هل ارتد سحر "نافالني" على الساحر
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. كريم المظفر
إصرار المعارض الروسي الكسي نافالني، للعودة الى موسكو، اكثر ما يمكن تسميته (بالاستعراض)، قادما اليها من المانيا في السابع عشر من يناير من العام الحالي، بعد " مزاعم " تعرضه في أغسطس /اب الماضي الى محاولة تسميم بمادة " نوفيتشوك " شديدة الخطورة "اعدت " المانيا بانها دست في ملابسه الداخلية، من قبل جهات امنية روسية، مع علمه المسبق، بانه سيتم القاء القبض عليه من قبل سلطات تنفيذ الاحكام القضائية "لورود اسمه في قائمة المطلوبين إثر انتهاكه بشكل ممنهج الإفراج المشروط عنه، ما يقتضي ضبطه وإحضاره "، جعلني في موقف لا يحسد عليه بسبب كم الرسائل النصية والرسائل التي وصلتنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تقدم بها الزملاء الصحفيين والمثقفين الذين اجبرتهم الظروف للانتشار في ارجاء المعمورة بسبب الأوضاع في بلدانهم، ولكوننا مقيمين في روسيا منذ فترة طويلة تصل الى اكثر من (20) سنة، يستفسرون عما يحدث في روسيا .
واجمعت عندها في الإجابة على تلك الأسئلة، بأن عودة (نافالني) كانت ليست كما يقول مثلنا الشعبي (لله بالله)، وانما بات واضحا منذ اللحظة الأولى، بان عودته حملت معها سيناريو غربي، كان قد أعد مسبقا ، وبدايته كانت في المسيرات الاحتجاجية التي تشهدها بيلاروسيا، والتي بدأت مطالبها أولا بإعادة الانتخابات وتغيير لجنة الانتخابات، اعتراضا على اعلان فوز الرئيس الكسندر لوكاشينكو في الانتخابات الرئاسية، وخسارة المعارضة بفارق كبير، بعدها خرجت "ثلة ممن نصبوا انفسهم بقادة المعارضة "، وقيامها بجولات غربية، رغم انها لا تملك حتى أقيام هذه الجولات والفنادق الفارهة التي يسكنون فيها، لتتغير مطالب المحتجين الى المطالبة اليوم "بإطاحة" نظام لوكاشينكو،، عندها اطلق الرئيس البيلاروسي تصريحه "المثير" مخاطبا فيه روسيا، بأنه يمتلك من المعلومات بأن ما يحدث في بلاده، هو استهداف لروسيا بالدرجة الأساس عبر البوابة البيلاروسية، وفي هذا التصريح من المصداقية، فبعد احتواء اوكرانيا وجورجيا ودول البلطيق من قبل الغرب، لم يتبقى اما حلف شمال الأطلسي (الناتو) الا مينسك، التي يتمسك رئيسها "بالإرث التاريخي " بين الشعب الروسي وشعبه .
والسؤال الاخر الذي فرض نفسه، ما إذا كان نافالني بالفعل سياسياً هامشياً؟ ام سياسياً فاعلا، على الرغم من محاولات الدعاية الغربية تقديمه كزعيم للمعارضة الروسية، ومنافساً رئيسياً لبوتين، إلا أن الإجابة عن هذا السؤال هي بالطبع نعم، أليكسي نافالني هو سياسي هامشي، لكن صورة حجمه السياسي في الخارج، بفضل وسائل الإعلام الغربية، أكبر بكثير من حجمه الحقيقي داخل روسيا، فمن ناحية، يعتبر نافالني قزماً سياسياً، لكن لديه بعض الإمكانات كي يكون سلاحاً ضد روسيا كما يقول المحلل السياسي ألكسندر نازاروف.
وللتذكير، فان ما حدث للمعارض الروسي، هو تعرضه لازمة صحية في الطائرة التي تقله من مدينة تومسك الى موسكو، عندها لم تكمل الطائرة رحلتها وهبط في مطار أومسك، حيث كانت تنتظره مفرزة طبية لنقله الى المستشفى، ووفقا للتقارير الطبية التي قدمها الفريق الطبي لم تسجل تعرضه لأي مواد سامة، وبسبب رجاء عائلة (نافالني) للرئيس بوتين لنقله للعلاج خارج البلاد، وافق الكريملين على سفره لألمانيا، وهنا وقفة مهمة في مسار أحداث " التسميم "، فلو افترضنا جدلا بان الحكومة ضالعة في هذا الحادث، فلماذا اذن وافقت على سفره للعلاج في المانيا؟، وهنا تسقط تهمة ضلوع الحكومة في مرضه .
وفيما يتعلق بقضية التسميم المزعومة، ووفقا للاستطلاعات الراي فان 30% من الروس يعتقدون أن ما حدث لم يكن سوى مسرحية مفتعلة من السياسي المعارض نفسه، و19% يرون في ذلك استفزازاً متعمداً من أجهزة الاستخبارات الغربية، و15% يرون فيها محاولة من السلطة لإزاحة أليكسي نافالني، في الوقت نفسه، يثق ما يصل إلى 34% من الفئة العمرية 18-24 عاماً من عينة الاستطلاع في تورط السلطة في عملية "التسميم"، وعلى خلفية أغلبية المواطنين الروس الذين لا يهمهم مصير نافالني، وجد استطلاع الرأي أن 17% فقط من المواطنين يتابعون عن كثب تطور هذه القضية.
وهنا نستذكر مثال روسي قديم يتداوله الروس بشكل كبير «تكرار كلمة حلوى لن يجعل مذاق اللسان حلواً"، وعلى ما يبدو ان الغرب، الذي لا يكل ولا يمل من تنظيم سيناريوهات " التآمر " ليس ضد روسيا فحسب، بل أيضا ضد أي دولة تقف عائقا ضد مصالحها، حتى تلك الدول التي تعتبرها " حليفة لها "، ولنا في التاريخ القريب الكثير من الشواهد سواء في ليبيا والعراق وسوريا وكوري الشمالية والصين.. والقائمة تطول، مستخدما آلة إعلامية ضخمة لا توازي لا من قريب ولا من بعيد ما تمتلكه الدول المستهدفة، وللأسف تتبعها وسائل الاعلام العربي (كالببغاء) ما يبثه الاعلام الغربي، و " محلليها الفطاحل" ممن باتت مصالحهم تتعارض مع روسيا، وهذا ما حدث بالضبط عند عرض فيلم مفبرك حمل اسم (قصر بوتين) وبلغة ركيكة غير موجودة في اللغة الروسية.
ووفقا للسيناريو المعد فقد لجأ نافالني الى تهييج مشاعر الشباب والقصر، عندما نشر فيلما " زعم " أنه بني كمقر سري فاخر للرئيس فلاديمير بوتين، بناه " الأوليغارشية " المقربين منه، والذي كتب سيناريو الفيلم هي غرفة أطلق عليها نافالني اسم "غرفة الطين" mudroom، وترجمها حرفياً عن الإنجليزية دون معرفة، بعد أن قدمها له شخص ما، باللغة الإنجليزية، إلا ان هذه الجولة افشلتها مانشرته قناة Mash على موقع "يوتيوب" من تقرير مصور من داخل القصر قيد البناء، موضحة أن فريقها صور هذه اللقطات بموافقة من ممثل عن الهيئة المشرفة منذ ست سنوات على أعمال بناء الموقع العقاري.
وكشفت اللقطات المعروضة للموقع ان البناء في مراحله الابتدائية وإنه من المتوقع أن تستكمل أعمال بناء القصر بعد خمس-ست سنوات فقط، وانه ليس كما عرض في فيلم نافالني الذي صور " القصر " من عجائب الدنيا " الثامنة " وفيه مواقع مختلفة منها غرف فاخرة بشكل مفرط وكنيسة، وتبيّن أن صورة إحدى الغرف في "قصر بوتين" كانت في الواقع صورة لقاعة مكتبة براغ، وإن القيمة المعلنة للـ "قصر " المزعوم لا تساوي حتى تقريباً تكلفة يخت واحد من اليخوت التي يمتلكها الأوليغارشي الروسي أبراموفيتش، وأن الفيلم أقرب للعمل الدرامي منه إلى الوثائقي، فهناك كثير من الأكاذيب.
أما قناة "دوشد" التلفزيونية المعارضة، فقد أفشلت هي الأخرى بنفسها " مزاعم " الزخم الكبير للمظاهرات وان تباينت الآراء بشأن عديدها، فما بين 4000 الاف بحسب الإعلانات الرسمية و20000 الفا كما يقول الغرب مسافة كبيرة، واخذنا اوسطها، فان من اجرت معهم القناة من المشاركين في الاحتجاجات في مقابلات مباشرة، اجمعوا ان خروجهم ليس تأييدا لنافالني كما يروج له، بل غضبا من "القصر"، لذلك فإن صغر حجم الاحتجاجات وغياب الدعم الشعبي الواسع لها، يتركان طريقاً واحداً أمام منسّقي تلك الاحتجاجات لتحقيق زعزعة الاستقرار، وهو تنسيق إراقة للدماء، بحيث يموت أثناء الاستفزازات عدد من الأشخاص، من المفضّل أن يكونوا أطفالاً في المدارس، حتى تنتفض روسيا غاضبة من تصرفات "النظام الدموي"، وعندها يبدأ تصعيد الاحتجاجات، لكن حنكة قوات حفظ الامن وتعاملها بشكل مهني وخلق حالة من العلاقة الإنسانية مع المشاركين من توزيع " الأقنعة الطبية " لهم وحثهم على التباعد الاجتماعي، أفشل جزء مهم من اهداف هذه التظاهرات.
لقد بات واضحا ان المعارض الروسي، ما هو الا تجسيد لقوى سياسية لا يهمها شعب روسيا اكثر من همها ثروات بلاده، وان نافالني الذي لا يتمتع الا بدعم 2% فقط من المواطنين الروس، ويراهن أعوانه على الإطاحة بالحكومة باستخدام العنف والشارع واستغلال أطفال المدارس كدروع بشرية لهذا الغرض، في وقت حصل الرئيس بوتين وفقا لاستطلاعات الراي ومنهم الذي اجراه المركز الروسي لأبحاث الرأي للفترة من 11-17 يناير،أظهر أن حوالي 66% من سكان روسيا يثقون برئيس البلاد، فلاديمير بوتين، بينما أبدى 29.7% عدم ثقتهم بالرئيس الروسي، وان 60.3% من المستطلعين، حسب المركز، يتوافقون مع أنشطة بوتين، فيما لم يوافق عليها 29.7 %، ما هو الا " كومبارس " في فيلم معروفة نهايته " كالأفلام الهندية "، التي تجمع نهايتها على ان عروسة البطل تظهر " فجأة " انها اخت العريس .
اذن ماذا يريد نافالني ومناصروه في الوقت الذي ينادي فيه كل الناس في روسيا ضد ظواهر الفساد؟ هل لديه برنامج سياسي واضح؟ هل يقترح حلولاً فعالة للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها المواطنون؟ ولماذا تستجدي مكاتب نافالني الشباب القاصرين للخروج بهم إلى الشارع؟ لقد ارتد السحر على الساحر على نافالني، حتى ان معظم أحزاب المعارضة في روسيا نأت بنفسها عن نافالني، وكشف نفسه على انه أداة غربية بامتياز.
بقلم الدكتور كريم المظفر – موسكو
الجوهر.. سجالات فلسفية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: علي محمد اليوسف
كان أنشتاين معجبا بعبقرية الفيلسوف الالماني لا يبنتيز 1646- 1716المتعدد المؤهلات العلمية والرياضية إضافة للفلسفة التي لم يعطها أهل عصره الاهتمام الذي تستحق إنجازاته العظيمة فهو لم يختص بالفلسفة فقط التي لايختلف على عظمته بها إثنان، بل إشتغل بالرياضيات ويرجع له فضل أختراعه الحاسبة المتطورة في إجراء العمليات الحسابية، وإكتشافه التفاضل والتكامل في الرياضيات حتى أعتبره المهتمون بتاريخ الفلسفة عالم رياضيات وليس فيلسوفا. وأمتدت إهتماماته العديدة الى ميادين أخرى ترك بصمته المتفردة عليها، مثل السياسة والتاريخ والقانون واللغة والاجتماع والعلم الطبيعي وفي ربطه تطبيقات النظريات العلمية مع الواقع العملي الميداني. هذه المؤهلات التي لم يكن ينافسه أحد في فرادته المميزة فيها. ومن المؤسف بعد وفاة لايبنتيزعام 1716 لم يهتم أحد بتشييعه سوى سكرتيره ايكارت ولم يشارك غيره التشييع من أهل الفكر والدولة.
لايبنتيز والجوهر
يمتاز لايبنتيز بنزعة رياضية في تناوله قضايا فلسفية، إلا أننا نجده على خلاف اسبينوزا وديكارت وكانط الذين لا ينكرون صعوبة مبحث الجوهر الذي يعتبره لايبنتيز"الجوهر كائنا كاملا يحتوي على كل ما يخصّه، وهو موضوع يتضمن محمولاته التي يدركها العقل. معتبرا الروح جوهرا يمتلك المعرفة الحقيقية" 1
عبارة لايبنتيز هذه حول الجوهر تتعارض تماما مع كل من سبينوزا، ديكارت، وكانط على إختلاف رؤاهم الفلسفية حول الجوهر. وأشّد مايكون التناقض الصارخ نجده عند اسبينوزا الذي أقام فلسفته عن الجوهر مرتكزا على ميتافيزيقا الإيمان الطبيعي في مذهب وحدة الوجود غيرالديني الصوفي بل وحدة الوجود على نطاق الفلسفة والمعرفة وهو ما لا يقر به لايبنتيز ولا يؤمن به. كونه لا يعترف أساسا أن يكون الجوهر موضوعا لا يدركه العقل كما فعل اسبينوزا.
إعتبر اسبينوزا الجوهر ليس مخلوقا ولا يدرك لا في الاشياء ولا في النفس أو الروح. وذهب اسبينوزا الى نظرة فلسفية عن الجوهر تكاد تكون خاصة به عندما إعتبر الوجود يستمد إدراكه من الجوهر كما لا يمكن الإستدلال بالوجود لمعرفة الجوهر، والوجود عند اسبينوزا واحدا لا يقبل التجزئة والانقسام لأنه وحدة كلية مفهومية كما هو جوهر أو ماهية الزمان التي لا تدرك إلا بدلالة حركة الاجسام داخلها.
اسبينوزا لم ينكر وجود الجوهر بالأشياء الذي إعتبره نوعا من الإلهام الإلهي البديهي فيها لا يمكن إدراكه كونه مفهوم كلي يعود الى الله الذي نتصوره جوهرا كونيا كامل التمام في المجانسة الكيفية الواحدة التي لا تتقبل التجزئة، لكننا نحدس في موجودات الطبيعة دلالات الجوهر المثالية الإعجازية على أنه جوهر متعال على الطبيعة والوجود.
لم يحدد أسبينوزا طرائق إستدلالية في إدراك الجوهر فهو خالق غير مخلوق، بل وجد بالصفات الظاهرة بالاشياء التي من الممكن أن تكون دلالة لتعزيز الايمان القبلي المطلق أن الجوهر موجود في كل شيء. وكل شيء بالوجود يعرف بدلالة الجوهر. ولا يجب إعتبار الصفات المدركة بالاشياء هي التي تعيننا على إدراك الجوهر فيها، بل ما يحدد الجوهر بألاشياء هو الإيمان القبلي لإدراكنا الوجود.
إن الله لم يخلق الجواهر الموزعة بالطبيعة للإستدلال بها عليه كجوهر تام الكمال وشامل، فالطبيعة بالوقت الذي تكون فيه جوهرا يتعالى عليها جوهر من أوجدها. وتكتسب وجودها الطبيعي من تبعيتها لجوهر الكمال الالهي.
وحسب اسبينوزا إقتصرت رغبة الله الخالق أن لا يكون عقل الانسان ولا متاح له إدراك جواهر الاشياء بل أن يدرك صفاتها فقط. وبهذا المعنى أخذ كانط على عاتقه قطع طريق الإجتهادات الفلسفية في مناقشة قضية الجوهر بلا طائل يتحصّل منه، وقال علينا إدراك ما يتطابق مع العقل من الإدراكات التي هي الصفات لاغيرها، مع وجوب ترك الخوض في غمار الجوهر وعلينا إغلاق عقولنا على حقيقة أن إدراكات العقل المحدودة تكتفي لمعرفة الصفات المدركة فقط.
قد تبدو مفارقة غريبة أن أفكار كانط حول الجوهر كانت مدار قناعة تامة لدى كل من الفلسفتين الماركسية والوجودية رغم ألتباين الشديد بينهما، الماركسية تحاشت الإنزلاق نحو تصنيف اسبينوزا كل شيء يحمل ثنائية تركيبية متلازمة من صفات ظاهرية وجوهر خفي، ولما كانت الماركسية تؤمن أن لاشيء يسبق الوجود المادي إعتبرت الجوهرقضية تدخل في مثالية التفكيرالتجريدي الذي يعتمد الخيال الفكري أداة تصنيع تخليق ما يرغبه ويشاء بعيدا عن مهمة العقل الإدراكية للواقع بما هو موجود وليس بما هو وراء /فوق الإدراك للطبيعة.
