالك حكومة أو حركة وطنية أو حزب سياسي ...، يمكن له زعم برنامج معين، تعقد عليه آمال التحقق في فترة زمنية مستقبلية طويلة المدي .
ويعطينا المنجرة مثالاً من مجال التعليم ومحاولة إصلاحه، بحيث أن أي إصلاح فيه يتطلب رؤية لجيل كامل ؛ عوض الإصلاح التقسيمي والتقطيعي المتبع في جل الإصلاحات داخل المنظومة التربوية التكوينية ؛ التي تتم حسب الأسلاك (إبتدائي، إعدادي، ثانوي، جامعي، ...)، أو حسب التخصصات (أدبي، علمي، مهني...)؛ إن هذا الأسلوب من الإصلاح، المتأسس علي التقسيمات والتقطيعات، يقتل الرؤية الشمولية المتكاملة والارتباط العضوي بين مكونات وعناصر المنظومة التربوية التكوينية ؛ ذلك أن من يدرس حالياً بالتعليم الإبتدائي، يدرسه من تخرج من التعليم الثانوي أو الجامعي، ونفس القاعدة يمكن سحبها علي الذين يدرسون بالتعليم الإعدادي والثانوي والعالي .
فإصلاح المنظومة التربوية في نظر المنجرة ينبغي أن يُنظر إليه بمنظور التمفصل والتداخل، وليس من الزاوية التبسيطية، المنطلقة من الوجهة الخطية السطحية، ومن أجل ذلك فإن الرؤية المستقبلية لإصلاح التعليم سبق وأن جسدها وأن جسدها المنجرة في نادي روما، ضمن دراسته التي اصطلح علي عنونتها بـ" من المهد إلي اللحد –التعليم وتحديات المستقبل"، وهي دراسة ساهم فيها إلي جانب المنجرة، جيمس بوتكين ومرسيا ماليتزا، وقدم لها ليوبولد سيدار سنغور، وقد نشرت طبعتها الثانية باللغة العربية سنة 1984، وطبعتها الثالثة سنة 2003م .
وعندما يتحدث المنجرة عن مشكلة العالم الثالث المرتبطة بالتخلف، فإنها تتعلق بالأساس بأزمة انعدام الرؤية المتأسسة علي المنظور التكاملي، الذي يدخل في حسابه التمفصل والتداخل والتكامل لمختلف المكونات والعوامل المحددة للرؤية المستقبلية السليمة، وبهذا بخصوص يقول المنجرة:" أتحدي أي دولة، أو أي بلد، أو أي رئيس حزب، أو أي رئيس حكومة، أو أي مسؤول عن التعليم، أو أي شخص في القطاع الخاص بدول العالم الثالث، أن يقول لي: ها هي رؤيتي ... أما الرؤية التي أتحدث عنها، فهي ليست ذات مرجعية ميتافيزيقية، كما هو الحال بالنسبة للحلم الذي يحدث أثناء النوم، ويرغب صاحبه في تطبيقه صبيحة يومه ؛ بل هي علي خلاف ذلك، منظور أو تصور ناتج عن إجماع كافة المواطنين وكافة الشرائح الاجتماعية لهذا البلد أو ذاك " .
ولد المهدي سنة 1933 في حي «مراسا» الموجود خارج سور المدينة العتيقة للرباط، لأسرة ترتبط أصولها بالسعديين٬ وكان والد المهدي، محمد المنجرة، أحد التجار المغاربة في الثلاثينات، الذي كان السفر جزءاً من مهنته. وقد كان مهتماً بالعلوم المستقبلية، وأسس سنة 1924م نادي الطيران، وهو أول نادي عربي مختص في الطيران.
وفي سنة 1941 دخل المهدي «ليسي غورو» لمتابعة تعليمه الابتدائي. لم تخل دراسته من المصادمات مع المسؤولين الفرنسيين بسبب معاداته الاستعمار، ثم درس بثانوية ليوطي بالدار البيضاء منذ سنة 1944 حتى سنة 1948. وبعد أن حصل على الباكالوريا، أرسله والده للدراسة في أمريكا ، حيث كان يؤمن بأهمية التعددية في التكوين، فبدل إرسال أبنائه لفرنسا كما كان يفعل جل المغاربة، فضل بعثهم لسويسرا والولايات المتحدة. التحق المهدي بمؤسسة بانتي، ثم التحق بجامعة كورنل وتخصص في البيولوجيا والكيمياء.
بيد أن ميولاته السياسية والاجتماعية دفعته إلى المزاوجة بين دراسته العلمية من جهة، والعلوم الاجتماعية والسياسية من جهة ثانية، وفتحت إقامته بأمريكا عينيه على العمل الوطني والقومي.
وفي سنة 1970 عمل بكلية العلوم الاقتصادية بلندن أستاذا محاضرا وباحثا في الدراسات الدولية. وخلال سنتي 1975 و1976 تولى مهمة المستشار الخاص للمدير العام لليونسكو. وانتخب كرئيس" الاتحاد العالمي للدراسات المستقبلية" سنة 1981. كما شغل منصب منسق لمؤتمر التعاون التقني بين الدول الأفريقية (1979-1980). وكان عضوا بـ"الأكاديمية العالمية للفنون والعلوم"، و"الأكاديمية الإفريقية للعلوم"، والأكاديمية الأوروبية للعلوم والفنون والآداب، والجمعية العالمية للمستقبل، و"الاتحاد العالمي للمهندسين المعماريين"، و"منتدى العالم الثالث"، ونائب رئيس "جمعية الصداقة بين المغرب واليابان". وكان المهدي المنجرة أصغر عضو سنّا ضمن "نادي روما" منذ تأسيس النادي سنة 1968. بعد تأليفه كتاب "نظام الأمم المتحدة" سنة 1973، خرج من هذه المؤسسة الأممية سنة 1976 وتخلى عن جميع حقوقه فيها من تقاعد وتخلى معه عن الاستفادة من راتبه، بعد تيقنه أن القيم التي تسير عليها الأمم المتحدة، وتخدم لصالحها، هي القيم المسيحية اليهودية.
د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة اسيوط.
.................
1- د. جميل أبو العباس زكير بكري: مستقبل النظام العالمي الجديد بين حقيقة العولمة والهيمنة الميغا إمبريالية في فكر المهدي محمد المنجرة .. مقال..
2- المهدي المنجرة: من أجل استعمال ملائم للدراسات المستقبلية، مجلة عالم الفكر: الدراسات المستقبلية، العد الثامن ٢٤) عشر، العدد الرابع، يناير فبراير مارس ١٩٨٨ ).
3- المهدي المنجرة مغرب المستقبليات المستقبل الحرب الحضارية، عن موقع الجزيرة، مـارس ٢٠١٩ .
4- المهدي المنجرة رجل سابق لزمانه، مجلة حزب العدالة والتنمية الإلكترونيـة، ٢٢ مـارس ٢٠١٨.
5- المهدي المنجرة: من أجل استعمال ملائم للدراسات المستقبلية، مجلة عالم الفكر: الدراسات المستقبلية، العد الثامن عشر، العدد الرابع، يناير فبراير مارس ١٩٨٨.
6- محمد محمد الخطابي: المَهدي المَنجرة..كَانَ محباً فَأَحبه الناس، مجلة هسبريس المغربية الإلكترونية، ٢٧ يونيو ٢٠١٥ .
الفنان التشكيلي العراقي ضياء حسن يشيد تكويناته بلغة تعبيرية لونية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. جمال العتابي
يحاول الفنان ضياء حسن أن يبني عالمه الخاص الذي يحمل سمات شخصيته وهو يحكم الصلة بين إتجاهين في أسلوب أعماله التشكيلية، لا تناقض بينهما، احدهما يكمل الآخر، في النهاية يمنحان الفنان معاً قدرات الإيماء، لبلوغ جوهر الخطاب الفني إجمالاً.
المنحى الأول في إسلوب ضياء يتمثل في الكشف عن كيان الحرف والكتابة، وكل ما يتعلق بهذا الرمز اللغوي، معتمداً على تطلعاته الفنية المعاصرة، وإنطلاقاً من إحساسه بجمالية الحرف نفسه، كأساس، وإلى المقطع والنص الحروفي، وغالباً ما يستخدم ضياء الخطوط المغربية، لتأثره بأجواءالثقافة في المغرب العربي، كونه أكمل دراسة الدكتوراه في الفن بإحدى الجامعات التونسية، وهو منحاز في كشوفاته الذاتية الى ليونة الحرف المغربي واستجابته للون، وعدم السكون، في خلاف مع الحرف المشرقي، إذ يعتقد ضياء انه حرف جامد وصلب.
ان استلهام الحرف في الفن الذي ظهر منذ العصور القديمة، في النحت السومري البارز، منذ ذلك التاريخ، إستطاع الفنان أن يكتشف صياغات جديدة هي في أصلها ضرب من أساليب التعبير، ضمن مناخ الإنساني والإجتماعي والروحي والعاطفي معاً.
إن جودة وجمال تشكيلات ضياء، تكمن في إستخدام الخطوط كوسيط ينقل عبره للمتلقي ما تحمله تلك التشكيلات اللونية من معانٍ، بإعتبارها وحدات تجريبية مستقلة قائمة بذاتها لها من الطاقات ما يجعل منها إسلوباً ينفرد به ضياء حسن يخرج به عن الأشكال التقليدية في إستخدام الحرف إلى أفق عصري جديد، ولغة تعبيرية جديدة تستوعب الوجود بمعناه الزماني والمكاني معاً. لغة تنشد الحقيقة من منطق واقعي، إن استلهام الحرف، ولاسيما الآيات القرآنية في أعمال ضياء، هو أول الطريق في التصوف الفني إذا جاز لنا هذا التعبير، لان الفكر الصوفي بدوره ينزع نحو الحقيقة.
في المنحى الثاني من اسلوب الفنان حسن، نتوقف عند توظيف الحرف توظيفاً معمارياً، أو هندسياً، ونقصد هنا إستخدامه الخطوط المستقيمة، والأقواس والمنحنيات، ان حقيقة جمال الأشياء تكمن في تصميمها، وان أكثر الذين فهموا التصميم على حقيقته هم الفنانون ومهندسو العمارة، إن ضياء يخوض غمار هذا الميدان، ولديه من المقومات التي تقوده نحو وحدة الموضوع، والتنسيق اللوني، ووحدة النظام، فضلاً عن التنويع، وهي عكس التكرار الممل، ان وراء هذه الأعمال عقل منظم، ، هذا ماتوحي به تلك الصرامة والدقّة في التخطيطات، انه يلجأ الى نقل أجزاء من أشكال الطبيعة، أو أية حركة إنسانية كنقطة بداية، سرعان ما تتحول إلى قيم لونية، وتكوينات تنبض بالحياة والحب والعناق.
في هذا المنحى الأسلوبي يمكن ان نصنّف أعمال ضياء ضمن ما يعرف بالفن التجريدي الهندسي، الذي يقوم على التنسيق في الإيقاع والتوازن اللوني، بما يشعرنا بقوة البناء وتماسكه، فالتجريد حركة، ومفهوم الحركة ليس مطلقاً، انه مرتبط بالهندسة متأثرٌ بها، الخطوط تتلاقى، وتتباعد، وتنسجم، وتتلاحم في صراع مدهش كصراع الحياة نفسها، تنطلق مستقيمة أو منحنية، لينة حانية، تتداخل وتتشابك مثل أفرع شجرة ضخمة. في شد هائل يعبر عن القوة والرشاقة، مما يدفع عين المتلقي أن تجوس فيها مستكشفة إيقاع الخط النفسي، وإنسجامه الفني والشكلي.
ان استقصاء آليات العمارة الهندسية، قادت ضياء الى إكتشاف أساليب تقنية معينة، شاعرية في جوهرها، واصبح بإمكانه أن ينقل الى الورق أو القماش صوراً مدهشة ومثيرة لأفكاره ورغباته، بحبكة عالية، وكأنه نسّاج، أوخياط ماهر، الشكل لديه واضح ومصمم، لا تجريد مطلق، ولا هندسة مطلقة، انه مجاورة لونية لتكوين جديد بولادة جديدة. لعالمه الجميل الذي يصنعه.
وعلى الرغم من ان ضياء لم يخترع أشكالاً هندسية جديدة، لكنه على دراية بجمال الخطوط، والإحساس العالي باللون، فتميز من تحقيق قدر عالٍ من المتعة البصرية، لتكوينات متعانقة يشيدها ضياء بتأنٍ وصبر، فيها إستعادات لرموز عميقة وشيقة في آن واحد.
ما من فنان سلك هذا الطريق دون إخلاص، لفنه ومواقفه الجدلية، فالفنان ضياء حسن يحمل شهادة الدكتوراه في علوم وتقنيات الفنون، شارك في معارض جمعية التشكيليين العراقيين لعدة دورات، كما شارك في معارض تشكيلية عربية في تونس والجزائر، وأسهم في تصميم وتنفيذ العديد من المطبوعات، والشعارات والماركات للمؤسسات العلمية والثقافية.
جمال العتّابي
العراق: من صدمة الدكتاتورية الى صدمة المحاصصة الطائفية والعرقية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عامر صالح
والى الأصلاح بالصدمة
علينا الأعتراف بأن حاضر العراق هو نتاج صدمات لتاريخه القريب، ولا يوجد ما يشير الى ان العراق كان بلد مستقر وهادئ خلال عقوده الماضية وان ما كان فيه هو نعيم وجنة ورخاء، ولكن بالتأكيد المقارنة تكون نسبية، فالأسوء يستنهض فينا ايجابية السيئ رغم مرارة الأخير، إلا ان الفطرة الانسانية تشتغل على سنة من يرى الموت يرضى بالسخونة المرتفعة، والذاكرة الانسانية تنشظ بذكرى الاحداث من حيث تراتيبيتها ووقع الألم فيها ودرجة تلاشيه في مختلف الحقب التاريخية، الشخصية منها والعامة.
في التاريخ الحديث للشعوب توجد عدة أحداث بارزة شكلت صدمة أو رجة في الوعي الجمعي، قادت بدورها إلى تحولات على المستوى السياسي والحضاري، بما في ذلك إجراء مراجعات فكرية مختلفة وممارسة للنقد والنقد الذاتي. باستثناء منطقتنا العربية والاسلامية، والعراق نموذج لذلك العزوف عن نقد الذات وانتاج خطاب يسهم في رسم ملامح حاضر افضل والذي يبدو أنه محصن حتى الآن من تأثير هذا النوع من الصدمات، بل ان مافيه من تفاعلات تعيد احياء السيئ بما هو اسوء منه.
فبالاضافة إلى الاستبداد والقمع والفساد الذي عانى منه ويعاني العراقيون، هناك أيضا حجب كامل للمعلومات واستهتار واضح بقيمة الإنسان العراقي. وهناك ميل دائم للتعامل مع المواطنين كما لو كانوا أطفالا أو قصرا بحاجة دائمة إلى من يفكر عنهم ويتخذ القرارات نيابة عنهم. وهناك حرص سلطوي على جريان السياسات والتعليمات والمعلومات في اتجاه واحد فقط من الأعلى إلى الأسفل وهناك التعامل مع الشعب كقطيع يستحق الرعاية والقيادة الرتيبة الى حين يريد القائد الفذ او الحزب القائد، إن كان دكتاتوريا ام اسلامويا او غيره.
لقد نشأ الظلم والفساد في العراق في عقوده الأخيرة على أرضية قسوة خارقة واستثنائية حيث قائد الضرورة كان على هبة الاستعداد لذبح مئات الألوف من عامة الناس ومن كوادر البلد العلمية والمهنية والسياسية ومن خيرة مفكريه وأدبائه وكتابه وشعرائه، وحتى من أنصاره ومؤازريه،وحرب ضروس استمرت ثماني سنوات لم تلبث أن انتهت بأعجوبة ساهم العناد الإيراني باستمرارها وإراقة الدماء عند كلا الطرفين،حتى لحقت بها حرب احتلال الكويت،ثم تلتها حرب تحرير الكويت ضد العراق وكان في ذلك اشد دمارا للبنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية للدولة العراقية، وقد ساد مناخ من الإعتام واليأس والقنوط والإحباط ارتبط بفقدان الأهل والإخوة والأقارب في الحروب وتصدع العائلة والمدينة والقرية والحي والحارة والجار بتأثير شدة الفقر والحاجة حيث بلغت الرواتب في أفضل الحالات من 5 الى6 دولارات في بلد نفطي كالعراق،إضافة إلى التصدعات القيمية والأخلاقية العامة كمحصلة لهذا كله، وقد قادت هذه الظروف إلى شيوع الجريمة العادية والسرقة ولكنها كانت في معظمها تحت قبضة النظام السابق حيث كان على استعداد لتشجيعها أو القبض على منفذيها بنفس الوقت للتخفيف من أزمته الداخلية، وكذلك تاركا لأجهزته المخابراتية والأمنية حرية ارتكاب الجرائم النوعية ضد مناوئيه.
ثم أتت فترة الاحتلال الأمريكي عام 2003 واسقاط النظام السابق حيث شيوع وانتشار التنظيمات السياسية الطائفية التي نمت نموا مذهلا وسريعا وبتشجيع من دول الجوار العربي وغير العربي مستفيدة من حالة الإحباط التي عانى منها الشعب العراقي لعقود في ظل النظام السابق جراء الكوارث الاقتصادية والاجتماعية التي سببها له،وهي بمثابة استجابة انفعالية ـ سياسية في تصور غير عقلاني للخلاص من الظلم الاجتماعي دون فهم قوانينه وأسبابه، والكثير من هذه التنظيمات الطائفية ـ السياسية تربى في جبال أفغانستان أو في سهول إيران والجميع حمل أجندة البلد الذي قدم منه لينفذها على ارض العراق المظلوم ويتلقى إلى اليوم وباستمرار دعم تلك البلدان واشتراطاتها السياسية، بما فيه حتى شروط تشكيل حكومته القادمة، أنها كارثة حقيقية ضد استقلال البلد وسيادته، وعلى خلفية ذلك اشتد الاقتتال بين طوائف الدين الواحد ليتخذ طابع التصفيات الدموية والانتقام والتكفير المتبادل، بل امتد ليشمل أديان وطوائف أخرى لا ناقة لها ولا جمل في الصراع الدائر في عمل هستيري لا حصر لحدوده، وفي محاولات عبثية لحرق الأخضر باليابس.
لقد تواجدت هذه القوى تحت المظلة الأمريكية والجميع غير مؤمن بالديمقراطية السياسية كأسلوب لإدارة الحكم، وإذا كان المحتل صادقا في نيته في بناء نظام ديمقراطي في العراق فتلك هي حالة الاغتراب بين المحتل وبين من يتعامل معهم لإدارة شئون البلاد،وكما يقول المثل " إن كنت تدري فتلك مصيبتي وان كنت لا تدري فالمصيبة أعظم "، وعلى خلفية ذلك ولد الدستور"رغم مثالبه "معطلا والمؤسسات الديمقراطية الناشئة فارغة المحتوى غير ذات جدوى،والجميع يعمل على شاكلته وبطريقته الخاصة مستلهما من الدكتاتورية السابقة اعتى دروسها في "التبعيث الجديد" والاستحواذ والقمع، وكل من هؤلاء انشأ ميليشياته "الجيش الشعبي الجديد" وحتى منظمات مجتمعه المدني الصفراء،وقواه الأمنية ليدافع عن نفسه وعن امتيازاته وبقائه بعيدا عن الانتماء إلى الوطن والمواطنة.
وعلى خلفية هذه التعبئة المشوهة اندفعت شرائح واسعة من مجتمعنا في البداية إلى الارتماء في أحضان هذه الحركات على خلفية فهم محدود لإزالة أثار الفقر ومسبباته في تصور خاطئ مفاده إن جرة قلم سوف تنقلهم من فقر مدقع إلى غنى لا حدود له، في ظروف سياسات انفتاح غير مدروسة وعبثية صوب الانتقال إلى اقتصاديات السوق،في وقت توقفت فيه الدولة عن أداء دورها التنموي في بلد غني كالعراق،وتتسع دائرة الظلم الاجتماعي والفساد، ويبدأ الفقر بالضرب بشدة في ما تبقى من صلابة التنظيم الاجتماعي بما فيه العائلة ليفضي إلى تصدع اجتماعي وترهل سياسي مخيف فيخيم على المجتمع شعور طاغ بالاغتراب وفقدان المعنى والمصداقية مع انعدام العدالة والتخلص من كل تخطيط ليقع المجتمع فريسة ضروب الفوضى وارتفاع مخيف لنسبة البطالة وسط غنى هو الأخر مخيف وفاحش، وتتعمد القوى السياسية لتسريع الانتقال إلى الرأسمالية المشوهة والوحشية لتحقيق مكاسب خاصة عبر الوكالات والسماسرة والفساد بكل أنواعه، ونفس هذه القوى تندفع إلى تسويات سياسية غير عادلة يسودها منطق الانهزامية الوطنية في ظروف يبدوا فيها محيط العراق الخارجي أكثر شراسة وعنف في التدخل في شئونه وارتهانه وأضعاف وحدته الداخلية.
أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وما أنتجه من تعصب أعمى،ومنذ ولادته بعد 2003 لحد اليوم كان عائقا ومعطلا للعملية السياسية،حيث حلت في الممارسة العملية الانتماءات الضيقة محل " علم السياسة " لإدارة شؤون البلاد،مما جعل من أحزاب الطوائف والأعراق أمكنة للحشود البشرية وليست أمكنة لانتقاء وتدريب النخب السياسية لقيادة البلاد،وكأنها تعمل على قاعدة أن الحزب يساوي كل أبناء الطائفة أو العرق بما فيها من خيرين وأشرار، وتحولت إلى أمكنة للاحتماء بدلا من الاحتماء بالدولة والقضاء كمقومات للدولة العصرية،مما فوت الفرصة على الانتقاء والفرز على أساس الكفاءة السياسية والنزاهة، وليست لاعتبارات لا صلة لها ببناء دولة المواطنة، أنه سلوك يؤسس لمختلف الاختراقات السياسية والأمنية وشتى ألوان الاندساس.
كما أن نظام المحاصصة يعرقل جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي، وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد، بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك، أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة ،بل تؤسس إلى " إفساد للتنمية "،وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف، والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع، أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل ،وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف دينه ومذهبه وطائفته وعرقه.
لقد أخلت سياسة المحاصصة بالسلم الاجتماعي وأضعفت الشعور بالوحدة الوطنية والتكافل الاجتماعي من خلال خلق التكتلات والشللية السياسية والاجتماعية على أسس طائفية وعنصرية مما يعزز بمرور الوقت حالات الاحتقان والفتنة الاجتماعية،فيتحول الصراع السياسي وغير السياسي إلى صراعات طائفية وعرقية لا حصر لها، أنها عملية استنفار للاشعور الجمعي لأفراد الطوائف والأعراق، وحتى لأتفه الأسباب، وهناك فرق جوهري بين حقك المشروع في الانتماء إلى دين أو طائفة أو عرق أو قومية ما وبين أن تبني دولة تضم مختلف الأديان والأعراق.
أن إضفاء الصبغة الطائفية والعرقية على الصراع السياسي واللجوء إلى الحلول ذات الطبيعة التوافقية ـ الطائفية والعرقية تسهم في تكريس منظومة قيمية ذات طبيعة تعصبية " شاء الفرد أم أبى" لتشكل بدورها اتجاها نفسيا سلبيا مشحون بشحنة انفعالية ضد الأخر الديني أو الطائفي أو العرقي دون سند علمي أو منطقي أو بمعرفة كافية، ليتحول التعصب إلى مشكلة حقيقية في التفاعل الاجتماعي الإنساني المنفتح، وحاجزا يمنع كل فكر تقدمي جديد، ويفتت مكونات المجتمع الواحد ويحولها إلى أشلاء منغلقة ذاتيا بعيدة كل البعد عن التطورات المتلاحقة التي تحصل في العالم الخارجي في كل المجالات، أنها حالات من الصمم والبكم والعمى الهستيري والتي لا تدرك الأشياء والظواهر إلا من خلال اتجاهات التعصب الأعمى، أنها فرصا مواتية لتشديد قبضة الكراهية والعدوان الاجتماعي، ونحن نعلم من الناحية النفسية أن التعصب والتخندق الطائفي والعرقي هي سلوكيات مكتسبة ومتعلمة في أعمها الأغلب ولا توجد أدلة قاطعة ذات طبيعة غرائزية أو فسيولوجية لوجودها،فهي حالات من التمركز حول الذات وعدم تقبل الحوار مع الأخر المغاير.
استكمالا لذات النهج المريض وتأسيسا عليه يمر العراق اليوم بأزمات مركبة، سياسية، واقتصادية، وصحية وأمنية قد تؤدي الى ما لا يحمد عقباه من انهيارات كبرى، حيث عدم الاستقرار السياسي والصراعات السياسية تفتك بالعملية السياسية وتقود البلاد الى المجهول، وبالمقابل يشتد قمع المتظاهرين المطالبين بتحسين اوضاعهمم الحياتية وتغير العملية السياسية، حيث قوبلت بالقتل العمد والاغتيالات والاختطاف والتغييب حيث تجاوزت اعداد الضحايا اكثر من 700 شهيد واكثر من 30 ألف جريح ومئات الاعاقات المنتهية، دون ان تجري محاسبة القتلة وتقديهم للعدالة.
كما ان الحديث عن انتخابات مبكرة استجابة لمطالب المتظاهرين باتت للأستهلاك الاعلامي ولأمتصاص نقمة المجتمع الغاضب على الطبقة السياسية، وقد تم ترحليها ايضا الى اكتوبر بدلا من حزيران ولازال الصراع على اجرائها والكيفية التي تتم بها هاجس قوى المحاصصة كي تؤمن فوزها القادم، وهناك صعوبات معروفة للجميع بأستحالة قيام انتحابات عادلة ونزيهة، من انتشار السلاح المنفلت وغير المنفلت الذي يستخدم للترهيب، وكذلك المال السياسي، واشكاليات انجاز سريع للبطاقات الانتخابية البايومترية للحد من التزوير، وعدم اكتمال نصاب المحكمة الاتحادية، وعدم تعديل قانون انتخابات مجلس النواب واشكاليات اخرى متعلقة بانتخابات مجالس المحافظات التي يريد مجلس النواب اجرائها متزامنة مع الأنتخابات البرلمانية.
ثم تدهور الاوضاع الأمنية على مستوى عودة العمليات الارهابية والاختراقات للأجهزة الأمنية في مختلف مناطق العراق، وكانت العملية الارهابية التي حصلت في ساحة الطيران بمثابة جرس انذار للجميع، الى جانب الاغتيالات الفردية المستمرة للناشطين المدنيين والمحللين السياسين والجرائم العادية المنتشرة في العراق. وكان تدهور الوضع الصحي بسبب جائحة كورونا وعدم القدرة احتواء نسبي للوباء عكس بشكل جلي المكانة المتدهورة لقطاع الصحة والذي صرفت عليه المليارات من الدولارات في السنوات السابقة دون جدوى ومخرجات تذكر وقد ألتهم الفساد الكثير من هذه الاموال اسوة بالقطاعات الاخرى.
اما في نطاق العملية الاقتصادية والاجتماعية فأن حقبة مابعد 2003 شهدت فسادا واهدارا وسرقة للمال العام لم يحصل في تاريخ الدولة العراقية، فقد تجاوز اهدار المال العام 1400 مليار دولار في سرقات مباشرة ام تلكأ مشاريع او مشاريع وهمية، وقد رافق ذلك تدهور لقطاع الدولة في مختلف المجالات الانتاجية والخدمية، وتعثر وخراب في القطاع الخاص ونسف للبنية التحتية في كل المجالات، وبات الاقتصاد العراقي ريعيا بأمتياز حيث بيع النفط من اجل الرواتب والأكل والشرب والاستيراد من الخارج ابسط المستلزمات التي كان يصنعها العراق سابقا، والاعتماد على النفط كمورد اساسي ووحيد تصل بنسبة 97%، ومع تداعيات اسعار النفط تم اللجوء الى الاقتراض الداخلي والخارجي بما يكبل الدولة ومستقبل البلاد بمزيدا من الارتهانات. ووفقا للتقارير الدولية فأن اعداد السكان التي تحت خط الفقر وصلت الى 12 مليون او تجاوزته بسبب انهيار اسعار النفط ووباء كورنا الى جانب انعدام السياسات البديلة لأحتواء الازمات، ومن الممكن ان تتضاعف معدلات الفقر الى 40% من عدد السكان.
وقد لجأت الحكومة العراقية مؤخرا رفع سعر صرف الدولار أمام الدينار العراقي من 1190 دينار للدولار الواحد إلى 1450 دينار، ما تسبب بصدمة اقتصادية كبيرة في البلاد التي تعاني أساسًا من أزمة مالية كبيرة منذ أشهر نتيجة تبعات فيروس كورونا وما تسبب به من حالة إغلاق عالمية وتأثير ذلك في أسعار النفط التي انهارت إلى مستويات قياسية، الى جانب عدم المقدرة لوضع حد للفساد المالي، وقد رافق ذلك توجه الحكومة الحالية عبر ما يسمى " بالورقة البيضاء للأصلاح " الى جانب موازنة 2021 التي يرى فيها العديد من الخبراء الاقتصاديين والسياسيين " أنها موازنة بائسة معتمدة على القروض الداخلية والدولية ، وإنها أعدت على عجل ، بأرقام غير دقيقة ، ولم تعرض على وزارة التخطيط ، وأشارات بزيادة الأنكماش الأقتصادي ، وتخلو من برامج تحفيزية حقيقية جعلت الشعب العراقي يستذكر العودة إلى زمن الحصار الأقتصادي ، وان هذه الموازنة البائسة سوف تزيد الفقراء فقراً واللصوصية ثراءاً وفحشاً ، وأن الوطن المنكوب ذاهب إلى الهاوية ، وهذه بعض الملاحظات:
- الأرتفاع المفاجيء لسعر الدولارفي مسودة الموازنة ، مما أدى إلى خفض القوّة الشرائية للمواطن والتسبب في كساد السوق
- أستقطاع من رواتب الموظفين ، وفر ض رسوم على البنزين.
وفي مشروع موازنة 20-21 تضمنت الأقتراض من أكثر من 50 جهة لتأمين الكهرباء فقط والكارثة بضمانة سيادية. ـ
وفي الموازنة هناك دوائر ووزارات لم تقدم بعد حساباتها الختامية منذ سنوات ربما منذ سنة 2012. ـ
- أحتساب أيرادات النفط الخام على (التخمين) وذكر رقم 42 دولار للبرميل الواحد ، بالوقت الذي صعد اليوم إلى أكثر من 50 دولار.
- التوزيع الغير عادل للثروات بين المحافظات مثلا البصرة المغبونة التي تضخ الميزانية العراقية بأيرادات النفط بنسبة 90% ، وفي
محافظات الوسط والجنوب هناك عشرة ملايين مواطن تحت خط الفقر.
- مشروع موازنة 2021 تفرط بعقارات الدولة ، كما ورد في المادة 60 من قانون الموازنة: ” تجيز بيع الأصول المالية للدولة وشركاتها العامة ” (طريق الشعب).
لن نرى في كل هذا إلا ان يكون تراكم لصدمات سوف تجعل من المجتمع العراقي يقترب من حافة الهاوية والانفجار غير المحسوب العواقب، فأذا كانت احتجاجات اكتوبر سلمية بأمتياز، فمن يضمن السلمية في المرات القادمة على خلفية تعاظم الكبت الناتج من الحرمان في اشباع الحاجات الانسانية الاساسية وبالتالي فنحن امام برميل بارود اذا لم يحكم السيطرة عليه لحيلولة دون انفحاره فأنه قطعا سينفجر !!.
د.عامر صالح
المشكلة في أمريكا وليس في رئيسها
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. ابراهيم أبراش
حتى بدون تخطيط فإن الأزمات التي افتعلها الرئيس ترامب خلال ولايته وأثناء العملية الانتخابية أدت لتبييض صفحة الولايات المتحدة خارجياً وتجديد ديمقراطيتها داخليا وتحميل ترامب وزر كل أخطاء إدارته وكل الإدارات السابقة، وبذلك يكون ترامب قدم خدمة لبلاده ولخلفه جو بايدن الذي ستجد سياساته في فترته الأولى القبول دون كثير معارضة عندما يتم مقارنتها بسياسات سلفه ترامب وخوفاً من أن يؤدي فشله لعودة ترامب والحزب الجمهوري.