ديكارت والجوهر
لو عدنا الى ديكارت نجده عالج قضية الجوهر من منطلق إرتكازه الكوجيتو انا افكر اذن انا موجود. في هذا التعبيرالفلسفي المشهور لديكارت أقام أكثر من مسألة بالغة التأثير بعده من فلاسفة نقاد لمقولته تلك منذ القرن السابع عشر والى يومنا هذا منها:
- وعي الذات المفّكرة هي لإثبات الوجود الإنفرادي فقط، وأخذ العديدون من الفلاسفة على ديكارت أنه ربط وعي الذات في تحقق الوجود الفردي القائم على إلغاء الموضوع مادة التفكير مكتفيا أن مجرد التفكير هو دلالة واقعية مادية في إدراك الوعي بالوجود الذاتي.
- برأينا أن من أهم الامور التي أغفلها الفلاسفة الذين أدانوا كوجيتو ديكارت بالسلبية هو في إفتقاده لموضوع التفكير. متجاهلين أن حقيقة أي تفكير عقلي للانسان لا ينفصل عن موضوع إدراكه المفكّر به. وهذا سبب كاف بالرد على الذين يشككون بالتفكير المجرد عن موضوعه أن يكون وسيلة تحقق الوجود.، ألتفكير ألذي يثبت وجود الشخص المفّكر هو بألحتم يحتوي ضمنا موضوع التفكير بماذا يفكّر ولماذا؟ ألتفكير عملية قصدية لا تجري في فراغ.
- وليس دفاعا عن ديكارت وأنما من الاقرار بحقيقة أن العقل الذي يعي تفكيره الذاتي لا يخلو عنده إقتران التفكير الإدراكي المجرد أن لا يصاحبه موضوعه الخيالي الذي يكون مادة تفكير العقل في إثبات الوجود. التفكير بحد ذاته هو وعي مادي قبل أن يكون خيالات لامعنى لها، خاصية العقل الإدراكية السوية الطبيعية أنه يفكر بكل ما له معنى فقط. وكل تفكير مجرد يخلو من قصدية التفكير بموضوع معيّن يكون زائفا غير حقيقي لأنه تفكير في اللامعنى وهو أستحالة أدراكية بالنسبة للعقل السليم التفكير في فراغ خال من الموضوع.
- وعي الذات الانساني وعي نوعي وخاصية انسانية لا يمتلكها الحيوان، كما لاتمتلكها مخلوقات الطبيعة وموجوداتها، عليه الحيوان لا يعي صفاته ولا يعي جوهره. ونوضح هذا أكثر لاحقا.
- من خلال الكوجيتو أيضا أعتبر ديكارت قبل لا يبنتيز الروح أو النفس هي جوهر يمتلك كامل الإستقلالية، وأعتبر العقل جوهرا يلازم الروح ويختلف عنها أنه جوهر ماهيته التفكير وهو خالد بعد الممات، بينما الروح تتجّلى بالسلوك القائم على العواطف والوجدانات والاخلاق والضمير التي هي ميزات خصائصية تعلو وصاية العقل لكنها لا تقاطعه تماما.
- وأعتبر ديكارت العقل والنفس جوهرين متلازمين يجمعهما الخلود بعد فناء الجسم بالموت، وهنا يكون ديكارت غادر منهجه العقلي العلمي الذي يقوم على التجربة الحسية المادية المنبعثة عن الشك في حقيقة وزيف الموجودات. وهذه المفارقة الديكارتية تلتقي مع ما ذهب له لايبنتيز رغم عقليته الرياضية العلمية الجبّارة أيضا السقوط في الميتافيزيقا إذ إعتبرلايبنتيز كما أشرنا سابقا "الروح جوهر يمتلك المعرفة الحقيقية " وهذا لايقل ميتافيزيقية وهمية عما جاء به ديكارت حول خلود العقل والنفس من ميتافيزيقا مثالية تحتاج الكثير من الإقناع العلمي.
أنه من الممكن المتاح إعتبارنا الروح جوهرا تاما لا يدرك بدلالة العقل، وهو الرأي الصحيح الذي سبق وقال به اسبينوزا حين إعتبر الجوهر يسمو على العقل والطبيعة ولا ينقاد لهما بل العكس هو يقودهما بدلالته من حيث أن الجوهر يعطي الوجود حيثية وجوده ولا يكتسب هو من الوجود أضافة له، فالمجانسة غير النوعية المفارقة بين الجوهر والوجود لا تكتمل بالصفات المتباينة ولا تتشابه بالماهيات المختلفة. وقبل أن نغادر هذه الفقرة نؤكد مسألة خطأ متوارثة طويلا في تاريخ الفلسفة مجمع عليها من العديد من الفلاسفة هوأن الجوهر يعرف بدلالة الوجود، الى أن جاء اسبينوزا وقلب القاعدة الخطأ أن الوجود ذاته يدرك بدلالة الجوهر.
الفلسفة الوجودية والجوهر
هوسرل في الظاهراتية (الفينامينالوجيا) ومعه هيدجر إعتمدا مبدأ مفارقا مفاده ليس مهما أن نعرف الجوهر موجودا بالاشياء أم غير موجود في حين يتوجب علينا أن يكون وعي الذات هو ليس لإثبات الوجود الإنفرادي كما فعل ديكارت في الكوجيتو، وإنما حدد أقطاب الوجودية، أهمية الوعي أن يكون قصديا أولا، وثانيا لا يتحقق الوجود الحقيقي غير الزائف إلا ضمن عالم يحتويه في المجانسة الإدراكية، فلا يكفي أن يعي الانسان وجوده بالتفكير المجرد المنقطع عن الناس.وهي فكرة فلسفية نادى بها برينتانو استاذ هوسرل.
ولو نستطرد قليلا مع هوسرل في الفينامينلوجيا حين كان قد ذهب الى أن الاشياء تكون في وجودها المادي المدرك أو الخيالي غير المدرك يتوزعها نوعان من الوجود هو الوجود (بذاته) نومين يتعذر إدراكه الحقيقي الجوهري عقليا، وفينومين الذي هو الوجود المدرك بالصفات في عالم يمكن إدراك موجوداته بظواهرها الصفاتية الخارجية فقط لا بماهياته المحتجبة خلف الصفات. وهو مبدأ فلسفي يعود في مرجعيته الفلسفية الى كانط. أذ أعتبر الوجود بذاته ميتافيزيقا لا معنى البحث فيها. وأعتبر الركض وراء التحقق من جواهر الاشياء لا قيمة ترجى منها. أما سارتر في تأكيده الجوهر موجود عند الانسان والحيوان بفارق (نوعي) بينهما له رأي فلسفي خاص به يقوم على مايلي:
- الجوهر كينونة الانسان الذي هو الماهية يختلف عنها عند الحيوان بفارق نوعي هو أن الانسان يعي جوهره الذاتي الذي هو ماهيته، بينما الحيوان لا يعي ذاته ولا يعي جوهره الماهوي، لذا نجد أن صفات الانسان الخارجية التي يتشارك بها مع الناس بالنوع من جنسه، نجدها بالمقابل في المقارنة مع الحيوان الذي لا يدرك صفاته ولا يدرك جوهره أو ماهيته، وللتفريق أكثر هو أن جوهر الانسان يقوم كما ذكرنا على وعي الانسان القصدي بالحياة، لذا يكون الجوهر هي ماهية الانسان التي يصنعها بوعي ذاتي إنفرادي طيلة حياته ويدركها لوحده فقط، والجوهر الإنفرادي عند الانسان خاصية ذاتية لا يدرك من الآخرين من نوعه، بل ما يجمع الانسان وجودا بغيره من نوعه هومشاركتهم في الصفات الخارجية والسلوك المجتمعي الذي لا يعتبر خاصية إدراكية فردية بل خاصية جمعية نوعية قائمة على تبادل العلاقات.
أما لو أخذنا الحيوان فنجد وجوده الكلي يقوم على صفته الاساسية هي الكفاح من أجل البقاء يعيش لياكل، عليه يكون الحيوان لا يعي ذاتيته ولا يمتلك قابلية التعبير عن مدركاته باللغة التي يحوزها الانسان فقط، ويترتب على هذا أن ماهية أو جوهر الحيوان على العكس من الانسان تصنعه له الطبيعة بلا وعي منها والتي لا يدركها الحيوان ولا هي تدرك ما تقوم به تجاه الحيوان. تكيّف الحيوان مع الطبيعة كي يعيش هو تصنيع من الطبيعة لماهية الحيوان دونما وعي وإدراك منهما كليهما.
لذا يكون الإحساس بالزمن عند الحيوان معدوما بخلاف إدراك الانسان للزمن وإبتداعه التوقيت الزمني الذي ينّظم له إدراكاته الزمانية في فهم ظواهر الحياة. الطبيعة لا تخلق جوهر الانسان كما تفعل بلا أدراك منها تصنيعها ماهية أو جوهر الحيوان التي هي صفاته الخارجية المدركة عنه لا غير. الحيوان لا يمتلك جوهرا كونه لا يعي ذاته ولا يعي الطبيعة من حوله، ولا يفهم أية علاقة تجمعه بالطبيعة غير توفيرها أسباب بقائه في توفير الغذاء له دونما وعي من الطبيعة ولا ادراك من الحيوان.
خاتمة وتلخيص
الجوهر موضوع سجالي بالفلسفة غير محسوم في تعدد وجهات النظر عنه، فمنهم من أعطاه الصفة المادية القابلة للإدراك العقلي، ومنهم من أنكر ذلك في إعتباره الجوهر هو من مباحث الميتافيزيقا. وتناوله العديد من الفلاسفة منهم لايبنتيز، وديكارت، واسبينوزا، وكانط وفلاسفة الوجودية كلا برؤية فلسفية مغايرة. ونجد أن أقطاب فلاسفة الوجودية يلتقون مع الماركسية قولهم لا حاجة البحث في ماوراء صفات الاشياء التي هي كافية للبت في معرفة كينونة الموجودات من غير الانسان، وتطرق فلاسفة آخرين الى موضوعة التفريق بين جوهر أو ماهية الانسان إختلافها عن لا جوهر ولا ماهية الحيوان التي لا يمتلكها أساسا لإرتباطها بالوعي العقلي. كما يلتقي لايبنتيز مع ديكارت في إعتبارهما النفس جوهرا منعزلا عن العقل تمتلك كل مواصفات الادراك النفسي وحتى الخالد كما ذهب له ديكارت. وفي الختام لا بد من التنويه لمسألة تم ذكرها هي إختلاف الفلاسفة حول وجود أو عدم وجود الجواهر بالاشياء، بخلاف الانسان الذي لايكون وجودا متكاملا من دون جوهر يداخله يصنعه بنفسه وهو أي جوهر الانسان ليس صفاته المشتركة مع غيره البشر من نوعه.كما أن جوهر الانسان يختلف عن لاجوهر الحيوان وكذا عن لاجوهر الاشياء في موجودات العالم والطبيعة.
علي محمد اليوسف /الموصل
الهامش (1) د. امل مبروك، الفلسفة الحديثة ص 102
آل روتشيلد مهندسو بروتوكولات حكماء آل صهيون
- التفاصيل
- كتب بواسطة: علجية عيش
أوّل المُمَوِّلِين لقيام الكيان الصهيوني
(أندرو جاكسون وصف "آل روتشيلد" بالأفاعي وجون كندي اغتيل بسبب علاقته بجمال عبد الناصر في ما يخص القضية الفلسطينية)
آلاف الملفات الحساسة جدا التي لا تزال مخزنة في البيت الأبيض تعود إلى رؤساء قادوا الولايات المتحدة الأمريكية مثل ملف اغتيال جون كندي، عندما آزر القضية الفلسطينية وملف آل روتشيرد وكيف وقف أندرو جاكسون ضد هذه العائلة وطردها، بعدما وصفها بالأفعى، وظلت هذه الملفات عقود في خانة السرية إلا أن ترامب قرر نشرها إلا أنه تحفظ على بعض الملفات ويرفض كشفها للرأي العام كونها تتعلق بالقضية الفلسطينية أو ملفات يكون من بين المتورطين فيها، والحديث عن القضية الفلسطينية مرتبط بالحديث عن ظروف ظهور الكيان الصهيوني، حيث يعود تاسيس دولته إلى مجموعة آل روتشيلد مهندسوا بروتوكولات حكماء صهيون، وقد كان الأب الممول الرئيسي لقيام الدولة الصهيونية على دولة فلسطين رافعا شعار: "من لا يملك المال لا يملك القوة"
فكشف الملفات الحساسة والتي يتورط فيها كبار رجال السياسة والإستخبارات تتم عادة بموجب قانون مثلما جرى في ملف اغتيال جون كيندي الرئيس الـ: 35 للولايات المتحدة الأمريكية والذي سمح ترامب كشف ملفه اغتياله بموجب قانون تم تمريره عام 1992 استجابة لمطلب الراي العام الأمريكي، تكشف الكتابات أن اغتيال الرئيس جون كندي كان بسبب العلاقة التي كانت تربطه بالرئيس المصري جمال عبد الناصر، وكان الإثنان اتفقا على حل القضية الفلسطينية، ومن هنا بدأ التخطيط لنظرية المؤامرة، بذريعة معارض كندي للمشروع النووي الإسرائيلي، ومحاولته إرسال فرق تفتيش للتأكد من سلمية البرنامج، فكان محط أنظار الموساد (جهاز المخابرات الإسرائيلي)، في رسالة من نجلة الرئيس جمال عبد الناصر كشف فيها هذا الأخير أن معالجة ملف القضية الفلسطينية كرجها الرئيس جون كنيدي وكشف لعبد الناصر عن رغبته في حل مشكل اللاجئين الفلسطينيي من خلال تبنيه قرارات الأمم المتحدة لحل المشكلة، وهذه القرارات كان إما رجوع اللاجئين الفلسطينيين إلى موطنهم أو تعويضهم وكان هذا المقتلاح نفس توجهات مصر، لكن غسرائيل رفضت عودتهم أو تعويضهم، فضلا عن رئسائل اخرى تحدثا فيها الطرفان عن الأوضاع في اليمن وغير ذلك، ويعد اغتيال الرئيس الأسبق في 22 نوفمبر 1963 في دالاس، لحظة مفصلية في تاريخ الولايات المتحدة، نظريات المؤامرة منذ عقود، ما جعل ترامب بعض الأسرار طي الكتمان، لأسباب أمنية وهذا بضغط من وكالة الاستخبارات المركزية.
آل روتشيلد مهندسو بروتوكولات حكماء آل صهيون
تقارير أخرى تكشف أن من بين الرؤساء الذين وقفوا ضد التواجد اليهودي الرئيس الأمريكي السابع أندرو جاكسون عندما فتح النار على آل روتشيرد وأمر وزير الخزانة بسحب جميع الودائع من البنوك التابعة لروتشيلد في امريكا عام 1823 من أجل إيداعها في حساب بنوك الدولة، وتمكن من تسديد الديون الفيدرالية للمرة الأولى في التاريخ وهو ما جعل الحكومة الأمريكية مستقلة عن سيطرة مصرفي آل روتشيرد، وسبب له هذا القرار أن يكون أول رئيس أمريكي يعاني محاولة الإغتيال في 1835، لكونه الرجل الوحيد الذي استخدم حق الفيتو ضد إنشاء البنك المركز الأمريكي، لأن جزء كبير من اسهم هذا البنك يسيطر عليه الأجانب وهو ما اعتبره خطرا ليس على أمريكا كدولة بل على الشعب الأمريكي، ويخشى أن يقعوا ضحية استغلال هؤلاء الأجانب عبر القروض، والسيطرة على العملة الأمريكية، كانت أسر آل روتشيرد الخمسة تتمتع بنفوذ وكانت دوما تنتظر الفرص لنشوب الحروب المبرمجة في فلسطين والجزائر من أجل دخولها في المعمعة عن بُعْد باستخدام نفوذها وإلقاء ثقلها المالي الكبير لتحريك جماعات الضغط اليهودية.
و قد تدخلت لحماية مصالحها ومصالح حلفائها كفرنسا وإنجلترا التي تأوي الجاليات اليهودية، وكان كل من ناتان روتشيلد في لندن وأخيه يعقوب جيمس روتشيلد في باريس بمثابة الرواد في مضمار تاسيس الجماعات السياسية الضاغدذطة بمفهومها العصري، أما تاليران اذي كان سفير فرنسا في لندن ووزير خارجية فرنسا ورئيس حكومتها وكان مفاوضا باسمها في مؤتمر فيينا تكفل بالجانب السياسي في كل علاقاتها مع حلفائها وحل مشاكلهم سواء كانت سياسية أو افتصادية، وتنحدة أسرة آل روتشيلد من أصل الماني وكانت تقطن بفراكفورت سور ماين بألمانيا، كان ماييل أمشيل وهو الأب، يملك محلا لصرف العملات ويحمل اسم "الدرع الأحمر" وتكتب بالألمانية: " Zum rothen schilde ومنه جاء اسم العائلة، اختار ماجير أشيل روتشيلد (الأب) هذا الإسم للتعتيم على اسمه العبري، خاصة بعدما عمل بإحدى البنوك بهانوفو وجمع ثروة، أهّلته لأن يصبح "حاخاما"، ثم ترقيته إلى يهودي البلاط في عهدة الأمير غليون التاسع، لكنه وأبناؤه احتفظوا بجنسيتهم الألمانية حيثما استقروا في كل الدول التي آوتهم، ولم يتجنسوا بجنسية أجنبية كما نلاحظه في بعض الشعوب التي آثرت التخلي عن جنسيتها الأصلية أو تحمل جنسية مزدوجة .
وآل روتشيلد هم مهندسو بروتوكالات حكماء آل صهيون، وأول الممولين لقيام الدولة الصهيونية على دولة فلسطين عبر شراء وعد بلفور كما كانت أول الممولين بأموالها بناء أول المستوطنات على أرض فلسطين وبذلك استطاعوا زرع إسرائيل على خريطة العالم من العدم، وصورة مائير الآن تتصدر العملة الإسرائيلية ( الشيكل الإسرائيلي)، كما يستعملون السيوف والدروع رمزا لهم كدليل على الهيمنة، فكانوا سبب الحروب في الماضي والحاضر، كما استطاع الأب ماجير أشيل روتشيلد تأسيس منظومة بنكية صهيونية سميت مجموعة آل روتشيلد البنكية groupe lcf rothshilsd، حيث لعبت دورا كبيرا خلال الحربين العالميتين من حلفاء ومحور وتمويل ألمانيا النازية ومحرقة اليهود، وتمتلك 80 بالمائة من ثروات العالم وهي المسؤول عن إحداث كل الأزمات الإقتصادية والسياسية لأهداف توسعية ربحية، وقد وصف الرئيس الأمريكي أندرو جاكسون آل روتشيلد بالأفاعي، حيث خاطبهم قائلا:" أنتم وكر من الأفاعي وأنا عازم على استئصالكم"، يقول مؤرخون أن الرئيس الأمريكي أندرو جاكسون كان شخصية كاريزماتية، وقد ساعدته في المقاومة لأوساط المال، لدرجة أنه تعرض في كثير من المرات لمحاولات اغتيال، قبل وفاته أوصى بالكتابة على قبره عبارة: " لقد نجحت في قتل لوردات المصارف رغم محاولاتهم التخلص مني".
علجية عيش
جدل السؤال والتساؤل في الفلسفة! (1)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. محمود محمد علي
يكاد يتفق معظم الباحثين علي أن هناك فرق بين السؤال والتساؤل، ليس في ميدان الفلسفة فحسب، بل في كل الميادين تقريبا، لأن السؤال بصيغه المختلفة : " من؟، ما؟، ماذا؟، لماذا؟، كيف؟، أين؟، متى؟، وجميع الصيغ القريبة منها، أو المشتقة منها يتعلق باستفهام محدد عن معلومة، أو إجابة، أو تقرير والوقوف عند ذلك، بينما التساؤل يتعلق بموضوع مفتوح، أو بقضية غير منتهية، أو بتناول مشكلة جزئية، أو كلية، بحاجة لمزيد من البحث، والدراسة، والحوار. ولهذا فإن التساؤل يفيد ويثري الميدان الفلسفي أكثر من السؤال. ويمكن للتساؤل أن ينطلق من نفس صيغة السؤال التقليدية، والصيغ المتعددة للأسئلة يمكنها بدورها أن تمهد لتساؤلات بعدها، ومن ثم تمنحنا تلك التساؤلات تفكيراً فلسفياً بأمل الوصول إلى فكر فلسفي، ومن ثم معرفة ممكنة عن مشكلات فلسفية غير محددة.
ويعد طرح الأسئلة بشكل عام من أهم أدوات العلم والمعرفة، والوصول إلى الحقيقة، وتبديد الجهل حولها، وكان للسؤال في اللغة العربية، عدة أغراض، ومنها: السؤال على الحقيقة، كأن تسأل عن شيء تجهل معناه، والسؤال لأغراض أخرى؛ كالسؤال التعجبي، والسؤال الإنكاري، ومن ضمن أنواع الأسئلة التي تفيد الحقيقة السؤال الفلسفي، وهو السؤال الذي يهدف إلى الوصول إلى المعرفة، والتي يكون دافعها الفضول والحيرة الناتجة عن الشعور بوجود مشكلة. أهداف السؤال الفلسفي يهدف السؤال الفلسفي إلى وصول السائل إلى حقيقة جدليّة تباينت حولها الآراء، واختلفت بشأنها المذاهب التفكيريّة، فهو ينحصر في زاوية حيرة العلماء لمسائل تتعلق بالوجود وأسبابه، وذلك بطرح أسئلة افتراضيّة وتخيلات من قبيل: ما أصل الوجود؟، ومن الذي أوجد الوجود؟، وما مصير العالم؟، وهل حقيقة يوجد بعث وحساب، وجنّة ونار، فهو نمط أسئلة جريئة يهدف للوصول إلى الحقيقة، وإن تعذرت الأفهام عن الوصول إليها. يتراوح السؤال الفلسفي بين المذهب العقلي والمذهب التجريبي في التفكير، فمن حق العقل كما يتصوّر مثيرو الأسئلة الفلسفيّة أن يتصور الأشياء، ويطرح الأسئلة بهدف الوصول إلى الحقيقة، ناسين أو متناسين محدوديّة العقل البشري، ومحدودية الحواس لحكمة يريدها الخالق عزّ وجل.
وقد نشأت الأسئلة لدى الإنسان عندما تعامل مع الطبيعة بكل قضاياها، وبدأ الإنسان يفكر بكلمة " مشكلة " حين لم يجد لأسئلته صدى يرضيه من الطبيعة ذاتها، وللإنسان طبيعته الخاصة في مقابل الطبيعة الخارجية، وبين الطبيعتين تتولد المشكلات على شكل أسئلة، ولكن محاولات الإنسان الإجابة على أغلب الأسئلة إن لم يكن جميعها كانت تستند بداية على الخيالات والأساطير التي هي أبعد عن العقل، ومن ثم فقد وضع الإنسان تصوراته المبدئية باعتبارها حلولاً مؤقتة فدخلت تلك التصورات في الأساطير والآداب والملاحم والفنون والتاريخ مشكلة أنماطاً وارتباطات حددت ملامح ومسار التفكير ضمن ميادين محددة، بحيث حصرت تفكير الإنسان من خلالها لفترة طويلة، ولكنها من جهة ثانية لم تقدم للعقل ما يرضي شغفه، وعند ذلك بدأت الفلسفة تطرح أسئلة العقل معتبرة تلك الخيالات والتصورات مشكلات تدور حولها الأسئلة من جديد.
وإذا تساءل المرء عن الأهداف المرجوة من الفلسفة، فمن الواضح أنه سيصطدم بالعديد من المشاكل، وربما تحجب مشاكل المنفعة والجدوى مشاكل التعريف، والتحديد، ومشكلة النشأة، والميلاد، ومشكلة تاريخ المعارك، والمصير، والحضور في الواقع الاجتماعي، والعلاقة التي تقيمها مع العلوم والمنزلة التي تحتلها في الثقافة.
لكن أين بدأ تاريخ الفلسفة بالضبط؟، ومن أين بدأت تاريخها؟ وكيف بدأ الفلاسفة في التأريخ لأنفسهم؟ وماهي شروطها التوليدية؟، وهل يمكن أن تعاود الظهور بشكل آخر؟، وما الدور الذي يمكن أن تقوم به؟ متى يتم الاستئناف؟، وما الجديد عن الفلاسفة؟ وكيف يمكن تصور العلاقة بين المجتمع والكلام الفلسفي؟، ماهي الوظيفة الاجتماعية للفلسفة؟، وهل يمكن أن تلعب دوراً في سياسة الحقيقة والتصرف في السلطة؟
إن وظائف الفلسفة عديدة وتنقسم بين النظري والعملي ويتراوح النظري بين التحديد، والتوضيح، والتحليل، ويتراوح العملي بين الالتزام، والتطبيق، والتغيير، ويمكن تصور علاقة جدلية، ورؤية تكاملية بين الطرفين.
والسؤال الفلسفي له خصائص ومنها: ذو طابع إشكالي، وهي قضية تنطوي تحت منظور المُفارقة عن طريق طرح مجموعة من الأسئلة التي لا يمكن الإجابة عنها كلها، حيثُ يبقى سؤالٌ لا يُجاب عليه، والطابع الإشكاليّ للسؤال الفلسفيّ يُشكلُ تساؤلاً، لا مجرد سؤال عادي وظاهر، فالسؤال المنفرد والعادي يكون الجواب عليه مبرراً لوجود هذه السؤال، مثلاً عند طرح سؤال "ما الكُره؟"، فإن الجواب يكون ظاهراً، أمّا الفلسفيّ فمثلاً يكون: "هل يكون الكُره في الشيء، أم في نظرتنا للشيء؟، فهو معالجة لهذه الإشكاليّة، الأمر الذي يجعل من السؤال نفسه أسئلة فلسفيّة مستمرة عبر الزمان، فكل جواب لأي سؤال فلسفيّ هو سبب في سؤال جديد يُطرح، وقد عرَّفه الفلاسفة، بأنّه فن طرح السؤال وتأجيل الجواب للاستمرار الفلسفيّ. ذو طابع جذري، حيثُ يرى بعض الفلاسفة أن تكرار السؤال الفلسفيّ واستعادته ما هو إلاّ وصول إلى المبدأ والجذر الأول للسؤال، بمعنى أن السؤال هو أداة اختراق ونفاذ لحجاب ظاهر الأشياء والمفاهيم، من أجل البلوغ إلى أُسس الأشياء ومبادئها، كما هو عند الفلاسفة الطبيعيين في سؤالهم عن أصل الكون.
وإذا كانت الأسئلة في المراحل ما قبل سقراط، لم تميز بين الطبيعة والإنسان، فهذا مرده لقرب البدايات من التفكير الأسطوري، وعدم وضوح الرؤية عن التفكير الفلسفي ودوره فتم النظر إلى مشكلات الطبيعة باعتبارها لا تختلف كثيراً عن مشكلات الإنسان، وهذا ما نجده لدى الفلاسفة القدماء، أمثال طاليس، وفيثاغورس، وبارمنيدس، وهيراقليطس، وزينون الأيلي وغيرهم، فعندما بحث طاليس عن خلق الكون وأصل الأشياء كانت لديه تساؤلات شمولية، وعندما بحث فيثاغورس عن الانسجام ونظرية الأعداد كانت له أيضاً نظرة كونية، وعندما بحث بارمنيدس عن الوحدة كان يهدف إلى معرفة مطلقة أقرب للثبات، وعندما بحث هيراقليطس عن التغير والصيرورة، كان يسعى إلى تصور كلي لتفسير الوجود، وإن كان بارمنيدس يختلف عن هيراقليطس في رؤيته إلا أن كلا منهما كان يتطلع إلى معرفة الطبيعة وتفسير الوجود بمعان كلية، وهذا أيضاً ما نجده لدى زينون الإيلي تلميذ بارمنيدس والذي ابتدأ الحجج المنطقية ضد الحركة تأثراً بنظرة بارمنيدس، ونجد أن كل الفلاسفة القدماء على اختلاف فلسفاتهم يجمعهم الاهتمام باللوغوس والعقل الكلي .
وفي المرحلة التي ابتدأت بسقراط تكثفت التساؤلات عن الإنسان بصفته كائنا مستقلا عن الطبيعة فأخذت تطرح قضايا طبيعة الإنسان ونفسه وأخلاقه، ولكن أفلاطون أسس لتلك المرحلة الانتقالية من الفلسفة بإعادة التوازن بين الطبيعة والإنسان، وذلك بتناول ما يتطلع إليه الإنسان معرفياً داخله وخارجه فأضاف إلى سقراط أبعاداً جديدة مركزاً على أهمية المعاني والحقائق في حوار مفتوح بين ما طرحه الفلاسفة القدماء وما أتى به أستاذه من أفكار في كل من المحاورات ونظرية المثل وما ألفه عن المجتمع والسياسة، المحاورات الأفلاطونية تضمنت تساؤلات وقضايا عن الإنسان كما أنها تضمنت تساؤلات وقضايا عن الطبيعة والوجود، وتساؤلات المعرفة عند أفلاطون نجدها في نظرية المثل التي تعتبر أول محاولة لتساؤلات عن نظرية المعرفة ببعديها الذاتي والخارجي، وكذلك فإن أفلاطون تناول التساؤلات الممكنة في محور القيم من خلال وقائع الاجتماع والسياسة وما يجب أن تكون عليه وما يجب أن يحكمها من قيم أساسها أخلاقي ومعرفي معا، إلا أننا نجد ثانية تركيزاً على عالم الإنسان وسعادته بطرح مزيدا من التساؤلات والأفكار عند المدرسة الرواقية تتمحور حول قضايا عامة للأخلاق يتخللها أحيانا أحكام منطقية، وذلك بربط المعرفة بمحور القيم، وامتدادا لمرحلة ما بعد سقراط نجد أن ما طرحه أرسطو يتنوع بين مختلف التساؤلات الفلسفية، إلا أن أهم ما فيه هو قيام أرسطو بتطوير أفكار أفلاطون فوضع تحليلات ومقولات معرفية أسست لعلم المنطق مما يعد تطورا لتساؤلات الفلسفة وتأكيداً ثانياً لمقولة هيجل بأن فهم تاريخ الفلسفة جزء من الفهم الكلي للفلسفة ... وللحديث بقية..
د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة اسيوط.
.......................
1- حمـد الراشـد: التساؤل الفلسفي.. مقال..
2- د. زهير الخويلدي: فن طرح السؤال بما هو المقام اللائق بالفيلسوف.. مقال..
3-أبو بكر العيادي: التساؤل منطلقا للتفكير الفلسفي.. مقال
الموضوع الاجتماعي والذات الإنسانية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ابراهيم ابو عواد
العلاقة المصيرية بين الموضوع الاجتماعي والذات الإنسانية هي الأساس العقلاني لتفسير أنماط السيطرة الفكرية في المجتمع . والموضوعُ الاجتماعي هو الحَيِّزُ المعرفي الموجود في الواقع، والخاضعُ للأحاسيس اليومية والتجارب العملية . والذاتُ الإنسانية هي جَوهر الإنسان، وشخصيته الاعتبارية، وهُويته الوجودية. وفي ظِل الحركة الاجتماعية المُستمرة أفقيًّا وعموديًّا في التاريخ والجُغرافيا، يتكرَّس الموضوع كإطار خارجي، يحتوي على إفرازات العقل الجمعي، ويُحقِّق الاستقلاليةَ عن الإرادة والوَعْي، ويُحقِّق التوازنَ بينهما . وفي ظِل الصراع المُستمر الذي يعيشه الإنسانُ داخل نَفْسه وخارجها، تتكرَّس الذات كَنَوَاة مركزية تُعبِّر عن الشُّعور والتفكير،وتُترجم تعقيداتِ العَالَم الخارجي إلى أنساق اجتماعية يُدركها العقلُ،مِن أجل تفسيرها والاستفادة منها.
2
إذا أدركَ العقلُ العلاقةَ بين الموضوع والذات في الحياة الاجتماعية جُملةً وتفصيلًا، استطاعَ تفسير أنماط السَّيطرة الفكرية بكل تفاصيلها العلنية والسِّرية، لأنَّ الفكر لا يُوجد في العَدَم، ولا يَنتشر في الفراغ، وهذا يعني أن الفكر موجود مَعَنا، ويعيش فِينا، ويتدفَّق بَيننا، وعلى تماس مُباشر معَ حياتنا، نتفاعل معه، ويتفاعل معنا، أي إنَّ الفكر كائن حَي له وجود حقيقي محسوس، وليس أوهامًا ذهنية أو خيالات هُلامية . وكُل شيء مَوجود في دائرة الإحساس إمَّا أن يَكون جوهريًّا (ثابتًا) أوْ عَرَضِيًّا (مُتغيِّرًا)، والفِكرُ الجوهري الثابت مَوجود في الذات، والفِكر العَرَضي المُتغيِّر مَوجود في الموضوع، ولا تُوجد منطقة وُسطى، ولا حَل وسط، لأن طبيعة الفِكر غير مُحايدة، وتَرفض اللونَ الرمادي . ولا يُوجد فِكر _ سواءٌ كان ثابتًا أو مُتغيِّرًا _ يَحتوي على منطقة وُسطى أو حَل وسط، فالمنطقة الوُسطى تُوجد في المواقف الاجتماعية، والحَل الوسط يُوجد في التطبيقات العملية . والحَقُّ واحد لا يتعدَّد، لكن زوايا الرؤية هي التي تتعدَّد . وكما أنَّه لا تُوجد منطقة وُسطى بين السلام والحرب، كذلك لا تُوجد منطقة وسُطى بين الحق والباطل، وكما أنَّه لا تُوجد دولة فيها رئيسان، كذلك لا يُوجد إنسان فيه قَلْبَان، وهذا يدلُّ على أنَّ الفكر أُحَادي شديد المركزية والاستقطاب، لكن الأهواء الذاتية والمصالح الشخصية والضغوطات الاجتماعية هي التي تجعل الفِكرَ مُتَشَظِّيًا في الحياة المُعاشة، ضِمن عملية تَمييع المواقف، واللعب على الحِبَال، والدُّخول في المُسَاوَمَات، والخُضوع لسياسة الأمر الواقع، والرُّضوخ أمام حقيقة أن القوي يَفرض شروطَه على الضعيف، والاستسلام لثقافة المغلوب المُولَع بتقليد الغالب . وهذا يُفَسِّر وجود التناقض بين الفكر والسُّلوك، وبين النظرية والتطبيق. كما يُفَسِّر قِيامَ الكثيرين بخطوات عملية لا يؤمنون بها، واتِّخاذهم مواقف واقعية غَير مُقتنعين بها، وتَرديد شعارات وهتافات لا يُصدِّقونها .