الارتياح داخل الولايات المتحدة الامريكية وخارجها لنجاح الديمقراطي جو بايدن لا تمنح حكم مطلق بالأفضلية أو شهادة حسن سلوك مسبقة للرئيس بايدن وحزبه الديمقراطي أو أن الولايات المتحدة في عهد بايدن انفصلت عن تاريخها السيء وخصوصا تجاه شعوب العالم الثالث وحركاتها التحررية والتقدمية، أو أنها لم تعد ما كانت عليه طوال عقود وخصوصاً في مجال السياسة الخارجية وبتحديد أكثر في علاقتها بالشرق الأوسط وبالقضية الفلسطينية.
ما جرى في الانتخابات الأخيرة أن الأمريكيين والدولة العميقة أنهوا حكم رئيس نهج بعض السياسات والمواقف الدراماتيكية والتي تتعارض مع ما سارت عليه الإدارات الأمريكية المتعاقبة وخلق حالة من الاحتقان الداخلي التي نتجت عن تصريحاته ومواقفه العنصرية، ومواقفه في السياسة الداخلية كانت السبب الرئيس في خسارته للانتخابات.
صحيح أن الرؤساء في الولايات المتحدة الأمريكية يضعون ويتركون بصماتهم على سياسة البلاد ولكن لا تتغير الاستراتيجيات جذريا مع كل رئيس جديد. فبالرغم من تعاقب عدة رؤساء من الحزبين الجمهوري والديمقراطي على الحكم ما بعد الحرب الباردة إلا أن الاستراتيجية الأمريكية تجاه العالم الخارجي لم تتغير كثيرا، لا تجاه روسيا الاتحادية أو الصين مع بعض التغيير تجاه اوروبا والأمم المتحدة، حيث كنا نلمس تغييرا في الخطاب واللغة وفي السياسة، بما هي دون الاستراتيجية، وليس تغييرا في الاستراتيجية نفسها.
وبالنسبة للملفات المتعلقة بالشرق الأوسط وأكثر تحديداً بالنسبة لإسرائيل. فالرئيس الجديد بايدن من الحزب الديمقراطي وهو حزب عريق حكم الولايات المتحدة لعقود طويلة بالتناوب عبر صناديق الانتخابات مع الحزب الجمهوري وخلال هذه العقود تواصل الموقف الأمريكي المعادي للحقوق الفلسطينية والمؤيد للكيان الصهيوني بغض النظر عن الحزب الحاكم، كما أن بايدن كان نائب الرئيس أوباما قبل مجيء ترامب وقد لمسنا وعشنا مرحلة أوباما التي كانت الأسوأ في التعامل مع القضايا العربية، ففي عهده رعى وموَّل، مباشرة أو من خلال الانظمة العربية التابعة لواشنطن وخصوصاً الخليجية، ما يسمى (الربيع العربي) الذي نشر الخراب والدمار في العالم العربي ومول جماعات الإسلام السياسي المتطرفة وشجع دول الجوار على التدخل في الشؤون العربية بل واحتلال بعض الأراضي العربية، كما كانت الإدارة الامريكية في عهد أوباما أكبر مساند لإسرائيل في سياساتها الاستيطانية والعدوانية، وإدارة أوباما كانت وراء فشل كل محاولات إدانة إسرائيل في المنظمات الدولية الخ.
استبشر كثيرون خيرا بذهاب ترامب وكأن المشكلة كانت في الرئيس ترامب وليس في الدولة الأمريكية. فحتى لو عادت السياسة الامريكية إلى ما كانت عليه قبل أربع سنوات فهل كانت سياسة عادلة ومنصفة ومسالمة؟ وهل بمجيء بايدن وحزبه الديمقراطي ستسقط عن أمريكا صفة الدولة الامبريالية والعدوانية وعدوة الشعوب العربية وقضاياها العادلة كما كان الخطاب السياسي العربي يصفها طوال عقود؟ وهل ستسقط عنها صفة وواقع الحليف الاستراتيجي لإسرائيل؟ وعندما يقول حسين الشيخ وزير الشؤون المدنية في السلطة الفلسطينية إن ما صدر عن الإدارة الامريكية الجديدة من تصريحات "خطوة إيجابية يمكن البناء عليها وعودة العلاقات مع أمريكا لطبيعتها"، فما هي العلاقة الطبيعية بين الفلسطينيين وامريكا؟ أليست علاقة عداء وتنَكُّر للحقوق الوطنية الفلسطينية؟.
وزير الخارجية بلينكن تحدث عن عودة أمريكا لسياساتها قبل مجيء ترامب وخصوصا في مجال دعم الديمقراطية وتجديد العلاقة مع الحلفاء التقليديين وضرورة أن تخرج امريكا من عزلتها وأن تنفتح على العالم حتى تتمكن من قيادته، كما أن الرئيس بايدن وقَّع قرارات منها العودة لاتفاقية باريس للمناخ ولمنظمة الصحة العالمة إلا أن العلاقات مع روسيا والصين استمرت متوترة كما كانت، كما لم تتغير السياسة تجاه إيران بالرغم من التصريحات المتفائلة خلال الحملة الانتخابية.
أما بالنسبة للشرق الاوسط وخصوصا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية فوزير الخارجية الجديد أنتوني بلينكن أحبط مبكرا مراهنات المتفائلين بالإدارة الجديدة حيث أكد على التزام أمريكا بأمن إسرائيل والبناء على ما انجزه ترامب فيما يتعلق بالقدس الموحدة كعاصمة للكيان الصهيوني، أيضاً بالنسبة للتطبيع العربي حيث أيد نهج التطبيع مع إمكانية إعادة النظر بما التزمت به إدارة ترامب تجاه الدول العربية المطبِعة، كصفقة الطائرات للإمارات والاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء .
نعلم، إن العالم يتغير ولم تعد نظرة العالم لأمريكا كما كانت أثناء الحرب الباردة كما نعترف بأن الرئيس ترامب كان الأسوأ بين كل الرؤساء الامريكيين السابقين له في تعامله مع الفلسطينيين، وندرك أن لا دولة استطاعت ملء فراغ وقف الرعاية الامريكية لعملية التسوية السياسية للقضية الفلسطينية، ولكن هذا لا يعني المبالغة في المراهنة على الرئيس بايدن وقد نفاجأ بأنه لا يختلف كثيراً عن سابقه ترامب ما دام تبنى كل سياسات ترامب بالنسبة للقدس والاستيطان .
أما المراهنة على حديث أركان إدارة بايدن بأنه يتمسك بحل الدولتين فهذا حديث سيبقى مبهم وغامض وحمال أوجه، وقد كان الرئيس أوباما يعترف بحل الدولتين ولكن كورقة لإدارة الصراع وكسب الوقت لصالح إسرائيل حتى تواصل مشاريعها الاستيطانية وليس لحل الصراع ولم يُقدِم على أية خطوة تجعل من حل الدولتين أمرا قابلاً للتطبيق، ولن يكون لحل الدولتين أي مصداقية ما لم تُوقِف إسرائيل الاستيطان وتعترف واشنطن بالدولة الفلسطينية، ثم بعد ذلك يمكن التفاوض على التفاصيل وآليات قيام الدولة.
إبراهيم أبراش
روني أولوج مستكشف المغرب العميق
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عبد الرزاق القاروني
المستعرب والمتمزغ روني أولوج، مستكشف فرنسي الجنسية من جذور يونانية، ومن طينة الأدباء والفنانين الكبار. استكشف المغرب العميق بجباله ووديانه، لقب بأب البربر، وكان يحلو له أن يسمي نفسه الشلح العجوز أو المتجول في الجبال. رغم رحيله عن عالمنا، منذ ثمانينيات القرن الماضي، لا زالت مؤلفاته ذات أهمية وراهنية قصوى لمعرفة جوانب خفية من التراث والثقافة الأمازيغية.
أولوج الإنسان المتعدد الأبعاد
رأى أولوج النور يوم 02 يونيو 1900 بلونس لوسونيي بمنطقة الجورا الفرنسية. كاتب وشاعر ومترجم، وفي استراحة المحارب، مارس هواية الرسم والتصوير الفوتوغرافي، تخرج من المدرسة العليا للمعلمين، ودرس بمعهد اللغات والحضارات الشرقية بباريس العربية والروسية، إضافة إلى الأمازيغية. وكان له إلمام، أيضا، بالألمانية والإنجليزية، علاوة على الإيطالية. زار عدة مناطق باليونان قبل أن يستقر في ألمانيا للعمل صحفيا.
وخلال سنة 1920، شد الرحال إلى مراكش، حيث فتح مدرسة أبناء الأعيان، وفي سنة 1926، أسس بدمنات مدرسة الأهالي، التي تسمى الآن المدرسة المركزية، والتي تعتبر النواة الأولى لمختلف المؤسسات التعليمية بهذه المنطقة.
وبعد حصول أولوج على التقاعد من مهنة التدريس، استقر، مرة ثانية، بمراكش، وفي سن السبعين من عمره، أصيب بالعمى. وبعد حياة متميزة ومسار أدبي وفني حافل، توفي يوم 07 أبريل 1985 بمراكش، حيث دفن بالمقبرة الأوروبية لهذه المدينة.
ومن أبناء أولوج، يعتبر ريمون من الذين ورثوا عنه رهافة الحس، والسير على نفس الخطى، خصوصا في مجال الرسم والاهتمام بالثقافة الأمازيغية، إذ دأب هذا الفنان، على رسم مناظر طبيعية ومشاهد يومية مألوفة لأبيه بالأطلس الكبير، مثل: وديان آيت بوكماز وآيت بوولي ومشاهد من حياة القرويين البسطاء والشعراء المتجولين.
أغاني تساوت من المحلية إلى العالمية
يعتبر ديوان "أغاني تساوت" الذي ترجمه أولوج من الأمازيغية إلى الفرنسية من أشهر إصداراته الأدبية. وهذا المتن الشعري يضم حوالي 120 قصيدة للشاعرة الشفاهية مريريدة نايت عتيق أو "تنظامت" من بلدة مكداز، كانت تسكن حي تقات بأزيلال، وتنشد الشعر بسوق هذه المدينة، تعرف عليها أولوج ذات لقاء بهذا السوق، فأغرم بها ومهد لشعرها الطريق نحو العالمية، عبر ترجمته من الأمازيغية إلى الفرنسية، وإصداره ضمن منشورات تيغرمت بمراكش سنة 1963، ليتم بعد ذلك ترجمته تباعا إلى اللغتين العربية والإنجليزية، من طرف الروائي والمترجم المغربي عبد الكريم جويطي، والباحث والمترجم الفرنسي ميكائيل بيرون، إضافة إلى ترجمة منتخبات منه، بواسطة الباحث المغربي في التراث والمخطوط مصطفى الطوبي.
إن مريريدة شاعرة مجددة، ولتفادي التكرار والرتابة، كانت لا تلقي القصيدة دون أن تغير فيها، فكل إنشاد شعري، بالنسبة لها، هو نسيج وحده، إذ تتصرف فيه حسب مزاجها وأحوالها الآنية، مستلهمة أشعارها من المعيش اليومي والذاكرة الجمعية الأمازيغية، مع تضمينها شحنة انفعالية مليئة بالأحاسيس الجياشة.
وعن علاقته بهذه الشاعرة، يقول أولوج: "وجدتني متوحدا روحيا مع هذه الفتاة المتوحشة التي اكتشفت في دواخلها روحا مفعمة بالحماسة والكرم، وهو شيء استثنائي في قلب الأطلس الكبير، مما عمق اندهاشي".
وعقب الحرب العالمية الثانية، وتحديدا سنة 1946، توارت مريريدة عن الأنظار، بسبب تنكر أسرتها وأقاربها لها جراء نمط عيشها المتحرر الذي يخدش الأعراف والتقاليد الأمازيغية السائدة، في ذلك الوقت. وبعد سنوات من البحث والتقصي، علم أولوج، عبر إحدى صديقاتها، أن هذه الشاعرة قد هجرت بدون رجعة سوق أزيلال وبضاعة قرض الشعر لتعيش حياة الاستقرار والزوجية، رفقة أحد الجنود المغاربة، دون أن يتمكن أولوج من ملاقاتها، مرة ثانية، وسبر أغوار اختفائها الفجائي والغامض.
لقب أولوج هذه الشاعرة بسافو البربرية، ونظر إليها آخرون على أنها شهرزاد الأمازيغية. ومهما يكن الأمر، فإنه، بفضل هذا المترجم المتمرس، اكتسبت هذه الشاعرة صيتا عالميا، وخرجت من زاوية الظل إلى عالم الأضواء، وأصبحت حياتها الاستثنائية ومسارها الشعري المتميز مصدر إلهام لعدة مبدعين عالميين، مثل المخرج والكوريغرافي المغربي لحسن زينون في فيلمه "موشومة"، والمخرج المغربي الفرنسي كمال هشكار في فيلمه الوثائقي "مريريدة نايت عتيق" والموسيقار المغربي والعالمي أحمد الصياد في إبداعه الأوبرالي الموسيقي "مريريدة"، إضافة إلى الروائي الفرنسي بيير دابيرنات في روايته "مريدة وطوق الوجود".
أولوج مستكشف المغرب العميق
يعد أولوج رجل ميدان، أحب الأمازيغ واهتم بثقافتهم وقضاياهم. كما يعتبر أول أجنبي يستكشف مجاهل مناطقهم القصية والعصية على الولوج، مشيا على الأقدام أو ممتطيا صهوة الدواب. وفي هذا الصدد، يقول: "أحب الجبل، أحب سكان الجبال الأشداء الذين قضيت بينهم عدة سنين، وإذ كان لا بد من إعادة رحلة الحياة، فإني سأختار المغرب لذلك".
لقد تأثر أولوج، في المجال الإبداعي، بالأدب الواقعي والطبيعي للأدباء الفرنسيين بلزاك وفلوبير وزولا، علاوة على موباسان، واستعان في إنجاز أبحاثه بأدوات الأنتروبولوجيا الوضعية التي من رموزها، وقتئذ، كونت ودوركهايم وموس، إضافة إلى ليفي بروهل.
وعن زياراته وجولاته الاستكشافية لجبال الأطلس الكبير، ترك لنا هذا الباحث كتبا لا محيد عنها للدارسين والمهتمين بالقضايا الإثنوغرافية والسوسيولوجية الأمازيغية، من أبرزها: أبناء الظل، رعويات بربرية، القمم والوديان العليا للأطلس الكبير، أولئك القاطنون بالأدوية العليا، قصص الحياة المغربية وأغاني تساوت. وإضافة إلى هذه المؤلفات، خلف ألوج أشعارا متميزة، نشرها خلال الفترة الممتدة ما بين 1929 و1938 بمجلة "الأرض المغربية"، التي أصبحت تسمى فيما بعد مجلة "الحياة المغربية المصورة".
كان أولوج يؤمن بتكافؤ الفرص بين الشعوب من أجل التقدم، رافضا نظرية الأجناس لكوبينو، ومشيرا أن جميع الشعوب في مختلف بقاع العالم لهم نفس القدرات ويمكن أن يقوموا بنفس الأخطاء. وكانت مقاربته في تعامله مع الأمازيغ هي الحيطة والحذر، مما أهله للاندماج والقبول في عالمهم الصعب.
موقف أولوج المتحفظ من الحماية الفرنسية بالمغرب
يعتبر أولوج من المناهضين للظهير البربري بالمغرب سنة 1930، ويرجع ذلك لمعرفته العميقة بالبلاد، وبطبيعة الإنسان الأمازيغي على الخصوص. وهذا ما جعل سلطات الحماية الفرنسية تمنع إصدار كتابه الموسوم بـ "أبناء الظل"، في ذلك الوقت، الذي لم يعرف طريقه إلى النشر إلا خلال سنة 1932، وذلك بسبب مقدمته الثورية والمناوئة لسياسة الحماية، التي كانت تعتقد في ضعف تدين الأمازيغ، وتراهن على إمكانية إبعادهم عن الدين الإسلامي وجعلهم أوروبيين، من خلال تلقينهم تربية خاصة تكون في خدمة مصالح الحماية. وفي هذا السياق، يؤكد أولوج على أنه من الخطأ الفادح التفكير في خلق صدام بين العربي والبربري بإعطاء هذا الأخير تربية أوروبية تبعده عن القرآن وتجعله قوة مناهضة للإسلام.
لقد كان أولوج يؤمن بحماية منسجمة مع الذات والآخر، في مصلحة الحماة والمحميين، مما جعله يكون متحفظا جدا بخصوص إيجابيات الحماية، وجعله يخلص إلى صعوبة الحوار بين الحضارات وإلى سيادة عدم التفاهم الحتمي بين دعاة الحماية والمغاربة، وكذا إلى التنبؤ، ابتداء من سنة 1928، بقيام ثورة شعبية ضد أبناء جلدته في المغرب.
أكثر من ذلك، لقد كان يشعر بتعاطف كبير نحو حركات التمرد الأمازيغي ضد الوجود الفرنسي بالمغرب. كما كان يتساءل ماذا سيجني الأمازيغ بالدخول في رقصة الشعوب وركب الحضارة الكبرى. وفي هذا الإطار، يقول على لسان أحد شيوخ الأمازيغ، موجها الخطاب للمحتلين الفرنسيين: "تعتقدون بأنكم جلبتم لنا النور، ولكن في الواقع، تريدون حملنا معكم إلى عتمتكم".
إن أولوج باحث متنور واستشرافي، خلف إرثا ثقافيا غنيا ومتنوعا يحتاج للتمحيص والدراسة، وكذا لإعادة طبعه وتوزيعه، على الصعيد العالمي، حتى يكون في متناول الدارسين والمهتمين بالأنتروبولوجيا والإثنوغرافيا، وخصوصا بتاريخ الأمازيغ السياسي والثقافي، خلال النصف الأول من القرن المنصرم.
عبد الرزاق القاروني، صحفي وباحث مغربي
الشيوعيون اليهود وعصبة مكافحة الصهيونية في العراق
- التفاصيل
- كتب بواسطة: نبيل عبد الأمير الربيعي
صدر حديثا عن دار الفرات للثقافة والاعلام - العراق - بابل 29-1-2021 بالاشتراك مع دار سما للطبع والنشر والتوزيع كتابي الموسوم (الشيوعيون اليهود وعصبة مكافحة الصهيونية في العراق 1945-1946).
الكتاب يحتوي على (440) صفحة من الحجم الوزيري، كما يتضمن سبعة فصول ومقدمة وخاتمة. الفصل الأول يسلط الضوء على البذور الأولى للنشاط الصهيوني في العراق، والفصل الثاني يتضمن دور آهرون ساسون معلم في نشر الفكر الصهيوني في العراق عشرينات القرن الماضي، أما الفصل الثالث يوضح منظمة عصبة مكافحة الصهيونية ودورها في فضح التنيمات الصهيونية في العراق من خلال صحيفتها (العصبة)، والفصل الرابع سلط الضوء حول الأسباب الرئيسية للهجرة والتهجير القسري لأبناء الديانة اليهودية من العراق إلى فلسطين والدول الأوروبية حقبة الأربعينات من القرن الماضي، ودور الصحف الصفراء في الحملة على منظمة العصبة.
أما الفصل الخامس يوضح موقف الحزب الشيوعي العراقي من قرار التقسيم، وموقفه تجاه القضية الفلسطينية، وموقف الاتحاد السوفيتي بخصوص التقسيم، وموقف الحزب الشيوعي العراقي من إسرائيل كدولة. أما الفصل السادس فقد أوضحنا فيه حول صفقة الهجرة الجماعية ليهود العراق إلى إسرائيل ودور الحركة الصهيونية في تهجير يهود العراق عام 1950م/1951م. أما الفصل السابع فقد احتوى قائمة النسيان لشهداء يهود العراق من الحركة اليسارية العراقية (شاؤول طويق، يهودا إبراهيم صديق، ساسون شلومو دلال)، وأخيراً خاتمة الكتاب والملاحق التي تتضمن وثائق عصبة مكافحة الصهيونية وقائمة باسماء يهود العراق من أعضاء منظمة عصبة مكافحة الصهيونية وحزب التحرر الوطني التي يشرف عليهما الحزب الشيوعي العراقي. فضلاً عن الصور التي زود بها الكتاب.
يهود العراق كانوا يقطنون بلاد الرافدين قبل بدء الدعوة الإسلامية ومن ثم استمر تواجدهم في البلاد فترة الخلفاء الراشدين والدولتين الأموية والعباسية، وفي ظل الهيمنة الفارسية على العراق والدولة العثمانية حتى عهد الدولة الملكية في العراق، ففي ظل هذه الدول المتعاقبة للسيطرة على خيرات العراق تعرض يهود العراق إلى شتى الاضطهاد الديني والتمييز السياسي والاجتماعي والاستبداد والقسوة، وفي بعض الأحيان تمتعوا بالحرية الدينية والوضع الاجتماعي الجيد في ظل الدولة العثمانية، لكن الدولة الإسلامية كانت تعتبرهم من أهل الذمة ليدفعوا الجزية السنوية والخراج، ولا ننسى إن كل النظم الإسلامية بشتى أنواعها والتي حكمت العراق قد مارست شتى أنواع التمييز الديني والاجتماعي بحق اليهود والمسيحيين والصابئة المندائيين والأيزيديين لأنهم كانوا يشكلون أقليات دينية مضطهدة.
لقد مرَّ يهود العراق منذ تأسيس الدولة العراقية في العام 1921م حتى منتصف السبعينيات من القرن العشرين بمراحل متباينة، وتمتع يهود العراق في هذه المرحلة بحياة هادئة وهانئة ومشاركة نشطة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي النشاط السياسي في ظل دولة ملكية ذات دستور ديمقراطي وملك كان حريصاً على التعامل مع أبناء الشعب بالمساواة، بالرغم من وجود العراق تحت الانتداب البريطاني حتى العام 1932م.
لقد شكل يهود العراق جزءاً أصيلاً من المجتمع العراقي وفاعلاً حيوياً فيه، ولم ينعزل عن بقية أتباع الديانات والمذاهب في "گيتوات" خاصة به، بل كان سكنهم في مناطق عديدة من بغداد ومدن العراق ومعه عاش المسيحيون والمسلمون، من سنة وشيعة. وكانت تركيبة المجتمع اليهودي لا تختلف عن تركيبة بقية المجتمع من الناحية الاجتماعية أو الطبقية، فكان هناك بعض كبار الملاكين والتجار الكبار والبرجوازية المتوسطة والبرجوازية الصغيرة، ولاسيما المثقفون والحرفيون، ثم العمال، وكذلك الفلاحون المعدمون الذين كانوا يعملون في أراضي الأغوات الكرد، وخاصة بإقليم كردستان العراق، والباعة الجوالة والفقراء الذين كانوا يعانون من شظف العيش، كالغالبية العظمى من شعب العراق حينذاك. ولا بد من الإشارة إلى أن ببغداد مثلاً تعانقت جوامع أو مساجد المسلمين مع كنائس المسيحيين وكُنس اليهود، وفي مدن أخرى وجد المندي بجوار المسجد. وحصلت زواجات بين أتباع الديانات العديدة بالعراق أيضاً. كان هناك شكل من اشكال الاعتراف المتبادل بوجود هذه الديانات وحقها في ممارسة طقوسها الدينية وحياتها الخاصة إلى جانب حياتها العامة فيما بين جميع أتباع الديانات والمذاهب. ولا يشك الإنسان القارئ للتاريخ عن احتمال وجود نظرة تمييزية مستترة غير مكشوفة تماماً لدى بعض الجماعات المتدينة بشكل خاص.
والحالة الوحيدة التي تظاهر فيها العراقيون في هذه الفترة، ولم تكن ضد يهود العراق، بل شارك يهود بغداد فيها، كانت حين قام الوزير البريطاني والداعية الصهيوني المعروف السير ألفريد مورتس موند Alfred Moritz Mond "1868م-1930م" في العام 1928م بزيارة للعراق بدعوة من الملك فيصل الأول.
بعد توقف ثورة الشعب الفلسطيني في الفترة 1936م- 1939م وعجزها عن تحقيق الأهداف المنشودة، بسبب دور بريطانيا وسياستها في تأييد هجرة يهود العالم إلى فلسطين، وصل إلى العراق الحاج محمد أمين الحسيني مفتي القدس وبدأ يعمل مع المجموعة القومية، وبضمنهم رشيد عالي الگيلاني ويونس السبعاوي، الذي قام بترجمة ونشر كتاب كفاحي لهتلر.
وفي ذات الفترة برز نشاط أوسع لعناصر قومية متطرفة "صهيونية" حاولت بكل السبل أن تستثمر فاجعة الفرهود ضد اليهود في الأول من حزيران 1941م، لتؤكد لليهود أن لا مستقبل لهم بالعراق وأن عليهم مغادرة العراق. ولكنها لم تجد تجاوباً واسعاً ولم تحصل هجرة واسعة بل مهاجرين قلّة عبر إيران. ومقابل هذا النشاط الصهيوني ونشاط القوى القومية العربية المتطرفة، دعا الحزب الشيوعي العراقي إلى تشكيل منظمة مناهضة للصهيونية أطلق عليها "عصبة مكافحة الصهيونية" التي أسسها الحزب الشيوعي العراقي وقادتها كوارد شيوعية مثل رئيس العصبة الأستاذ هارون يوسف زلخة، وسكرتيرها العام يعقوب مصري، ومديرها المسؤول القيادي الشيوعي محمد حسين أبو العيس، التي قامت بنشاطات كثيرة منها المحاضرات والندوات وإصدار الكراسات التي تندد بالصهيونية وأهدافها. وفي البداية أيدها نوري السعيد، ولكنه حاربها بعد أن تم الأتفاق على خطة عدوانية ضد الوجود اليهودي بالعراق.
لقد امتدت هذه الفترة من عام 1942م حتى العام 1947م وتميزت بالإيجابية والنشاط السياسي الحيوي ليهود العراق ضمن الأحزاب الوطنية العراقية، ولاسيما الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي، وفي الصحافة العراقية والنشاط الثقافي والأدبي العام، ولكنها اقترنت بظواهر سلبية ايضاً ومحاولات جادة لإلحاق الأذى باليهود وتنكيد عيشهم ونشاطهم من جانب جماعات قومية ورجعية صغيرة.
وقد نالت القضية الفلسطينية الجزء الكبير من أدبيات الحزب الشيوعي العراقي منذُ تأسيسه، وعدّها من أهم القضايا المحورية في نشاطه السياسي على الصعيدين العربي والدولي. ومرَّ الحزب الشيوعي العراقي هو الآخر بتغييرات تنظيمية مستمرة بسبب الملاحقة المستمرة من قبل أجهزة التحقيقات الجنائية، واعتقال قادته المؤسسين مما أوقع الحزب في أرباك وفوضى بفعل تعدد القيادات لتحديد موقفه من القضايا المهمة كالقضية الفلسطينية التي رافقت إعدام قادته "فهد، صارم، حازم، ماجد" وأصبح الحزب يقاد من خلال القادة غير المؤهلين للقيادة والذين ادخلوا الحزب في فوضى داخلية نتيجة لمواقفهم اليسارية التي اتسمت بالراديكالية "المتطرفة" في أحيان كثيرة.
من القضايا التي أثيرت حول الحزب الشيوعي العراقي هو موقفه المؤيد والمساند لقرار تقسيم فلسطين بل وقرار قيام دولة إسرائيل الذي جاء متناغماً مع القرار السوفيتي، والذي أوقع الحزب في حيرة من أمره بين الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني وحقهُ في أرضهُ وبين موقفه المؤيد لقرار السوفيت، والذين يعدون قراراتهم بأنها الانضج فكرياً، بل وتبنّوا كراس "ضوء على القضية الفلسطينية" الذي رفضه سكرتير الحزب فهد في سجنه، لكن قيادة الحزب المكلفة بإدارة الحزب من قبل فهد تبنت هذا الكراس والذي احدث انقسام في صفوف الشيوعيين أنفسهم.
نبيل عبد الأمير الربيعي
حَلاوَة عسَل نَحلة الحُبّ الشَّقِية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. سعاد درير
المواقِف المُحرِجة التي يَسقط فيها الإنسان ما أكثر أن يتخبط فيها الفنان. إنه الفنان الذي يستعصي عليه كل شيء ما لم يلبس جلباب أبيه.
لِنَقُلْ إنها محاولة تحليل وقراءة في أحدث زيجات الوسط الفني العربي، زيجة استهلها الصانعان لِفُرْجَتها بالورد والشموع، لتسدل الستائر بعد ذلك على الشريط الوثائقي العاطفي بالشوك والنيران مع اندلاع حرب التراشق بالرسائل الرمزية التي يُمَرِّرها كل من البطلين بطريقته الخاصة وبالشكل الذي يَفرضه وضعُه في معادلة الحُبّ الصعبة.
هو الحُبّ، هو الحُبّ مرة أخرى يُطيح برأس القلب ويَصلب الروحَ المعذَّبة على حائط اللااعتراف بعد أن يَحلب كل من البطلين المهزومين ما شاء من أشواق تتمدد على سرير الرغبة في نيل ما اشتهى من أمنيات يَطلبها لِبَرنامج الحياة.
أكان ذاك هو الحُبّ الزاحف زحفَ أنيميا تَفصِل الجسد عن لَونِه، أم كانت تلك هي الرغبة الراكضة ركضَ نزوة حالفة ألاَّ تُلقي قميصَ شَبَقِها إلا عند شاطئ النسيان ذاك الذي لا يعترف بالفضل لموجة شاردة؟!
في زمن الوصل والعناق، تَلهث الروح باحثة لها عن مَجامِر العشق التي تلتهب فيها عيون الحنين إلى مَطر يُبَلِّل شفاهَ الإحساس بِأَحَرّ الأنفاس التي يَجيش تَوقُها إلى أعزّ الناس.. بينما في زمن التأهب للفراق تنتفض طيور القلب هاربة تاركة خلفها قميصَ الحُب ممزَّقا لا يُداويه خيطُ حنين يُنصف عيون القلب ولا إبرة ندَمٍ تُعَبِّد الطريق إلى الأمس الساقط من حقيبة الواجب على رصيف الرغبة.
لسان الحال بدءا من الآن نكران وخذلان، وكل من دفاع الفريقين المتخاصمين يشتت الأذهان بما يعمد إليه من تمويه إلى درجة الإتقان..
حلاوة عسل نحلة الحب الشقية تتبدد وتزول، أما الجاني والضحية فلا نَعرف مَن هما أو مَن منهما المسؤول!
مباراة ساخنة تشق كرة القلب شقين يقف قُبالَتهما صُنَّاع فُرجة ملعب الحُبّ على قَدم واحدة في انتظار أن يقول القادم من الأيام كلمته الأخيرة.
يَحِنّ "حَسن" إلى احتضان أبنائه مِن أيام زمن "شوقية"، بينما لا تَجِد الصغيرة "بَهية" سوى القفز على حائط النسيان لالتقاط شَيء مِن الهواء الذي يُعيد التوازن إلى الروح قبل الارتماء على وسادة الإقبال على الحياة الزاهدة في مسلسلات الأحلام والأمنيات.
رَحِمَ الله زمانا كان فيه قلب العاشق يَبكي نِصفَه الآخَر الهائم على وجهه إلى أن يَلفظ الأنفاس غريبَ الأهل والوطن!
ذاك هو الحب الكائن خارج تكهنات نظرية المؤامرات التي يُطَبِّل لها االعابثون بجسده الهزيل في مرمى الهجمات القليل عليها أن تكون انتحارية.
أنصِفُوا صوتَ القلب بالله عليكم!
د. سعاد درير
أبو الأسود الدؤلي!!
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. صادق السامرائي
أبو الأسود الدؤلي، الفقيه، الأمير، الشاعر ومن الفرسان التابعين، واضع علم النحو، وكان قاضيا في البصرة في عهد عمر وعثمان وعلي ومن ثم أميرا عليها.
"ولد الدؤلي في الجاهلية قبل الهجرة النبوية بستة عشر عاما"، وتوفى سنة تسع وستين للهجرة عن عمر يناهز الخامسة والثمانين، وبعض المصادر تذكر بسب الطاعون.
وينسب إليه تنقيط أواخر الكلمات في القرآن، المبني على وضع الحركات في مواضعها لتسهيل النطق السليم.
" هو أول من أسس العربية ونهج سبلها، ووضع قياسها، وذلك حين إضطرب كلام العرب".
وعندما سألوه عن علم النحو أجاب: " لقفتُ حدوده من علي بن أبي طالب"، وكان الدؤلي كلما صنف بابا في النحو عرضه عليه، إلى أن وضع الضوابط العامة لعلم النحو.
وكان كريما حكيما فطنا محنكا حازما قنوعا متسامحا.
وعلاقته بالإمام علي كانت ذات عمق وتأثير كبير في إنطلاقته وإنبثاق طاقته المعرفية ، ولديه أشعاره المعبّرة عن تلك العلاقة.
وهذه أبيات من قصيدة يرثي بها علي بن أبي طالب:
(ما ضر قبر أنت ساكنه...أن لا يمر بأرضه القطر، فليعدلن سماح كفك قطره...وليورقن بقربك الصخر، وإذا رقدت فأنت منتبه...وإذا إنتبهت فوجهك البدر، وإذا غصبت تصدعت فرقا...منك الجبال وخافك الذعر
، يا ساكن القبر السلام على...من حال دون لقائه القبر)
ومن شعره في رثاء الحسين:
(يا ناعي الدين الذي ينعى التقى...قم فانعه والبيت ذا الأستار، أ بني عليَّ آل بيت محمدٍ...بالطف تقتلهم جفاة نزار)
وله أيضا:
(أ لستِ ترين بني هاشم...قد أفنتهم الفئة الظالمة، وأنتِ تريننهم بالهدى...وبالطف هام بني فاطمة،
سأجعل نفسي لهم جُنّة...فلا تكثري بي من اللائمة)
ومن أقوال الجاحظ فيه:
"كان حكيما، أديبا وداهيا أريبا"
"جمع سدة العقل وصواب الرأي وجودة اللسان وقول الشعر والظرف"
" كان من المتفدمين في العلم"
وقال عنه إبن الإعرابي:
"شيخ العلم وفيقه الرأي وصاحب علي وخليفة عبدالله بن عباس على البصرة"
"كان حليما وحازما وشاعرا متفنا للمعاني"
أبو الأسود الدؤلي نبراس ساطع من جهابذة الأمة الأفذاذ، التي عليها أن تفتخر بهم وتثقف الأجيال بهم، وتضع لهم نصبا ومراكز تنويرية تشد عزيمة الأجيال، وتطلق حماستهم الحضارية وثقتهم بقدراتهم على العطاء الأصيل.
فتحية لأنوار أمة العرب!!
د. صادق السامرائي
4\12\2020
لماذا تستهدف روسيا؟
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. كريم المظفر
قد يبدو للبعض ان عنوان المقال غريبا، ولكن وفي ظل هذه الظروف التي تمر بها روسيا، يتوجب علينا تسليط الضوء على بعض الحقائق الضرورية التي يجب ان يعلمها من المهتمين بالشأن الروسي، من الذين لم يعايشوا البلاد في تسعينيات القرن الماضي، لكنهم اليوم يحللون ويكتبون مواد لم يعايشوها، بل سمعوها من مؤسسات تحاول رسم صورة مختلفة عن روسيا، ويحاول البعض منهم إضفاء صفة " المفهومية" لنفسه في بواطن الحياة السياسية الروسية.
وهنا بات لزاما علينا وضع القارئ الكريم بالصورة الحقيقية لما شاهدناه وعشناه في روسيا، وكما هي ودون رتوش او إضافة او نقصان، ولا نريد هنا مجاملة احد على حساب الحق، لأني لست مواطنا روسيا ولم احصل حتى على اقامتها الدائمة بحكم القانون الروسي وشروطه المعقدة لذلك، وقد تكون شهادتي (مجروحة) كوننا نقيم على الأرض الروسية منذ هروبنا منذ العراق عام 1999، لكن روسيا وفرت لنا وعائلتي الأمان والاستقرار الذي فقدناه وغيرنا من المقيمين في بلداننا، وافضل طريقة لرد الجميل هو قول الحق، حتى وان كان هذا سيغيض البعض ممن اكل وشرب من خيرات هذه البلاد، وما ان حصل على جوازها الذي فتح له أبواب العالم، راح (ينعق) مرددا الأصوات الغربية النشاز ضدها.
وأول ما نتذكره عندما وطأة أقدامنا هذه البلاد عام 1995 (كمراسل صحفي)، هي تلك الذكريات الرهيبة والمؤلمة للغاية لحقبة التسعينيات من القرن الماضي، فروسيا كانت كالبلد المريض برئيس مريض (بوريس يلتسن)، فاقد للوعي، ومدمن، وبسبب هذا الإدمان على الكحول سجلت كاميرات التلفاز العديد من الفضائح له خلال مناسباته الرسمية، ويذكر رئيس جهاز الأمن الرئاسي السابق يلتسن الكسندر كرجاكوف في كتابه (من الشروق الى الغروب) واحدة من فضائح ادمان الرئيس " لقد اضطررنا الى الغاء الزيارة الى المانيا رغم هبوط الطائرة في برلين وحضور المسئولين لاستقباله، وافهامنا الجانب الألماني بتعرض الرئيس لوعكة صحية مفاجئة، لكن السبب الرئيس هو انه كان ثملا للغاية وتركناه ينام لأنه لا يقوى حتى على الوقوف من شدة حالة السكر) وهذا خير دليل على الوضع الروسي الذي كان يمثله يلتسن.
وحتى انتهاء الفترة الأولى لحكم أول رئيس لروسيا بوريس يلتسن كانت قد تلاشت آمال الجماهير بالديمقراطية المزعومة في روسيا، وتمخضت الاصلاحات الاقتصادية وعلى رأسها الخصخصة عن افقار شامل للسكان، وبدلا من الحكم الديمقراطي حلت سلطة أساطين المال، وقادة فساد تفننوا في سرقة ممتلكات الدولة بداعي (الخصخصة) وحركة الإصلاح التي قادها إيغور غيدار وأناتولي تشوبايس، وعراب الكريملين بريزوفسكي وعراب الاعلام زيلينسكي وغيرهم، بالإضافة الى الجوع والعوز لدى الناس، وموظفين لم يتلقوا رواتبهم لأكثر من سنتين، ومافيات تقاسم الناس رغيف خبزهم، وديون دولية اثقلت الميزانية الروسية، ذهبت جميعها الى جيوب الفاسدين، ومثل هذا الوضع يذكرني بما يجري في بلدي العراق اليوم.
ومع بداية فترة الرئيس فلاديمير بوتين عام 2000 دخلت روسيا بألفية جديدة ركز فيه الرئيس الجديد على الاختفاء التدريجي للمظاهر السابقة، وطارد الفاسدين والمافيات في عقر دورهم، فمنهم من اتخذ بريطانيا ملاذا " كفاسدي العراق الان"، ومنهم من طالتهم يد القانون الذي احكم الرئيس بوتين دوره بشكل قوي، عندها بدأت مظاهر الازدهار الاقتصادي تلعب دورها في حية المواطن بشكل كبير، ساعد في ذلك أيضا ارتفاع سعر النفط، ما دفع الرئيس بوتين في احداث قفزات اقتصادية كبيرة، وارتفعت معها التصنفيات الاقتصادية الدولية لروسيا، وأحس المواطن الروسي بنعمة هذه الازدهار، وبات يعرف مهنة الاصطياف كل عام في دولة جديدة غير التي قبلها، وتسابقت الدول السياحية بتقديم العروض تلو الأخرى لاستقطاب السائح الروسي، والذي اصبح حتى اليوم رقما صعبا في سوق السياحة العالمية لجذبه اليها، ناهيك عن الطفرة القوية في سوق العقارات والمشاريع العمرانية وافتتاح ارقى المراكز التجارية الضخمة بماركاتها الأجنبية المعروفة وتهافت شركات السيارات العالمية، تويوتا وفولكس فاكن وبي ام دبليو ورينو وغيرها من الماركات العالمية تتهافت لفتح مصانع لها في روسيا، بعد ان رافقت سيارات (لادا او موسكوفيج) المواطن طوال حياته، والقائمة تطول من الإنجازات الاقتصادية تحتاج لدواوين لكتابتها .
ونعتبر تنظيم روسيا لفعاليات بطولة كأس العالم لكرة القدم 2018، القشة التي قصمت ضهر البعير، وفضحت ازدواجية الغرب و"استقتاله" المميت لعرقلة هذا التنظيم، واعتبروها "الغلطة" التي لن تغتفر لهم (أي للغرب)، لأنه كشف ما زعم به الساسة والاعلام الغربي وتحذيراتهم من السفر الى روسيا ومخاطرها، والصورة التي رسمها الاعلام الغربي لمواطنيه عن روسيا مثل كونها بلد المافيات والعصابات والفقر الذي يعيشه المواطن فيها، فقد اثبتت روسيا العكس تماما وبشهادة كل المختصين والمحللين السياسيين والرياضيين، بالمستوى العالي للتنظيم، ونظافة البلاد، والامن والأمان في جميع المدن التي استضافت فعاليات البطولة وطيلة فترة ال 30 يوميا، لتكون احسن بطولة على الاطلاق في العالم، ومثالا يحتذى به للبطولات السابقة .
كما التفت الرئيس الروسي الى الوضع الصحي في البلاد فإعادة هيكلة المرافق الصحية وتزويدها بأحدث الأجهزة والكوادر الطبية بجميع فئاتها وآلياتها وأجهزتها، بالإضافة الى إعادة تنظيم القوات المسلحة وتزويدها بأحدث الأسلحة، وأزال الصدأ عن معدات قواته المسلحة، ورفع جاهزيتها وبناءها بشكل سليم لتكون سور البلاد المنيع وبكافة تشكيلاته المسلحة، وكذلك رفع الموثوقية في السلاح الروسي، وتشجيع الابتكارات العالمية لتطويرها، حتى بات اليوم أحد وجهات الصراع بين روسيا والغرب للاستحواذ على سوق السلاح.
اما على الساحة الدولية، فكان خطاب الرئيس بوتين، مدويا في ميونخ عام 2007، وكان البداية للخلاف مع الغرب، بعد ان أعادت روسيا تموضعها بروح المبادرة والإقدام، وبعد عهد مديد تآكل فيه نفوذها حتى في مجالها الحيوي المباشر، وخسرت مواقع متقدمة في جوارها الذي التحق بعضه بحلف شمال الأطلسي (الناتو)، كما فقدت امتيازات تمتعت بها في البحر المتوسط
وجاءت روسيا بمطالبة واضحة بأن ينكمش نفوذ "الغرب" لصالح قوى جديدة تتصدرها روسيا عملياً، ولا يبتعد هذا عن هواجس تتأجج في أوروبا تحديداً بشأن مصير "الغرب" ذاته، وليس النظام الدولي فقط، وحضرت روسيا مؤتمر ميونيخ 2016 كما يقول الكاتب حسم شاكر في مقالته،" حضرت روسياً مؤتمر ميونيخ الأمني هذه المرة مكللة بتاج الوقار، بعد سنوات ثلاث تلازمت خلالها مشاركتها في أعماله مع إثارة الجدل بسبب سياسة المبادرة والتوسع التي انتهجتها ".
موسكو اليوم هي ليست موسكو التسعينيات، فتبدو الآن شريكاً بديلاً محتملاً لبعض عواصم وسط أوروبا وشرقها، كما ظهر مؤخراً في التقارب الروسي مع الاوربيين وبلدان أمريكا الجنوبية، والعالم العربي وقضاياه، والتي أصبحت تحمل رسائل لاذعة إلى الشركاء الغربيين وامريكا، وباتت موسكو اليوم " محج" الباحثين عن حلول لقضاياها المصيرية، بعد قناعة منهم بان روسيا بعيدة عن " منطق الاستعمار " الذي يجسده الغرب بصورة وحشية في كل تحركاته.
ما قامت به روسية خلال السنوات الماضية من تحركات عسكرية ودبلوماسية، اثبت انها باتت رقما صعبا في قضايا دولية مهمة، سواء في الشرق الأوسط والخليج وحتى في مجال التعاون الاقتصادي والامن الأوربي، تحركات جعل الغرب يسرع من عجلى " مؤامراته " ضد روسيا عموما والرئيس بوتين خصوصا، لان الأخير بات يلعب في مناطق سجلت كمناطق نفوذ غربية واوربية، وكشفت " زيف وازدواجية " تعامل الغرب مع قضايا هذه المنطقة، وبالتالي خسر الغرب وأمريكا صورته التي رسمها طوال عقود من الزمن بأنه " الوسيط النزيه ".
وقد يجادل البعض في وجهة نظرنا المتواضعة، لأننا نمتدح الخطوات الروسية بشكل تام، لكن نحن لا ندعي ذلك، فلروسيا أيضا لها مصالحها في العالم، ولا تستثني نفسها منها، لكنها على عكس غيرها، فهي عادة ما تبني علاقاتها مع الحكومات الشرعية، على عكس الغرب الذي يبني مصالحه مع طرف على حساب الأطراف الأخرى، وفي ذات الوقت تمسك موسكو العصا من وسطها، وتحتفظ بخيوط العلاقة مع جميع الأطراف في أي (نزاع) فمثلا انها تحتفظ بعلاقات مع جميع الأطراف الفلسطينية وإسرائيل، ومع الحوثيين والحكومة الشرعية في اليمن، حتى في النزاع الخليجي الإيراني فموسكو تقف مع الجميع على مسافة واحدة، وفي الملف الليبي تحتفظ بعلاقات مع حكومة طرابلس وبنغازي، وهكذا هو تعاملها مع الملفات الأخرى، وتحاول موسكو تقريب وجهات النظر خدمة لمصالحها ومصالح الأطراف المتخاصمة .
وفي غمرة الإزاحات الميدانية والتحولات السياسية وخلط الأوراق على جبهات عدّة يكون لدى موسكو ما تعنيه من دعوتها لإعادة تشكيل النظام الدولي، ومن ذلك ضرورة فتح صفحة جديدة في مجالات متعددة، بما في ذلك الإقلاع عن مساعٍ غربية لمحاصرة روسيا والضغط عليها، علاوة على أنها رسالة من موسكو بأهمية الاعتراف بدورها الصاعد في عالم متعدد الأقطاب.
اذن كلمات لرئيس بوتين " لسنا بحاجة لعالم لا توجد به روسيا"، وعلى الرغم من طباعه الهادئة، فقد اثبت أنه شخص صارم وحاسم، وهو مستعد لاستخدام الأسلحة النووية ضد الولايات المتحدة الأمريكية حالة وقوع هجوم نووي على روسيا، وتعني ان روسيا لن تكرر مصير الاتحاد السوفيتي، وهي قادرة على استخدام جميع الوسائل المتاحة لمنع ذلك، دون استثناء.
وخلاصة القول فان روسيا كغيرها من دول العالم التي طالتها تأثيرات جائحة كورونا، وطالت جميع مرافق الحياة في البلاد، وشلت البلاد تقريبا لعدة شهور، وكغيره من شعوب العالم انعكس ذلك على الحياة اليومية للمواطنين، لكن ما يميز روسيا هي انها ركزت على مكافحة مظاهر الغلاء والتلاعب في قوت الشعب، ولم تسمح بحدوث قفزات كبيرة تثقل كاهل مواطنها، وتكليف الحكومة لمراقبة الأسعار خوفا من استغلالها من قبل بعض "المتصيدين" في هذه الظروف، وكذلك عملت الحكومة على تشريع قوانين وتسهيلات للتخفيف عن المتضررين، وشجعت علمائها لابتكار لإسراع في ابتكار اللقاحات اللازمة، وباتوا اول دولة تصنع لقاحات تكافح كورونا، وبدأت حملة شاملة لمواطنيها، رغم كل العقوبات الغربية التي تفرض عليها بين الفينة والفينة بحجج مختلف لوقف عجلة التطور الروسية في كافة المجالات .
لذلك، فإن اختيار الغرب للتوقيت لاستهداف روسيا هذه الفترة لم يكن موفقاً، وإثارة الاحتجاجات ضد حكومتها، فالشعب الروسي غير مستعد للاحتجاج، على الأقل في الوقت الراهن، ولن تكون هناك ثورة كما " يتوهم " البعض ممن اغرتهم ثقتهم بما يردده الاعلام الغربي وساسته، ولا يمكن أن يستثمر المعارض الروسي نافالني لتحقيق نتائج الاحتجاجات في الانتخابات البرلمانية المقبلة، والتي تجري في سبتمبر من العام الجاري 2021، فالوقت مبكر للغاية، وستختفي الاحتجاجات قبل ذلك بكثير، ويبقى الخطر الرئيس الآن هو التصعيد المباشر من قبل الولايات المتحدة الأمريكية (لمؤامراتها) بشكلها القبيح .
بقلم: الدكتور كريم المظفر - موسكو
المجموعة القصصية: حدائق الارامل.. البحث عن الزمن والهوية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: جمعة عبد الله
تمثل هذه المجموعة القصصية للكاتب (ضياء جبيلي) تناسق مبدع في الجمع بين الواقع والخيال المتخيل، في عتبات بين الواقعية الرمزية، والرمزية الفنتازيا الغرائبية، الممتدة في خارطتها الواسعة، واتجهاتها الادبية لعوالم شتى في السريالية الغرائبية. التي تجعل شخوصها مصابة بالاحباط والحزن والانكسار والهزيمة، في شتى معالم الصراع الحياتي. في ميادين عديدة في الحب والحرب والرومانسية والبحث عن الهوية والزمن المفقود. في عوالم متضاربة في التداعيات من عوالم كافكا والمسخ، الى عالم زوربا كازنتزاكي وعشيقاته الارامل. الى بروست والبحث عن الزمن المفقود. الى عالم جوروج اورويل في حديقة الحيوان. الى عالم همنغواي في الشيخ والبحر. الى عالم الغرائبي في رواية العطر للكاتب الالماني باتريك زوسكيند. الى عالم رومانسية شكسبير روميو وجوليت، وغيرهم من الكتاب المشهورين، يطوع ويكيف هذه العوالم يخلطها في بوتقة واحدة في المناخ العراقي والطقوس العراقية. يعني براعة تؤليفية في صناعة الحدث السردي في قصص المجموعة التي تضم 17 قصة قصيرة. تناولت بأشكال مختلفة الواقع الاجتماعي العراقي. من خلال المعنى الدال في غرائبية الحدث. بأن تأخذ الاشكال الحياتية بين الغرائبية والفنتازيا. لكنها تكشف عمق ازمة الواقع العراقي، التي تجعل الانسان مهدداً في حياته، سواء في حالة الحب والحرب، وصراع الارادة التي لا تقهر، في عالمها الواقعي والمتخيل. لنتناول بعض هذه العوالم من خلال بعض القصص القصيرة في المجموعة:
1 - عوالم رواية العطر للكاتب الالماني باتريك زوسكيند:
في عوالمها الغرائيبية في اكتشاف العطر من الاشياء الغريبة من الكائنات الحية بما فيها جلد الانسان وجثته. ففي قصة (عمر الورد) تأخذنا الى مسألة الجشع واستغلال الاشياء الجميلة حتى اهلاكها ونخرها بالقبح أو العفونة حتى الموت. ولدت وهي تحمل روائح العطر من خلال دموعها الباكية. فتصورت الام ان هذه روائح العطور من البودرة المعطرة، لكن اكتشف بعد ذلك بأن هذه العطور من دموعها، واعتبرت معجزة وهبة مباركة من الله. وكانت الام تأخذ طفلتها الى مجالس الحسينية للنساء في عاشوراء، لجمع الهبات والمال، وحين كبرت تقدم الى طلب يدها للزواج العطارين من تجار العطور، ولكن حظها وقعت في تاجر عطور بخيل، كان يستخدم العنف حتى تبكي ليجمع دموعها العطرة ليتاجر بها، حتى انهكها وحولها الى جلد وهيكل عظمي حتى اهلكت وماتت.
2- (البحث عن الزمن المفقود) بروست.
في قصة (البحث عن الزمن المفقود) في اول يوم من عمله الوظيفي اهديَ اليه رواية (البحث عن الزمن المفقود) وخلال اربعين عاماً من الخدمة لم ينجز قرائتها، حتى احيل على التقاعد، وحل محله موظف شاب، واهداء له الرواية لعله يكتشف الزمن الضائع في حياة الانسان.
3 - البحث عن ازمة الهوية:
من خلال القصة القصيرة (قصة محنة الجندي حميد). وجد نفسه مغطى بالجثث فوقه كغطاء يحميه من الرصاص من كلا الجانبين المتحاربين في حرب طاحنة بين العراق وايران. ففضل هذا المنوال ان يكون تحت الجثث بدلاً ان يقتل في جبهات الحرب، لكن الزمن طال وهو محشوراً بين الجثث، ويسمع اصوات التي تبحث عن اخلاء الجرحى، لكن الخوف لم يكشف عن نفسه، خوفاً من أن يقع في الجانب الخطأ، وممكن ان يطلقوا عليه النار، فبقى على هذه الحال حتى تفسخت جثته، اصبحت جثته من الجثث المجهولة الهوية. وكلا الطرفين يرفض قبول جثته. في الشك بالهوية والانتماء.
4 - زوربا كازنتزاكي وعشيقاته الارامل.
في قصة (حديقة الارامل) آدم مولع بهوس بالكتب وقراءة الروايات، رغم تحذير أمه الارملة، التي تلح عليه بترك الكتب وانشغال بهواية آخرى. لكنه يرفض ذلك فيقول لها (أنا لست طفلاُ) وفي احد الايام اكتشفت بأنه يقرأ رواية (المسخ) لكافكا، فأستشاطت غضباً وفي صباح اليوم التالي ذهبت الى مدرسته وحذرت المشرف من مغبة السماح له بقرأءة الكتب،وقالت وجدت بحوزة ابنها رواية المسخ، فقال المشرف مستفسراً (هل تحول أبنك الى صرصار ؟) ص39. فأجابت الام بغضب (ليس تماماً) لكنه (كان بحاجة الى من يقلبه على بطنه) ص39. فكان (آدم) يحرص في جمع مصرفه اليومي لكي يشتري الكتب، وفي احد الايام اشترى رواية وغلفها بكتاب ديني لكي يخدع أمه المتشائمة من الكتب، فحين رأته قالت (هذا افضل من كتب المهرطقين)، واراد ان يتخلص من الرواية فدفنها في حفرة في حديقة البيت، ونثر فوقها فسائل الريحان، ولكن بعد ثلاثة أسابيع تفقد مكان الحفرة التي دفن فيها الكتاب، فشاهد في مكانها اصبع فطر، وحينما حاول ان ينتزعه من مكانه. صاحت به أمه الارملة (ابتعد عن فطري يا ولد !) ص41، ولكن بعد ايام اخذ الفطر ينمو ويكبر ويتكلم وينطق بالكلمات اليونانية، وكلما اقترب منه، يتناهى له صوت أمه كأنه يسمعه تقول (أبتعد عن رجلي يا ولد !) ص41، وبعد ايام ازدحمت الحديقة بالنساء الأرامل بالثياب السوداء يتزاحمن حول اصبع الفطر، تيقن ان الفضيحة آتية لا محالة. وقال متذمراً: (يا الهي !
- كم زوربا نحتاج لحديقة سوداء من الارامل)ص43.
5 - شكسبير - روميو وجوليت / رومانسية عشقية في قصة (الذراع):
يتسلل (حازم) الى عشيقته من السياج الى شجرة السدرة حتى يصل الى غرفتها، يتطارحان همسات عشقية في نغمات الغرام والهيام، حتى اخذتها الغفوة الحالمة ونامت على ذراعه، ومضت ساعات طويلة وهي في غفوة الحلم العشقي، حتى جاء الصباح سمع الطرق على باب غرفتها وعرف ان الاصوات هي من أمها وابيها، يدعوانها الى النهوض لانها تأخرت كثيراً في الذهاب الى جامعتها، وتواصل الطرق دون جواب، وشعر (حازم) في الارهاق، فقد الاحساس بذراعه فلم يستطع ان يحركها، وهي في الغفوة الحالمة وبعد ثلاثة أيام تخثر الدم في عروقها، فلم يفلح في ايقاظها حتى اصبحت هيكل عظمي وتحولت الى جثة هامدة.
6 - الشيخ والبحر / همنغواي في قصة (أنتقام المارلين)
لم يكن الصياد (عطية) يكف عن مزاولة مهنة الصيد في البحر حتى بعد التقاعد، وبلوغ عمره الرابعة والسبعين عاماً، أن يرتاح مثل بقية زملائه الصيادين المتقاعدين، فظل يواظب على الخروج مبكراً في الصباح، لكنه عاكسه الحظ لعدة ايام يخرج الى البحر ويعود خالي الوفاض، فقرر ذات صباح ان يخرج ولم يعود بدون صيدة دسمة، حتى لو غرق في البحر أو اصبح طعماً لحيتان البحر، استعد لمهمته وابحر بقاربه الصغير الى البحر، وشعر أنه ابتعد كثيراً في البحر، وشعر بشيء ثقيل يدور حول حبل صنارته، حاول ان يسحب الحبل فلم يستطع، وظل يقاوم هذا الامر لثلاثة ايام في البحر، وفي اليوم الرابع، ذهب ابنائه الى مركز الشرطة لتبليغ عن مصيره المجهول ربما غرق في البحر. واثناء مقاومته ومصارعته الشيء الثقيل الذي علق بحبله ويرفض الانصياع، شاهد يقترب منه سمكة القرش ارتعب من ذلك، ولكن سمكة القرش ألتفت حول حبله، فحاول ان يبعدها عنه، ولكنها ظلت تدور حوله حتى انهكت قواه، واخذ غفوة بعد التعب الايام المضنية وحين استفاق من غفوته، شاهد فنار الميناء واضوية المدينة قريبة منه، فأخذ يجر نفسه جراً، ولكن شاهد سمكة القرش ملتفة حول الحبل، فأخذ يسحب القارب مع السمكة نحو ميناء المدينة.
7 - فنتازية عراقية غرائبية، في قصة (ذروق لتنين):
بعد انكسار الجيش العراقي وانسحابه من الكويت، هبت الناس في انتفاضة وهجمت على مخازن المؤن الغذائية لتنهب المواد الموجودة في هذه المخازن، التي اصبحت للنهب والسرقة، وكان من بين الجموع الغفيرة (سراج الدين) لكنه لم يبحث عن المواد الغذائية مثل الطحين والسمن والعدس والرز وغيرها من المواد، بل كان يبحث عن توابل والبهارات الحارة الهندية التي تحرق اللسان. مثل الفلفل الحار والشطة والكجب الهندي وغيرها، وحمل الصناديق الى البيت، حتى بوخته زوخته بهذه الاشياء الهندية المجنونة، التي تسطع منها الادخنة من يتناولها. بعد أخماد انتفاضة عام 1991، جر الى مديرية الامن ومارس بحقه التعذيب الجسدي والنفسي، ليس بأنه مشاركاً مع الاخرين في الانتفاضة، وانما عليه ان يعترف بأنه هندي وليس عراقياً، وإلا سيموت تحت التعذيب، رغم انه أقسم وحلف بأنه عراقياً عن أب وجد حتى جده كلكامش ولكن اصرار المحققين، بأن عليه أن يعترف أنه هندي (أعترف كلب.. بأنك هندي) وكانوا يضربونه بقسوة ووحشية حتى تعبوا من الضرب وقال له المحقق (أعترف سيؤمن لك تسفير عادلاً الى بلدك، بدل ان تموت هنا مثل كلب... أعدك) ص109، ولكن بعد مرور عاماً واحد حكم علية بالاعدام شنقاً حتى الموت. وفي أحد الايام نودي عليه، وتيقن في قرارة نفسه بأنه سينفذ حكم الاعدام بحقة، ولكن كانت المفاجئة الصاعقة بأنه افرج عنه واطلق سراحه من حكم الاعدام، فقال له السجان وهو يصحبه حتى الباب الخارجي للخروج (أشكرك معبودتك البقرة أن لكم بلاداً تحترم الانسان مثل الهند، وتقدر مواطنيها الى هذه الدرجة. فعلى الرغم من عدد نفوسها الهائل - مليار؟ أليس كذلك ياعبد البقرة ؟ لكنها طالبت بحياتك، لابد أنك شخصية مهمة، لكي يطالب بك رئيس الوزراء، بلدك عظيم مثل الهند أم أنا مخطئ ؟) ص112.
جمعة عبدالله
التداوي بالتفلسف أم التداوي بالتصوف؟
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. جعفر نجم نصر
في الرد على المنتقدين.. (ردموضوعي.. ذاتي) على من انتقد مشروعنا (التصوف العقلاني).
وضع سعيد ناشيد الكاتب المغربي كتابا تحت عنوان (التداوي بالفلسفة) وهو كتاب ذو بنية معرفية جميلة لغة وتحليلا،ولكن عيبه الكبير انه يعتقد فيه ان حل كل مشاكل الانسان تتم عن طريق التفلسف او (العقل) وكأن كل الناس متفلسفة، وهذا الامر هيمن على الكثيرين.. ومن ثم اعلوا من شأن العقل حتى غدا الها عند بعضهم حاكما وناظما لديهم في التفكير والكتابة وحتى في نقد الاخرين بحجة ان عقلهم يوحي لهم ان هولاء الذين يدعون الى التصوف انما يغردون خارج السرب (العقلي).. .ومن ثم ينبغي التصدي لهم بحزم وبقوة!!!.
ولقد فاتهم ان للعقل انبثاقات وولادات خاصة ببيئته الثقافية بحسب المعنى الانثروبولوجي،وهذا ما سأمر عليه لاحقا.. ولكن الذي فاتهم هو وحدة الفكرين الديني والفلسفي،ولعل المفكر ابو يعرب المرزوقي كفانا موؤنة الرد في هذا الجانب،وهو الذي وصف غالبية النخب العربية التي تتكلم بأسم التنوير بأنها تنتسب الى الوضعية النسبية(الوضعية بمعناها التقليدي أصيلها ومحدثها)والوضعية العلمية الاطلاقية (الماركسية أصيلها ومحدثها).. والتي بفعل ذلك الأثر فصلت بين الواقعي والخيالي والفعلي والرمزي.. الخ.
ان اي مطلع على النزر اليسير من الانثروبولوجيا (علم الانسان) ليدرك ان العقل هو مركب ثقافي،مسوؤلة الجماعة عن صياغته وتشكيله بحسب تعاطيها مع الطبيعة،فهو مركب منجز ومصاغ بحسب المحددات الثقافية والاجتماعية،وهذا الامر سيكون مسوؤلا عن صياغة العلاقة بين(الفكر واللغة)، ومن ثم فأن اللغة تكون العاكسة لذلك النمط العقلي الذي يسود حينذاك .
ولهذا كان منطق القران الكريم واشاراته الكثيرة للحديث عن العقل انما تصطحب دائما الحديث عن (القلب).. وهذا الامر مرتبط بطبيعة بنية العقل العربي خصوصا،.. فاللغة هنا هي تعبير ادراك تال عن ادراك واقع قائم، ومع ذلك فهذا الادراك لايتم الا عبر اللغة وفي نطاقها واطارها.
ولقد عاب المفكر المغربي طه عبد الرحمن على الفلاسفة اليونانيين الاوائل عملية المفاضلة بين العقل والقلب،عبر جعلهم مفهوم العقل مستقلا عن مفهوم القلب،ولكن في العالم الاسلامي كان المتصوفة هم الذين جمعوا بين الامرين استنادا الى المعطى القراني.. ولهذا الامر مغزى جوهري وهو ان الغيب لايمكن التعاطي معه الا بهذين الجناحين : التبصر العقلي والبصيرة القلبية .
وهذا الامر يقودنا الى النسبية الثقافية التي تحدث عنها الانثروبولوجيون عندما قالوا ان الحقائق والقيم نسبية مشروطة ثقافيا او محددة بالثقافة، وهذا بخلاف المنتقدين الذين ينطلقون من احكام مسبقة
(غربية) المنزع،بل ان بعض الملاحظات النقدية الموجهة للتصوف العقلاني هي تعبير عن المركزية الغربية بل وتبني كامل لها لانها وضعت لهم معايير النظر والحكم والمفاضلة !!!!.
ان المنتقدين يركزون على الجانب العقلي وهو شأن ارتبط بعصر الحداثة ونحن الان نعيش تحت امطار عصر ما بعد الحداثة ان صح التعبير، وهذا العصر كف عن الاعتقاد بأن العلم هو الوجه الوحيد للحقيقة، ودعا الى اهمية عودة المخيال والاسطورة، وعمل على الغاء الازدواجيات التي يؤمن بها الذين مازالوا يتشبثون بالوضعية العقلية التي تعبر عن الفكر الغربي بعصره الاول، ولاتلتفت الى الثقافة الشرقية وخصوصيتها وكأنما العالم لديها نسخ كاربونية متشابهة او ينبغي ان تكون متشابهة!!!!.
وفي الحديث عن المخيال، نجد ان غاستون باشلار بخلاف ما قدم المنتقدون قد اشار في كتابه (الفكر العلمي الجديد)1934 لهذه الثورة المعرفية الممثلة بعودة المخيال والتخيل،ولم يربطها بالمخيال الادبي كما يزعم البعض!! بل ربطها مع تشكيلات معرفية متعددة، اذ كانت الفكرة المفتاحية لنسقه الفلسفي تقوم على فكرة اساسية هي :قبل الفكر تتألف الصورة بوصفها اللحظات الاولى لتشكل النفسية،بينما تتشكل المفاهيم في لحظة تالية، وبالطبع في تضاد معها.. الفكر والحس نفسه يسبقهما (الخيال) عنده، وهو الذي يملك القدرة على توليد الصور وتحريكها منتجا بذلك مخيالا.