3
لا يُمكن تحليل عناصر السَّيطرة الفكرية في المجتمع، إلا بالسَّيطرة على العلاقة بين الموضوع والذات، لأنهما يُمثِّلان الحاضنةَ الشرعية للفِكر، ولا يُوَاجِه الفِكْرَ إلا الفِكْر، والسِّلاح الوحيد لمُواجهة العقل هو العقل، خُصوصًا أن السَّيطرة الفكرية تكون مُتماهية مع القُوَّة الناعمة، لأنها تعتمد على الجاذبية والإقناع، وهذا يدلُّ على أهمية الثقافة باعتبارها الأساس الشرعي للقُوَّة الناعمة . ويُمكن إيجاد علاقة منطقية بين هذه المصطلحات المُتعدِّدة وَفَق هذا الترتيب: إنَّ المَوضوع الاجتماعي يَكشف أبعادَ الذات الإنسانية، ويُشير إلَيها، ويَمنحها شرعية الوُجود ومَشروعية الإبداع، وإذا وَجَدَت الذاتُ الإنسانية كِيانَها، وأدركت ماهيةَ البيئة المُحيطة بها، وعَرَفَت وظيفتها في الحياة، واستوعبت دَوْرَها في الوجود، سَعَتْ إلى امتلاك الثقافة اللازمة لكشف عناصر القُوَّة الناعمة المتغلغلة في تفاصيل المجتمع، وهذا يُساهم في تحليل عناصر السيطرة الفكرية التي تَحْكُم العلاقاتِ الاجتماعية والإنسانية، وتتحكَّم بمسارها ومصيرها. وإذا عُرِفَ خَط السَّير، انكشفَ الهدف، وصارَ الوُصول إلَيه سهلًا . والأملُ الوحيد للخُروج مِن النَّفَق هو رُؤية الضَّوء في آخره .
إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن
العراق.. الازمات والمعالجات وغياب رجال السلطة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عبد الخالق الفلاح
تأتي الأزمات ومنها" الحالات التي تؤدي الى حدث وفعل يسفر عنه تدمير وخسائر جسيمة في الموارد البشرية والمادية او الطبيعية. وعادة ما تكون غير مسبوقة بإنذار. وتتطلب اتخاذ إجراءات غير عادية للرجوع إلي حالة الاستقرار. وقد تؤدي إلي ما يسمي بالحادث المفجع. والعكس صحيح فقد تؤدي إلي كوارث إذا لم يتم اتخاذ القرارات والإجراءات المناسبة لمواجهتها" بأشكال وأحجام مختلفة وكل أزمة تحتاج الى نوع من العلاج وتحتاج الى استجابة خاصة بها من متخصصين وتختلف الأزمة المالية عن الأزمة الطبيعية كالزلزال والإعصار والفيضان والأزمة الصحية كالوباء أو الجائحة او العمليات الارهابية من حيث المعالجة وهكذا ،يعد اتخاذ القرار السريع والفعال أمرًا بالغ الأهمية أثناء الأزمة، ليس فقط بسبب ضيق الوقت لاتخاذ قرارات مهمة، بل لأن الأزمات لا يمكن التنبؤ بها وقد يطال تأثيرها قطاعات كبيرة من السكان، إذا لم تكن عملية صنع القرار السياسي منظمة بشكل جيد لا مثلما نراه في العراق اليوم من تخبط وترك ابناء الوطن يتضوعون من شدة العوز والفقر وترك الحلول للميزانية التي تمثل لقمة اكثر ابناء شعبهم وذهاب ممثليهم بسفرات تثقل كاهل الموازنة العامة وعلى حساب مصالح العراق الجريح وخارج الاعراف الدبلوماسية التي تتعامل بها الدول في هذه المرحلة بحذر، فإن ذلك يعيب قدرة ممثلو"الشعب المنتخبين" والأحزاب والحكومات على الاستجابة للأزمة بشكل فعال و تقدم توصيات بالأطر والعمليات والهياكل التي تحدد المتطلبات في صنع القرار الموحد أثناء الأزمات. ويحدد سبب أهمية إنشائها، كالفرق الاقتصادية التي تهدف إلى إدارة والحد من التداعيات الاقتصادية وتكوين نظرة ثاقبة حول كيفية تأثر الأعمال التجارية والتوظيف والدخل والقروض الدولية والديون وغيرها من تطورات الاقتصاد الجزئي وايجاد حلول للتخفيف من المشاكل، وأنواع الهيئات الاخرى لصنع القرارات المختلفة، ومن يجب أن يكون جزءا منها و يساهم فيها وماهي مسؤولياته.
من أبرز التحديات التي تواجه الحكومة المركزية في بغداد هي ازمة كورونا او كما تسمى كوفيد 19الحالية الحالية والتي " كشفت عن اختلالات كبيرة في نظام الحوكمة الصحية والاقتصادية، بل والسياسية أيضاً في البلد لغياب العقول المتخصصة القائدة،في حين بالمقابل عجزت دول صناعية غنية بمواردها المالية ومتقدمة علمياً وطبياً في مقابلة هذا الوباء السريع الانتشاراو من ايقاف مده، بسبب عدم استعداد نظمها للتعامل مع مثل هذه الأزمات، بينما أثبتت دول فقيرة لديها بنية تحتية متواضعة ولكن بارادة وطنية ومهارة في التنسيق واستنفار طاقاتها البشرية لمواجهة خطر انتشار هذا الوباء" وكيفية وصول الخدمات الضرورية الى الفئات الهشة والضعيفة نتيجة هذه الجائحة المميتة وفي ضرورة تقوية ودعم وحماية الجهات الرقابية من خلال سيادة القانون وإنفاذ القانون والتشريعات الضرورية وفق إتفاقية مكافحة الفساد كرقابة إستباقية وعدم الإستجابة الكاملة لمتطلبات الجهات الرقابية وإدارة الوظائف العامة والحماية السياسية للفساد والإفلات من العقاب إضافة الى متطلبات سيادة القانون وعدم إنفاذ القانون سوف تحث كارثة لا يمكن حساب عاقبتها لا في القريب ولا في البعيد ، وماذا ستفعل الحكومة بعد للتعامل مع هذه الأزمة او تلك وفي ان تضع خطوات الإطار العام للنتيجة المتوقعة أوالاستجابة السريعة والتي تشرح ما ستقوم به الحكومة لرفع القلق والرغبة بمعرفة ما سيحدث فيما بعد بطمأنينة وبأن الأزمة سوف تقوض مما يعطي هؤلاء الناس املاً في التواصل و شعورا أساسياً ً بعملية التعامل مع هذه الأزمة و تعتبره جزءاً من واجبات الدولة الادارية الاساسية في حلها، كما يوضح للناس ما يمكن توقعه وما يجب عمله، ويعطي الاطمئنانً بوجود الحلول الازمة. من الضروري أن تظل العمليات والهياكل الاجتماعية عاملة خلال الأزمة. إذ تزداد أهميتها عندما يتم اتخاذ القرارات بسرعة وفتح الموازنات لإنفاق المال في ظل الازمة ومحددات الصرف وفي فترة زمنية قصيرة وتصبح السلطة بيد السلطة التنفيذية في ضمان الشفافية وتنفيذ الرقابة ولها الامر الحاسم في هذا الوقت و يحتاج المواطنون خلال الأزمة، إلى فهم قرارات الحكومة أكثر من أي وقت اخر و عندما يتأثر التواصل والمشاركة بتدابير التباعد الاجتماعي، والاستجابة لرغبات المواطنون أثناء الأزمة، في صنع القرار، لأن العديد من القرارات التي يتخذها صناع القرار السياسيين، تؤثر عليهم بشكل مباشر. يمكن لعدة آليات تسهيل مبادئ التشاركية أثناء الأزمات وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي والاعلام الناطق والورقي. والتي يجب خلالها ملاحظة التباعد الاجتماعي وأن يكون الاختلاط الجسدي محدود.ويمكن الاستفادة من التجارب العالمية لان الدول قد تتشابه الأزمات فيما بينها وبطريقة التعامل في هذه الظروف الخطرة التي يعيشها العالم في انتشار وباء كورونا وفي ظل الحصار المفروض على اكثر شعوب العالم حفظاً من الحكومات على ارواح ابنائهم وعادة ما تكون الأزمة شاملة وفوضوية لدرجة يصعب استيعابها بكليتها ويحاول الناس جاهدين فهم ما يحصل خاصة في بداية الأزمة، مما يولد لدى المواطنين الشعور بعدم الأمان والكثير من التساؤلات، ويمكن أن تتحول إلى الشعور باليأس والفزع والغضب والاحباط فيلجأ المواطنون الى الدولة لايجاد حل لهم للابعادهم عن الشر،
من جانب اخر و المرجح أن يكرس المجتمع الدولي ككل وقتاً واهتماماً أقل لدبلوماسية الأزمات، أو الجهود المبذولة لحل المشاكل البينية ، ومن الواضح أن الأمر كذلك ، حيث يعتبر الوباء القضية الأكثر إلحاحاً في الوقت الحالي وكل يغني على ليلاه، ولكن من المحتمل أيضاً أن يكون الأمر كذلك بعد ذلك عندما تحاول الحكومات التعامل مع عواقب الأزمة والركود ، وفي الوقت نفسه، من المرجح أن تنزلق العديد من الدول الفقيرة والضعيفة بالفعل إلى أزمات اقتصادية حتى من دون احتواء الأزمات المتعلقة بالصحة. ومن الممكن أن توافق الدول الأغنى على تخفيف ديون الدول الأكثر فقراً، ولكن من المحتمل أن نشهد رغبة أقل في حشد المساعدات لحالات الطوارئ الإنسانية، وفي إجراءات الاستقرار ، أو في توفير المال والقوى العاملة. يمكن أن تظهر أشكال جديدة من العولمة أيضاً، ومن غير المحتمل أن تكون هناك صورة شاملة موحدة للتأثير الجيوسياسي للأزمة، وما ينتج عنها من تطورات في النظام العالمي والتنافس بين الدول، سواء الصراعات أو التعاون و سيظل شكل العالم بعد الوباء خاضعاً للإرادة السياسية والقيادة، وقدرة الجهات الفاعلة الدولية على التعاون فيما بينها لتجاوز الازمة الحالية. إن مواجهة الأزمات والحالات الطارئة سواء بالاستعداد لها أو توقعها أو التعامل معها إذا ما حدثت يضع على كاهل وحدات دوائر الدولة العمل لحمل العبء الأكبر في هذا المجال لضمان توفير الحماية الشاملة للأفراد والمنشآت ، ولزاما عليهاً إعداد خطة شاملة لمواجهة الكوارث والحالات الطارئة التي قد تتعرض لها المنشآت العامة والخاصة ، تتضمن كيفية الاستعداد لهذه الحالات الطارئة واتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لتأمين سلامت وكفالة الطمأنينة والاستقرار والأمن للجميع في اقل خسائر ،
عبد الخالق الفلاح – باحث واعلامي
التراث.. هويّة متجذّرة في اللاّشعور
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. يسري عبد الغني
علاقة الإنسان العربي بتراثه علاقة عضوية حيث أن هويته القومية برمتها تتغذى من التراث، لارتباطه في وعيه بأبعاد حضارية وتاريخية ودينية وسياسية على حد سواء. فتعلقه بما يختزنه ماضيه من إنجازات عملية وفلسفية وأدبية أشد من تعلق أي إنسان آخر بتراثه شرقاً وغرباً.
إن الإنسان العربي ينتمي انتماء كليًّا إلى تراثه، ويتماهى فيه معنويًّا دون تحفّظٍ، حيث يشعر بأن تعلّقه به هو امتدادٌ لتعلّقه بتصوّره للدنيا والكون،وحتّى لِــما بعد الحياة، فيتخذ التراث بُعْدا روحانيا ونفسيا ممّا يضعه خارج دائرة التفكير، وداخل دائرة التقليد، فالمساس بالتراث غير وارد عنده،وكذلك مساءلته..إذ هذا التراث قيمة عليا عنده يتعامل معها بشكل مثالي؛ لكن هذه المثالية تبدأ بتجميد هذا التراث. في هذا المضمار يقول الدكتور فريدريك معتوق :
«… فعلاقة العربي بتراثه “علاقة عضوية حيث أن هويته القومية برمّتها تتغذى من التراث، لارتباطه في وعيه بأبعاد حضارية وتاريخية ودينية وسياسية على حد سواء. فتعلقه بما يختزنه ماضيه من انجازات علمية، وفلسفية، وفكرية، وأدبية أشد من تعلق أي إنسان آخر بتراثه شرقا وغربا. من الممكن أن تبتر الإنسان الإفريقي، أو الأسيوي عن تراثه، دون أن يموت حضاريا. أما العربي إنْ قطعته عن تراثه، حكمت عليه بالموت؛ ذلك أن للتراث عند الإنسان العربي مدلولا دينيا، اجتماعيا وعصبيا. حياته المعاصرة مبنية على هذه المعادلة الموروثة والمعيشة في آن”.
الدكتور المرحوم محمد عابد الجابري في كتابه” نحن والتراث” يذهب إلى أبعد من ذلك حيث يؤكد على أن الإنسان العربي بما في ذلك المثقف مؤطرٌ بتراثه الذي يحتويه احتواء كليا يُفقده استقلاليته، وحريته، فهذا الإنسان تلقّى ولا يزال يتلقّى تراثه منذ ميلاده ككلمات، ومفاهيم، كلغة وتفكير، كحكايات وخرافات وخيال، كطريقة في التعامل مع الأشياء، كأسلوب في التفكير، كمعارف وحقائق..كل ذلك بعيدا عن الروح النقدية، فهو عندما يفكر، يفكر بواسطة هذا التراث ومن خلاله، إذْ يستمدّ منه رؤاه واستشرافاته ممّا يجعل التفكير في هذه الحالة لا يعدو أن يكون ” تذكّرًا..ولذلك فالجابري يرى حتى القارئ العربي عندما يقرأ نصّا من نصوص تراثه يقرأه متذكرًا، لا مكتشفًا، ولا مستفهمًا.
نستخلص ممّا أورده الجابري أن كل الشعوب في المعمورة ترتبط بتراثها بنسب معيّنة، وتفكّر به ومن خلاله، ولكن الفرق شاسعٌ بين من يفكر بتراثٍ ممتدٍّ إلى الحاضر، ويشكل الحاضر جزءا منه..إذْ هو تراث متجدّد يخضع باستمرارٍ للمراجعة والنقد، وبين منْ يفكّر بتراث توقّف عن التطوّر وانقطع عن ديناميكية الحياة في كل أبعادها منذ قرون..تراث تفصله عن الحاضر مسافة حضارية طويلة.
إن هذه الخصائص من أهم العوامل المساعدة في دعْم العلاقات الإنسانية بين الشعوب. وقد اختلفت الدراسات، وتنوعت الاتجاهات في طرائق تناول هذا العلم نتيجة للظروف التاريخية التي مرّ بها هذا التراث مع تأكيدها أهمية دراسته انطلاقاً من جملة اعتبارات مثل: إن الاستناد للتراث ونتائج الأسلاف يُـعدُّ ضمانة لاستمرارية وجود الأمة بهويتها، وخصوصيتها المميزة، وأن هذا يحقق التوازن في معادلة (الماضي الحاضر المستقبل)، كما يعد التراث الثقافي بكل مكوّناته وزُخْـمه، أحدَ العناصر الأساسية لمقومات أي أمة لاحتوائه خلاصة تجاربها وخبراتها التراكمية، وأن الانتهال من تجارب الأسلاف يعني تجدد الأفكار الملهمة للأجيال القادمة، وأن الاتصال والتواصل بماضي الأمة، وروحها المتجلية في نتاجها يعزز الاندفاع الايجابي الذي تتطلبه الحياة المعاصرة ويضمن في الوقت نفسه، التوازن لتفاعل عطاء وفكر الأمة مع العطاء والفكر العالمي المعاصر، فلا اقتباس لحد الذوبان، ولا انغلاق لحد الوقوع في الذاتية الضيقة.