وهذا الامر اتاح لهنري كوربان الفيلسوف المعروف للحديث عن المخيال الصوفي وحضوره.. وتقديم البراهين والادلة على وجوده.. بل والذي يدعم هذا الحضور اكثر اشارات الانثروبولوجي (موريس غودلييه) الذي تحدث في كتابه (المتخيل: المخيال والرمزي) عن ان المخيال الديني هو مجموعة صور تكون حاضرة ومهيمنة في حياة الناس استنادا الى مجالهم الثقافي الخاص!؟؟.
على صعيدا اخر للرد،متى نجحت المشاريع الفلسفية في العالم الاسلامي حتى يتم التقليل من شأن الحركات الاحيائية او الاصلاحية، وان كنت أومن بأن التصوف لاينطبق عليه هذا المصطلح او الكليشيهات الجاهزة!!.. لانه يمثل تدفقا ذوقيا يرتبط بأستمرارية التجارب الروحية الخاصة، والذي يتجلى بمدونات عرفانية او بأ شعار او بكتابات اصلاحية / أخلاقية..
ان الفلسفة دخلت بلاط الخلفاء والسلاطين تحت مظلة الطب بوصفه (حصان طروادة) الخاص بهم، وفشلت فشلا ذريعا في اقناع العالم الاسلامي بمقولاتها وهذا الامر انا احزن لاجله.. ولكن هذا الفشل يرتبط ببنية العالم الشرقي والاسلامي الثقافية التي يصر الناقدون على تجاهلها وكأنما نعيش في مدينة فلسفية متكاملة البنيان (نتفلسف) بها!!!.. ولعل مرد هذ الفشل ببعض اسبابه ان العالم الاسلامي لايتماهى الا مع الدين والمقدسات.. ولهذا لم ينجح ابن رشد في تمرير بعض اطروحاته الا لكونه فقهيا هل تدركون مغزى ذلك ايها المنتقدون على مستوى الفهم الانثروبولوجي لا التمنطق الفلسفي المجرد!!.
اما عملية الاستخفاف والضحك والتقليل من شأن الحركات الاصلاحية او الاحيائية التي ظهرت وكان لها اثر بالغ في العالم الاسلامي.. فهوامر مستنكر ومرفوض كليا.. بل هو امر عجيب!!؟.. فهل المشاريع الفلسفية نجحت.. اين مشروع حسن حنفي.. اين مشروع الجابري.. اين مشروع طرابيشي.. لماذا هذه الفذلكات اللغوية للتعمية على انصاف المتعلمين او البسطاء من الناس.. لماذا هذا التعالي والتكبر على جهود اصلاحية كبيرة.. الافغاني وعبده ومحمد اقبال وغيرهم الكثير..
اما قولكم انها تجارب فردية لايمكن ان تكون جماعية . .نعم من جهة خصوصية كل تجربة.. ولكن على مستوى ثمارها ونتائجها الامر مختلف.. انتم ايها المنتقدون الذين تحكمون بظاهر الامور وبرؤية مستعجلة.. فالننظر الى تجربة المتصوف / الفقيه ولي الله من دلهي (توفى 1762)وكيف صاغ مشروعا لاتباعه.. واين انتم من تجربة احمد السرهندي (المتوفي1707) الذي كتب وهو المتصوف.. نقدا لاذعا ضد ابن عربي، وانتج عقيدة صوفية جديدة على مستوى النظر والعمل.. واين انتم من تجربة الشيخ بوكار الحاج طال في دولة (مالي) الذي توفى في بدايات القرن العشرين.. والذي جراء سماحته الصوفية ومشروعه الاخلاقي التعددي اجاب عندما سأله احدهم :هل الله يحب الملحد؟ فكانت اجابة الشيخ: نعم.. واضاف ان ذلك على خلاف الفروق التي تستحوذ على من سماهم (المتعلقين بالظاهر) الذين يكذبون بالاله الواحد ثم يدعون الحديث بأسمه؟..
واين انتم من تجربة الاستاذ محمود محمد طه المفكر السوداني الذي تم اعدامه عام 1985جراء افكاره الصوفية / العرفانية التجديدية الخاصة بالشريعة وكون او شكل (الجمهوريين) وهم مجموعة صوفية خاصة ومتجددة فكريا وروحيا وكتبت عن الاستاذ طه كتابي (الاسلام الكوني والاسلام العربي/ محمود محمد طه والحل الصوفي للشريعة) الحل الصوفي للشريعة لا الفلسفي لان لايوجد من يجتهد في سبيل ذلك!!. الم يكونوا هولاء جميعا من اصحاب التجارب الفردية التي تحولت الى تشكيلت اصلاحية جماعية.. اما قولك هل يوجد اسلام كوني وتنتقد ذلك وليس لك بذلك من علم.. فاللاسلام الكوني الذي هو جزء من مشروعي مشتق من الاية المباركة (وما اارسنالك الا رحمة للعالمين) وهو دين عالمي كوني لامحل التفصيل هنا..
لماذا الحكم علي بأني ايديولوجي من قال لك؟!! التصوف والمعرفة الصوفية عصية ان تكون ايديولوجيا بحسب المنطق العقلاني الذي ادعوا له.. لماذا هذا الاتهام والحكم المتسرع المنافي للحقيقة استغرب ذلك ام هو لاجل جمع المؤيدين لكم بسرعة حتى يصطفوا حول راية العقل التي تدعوا لها!!والعجيب انا ادعو للعقلانية وهذا ما اردته بمشروعي الفكري.. هنا.. وانا الذي كتبت كتاب (اللاهوت المزيف) الذي بينت فيه بنحو دقيق وصارم وعلمي الفرق بين الاسلام الايديولوجي والاسلام المعرفي..
ولماذا تطالبني بأن اختار الحلول والاتحاد او الفناء.. وانا لم اذكرهما في ابدا في ما قدمته في الندوة.. بل واقول بعقلنة ذلك لان البعد المجازي والاستعاري (اللغوي الصوفي) خاص للغاية.. لماذا هذا الاستعداء وجلب الانصار الى جانبك عبر تقديمي بوصفي انسان جوال في عوالم غيبية / خيالية لاوجود لها!!، وانا مشروعي هو يقوم على (اصلاح التصوف) الذي تناسيته كليا واخذت ما تريد واضفت اليه احكامك الشخصية والذاتية.
اما قولك ان بعض المثقفين لايتحملون بعضهم بعضا وهي اشارة واضحة لي لاني رددت عليك بالندوة فأنت الذي لم يتحمل اللون الجديد الذي اقدمه بحلة نقدية /انثروبولوجية.. ودافعت عن افكاري وما مقالك الا تعبير عن انك من لاتتحمل وما ردودي الا لتوضيح ما شوهت من افكاري واطروحاتي بقراءة مجانبة للموضوعية.
وانا لم اسخف احدا كما زعمت والندوة موجودة لمن اراد الرجوع لوقائعها.... اما قولك (ولكن عليك ان لاتجعل من عقل من يفكر في الغيب ليغيب، لتقارنه بعقل يفكر بالغيب ليحضر) هذا تقديم لنفسك بوصفك انت من يفكر بالغيب ليحضر وهذا تجني علي فأنا لم اقل بغياب العقل ابدا.. بل قلت بحدوده وسقفه المحدود كما يشير وليم جيمس وهنري برغسون وكارل يونغ وانا معهم.. بل اني اكدت على اهميته بالندوة والدليل هي تناقش (التصوف العقلاني).. فكيف تخيلت ذلك ولماذا هذه المقولة المتعسفة الاستعلائية للغاية!!!!!.
لماذا تستكثر علي ان اقدم مشروعا اصلاحيا يقوم وسطا بين معرفيا بين العقل والحداثة.. انا ادعوا للتواضع المعرفي والانساني امام مقدسات الناس وعدم النظر اليها من الاعلى بمنظار فلسفي / صرف بل وبمعايير غربية!! فأنا ادعوا الى سيادة منطق انثروبولوجي لاجل بناء مشروع نقدي / اخلاقي غاب عن الكثيريين من المتفلسفة.
المشروع الذي قدمته قابل للحوار وليس المناكفة والمعاندة والمكابرة والمغالطات او التجني او تقويلي ما لم اقوله.. هنالك معايير ضابطة وناظمة للتحاور.. ولايحق لاحد تنصيب نفسه حاكما وناظما على افكار الاخرين.. كلنا مازلنا تلاميذ في طريق المعرفة.. والله ولي التوفيق.
د. جعفر نجم نصر
نقد خطابات النمذجة الاحيائية.. رؤية نقدية لمتبنيات التصوف العقلاني
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. علي المرهج
لك أن تكتب في الإحيائية ومتبنياتك التجديدية أو الإصلاحية لنظام مُتأترث لم ينجح أصحابه في تقديم رؤية خلاصية (نهضوية) لمجتمعهم خارج الشعارات والخطابات الوعظية.
كتب د. جعفر نجم نصر عن التصوف العقلاني مدافعاً، فوجدته ينتقي ما يشاء من تراث التصوف العقلاني ويعده أنموذجاً أمثل للاقتداء، ولكنه سيبقى من عوالم المتمنى لديه، ولا خسارة في التمني، فبعض إنجازات الحياة تتحقق بفيض التمني.
ولكن هذا على مستوى فردي قد تتمكن من تحقيق المتمنى، كأن تحلم بالوصول للحصول على شهادة عُليا فتجد وتجتهد لتحقيق هذا المتمنى، ليتنتفي المسافة بين المثالي والواقعي في تحقيقك للمتمنى لتضعه بمصاف الواقعي.
لكن أن تحلم لمجتمع تدعوه لتبني تجربة فردية سواء أكانت فلسفية أو صوفية أو شعرية، لتجعل منها تجربة كونية، فهذا من قبيل التمني لنزول المطر في الصيف، وهو ليس من المستحيلات.
وإن رغبت في تمني المستحيل والعمل على إمكانية تحققه في شخصك، فقد يكون ذلك ممكناً، إن كنت قادراً على نقل مجتمعاً كاملاً ليعيش تجربتك في التحدي وكسر أطر المستحيل، فذلك أمر لا أمنك عنه، ولكنني أستغرب حينما تجعله ممكناً ومُتاحاً، وباستطاعتك أن تجعله كونياً!!.
مفكرون حالمون يُحاولون جعل الإسلام كونياً وفق رؤية صوفية عقلانية مستقاة من التجربة الروحية الإسلامية، وهؤلاء كُثر، ولا أبخس تجربتهم، ولكن من حقي نقدها، لأنها تقرأ الواقع بنظارة تعكس لهم المتمنى في توقعهم لرؤية عالم أمثل بوجود ما يُسمونه (إسلام كوني).
وقد نقبل نحن المسلمين بهكذا رأي على تفرقنا وخلافنا لا اختلافنا وتنوعنا، وقد نتغاضى عن نزوعنا للطائفية، وقد يكون المفكر فينا الذي يدعونا للإسلام الكوني يعتقد (إنسان كامل) من دينه ومعتقده، قد لا يوافقه عليه من هو من دينه ويختلف معه مذهبياً!.
بمعنى أننا نفكر برؤى نخبوية لا تحل مشكل الصراع بين الأديان، ولا حتى بين الطوائف.
الغريب العجيب المبهر المفارق، هو أنني وجدت بعض هؤلاء المثقفين، وقل المفكرين لا يتحمل بعضهم بعضا، بل ويُسخف بعضهم قول بعضاً، وهم يفكرون من داخل الدائرة أو الإطار الفكري الذين يرومون به تحقيق نهضة ليست عربية أو إسلامية فقط، بل إسلامية كونية!!، وتناسوا أن هناك مجتمعاً بالمليارات لا يعترف بهم، بل وهناك مفكرون عرفانيون أو صوفيون من أديان أخرى يعدون الإسلام مجرد فرقة هرطقية يهودية أو نصرانية، فعلام الدعوة لإسلام كوني لا يحل مشكلة في مجتمع أغلبيته مسلمة؟!، ويُعقد دعاة الاحيائية المشكلة في التقارب بين الأديان.
التجارب الصوفية ليست تجارباً احيائية، ولكنها بمُضمر الدعوات لها عند المُريدين تتلاقى مع هكذا تجارب.
إن قلت عنها أنها تجارب عقلانية، فذلكأمر قد يصح أو لا يصح، أو تجارب سلوكية لا يرتضيها دعاة (التثوف العقلاني).
سمها (فلسفة صوفية) عند أصحاب الرؤى العرفانية، ولك أن تقول أنها (تصوف فلسفي)، ولك أن تستبعد كل (التصوف الطُرقي) الذي قد يكون أكثر "أنسنة" من (التصوف النظري) وأنت تستبعده لأنه لا يتوافق وموجهاتك المعرفية التي هي بمضمرها (أيديولوجية) في النفي والاستحضار وتفضيل الاحياء لأنموذج في التصوف واستبعاد غيره.
أن تختار تجربة ابن عربي وتعدها تجربة أنسنية في العقلانية الصوفية، وفي اختيارك هذا استبعاد لتجربة الطُرقيين المتأثرين بتجربة مولانا (جلال الدين الرومي)، ولا أعرف المقياس للعقلانية هذه داخل أطر يغيب فيها العقل البرهاني، وإن حضر عند ابن عربي أو ابن سبعين أو عند ملا صدرا، فهو لصالح تغييب الوجود في الوجد والوجدان والإنوجاد.
اختر وحدة الوجود أو اختر الحلول أو اختر الفناء، فكلها طرق صوفية لتغييب العقل العلمي والفلسفي النقدي، ولا ألومك للهيام بها بوصفك صوفياً أو عرفانياً أو شاعراً، ولكن عليك أن لا تجعل من عقل يُفكر في الغيب ليغيب، لتقارنه بعقل يُفكر بالغيب ليحضر، أو عليك أن لا تُفكر بعقل توهمنا بأنه نقدي بقصد تغييب العقل العلمي والعقل الناقد.
يتحدث بعضهم عن الخيال، ليوهومونا بأن الخيال العلمي هو ذاته خيال الصوفية أو خيال الشعراء، لأقول أن الاشتراك في اللفظ لا يعني الاشتراك في الدلالة.
لا ينطلق الخيال العلمي من لا شيء، بل ينطلق وفق التوقع لأفق النظرية العلمية في الفيزياء أو البايلوجيا والفلك والرياضيات ومقتضيات البناء الفلسفي عليها، فهي لا تصدر من توهمات أشخاص، لأن ما يضبط الخيال العلمي أنه يصدر وفق توافق مع نظرية علمية ما، لا خيال تحكمه (شطحات صوفية) بتعبير عبدالرحمن بدوي.
لأن الشطحات الصوفية تدخل في مجال (الفنتازيا) وخلق عوالم مثالية لأناس حالمين تخترق أفق التوقع العلمي لتسيح في فيض العوالم السحرية.
قد يستفيد العالم من عوالم الأدباء الرواة والشعراء وحتى الصوفية والفلاسفة المثاليين والتأمليين، ولكن ما يُميز أصحاب الخيال العلمي عن أصحاب الخيال الصوفي أن أصحاب الخيال العلمي يبنون الخيال وفق (منطق المحاولة والخطأ) وفق قول باشلار أن تاريخ العلم تاريخ تصحيح أخطاء، بينما الصوفية والفلاسفة المثاليين ومن شابههم ينطلقون من الحدس الذي بنون عليه معارفهم بأنه اليقين الذي يتجاوز كل مصادر نظرية المعرفة التجريبية والعقلية على أنهم أدركوا اليقين الذي (لامجمجة فيه) بعبارة الفلاسفة المسلمين، أي الحق كله!.
هذا ما تنبه له باشلار في كتاباته (الماء والأحلام ـ دراسة عن الخيال والمادة) و (شاعرية أحلام اليقظة) وبعض كتبه الأخرى هو الربط بين المعطى الأدبي والمعطى العلمي والافادة من هذا المعطى للكشف عن ممكنات للمعنى في الوجود فيما أسماه "الأمزجة المُتخيّلة" ومحاولته توظيفها بمايخدم منطلقات النظرية العلمية في الإبداع والابتكار.
ا. د. علي المرهج – أستاذ فلسفة
امين الريحاني: من وجدان التاريخ الى وجدان اللغة وضميرها الحي (2-4)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. ميثم الجنابي
إن التاريخ بالنسبة للريحاني هو ليس مادة وعي الذات وأسلوب الرؤية الواقعية وفرضيات البدائل الممكنة، بل مدرسة المواجهة الوجدانية مع الواقع وآفاقه. وتحتوي هذه المواجهة في أعماقها على أثر ما ادعوه بتيار "لغة الضمير" و"تحصين الأركان" كما كان الحال عند جرجي زيدان وأمثاله، دون أن تتمثل استنتاجاتهما بصورة متجانسة مع تجاهلها لإبداع الإصلاحية الإسلامية الكبير. لهذا نراه ينتقد بصورة لاذعة آراء كارليل المليئة بأساليب الازدراء والسخرية في تعامله مع الماضي، معتقدا أن هذا الأسلوب لا يليق في سرد التاريخ لأنه كثيرا ما يشوش المعنى الحقيقي فيه[1]. بينما يعتمد على رؤيته عن البطولة والأبطال في التاريخ باعتباره أسلوبا جوهريا في "نسيان" الماضي، من ثم أسلوبا للتأهب نحو مواجهة الحاضر والمستقبل. ويندفع في نفس الوقت إلى "تسويد" الماضي وتعريته من كل فضيلة من اجل ألا ينخدع المرء به. ففي تعليقه على كتاب (خطط الشام) لمحمود على كرد، الذي جعل من تاريخ الدولة العربية الإسلامية نموذجا مثاليا يستحق التعظيم والبعث والمحاكاة، نرى الريحاني يبحث في التاريخ السوري (العربي) عما اسماه "بالنكسات". بحيث يقدم لنا في كتابه (النكسات) صورة مضادة تماما "للصورة الجميلة" عن التاريخ العربي. إذ يجعل من تاريخ سوريا سلسلة من النكسات القبيحة ابتداء من "الاستيلاء المصري" عليها وانتهاء "بالمماليك"، مرورا بالآشوريين والفرس والسلوقيين والأنباط والغساسنة والرومان والعرب والصليبيين وهولاكو! ويتحول تاريخ سوريا عنده هنا إلى سلسلة من الهدم والردم والخراب والدمار. إضافة لذلك أدت "موضوعية" الريحاني الوجدانية في التعامل مع "أحداث" التاريخ "السوداء" فقط إلى أن يتناسى دورته. وهو نسيان له قيمته الإيجابية في ما اسماه الريحاني نفسه بضرورة التناسي، لأن الهاجس المباشر وراء "اكتشافاته" للنقاط السوداء في التاريخ يتلألأ في بحثه عن العدالة والسلم والحرية والتسامح والعمران. مع أن كل هذه القيم لا يعقل إدراكها بمعزل عن نقائضها. وذلك لأن عمق محتواها نفسه يتحدد تاريخيا بمدى وسعة وعمق وجوه الشر والظلم والاستبداد.
إن تحويل التاريخ إلى "نكبات متواصلة"، لا يبدع وعيا ذاتيا، بل يؤدي في أفضل الأحوال إلى بلورة رؤية نقدية عادة ما تحفر فجوة الانفصال والانقطاع الثقافي مع التاريخ الذاتي. وأقصى ما يستطيع الوعي الفردي والقومي بلوغه فيها هو حدود القيمة الوجدانية للأبطال. وهو السبب الذي جعل الريحاني يطالب الإنسان العربي بقراءة التاريخ من اجل إدراك اللب فيه، و"من اجل نسيان قريضه وقوافيه". ووضع هذه الفكرة في عبارته القائلة "اقرءوا التاريخ متفهمين روحه وروح أبطاله، فتودون إذ ذاك أن تنسوا الماضي"[2]. ومع أن "نسيان الماضي في قريضه وقوافيه" يعني بالنسبة للريحاني استذكار أبطاله وذواته القوية والفاعلة، والذي نعثر عليه في إلحاحه على أن يكون هذا النسيان "مقدمة كتابة صفحة جديدة في تاريخ هذه البلاد"، إلا انه لا يؤدي فعليا إلا إلى اجترار تجارب الماضي والوقوع في دورة التاريخ التجريبية. وذلك لأن الوجدانية العارمة لا يمكنها خزن تجارب الماضي ولا جعلها وسيلة لترسيخ وعي الذات الثقافي ونفيه الدائم.
لقد "حرر" ذلك آراء الريحاني من هاجس الحصانة الذي ميز آراء أسلافه كالطهطاوي وخير الدين التونسي، وأبقى في نفس الوقت عليه بهيئة ذرات منحلّة لا يجمعها نظام، كما هو جلي في مقارناته بين الشرق والغرب. أما مساعيه لتوليفهما في سبيكة جديدة، فإنها مجرد تمني يستحيل تحقيقه، لأنه من مكونات مختلفة. فنراه يعظم إنجازات الغرب الأوربي في مختلف الميادين بحيث جعل منه نموذجا للمحاكاة وحافزا للرقي والتمدن الشرقي من جهة، وينتقد بصورة جلية ومستترة ما يتميز به هذا التمدن الأوربي من نواقص جوهرية.
فنراه ينتهز في مجرى استعراضه لأعلام الشرق والغرب كل فرصة متاحة من اجل كشف خلل الحضارة الأوربية. ففي تطرقه، على سبيل المثال، إلى شخصية تولستوي، نراه يشير إلى "أن أعماله تثبت أقواله، وله أقوال هي اقرب إلى رد الفعل على التمدن الأوربي مما هي إلى التعاليم التي قام عليها هذا التمدن"[3]. وارجع سرّ الخلل الجوهري في التمدن الغربي إلى ما اسماه بمدنية المال. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن "تمدن أهل الغرب مؤسس على التجارة فقط. وروح التجارة الخبيث سائد على دوائرهم الاجتماعية والمدنية والأدبية والدينية". بل التمدن "عندهم هو التمويل بجميع أساليبه"[4].
وارجع أسّ التمدن الغربي، بما في ذلك خارج النطاق الأوربي إلى سيادة ما اسماه بروح التجارة. وكتب بهذا الصدد قائلا، بأن "روح التجارة الخبيثة منبثة في دوائرهم الاجتماعية والمدنية والدينية. ومن اجل التجارة ينشرون حضارتهم في الشرق"[5]. فالولايات المتحدة علي سبيل المثال، حررت "نفسها من سيادة التاج البريطاني، ولكن فيها تيجانا أكثر خباثة"، كما أنه "لا الاختراع ولا الحرية متخلص من سيطرة المال عندهم"[6].
وتوصل في نهاية المطاف إلى أن ما يميز روح المدنية الغربية، بما في ذلك فكرها الإصلاحي، هو "سيادة روح التجارة والقوة والسيطرة"[7]. وهو روح شق لنفسه الطريق في حروب الأوربيين ضد الشعوب الضعيفة والاستيلاء على ثرواتها وقهرها. وليس ذلك في نهاية المطاف سوى النتاج الملازم للخلل الجوهري في الحضارة الغربية، وبالأخص بسبب سيطرة وسيادة التعصب والفكر الفاسد فيها. فهي تتساهل فيما بينها، على عكس ما هو عليه الأمر مع المستضعفين والمختلفين معها. ذلك يعني أنها لا تتمسك بالمبدأ الشريف الذي تدعو إليه[8]. ولعل معاهدة فرساي وما تبعها من نتائج وسياسيات بعد الحرب العالمية الأولى قد ذهبت أدراج الرياح وكشفت عن حقائق التمدن الأوربي. فكل الأحاديث والشعارات عن جمعية الأمم وحرية الشعوب الصغيرة والحكم الذاتي واستئصال السياسة السرّية وتخفيض السلاح وما شابه ذلك، مستمر لحد الآن بل وبقوة أشد وأخشن وأرذل[9]. في حين أن لدى الشرق من الصفات والفضائل ما تمكنه من إنقاذ الحضارة الغربية نفسها من رذائلها. إذ لدى الشرق من السكينة والاطمئنان ما لو وجد شيء منه في الغربيين لقلّت في مجتمعاتهم المنكرات والمفجعات مثل القلق والسكر والانتحار، وكذلك لقلّ تكالبهم على الماديات ولقلّت الحروب. كما توجد عند الشرقيين (والمسلمين بالأخص) من الديمقراطية الحقيقية في الحياة الاجتماعية ما لو توفر لدى الغربيين ليّسر لهم حل المشاكل الاقتصادية التي تهدد بالبلشفية![10].
بصيغة أخرى، إن إنقاذ الحضارة الغربية ممكن من خلال ما اسماه بوصل الشرق بالغرب، أو حسب عبارته بوصل "عالم العلم بعالم الشعر والروح"[11]. لكن إذا كانت آفات التمدن الغربي معروفة ويجري محاربتها، فأن الشرق بدأ ينتفض لتوه. مما يعطي له حق التمرد والانتفاض والثورة إذا استلزم الأمر من اجل الحرية[12]. إننا نعثر في الشرق على أثر التطور الاجتماعي، ولكنه ما يزال يعاني من "ضعف النشوء الطبيعي" و"الارتقاء الخلقي"، أي القوة المادية والأدبية. وأن الذي يقيدهما هو التقاليد والعقائد التي لا تلتئم مع العصر. من هنا فأن نهضة الشرق تفترض تحرره من قيود القديم أولا، ومن ثم الاستناد إلى نظام يقضي على الفوضى المنتشرة فيه[13]. ولا سبيل لذلك غير الثبات الدائم والمجاهدة الذاتية، لأن مشكلة الشرق تقوم في "افتقاره إلى الثبات الذي يتغذى به الإتقان"[14].
وهو افتقار عانى منه الريحاني. فهو لم يستطع تمثل هذا "الافتقار" وتجاوزه منهجيا رغم إدراكه العميق لآثاره وتأثيره في مجال العلم والعمل. فقد أعاقت وجدانية الرؤية وهواجسها العميقة صياغة نظام "للثبات يتغذى به الإتقان" العلمي والعملي. وهي صفة ميزت اغلب كتاباته. ولعل (بذور الزارعين) أحد النماذج الرفيعة لما يمكن دعوته بالحكمة المبتورة. فقد مثل الريحاني مزاج المرحلة العاطفي للخلاص من قيودها. وليس مصادفة أن تتشبع آراءه وآراء "الانعتاق الوجداني" بالحماسة المخلصة "لناموس الارتقاء والتطور". فقد تغلغل يقين الدارونية الطبيعي في وجدانية الرؤية وجعل من "بذر البذور" المهمة الأولى والضرورية، والقيمة الكبرى للفعل والعقل، لأن يقين نموها اللاحق وارتقاءها وتطورها هو نتيجة طبيعية أيضا!
تمثل الريحاني هنا أسلوب شبلي شميل في موقفه من "سنّة الارتقاء والتطور". وعبّر عن ذلك في (وجوه شرقية وغربية) قائلا، بأن من محاسن شبلي شميل هو ثباته على آرائه، وأنه أول من بّشر ونشر مبدأ النشوء والارتقاء في الأمة العربية، وله المقام المنشود فيها[15]. وكرر في أكثر من موضع في كتاباته على جوهرية مبدأ الارتقاء والتقدم والتطور، وجعل منه "ناموسا عاما شاملا ينطبق على الطبيعة الفكر والحياة". وكتب بهذا الصدد يقول، بأن فكرة القضاء والقدر كانت في يوم من الأيام قوة دافعة، أما الآن فأنها قوة مدمرة. والشريعة التي حررت المرأة فيما مضى أصبحت غير مقبولة الآن كما هي. كل ذلك يستلزم أخذه من قبل الجميع أدباء ورجال دين وسياسيين[16]. لاسيما وأن كل ما "ظهر في العالم حتى اليوم من حقائق الاجتماع والسياسة والدين، إنما هو خاضع لناموس التطور والتحول، وناموس النشوء والارتقاء"[17].
لم يكن تركيز الريحاني على "ناموس النشوء والارتقاء" سوى الصيغة النظرية للأعراض النفسية الملازمة للانبهار الوجداني في تأمله بساطة الاكتشاف وروعته في نفس الوقت. فقد ترافق اكتشاف هذه "الناموس" مع بداية اكتشاف "الأنا العربية" و"نشوءها وارتقاءها" المعاصر. فمن الناحية الفعلية لم تكن فكرة النشوء والارتقاء سوى فكرة الصيرورة التاريخية الخاصة للثقافة الأوربية المعاصرة، أي أنها لم تكن عنصرا علميا خالصا فيها. وهو سبب وشرط تغلغلها في نسيج الوعي الفلسفي والسياسي والاجتماعي والأخلاقي وتمثلها بصيغ ومستويات ذوّب حقائقها في صرح الأوربية وكيانها الروحي. بينما لم تكن بالنسبة لتقاليد الوجدانية العربية، كما هو الحال عند الريحاني وسلامة موسى وشبلي شميل، أكثر من فكرة علمية خالصة. وبالتالي فأن "موضوعيتها" كانت جزء من اجتهاد دعاتها ومعتنقيها. إذ لا تاريخ ذاتي فعال ومتواصل بها في الثقافة العربية المعاصرة آنذاك. من هنا ظاهريتها وطفوها على سطح المستنقعات الآسنة كما لو أنها الوردة الوحيدة المرمية من أيد غافلة. إلا أن ذلك لم يفقدها جمالها ورونقها ورائحتها. على العكس! أنها أصبحت محل الإثارة والمنافسة والاحتراب!
لم تكن فكرة "ناموس النشوء والارتقاء" سوى الصيغة الدافعة على ضرورة النشوء الجديد والارتقاء المدني المعاصر كما هو والتي نعثر عليها في إحدى العبارات الطنانة التي أطلقها الريحاني في معرض تقييم المبجل لشخصية محمد علي باشا ودورها في نهضة مصر الحديثة قائلا:"وجاءك من مصر ابن ألباني عظيم ينشد ضالة الكورسكي الأعظم بونابرت"[18]. ولم يكن هذا الإطراء معزولا عن اعتقاده القائل، بأن النهضات الكبرى ترتبط بسيرة الأبطال في استكمال أداورهم التاريخية بوصفهم "زارعين لبذور التجديد". بينما لم تكن هذه المواقف في الواقع سوى التمثل الجزئي لما في "لغة الضمير" و"تحصين الأركان" من حب للجديد والتمسك العقلاني والإيجابي بتقاليد الماضي. من هنا نراه يسير في اتجاه تجديد اللغة عبر نقد الاهتمام المفرط باللغة القديمة ومفرداتها وحشوها، وعدم تطابق المعنى والعبارة، والكلمة والمنطق. فقد علّق على كلمات من وصف الإسلام بعبارة "نشب مخالبه في أعماق البسيطة، وثبت رجليه على تخوم الأرض، واطلع رأسه من وراء خط الاستواء، ووضع قوادمه على جدران الصين"، بعبارة "تصوير غريب يصور الإسلام بصورة حيوان غريب بدايته طائر ووسطه أسد ونهايته بعير"[19].
إن الجوهري في اللغة بالنسبة للريحاني هو "روح اللغة" وطريقة التفكير فيها. وأسلوب الكاتب الذي هو صورة لشخصيته، والحرية الذوقية والاختراع في معالجة لمواضيع[20]. ومن ثم فأن الجديد هو المشيع للحقيقة والذوق، والنابذ للماضي البائد، والمتبع للجميل[21]. وقدم في (انتم الشعراء) مجموعة وصايا جعل منهن شعارا للتجديد والإبداع، حيث طالبهم فيها بتجريد النفس من قيود التقليد، والصدق في الشعور، والحرية في الفكر، وأخذ البيان من لوح الوجود، وأن يكون في خيالهم حقائق كونية وبشرية، وأن تكون للقصيدة بداية ونهاية، وأن يجري النظر إلى الكون من خلال النفس الباصرة[22].