بقلم: د. يسري عبد الغني
التزوير الصهيوني لأحداث "الفرهود" وتهجير اليهود العراقيين (2)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: علاء اللامي
عودنا الإعلام الصهيوني على إطلاق الكذبة وتكرارها حتى يصدقها هو قبل غيره. واحدة من أشهر أكاذيب هذا الإعلام، والتي شاركت في تسويقها وزارة خارجية الكيان الصهيوني هي ما سمي "الفرهود"، أي حوادث النهب والاعتداء التي تعرض لها اليهود العراقيون في بغداد في شهر حزيران - يونيو 1941. وكنت قد استعرضت تحليليا هذا الموضوع في مقالة منفصلة نشرت في إصدار شهر كانون الأول- ديسمبر 2020 من مجلة "الآداب"، وفي هذه المقالة نستكمل الحديث عن حيثيات أخرى ذات صلة بشيء من التفصيل:
جاءت تلك الأحداث المؤسفة كرد فعل على سحق قوات الاحتلال البريطانية للانقلاب العسكري الذي قاده السياسي رشيد عالي الكيلاني وحلفاؤه العسكريون "العقداء الأربعة" الذين سيتم إعدامهم بعد سنوات قليلة وإسقاط "حكومة الإنقاذ الوطني" التي شكلوها. بمعنى أن هذه الحوادث وقعت خلال ما يسمى "الاحتلال البريطاني الثاني لبغداد" في حزيران- يونيو 1941، وليس خلال حكم الكيلاني والعقداء الأربعة. وقبل ذلك بسنة ونصف، شهدت بغداد مظاهرة صاخبة سنة 1939 حمل المشاركون فيها السيوف والخناجر بعد الإعلان عن مقتل الملك ذو النزعة الاستقلالية غازي الأول، والذي اعتبره العراقيون حادثا مدبرا واغتيالا سياسيا من قبل البريطانيين وعملائهم في الحكم الملكي الهاشمي في العراق للملك. وقد وثَّق مصور فوتوغرافي أجنبي هو بيرند لوسي (Bernd lohse) سنة 1939 وليس سنة 1941 ونشرت الصورة في جريدة برلين المصورة (berliner illustrirte zeitung)، وكتب عليها التعريف التالي باللغة الإنكليزية (المملكة العراقية: تظاهرة علنية لرجال ضد الدكتاتورية الفرنسية والبريطانية). ولكن وزارة الخارجية في الكيان الصهيوني حرَّفت موضوع الصورة ونشرتها على موقعها على الانترنيت بعد أن عرفتها بالمعلومة الكاذبة التالية (صورة نادرة للفرهود في بغداد سنة 1941 ... اليهود من فوق بيوتهم ينظرون للمسلمين وهم يحملون الخناجر واليرق "؟" والعصي التي فتكوا بها باليهود).
من الواضح، لمن زار بغداد أو شاهد صورا عن شارعها الشهير "شارع الرشيد" أن الصورة موضوع الحديث التقطت في هذا الشارع فعلا. ولكن اليهود - وهنا ينكشف لنا تزوير الصورة المذكورة - لم يكونوا يسكنون في هذا الشارع أو في المنطقة يمر بها أو ينتهي إليها عند ساحة "الميدان"، بل كان لهم شارع تصطف منازلهم على جانبيه يدعى "عقد اليهود" في منطقة البتاويين البعيدة عن شارع الرشيد. ثم أن الواقفين على الشرفات في الصورة ومعهم نسوة كثيرات هم متفرجون وبعضهم يصفق للمتظاهرين، كما نشاهد رجلا يضع عمامة سوداء من النوع الذي يضعه رجال الدين المسلمين الشيعة. ومعروف للعراقيين أن اليهود سكنوا في حي يدعى "حي التوراة" بالقرب من "شارع الكفاح" بحي "قنبر علي" منذ العهد العثماني. وكان لليهود مقبرتان: الأولى، وهي القديمة بمنطقة "النهضة"، والثانية في أطراف مدينة الثورة -الصدر، وأقيمت كبديل لمقبرة "النهضة" التي داهمها النمو العمراني لبغداد ولإقامة أبراج المواصلات هناك، وتضم المقبرة الجديدة زهاء أربعة آلاف قبر لليهود ولها حارس مُعيَّن من الدولة حتى الآن. ونقرأ في تقرير صحافي نشر في حزيران 2017 لقاء مع حارس المقبرة اليهودية ورد فيه (يقول حارس المقبرة زياد محمد فاضل البياتي: أنا أعمل هنا منذ العام 1980 بعد أن ورثت العمل عن والدي، الناس هنا يحترمون هذا المكان خاصة وانه يضم آلاف الأموات، والمسلمون يحترمون كرامة الإنسان في حياته ومماته، ولم يحاول أحد أن يقتحم المقبرة أو يدخلها عنوة، لكن الجنود الأميركيين في العام 2003 ضربوا جدار المقبرة بالدبابات وأحدثوا فيه ضررا بالغا)[1].
نحن هنا، لا ننفي وقوع حادثة الفرهود المحزنة والمدانة، والتي حرَّضت على القيام بها حكومة النظام الملكي وعملاء "المنظمة الصهيونية العالمية" سلف "الموساد الصهيوني" واندست فيها عناصر متطرفة ومشاغبة ومشبوهة بهدف إرعاب اليهود العراقيين ودفعهم الى الهجرة الجماعية الى فلسطين المحتلة لدعم الوجود الصهيوني الهش هناك، وفق خطة صهيونية مسبقة شملت العراق والمغرب واليمن. لنقرأ هذه الخلاصة التي كتبها الروائي اللبناني إلياس خوري في مقالة له بعنوان "من قتل المهدي بن بركة - كيف مهدت إحدى أكبر الجرائم السياسية للتطبيع المجاني الحاصل حالياً بين دول عربية واسرائيل؟" كتب (الحكاية بدأت بعد موت الملك محمد الخامس، وتسلم الحسن الثاني العرش عام 1961. ففي الفترة الممتدة بين تشرين الثاني -نوفمبر 1961، وربيع 1964، أنجزت العملية التي يطلق عليها الاسرائيليون اسم "عملية ياخين". وعملية "ياخين" هي جزء من سلسلة عمليات كان هدفها تهجير اليهود العرب: فكانت عملية "بساط الريح" في اليمن 1949-1950، وعملية "عزرا ونحميا" في العراق 1950-1952، و"ياخين" في المغرب. هذه العمليات الثلاث تمت بالتواطؤ والتعاون مع حكام هذه الدول، وكان لا بد من اليهود العرب لسد النقص الديموغرافي اليهودي في اسرائيل. هذه العمليات الثلاث كانت التطبيع الذي مهّد للتطبيع الحالي، لأنها كشفت أن الأنظمة الاستبدادية ساهمت في تأسيس دولة اسرائيل، وكانت شريكاً للصهيونية في طرد الفلسطينيين من أرضهم، وفي تأسيس ثنائية الاستبداد- الاحتلال التي تهيمن على العالم العربي/موقع صحيفة "السفينة" عدد 24 آب -أغسطس 2020). بل نحن نحاول أن نضع أحداث الفرهود والتهجير القسري لليهود العراقيين في سياقها التاريخي الحقيقي لنكشف واحدة من هذه الأكاذيب والمبالغات الكثيرة التي يكررها الإعلام الصهيوني والمحازبين له دون تدقيق. وسيكون من العبث واللاجدوى الوصول إلى أرقام دقيقة أو حتى قريبة من الصحة لعدد القتلى والجرحى ولكننا يمكن أن نقترب من أرقام تقريبية بمقارنة أرقام الطرفين العراقي الحكومي واليهودي العراقي ونقول إن القتلى كانوا بالعشرات. ومن تقرير "لجنة التحقيق بحوادث يومي 1 و2 حزيران من عام 1941 بناءً على قرار مجلس الوزراء الصادر يوم 7 حزيران 1941م، وكانت برئاسة السيد محمد توفيق النائب وعضوية كل من ممثل وزارة الداخلية السيد عبد الله القصاب، وممثل وزارة المالية السيد سعدي صالح، وعقدت اللجنة اثنتي عشرة جلسة، نعلم أن عدد القتلى كان 110 قتيلا بينهم بعض المسلمين الذين هبوا لحماية اليهود، وعدد الجرحى مائتان وأربعة جرحى. ولكن رئيس الطائفة اليهودية - أو الطائفة الموسوية كما تسمى في العراق- الحاخام ساسون خضوري والذي بقي في العراق حتى وفاته ببغداد سنة 1972، فيذكر أن عدد القتلى والجرحى أكثر مما ذكرته اللجنة التحقيقية الحكومية ولكنه لا يقدم أرقاما بديلة محددة. ومن المرجح أن تكون الأرقام الحقيقية للقتلى والجرحى أكبر مما ذكرته اللجنة أما حالات الاغتصاب فقال الحاخام خضوري أنها لم تتجاوز الثلاث أو الأربع حالات.
إن السياق الذي اشتغل عليه الإعلام الصهيوني هو سياق يحاول أن يجعل هجرة اليهود العراقيين في الخمسينات من القرن الماضي نتيجة لعمليات النهب والاعتداء التي تعرضوا لها خلال "الفرهود"، وهذا غير صحيح تماما من حيث الدوافع والسياق والتوقيت. فأحداث الفرهود التي بولغ في تفاصيلها وأعداد ضحاياها كانت حملة مخطط لها مسبقا من المنظمة الصهيونية العالمية حيث استغلت الفورة الشعبية للعراقيين ضد أحداث قمع البريطانيين للانقلاب العسكري الاستقلالي بزعامة الكيلاني ورفاقه، وقام عملاء الصهيونية بعمليات إجرامية كثيرة من تفجيرات وقتل ضد اليهود العراقيين أنفسهم، لكي تتفاقم حالة الفلتان والاضطرابات. ثم جاء تعاون السلطات الملكية الجديدة الموالية لبريطانيا مع حكومة بن غوريون بواسطة عميل الموساد شلومو هيلل ليتحقق الهدف من هذه الفتنة ويتم تهجير اليهود وإسقاط جنسيتهم العراقية بعد سنوات قليلة.
من الكتاب اليهود الذين تناولوا حدث الفرهود وتهجير اليهود العراقيين بموضوعية وإنصاف الباحثة إيلا شوحط - الأستاذة في جامعة نيويورك وهي من أصول عراقية يهودية-، والتي تساءلتْ في دراسة لها وكنت توقفت عندها مفصلا في مقالة أخرى نشرت في مجلة الآداب إصدار كانون الأول - ديسمبر 2020، تساءلت : "حتى لو أنّ أعدادًا متزايدةً من اليهود في بلدانٍ كالعراق عبّرتْ عن رغبتها بالذهاب إلى إسرائيل، فإنّ السؤالَ هو: لماذا، وبشكلٍ مفاجئ، وبعد ألف عامٍ من غياب مثلِ هذه الرغبة، يريد هؤلاء تركَ حيواتِهم في العراق والمغادرةَ بين عشيّةٍ وضُحاها؟"[2].
وقد سجلت شوحَط إدانتَها لمحاولات الصهاينة دمجَ "المسألة العربيّة-اليهوديّة بالمحرقة؛ ومثالٌ على ذلك الحملةُ التي أُطلقتْ لإدخال الفرهود ضمن برامج متحف المحرقة التذكاريّ في الولايات المتحدة." وتضيف أنّ إدانةَ العنف الذي مورِس ضدّ اليهود خلال الفرهود يجب ألّا يُستغلَّ "لمساواة العرب بالنازيّين، وتكريسِ السرديّة المزوّرة حول العداء الإسلاميّ الأبديّ للساميّة." وتمضي شوحَط أبعدَ من ذلك، فتتّهم الخطابَ الأورومركزيّ بإسقاط تجربة إبادة اليهود في أوروبا على ما حدث في العراق، مسجّلةً "أنّه خلال أعمال الفرهود حمى بعضُ المسلمين جيرانَهم من اليهود،" وأنّ أقلّيّةً من اليهود بقيتْ رغم الفرهود وبعد التهجير الجماعيّ في وطنهم العراق. ومن أسباب بقاءِ هؤلاء، في رأي شوحَط، "أنّهم اعتبروا أنفسَهم عراقيّين أوّلًا وأساسًا، و/أو لأنّهم اعتقدوا بأنّ هذه عاصفةٌ ستمرّ، و/أو لأنّهم، ببساطة، لم يشاؤوا أن ينسلخوا عن حيواتهم".
مقارنة بما كتبته الكاتبة اليهودية شوحط، تبدو محاولة الشيوعي العراقي "السابق" كاظم حبيب، لمقاربة وتحليل حدث الفرهود غير متوازنة وسطحية ولا تخلو من تملق الكيان الصهيوني ومؤسساته الإعلامية والسياسية والأمنية، ولهذا السبب بالضبط بادرت وزارة الخارجية الصهيونية فنشرت فقرات ضافية من دراسته ضمن مقالة إطرائية بقلمه أيضا حول مذكرات الكاتب الإسرائيلي من أصل عراقي شموئيل موريه على موقعها الرسمي بتاريخ 25 نيسان أبريل 2015، وفيها يؤكد حبيب أن موريه الذي (أجبر على الهجرة إلى إسرائيل يحب بلده إسرائيل ودولته، سواء أكان موافقاً على سياسات الدولة وحكوماتها المتعاقبة أم اختلف ويختلف في بعض منها ومع هذه الحكومة أو تلك. وهو أمر طبيعي لكي لا يذهب بالبعض منا تصور خاطئ، وأعني بذلك إن حبه لبغداد وأهل العراق يجعله ضد إسرائيل أو غير محب لها)، ولن نجد وصفا آخر لكلام حبيب هذا غير الترويج للصهيونية والمواطنة الإسرائيلية.
في مقالته تلك، يبرئ حبيب أطرافا أخرى من مسؤولية ما تعرض له اليهود العراقيون من قمع وتهجير قسري، ومن هذه الأطراف الأحزاب الكردية وزعاماتها التي عرف كاظم حبيب بارتباطاته النفعية بها، وبدفاعه المستميت عنها في ذروة ارتباطها بإسرائيل خلال محاولتها الانفصالية في أيلول - سبتمبر 2017. عنوان المقالة التي نشرها حبيب يقول كل شيء منذ البداية فهو (حركة شباط - مايس 1941 الانقلابية والفرهود ضد اليهود)[3].
وكنت قد أوردت فقرة قصيرة من قراءتي النقدية هذه في ما كتبه كاظم حبيب، في الجزء الأول الذي نشر من هذه الدراسة في موقع مجلة "الآداب"، فرد حبيب بثلاث مقالات مطولة، أخفق فيها - للأسف - في الرد المباشر على ما أثرته من أسئلة وتساؤلات وأوردته من وقائع وأدلة واقتباسات من كتب ومقالات ووثائق. أما عن نقدي له بسبب سكوته على دور الأحزاب والزعامات الكردية في تهجير يهود العراق فقد كتب (يبدو إن علاء اللامي مولع جداً باتهام الكرد والأحزاب الكردية في المساعدة في تهجير من تبقى من يهود العراق إلى إسرائيل، وهو منطلق قومي، ينسى فيه كلية الدور الأساسي والرئيسي لحزب وحكم البعث، وكذلك القوى القومية اليمينية المتطرفة ابتداءً من عام 1963 وما بعده)، ولكنه يعود فيعترف بدور الأحزاب والزعامات الكردية في تهجير اليهود فيكتب (ومع إن معلوماتي عن هذا الموضوع شحيحة، ولهذا لا استبعد صواب ما نقلته الكتب الصادرة في إسرائيل عن مشاركة الكرد في تسهيل مهمة نقل اليهود إلى خارج العراق). وعن الوثائق والكتب والمقالات التي كتبها إسرائيليون رسميون أو باحثون غير رسميين وأكدوا هذا الدور أو اتهموا الموساد والمنظمة الصهيونية صراحة بالتورط في مؤامرة تهجير اليهود، فحبيب يشطب عليها جميعا ويكذبها كلها ثم يستدرك ويؤكد صحة بعضها فيكتب (لا أثق بالمعلومات التي تنشرها إسرائيل أو جهاز الموساد، فهم غالباً ما يمنحونه قدرات خارقة ونشر الأساطير عن أفعال هذا الجهاز في الخارج. ولكن ليس كل ما ينشرونه من هذا النوع كاذب، فبعضه يتضمن حقائق، منها ما أشير إليه من أفعال المنظمات الصهيونية الموجهة من الموساد في العراق)، فكيف السبيل لمناقشة نصوص زئبقية كهذه يقول كاتبها الشيء ونقيضه في عبارة واحدة؟
خلاصة القول هي أنَّ مأساة اليهود العراقيين، جزء لا يتجزأ من المأساة الأكبر التي تسببت بها الحركة الصهيونية العنصرية العالمية، ودفع أغلى أثمانها الشعب الفلسطيني، أما الجزء الخاص بالعراقيين اليهود، واليهود العرب عموما، فيختلف في التفاصيل والسياق عن الأذى الذي تعرض له يهود آخرون في بلدان أخرى. إذْ أنَّ حالة اليهود العراقيين، تختلف بعمق عن حالة يهود آخرين أقاموا لزمن معين في بلدان أخرى، والسبب هو أن اليهود وجدوا في العراق منذ السبي البابلي قبل أكثر من ألفين وخمسمائة عام، أي أنهم مواطنون راسخو المواطنة والهوية العراقية، ويختلفون تماما عن اليهود الآخرين، ربما باستثناء الأقلية اليهودية التي بقيت في فلسطين قبل احتلالها وإنشاء الكيان الأيديولوجي الخرافي "إسرائيل" من قبل الحركة الصهيونية العالمية، والأكيد أن تهجير اليهود العراقيين بعد تلك المؤامرة اللاإنسانية قد ترك جرحا غائرا في أرواح ضحاياها الذين لم يبق الكثيرون منهم على قيد الحياة، وفي الوقت ذاته في عمق الهوية الوطنية العراقية القائمة منذ القِدَم على التنوع والتعددية.
علاء اللامي - كاتب عراقي
..........................................
*هذه المقالة هي الجزء الثاني من دراسة بعنوان ("الفرهود" والمؤامرة الصهيونية لتهجير اليهود العراقيين) وستنشر في كتابي الجديد "سجالات في التراث والتاريخ والسياسة" والذي سيصدر في بحر العام الجاري.