وليس مصادفة أن يجلّ الريحاني من بين الشعراء الأمريكيين الشاعر ولت ويتمان، الذي فتح طريق "الشعر الحر" وديمقراطية الفكر والأخلاق. ووضع تقييمه لويتمان بما اسماه بفلسفته الأمريكية التي وجدت انعكاسها في شعره، الذي تدور مزاياه على عدم انحصارها بقالب الغريب الجديد فقط، بل بما فيه من الفلسفة والخيال مما هو اغرب وأجّد"[23]. بل أن الريحاني نفسه كتب قصائد من "الشعر الحر"، التي يمكن عدها من بين أول التجارب العربية بهذا الصدد. غير أن قيمتها الحقيقية تقوم لا في شعريتها، بل في تجسيدها لانعتاقه الوجداني ومفهومه عن الحرية. فعندما قلّد الريحاني والت ويتمان في شعره، فانه لم يسع لمحاكاة الفلسفة الأمريكية، بل لإبداع صيغة مناسبة لما سيدعوه بالاستمداد من لوح الوجود العربي في التعبير الحر عن الحياة كما هي، وصدق البيان والاهتمام بحقائق الوجود الكونية والإنسانية عبر معاناة فردية اجتماعية تدرك مسئوليتها تجاه كل ما هو حولها. وعبّر في أشعاره ومأثوراته عن تعامل مع الكلمة، حررها نفسها من قيود البديع التقليدي، كما سعى لتحرير النفس في صغائرها وكبائرها من إسار الجمود والعادة. ووضع هذا المبدأ في موقفه من الشعر العربي عل مثال موقفه من مقارنة المتنبي مع المعري. فقد اعتبر إبداع المتنبي ناقصا بسبب عدم تطابق الحقيقة والمشاعر والعبارة فيه. إذ اعتقد بأن الانسجام في الشعر العربي يكاد ينحصر في الألفاظ وفي الصيغ اللغوية. أما في المعاني فهو نادر وكثيرا ما تجئ المعاني مستقلة بعضها عن بعض ومتقلقلة في قصائد أكثر الشعراء[24]. ولعل المعري هو الوحيد الذي طابق في إبداعه بين الكلمة والمنطق، والعبارة والمعنى، والشعر والحقيقة. وجعل من حياته وشخصيته نموذجا لإبداعه من صدق الشعور وحرية الفكر واخذ البيان من لوح الوجود، والاهتمام بالحقائق الكونية والبشرية، والنظر إلى الكون بعيون النفس الباصرة.
ولا يعني "لوح الوجود" هنا سوى الحياة كما هي بكافة ميادينها ومظاهرها. لهذا أكد على أن الجديد في اللغة لا يعني الخروج على روح اللغة، وألا تصبح الكتابة إفرنجية بحروف عربية. وهو المعنى الذي شدد عليه فيما اسماه بالرجوع إلى لوح الوجود ومنه استمداد الشكل والمعنى[25]. ومن ثم ليس الرجوع إلى لوح الوجود سوى الرجوع إلى النفس. وهذا بدوره ليس إلا المهمة الملحة والمرتبطة بادراك وظيفة الأدب والأديب، والشعر والشاعر تجاه المجتمع والتاريخ والأمة والثقافة. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن الكاتب الحر هو العالم الحقيقي الذي يضع أمام الناس نتائج علمه وثمار بحثه ودروسه حقيقة الأمة[26]. واعتبر الشاعر الحقيقي "مرآة الجماعات"[27]، انطلاقا من موقفه المؤيد للفكرة القائلة بالتوازن بين الشعور والفكر في الآداب والفنون، والخيال الذي ينتشر من حقائق الحياة كما تنتشر الروائح من الأزهار فتقود بالمرء المبدع إلى الحقيقة المادية والاجتماعية التي نشأت منها[28]. وهو موقف يستمد جذوره من الفكرة الأوسع التي أيدها الريحاني والقائلة، بأن الشعر والأثر الفني الجميل فوق صاحبه (مبدعه)[29].
لم تكن أولوية الوظيفة المعرفية والجمالية والعملية سوى الصيغة النظرية والتاريخية لأولوية الإصلاح الأدبي (المعنوي) والسياسي. إذ نعثر فيها على نفس هواجس انعتاق الوجدان من تشديد على قيمة الروح المعنوي ضمن "ناموس النشوء والارتقاء". حيث أكد الريحاني على انه "لا تدوم إلا سنّة التطور". وأن "الثابت في الحياة ثابت إلى حين، أما التجدد فثابت إلى الأبد"[30]. ولا يعني ذلك سوى أن الحركة هي الشيء الوحيد المطلق، وأن الجمود عرضة للفساد، بينما التجدد دائم أبدي. ووضع هذه الرؤية الفلسفية في موقفه من الإصلاح، باعتباره إصلاحا ورقيا، كما هو جلي في عبارته عن أن حقيقة الإصلاح تقوم في ربط "النشوء الطبيعي بالتطور الاجتماعي وبالارتقاء الخلقي"[31]. ذلك يعني انه أعطى للإصلاح الحقيقي أبعادا اجتماعية وأخلاقية مترابطة مستندا بذلك إلى الفكرة العامة عن أن الحركة والتجدد هما الثوابت الوحيدة في الكون، وبالتالي ليس الإصلاح الحقيقي سوى ذاك الذي يعني وحدة هذه المكونات، باعتبارها روابط ضرورية. بمعنى الانطلاق من "الحقيقة الأبدية" للتحوّل والتغيّر ودمجها في الرؤية الاجتماعية والأخلاقية عن التقدم،. أي أنه أعطى للإصلاح بعدا ذاتيا، انطلاقا من أن التدرج في سلم التطور الاجتماعي والارتقاء الأخلاقي هو استمرار للنشوء الطبيعي، كما يقول الريحاني. من هنا تأكيده على أن "الخطر على تمدننا الكاذب هو من الداخل لا من الخارج"[32]. ووضع هذه الفكرة في نقده اللاذع للتقليد الأجوف. وأكد بهذا الصدد على الفرق بين ما اسماه بالإصلاح النهضوي والتقليد الأعمى. وعبر عن ذلك في أحد مواقفه من التقليد الأعمى للغرب في المدارس المعاصرة له. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن مدرسة مثل تلك التي أسسها البستاني في زمانه "لأصلح وانفع من هذه التي يتخرج الشبان فيا متفرنجين لا يعرفون لغتهم ولا تاريخ بلادهم، وقلما يحترمون غير الأجنبي"[33].
حددت هذه الرؤية موقف الريحاني من الإصلاح باعتباره اعتدالا. وكتب عن نفسه يقول، بأنه "إنسان يهمه من الحياة كل ما يفيد الإنسان في جسده وعقله وروحه. الماديات لا يحتقرها، والعقليات لا ينبذها، والروحانيات لا ينكرها. ولكنه رجل ولوع بالتوازن والاعتدال"[34]. وهو موقف حياتي استند إلى آرائه عن قيمة الاعتدال، بوصفه القدر الذي بلور أيضا شخصيته "التوليفية" المعتدلة (مقارنة بانطون فرح وشبلي شميل). من هنا استنتاجه الإصلاحي العميق عن أن "الأمة في مجموعها الراقي والترقي التام لا يكون إلا في التوازن بين قوى العقل والروح والجسد"[35]. ووضع هذه الفكرة في حكمه العام القائل "لو كانت الإنسانية مرنة في معقولها لأثر فيها الحكمة والاعتدال تأثير حسنا سريعا"[36]. من هنا موقفه المعارض لمن اسماهم بالمشعوذين من السياسيين، الذين وجد فيهم سبب وجود التشاؤم المفرط والتفاؤل المفرط في الموقف من التطور في الشرق بشكل عام والعالم العربي بشكل خاص[37]. (يتبع....).
ا. د. ميثم الجنابي
......................
[1] أمين الريحاني: وجوه شرقية وغربية، ص43.
[2]أمين الريحاني: النكبات، ص8.
[3] أمين الريحاني: وجود شرقية وغربية، ص18.
[4] أمين الريحاني: أدب وفن، ص7.
[5] أمين الريحاني: الريحانيات، ج1، ص91.
[6] المصدر السابق، ص92.
[7] المصدر السابق، ص103-104.
[8] المصدر السابق، ص16-17.
[9] المصدر السابق، ص266.
[10] أمين الريحاني: وجوه شرقية وغربية، ص103.
[11] المصدر السابق، ص119.
[12] أمين الريحاني: الريحانيات، ج1، ص179.
[13] أمين الريحاني: التطرف والإصلاح، ص29-30.
[14] أمين الريحاني: وجوه غربية وشرقية، ص15.
[15] المصدر السابق، ص59-61.
[16] أمين الريحاني: الريحانيات، ج1، ص185.
[17] المصدر السابق، ص240.
[18] أمين الريحاني: النكبات، ص16.
[19] أمين الريحاني: أدب وفن، ص88-89.
[20] المصدر السابق، ص70.
[21] المصدر السابق، ص55-57.
[22] أمين الريحاني: انتم الشعراء، ص90-92.
[23] أمين الريحاني: هتاف الأودية، ص9.
[24] أمين الريحاني: أدب وفن، ص7-10.
[25] أمين الريحاني: الريحانيات، ج1، ص148-150.
[26] المصدر السابق، ص48.
[27] أمين الريحاني: أدب وفن، ص50.
[28] المصدر السابق، ص43.
[29] المصدر السابق، ص21.
[30] أمين الريحاني: بذور الزارعين، ص37.
[31] أمين الريحاني: التطرف والإصلاح، ص29.
[32] أمين الريحاني: الريحانيات، ج1، ص93.
[33] المصدر السابق، ص171.
[34] المصدر السابق، ج2، ص11.
[35] المصدر السابق، ج2، ص11.
[36] أمين الريحاني: التطرف والإصلاح، ص23.
[37] أمين الريحاني الريحانيات، ج2، ص131.
مسائل أخلاقية.. اتجاهات معرفة الخطأ من الصحيح؟
- التفاصيل
- كتب بواسطة: حاتم حميد محسن
كلنا نعرف اشياءً عن الاخلاق، مثل ان حياة الانسان ثمينة وهامة، وان الناس لهم الحق في اتخاذ مساراتهم الخاصة في الحياة. اننا نعرف ايضا انه من غير الأخلاقي انتهاك تلك الحقوق وان علينا التزامات تجاه عوائلنا واصدقائنا والانسانية عموما. هذا النوع من المعرفة هو هام لكنه نوع عادي. السؤال هو ليس ما اذا كنا نمتلك او لم نمتلك تلك المعرفة، وانما السؤال هو أي نوع من المعرفة تلك.
التداخل بين الرياضيات والأخلاق
هناك اتجاه يرى ان المعرفة الأخلاقية هي ليست معرفة تجريبية عادية وانما هي معرفة تجريبية استثنائية. هذا الاتجاه يؤمن برؤية خاصة للرياضيات. وفق هذه الرؤية، كل من الرياضيات والاخلاق تستلزمان نوعا من الادراك الاستثنائي. افلاطون تأمّل في المعرفة الرياضية المتعلقة بالهندسة، معلّقا في مدخل اكاديميته شعار "لا يُسمح بالدخول لمن لايعرف الهندسة". تتعلق الهندسة بمفهوم المثلثات التامة. مدرّس مادة الهندسة في المدرسة الثانوية ربما هو افلاطونيا وفق هذه الطريقة. حين يرسم المدرس مثلثا على اللوحة، بالطبع، هذا ليس مثلث حقيقي، لأن له خطوط سميكة والخطوط ليست ذات استقامة تامة . ما نتحدث عنه هو المثلث المثالي الذي يمثّلهُ الشكل المرسوم على اللوحة". ولكن كيف نعرف عن ذلك المثلث التام المثالي اذا لم نتمكن من رسمه، واذا لم يوجد في أي مكان على الارض؟
نظرية افلاطون تقوم على اننا نرى المثلثات التامة وفق الصورة التي في أذهاننا. وفق هذا الاتجاه تكون المعرفة الرياضية، لمحة او تصوّر لعالم الأشكال الخالصة التي يوجد من ضمنها المثلث الخالص. طبقا لافلاطون، ان المعرفة الاخلاقية هي مشابهة لعالم المثلثات، انها تأتي ليس من خلال النظر الى العالم المادي، وانما عبر تصوّر شكل الخير في العالم الآخر، او عالم المُثل.
الاستماع الى الضمير – المعرفة الأخلاقية
وهناك رؤية اخرى مألوفة وهي فكرة اننا نعرف القيمة الأخلاقية للصح والخطأ عبر الاستماع الى صوت الضمير الموجود فينا. ان الصوت الهادئ في الداخل هو الذي يخبرنا ما اذا كان شيء ما صحيح ام خطأ. لكن المشكلة مع نظرية افلاطون هي انها تتأمل شكلا من التصور – تصور عالم الأشكال التامة – الذي ليس لدينا دليل عليه ابدا. لا أحد وجد ذاكرة تصوّرية مدفونة عميقا في الدماغ، وانه من غير الواضح كيف ستكون حتى عندما تكون موجودة فعلا . هذا التوضيح لا يشبه التوضيح العادي للنوع العادي للمعرفة. انه يشبه توضيح اسطوري يعتمد على نوع اسطوري للتفكير.
النظريات التي تؤكد على اننا نفهم الصح من الخطأ عبر الاستماع الى ضميرنا هي نظريات شائكة ايضا. المشكلة ليست عدم وجود واقعية سايكولوجية، لأنه في الموقف الافلاطوني، تبدو فكرة الصوت االداخلي الهادئ فعلا فيها نوع من الحقيقة السايكولوجية. المشكلة هي في محاولة الإعتقاد انه نوع من المرشد المعصوم من الخطأ.
في مغامرات Huckleberry Finn (1)، يستخدم توين (كاتب الرواية) الاضطراب الداخلي لهاك (القاص) حول قراره في الابلاغ عن الولد (جم) للشرطة، كطريقة في كشف افكار هامة حول الأخلاق والضمير.
لكن السؤال هو من أين يحصل الضمير على المعلومات حول ما هو الصحيح والخطأ؟ كيف نعرف ان الصوت الداخلي الهادئ يخبرنا الحقيقة حول الصح والخطأ؟ مارك توين يجادل ببراعة في مغامرات هاكليبري. ضمير هاك يخبره انه يجب ان يسلّم جم للشرطة. في النهاية، جيم هو عبد. ولذلك، هو يعود لشخص آخر. هاك يلوم نفسه لأنه ساعده ليصبح حرا. ضميره يخبره ان ذلك كان خطأ – عبر مساعدة جيم في التحرر، هو حرم الآنسة واتسون(مالكة العبد) من ملكيتها. ضمير هاك جعله يشعر بالانزعاج من ذلك.
ما نعرفه وما يثق به توين حول معرفتنا هو ان ضمير هاك ليس فطريا وليس معصوما من الخطأ. ذلك الصوت الهادئ في الداخل هو مجرد صدى لثقافته، منسجما مع نظام العبودية السائد في ذلك الزمان والمكان . في النهاية، هاك يتحدى ضميره ويقرر ان لا يسلّم جيم للشرطة.
هل الأخلاق شيء بديهي؟
هناك رؤية اخرى للمعرفة الاخلاقية مرتبطة برؤية مختلفة عن الرياضيات. بديهية اقليدس في الهندسة كُتبت عام 300 قبل الميلاد، وبعد وفاة افلاطون بخمسين سنة، اصبحت نموذجا لما يجب ان تكون عليه المعرفة لما يقارب 2000 سنة. ولكن لدى اقليدس، ليس كل سؤال رياضي يُجاب عليه بتوجيه الذهن نحو الداخل، والبحث عن الأشكال، كما فعل افلاطون. في هندسة اقليدس، انت تبدأ بعدد محدود من المبادئ الاساسية التي تؤخذ كمسلمات. ثم تستنتج اشياءً اخرى من تلك المبادئ عبر خطوات صغيرة ذات صلاحية بديهية. انت تستطيع في هذه الطريقة اكتشاف اشياءً مدهشة، وكذلك كل الحقائق المدهشة للهندسة. النتائج ربما تكون مدهشة لكنها تسير عبر خطوات بديهية من مبادئك البديهية. فهل المعرفة الاخلاقية تشبه ذلك؟
توماس جيفرسون مؤلف إعلان الاستقلال، يقول، "نحن نأخذ هذه الحقائق كمسلمات، ان كل الناس خُلقوا متساوين، وهم مُنحوا من جانب خالقهم حقوق معينة غير قابلة للتصرف، من بينها الحياة، الحرية، البحث عن السعادة. جيفرسون يصوغ بيان الاستقلال كما لو انه يضع مسلمات بديهية ويستنتج منها ان المستوطنات لها الحق في التحرر والاستقلال. انها لاتزال رؤية تصورية للاخلاق، تتطلب نوعا من العين الداخلية المنسجمة مع الكون الاخلاقي.
لسوء الحظ، مختلف الناس ربما يدّعون ان مختلف الحقائق هي بديهية. جورج الثالث لم يعتقد ان المستعمرات يجب ان تتحرر من الانجليز انطلاقا من حقائق بديهية. حقائقه البديهية كانت شيئا ما مختلفا، هي كانت عقائد تشبه الحق الديني للملوك. مختلف الناس يبدو يأخذون اشياءً مختلفة جدا لتكون بديهية، وذلك يجعلنا مرة اخرى نشك في بديهية الأخلاق كطريقة للتصور الداخلي المعصوم من الخطأ . اذا كانت المعرفة الاخلاقية ليست نوعا من التصور التجريبي في العالم، المشابه للمعرفة العلمية، واذا كانت لا تستلزم نوعا من التصور الداخلي لأي من هذه النماذج الرياضية، فما نوع المعرفة اذاً؟
لكي نعالج هذا السؤال نرى ان جزءاً كبيرا من السؤال هو خاطيء. لا المعرفة العلمية ولا المعرفة الرياضية هي حقا ما نميل لوصفهما. عندما يكون لدينا تقدير أفضل لشكل الانواع الاخرى للمعرفة، فان المعرفة الاخلاقية ستبدو تشبه تلك الانواع الاخرى للمعرفة. المعرفة الاخلاقية هي أقل اختلافا وغرابة .
خلاصة
الاخلاق تُعرّف كقواعد للسلوك كما وُضعت وجرى اتّباعها من جانب الناس. هناك ثلاثة انواع من الاخلاق: الاخلاق المعيارية (قواعد تحكم السلوك)، وما بعد الاخلاق metaethics (دراسة الاخلاق ذاتها)، والاخلاق التطبيقية (استخدام عملي للاخلاق في المهن والحياة اليومية). من الأمثلة على الاخلاق، سلوك العاملين ضمن شركة او جماعة. كذلك تتضمن الاخلاق الوصايا العشر او المُثل الاساسية لقوانين مسؤولية التقصير في الادارات المحلية والبلديات. هناك اربعة مبادئ اساسية للاخلاق وهي عدم الايذاء والعدالة والإحسان وإحترام الاستقلالية.
حاتم حميد محسن
....................
الهوامش
(1) مغامرات (هاكليبري فن) هي رواية كتبها مارك توين، تتحدث عن هروب فتى من العبودية عبر عبور نهر المسسبي. الكتاب الذي نُشر عام 1885 يكشف عن المواجهات المدمرة للعبودية والعنصرية. هو يبقى احد أهم الكتب في التاريخ الامريكي. يعرض هاك رؤيتين رئيسيتين للحرية في استكشاف اسئلة عن الحرية وثمنها، لو كان الفرد متحرر حقا. كل من هاك و جم يبحثان عن الحرية، مع انهما لديهما افكار مختلفة حول ما تعنيه الحرية. هاك، مثلا، يرغب جدا للتحرر من المجتمع المتحضر. هو يشعر بالاختناق من القيود المفروضة عبر الملابس الثقيلة التي يرتديها والتعليم الرسمي والحياة المدنية (العيش في منزل، والنوم في سرير)، بينما بالمقابل، جم يرغب جدا للتحرر من وضعه كعبد للانسة واتسون. وبالرغم من الاختلاف في الطبقة والخلفية العرقية، لكن هاك وجم كلاهما يواجهان تهديدا مباشرا يزيد من رغبتهما بالهروب.في القصة يقرر هاك الابلاغ عن جم للشرطة، ولكن بدلا من الذهاب الى المدينة للابلاغ ضد جم واراحة ضميره، يقوم هك بتقديم الحماية لجم عندما يدخل المدينة.
اسبينوزا: الجوهرفي وحدة الوجود
- التفاصيل
- كتب بواسطة: علي محمد اليوسف
مقالة حول الجوهر الفلسفي مهداة للاستاذ الفاضل العلامة علي القاسمي ارجو ان تنال اعجابه مع اسمى اعتباري.
الجوهر ضرورة لا تدرك
مثلما لا يمكننا إعتبار ما بعد اللغة هي ليست غير لغة أخرى تحمل مجانسة تواصلية منبثقة عن اللغة الأم، وكما لا يمكننا ايضا إعتبار مابعد الفلسفة هي ليست الا فلسفة أخرى إنبثقت عن الفلسفة الأم بالمجانسة اللغوية ايضا... لذا نجد غريبا من اسبينوزا أدخاله الجوهر في نفق ميتافيزيقا مذهب وحدة الوجود معتبرا الجوهر سابقا الوجود وليس ناتجا عنه، والجوهر لا يدرك ولا يحتاج تصور من أي نوع له. لا نجانب الصواب أبدا أن نصف تعبير اسبينوزا حول الجوهر هي مشابهات تعبيرات هيدجر حول العدم، بمعنى الحديث عن مواصفات شيء لا تدركه حسيا ولا تعرفه عقليا انه موجود. ولكن بدلالته الميتافيزيقية عند اسبينوزا ندرك الوجود كما سيتوضح معنا أكثر لاحقا.
جواهر الاشياء صفات الهية
يصف اسبينوزا الجوهر بهذه العبارة " الجوهر في الاشياء هو ما يوجد في ذاته، ويتصور بذاته، أي هو ما لا يحتاج تكوين تصور له، الى تصور شيء آخر، ولا يمكن للجوهر أن يكون الا واحدا"1، كما يعتبر اسبينوزا " الجوهر موجود بالضرورة، أي أن الوجود ينتمي الى طبيعة الجوهر، ومعنى الانتماء الى طبيعة الجوهر أنه ليس شيئا اكتسبه الجوهر من الخارج أي أن الجوهر ليس مخلوقا "2. "ويعتبر اسبينوزا الجوهر لا متناهيا كما أنه ازلي، بمعنى هو الوجود ذاته، ويجعل من الوجود مرادفا للحقيقة الازلية التي لا يمكن تصورها من خلال الزمان" 3
تعقيب
- كيف يكون الجوهر ماثلا في الاشياء ونفتقد كل تصور عنه وله؟ كيف يكون الجوهرمرادفا للوجود وهو غير قابل لإدراكه؟ ما هو المعيار التصوري الذي يجعلنا ندرك الجوهر حدسا بمواصفات ميتافيزيقية لا يمكن أدراكها عقليا، كما لا يمكن الاستدلال المعرفي بها على غيرها؟ اسبينوزا ادخل الجوهر نفق ميتافيزيقا وحدة الوجود ولم يخرجه منها، لأنه كما أدخل لاشيء يمكن إدراكه في مجانسة معه ميتافيزيقيا فهو أصبح لا يستطيع إستنباط أي شيء من لاشيء ميتافيزيقي ايضا. فهو أي سبينوزا لم يكتف بتعامله مع تجريد فلسفي وحسب بل تعامل مع تجريد ميتافيزيقي أشمل خارج مدركات العقل للوجود. كانط تجاوز هذا الاشكال العدمي الميتافيزيقي وقفله أمام الفلاسفة بمختصر عبارته، الجوهر هو الشيء بذاته خارج أدراك العقل له وكفى وكل مجهود يصرف من أجل ذلك هو عقيم غير مجد.
- الجوهر الكوني بمعنى أزلية الوجود لا ينطبق عليه القول أن ماهية الجوهر هو لا متناه ازلي، باستثناء إذا كان المقصود بأزلية الجوهر تتضمن ازلية الله كجوهر كامل لا يدرك. الذي هو جوهر تام شامل ليس مخلوقا ولا يحده الزمان والمكان الادراكي. بالرغم اننا نحدس بكل شيء ندركه في الطبيعة ومن حولنا لمسة جوهر إلهية معجزة فيه.
- الجوهر هو الذي لا نحتاج تكوين تصوره وهو عديم الحضور في تعينه الانطولوجي أو تعينه الادراكي المجرد. والله جوهر كامل لا يمكن إدراكنا عقليا له سوى في بعض من تلك التوزّعات الصفاتية الوجودية غير الجوهرية داخل موجودات الوجود التي ندركها بالصفات فقط للاستدلال عليه. ولا ندرك بالاشياء جواهرها الموجودة فيها بالضرورة الإلهية التي جعلت من عقل الانسان محكوما بمحدودية عدم أستطاعة إدراكه الجوهر بالاشياء ولا الجوهر في الكليّة الكونية. الوجود يفهم بدلالة الجوهرالكامل (الله) كما يحدس الجوهر صفاتيا في توزع تلك الصفات على موجودات الطبيعة بدلالة وجودها.
- الحقيقة الازلية التي يصفها اسبينوزا للجوهر هو ما لا يمكن تصوره من خلال الزمان، عليه يترتب حسب أجتهادنا أن الحقيقة الازلية لكل شيء يطاله الامتداد اللامتناهي غير المحدود، أنما هو المرادف لحقيقة معنى الزمان، وما لا يكتسب صفة الإحتواء الزمني الإدراكي له، لا وجود له خارج ازلية الزمن بأعتباره جوهر لا يمكن معرفته. الجوهر الكوني الازلي اللامتناهي أشمل من كونية وزمانية الزمن ذاته.
- يعتبر اسبينوزا" الجوهر موجود بالضرورة، أي أن الوجود ينتمي الى طبيعة الجوهر، ومعنى الانتماء الى طبيعة الجوهر أنه ليس شيئا أكتسبه الجوهر من الخارج أي أن الجوهر ليس مخلوقا"4. طبعا الجواهر بمفهوم اسبينوزا الميتافيزيقي هي صفات الهية لا ندركها مخلوقة بل ندركها موجودة موزعة بالاشياء في عالمنا الذي ندركه بصفات موجوداته وليس بصفات ماهياته الجوهرية المحتجبة عن الإدراك.
لا يمكننا التسليم بفرضية الوجود ليس شيئا في تبعيته طبيعة الجوهر الا من وجهة نظر ميتافيزيقية اشرنا لها في أعتماد مذهب وحدة الوجود، والوجود ليس شيئا أكتسبه الجوهر من الخارج وهو ليس مخلوقا، وهذا يضعنا أمام أختيارين أما أن يكون الجوهر حقيقة بدلالة الوجود الضروري له أن يكون، وأما أن يكون الوجود يستمد حقيقته بدلالة الجوهر وهو المفهوم الذي يعتمده اسبينوزا. لكن كيف لنا الجزم اليقيني أن الجوهر موجود بالضرورة، ونجهل كيف وجد، ولا من ماذا يتكون، ولا كيف ندركه بدلالة حضور انطولوجي لشيء أو حتى موضوعا مجردا على صعيد الفكر الخيالي. هنا يكون الجواب (الله).
لكن لو نحن حاكمنا كل هذه التساؤلات المار ذكرها بحقيقة أن الجوهر هو وحدة واحدة في تمام الكمال الالهي (الله) الذي يستوعب كل الوجود الانطولوجي لأصبح لدينا التسليم بحقيقة أن الوجود يعرف بدلالة الجوهر أكثر من مقبولة بل وضرورية ايضا، ولا يعرف الجوهر بدلالة الوجود.كون الجوهر لا تنطبق عليه المجانسة الصفاتية ولا المجانسة الماهوية مع موجودات الوجود الذي ندركه.
وهذا الاخير عندما نحاول معرفة الجوهر بدلالة الوجود خطأ دأبت عليه الفلسفة طويلا قبل مجيء اسبينوزا بمذهب وحدة الوجود ليس على الصعيد الصوفي الميتافيزيقي التديني وأنما على صعيد فلسفة المعرفة والفكر. وبذلك قلب المعادلة بأن الوجود المخلوق يعرف بدلالة الجوهر الاسبق منه.ولا يدرك الشيء بصفاته الا بدلالة جوهره المحتجب عن الادراك كونه ما فوق الادراك العقلي المحدود بكل شيء ويعلو الطبيعة بكل شيء..
لو نحن سمحنا لانفسنا مضطرين أن نخرج من عوالم التفسير المنطقي المادي في المعرفة ونتماهى مع مفهوم اسبينوزا الجوهر بمنظارميتافيزيقا وحدة الوجود، فأننا لا محالة واصلين الى الحقيقة التي ارادها اسبينوزا أن مبتدا كل شيء في الله ومنتهى كل شيء به من دون حاجتنا الادراكية العقلية الحدسية لتلك البديهة الميتافيزيقية.. واذا نحن سلمنا بمنطق وحدة الوجود الميتافيزيقي الصوفي، يكون توضّح الامر معنا في فهم الجوهر تماما، عندما نؤمن مع اسبينوزا أن كل شيء موجود في الله كمدرك بصفته، ولا يمكننا ادراك الله كجوهر الا بصفات اشيائه الوجودية المدركة فقط ولا بصفات جواهره غير المدركة بعقولنا ايضا..
اسبينوزا يؤمن أن الجوهر صفة من صفات الله لا يمكن أدراكها موزعة موجودة في كل شيء، وتستمد ازليتها خارج الاحتواء الزماني المكاني لها، لكن بنفس الوقت هي جزء من الطبيعة المخلوقة التي يكون لا معنى للجوهر فيها الا بدلالة الذي أوجد موجودات الطبيعة الذي هو الجوهر الاشمل اللانهائي اللامحدود. جواهر الاشياء في الوقت الذي نحدس موجوديتها بالاشياء لا تكون كافية لمعرفة الجوهر التام الكامل المحيط بكل شيء الذي هو (الله).
الجوهر في موجودات الطبيعة بالمعنى الاسبينوزي هو أحدى صفات الذات الالهية التي يتعذر علينا أدراكها فكيف بادراك خالقها. والجوهر الذي لا يدرك هو الذي يمكننا ربط ادراكاتنا التي هي في حقيقتها جواهر الهية موزعة في الوجود بما لا حصر لها، وموجودة (قبليا) بقدرة الهية لا نستطيع معرفتها ولا كيفية أن تكون الجواهر جزء ملازم موجود بالضرورة في كل شيء ندركه بمعزل عن عدم ادراكنا الجوهر فيه لأن الجوهر ماهية الهية دالة في الموجودات كافة لا يمكننا ادراكها. الجوهر الالهي يعلو مجانستنا العقلية الادراكية له.
جواهر الاشياء حسب الفهم الاسبينوزي في وحدة الوجود تمتلك ازلية غير مكتسبة من خارجها، والجوهر هو وجود غير مدرك خارج قالبي الزمان والمكان الادراكيين اللذين يحكمان الطبيعة والانسان كما شرح ذلك كانط. في محاولته الابتعاد عن ميتافيزيقا اسبينوزا في وحدة الوجود الذي كرّس عدم امكانية ادراك الجوهر الالهي بالعقل المحدود الذي يدرك كل شيء متاح ادراكه له بمعرفة صفاته فقط لا اكثر. أما الجوهر فهو علة الوجود في خلقه، ولا توجد علة في سبب وجوده.
لذا الجوهر واحد حسب مذهب وحدة الوجود عند اسبينوزا لا يمكننا تجزئته كونه جوهرا مجزءا موزعا في الطبيعة والكوني كصفات، ويمكننا معرفة كل موجود بدلالة جوهره غير المخلوق كما تخلق الموجودات المادية، كون الجوهر لاماديا بل هو صفة من صفات الكمال الالهي الذي لا يدركه العقل بغير دلالة موجوداته.
الله الجوهر المثال
يتجلى مفهوم الجوهر المثال الكامل في الله حين يصفه اسبينوزا بالتالي:
- الجوهر هو حقيقة الكون ولا يعني هذا برأيه أن الجوهر هو مادة الشيء أو عنصر من مكوناته، لكنه الحقيقة التي وراء كل شيء. الجوهر لا يكون الا واحدا، والاصح لا وجود لجوهر الا واحدا ولا يخرج عنه شيء.5
- الجوهر ازلي لامتناهي، والازلية هي الوجود ذاته المرادف للحقيقة، والازلية يتعذر علينا تصورها من خلال فكرة المدة، أو الاستمرار أو الزمان. والجوهر موجود بالضرورة،أي أن الوجود ينتمي الى طبيعة الجوهر، والوجود ليس شيئا اكتسبه الجوهر من الخارج، أي أن الجوهر ليس مخلوقا.6
- على حد تعبير اسبينوزا الله بوصفه جوهرا لامتناهيا ذا صفات الهية، والصفة هي الشيء المكوّن لماهيته. والعقل ينتقل من الطبيعة الطابعة الى الطبيعة المطبوعة، أي من الله في ذاته، الى الخلق مع عدم التمييز بين الله والخلق. وحين يوضح اسبينوزا توحيده بين الله والطبيعة قائلا: لم اعمد الى تصغيرشأن الله بانزاله الى مرتبة الطبيعة، بل عمدت رفع الطبيعة الى مستوى الله.7
- الحقيقة عالم واحد هو الطبيعة والله في وقت واحد، وليس في هذا العالم مكانا لما فوق الطبيعة. والواقع أن الله والطبيعة متطابقان، اذا تصورنا أن كلا منهما منفردا هو الكائن الكامل الذي أوجد نفسه بنفسه.8
علي محمد اليوسف /الموصل
..................................