* رابط لمشاهدة الصورتين المشار إليهما:
http://www.albadeeliraq.com/ar/node/3632
[1] جريدة الصباح العراقية الرسمية عدد 8 تشرين الأول – أكتوبر 2019
[2] إيلا شوحط، "سبعون سنةً على رحيل يهود العراق،" نقلها من الإنجليزيّة: وفيق قانصوه، موقع مجلة orientxxi القسم العربيّ، عدد 22 تشرين الأوّل:
https://orientxxi.info/magazine/article4231
[3] كاظم حبيب - حركة شباط - مايس 1941 الانقلابية والفرهود ضد اليهود – موقع " doxata.com" القسم العربي" بتاريخ 2 حزيران يونيو 2011. يقول الكاتب إن هذه الدراسة جزء من كتاب "محنة يهود العراق".
استراليا.. الحقيقة اولاً
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عباس علي مراد
إن قلب الأمة كان "جيداً ولكنه يحتاج إلى أن يتعافى"
The heart of the nation was “good but it needs healing”
النائب الفيدرالي رسل برودبانت من ولاية فكتوريا من حزب الأحرار
في السادس والعشرين من كانون الثاني من كل عام الذي يصادف اليوم الوطني الأسترالي والذي يعتبره السكان الأصليين (الأبوريجنال) يوم الغزو يتصدر الحدث المشهد السياسي في استراليا.
هذا اليوم الذي رفع فيه الكابتن ارثر فيليب العلم البريطاني في خليج مدينة سدني، وذلك بعد يومين فقط من وصوله إلى البر الأسترالي، وأعلن أن المنطقة أصبحت تابعة للعرش البريطاني، يعتبر يوماً مثيراً للجدل من عدة جوانب أبرزها التهرب من مواجهة الحقيقة التاريخية لمعاناة سكان البلاد الأصليين.
منذ أكثر من مئتي عام بدأت معاناة السكان الأصليين المتواجدين في هذه البلاد منذ ستين ألف عام مع المستوطنين الجدد الذين عملوا على إبادتهم بشتى الوسائل والتي شملت ايضاً نقل الأمراض المعدية لهم.
رغم إعلان الفيدرالية الأسترالية عام 1901 إلا أن السكان الأصليين لم يُعْتَبروا جزءاً من السكان حتى العام 1967 حيث شملهم الإحصاء أول مرة. ومع ذلك بقيت الحكومات الأسترالية الفيدرالية المتعاقبة وحكومات الولايات تتجاهل حقوق هؤلاء السكان وترفض الإعتراف بمعاناتهم والإعتذار منهم رغم بعض عمليات التجميل السياسية الآنية.
الخطوة الأبرز في مسيرة المصالحة والمصارحة كانت عام 2008 حيث قدم رئيس الوزراء العمالي كيفن راد الإعتذار عن ممارسات الحكومات الأسترالية بحق الأجيال المسروقة، والتي اعُتبرت نوع من الإبادة الثقافية حيث كان يتم انتزاع أطفال السكان الأصليين من ذويهم بعد الولادة ونقلهم إلى المؤسسات الدينية والحكومية والعائلات من خلفيات انكلوسكسونية لتنشئتهم.
رئيس الوزراء سكوت موريسن كان له موقف ملفت ومثير للجدل بهذه المناسبة قائلاً: "ان هذا اليوم لم يكن يوم سعيداً" لأولئك الذين وصلوا إلى هنا على متن الأسطول الأول، مشيرا إلى معاناتهم خلال الرحلة، وكأن رئيس الوزراء يريد المقارنة بين معاناة السكان الأصليين على يد المستوطنين الجدد!
رئيسة ولاية نيو سوث ويلز غلاديس بيرجكليان والتي لا تؤيد تغيير تاريخ يوم استراليا، قالت أن يوم 26 كانون الثاني يسبب الألم للسكان الأصليين وأضافت انه لديها أمل في ان استراليا اقرب إلى ان "تكون شعباً واحداً حقاً" وأن البلاد لا تزال تتطور لكن لا ينبغي إنكار أي جانب من تاريخنا، أو المعالم الرئيسية التي جعلتنا الأمة التي نحن اليوم، وأضافت " لكن ما زال لدينا الكثير لإنجازه".
واتخذ وزير شؤون السكان الأصليين في نيو ساوث ويلز دون هاروين موقفاً مماثلاً لموقف بيرجكليان مضيفا انه يمكننا أن نعمل معاً نحو مستقبل أكثر توحيداً.
لكن النائب في مجلس الشيوخ في الولاية من حزب الخضر ديفيد شوبريدج انتقد تصريحات بيرجكليان قائلاً: "إنها تفتقر إلى البصيرة وانعدام القيادة" وقال: " ان الإصرار على الإحتفال بيوم استراليا في اليوم الذي يصادف بداية الغزو أو السلب أو العنف المستمر ضد السكان الأصليين يزيد من انقساماتنا.
السيدة اونتي كاثرين دودد فيرول من قبيلة وانجو باري من السكان الأصليين قالت: ان السيدة بيرجكليان لم تأتِ بجديد وانها تردد نفس المعزوفة القديمة، وأضافت اننا لن نكون شعباً واحداً حقاً حتى يتم الإعتراف بنا في الدستور وفي مناهج التعليم.
المتحدث باسم المعارضة العمالية في الولاية لشؤون السكان الأصليين ديفيد هاريس قال ان التغيير يأتي من خلال قول الحقيقة، وبحث مسالة المعاهدة مع السكان الأصليين والخطاب العام حول تاريخ استراليا وهذا لا يتعلق بيوم واحد، إنما يتعلق بما حدث على مدار 250 عامًا الماضية من الشواذات، وكيف تسبب ذلك في ألم الأجيال ، والذي سنظل نراه من خلال النتائج السيئة على السكان الأصليين.
الموقف الأبرز الذي كان ملفتاً للنظر جاء من النائب الفيدرالي رسل برودبانت من ولاية فكتوريا من حزب الأحرار، حيث حث حزبه لإعادة النظر بموقفه من بيان اولوروو للسكان الأصلين المعروف ببيان من القلب والذي أصدره السكان الأصليون بعد المؤتمر الدستوري الوطني الأول للسكان الأصليين الذي استمر أربعة أيام وعُقد في اولوروو عام 2017 وحضرته أغلبية قيادات مجموعات السكان الأصليين.
وأضاف النائب برودبانت: لقد حان الوقت للإعتراف رسميًا بالماضي والسعي للمغفرة والتسامح وقبول الدعوة السخية للسير معًا كما جاء في بيان من القلب.
ويدعو البيان إلى تمثيل السكان الأصليين في الدولة من خلال الإعتراف بهم في الدستور، ورفض المشاركون في المؤتمر أي تمييع وإلتفاف على البيان من خلال اللجوء إلى مشاريع القوانين لتمثيل السكان الأصليين.
زعيم المعارضة الفيدرالية انتوني البانيزي قال إن حزب العمال سيظل ملتزماً ببيان أولوروو وإن استراليا بحاجة إلى العمل على كيفية تجنب الجدل المثير للإنقسام الذي يحدث في كانون الثاني/ يناير من كل عام، وتابع إن 26 كانون الثاني قد يكون موعدًا مستقبليًا للتصويت الناجح للإعتراف الدستوري بالأستراليين الأوائل.
أما الأكثر غرابة فكان موقف وزير السكان الأصليين الأسترالي الفيدرالي كين وايت من حزب الأحرار (وهو من السكان الأصليين) الذي جادل بأن تغيير الدستور عملية محفوفة بالمخاطر، حيث لم ينجح الا ثمانية استفتاءات للرأي فقط من أصل 44 استفتاءاً في تاريخ استراليا الحديثة. وقال وايت انه بدلاً من إجراء استفتاء يجب أن يتم تشريع نموذج تمثيل السكان الاصليين المقترح قبل الانتخابات القادمة.
استراليا والتي تعتبر دولة رائدة على أكثر الصعد، لا يمكن لها إن تستمر في دفن رأسها في الرمال والهروب إلى الأمام من مواجهة الحقيقة والإعتراف بماضيها وبما فعله المستوطنون البيض بحق السكان الأصليين وذلك من أجل مصالحة حقيقية تعزز ازدهار البلاد، لأن التجاهل سيبقي الجرح مفتوحاً مع ما يكلف ذلك البلاد من النواحي الثقافية،الإنسانية، الإجتماعية وحتى الإقتصادية.
إذن، المطلوب خطوات شجاعة لدفع المصالحة إلى أبعد من مجرد زيادة الوعي على أهميته، ولا نبقي الإعتماد على إستطلاعات الرأي لأن الأمر لا يمكن النظر إليه من خلال تلك الإستطلاعات التي قد يكون لها بعض المصداقية حول نتائج الإنتخابات، لكن مسألة تقرير مستقبل أفضل تتطلب قيادة وطنية تضع خطة طريق وطنية مستقبلية لملاقاة طروحات السكان الأصليين وتمتين أسس البناء الوطني الذي يرتكز إلى القوائم الديمغرافية الثلاث (السكان الأصليين، المستوطنين والمهاجرين).
عباس علي مراد
سدني
الطفولة واللسان والفطرة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: نبيل عبد الأمير الربيعي
نشرت جريدة الزوراء البغدادية في عددها ليوم 30 كانون الثاني 2019 عن الطفل الصيني ذات الـ 23 يوماً يتكلم ويصدم الجميع… فماذا قال؟
"يبدأ الرضيع العادي النطق عندما يبلغ العام تقريبا، لكن رضيعا حديث الولادة في الصين نسف هذه القاعدة المسلم بها، بعدما صدم أمه وممرضاته بلفظه على ما يبدو كلمة «ماما»، في عمر 23 يوما فقط.
ورغم اعتراف الأم أن رضيعها لفظ بالكلمة دون قصد على الأغلب، فإنها شعرت وعائلتها بالإعجاب الممزوج بالذهول عند سماعها، حسبما نقلت صحيفة «ديلي ميل» البريطانية. ونطق الطفل «لأول مرة» في مركز لرعاية ما بعد الولادة، في مدينة تشانغتشون بمقاطعة جيلين شمالي الصين، في 20 كانون الثاني الجاري. وتم تصوير المشهد في لقطة فيديو وثقتها والدة الرضيع، وشاركتها عبر وسائل التواصل، وفي الثانية العاشرة من المقطع، يظهر الرضيع وهو نائم على طاولة بينما تدلك ممرضة ظهره بلطف. وفجأة، يسمع المولود الجديد يقول aiya، فعلقت أمه بلهفة: «هذا الطفل مضحك جدا». لكن بعد ثوان ينطق الرضيع فجأة «ماما»، تاركا والدته وطاقمه الطبي في حالة ذهول. وقالت والدة الرضيع لمحطة تلفزيونية إن ابنها أنهى درسا في السباحة في ذلك اليوم، وإنها لم تطعمه سوى القليل من الحليب قبل التمرين لمنعه من التقيؤ، لذلك ربما يكون الجوع سببا وراء تلفظه بأصوات غير عادية. ويمكن للرضع التفوه بكلماتهم الأولى ما بين عمر 12 إلى 18 شهرا، وحينها تبلغ المفردات من 10 إلى 20 كلمة. وتعليقا على مقطع الفيديو، قال طبيب من مستشفى «تشانغتشون» للأطفال، إن الرضيع أصدر صوتا بكلمة ماما دون قصد".(1)
والسؤال هنا هل طفحت اللغة الصينية على لسان الوليد حين تلامس الروح العقل في مكمنه الخفي الأول. وحدث أن "نشرت جريدة الزوراء البغدادية عام 1996 عن طفل عراقي بدا لأهله مشاكساً وغريب الأطوار حينما بدا شغفاً برطانة وتكرار الكلمات بمهمة لا يفهمها أحد، وما أثار حفيظتهم أن الأمر تصاعد إلى أن يكون حواراً ذاتياً بين سائل ومجيب، حينما غاب المحاور، ممّا حدا بعائلة الطفل أن تعرضه على طبيب نفسي كونه يوحي بمسّ من الجنون أو الهلوسة.
وكانت مفاجأتهم كبيرة عند الطبيب، حينما أخبرهم بأن ما يتفوّه به الصبي هي لغة قائمة بذاتها، وليس هلوسة أو أصواتاً شاذة. واقترح عرضه على خبير ألسنة، علّه يجد عنده الإجابة الشافية. فتصاعدت المفاجأة أكثر حينما قال لهم الخبير اللغوي بأن ما يتكلمّه أبنهم لغة قديمة منقرضة، كأنها تبدو (أكدية) المخارج، والكلمات، بما يعني أن ابنهم يتكلم لغة انقرضت بما لا يقل عن ثلاثة آلاف عاماً خلت"(2).
يعتقد علماء اللسانيات أن لسان الطفل حينما تلامس الروح العقل في مكمنه الخفي الأول هنا قد انطلقت وطغت اللغة الأكدية على لسانه، وحدث أن انطلقت من عقالها وحبسها لتصدر صوتاً لسانياً من السليقة الطفولية، سرعان ما يختفي بعد أن يتطور الوعي لدى الطفل، ويأخذ عقله يتقولب مع إملاءات البيئة اللسانية المحيطة.
وهذا يفتح خيالنا إلى كم الجمود الإبداعي واللساني الذي يمكن أن يصيب الشعوب المقهورة، أو التي عانت من الضيم والطغيان كما العراقيون. وهذا أقرب للعقل والصواب، حيث أننا ما زلنا نجد أن حروفاً في اللغة هي مستوحاة من تكرار أصوات مصدرها الطبيعة أو الكائنات، كما هو الحال خرير الماء وتأوّه الإنسان من الألم وصدور كلمة (آخ) وغيرها.
وحسب ما أمسى به العالم الأمريكي (نعوم شومسكي) حيث قال (إنه أمر مستحيل أن يتعلم الطفل اللغة الأم بالتقليد، إنما بملكة موجودة في الدماغ تسمى Language Acquisition Device حين يكتمل نموها. وأثبتت الدراسات المفصّلة على اكتساب الأطفال اللغة يتبع جدولاً زمنياً تفصيلياً من حيث أن الطفل يبدأ بالتصويت، ثم بالمناغات (الملاغات) فالكلمة الواحدة، فتنغيم الجملة ما، ثم الكلمتين معاً، ثم بجمل تبدو غير صحيحة، وهذا بعد مروره بعدة مراحل تطورية. وخاصة تطور الدماغ والتوصل لقدرات تمثيل وترميز الدافع بأفكار مناسبة. وهذا كان أهم عوامل حدوث القفزة التي ميزتنا عن باقي الكائنات الحية، وهي القدرة على التخاطب الفعّال بواسطة الإيماءات والاشارات أو الأهم تمثيل الواقع بلغة محكية، ثم مكتوبة متطورة.
يذكر د. علي ثويني في كتابه (الألسنة العراقي) قائلاً: "فمنذ حوالي 300 ألف سنة بدأت اللغة بالكوّن باختراع الكلمات، وتطوّرت لتصبح كما هي عليه الآن خلال 150 ألف سنة. كانت أهمية اختراع الكلمات في التواصل تتمثل في ابتكار أصوات محددة معينة أوضح وأدقّ من الإيماءات، يتمّ تعليمها للصغار بسهولة. لقد سهّلت اللغة عملية نقل الأفكار المتزايدة التعقيد"(3).
لذلك فنحن الوحيدين من بين الكائنات الحيّة الذين نستطيع تمثيل غالبية الأحاسيس بواسطة رموز لغوية فكرية، وهي الكلمات. فتطورت كثيراً طرق وأساليب الترميز والتمثيل لدينا نتيجة نشوء اللغة المحكية، فبواسطة اللغة التي هي ترميز ثانٍ للرموز الحسية الخام (البصرية والصوتية وغيرها) تم تمثيل أو ترميز واردات الحواس المختلفة بلغة أو رموز واحدة، وأيضاً تمّ تمثيل أحاسيسنا وعواطفنا وأفكارنا بتلك اللغة.
فاختراع الكلمات وسّع حدود العقل والوعي وتطورت طريقة ربط الأفكار، هذا مما أدّى لنموّ الذكاء البشري بشكل كبير وسريع وغير مسبوق. فبواسطة اللغة المحكية بدأت القصص والروايات ومن ثم الأساطير بالشكل والتداول بين أفراد الجماعة.
لذلك عندما تشكلت اللغة المكتوبة وهي بداية التاريخ المكتوب تمّت قفزة أخرى سمحت بتناقل المعلومات والأفكار دون التواصل المباشر، وبذلك نشأ التاريخ نتيجة التواصل بين البشر الذي حدث نتيجة اللغة المكتوبة.
وقد نشأت اللغة المحكية من خلال الإشارات والإيماءات إلى لغة محكية ثم مكتوبة بدلالة إعطاء الأوامر وذكر الحوادث والقصص والروايات. وكان لنشوء الثقافة والحضارة نتيجة التوارث الاجتماعي للأفكار والمعلومات والتصرفات والتقنية بكافة اشكالها الدور الأساسي الذي جعل تفكيرنا مختلفاً عن باقي الكائنات بكافة اشكالها.
نبيل عبد الأمير الربيعي
...............................
المصادر
1- جريدة الزوراء البغدادية ليوم 30 كانون الثاني 2019.
2- د. علي ثويني. الالسنة العراقية.. أمالي الشجون في الذاتية الثقافية. دار ميزوبوتاميا. ط1. 2013. ص55.
3- نفس المصدر السابق. ص58.