الهوامش:
1- د امل مبروك، الفلسفة الحديثة ص98، 2،3،4،5،6، ص98
7. ص 99، 8 ص 99
ماذا يعني أن يمارس عالم الدين الموسيقى؟
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عادل بن خليفة بِالكَحْلة
مقابلة مع السيد حسين علي الحسيني
مقدّمة: في السياق التشيعي اللبناني، نلاحظ أن عبّاس الموسوي، كوَّن الفرقة الموسيقية للمقاومة، ضِمْن مؤسّساتها الأُولى زمنا، وكان شراء آلاتها الموسيقيّة من ماله الخاص. وكان محمد حسين فضل الله، مُدَافعًا عن حق مرسال خليفة في تلحين آية من سورة يوسف، عكس علماء دين سنيين أدانوه.
فالموقف الفقهي الشيعي من الموسيقى (والممارسة الفنية عمومًا) إمّا محلّل، أو مرجئ للأمر إلى تقدير المكلّف، أو صامِت، على عكس الموقف السني الغالب الذي هو التحريم والشيطنة .
يقول المجتهد سيد علي الحسيني: «إن جميع الحناجر الإنشادية تُخرج أنغاما تنطبق على هذه الأجهزة (الإيقاعات) الإثنتي عشر. فهذه ليست محرمة، إذ أن الموسيقى ليست سوى هذه الأنغام والإيقاعات والأدوار. وعليه ليست محرّمة إلا إذا داخلها شيء محرَّم» . والعمل الفني لديه مرتبط بالاستقلال الذاتي لمبدعه، إذ «الفنان لوَحْدِهِ عالَمٌ» . ولذلك ينبغي أن لا تكون الرسالة الفنية –في نظره- نَمطيّة، فَجَّة الوعظ، بل يجب أن تَتَحمل الفرادة المنفتحة على الناس والحياة و«هموم الناس البسطاء» .
كان عالِم الدين، السيد حسين علي الحسيني، قد شغل كثيرًا من الناس، بعزفه على آلات موسيقيّة، بالأنترنت، فأيده ناسٌ واحتجَّ عليه الشق الإخباري مِن علماء الدين الشيعة. لقد التزم هذا الشق الصمت على السيد حسين علي الحسيني عندما كان يمارس الموسيقى في صمت دون إعلان للعموم(ويشاركه في ذلك عالما دين شيعيان لبنانيان إثنان بالأقل).
إنها لحظة تاريخية أن يكون عالم الدين الشيعي فارابيا وسينويا معترفا بالموسيقى ممارسة مثلما اعترف بها نظريا. ومن العيب أن لا يكون عالم الدين داوديا تؤوب معه الجبال والطير. بل من العيب أن ينفصل الحقل الديني عن الحقل الفني وقد كانا حقلا واحدا منذ بداية الإنسان، قبل أن بنفصلا في الغرب الحديث. فمن هذه الناحية تعتبر لحظة السيد حسين علي الحسيني انخراطا في التاريخانية الابستيمية الشيعية_السينوية.
فهل كان السيد حسين علي الحسيني، داخل السياق العرفاني-التشيعي التاريخي ام خارجه؟
نص المقابلة:
1- هل كان للأب والأم ميول نحو الموسيقى؟ فيم تتمثل؟
- كلاهما يحبان الموسيقى، ولكن الأب كان ذوَّاقا وشديد التأثر بها.
2- هل كان من أقاربكم من مارس العزف على آلات موسيقيّة؟
- لا
3- هل كان بمدرستكم اهتمام بالموسيقى؟
- لا
4- ما هي ميولكم الموسيقيّة الأولى في الطّفولة؟
- تعلّمت أوّلا في فرقة موسيقيّة إسلاميّة على آلة الأُرْغُنْ، وحينما التفت أحد الأساتذة لتميّزي تعهّد بتدريسي على البيانو، فبقيت أتردّد إليه سَنَةً متعلّما السنفونياتِ ذاتَ الصّعوبة. ثم عزفت في الفرقة الموسيقيّة لكشّافة الإمام المهدي التّابعة للمقاومة، فعزفت على آلة الكلارينت، والكليرون، والسكسوفون.
والتحقت بمعهد موسيقي متعلم على آلة الكمان. وحينما صرت متمكّنا من كلّ الآلات المتقدّمة، تعلمت وحدي على العود والغيتار والنّاي. كلّ ذلك حصل من سن الرّابعة عشرة إلى العشرين.
5- ما هي المراجع الدّينيّة التي قرأتها لجعل توجّهكم نحو الموسيقى شرعيّا؟
- أكثر المراجع يجيزون الموسيقى غير اللهويّة كالسّنفونيات والموسيقى الهادئة والعسكريّة، وعلى رأسهم السيّد السيستاني والخامنئيّ.
6- هل وجدتم صدّا في العائلة، في القرية التي نشأتم فيها، في المدرسة الدّينيّة، عن ممارسة العزف والتّلحين؟ فيم يتمثّل؟
- بعض المشايخ كان لهم رأي معارض ولكنّه لم يستوقفني.
7- عندما دخلتم الحوزة، هل وجدتم بين زملائكم من لهم بينكم حلف ثقافي؟
- هناك من المشايخ من يحبّ الموسيقى بل يمارسها ولكن سرّا، ولا يتمكّن من البوح بها كما فعلت. لذلك من الواضح أن المؤسّسة الدّينيّة لا زالت لا تتقبّل مشهديّة عزف عالم دين للموسيقى وإن كان حلالا. وهذا يعود للصورة النّمطيّة التي أرادوها لعالم الدّين ليميّزوه عن عامّة النّاس. وهذا ما رفضته، لأنّي أرى أن عالِم الدّين ينبغي أن يكون رساليّا في كلّ شيء، وأن لا يتعامل مع النّاس بازدواجيّة، ولا يجعل لنفسه هالة قدسية تميّزه عن النّاس.
8- متى لحّنتم أوّل مرّة؟ لمن قدّمتم اللّحن؟
- لحّنت في سنّ المراهقة كثيرا، ولكن لم يخرج لحن للعلن إلاّ قصيدة واحدة كتبتها ولحّنتها باسم: «علّمني الموت حياة العزّ»، وهي موجودة على اليوتيوب، إلاّ أنّ مشاركتي كانت معظمها بكتابة الشّعر.
9- من لحّن أشعاركم؟
- فرقة الإسراء الإسلاميّة، وهي تابعة للمقاومة.
10- ما موقف قيادة المقاومة ومرجعكم الفقهي من عزف عالم الدّين؟
- قيادة المقاومة لم تتكلّم لا سلبا ولا إيجابا، وكذلك المرجعيّة.
11- ما موقع داود (النبي العازف) وجلال الدين الرومي (العازف) مِنْ مخيالكم الفنّي؟
- لم أتّخذهما قدوة، وزنما تصرفت بشكل فطريّ وإنسانيّة مطلقة، إذ رأيت أنّ الذي خلق أصوات الطّبيعة الغنّاء لا يكره صوت الموسيقى بأبعاده وتأثيراته على النّفس البشريّة. وهذا من بدهيات اليوم بعدما أصبح العلاج بالموسيقى أمرا علميّا لا ينكره إلاّ الغافل عن تطوّر حركة الإنسانيّة.
12- هل حاولتم تحسين علمكم الموسيقي؟ كيف؟
- أنا لم أحترف الموسيقى، ولم يكن ذلك هدفا لي، لأنّي كنت منكبّا بشكل كامل على دراستي الحوزويّة، ولكن كنت دائما أتمرّن على معزوفات جديدة.
13- هل تحضرون حفلات الرّحابنة ومهرجانات بعلبك؟
- لم يحصل ذلك، ولكن لا إشكال في حضور حفلاتهم الموسيقيّة.
14- هل تستعدون لمشروع طويل المدى في الإبداع الموسيقي؟
- لا، لأنّ هدفي من المشهديّة التي أبرزتُها هو إلقاء الضّوء على عالم الدّين باعتباره إنسانًا عاديًّا يحقّ له ممارسة هواياته، وإنسان راق رافض للبدواة وسالك سكّة التحضّر.
15- ماذا تعرف عن تراث الضّيعة الموسيقي؟
- لا أعلم.
16- هل هناك علماء دين في المشرق الإسلامي (غير العربي) ممارسون للموسيقى؟
- لا أعلم.
17- من هم الرّافضون بالضّبط لظهوركم وأنتم تعرفون؟ هل كانت مُرَادَّتُهُم أخلاقيّة؟
- ذكرتُ أنّهم بعض المشايخ أو الكثيرون منهم. والكثير منهم كانت مُرَادَّتُهُم مؤذية. ولكنّي لم أَعْبأ بكلّ تصرّفاتهم وأقوالهم، لأنّي مؤمن ومقتنع بما فعلت.
18- هل وجدتم حماية وتعاطفا من بعض زملائكم في هذا الإمتحان؟
- نعم، لدى القلّة فقط.
19- ما رأيكم في الإنتاج الموسيقي «الإسلامي»؟
- ضعيف جدّا، وينبغي وضع ميزانيّة لهذا الموضوع، خصوصا بعدما صدر من السيّد الخامئني كلمة واضحة الدّلالة مصوّرة، حيث قال: «قد تفعل الموسيقى ما لا يفعله الكتاب، وقد يفعل البُوسْتِر ما لا تفعله المقالة».
استنتاجات أوّليّة:
1- نلاحظ أن الحضور الموسيقي للسيد حسين علي الحسيني لا يتجاوز المرحلة الموسيقيّة الأولى في تنظير محيي الدين بن عربي لتطور الممارسة الموسيقيّة. فهو ضمن مرحلة «الموسيقى الطبيعية»، مُسْتجيبًا للحالة السّماعية الأولى (الإجابة عدد 11).
2- لم نجد لدى السيد حسين علي الحسيني هفوًّا للمرحلة الموسيقيّة الثانية في تنظير ابن عربي: مرحلة «السماع الروحاني»، حيث الإصرار الإبداعي بالالتزام الأنطولوجي الكادح. فلم نجده إلاّ مصرّا على المَشهديّة، أي «إلقاء الضوء على عالم الدين باعتباره إنسانًا عاديًّا»، وعلى الحقوق الأنَوِيَّة، إذ أن عالم الدين «يحق له ممارسة هواياته»، فلا يعنيه تراث «الضيعة» ولا أوضاع «الناس البسطاء»، فلا علاقة له بأنطولوجيا الفن عند ابن عربي والمجتهد سيّد علي الحسيني.
فهو عادة ما يكرّر إبداع الآخرين، مع ألحان ذاتية قليلة لا تحمل بحثا معمّقا في الموسيقى، ولا يحمل تموقعا ضمن أنطولوجيا الموسيقى الداودية وأنطولوجيا الفن لدى جلال الدين الرومي.
3- صَمت جل النسيج الحوزوي على ممارسة عالِم الدين فضل مْخدَّر التشكيليّة (وإن لم يتجاوز مرحلة الفن «الطبيعي» كثيرًا)، فلم يحْتَفِ به ذلك النسيج، إمّا لإخباريّةٍ متماهية بالموقف السّلفي-السني المرتاب من الفن، أو لتقيَّة مِن النسيج العُلَمَائي السني الذي قد يَصِمُ الحوزةَ بالبدعة الفنية (موسيقى، سينما، مسرح، رسم، نحت...)، فمحمد قُطب في منهج الفن الإسلامي يُقْصي الفنون من الحِلّية.
وإجمالاً مازالت الثقافة الحوزية ثقافة غير خلاّقة غير متفهمة للممارسة الفنية، نظرا للأغلال غير الواعية للمدرسة الإخبارية المسيطرة عليها لاشعوريًّا. وقد كان صوت الموسيقىَ أعلى من صوت اللوحة، ولذلك كان الغضب على السيد حسين علي الحسيني عاليا، وكان الموقف من الممارسة التشكيلية للشيخ فضل مخدّر هو الصمت.
إنّ المدرسة التّشَيعية – التي انتمى إليها ابن سينا والفارابي، فأنتجَتْ لدَيْهما فلسفة موسيقى وفلسفة فن، ضروريّان لمدينتهما،- مازالت دون تلك الفلسفة اليوم، تنظيرًا حديثًا وممارَسَةً، رغم الإمكانيات الثورية الضخمة فيها.
د. عادل بن خليفة بالكَحْلَة
(باحث أنثروبولوجي، تونس)
التخصُّص العقيم في العلوم الإنسانيَّة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. عبد الله الفيفي
قيل: نهض (الحارث بن حَوطٍ اللَّيثي) إلى (عليِّ بن أبي طالب)، وهو على المنبر، فقال: "أ تظُنُّ أنَّا نظُنُّ أنَّ (طلحة) و(الزُّبير) كانا على ضَلال؟" قال: "يا حَارِ، إنَّه ملبوسٌ عليكَ، إنَّ الحقَّ لا يُعرَفَ بالرِّجال، فاعرفْ الحقَّ تَعرِفْ أهلَه!" وتلكم معضلةٌ ثقافيَّةٌ، قديمةٌ حديثة. ذلك أن العقليَّة الشعبيَّة- وإنْ اختلفت الثقافات، وتعدَّدت السياقات، وتباينت ألوان الخطاب- هي عقليَّة عدم معرفة الحقِّ إلَّا بالرِّجال، لا معرفة الرِّجال بالحق. وما تنهض أُمَّةٌ هذا شأنها وتلك غايتها: الدوران ثمَّ الدوران حول فُلان وفُلان. بل إنَّ أُمَّةً هذا منهاجها هي أَلَدُّ أعداء نفسها، وأَبَرُّ ناصري خصومها. وهي، قبل غيرها، تُشوِّه وجهها، وتضع العثرات في سبيل مستقبلها، مدافِعةً عن كائديها، بنحوٍ مباشرٍ أو غير مباشر، سانَّةً السيوفَ بأيديها كي تضعها بأيدي قاتليها. قال صاحبي:
- بل إنَّك لتجد هذا- لدَى العُربان خاصَّة- حتى في مجال العلوم الإنسانيَّة!
- نعم.. ثمَّ خَلَفَ من بعد التبابعة التقليديِّين خَلْفٌ أرادوا احتكار العلوم باسم التخصُّص، جاعلين علوم العربيَّة أحماءً، سُنَّةَ جدِّهم (كُلَيب بن ربيعة).
- ما العلاقة؟
- يُروَى أن كُليبًا بلغ من تغطرس بَغْيِه أنَّه رمَى ناقة (البسوس) لمَّا دخلتْ حِماه من دون إذنه؛ ولأنها خرَّبت عُشَّ (قُبَّرَةٍ) كانت في الحِمَى قد عَشَّشت وباضت.
- رفقًا بالحيوان!
- بل رفقًا بحيوانيَّة الإنسان! فأصحابنا- أدعياء التخصُّص هؤلاء- هم ككُلَيبٍ هذا، يدافعون عن عُشِّ قُبَّراتهم. إيَّاك أن تقترب من حِماهم، أو تنتهك ذِمارهم! يحسبون كلَّ صيحةٍ عليهم! محرِّمين على الناس، من غير أصحاب "الحِمَى"- أو قُل: "كار" الصنعة- الخوضَ في تخصُّصهم، ولو بإبداء الرأي أو تسجيل الملحوظات والتساؤلات. وما بهم من ذلك من شيءٍ، وإنَّما غايتهم قمع المنتقدين، متَّخذين حُجَّة "التخصُّص" العقيم في الدراسات الإنسانيَّة حُجَّةً واهيةً للحفاظ على سلطانهم. ولكي يخلو لهم جَوُّ قُبَّرة (كُلَيب)، التي قال عنها، متمثِّلًا شِعر (طَرَفَة بن العبد):
خَلا لَكِ الجَوُّ فبِيْضِي واصفِري ... ونَقِّري ما شِئتِ أَن تُنَقِّري
- أ لا تؤمن بالتخصُّص؟
- كلَّا لا أؤمن به كلَّ الإيمان في العلوم الإنسانيَّة، إيماني به في العلوم الطبيعيَّة. اللغة، على سبيل النموذج، شأنٌ عامٌّ، (من البَيض والصَّفر والتَّنقير)، وليست بتخصُّصٍ احتكاريٍّ للقُبَّرات اللغويَّة. وهي تَهُمُّ جميع الناطقين، وإنْ لم يكونوا من أبنائها، فضلًا عن الباحثين في مجالاتها. والمتشدِّدون في هذا الحقل إنَّما يردِّدون منطق القُبَّرة الجاهليَّة، رغم آناف علوم اللغة، العامَّة، والتاريخيَّة، والتقابليَّة، والمقارنة، وعلى الرغم من أنَّ الحدود الفاصلة بين العلوم الإنسانيَّة عمومًا ليست بصرامة تلك الحدود بين العلوم البحتة أصلًا. ولم يأخذ بهذا التقوقع المعرفيِّ عقلٌ رشيد، لا في الماضي ولا في الحاضر، لا عند العَرَب ولا عند غيرهم، منذ (الخليل بن أحمد الفراهيدي)- الشاعر، الموسيقيِّ، الرياضيِّ، اللغويِّ، المعجميِّ، النحويِّ، العَروضيِّ- إلى (نعوم تشومسكي)، بنحوه التوليديِّ التحويليِّ، في اللغة ثمَّ في التاريخ والفكر والسياسة.
- لماذا؟
- لماذا؟ لأن الأخذ بـ(أُكذوبة التخصُّص) هاهنا يعني العُقم في الباحث والموت في مادَّة بحثه. بَيْدَ أنَّ الأمر بأَخَرَةٍ لم يعد عِلْمًا، لدَى جماعة (القُبَّرة) المتخصِّصين، بمقدار ما أصبح وظيفةً خاصَّة وارتزاقًا عامًّا. وعندئذٍ لا غرابة أن يدافع كلٌّ عن باب رزقه، وإنْ كان بابًا من أبواب السِّحر والشعوذة، تحت عنوان "شمس المعارف"، ولا أن يَذُبَّ عن حانوته في سوق النِّخاسة المعرفيَّة، وإنْ لم يَعُد له في سوق الحاضر مِن سوق.
- كفانا الله شرَّك!
- بل كفانا الله شرَّ (كُلَيب بن التخصُّص)، في علوم اللغة والنحو والآداب والفنون. لا نعني بذلك الفوضى، أو أن يهرف المرء بما لا يعرف. فهذا شيءٌ، وحكاية محتكري هذه العلوم، بدعوى التخصُّص- حيلولةً دون انتقاد أحبارهم ورهبانهم- شيءٌ آخر. إنَّ اللغة العربيَّة وآدابها تُحوَّل اليوم إلى أحماء، حتى يكاد أحد الكُلَيْبيِّين يتخصَّص في حرفٍ واحد من حروف الجَرِّ، لا يعرف سواه، ينال فيه شهادة الماجستير والدكتوراه، وينفق عُمره وهو يجترُّه صباحًا ومساءً.
- ما العيب في ذلك؟ هذا حريٌّ أن يجعله حُجَّةً في هذا التخصُّص الدقيق.
- العيب عيبان: أن لا يعرف إلَّا تِلْمَهُ الذي هو فيه منذ كان، يُبدئ فيه ويُعيد، لا يهتمُّ بغيره، ولا يبحث. وهذا يجعله غير منتجٍ حتى في ما يعتقد أنَّه تخصُّصه؛ لأنَّ العلوم الإنسانيَّة متواشجة، أوعيتها كالأواني المستطرقة، وليست كالعلوم التي تبحث في الماديَّات، بحيث يمكن أن ينفصل بعضها عن بعض. والعيب الآخَر أن يعتقد صاحبنا أنَّ ما يسمِّيه تخصُّصه تخصُّصٌ بالفعل، صُلْبُ الجدران؛ فإذا هو يتغنَّى به، ويحظر على غيره زيارته، عادًّا ذلك تطفُّلًا على تخصُّصٍ له أهله، وعُدوانًا على قُبَّرة (كُلَيب بن التخصُّص).
- وفي "أهله" هذه مربط الفرس!
- بالضبط. فمعظم هؤلاء المتعصِّبين، المتدرِّعين بدِرع "التخصُّص"، هم في الواقع من أرباب "التشخُّص"، لا التخصُّص.
- ماذا تقصد؟
- هم يدافعون عن أشخاصهم، ووظائفهم، وعن أشخاص أشياخهم، وأسلافهم، الذين يرونهم فوق النقد أو الاستدراك أو المساءلة. فهم أبعد ما يكنون عن العِلم، والموضوعيَّة، والخدمة الحقيقيَّة للحقل الذي ينسبون أنفسهم إليه. جُلُّ ما تجدهم يُحسِنون: الطَّوافُ حول إمامهم فلان، والسعي بين صَفا علَّامتهم فلتان ومَرْوَته.
- وأولئك هم الأحفاد الثقافيُّون لجَدِّهم، الشاهر لسانه بالقول: "كذَّاب ربيعة أحبُّ إلينا من صادق مُضَر!"
أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي
الخلفاء والجنس!!
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. صادق السامرائي
المدوَّن في كتب التأريخ أن الخلفاء كالثيران الهائجة المنفلتة التي تمارس الجنس عدة مرات في اليوم، أو كالأكباش التي همّها أن تركب أناث القطيع.
ويتم تصوير قصور الخلافة على أنها جنان تزدحم بالجواري، ومن واجب الخليفة أن يضاجعهن، فهو حُر الشهوات ومطلوقها، والبعض يورد أن الخليفة الفلاني لديه ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف جارية وقد مارس الجنس معهن، بل ما إكتفى وإنما لديه عدد من الغلمان الذين يطفئون شهواته الجنسية المتأججة!!
وهذا المدوَّن لا يتوافق وطبيعة السلوك البشري نفسيا وفسيولوجيا، فلو إفترضنا أن الخليفة في عمر ما بين (18- 29)، فأنه وحسب أكثر الدراسات والبحوث يمكنه أن يمارس الجنس (112) مرة في السنة، أما إذا كان عمره ما بين (30 - 39) فيمكنه أن يمارس الجنس (86) مرة في السنة، وبين (40 - 49)، يمارسه (69) مرة في السنة.
ومعظم الخلفاء لم يعيشوا أكثر من (50) سنة.
ولو إفترضنا أن هذه الدراسات والبحوث خاطئة ولا تنطبق على زمانهم، وضاعفنا عدد مرات الممارسة الجنسية، فأن قدراتهم الفسيلوجية لا تتوافق مع ذلك، حتى ولو كانوا في تمام الصحة والعافية، بينما معظم الخلفاء يعانون من أمراض مزمنة ووراثية قاسية، ويتناولون الخمر ويسرفون بالطعام، ومصابون بالسمنة المفرطة ومضاعفاتها.
ولو أخذنا الخليفة المتوكل مثلا، تولى الخلافة في عمر (25) أي يمكنه ممارسة الجنس (112) مرة بالسنة، وإذا ضاعفنا العدد فسيكون (224) مرة في السنة، وإن شئتم يمارسه كل يوم أي (365 - 366) مرة في السنة، بشرط أن لا يمرض ولا يكون في مهمة خارج القصر، وكل يوم يمضي وقته مسترخيا لتجهيز نفسه لليلة حمراء لاهبة.
وحكمَ (232 - 247) أي (15 - 16) سنة.
16 في 112 = 1792
16 في 224= 3584
16 في 366= 5856
يقولون كان لديه (3000 - 4000) جارية وقد واقعهن أثناء فترة حكمه!!
وبدأ نشاطه الجنسي في سن الرابعة عشر، أو عندما بلغ الحلم، وأنجب (المنتصر بالله) من جارية في عمر (15)، ولديه من الأبناء والبنات أقل من (10)، ولو صحت هذه الفرضية بأنه قد مارس الجنس مع هذا العدد من الجواري، فلا بد أن تحمل منه على الأقل (50) جارية، لكن هذا لم يحصل.
هل كان المتوكل ثورا هائجا؟
هل كان مصابا بداء الهوس؟
هل تصح في الأفهام هذه الروايات أو الإفتراءات؟
وهل الخليفة لا هم لديه سوى الجنس؟!!
فسيولوجيا ونفسيا لا تصح هذه الأرقام، لو فعلها لما إستطاع أن يؤدي عمله، ولخارت قواه وضعفت قدراته الأخرى، وربما لمات.
هل الخليفة حيوان أم إنسان؟
وهل هو ماكنة حديدية لا تصدأ، أم بشر من دم ولحم؟
وهل هو لا يمرض أبدا، ولا يتوكع يوما؟!!
يبدو أن الكثير مما يدوَّن ينطلق من مبالغات وتسويق أكاذيب، وتصورات وخيالات بعيدة عن واقع الحياة، فنحن نتكلم عن خليفة يدير دولة شاسعة الأطراف معقدة التفاعلات، وقد أنجز ما أنجز وفعل ما فعل.
إذا أخذنا بنظر الإعتبار أمراضهم المزمنة، وإسرافهم بالطعام والشراب وفرط سمنتهم، وتعرضهم لضغوطات نفسية هائلة، وقتلهم للناس، فهم يمارسون لعبة النطع والسيف عدة مرات في الأسبوع، وأكثرهم مصاب بداء السكر، وبالأمراض الزهرية، فلا يمكن القبول بأن هكذا ممارسات جنسية لا تتسبب بأمراض (كالسيلان والسفلس وغيرها).
وحياتهم ليست آمنة مستقرة، بل محفوفة بالقلق والشكوك والخوف من الذين حولهم، فهذه الأرقام غير معقولة، ولا يقدر عليها أصح الأصحاء من الشباب، لا نفسيا ولا بدنيا.
فالخلفاء لم يعيشوا حياة مخملية كما تصورها لنا كتب التأريخ، فحياة أي واحدٍ منا في هذا العصر أفضل من حياتهم بكثير، فحياة معظمهم عبارة عن مآسي ونكبات، وتوترات نفسية، وشدائد إنفعالية خطيرة، وسفك دماء، وقتل مروع لأبرياء، وتصارع مع منافسين على السلطان من أقرب الأعوان والإخوان، وتهديدات ومنغصات من جميع الألوان، وحتى في نومهم يرتعبون من العدوان.
فهل تُبقي هذه الضغوطات القاهرة لديهم رغبة جنسية، أم تلقي بهم إلى فراش الإنهاك والإستهلاك؟!!
وقس على ذلك العديد من الخلفاء الذين يُقال أنهم كانوا يحتفظون بمئات الجواري وبعض الغلمان، ولا أحد يسأل عن التكاليف والمصروفات الباهضة لإدامة زينة الجواري وجاهزيتهن للمواقعة!!
فعلينا أن نكون علميين في نظرتنا للتأريخ المحشو بالآضاليل والتهيؤات المقصودة والمتصورة، فالمؤرخون لم يكتبوا عن جوانب عديدة من حياة الخلفاء، والسائد في كتاباتهم الدعاية لخدمة الدولة والسلطان، ولتثبيت أركان الحكم ولتبرير الخطايا والآثام ، فلا يدوّنون أمراضهم ومعاناتهم وتصرفاتهم السيئة إلا فيما ندر، بسبب الخوف منهم، ولهذا فأن معظم الكتابات فيها مبالغة وميل للقدسية والمثالية، وإخراج الخلفاء من بشريتهم، والتحليق بهم في فضاءات علوية، لا رصيد لها في الواقع الذي يتفاعلون معه، بل وتتقاطع مع الطبيعة البشرية.
د. صادق السامرائي
........................
* هذه المقالة قراءة نفسية سلوكية بحتة ولا تمثل موقفا أو رأيا.
مماحكات في زمن اللقاحات
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عامر هشام الصفار
كان من أهم التطورات الطبية التي شهدها العام الماضي هو سرعة أستجابة العلماء لفايروس الكورونا الذي أصبح وباءا في الأرض، وذلك من خلال التوصل الى اللقاحات المضادة للفايروس للحد من خطورته على الأنسان. فقد أجازت بريطانيا مثلا ومن خلال دائرة الرقابة على الأدوية والمستلزمات الطبية ثلاثة لقاحات هي لقاح شركة فايزر/البايونتك، ولقاح جامعة أكسفورد/شركة أسترازينيكا ولقاح شركة موديرنا. وهي لقاحات رغم أختلافات تقنيات أنتاجها، الاّ أنها كلها قد أثبتت فعالية ضد الفايروس بنسبة تتجاوز 80% في الأشهر الثلاث الأولى من أعطائها للشخص وبما يتجاوز ذلك ليصل الى 95% فيما بعد.. وقد أجريت التجارب السريرية على اللقاحات ليكون التلقيح بجرعتين على أن تفصل فترة زمن تتراوح بين 3-4 أسابيع بين جرعة وأخرى..
وكانت المماحكة الأولى عندما قررت السلطات الصحية المختصة في بريطانيا من أعطاء الجرعتين من اللقاح بفارق زمني يبلغ 12 أسبوعا بدل 3 أسابيع (وهي المدة التي قررتها الشركة حسب تجربتها على اللقاح قبل أجازته)، حيث أعلن المستشار الطبي في مجلس الوزراء البريطاني عن خطة البلاد للتلقيح، وبررّها علميا وقال أن تأثير اللقاح بالفاصل الزمني ال 12 اسبوعا سوف لا يحّد من تأثير اللقاح نفسه أن لم يكن يعززه. ولم يعترض فريق منظمة الصحة العالمية على الأمر، وينتظر الجميع نتائج البحوث من داخل أروقة دوائر الصحة في بريطانيا لألقاء المزيد من الضوء على الموضوع.
أما المماحكة الثانية فجاءت عندما رأت أوروبا أنها تخلفت عن بريطانيا في الحصول على كميات تكفيها من لقاح شركة استرازينيكا/أكسفورد.. فكان أن قررت من جانب واحد فرض قيود على أخراج اللقاحات المصنعّة في بلجيكا مثلا لتصل الى بريطانيا.. وما زالت النقاشات الحامية تدور في أروقة السياسيين في الأتحاد الأوروبي وفي بريطانيا التي خرجت من الأتحاد، لأيجاد حل لمشكلة النقص بجرعات اللقاحات..فحول هذا اللقاح بالذات تدخل رئيس فرنسا ماكرون، فقال أن لقاح أسترازينيكا/أكسفورد أنما تأثيره قليل في أعطاء المقاومة اللازمة للأنسان ضد الكورونا..في حين صرح بعض الأطباء في ألمانيا من أن هذا اللقاح سوف يكون في تأثيره على المسنين أقل من لقاحات أخرى..والمنطق العلمي يقول أنه في الحقيقة لقاح فعال وأمين ومفيد ورخيص في الثمن..ولكن للسياسة دورها فيما صرّح به رئيس فرنسا، وفيما قال به الأطباء الألمان. فهم في ألمانيا ينتجون لقاحهم الخاص بالتعاون مع شركة فايزر، وهو الأمر المعروف، مما يجعلنا ننتبه الى ما قاله البارحة المستشار الطبي في الأتحاد الأوروبي والذي أجاز لقاح استرازينيكا/ أكسفورد وقال بأن لا مانع لدى الأتحاد من أستعماله على سكان أوروبا بما فيهم أهل ألمانيا وفرنسا ولمن هم فوق ال 65 عاما عمرا.
ثم جاءت المماحكة الأخرى حيث كان لشرقنا الأوسط فيها نصيب. فقد صرحت منظمة الصحة العالمية قبل أيام قلائل من أن للمنطقة كلها بعديد سكانها ما يبلغ ال 25 مليون جرعة فقط من لقاحات الكورونا ليس غير.. ولم يضع المسؤولون في المنظمة جدولا زمنيا لتوزيع لقاحاتهم القليلة هذه على الناس.. ثم أن رئيس منظمة الصحة العالمية نفسه قد دعى حكومات الدول الغنية الى عدم الأستئثار باللقاح، حيث وصف ذلك بالشأن الذي له آثاره الكارثية على الصحة وعلى أنتشار الوباء في العالم.. فمن الضروري تلقيح الجميع وبالسرعة الممكنة حتى نتمكن من السيطرة على الفايروس والحد من تأثيره على صحة الأنسان أينما كان.
ثم أن المسؤول في أميركا وهي الدولة الأولى في العالم من حيث عدد الوفيات جراء الكورونا (ما يقرب من نصف مليون حالة وفاة) ما زال يسعى لتلقيح ما يقرب من المليون أنسان في اليوم الواحد.. وهناك من يعترض على ذلك ويطالب بالمزيد..
ولا تنتهي المماحكات حول هذه اللقاحات، فها نحن نرى أن البعض من أفراد الأقليات العرقية في بريطانيا وأوروبا انما يمتنعون عن التلقيح رغم زيادة حالات الكورونا بينهم دون سبب واضح، مما حدا بالحكومة البريطانية الى القيام بحملة توعية صحية تستهدف الأقليات في البلاد للتشجيع على التلقيح وللحد من الأشاعات حول الموضوع.. ثم أن اللقاح ضد الكورونا سيظل حديث هذا العام حتى أستتباب الأمر وشروق شمس صباح جديد لن نسمع فيه أخبار فايروس عانت وما زالت تعاني منه الملايين من البشر.