الواقعية الاشتراكية - Socialist Realism
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. مصدق الحبيب
هي اسلوب فني في التشكيل والادب والموسيقى، ارتبط بالايديولوجية الاشتراكية السوفيتية واصبح الاسلوب الرسمي الشائع في الفنون والآداب خلال الحقبة السوفيتية، اعتبارا من تأسيسه عام 1932 ولغاية انهيار النظام السوفيتي عام 1991. كما ساد هذا الاسلوب ايضا في عموم دول المعسكر الاشتراكي والصين، خاصة بعدالحرب العالمية الثانية. وتجدر الاشارة هنا الى ضرورة التمييز بين هذه الواقعية الاشتراكية والواقعية الاجتماعية Social Realism، حيث يتعرض المفهومان للخلط احيانا.
يهتم اسلوب الواقعية الاشتراكية بالتصويرالواقعي لحياة عامة الناس في جميع نشاطاتهم اليومية واماكن عملهم ومشاعرهم، ويركزعلى تصوير حياة الكادحين والفقراء والعمال في مصانعهم والفلاحين في مزارعهم والجنود في ثكناتهم والطلاب في مدارسهم وكذلك يصور مشاعر هؤلاء مع عوائلهم وفي افراحهم واحزانهم. وبذلك نكاد لا نجد أيا من مظاهر الترف في حياة الطبقات العليا وقصور الملوك والامراء وسهراتهم وحفلات صيدهم وبذخ نسائهم، كما نراها غالبا في فنون وآداب الواقعية الكلاسيكية. ويمكن القول ان الواقعية الاشتراكية أقلعت بالثقافة من قصور النخبة وحطت بها وسط تجمع الناس العاديين.
في عام 1932، وقد مضى على تسلم ستالين السلطة ثمانية اعوام، اصدرت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي المشروع الشامل لاعادة بناء المؤسسات الثقافية والذي استلزم حل جميع المؤسسات والجمعيات والتجمعات والنوادي الثقافية القائمة آنذاك واخضاع جميع النشاطات الثقافية الى سلطة مركزية تمثلت بكيانات الاتحادات المهنية الفيدرالية للفنانين والادباء والتي اخذت على عاتقها تعميم مفهوم "الواقعية الاشتراكية" في الثقافة بدلا من "الكلاسيكية البروليتارية" القائمة آنذاك. واستنادا الى ماجاء في كتاب آيگور كولمستاك "الفن التوتاليتاري" المنشور عام 1990، فان مفهوم الواقعية الاشتراكية كان قد تمخض عن الاجتماع السري الذي انعقد بين ستالين وعدد من الفنانين والادباء في بيت مكسيم گوركي بتاريخ 26 اوكتوبر عام 1932. وكانت قوات الحرس الخاص قد استدعت ليلا ذلك النفر المختار من المثقفين ونقلتهم الى بيت گوركي دون ان يعلم احد اي شئ مسبق عن مكان الاجتماع ومن يحضره ومالغرض منه. وقد تفاجأ الحضور بظهور ستالين من خلف ستائر غرفة الجلوس وقيامه بترؤس الاجتماع معلنا بان الغرض من ذلك اللقاء هو الاستئناس برأي المثقفين من اجل تحديد الاتجاه الاساسي الذي يريده الحزب للثقافة السوفيتية الجديدة. وبذلك فقد وضعت الصيغة الاولى لمنهج الواقعية الاشتراكية في الاداب والفنون اثناء ذلك الاجتماع . الا ان مفهوم الواقعية الاشتراكية الدقيق بقي غامضا للجميع لفترة سنتين بعد استنباطه، ولم يجرؤ احد على الاستفسار عن معناه الحقيقي او كيف يتسنى للمثقف ان يقدم انتاجه حسب هذا المفهوم. واخيرا انبرى اندريه جدانوف المستشار الثقافي للنظام الى القاء الضوء على معنى الواقعية الاشتراكية مستعينا بتعاليم وملاحظات ستالين الشخصية .
كان ذلك في الاجتماع الموحد الاول لاتحادات ادباء الجمهوريات السوفيتية المنعقد عام 1934. وقد جاء في تعريف جدانوف بان "الواقعية الاشتراكية تتمثل اولا بمعرفة الفنان او الاديب لمحيطه واستعداده لتجسيد ذلك الواقع ، ليس بالشكل المدرسي الجامد، وليس كحقيقة موضوعية مجردة، انما تجسيدا للحياة الحقيقية بطورها الثوري الخلاق الذي يتزاوج فيه التراث الاصيل مع مهمات الثورة الاشتراكية العظيمة، بحيث يكون الهدف هو تعليم الجماهير وتثقيفها بروح الطبقة العاملة الكادحة وتنويرها بسناء النظام الشيوعي الخالد"( Golomstock, 90 ). وهكذا فقد اصبح الهدف المركزي للآيديولوجيا الشمولية في الثقافة هو الزام الفنان او الاديب بان ينظر الى الواقع الذي يصوره بعين الحزب من اجل تجسيد الصيغة الثورية لذلك الواقع، الامر الذي لايمكن وصفه إلا بكونه احادي المنظور!! ولكن هذه الميزة لم تكن بعيب في ظل الفلسفة التوتاليتارية اذ ان جدانوف كان قد قال بصراحة:
"في ظل صراع الطبقات التي تحسمه الثورة لصالح الطبقة البروليتارية، لابد ان تكون فنوننا وآدابنا منحازة ولايمكن لها ان تكون غير سياسية".
وهذا يشابه لما ردده ايضا هانز شم وزير الثقافة الاول في الحكومة النازية حين قال:
"عند الكلام عن ثقافتنا، لايمكن لنا ان نكون موضوعيين، لاننا ألمان الى العظم"!!.
وهكذا تركزت الثقافة الآيديولوجية الواحدة الموجهة التي لايقوى ان ينتقدها او يهملها او يعارضها اي احد. بل اصبحت لزاما على الجميع. ومن يجرؤ ان يختلف، فإنه سيخسر صراع البقاء لامحالة! . وكانت اول حملة للتصفية الجسدية للفنانين والادباء غير المرغوب فيهم تلك التي شنها الكساندر كيرامسوف عام 1938من داخل اتحاد الفنانين ضد مجموعة ضمت عددا من اعضاء الاتحاد الرسميين اضافة الى عدد آخر من غير المنظمين الى الاتحاد.
وكان كيرامسوف، العضو المتنفذ في الاتحاد، قد صرح علنا ودون اي تردد بانه "لابد من التخلص من العناصر المغرضة التي تتحرك في الوسط الفني من امثال اعداء الشعب وعملاء الفاشية، واخص بالذكر جلاوزة تروتسكي وبخارين وكترسنايبس" . وقد تلتها حملات اقسى واشمل واكثر تنظيما راح ضحيتها العديد من المثقفين كما حدث عامي 1940 و 1953، ومابعدهما. (الحبيب، الفن والحرية والابداع، 2007، ص118-119) في عهد لينين وما قبله، لم تكن الانشطة الثقافية ملزمة باسلوب معين انما اتصفت بشيوع اساليب مختلفة وفي الحقيقة انتشرت عبرها اساليب الفن والادب الحديثة التي شاعت في أوربا عند مطلع القرن العشرين، والاكثر من ذلك ان الرواد الاوائل في الاسلوب التجريدي مثلا كانوا من الفنانين الروس كفاسيلي كاندنسكي وكشميرماليفتش وناتاليا كونجروفا وميخائيل لاريونوف. فكان من الممكن تمييز مجموعتين رئيسيتين من المثقفين: التقليديين والمحدثين. في حكم ستالين الذي بدأ رسميا عام 1924 بدأ المحدثين يفقدون مواقعهم على خارطة الثقافة الوطنية شيئا فشيئا الى ان فقدوا اي موضع قدم بعد عام 1932 لتختفي ملامح نشاطهم الفكري بعد الاعلان عن المنهج الجديد، الواقعية الاشتراكية. وهكذا تشتت هذا الفريق بين من هجر البلاد وبين من تدجن بموجب ماهو واجب.
ولو وضعنا البرابوگاندا الغربية التي احطت من قيمة الواقعية الاشتراكية وجردتها من كل ماهو جيد من خلال التركيز على انها نتيجة للقسر والارهاب الثقافي الذي مارسته السلطات السوفيتية، سنكون عند واجب الموضوعية، خاصة اذا انتبهنا لها من الناحية الفنية البحتة وتأملنا الجمال الباذخ في نتاجها الثقافي. فموضوعاتها نبيلة دأبت على تصوير قيمة العمل وقداسته كواجب وطني، ومجدت السعي المثمر والتعاون، والتزمت بالنظرة التفاؤلية وآمنت بالمستقبل الافضل للاجيال، وتمسكت بالارض والوطن الواحد وسعت الى تثوير خيراته، وجعلت من الوطنية واجبا مقدسا، واشاعت المحبة والتعاون والخير للانسانية جمعاء. كل ذلك جسده الفنانون بطرق ساحرة موظفين فيها رموزا رائعة جليلة كسعة وثراء الحقول السابحة بضوء الشمس وزهو ونضارة الازهار في المشاتل ونقاء الثلوج على التلول وقوة المكائن وصلابة الحديد وعناد الصخور وابتسامة الوجوه المنتصرة القانعة، وألفة العائلة الحميمة.
نعم انها فن امتزجت فيه الايديولوجية. ايديولوجية حزب حاكم واحد يحقق اهدافه باسلوبه التوتاليتاري المعروف الذي نقل الفنون والآداب من كونها ترف ثقافي الى وسيلة تعليمية تنويرية أو سلاح ضد الجهل والخيانة والشرور.
أنا شخصيا ارفض فكرة الفن الايديولوجي مهما كانت وجهته واهدافه طالما انه مفروض فرضا على المجتمع لكنني لا اتردد ان افتش عما يكون جيدا فيه واعتز به. كما انني اتخذ ذات الموقف مع الثقافة الليبرالية الحرة التي تتضمن ايضا الصالح الذي يكتسب الاعتزاز والطالح الذي يستحق الرفض. خلال سني الحرب الباردة والى اليوم تنازع المعسكران الشرقي والغربي واساء كل منهما الى الآخر بنفس القدر فورثت الاجيال غسيل الادمغة الذي لابد لنا من ان نوضح سيئاته فنضع خطواتنا على طريق الموضوعية التي سترشدنا الى التقييم الصحيح الحق دون الانجرار الى الولاءات السياسية او الدينية او العنصرية.
ا. د. مصدق الحبيب
بين الدين والتدين ومحنة الانسانية.. جدلية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عبد الجبار العبيدي
الدين أصل آلهي، والتدين تنوع أنساني. الدين جوهر الأعتقاد، والتدين هو انتاج الاجتهاد.. الدين عقيدة شمولية، والتدين أراءُ ورغبة قناعة انفرادية.. لكن كليهما يختلفون في الحنيفية والحدود.
ويبقى شيء بينهما مفقود.. الاول يؤمن بقانون صيرورة التغيير في الوجود، والثاني يؤمن بنفسه دون تغيير. الاول وجود.. والثاني اعتقاد وهمي بلا وجود.
الاول.. هومنهج للانسانية جديد لتلافي تجاوزخطأ آدم وحواء في الوجود، والثاني.. بلا اصول ولا حتى بينات الوجود.
الاول يؤمن بحرية التعبير في الرأي"لكم دينكم ولي دين" والثاني لا اساس له في الرأي المختلف والتعبير.. الاول حقيقة.. والثاني وَهَم .
الأول عقيدة ربانية من آله مقتدر.. والثاني ابتكار أنساني يلفه الغموض أملته سياسة المصالح الشخصية في الوجود.. فالتعارض بينهما موجود.. لعدم اعتراف الاول بالثاني ولا بمن ابتكره في الوجود.اذن فكيف يصبح الثاني مذاهب متناحرة وهو دين الوجود.. وهو لم يذكره الله في كتبه السماوية حتى بلفظة وجود؟ .اذن لماذا الفقهاء اصحاب العمائم،من مخربي الاديان هم اصحاب الوجود..؟
الانسان في الأصل رافقه الخطأ.. فقد ولد من روح ميتة تجاه الله فهي من آدم الذي عصى أمر الله فأنزله من عليائه النقية.. ليسكنه الأرض الخراب.. لذا اصبحنا خطئاً قبل ان نولد من نسلهِ في الوجود.. فظلت طبيعة أنفسنا أمارة بالسوء.. فتولد معنا منذ الخليقة "الكذب والغضب والاعتداء والسرقة والخيانة والفساد وحب الذات.. كلها ناتجة من طبيعتنا حتى أصبحت فينا وجود.. انزل الله الوصايا العشرمع كل رسله بآيات حدية لا تقبل الخَرق فأخترقناها نتيجة طبيعتنا الخطأ الأمارة باالسوء.. لذا بقي الخطأ يلازمنا في الوجود.
اختصت الوصايا الآلهية العشر بالحق والعدل واليقين والأمان والا ستقامة في القبول.. دستور ما كتبه احد في العالمين.. وهو يعلم انه من الصعب على الانسان المولود في الخطأ ان يطبق ما يحيا به على الصحيح . لذا انزل التوراة والانجيل والقرآن مدرسة ومنهجاً للعالمين ليتعلموا الاستقامة والابتعاد عن الخطأ في الوجود.. لكن حتى كتب السماء أدخل فيها الانسان عند التدوين الخطأ والتناقض و التزوير.. ليبرروا ما شاء لهم من تزوير.. وظلم الأخرين في الوجود.
للأنسان حواسُ خمس تجعلة اداة واحدة في التنفيذ.. منها النفس التي تعبر عن العقل والأرادة واحساس الضمير او ما نسميه بسلطان الضمير.. يعلمنا كيف يجب ان نكون.. فهو يتعذب دوما لأننا جئنا من الخطأ الأزلي البعيد.. أما الروح فتلك هي سر الوجود التي لم يستطع الانسان ولا حتى الانبياء من الاهتداء اليها فبقيت سرا من اسرار الخالق للوجود" ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي.. فلا تخونوها.. فالخيانة والفساد أقبح ما في الوجود..
الحق والعدل اساس الوجود.. المسلمون منهم من يعتقد بعدل عمر(رض).. ومنهم من يعتقد بعدل علي(ع).. لكنه لا يدري ان الأثنين قد اخترق عدلهما كل الوجود.. الأول قال : "متى أستعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا في الوجود.. وقال الثاني :" ان الحق القديم لا يبطله شيء والعقل مضطر لقبول الحق.. اذن ان العدل هو القانون الموضوعي الناظم للوجود.. لكننا نحن الذين خُنا العدل في الوجود وكذبنا على الانسان في الوجود.. في الحياة قضاءُ وقَدر.. فالقدر هو الوجود الحتمي للحدث قبل وقوعه خارج الوعي الأنساني.. اما القضاء هو حركة أنسانية واعية تحدث بين النفي والأثبات ضمن الوجود.. لذا فالقدر من نَعم الله على البشر لعدم ادراكه وقوعه. فالقدر حدي ملزم.. والقضاء خيار غير ملزم.. فهل طبقناهما في الوجود.
القرآن يهدي للتي هي أقوم.. والرسل تنصح وتزيد.. حباً ورحمة وعدلاً في الوجود.. لكن هل فهم الأنسان نظرية الوجود..؟ ألم يجعل الله لكل منا شرعة ومنهاجا.. ولكن هل أتبعنا نحن شريعة الله حقا وتطبيقاً في الوجود.. القرآن يقول :"انا خلقناكم من نفسٍ واحدة"اذن علامه التفرقة في الحقوق والوجود.. هل كان للأنبياء والرسل رجال دين يفرقون.. مثلما اليوم رجال الدين يفرقون ويُفسدون.. ويتحزبون؟ والقرآن يقول:"لقد أنزلنا اليكم كتاباً فيه ذكركم لعلكم تعقلون".. لكنهم كانوا وما زالوا لا يعقلون كما قال القرآن تأكيدا انهم لا يعقلون:"ما يأتيهم من ذكرمن ربهم مُحدث الا أستمعوه وهم يلعبون"..
جاءت الأديان الى العالم لتخلص الانسان من دينونة الخطيئة التي لحقت به من خطيئة آدم ابو الأنسنة وليست أحتكارا وظلما عليه.. جاءت الاديان لتنصره على عمل الشيطان وتهدية للأستقامة والحقوق والعرفان.. فهل اهتدوا اصحاب الديانات اليوم بما أمرتهم به الكتب الآلهية المقدسة.. قليل منهم اهتدى والكثرة منهم يرفضون ؟.هل ذكر القرآن سيد ومرجع.. ام علمُ يتعلمه في مدرسة الأجيال.. ؟ لا ندري من اين جاءت مراجع الدين لتُقدَس بأسرارها الوهم لتضعه في سجنها الرهيب الذي ادخلوه العقول.. والقرآن يرفض كتم الاسرار على الناس :"ان الذين يكتمون ما انزل الله من الكتاب.. .أولئك ما يأكلون في بطونهم الا النار.... ولهم عذاب أليم،البقرة 174".
ان اديان السماء هي اكثر من مجرد حالة في الفكر والحياة.. والخلاص من عذابات الازمان.. انها مكان اعداد الاخلاق والحكمة ليلائم سكن الانسان حين يعي الله والحق والعدل والرحمن.. .من اجل مجموعة القيم جاءت الاديان .لا من اجل ان تنتج طبقة الآكليروس التي تستغل الانسان بالاديان.. كما نراهم اليوم معاذ الله منهم.. لا ماهكذا ولا من اجل الباطل والظلم والخيانة والسرقة والفساد والتزوير جاءت الاديان.. كما يفهما اليوم رعاة الباطل في هذا الزمان.. الذي صبغهم بصبغة من لا يستحق التقدير والاحترام..