د. عامر هشام الصفار
مسرحية ميدان القمم للدكتور سامح مهران.. قراءة أولية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: علي ماجد شبو
لا تختلف حماسة العاشق عن حماسة الثوري، ولا يختلف الخطاب المفعم بالحماسة، بينهما، كثيراً فالعاشق والثوري يشربان من بئر واحدة: الرومانسية. غير ان الخطاب يأخذ مساراً فردياً للغاية عند العاشق، في حين يتمدد الخطاب، عند الثوري، الى أوسع مدى ممكن ليحتضن المجتمع الذي تشمله رسالة الثوري. كنت دائماً أتساءل، في سرّي، فيما اذا كان بالإمكان طرح القضايا السياسية، التي تهم المجتمع وتعنيه، ضمن أطر المسرح دون الوقوع في التوثيق الآني والمباشر، كمسرحيات بيتر فايس، أوالخطابة الإعلامية المحابية لدوائر الرقابة، كما هو شائع. وجاء الجواب من ميدان القمقم للدكتور سامح مهران. فهنا نص تجاوز التوثيق، وإبتعد قدر الإمكان عن الخطابية المباشرة وسلّط الضوء على حدث سياسي، لا يهم مصر فقط وإنما كافة دول المنطقة العربية وما يحيطها من دول وأقاليم، بأسلوب الحكاية الشعبية الممتلئة بالخرافات وبإطار ملحمي يغوص فيه شكلاً ثم يعتلي ويعود إلينا بالمعاني المفقودة من مفردات الحدث السياسي. إنه "الربيع العربي" الذي لم ولن يعرف الدفء، ربيع يميل الى الخريف في الخطاب السياسي وفي المخرجات.
خمسة مشاهد هي التي تؤلف المسرحية، المبنية على الحكايا والخرافات والجد والهزل. أربعة أركان تشكل مضلعات الحياة في الشروق والغروب. نرى من خلالها تسلسل زمني سلس ومدهش لنهوض السلطة ونهاياتها. كما نرى كيفية تعزيز الإرادة الواحدة وتكوين الديكتاتور، ثم ننتقل الى المرجل الذي تغلي فيه الجماهير المسلوبة الحقوق، وما يعقب ذلك من التسلل الناعم للقوى الظلامية، بإرثها الدموي المعادي للمجتمع وللمرأة وللوطن، وإختلاس نضال وحقوق الجماهير، يلي ذلك، الرحيل خارج إطار السلطةً، والتربع على أرائك الندم. مسرحية مكتوبة بلغة بهية ورائعة جديرة بكلاسيكيات المسرح المعروفة.
تبدأ المسرحية في قصر المرايا حيث تقام حفلة راقصة تجمع الملك والملكة، وحوار ذاتي للمك مع نفسه وللملكة مع نفسها تفضح العلاقة القائمة بينهما وتُبرز الى أي مدى يشعر كلّ منهما بالوحدة والغربة مع الآخر، الى الحد الذي يتمنى فيه كل منهما غياب أوموت الآخر. أو ببساطة إعلان أمنية كلّ منهما في العودة الى الحياة البسيطة كبقية الناس ولكن، بطبيعة الحال، دون التنازل عن الموقع الملكي الذي يشغلانه وأمتيازته غير المحدودة.
الملك: (عبر البلاي باك) ليتني كنت رجلاً عادياً، فأرى لمعة في عيون حبيبتي فرحة بساعة اللقاء.
الملكة: (عبر ذات التقنية) تبّاً لكِ كراسي الحكم أمام لحظات مسكونة بالشوق، مستقلة بلهفة إتحاد جسدي ينطوي فيه العالم الأكبر.
الملك: يبلغني سوء الظن أنها تكرهني
الملكة: ليته يموت، فأبعث من جديد.
وعلى أنغام الرقصات يتلون المسرح بألوان الشبح القادم للحديث مع الملك، إنه والده المتوفى. ويغلب على الحوار والشبح اللغة الأبوية الناصحة والعطوفة. لغة "الحكمة" للمحافظة على الحكم. فيبدأ بالأسلوب الأبوي التقليدي وينتهي عند مرجع الحكم الأعلى لديه والذي يُصر على "توريثه" لابنه. منهج حكم صيغ في زمان لم تكن فيه دولة حتى بمفهوم القرون الوسطى، ولم تكن للمجتمعات أنذاك مؤسسات لخدمتها وأخرى لحمايتها كما لم توجد مؤسسات قادرة على حفظ الحقوق، ولا قوانين تؤمن بالمساواة بين أفراد المجتمع وقادرة على التمسك بالحقوق التي يتمتع بها الأفراد والجماعات داخل حدود "الدولة". لغة الحكمة والنصح الأبوي هذه تستند على الإرث المتوالي لأسلوب حكم قائم على وجود حاكم أوحد، بإرادة واحدة، ورعية مسلوبة الإرادة.
الأب: (أو الشبح) رسمتُ لك الطريق الذي إن سلكته لن تضل من بعدي أبداً.
الملك: أبحث عن طريق أعبّده بسيري فيه.
الأب: من فات قديمه تاه يابني. (.......)
الملك: لن أكون نسخة منك، ينبغي أن أعيد إكتشاف اللحم والدم الذي أحكمه.
الأب: البشر في كل زمان ومكان هم البشر، مجرد أفواه نهمة (...) لا يجيدون إلاّ التبرّز والتناسل، (...) يرهبون السوط والسلاح، فقط أطفئ المصابيح، ستجدهم على الفور يسرقون كل ما تقع عليه أعينهم وأياديهم.
(...) ثم يستمر الحوار ..
الأب: الشك يابني هو قاعدة الحكم الأولى.
الملك: والحاكم الهيّن فتنة، وهذه قاعدة الحكم الثانية
الأب: ولو إقتضى الامر إستقرار العرش وأمنه ...
الملك: (مكملاً الكلام الذي سمعه من قبل) قتل ثلث او ثلتي الشعب فلا تتردد، فهكذا أفتى الامام إبن مالك ...الخ
إن ظاهرة التعكز على التاريخ العربي القديم معتمدة جوهرياً على خيارات محدودة ولا تقبل أي إنفراج أو إنفتاح على خيارات أخرى من ذات التاريخ. فماذا لو، بدلاً عن الإمام إبن مالك يشير الأب ، مثلاً، الى منهج إبن خلدون في الحكم وإدارة المجتمع. ذلك المنهج الذي أسس وأثرى مناهج التفكير والفلسفة في الحكم في أوربا، وهو الأساس في نشأة علم الاجتماع أكاديمياً في العالم. غير أن الاب، الذي يمثل المدرسة العربية التقليدية في الحكم لن يتمكن من فتح أصغر كوّة من الحريات الاجتماعية ولا القبول بأقل الحقوق الاجتماعية لانه يرى في ذلك ضياع لهيبة حكمه وللشرعية الإلهية التي ترعاه. أي أن جميع أدوات ومشاريع الحكم الحالية والمستقبلية تخضع لمعايير الماضي.
الاب: هؤلاء الموتى الذين تسخر منهم الان حكموا بنصوص تحمل توقيعات الله، فهل تودّ إزالة التوقيع؟
هنا إشارة واضحة الدلالات على قوة الشرعية التي يستند اليها نظام الحكم. فهم يحكمون بنصوص تحمل توقيعات الله. ، ثم يضيف، (فهل تود ازالة هذه التوقيعات) اي إلغاء الشرعية الإلهية لنظام الحكم. هذه الشرعية التي لا تقبل ولا تسمح بالمجادلة لإنها تنطوي على "تكفير" مسبق لأية حركة تعارض هذا النهج، ثم أن "الشعب" هو عبارة عن مجموعات من رعاع، أصبح وجودها "مباركاً" لأنها محكومة من قبل هذا الزعيم الفذ او الملك.
الاب:.. كي تصير رابط الجأش (... ) غير مأخوذ بشفقة على من هم دونك، أن تعطي بقدر وتمنع بقدر، وأن تعلم ان لكل إنسان موقع وخانة، لايجب ولا يجوز أن يتخطاها، فتختلط المواقع، وتضيع الهويات، وتعم الفوضى.
وهنا يذكرّه الملك بان العالم قد تغيّر "وتغيّرت الشعوب وعلينا نحن ان نغيّر من أساليبنا في الحكم"
الأب: (في رده يتهم الشعب بالانتهازية وبالجبن وبأنهم غير أهل للثقة ثم يصل الى) كم أودّ ان اقتلهم جميعاً، ولكن لابد لكل ملك من شعب يحكمه ... الخ
إن التغيير يعني حركة ديناميكية تبتعد عن نقطة البدء، في حين يرى الحاكم الأوحد بإن التغيير هو الالتفاف نحو البدء. أي بمعنى إن التغيير الوحيد والممكن هو في الاستمرارية. هذه أيديولوجية سياسية إستخدمها الرئيس الفرنسي الراحل فاليري جيسكار ديستان خلال حملته الانتخابية في منتصف السبعينيات. "Changement dans la continuité " بمعنى التغيير ضمن الاستمرارية، فالتغيير هو الأمل الدائم الذي تصبو اليه الجماهير، في حين أن الاستمرارية هي الأمان الذي يحرص على حماية سلطة وممتلكات الطبقة المتنفذة في المجتمع. فالإيديولوجية وشعارها مقنّعين، ولكنهما مدروسين جيداً لارضاء طرفي الشعب: الجهة الأولى المتنفذة والقادرة على إحداث تغيير في "شكل الحكم" والجهة الثانية الآملة بالتغيير في "هيكلية الحكم". هذه الأيديولوجية حين تمزج بتراث الماضي تغيب عنها المساءلة لانها تستمد شرعيتها "بتوقيع الله".
ثم يضيف الاب من نصائحه للملك: "كل من يقترب منك يريد ان يختلس ورقة من الشجرة الوارفة، وعلى تلك الشجرة ان تبذل أوراقها للطامعين، شريطة إلاّ يطمعوا في الشجرة نفسها، فإن فعلوا، قطعت الأذرع الطامعة". الشجرة الوارفة هي مجموع ثروات البلد التي يتحكم بها الملك ويتصرف بشؤونها كما يشاء، كما لو كانت هذه الثروات هي ثرواته الشخصية. إن يتنازل الملك بعطايا متفرقة، هنا وهناك، فهذا جزء من وظيفة الملك ولكن المطالبة بكامل ثروات البلاد هي تهديد مباشر لكرسي الحكم وهذا ما لايمكن السكوت عليه. هنا تقطع الأذرع التي تمتد اليها، بل وأكثر من ذلك، ستقطع الرؤس التي تفكّر بذلك.
أليس هذا هو الخطاب الاساسي والجوهري لكل ديكتاتور؟ وهل هناك أسس لصناعة الديكتاتور اكثر صلابة من خطاب الترفع والأنانية والكراهية والإمعان في إذلال الشعب؟ خطاب يتلون بصيغ كلامية متنوعة، لكن الجوهر يظل كما هو. فالأب يضيف: "هذه المدن أعرفها وتعرفني، كلما القمتها حطباً طالبت بالمزيد". يقول فيكتور هوجو "حين تكون الديكتاتورية حقيقة فإن الثورة تصبح حق".
ثم يرحل بِنَا المؤلف الدكتور سامح مهران الى غابة يظهر فيها الأسد وهو يصطاد وعلاً. حيث ان الاب أراد ان يثبت الى ابنه الملك بان القوة هامة جداً ولكنها غير كافية، فهي تحتاج الى الحيلة. ففيهما (القوة والحيلة) تستطيع ان تحكم شعب مهما كانت مطاليبه. ويرحل بابنه الملك الى الماضي على ظهر حصان مجنح ليشاهد كيف كان جدّه يتعامل مع مطالب الجماهير. ثم يمضي عبر حكايا "فولكلورية" عن مدى تقبل الجماهير لأوامر الملك على الرغم من شدة إفتقادهم للمقومات الأولية للحياة، أي مقومات العيش و الكرامة. ويُطرح الامر على أن ذلك يتم ليس بهدف تحقيق الرغبة المجردة للملك، بل من أجل تحقيق مصالح الشعب نفسه، وهذا بذاته يجب ان يجعل الشعب ممتناً ومعترفاً بالمعروف. ويضيف الاب نصحاً لإبنه الملك عن كيفية التعامل مع الجماهير: "نعلّمهم ان العافية إذا دامت جُهلت، وإذا غابت عُرفت وان الألم يذهب بسجدة وأن البهجة تأتي بدعوة". حين تُستمد شرعية الحكم "بتوقيع من الله"، فإن هذه الشرعية تكرّس، بالضرورة، الفكر القدري المبني على القناعة والصبر. ولذلك، فإن غياب مقومات العيش السليم والرفاهية والسعادة يصبح قدراً مفروضاً. وللقدر هبّات ترفع ناس وتُفقر آخرين، وعليه فإن القناعة هي أفضل أسلحة الفقير لمقاومة أحلام العيش برفاهية. غير أن القناعات القدرية تستبطن أسئلة وأحلام الفقراء التي من رحمهما يُولد الوعي في التمرد، فهنا، بدأت مكونات الثورة تتبلور ببطء وتطفو فوق سطح الهدوء الظاهر للحياة اليومية.
في هذه الأثناء، تنتقل رحلة الملك وأبيه (الشبح) من التجوال في الماضي الى التجول في الحاضر وفي مداخل المستقبل. يتنكر الملك وأبيه ويمضيان وهما محملان بالذهب ليلتقيا بالثوار وبقائد الثورة الذي يُصرّح: "سنوزع أنصبة الذهب على الفرق التي تأتمر بأمرنا، ثم سننصب خيامنا حول ميدان القمقم، وفوق أسطح البنايات التي تحوطه، سيكمن القناصة المأجورين من قبلنا (...) فمن كان على نهجنا ومنهجنا يُحرر ويُعتق، ومن خالفه يُختم عليه (...) وقبل هذا وذاك، علينا تصنيع الفوضى". ثم يلي ذلك الحوار الهام التالي:
الاب: وكيف السبيل الى تصنيع الفوضى؟
قائد الثورة: (...) الشعب يريد إسقاط النظام
الجميع (جميع الثوار): الشعب يريد إسقاط النظام
فرد (ثوري): فلنحرق قصور الأغنياء ..
فرد آخر: ونسبي نسائهم ..
فرد آخر: وننتهك حرمات دورهم التي بنوها من حبات عرقنا ..
امرأة: ونفك أسر المحبوسين والمسجونين
(...)
الجميع: لا دستور ولا قانون، الثوار قادمون.
الشعارات التي رفعها الثوريون هنا لاتتوافق والحركة العفوية والصادقة والمخلصة والوطنية للجماهير، إنما رفع شعارات من قُبيل ماذكر أعلاه يحوّل الجماهير الى مجموعة من الغوغاء (Mob) التي يمكن ان تسرق كل ما تتمكن منه وتحرق ما لاتستطيع إمتلاكه. حركة الغوغاء هذه أمتلكت الصوت الأعلى بين الجماهير وانتقلت به من مطالبات تخص الحياة اليومية والعدالة الإنسانية الى أفعال وأقوال تحركها الكراهية والرغبة في الانتقام وبين كل هذه المشاعر تفتقد الجماهير الحقيقية الى البوصلة التي تشير الى "الوطن" باعتباره مركز أمان المجتمع. كل هذا يقود الملك المتخفي الى أن يسّر لأبيه:
الملك: أسفر الشرّ عن كامل وجوهه ياأبي، الكل يبحث عن ثروة وسلطة لا عن وطن. (...)
الاب: الوطن أيها الملك ليس مكاناً فقط، الوطن زمن، ولكل زمن قانون ... الخ
يتسلل الاب بين الثوار ويكسب ثقة قائدهم وينصحه بالتظاهر أمام زملاءه الثوريين بأنه مجرد عن المصلحة الشخصية وعن الرغبة في إعتلاء السلطة وينصحه أيضاً بتعيين أحد الشباب الثوري للقيام بمهامة نيابة عنه. ونبّهه الى ان "التنافس والتسابق بل والتقاتل والتلاسن بين الثوار" سيزيد من فرصه لاستلام الحكم آمناً ومطمئناً. وتسير الأحداث هكذا الى حين يتفق الجميع على ضرورة فتح القمقم وإخراج مافيه الى الحرية. فيخرج العفريت الأبيض من القمم ويبدأ بنشر أفكاره "الحضاروية" عن التعايش المجتمعي، وهو يشجع الثقافة المثلية في الوقت الذي تتحدث فيه الجماهيرعن العيش والكرامة والعدالة الإنسانية، ثم يخرج عدد من الرجال المزورين للدين "ذوو الخبرة والمعرفة". بعد ذلك يطلب العفريت إجراء انتخابات للناس الموجودين في القمقم، فيخرج عدد من "السائرين بظهورهم" ويتبعهم عدد من التماسيح. والسائرون بظهورهم، هو كناية للتيارات والأفكار التي تصّر على العودة بالمجتمع الى ماكان عليه في الجزيرة العربية قبل حوالي خمسة عشر قرناً. هنا كنت أفضل ان يخرج "السائرون بظهورهم" كرجال دين ملتحين بصورة مبالغ فيها وعند منتصف المشهد آو عند نهايته تبدأ تخرج من رؤوس "السائرين بظهورهم" وجوه التماسيح بحيث تخفي الوجوه الملتحية تماما. هذا باعتقادي يعزز من المفهوم الذي أراده المؤلف ويتوائم مع السياق الملحمي والخرافي للنص.
تتوالى الأحداث سريعاً وتبدأ الخلافات بين الثوار أنفسهم، يُوقد ذلك المندسون فيما بينهم. وتبدأ معارك أهلية ويخسر الملك مملكته وفي النهاية نعود الى لحظة البدء حيث الملك والملكة، فكما كانا يعانيان كلّ على حده من الإحساس الشديد بالوحدة وبالغربة، فهما الان يلتقيان كمخلوقين مهملين يبحث كل منهما عن آخر يتعكز به.
ميدان القمقم هو الميدان الذي خرج من القمقم ولن يعود كما كان أبداً. انه نص جرئء جداً من حيث التوقيت، ونص أستطاع أن يشتمل على العناصر الأساسية لفترة تاريخية حديثة، وأن يبدع الدكتور سامح مهران في تحويل هذا الحدث الذي لاتزال أمواجه تتلاطم في صدور الشعوب الى نص درامي ملحمي يرتكز على الحكايا والخرافات وبإطار لايخلو من الهزل. الهزل الذي تستصرخه لحظات العبث التي تسود أجواء العمل. نص درامي مكتوب بلغة متينة ورصينة ترتقي الى معاني الحدث وترسم طيات من الحلم بين جفون المتفرج. فالثورة، كما يقول تنسي وليامز، تحتاج فقط الى حالمين جيدين قادرين على تذكر أحلامهم.
علي ماجد شبو
عملية الاتصال وارتباطها في الاعلام الرقمي
- التفاصيل
- كتب بواسطة: امير مناتي محمود
ان عملية الشراكة بين مختلف الاطراف المساهمة في العملية الاتصالية , تجرنا للحديث عن ما يمكن ان نطلق عليه اسم المتقبل النشط والفاعل والمتفاعل (Actant , actifet , ineractv (كمفهوم جديد للمتلقي كرسته فلسفة التقنيات الحديثة للاعلام والاتصال .
كما ركزت العديد من البحوث والنظريات في العلوم الانسانية على التفاعل كشرط اساسي لاستكمال العملية الاتصالية حيث ارتبط مفهوم الاتصال بمفهوم التفاعل عند عدد كبير من الباحثين على اختلاف اتجاهاتهم واهتماماتهم العلمية ، فشومسكي مثلا (CHOMSKY) يعتبر ان الاتصال هو عملية تبادل بين طرفين لانه لا يقف عند حد تبادل المعلومات فحسب، وحتى تنجح العملية لابد من ان يكون هناك اتصال حقيقي بين الباث والمتقبل . كما يجب ان تتوفر فرص رجع الصدى وتبادل الاراء .
وهناك عنصرين اساسيين في العملية الاتصالية هما . تحقيق التفاعل اولاً ثم تحقيق التكامل الاجتماعي ثانياً ، ويمكننا الجزم من هذا المنطلق ان الاتصال في علم الاجتماع هو عملية اشتراك ومشاركة في المعنى من خلال التفاعل الرمزي والذي يتميز بالانتشار في المكان والزمان فضلاً عن استمراريتها وقابليتها للتنبؤ .
ولوسائل الإعلام دور فاعل في تشكيل سياق الإصلاح السياسي في المجتمعات المختلفة؛ حيث تعكس طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين النخبة والجماهير. ويتوقف إسهام ودور وسائل الإعلام في عملية الإصلاح السياسي والديمقراطي على شكل ووظيفة تلك الوسائل في المجتمع وحجم الحريات، وتعدد الآراء والاتجاهات داخل هذه المؤسسات، بجانب طبيعة العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية المتأصلة في المجتمع، فطبيعة ودور وسائل الإعلام في تدعيم الديمقراطية، وتعزيز قيم المشاركة السياسية وصنع القرار السياسي، يرتبط بفلسفة النظام السياسي الذي تعمل في ظله، ودرجة الحرية التي تتمتع بها داخل البناء الاجتماعي .
كما ان توفير المعلومة الصحيحة للمجتمع من خلال الاعلام حيث إن توفير وسائل الإعلام للمعرفة يتم لصالح الأفراد والمجتمع في الوقت نفسه، ومن خلال ذلك يتكامل دور وسائل الإعلام مع دور المؤسسات التعليمية، فلكي يزدهر المجتمع الديمقراطي فإن أعضاءه يجب أن يتقاسموا المعرفة، وتقاسم المعرفة هو شكل من أشكال التعليم الذي يضمن أن تكون عملية صنع القرار صحيحة وقائمة على المعرفة، فيشيرHabermas إلى ضرورة توفير المعرفة للجميع لكي يستطيعوا أن يتخذوا القرارات الصحيحة، ولكي تكون تلك القرارات في صالح المجتمع، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا إذا حصل كل مواطن على المعلومات عما يحدث في العالم، وأصبح هناك فهم مشترك بين المواطنين لهذه الأحداث.
فوسائل الإعلام تساهم عن طريق تقاسم المعرفة في تحقيق الوحدة الاجتماعية، كما تساعد المجتمع على أن يظل موحدًا حيث توجد ثقافة عامة مشتركة لكل أعضاء المجتمع، ووسائل الإعلام تقوم بنشر هذه الثقافة العامة المشتركة، فكلما شعر أعضاء المجتمع بهذا المشترك الثقافي زاد توحدهم وازدادت قدرتهم على اتخاذ القرارات التي تحقق المصلحة العامة؛ فالمساهمة في تحقيق الوحدة الاجتماعية والترابط تعد من الوظائف الرئيسة للإعلام كما حددها Lasswell (حيث يرى أن من الوظائف المهمة للاتصال تحقيق الترابط في المجتمع تجاه البيئة الأساسية وقضاياها، وتفسير ما يجري من أحداث وما يبرز من قضايا بما يساعد على توجيه السلوك؛ حيث للاتصال دور في تشكيل الرأي العام الذي به تتمكن الحكومات في المجتمعات الديمقراطية من أداء مهامها. وان لوسائل الإعلام تأثير كبير على القرارات السياسية، ويرجع ذلك لأنها تؤثر على القرارات السياسية فقد تعطي الشعبية أو تحجبها عن صانع القرار، كما أن صانع القرار ينظر إليها كمقياس لرد فعل الناس تجاه سياسته وقراراته، فوسائل الاتصال في الأنظمة الديمقراطية تكون حرة في نقل المعلومات والتفاعل مع القضايا والأحداث وبالتالي تكون قدرتها على صنع القرار قوية، بينما في النظم السلطوية حيث تُنقل المعلومات من أعلى إلى أسفل، يضعف الدور الذي قد تمارسه هذه الوسائل.
وتسعى الدول على اختلاف الأنظمة السياسية القائمة فيها إلى استخدام وسائل الاعلام والاتصال لتحقيق الأهداف الإستراتيجية في حالتي السلام والحرب، وفي مقدمة هذه الأهداف أهدافها السياسية سواء كان ذلك على المستوى الداخلي أو على المستوى الدولي، وقد أصبح الاعلام السياسي عنصراً من العناصر المهمة في تقييم أداء السلطة والقائمين عليها، فالاعلام السياسي يؤدي وظيفة سياسية مهمة، ويعمل على إحداث تأثيرات واقعية ومحتملة على عمل وسلوكيات الآخرين .
الباحث الاعلامي: امير مناتي محمود الغراوي
حوارات في أنتظامات الفلسفة (1)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. نابي بوعلي
س1: د. نابي بوعلي: بدايةً اسأل: ماهو منبع أهتمامك في الفلسفة؟
ج1: د. علي رسول الربيعي: يعود الى الفضول والحيرة.
إنه الدافع الفلسفي القديم المتمثل في عدم رؤية كيف تترابط الأفكار المختلفة التي من المفترض أن تكون مركزية في حياة الإنسان أو الأنشطة البشرية معًا: مفهوم الذات، ومفهوم القيمة الأخلاقية والجمالية، والموقع الذي تأخذه أنواع معينة من الأشياء القيمة، (وكل واحدة من هذه لها قصة تصل بتربيتي والبيئة التي عشت فيها وأثر المدرسة انذاك في حياتي). ونظرًا لمزاجي، كان فضولي دائمًا مصحوبًا بالنقد والشك. وهو ما يطلق عليه بول ريكور:" هيرمينويطيقا الشك"، والذي أكتشفته منذُ ايام البكلوريوس في دراسة الفلسفة حيث كان واضحا ومميزًا جدًا في اعمال نيتشه وماركس وفرويد، وجاء بشكل طبيعي إلى حد ما بالنسبة لي، ونتيجة لذلك كانت ادعاءات أنواع معينة من القيم (الدينية والتقاليد، وهذه لها قصة ربما نسردها في فرصة اخرى) تثير شكوكي دائمًا.
س2: د. نابي بوعلي: أرغب بنقل الحديث الى السؤال عن دور الفهم التاريخي في الأخلاق والفلسفة السياسية؟
ج2: د. علي رسول الربيعي: إن التاريخ، بمعناه الواسع، مهم بطرق مختلفة. أولاً، قد يعرض لنا مشاكل تتعلق بآرائنا. فمثلا، عندما نسأل لماذا نستعمل مفاهيم بعينها بدلاً من أخرى كانت سائدة في وقت سابق، فإننا عادة ما يكون هذا التاريخ تبريري. وهذا يعني أننا قد نرغب في رؤية أفكارنا، مثل الأفكار الليبرالية عن المساواة والحقوق المتساوية على أنها كسبت حجة ضد المفاهيم السابقة، مثل تلك الخاصة بالنظام القديم. وكذلك يضعنا أمام مسألة الاحتمال التاريخي لأفكارنا وتوقعاتنا ايضًا.
لكن لا يجب أن يكون هذا الأحتمال مشكلة بالنسبة لنا، بمعنى أنه لا يقوض ثقتنا في توقعاتنا وأستشرافنا. أما بالنسبة إلى فكرة التبرير التاريخي - التاريخ الذي يكشف أن أفكارنا كانت أفضل بالمعايير التي كان من الممكن أن يقبلها خصومها- فيبدو المطلوب هو: علينا البحث عن نظام للأفكار الأخلاقية والسياسية الأفضل من وجهة نظر خالية قدر الإمكان من منظور الأحتمال التاريخي. ولكن على الرغم من أن هذا قد لا يقودنا إلى رفض وجهة نظرنا، إلا أن حقيقة عدم وجود تبرير تاريخي لها يؤثر من بين أمور أخرى على موقفنا تجاه وجهات نظر الآخرين.
ثانيًا، يمكن أن يساعدنا التاريخ على كشف و فهم طرق معينة قد تبدو فيها أفكارنا غير متماسكة بالنسبة لنا.
ثالثًا، سيتم تحديد محتوى الأفكار الأخلاقية والسياسية المفيدة لنا من خلال فهم ضرورات أسلوب حياتنا. إن السؤال "ما هو ممكن بالنسبة لنا الآن هو، في اعتقادي، وثيق الصلة بالفلسفة السياسية والأخلاقية. يتطلب هذا السؤال فهمًا اجتماعيًا تجريبيًا وذي بصيرة. أود أن أدعي أنك لن تفهم مثل هذه البصيرة إلا بالمناهج أو الطرق التاريخية. هذا يعني، لا أعتقد أن هناك، على سبيل المثال، علم إجتماع موضوعي بما فيه الكفاية يمكنه إخبارك بما هو ممكن بالنسبة لنا.
س3: د. نابي بوعلي: هل يمكنك إعطاء مثال عن هذه الطرق التي يكون فيها التاريخ مهمًا لمفهوم سياسي؟
ج3: د. علي رسول الربيعي: نعم، خذ مفهوم الحرية مثلاً. أعتقد، كما المفاهيم السياسية الأخرى، نحتاج إلى بناء مفهوم للحرية يكون يكون تاريخيًا معبرًا عن الوعي بذاته ومناسبًا لمجتمع حديث، وأميز -هنا- بين "الحرية الفطرية"، التي أفهمها على أنها غير معوقة عن فعل ما تريده من خلال شكل من اشكال الإكراه المفروض بشريًا وبين الحرية (الليبرالية). ونظرًا لأن الحرية قيمة سياسية، فأيً ضياع للحرية الفطرية يمكن اعتباره خسارة للحرية، ولاسيما عند النظر في ما يعتبر "إكراهًا مفروضًا بشريًا"علينا أن نعتبر ما يمكن أن يستاء منه شخص ما على أنه خسارة. تصبح هنا مسألة شكل المجتمع الممكن بالنسبة لنا ذات صلة واهمية لأنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بما يتم القيام به أو التفكير فيه في هذا السياق. ولا تعتبر الممارسة، من هذا المنظور تحديدًا للحرية. وليست خسارة للحرية أيضًا إذا كان ذلك ضروريًا لعمل المجتمع كما يمكننا أن نتخيله بشكل معقول. وهكذا، في حين يعتبر بعض الأكراه والتهديد بالأكراه، وبعض البنى المؤسساتية التي تلحق الضرر بالناس، بمثابة تقييد لحرية الناس، فإن الحرمان من الحصول على ما أريد من خلال المنافسة الاقتصادية لن يتم إلا في حالات استثنائية، وذلك لأن المنافسة أمر اساس لعمل المجتمع التجاري الحديث. يساعدنا فهم وضعنا التاريخي أيضًا على فهم القيمة التي تتمتع بها الحرية بالنسبة لنا.
س4: د. نابي بوعلي: ماذا عن الحداثة أذن فيما يربطها بقيمة الحرية؟
ج4: د. علي رسول الربيعي: مفهوم الحداثة الذي يدور في ذهني هنا هو المفهوم الذي يعد أساس في علم الاجتماع الحديث. إنه أقرب إلى مفهوم ماكس فيبر للحداثة. إنه يتضمن فكرة تخليص العالم من وهم السحر ونزع القداسة عن العالم، والتخلي عن الاعتقاد بأن نظام كيفية معاملة الناس لبعضهم البعض منقوش بطريقة أو بأخرى إما فيهم أو في العالم الكوني. كما أنه ينطوي على نزعة مرتبطة بإخضاع سلطة المصادر التقليدية المتنوعة للتساؤل والتشكيك؛ فمن السمات البارزة للحداثة أننا لا نؤمن بقصص الشرعية التقليدية للتسلسل الهرمي وعدم المساواة.
والآن الرابط بين الحداثة وقيمة الحرية هو: إن الحرية مهمة بالنسبة لنا لأن قصص إضفاء الشرعية لدينا تبدأ بأقل من التوقعات الأخرى. وبسبب شكوكنا في السلطة ايضًا، وعليه تأتي ضرورة السماح لكل مواطن، بافتراض قوي لصالح السعي، لتحقيق رغباته. يمكننا أن نعتبر عدم ثقتنا الحاليًة بقصص شرعنة الماضي أمرًا جيدًا، لأن عدم الثقة هذا هو نتيجة لحقيقة أنه في ظل ظروف الحداثة، لدينا فهم أفضل للحقيقة والصدق.
س5: د. نابي بوعلي: أود أن أنتقل إلى السؤال عما تعنيه الحداثة، والوعي الذي تنطوي عليه، بالنسبة إلى نظرتنا إلى الأخلاق؛ وبالنسبة الى الفضائل لو أن شخص لايمتلكها ويفكر في اكتسابها. لقد كان لدى أرسطو إجابة لمثل هذا الشخص (ولو صعبًا على مثل هذا الشخص، إذا كان سيئًا، أن يكون قادرًا على تقدير حقيقة الإجابة). كان يعتقد أرسطو أن كل نوع من الأشياء له مثال يسعى نحوه بشكل طبيعي. يشكل المثال للبشر حالة السعادة والوجود الخيًر، حالة تتطلب امتلاك الفضائل. لكننا لم نعد نؤمن بافتراضات أرسطو عن السعي الطبيعي لكل نوع من الأشياء نحو الكمال. هل لدينا إجابة لهذا الشخص؟
ج5: د. علي رسول الربيعي: نعم. أعتقد تتعلق الإجابة فيما يشبه الكثير من سمات أخلاق وأوضاع الحداثة. اذا هناك زيادة في البصيرة والفطنة، في المعرفة، وانخفاض في الرضا الشامل عن العالم الذي يناسب الجميع، يُخيًل اليً أن وصف أرسطو، كما في الأخلاق النيقوماخية باعتباره وصفًا مرضيًا للفضائل هو وصف معبر عن الأمنيات الثقافية. لأن هذا لم يكن هو واقع ما كان يدور في أثينا في القرن الرابع.قبل الميلاد. اثينا هذه قدم عنها أفلاطون عن صورة أكثر صدقًا وواقعية، أنها كانت مريضة، والديمقراطية في طريقها للأنهيار فيها؛ وإن فكرة أن الناس كانوا كانوا فيها في حالة هائلة من الرضا والأنسجام مع الكون والنظام السياسي ورغباتهم الخاصة أمر غير حقيقي تمامًا.
س6: د.نابي بوعلي س: أود أن أختم بالأسئلة عن الصدق والحقيقة والثقافة الحديثة. كتب نيتشه أن "الإنسان حيوان مُبجل محترم، لكنه أيضًا حيوان مرتاب لا يثق وسيئ الظن، وأن العالم لا يستحق ما اعتقدنا أنه يتعلق بالشئ الأكثر تأكيدا والذي حصلنا عليه عدم ثقتنا وارتيابنا أخيرًا. كما كتب: كلما زاد عدم الثقة، زادت الفلسفة. هل تعتقد أن عدم الثقة (بدلاً من التبجيل) هو سمة من سمات المجتمع الحديث وهل يؤدي ذلك إلى "المزيد من الفلسفة"؟
ج6: د. علي رسول الربيعي: نعم. ولكن هناك شروط ومؤهل ثقيل قادم: فقد يجعل الترفيه الحديث، والتواصل الحديث، والتشبع الحديث بـ "المعلومات" النقد الفعال والتفكير الفعال ضعيفا جدا أو لايُذكر. مثلما أصبحت الصحف الشعبية مهووسة بالفضائح اليوم ويهيمن على الإنترنت النوع نفسه من الأخبار، من الممكن أن يصبح فحصنا وتحقيقاتنا وطرح الأسئلة مجرد ظواهر سطحية، قشروية، وأن هناك ببساطة الكثير من الافتراضات غير المرضية حول كيفية قيادة الحياة تمامًا. فاذا تم فسح المجال للتعبير عنها حقًا، لا أعتقد أن الناس سيؤمنون بها، لكن المشكلة ليس لديهم خيار سوى المضي معها. إن فكرة الفضاء الذي يمكن أن تستمر فيه الفلسفة والأنواع ذات الصلة من النشاط النقدي والتساؤل قد تكون نفسها مهددة. إن فكرة الفضاء الذي يمكن أن تستمر فيه الفلسفة والأنواع ذات الصلة من النشاط النقدي والتساؤل قد تكون نفسها مهددة.
س7: د. نابي بوعلي: لقد توصل نيتشه بمنهجه الجينالوجي إلى استنتاج مفاده أن الحقيقة هي المفهوم الميتافيزيقي الأخير، وأن التحقيق الذي تقوده الحقيقة ينتهي به الأمر إلى تقويض نفسه. هل ترى أن ثقافة الشك لدينا تهدد بتقويض إيماننا بالحقيقة؟
ج7: د. علي رسول الربيعي: عندما قال نيتشه في كتابيه "العلم المرح" و"جينالوجيا الأخلاق" أن هذه النار التي اشعلت استفساراتنا هي نفس النار التي اشعلت أفلاطون، كان هدفه هو إثارة غضب الليبراليين الذين كانوا يسعدون برأيه عندما ما كان ينقد للكنيسة. أعتقد أنه أراد تقديم وصفًا متجنسًا – طبيعيا بشكل كافٍ لقيمة الحقيقة. إن الجينالوجيا هي منهج يحاول تفسير وجهة نظر أو أحد القيًم من خلال وصف كيفية ظهورها، أو كيف تكون قد نشأت، أو كيف يمكن تخيل حدوثها. السؤال المثير للاهتمام الذي يمكن للمرء أن يسأله عن الجينالوجيا هو ما إذا كانت تبريرية، أي ما إذا كان تفسير الجينالوجيا لقيمة ما، عندما يتم فهمها، يقوي أو يضعف ثقة الفرد في تلك القيمة!
الأمراض النفسية والعقلية الناتجة من الإلحاد
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. ريكان ابراهيم
في علم النفس الديني (5)
من المعروف الشائع في الطب النفسي أن الأمراض النفسية والعقلية التي تصيب الإنسان لا تنشأ من عامل محدد واحد بل تشترك عوامل كثيرة في ظهورها وإستمرارها.
ونحن هنا لا نبحثُ عن هذه العوامل إنما نركز إهتمامنا على سببٍ من أسبابها طالما أثبت حقيقة قدرته أو قدرتها على إحداث مثل هذه الأمراض ونعني به: الإلحاد بالله تعالى. ومن الأدلة الواضحة على أثر الإلحاد في أحداث المرض النفسي أو العقلي دليلُ قدرة المعالج النفسي على تحسين حالة المريض صعوداً إلى مرحلة إبرائه من مرضه بإستخدام العلاج الديني الذي يشمل تقوية إيمان المريض المؤمن بالله وعفوه ورحمته وتقوية معنويات المريض الملحد في العودة به إلى الإيمان.
ولقد دأبت مراكز الطب النفسي على إعتماد العلاج الديني جزءاً من العلاج العام فيها بعد أن لاحظ العاملون في هذه المراكز الأثر الموجب لهذا النوع من العلاج. سنختار نخبةً من الأمراض النفسية والعقلية وإعتلال الشخصية والإضطراب السلوكي، التي يتأثر ظهورها بجلاء عند الفرد الذي يعاني من خلل في إيمانه بالله.
1- العقل وأنواعه المَرضية السريرية: يظهر القلق (Anxiety) عند الإنسان نتيجة وجود مثير خارجي في البيئة المحيطة بالفرد أو مثير داخلي في جسمهِ. ولا تُسمى الظاهرة التحوطية التي يستخدمها الإنسان في مواجهة ظروف طارئة بالقلق ما لم تُحدِث أعراضاً تشمل المزاج والتفكير والسلوك وتتطلب علاجاً.
فالحالات المطلوبة من الحذر والإستعداد للمثير على نحوٍ منظم بدون أعراض مرضية، كالإستعداد للإمتحان، ومراقبة خطر داهم وأخذ الحذر في قيادة المركبة والتأكد من صحة الغذاء وغلق أبواب البيت الخارجية ليلاً، هذه لا تُعدُ قلقاً إنما درجة مطلوبة من الإنتباه تُفرق بين الإنسان المنتبه والآخر الخامل البليد، وإن كان بعض الباحثين يُسميها بالقلق الموجب.
إن ما نعنيه بالقلق هو ظهور الحالة على نحوٍ مرضي يعيق الإنسان عن التفكير السليم في مسألةٍ من المسائل وعن العواطف المنظمة المطلوبة في التعامل مع هذه المسائل على نحوٍ يؤدي إلى ظهور سلوكٍ مرتبك شامل للآتي:
أ- المزاج والعواطف: حيث يظهر الفرد القَلِق مُتطيراً متشائماً متوتراً مرتبك المزاج لا تتناسب عواطفه مع المطلوب من الإثارة في مواجهة مثيرٍ ما.
ب- الأعراض الجسمية: حيث يؤثر القلق في فسلجة الفرد فيبدو متعرق الجبين واليدين، جاف الفم،مرتعش الكفين، جاحظ العينين، مضطرب المشية، متنقلاً لا يستقر في مكان. قصير النَفَس، لجوج الصدر، خائفاً من خطر لا يستطيع معرفة مصدرِه، سريع التنفس، متلعثم الكلمات، سوداوي النظرة، مستريباً من الآخر، حساساً للكلمات من الطرف الآخر، كثير الأرق، ضعيف الشهية، بارد الأداء الجنسي.
ج- الأعراض الإجتماعية: حيث يفقدهُ القَلق قدرته على التواصل مع الآخرين فهو متشائم لا يطيل الحوار ولا يتحمل مجالسة الآخرين، غير صبور على إنجاز أعمالهِ، شرودٌ من ساعات الإلتزام في العمل، مُنصرفٌ إلى نفسه وهمومها، غير معطاء للآخرين في ما يطلبونَهُ: فاقدٌ لقدرة تقديم الحنان إلى أسرته.
أنواع القلق:
ينقسم القلق على أنواع، نذكرُ المهم منها الذي يعنينا:
أ- الرهاب(Phobia)
ب- القلق العائم (General Anxiety)
ج- المُراق(Hypochondriasis)
د- التحولات الرحامية (الهستيريا Hysteria)
ه- الحصار القهري (Obsessive Disorder)
و- الفزع (Panic)
ز- داء الكرب (Post-Traumatic Stress Disorder)
كيف يكون الإلحاد سبباً للقلق:
إن أول ما يحتاج إليه الإنسان في حياته لكي لا يشعر بالقلق أو يعاني منه أمران:
1) معرفته لسبب قلقه حيث أن معرفة سبب القلق تُقلل كميته أو تمحوه تماماً.
2) شعُورهُ بأن له سنداً يحميه ويتكىء إليه في ساعاتِ ضعفهِ فلا يشعر أنه يواجه مشكلاته وحده.
لقد إكتشف الطب النفسي المعاصر على أيدي باحثيه أن هناك مراكز دماغية يكون إضطراب عملها نسيجياً أو كيميائياً أو هرمونياً سبباً لحصول حالة القلق ومنها: الدائرة الموقعية (Locus Circulus)، اللوزة (Amigdala)، والنواة القاعدية (Cuadate Nucleus).
ويختلف نشاط العمل الوظيفي في هذه المراكز من فرد الى آخر وبهذا الإختلاف يقلق بعض الناس لأبسط الأمور فيما يستطيع بعضٌ آخر مقاومة أعلى الحالات من القلق بدون تأثر.
ولكن حتى في هذا (البعض) الأخير، إذا كانت الصدمةُ شديدة وزمنها طويلاً فإن هذا البعض سريعاً ما يضعف وينهار. كل ذلك يحدث مالم يظهر السندالواقي والمعالج القوي الساند للفرد ضد حالة الإنهيار.
والإنسان بطبيعته ميال إلى الضعف أمام الأزمات وما لم يجد أو يشعر أن هناك قوة كبرى تحميه فالإنهيار مصيرُه. على هذا الأساس يشعر المحدون اللذين لا يعرفون الله ولا يؤمنون بقوته ولا يعترفون بإسنادهِ ولا يعرفون لغة الإستعانة به بأن فردانيتهم التي آمنوا بها وإنسانيتهم التي اعتبروها هي المرجع سرعان ما تنهاران ويظهر القلق.
وفي حالة الرهاب الذي ينقس على نوعين: الرهاب الخاص (Specific Phobia) والرهاب العام (رهاب الناسSocial Phobia) يخاف الفرد من أشياء صغيرة كالعقارب والضفادع والمرتفعات والأماكن الضيقة ومن مجموع الناس حتى لو كانوا على عدد أصابع اليد، يحث ذلك لأنَ هذا الفرد يشعر بأصغريته، وإذا كان مُلحداً فإنه يضيف إلى خوفه هذا خوفه من فقدان القوة التي تحميه من خوفه؛ على عكس الفرد المؤمن بأن (الله أكبر) تعني حقاً إن الله أكبر من كل مخيف، هذا الفرد سينتصر على خوفه بإيمانه بالله.
وينطبقُ هذا الخوف على حالات القلق المُراقي. والفرد في حالة الوسواس القهري هو الذي يعيش بنفس لوامة لا تستقرُ على حال. فالموسوس لا يظل على حالة يقينية واحدة وإيمانه مهزوز وفي حالة ضعفهِ تسيطر عليه أفكار التردد وإنعدام الإستقرار.
فالإلحاد يجعله خاضعاً لسيطرة أفكاره الخاصة لأنه لا يؤمن بسند كبير هو الله. وفي قلق الفزع (Panic) يمر الفرد بحالة خوف شديد من الموت الذي يُصبح لديه يقيناً وانه سيموت بعد لحظات، هذا الفرد إذا كان ملحداً فإنه سيصارع فكرتين في آن: فكرة أن الموت قادم وفكرة أن الحياة غالية.
أما إذا كان مؤمناً فإنه سيقنعُ بعمق في مشيئة الله وان الموت حقٌ عليه وعلى غيره وأنه ميت في هذا اليوم أو في يوم آخر. ولقد أجرينا هذه المحاولات العلاجية مع حالات الفزع عند مرضى مؤمنين فحصلنا على تحسنٌ كبير في الحالات التي عالجناها.
إن الإيمان كلمةٌ أكبر من الإلحاد، فالإلحاد هو القول بأن لا إله موجوداً لهذا الكون بينما يعني الإيمان أن تؤمن بالله وبقدرته وما أنزل وبأنه المحيي والمميت والباعث من العدم حياة وبأن القضاء نازلٌ على الناس بصور مختلفة وحالات شتى، وهذا ما يجهله مريض داء الكرب الذي أشرنا إليه.
نعني بداء الكرب(Post-Traumatic Stress Disorder) تعرض الإنسان لشدةٍ أو مشهدٍ أو حدثٍ يُصيح فيه على وشكالموت أو الأذى لكنه لا يُصاب بأذى جسدي ويقتصرُ أمرهُ على المشاهدة مما يترك لديه ذاكرة مؤلمة عن الحدث الذي تعرضَ لهُ فيمرُ بحالات معاودة تذكرية إلى زمن الحدث ومكانه ويُصاب بحالة قلق شديد حيث يتمثل ما جرى أمامه عياناً.
هنا يبرز الإيمان الذي قلنا أنه الشامل لكل مفردات هذه الكلمة. أما عند الملحد الذي لا يؤمن بأن ما حدث هو قضاءٌ نازلٌ رده الله عنه أو خفف منه فإنه سيظل يعاني من الحدث وتتكررُ صورته السريرية التي ذكرناها.
2- الكآبة:
لكي نُشخص مرض الكآبة في فرد منا فعلينا أن نتوفر على مجموعة معايير(Criteria ) يُصبح التشخيص بموجبها صحيحاً. وعلى رأس هذه المعايير (مفردها معيارCriterion ) يبرز أمامنا: إنخفاض المزاج، فقدان الرغبة في العيش والحياة (فقدان الأمل)، والألقاء باللوم على الذات سبباً في الإكتئاب.
هذه المعايير الثلاثة هي الأساس في التشخيص الذي يُصبح كاملاً إذا أضيفت إليه معايير أُخرى لسنا بصددها لأننا نعالج موضوعاً خاصاً. إن الإلحاد يقود إلى خفض مزاج الفرد لأن المزاج المستقر العالي في درجته يستقي قوته من معنويات الفرد وشعوره بوجود السند الحياتي له ولا سند للفرد أقوى من الله، والحياة التي بلا هدف يستمر مع الفرد حياً ويلاحقه الى عالم آخر بعد الموت تُصبحُ حياة سقيمةٌ خالية من الغاية.
فهذه الحياة ليست حكماً على السعادة وإنعدامها، حيث يعيش كثيرٌ من الناس كما عاش قبلهم كثيرون حياةً لم يجدوا فيها ما يرضيهم في عيشهم مالاً أو أبناءً أو صحةً. فإذا لم تكن هناك حياةٌ أخرى يُنصف فيها المظلوم في دنياه أصبح هذا المظلوم كئيباً خائباً في أمله الذي لم يتحقق.
وعودةً منا إلى تعريفنا بالإيمان بالله بأنه التصديق بوجود الله معطياً في الدنيا ومُكملاً لعطائه في العالم الآخر تُوجُب علينا أن نعترف بأن الإلحاد بالله هو الإلحاد بوجود دار القرار التي تُنصف من لم يُنصف في دنياه.
هنا لا يُوجَدُ مجال للفرد أن يكتئب لأنه لم يُوفَق في دنياه ما دام يؤمن بأن الله موجود يُعوِضُ خاسر الدنيا في سعادته بسعادةٍ أوسع وأشمل في آخرتِه.
والإلحاد مرةٌ أُخرى، هو ما يجعل الفرد مسؤولاً عن قرارِه في صحته ومرضه حيث لا مرجع له في اللأئمة إلا نفسه التي هي ليست كذلك وهنا يلوم هذه النفس ويعدها مسؤولة عما أصابه من إكتئاب. أما الإيمان فهو الذي يجعل الإنسان مؤمناً بالقضاء والقدر الذي يُقرر حصة الإنسان في الصحة والمرض.
إن أمامنا مسألة الفروق الفردية في كمية السلامة النفسية والقدرة على مقاومة المرض النفسي وهذه الفروق التي تُقسم الناس على قوي أمام المرض وضعيف ينهار أمامه هي من حصة الله في الكينونة لأنها جزء من الرزق الذي لا يؤمن بعدالة تقسيمه بين الناس إلا الإنسان المؤمن.
3- الذُهان (المرض العقلي):
يُوصَفُ المريض الذهاني بأنه مريضٌ أُحادي البُعد في التفكير فهو يتمتعُ بتفكير ابتدائي . وهذا الفكر هو الذي أنتج أديان الأسطورة والتابو البدائية الساذجة.
فالذُهاني، كمريض الفصام والهوس والذهان الزوري ومتلازمة التخلف العقلي، يعاني من الفكر الواهم الذي يتعدى بالمريض مرحلة العلاقة مع الناس إلى مرحلة الإساءة إلى مفهوم الإله الواحد.
وقد يكون الذُهاني مؤمناً بالله ولكن إيمانه يعتريه التشويه والنيل من الصورة المشرقة فيتصورُ مثلا أن الله قد عاقبه بمرضِه نتيجةً لسبب كامن في نفسه فيجعل من الله صورة للعقاب خاليةً من الرحمة (حاشا الله العلي القدير).
كما قد يكون الذُهاني مُلحداً أصلاً وقبل نشوء مرضه ووضوح صورته السريرية فيبدأ بوضع التفسيرات الساذجه للكينونة بحكم ما يُضدقه من إعتقادٍ بأنه نبي مرسل من الكواكب وبأنه مأمور بهدي الناس إلى صورة أخرى لله بعيدة عن الأيمان الحق.
ولقد وجدنا في علاجنا لمرضى فصاميين من كلتا الفئتين (المؤمنة والملحدة) صعوبةً في معالجة الفصامي الملحد تفوق الصعوبة الكامنة في معالجة الفصامي المؤمن على نحوٍ دعا إلى إعتبار الإلحاد عاملاً مُهدداً بعودة الفصام في أي ظرفٍ مُرشح للحالة.
4- إعتلال الاشخصية:
يُعدُ موضوع الشخصية من أصعب الموضوعات التي درسها علم النفس والطب النفسي، إن لم يكن أصعبها إطلاقاً. فهناك الكثيرون من أطباء النفس الذين لا يعتبرون إعتلال الشخصية مرضاً خاصاً إنما يقدرونه إختلالاً للنمط السلوكي يتعرض له الإنسان ولا يمكن علاجه لأنه شامل لكل معطيات الفرد على نحوٍ يمتاز به عن غيره، فيما يميل آخرون إلى إعتباره مرضاً يتطلب العلاج.
وإذا أخذنا القرآن (الكتاب السماوي في دين الإسلام) شاهداً على هذه الإتجاهات وجدنا أن هذا الكتاب لا يُشير بوضوح إلى مسألة (الشخصية)، إنما يتعامل مع الأنماط السلوكية البشرية بلغة (النفس البشرية) فيجعل كامة (النفس) معادلاً لفظياً لكلمة (الشخصية).
ففي القرآن الكريم نجد "النفس اللوامة" و" النفس المطمئنة" و " النفس الفاجرة" و" النفس التقية". وفيما يشيؤ مصطلح " النفس المطمئة" ومصطلح " النفس التقية" إلى حالة السواء والخلو من الإعتلال، يُشير مصطلح " النفس اللوامة" و" النفس الفاجرة" إلى إصابة هذه النفس " الشخصية" بالإعتلال.
وما دام الأمرُ كذلك فإننا غير مُلزمين بإيجاد مُرادفات لتقسيمات الشخصية المريضة حسب علم النفس بما يقابلها في القرآن، لكننا مُلزمون بأن نضع أوصافا لصورة المرض في الشخصية عموماً إذا كان صاحبها يحمل فكراً ملحداً بالله يقود إلى زيادة وطأة المرض في هذه الشخصية على النحو الآتي:
أ- النزوع العبثي في الشخصية غير الإجتماعية (السايكوباثية)؛ يزدادُ هذا النزوع إذا كان صاحب هذه الشخصية ملحداً لأنه لن يشعر بذنب في عملٍ يقوم به ولا يرتدع عن الإتيان بخطأ كان أتى به سابقاً.
إننا نعرف أن سمات الإيمان بالله سمة الإرتداع عن الخطأ خشيةً من الله والشعور بالذنب إنطلاقاً من الحياء أمام الله. وما دام الله غير موجود في مريض هذه الشخصية فإنه سيزداد إهمالاً لكلٍ من إرتداعه وحياته.
ب- النزوع التشاؤمي في الشخصية الكئيبة يزداد إذا كان صاحبها ملحداً لأنه لا يُعلقُ أملاً في الخلاص من مرضه على إلهٍ لم يعد موجوداً لديه.
ج. النزوع العدمي في الشخصية الذُهانية يزداد شدةً ودرجةً إذا كان صاحب هذه الشخصية ملحداً لأنه يؤمن بالعدم أكثر من إيمانه بوجودهِ ولا يعتقد بالله الكفيل بالخَلق من العدم إلى الوجود. إنه نزوع أُحادي الإتجاه ينتهي بالوجود إلى العدم حيث لا بعثً ولا نشوراً بعد الموت.
د. النزوع الجنسي في الشخصية الرحامية (الهستيرية) يزداد شدةً إذا كان صاحب هذه الشخصية ملحداً لأنه مركزي الإهتمام بذاتهِ ولا يعد أو يعتبر أنه ذو إمتداد إلى قوة خارقة تفوق مركزيته. إنه يُفسر الأمور تفسيراً أنانيا فلا يحفل بأن الكون يَسعُهُ ويَسع غيره بإدارة القوة الأعظم(الله تعالى).
هـ. النزوع الترددي في شخصية الأفكار التسلطية (Obsessive compulsive personality disorder) يمتاز صاحب هذه الشخصية بإمتلاكه سماتٍ سلوكية لا ترتقي شدةً وزمناً إلى مصاف مرض الوسواس القهري لكنها تحمل شيئاً منه. وإذا كان حامل هذه السمات مُمهداً سلفاً بأفكار الإلحاد فإنه يظلُ عرضة للشك في الخالق وفاقداً للإيمان به على نحوٍ يجعل الإلحاد سبباً في طول زمن الإصابة بهذا النمط من السلوك.
ي- النزوع المنافق في شخصية (السلب والإيجاب Passive-aggressive personality disorder) إذا كان صاحب هذه الشخصية بثقافة فيها من الإلحاد ما يكفي للملاجحة والإعتراض فإنَ هذا النزوع الإلحادي يزيد صورة هذه الشخصية المريضة وضوحاً. فإذا شعر صاحبها أنه محكومٌ بسطوة إجتماعية تفرض عليه الإيمان فإنه يعلن عن إيمانه وإذا تسنى له ظرف الإعلان عن إلحاده فإنه لا يتردد في ذلك.
إنه شخصية غير مستقرة لكنها تتبع هوى الظروف المحيطة. وفي الأدب العام ولغة التداول ينطبق هذا النمط الشخصي على المنافق، نهاز الفرص، الذي لا يملك الجرأة التصريح بما يعتقد بل يساير الأقوى ويخضع له.
هذه هي أهم أنواع الشخصية المٌعتلة وقد أخذنا فيها أثر الإلحاد في زيادة وطأة السمات التي تمتاز بها؛ على عكس ما تؤول إليه نتائج المعالجة عندما يكون المصاب بها مالكاً لصورةٍ من صور الإيمان بالله.
***
إلى هنا في أعلاه نكون قد ناقشنا الأمراض النفسية والعقلية الشائعة في حياة الإنسان والتي رأينا ان للإلحاد حصة في ظهور وإستمرار وصعوبة الخلاص منها.
بقي علينا الآن أن نناقش الميول المرضية التي يمكن للفرد أن يمارسها في ظل إلحاده الذي يُجرِدهُ من الخوف من الله أو الحُب في إكتساب رضاه كما يُجرده من الحياء وإحترام أعراف المجتمع الذي يقيم فيه وينتمي له.
ومن هذه الممارسات:
1- الجريمة: ولا نعني بها الفعل الجرمي الذي يقوم به المريض النفسي أو العقلي الفاقد للإرادة والإدراك ساعة إرتكابه؛ إنما نعني به ذلك الفعل الناتج من فقدان الفرد لحرمة خالقه. فقتل النفس مُحرم إلا بالحق، ومن لا يملك الإيمان بالله لا يعرف الحق.
ومثل هذا المتهم القابل للإدانة يكون مجرماً، يؤسس لصعوبة قضائية حيث لا يردعه تحليف أو قسم أو ضمير ينشأ عند الفرد السوي من الإيمان بالله.
2- تعاطي المؤثر العقلي والإدمان: إن إيذاء النفس حد من حدود الإيمان بالخالق ومن لا يؤمن بالله لا يعرف مثل هذا الحد فيبدأ بإيذاء نفسه.
3- الزنا بالمحارم: وهذا أمرٌ يقع في دائرة التمرد على القانون الطبيعي ونداء الفطرة. ومن لا يؤمن بالله لا يعرف معنى المحرمات والمحارم من النساء.
4- الكذب: الكذ في المواعيد والكذب في المواثيق وإفتقاد المصداقية في الحديث، حيث ينهار إحترام الزمن وتزول الثقة بين الناس.
5- إضطهاد الأسرة: من لا وقار لله في نفسه لا وقار عنده لأبنائه وزوجه الذين كانوا ناتجاً لزواجه وتأسيسه أسرته.
والأسرة هي أصغر نواة إجتماعية ينتمي إليها الفرد ومنها يتضخم إنتماؤه إلى مجتمعه. ومن لا ينتمي إلى خالقه بالإيمان لا ينتمي إلى أبنائه.
هذه هي أهم الممارسات التي يقوم بها الملحد أو يكون مرشحاً لها. ورُبَ قائلٍ يرد علينا بوجود شخوص يقومون بمثل هذه الممارسات على الرغم من إيمانهم بالله.
ورداً على مثل هذا القول نقول: إن الإيمان عملية كبرى في النفس البشرية لا تقبل التجزئة، والذي يقوم بهذه الممارسات يعاني من خللٍ في إيمانه لأن الإيمان الناقص المريض شيء قريب من الإلحاد.
***
نودُ الآن أن نُثير قضيةً غايةً في خطورة طرحها على القارىء الكريم. مُلخص هذه القضية يُشير إلى وجود بعض الباحثين الذين يقولون إن الدين (وهو الطريق إلى الإيمان بالله) قد يُؤسس لأمراض نفسية؛ فيعدُون الإيمان نوعاً من الإستسلام وليس الإسلام بوجود الله فيكون الإيمان هنا قيداً في عنق صاحبه يعيقه عن حرية الإختيار.
لقد عالجت في عيادتي الخاصة نوعاً من هذه النتائج حقاً ولكنني فهمتُها على غير ما فهمها هؤلاء الباحثون. لقد صادفتُ مرضى يتعلقون بالإيمان على نحوٍ خاطىء.
وجدتُ بعضهم لا يُقبل على آيات القرآن (وكانوا من المسلمين) بروح التفاؤل بل يُقبل على آيات التهديد والوعيد ويكثر من استلهام مشاهد العذاب يوم القيامة فيعدُ نفسه مذنباً وهو لم يرتكب ذنباً، وبذلك يستحيل إلى مُستحق لعقوبةٍ لا وجود لها. ووجدت بعضاً آخر يحاول أن يعرف الله على وفق ما قربت به الآيات القرآنية صورة الله بيد وكرسي وعين، فيهمل فقه اللغة ومعنى المجاز في القول ويعمد إلى التفسير المباشر الذي يُشوش عليه صورة الله المُطلقة.
نعم ... هذا النوع من التواصل مع الإيمان نوعٌ مريضٌ يخلق الكثير من الأمراض النفسية التي يكون أساسها الخيبة من الرجاء والشك في رحمة الله وإخفاق الدعاء عن الإستجابة.
لقد أشار سيغموند فرويد إلى شيءٍ من هذا القبيل حين إعتبر الفكر الديني نوعاً من أنواع الحصار القهري واعتبر عدد ركعات الصلاة في الدين الإسلامي حصاراً قهرياً عندما يتعرض المُصلي إلى نسيان عدد الركعات في صلاتِه التي قام بها، ثم زاد على ذلك بعد رتابة الصلاة نوعاً من تعليم النمطMannerism Or Stereotypy.
كما أشار كارل ماركس إلى أن (الدين أفيون الشعوب) معتبراً أن الصلاة المكررة بتوقيت غير واضح والذرائعية في تفسير سلوك المستفيدين من الدين وممالاة الحكام بعدهم أولي الأمر نمطاً من الأفيون الذي يُخدر الناس ويُروِضهم على قبول النفاق.
إن كلا من سيغموند وماركس مردودٌ عليه في قولهِ. فهذه أمور تقع على عاتق الممارس الجاهل للطقوس، الذي لا يفهم المعنى الأبعد مدى والأعمق غوراً، وخطأ الممارس لا يُعَدُ خطأ الدين.
***
وفي الغُربة التي يتعرض لها كثيرٌ من الناس بسبب ضيق العيش في وطنهم الأول أو بسبب الإضطهاد الذي يواجههم في مجتمعهم الأول ينشأ كثير من الأمراض النفسية وعلى رأسها الشعور بالإغتراب.
تُعدُ كآبة الإغتراب Alienation depression أبرز الأمراض التي تصيب الفرد المهاجر. وعند الإصابة بهذا المرض لا يجد المريض سلواناً له ومُعيناً على الغربة إلا الإيمان بالله.
وإذا كان المهاجر مُلحداً فإنه يمرُ بأقسى أيامه من الشعور بالعزلة والإنطواء حيثُ يغيب عنه السند الإلهي المعين له على غربتهِ. وكثيراً ما يستعين هذا الفرد بتعاطي المواد المؤثرة عقلياً فيصبح مدمناً العقاقير التي تعيق مسيرته وتزيد غربته شدةً وزمناً. وأمام هذا الإنحدار السلوكي لا يجد غير الله واقياً له من الإنحراف.
***
إن تعرض الفرد للمآسي يستحث فيه العودة إلى الإيمان. فالسجين سجناً طويل الأمد يتعرض للعزلة القسرية وللحرمان الحسي حيث يَتشوَه عنده إحساسه بالزمن ويُصبح في حاجةٍ شديدة إلى الإستعانة بالله. ومثل ذلك ما يحدث للناس عند التعرض للوباء والزلزال والبركان والفيضان، حيث لا يعرف الإنسان ربه إلا عند الشدة التي تختفي فيها وأمامها كل تنظيراتهِ في الإلحاد وتفلسفه الفارغ في مسألة الوجود.
إن المحكوم بالإعدام لا ينسى أن يقول (لا إله إلا الله) ساعة تلتف المشنقة حول عنقه ناسياً إدعاءه السابق بأن لا إله لهذا الكون.
***
سألني أحد الأصدقاء: هل يُوجد فارقٌ في أثر الإلحاد في نشوء الأمراض النفسية بين المرأة والرجل؟ فأجبتُه: إن نسبة الملحدين في المجتمعات التي خضعت لدراسة بعض الباحثين تفوق نسبة الملحدات من النساء؛ وذلك لأسباب كثيرة منها حاجة المرأة تكويناً بايولوجياً إلى من تستند إليه، وانطفاء نزوع العبث والسلوك الفوضوي الصاخب مبكراً في حياة المرأة، وميل المرأة الفطري إلى الإيمان، وكره المرأة الدائم للدوران في ميادين الفلسفة الملحدة،ونزوع المرأة الدائم إلى الحتمية والإيمان بالقضاء والقدر. بهذه الأسباب يندر الإلحاد عند النساء فيقودُ إلى إنخفاض أثر هذا الإلحاد في إحداث أمراضهن النفسية.
د. ريكان إبراهيم