دولة الاسلام بعد الرسول (ص) نشأت منذ البداية لتواجه مشكلة لا تعرف لها حلاً.. هي حاجتها الى دستور شرعي لا يعترف بشرعيتها اليوم.. لأحتكارها السلطة والمال وأرادة الأنسان.. والقرآن وهو يطلب تطبيق الشورى.. لاأحتكار السلطة والثروةعلى الأنسان.
ولا أحتكارالحقوق دون الناس وهو يقول :".. والذين يكنزون الذهب والفضة ولاينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم..، واحتكار المعرفة من قبل وكلائهم رجال الدين البهتان.. والقرآن لا يعترف برجال الدين، ولا يخولهم حق الفتوى نيابة عن الناس،فلا جهاد كفائي ولا فرض عين.. هذه من ابتكاراتهم للسيطرة على عقل الأنسان..،ولا مرجعيات اديان فالعدل واضح في القرآن.. ولا يميزهم بلباس معين كما فعل رجال العهد القديم في الأزمان.. .ويحتكرون قوة السلاح والمال عصب الحياة ويفرقون بين الانسان.. رجل وأمرأة.. وعبد وحر.. وفقير وغني.. من قِبل رجالهم الذين لا يعرفون من الدين الا اسمه ومن القرآن الا رسمه ليقتلوا باسم الدين الأنسان ؟ بهذا الباطل الكبير من خلفهم يحكم السلطان خلافاً لأرادة القرآن.
أعلم اخي المواطن.. ان اهتمام السماء هو اهتمام المطلق الذي يقول ان البشرنسبيون محصورون في آنية وأينية وأنانية.. بينما الشريعة تعطي امتداد الزمان لشرعية تشمل كل الآنام.. ليس مطلوبا منا غير حركة الوعي المستوعب للحالة التي نحن فيها اليوم وفهم تآويل القرآن..
حتى لا نتجاوز عدل السماء.. فالقرآن هوخاتمة كلمة السماء الى الارض.الحق والعدل والاستقامة، والشرعية اساس العدل فلا تخترقوها.. فتحل بكم النقمة كما حلت بعاد وثمودٍ في الأحقاف.. وبقوم نوح حين اغرقهم في اليَم ولم يبقِ لهم من بقية في الأزمان.. ويبقى الوعي بين الناس هو خير المعاد للأنسان.. فلا تسمع منهم الا ما تقرأهُ في التوراة والانجيل والقرآن.. غالبة رجال الدين كذابون منافقون دوما ولشعورهم بالنقص يسمون أنفسهم بأهل المعرفة والعرفان.. .ولكثرت ما يقولون على الخالي والمليان لم يعد الناس يميلون لسماعهم في الأديان..
لا يهمهم الا حينما يستغلوا بالدين الأنسان.. فلا تسمعوهم.. ولا تطيعوهم.. انهم مفسدة حياة الأنسان.. ويبقى العدل في القانون هو حياة الأنسان.. وهم محنة أنسانية الأنسان.
د. عبد الجبار العبيدي
امين الريحاني.. أديب الروح الوجداني العربي (1-4)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. ميثم الجنابي
إن الغموض الذي يلف حقيقة الشخصيات الكبرى الناشئة في مراحل الانقلابات والتحولات العاصفة والمفاجئة عادة ما يؤدي إلى سوء فهم مقاصدها. وهي إساءة تتولد في الأغلب عن أعماقها السحيقة والمتضادة أيضا، والتي يصعب سبر غورها دفعة واحدة. ويشتد هذا الغموض وما يرافقه من سوء فهم، عندما "يتذبذب" المفكر في تفكيره مع انعطافات التاريخ الحادة.
فقد مرت طفولة أمين الريحاني (1876-1940) وكذلك صباه وفتوته في المهجر (أمريكا). ومن هناك قفل راجعا إلى "مهبط الوحي" العربي بعد أن تعرف على أصوله وجذوره في مرآة الآخرين، وأعجب بها أيما إعجاب. وأشار في مذكراته إلى أنه تعرف على "سيد العرب النبي محمد" من خلال كتاب توماس كارليل عن (الأبطال وعبادة البطولة). كما أدهشته حضارة أسلافه الأندلسية من خلال كتاب ارفنغ واشنطن (الحمراء). وعندما أراد التغلغل إلى أعماق الروح العربي، فأنه عثر عليه في أبي العلاء المعري[1].
وهي انعطافات مفاجئة أّسرت أعماقه وساهمت في نفس الوقت ببناء كيانه الروحي. من هنا تطابق ذاته التاريخية مع تاريخ الصيرورة الجديدة للعرب في القرن العشرين. ورسم الريحاني هذه الحالة في ردوده التي ذيلها على كتابه (فيصل الأول)، وبالأخص على الاتهامات والانتقادات التي شككت فيما إذا كان هو أمريكيا أم لبنانيا أم عربيا أم الكلّ في واحد؟ وهل هو ملكي أم ديمقراطي أم اشتراكي أم الثلاثة في واحد؟ وردّ آنذاك قائلا، بأنه تربى في أمريكا الديمقراطية ولكنه اقتنع بأن الاسم فيها للأحرار والحكم للدولار. وأن الإنسان لم يتوصل بعد إلى حكومة صالحة من حيث الشكل والروح لكل شعوب الأرض. ذلك يعني أن نوعية الحكم ينبغي أن تتوافق مع "تقاليد الأمة وثقافتها"[2]. فإنجلترا على سبيل المثال لا يصلح لها النظام الجمهوري وإن كان الشعب ألف الأحكام الديمقراطية في النظام الملكي (الدستوري). كما لا تصلح الملكية لأمريكا رغم اقتناع شعبها بمساوئ الحكم الجمهوري. أما تقاليد العرب فهي تقاليد حب الملوكية وأبهة السلطة رغم فطرتهم الديمقراطية. بل أن تاريخ العرب كله هو تاريخ منافاة الشورى الإسلامية. ذلك يعني أن عقلية الأمة العربية عقلية ملوكية، كما أن تقاليدها في الحكم تقاليد ملوكية. لهذا اعتبر من الخطورة المجازفة بجعل النظام الجمهوري نظاما سائدا في العالم العربي[3]. وذلك لأن تقاليد العرب مبنية على أولوية فكرة العدل كأساس للملك (الدولة والنظام)، إضافة إلى أبوية السلطة. وبالتالي فأن أي تحويل لهذه التقاليد سوف يؤدي إلى صنع فجوة قاتلة. وهو السبب الذي يفسر رؤيته لما اسماه بخطورة النظام الجمهوري في العالم العربي. فالملوك العرب هم من قاد عملية تغيير حالة الأمة وتطويرها. فلولا الملك حسين لما قامت الثورة على الأتراك، ولولا ابن سعود لبقيت الجزيرة خراب وعراك، ولولا الإمام يحيى لهلكت اليمن، ولولا الإدريسي لتمزقت عسير[4]. وبغض النظر عن النتائج الواقعية، التي تزكي جزئيا استنتاجات الريحاني بهذا الصدد، فإنها كانت من حيث واقعيتها النتاج الملازم "لصيرورته" و"تناسقه" مع انقلابات العالم العربي آنذاك.
فقد كان خروجه من العالم العربي ورجوعه إليه صدفة. وما وراءها كان هناك تيار الانتماء للعروبة الذي يصعب تفسيره، شأن كل انتماء وجداني صادق بمعايير المنطق الشكلي. لكن اليقين الجازم هنا يقوم في أن اكتشافه للنفس لم يكن اكتشافا تاريخيا، بل اكتشافا وجدانيا جرى على خلفية الانكسار الحاد في صيرورة العالم العربي ودوله الحديثة، الذي صنع ما يمكن دعوته بالثبات العقلي فيه. فقد بحث الريحاني عن "عروة وثقى" في كل شيء من ديمقراطية وملوكية واشتراكية، أي في المتضادات التاريخية لنشوء النظم الاجتماعية وتغيرها. وفي نفس الوقت حاول التأسيس الحقوقي "للعقلية العربية" في نمط الحياة ونظام الحكم. مما أدى إلى دخول كافة هذه الأجزاء المختلفة في ذاته وأن تتعايش كمكونات طبيعية صيّرت وجوده الفكري وكيانه الروحي. لهذا نراه يجمع في آرائه كل شيء كما لو أنه يريد قول كل شيء. وليس مصادفة أن يجعل من "قل كلمتك وامش!" شعاره الحياتي.
لم يعن شعار "تكلم وامش!" عند الريحاني سوى تحديد الموقف الحر دون تهيب من المكان والزمان. فالكلام لم يعن هنا كلام المتكلمين، كما لم يعن المشي مشائية الأرسطيين، رغم صداهما الباهت في آرائه، وذلك لأن الكلام والمشائية هنا ليسا منظومة للقيم والأفكار، بقدر ما أنهما خليط من المواقف المعبّرة عن العاطفة المتحررة والراغبة في أن تكون مسموعة رغم أن السماع يبدو ثانويا في شعارها. ثم أن شعار "قل كلمتك وامشي" يوحي ظاهريا بان القائل لا يهمه ردود الفعل ولا يدقق فيما إذا كان المخاطب صما أو بكما! أما في الواقع، فأن هاجس الاستماع الحر للنفس والبوح بما فيها هي الصيغة المقلوبة لحب السماع والاستماع. أما في حالة الريحاني فقد كانت هذه الصيغة تعبيرا عن ثباته في الحركة الدائمة والدائبة والمتقلبة للوجدان، التي تجعل من تناسق الأفكار واتساقها في نظام من الألف إلى الياء أمرا مستحيلا. فقد كانت هذه الديمومة المتقلبة التمثيل الوجداني النموذجي الذي يسعى لجمع كل ما يمكن جمعه من اجل قول كل ما يمكن قوله، والذي عادة ما يميز مراحل التحولات العاصفة وانقلاباتها المفاجئة. وهو نموذج له فضيلة كبرى زمن التعصب وضيق الأفق، ورذيلة مماثلة أيام الحسم والقرار.
صوّر الريحاني في (ملوك العرب) مرحلة الانتقال كما شاهدها وتحسسها وعايشها وعاناها وتصورها. إذ وجد فيها حالة البؤس المتعدد الجوانب. وفي بعض "إرهاصاته اليمنية" عندما تجوّل في شمالها، كتب يقول، بأنه "يخيل له انه في أرض غريبة الظل والسراب، فيها أشباح تتكلم العربية"[5]. وهي أشباح وجدت انعكاسها في كل شيء فترى الشخص هندي الأم، صومالي الأب، عربي اللسان، إسلامي الدين. فلا هو مسلم ولا هو عربي ولا هو صومالي ولا هو هندي لا في أخلاقه ولا في ملامحه ولا في ملابسه[6]. ولم يقصد الريحاني بذلك إدانة الاندماج بين الأقوام والأديان والثقافات، بقدر ما كان ينتقد صيغتها المفككة انطلاقا من أن السبيكة المتماسكة تفترض وجود عناصر جوهرية متناسقة في تركيبها الداخلي. بينما تشير حالة البلاد العربية إلى التفكك في عرى الأحكام والتفرد والضعف المهلك في السيادة[7]. وهي حالة تكشف عنها الواقعة التي أوردها الريحاني عندما استفسر الإنجليز من الحديديين (سكان منطقة الحديدة اليمنية) عمن يريدون أن يحكمهم!؟ أجابوا: نريد الترك! وعندما قال لهم الإنجليز بأن ذلك محال، قالوا "نبغي إذن الحكومة المصرية!". وهي حالة تشترك فيها البلاد العربية حينذاك جميعا، رغم تمايزها الجزئي من مكان لآخر. ولكنها تشترك من حيث تغلغلها في "الأنظمة السياسية" العربية آنذاك، والتي ظل اغلبها أسير وحدة الدين والدنيا والطائفية والعشائرية والعائلية. بمعنى افتقادها للطابع المدني. وفي هذا يكمن بنظر الريحاني أحد الأسباب الأساسية لهلاك العالم العربي. ووجدت هذه الحالة تعبيرها غير المباشر في كثرة وانتشار كلمات الجهل والكسل والادعاء والظلم والعبودية والتعصب والخوف والخرافة والطاعة العمياء والأثرة والجبن والخداع والنفاق والأضاليل والغبن والخمول والفخفخة والأبهة والتدليس والكذب والقلوب المترهلة والقلوب المائعة والدموع والأسى والنحيب والنواح وكثير غيرها، في كتاباته. وهي كلمات موجودة في قواميس الأمم جميعا في مراحل صعودها وانحطاطها، إلا أن كثافتها المركبة في عبارات الريحاني تشير أولا وقبل كل شيء إلى وجدانية تعامله مع الأحداث والوقائع التي وصفها بحالة التفكك العام آنذاك.
وهي وجدانية أرادت أن تتحسس في عباراتها كل ما بإمكانه إثارة الجسد المتهرئ للعالم العربي حينذاك. لهذا أخذت بالإفحام والاتهام والتعظيم السريع. ولم تقصد بذلك شيئا غير ذاتها. وحدد هذا الحافز وجدانيتها العارمة في تحدي كل ما يمكن تحديه وتوجيه الاتهام إلى نفسها ومخاطبتها بأقسى الكلمات وأرقها. مثل أن ترى في نفسها "نبيلا يتجلى بجلاله كما يتجلى في مظاهر الربيع الجليلة"[8]، أو أن يشعر بالغربة المتسامية بحيث "يصرخ ساكتا: إلهي إنا غريبان ههنا"[9]. كما يجد في صوته صدى واستمرارا "لناي الرعاة، وعود الفسّاق، وكنارة الراقصات، وصوت الدهر، وروح الفيدا، والرسول إلى الصفوة"[10]، أو أن يصرخ بأنه "هو الشرق وأنه حجر الزاوية الأول لهيكل من هياكل الله، وأول عرش من عروش الإنسان". لهذا نراه "منحني الظهر ولكنه قويم الرأي ثابت الجنان"[11]. وهي الطاقة الخالدة للحقيقة والمتجسدة في "سلام الأنهر المقدسة"، وفي "لبيك اللهم لبيك"، وفي "منابر الوطنية والدعوة للثورة"، وفي "نشيد النرفانا وعقيدة الكارما"[12]. وليست هذه "المتناقضات" سوى الصيغة الوجدانية والعقلانية لحقيقة التصوف المتجزئة والمندمجة في نفس الوقت في مشاريع التفاؤل المغري للريحاني.
بحث الريحاني عن قلوب نابضة في المراكز التاريخية الغابرة للعالم العربي. لذا نراه يكتب عن "قلب لبنان" و"قلب العراق". كما نراه يعثر في مصر على "ابنة فرعون"، الذي أول من قال للموت: لا! وأول من قال للحياة: نعم! فمصر هي آية الزمان، وابنة فرعون، ومعجزة الدهر، وفتاة النيل، كما أن دجلة هي رب العراق وحياته الخالدة[13]. فقلب العراق حي إلى الأبد[14].
سعى الريحاني إلى "كسر" عود المنطق المتكلس بعبارات الخنوع أمام الحروف المتجزئة في الكلمات، والأوهام المستطابة للسرديات الجليلة الفارغة، والحماقات المستلذة لإطنابها بالماضي الممتطى، وقذارة الحنكة المتمرسة في إركاع الكلمات إلى ما تهواه الأنفس الخائرة. لهذا نراه يهاجم ما اسماه "بالقلوب المائعة للشرقيين"، ويدين "داء البكاء" ويطالب "برفع القلوب من مستنقعات التخنّث"[15]. ولم يعن ذلك في الواقع سوى مخاطبته الوجدان العربي بمعايير الوجدان نفسه، باعتباره الأسلوب الخالص والمخلص في نفس الوقت للحق والحقيقة والعدالة والحرية، ورفض الظلم والكذب والاستبداد.
وجسّد الريحاني مواقفه هذه عبر مخاطبته الشعراء باعتبارهم ممثلي الوجدان. وكتب في (بذور الزارعين) يقول، بأن "الشاعر هو من يخلص لإنسانيته أولا"، وأن "شرّ ما يكتبه الإنسان مقال لا إيمان فيه". ووجد القيمة الكبرى في كل ما ينظّم شعرا ويكتب نثرا يقوم في ما اسماه "بروح الشاعر الصادقة في قصائده وحياته معا"[16]. وليست هذه "الحنبلية" الشعرية سوى الصيغة الصارمة للوجدانية المتسامية في تعاملها مع النفس في ماضيها وحاضرها ومستقبلها. ومن هذا المنطلق يمكن فهم وضعه للمعري فوق مرتبة المتنبي. فقد وجد في المعري نموذجا متساميا لحقيقة الشعر (العربي). إذ كان شعره صورة صادقة لبيئته، حيث انتقد فيه الواقع "بكلمات من نار وقواف من نور". بينما انتقص من شعر المتنبي "لكذبه في المدح"[17]. وهو موقف مبني على انتقاده للفكرة القائلة بأن أجمل الشعر أكذبه، وما ترتب عليها من فجاجة في الرؤية تعتقد بأن الشعر لا علاقة له بالحقيقة وهدف الشاعر. من هنا نقده الشديد للمتنبي، حيث اعتبر صوره الشعرية في الغالب "صناعية تقليدية لا أثر فيها للعقل المقرون بالروح، أي للخيال الذي تغذيه الرؤيا"[18]. وعندما جمع حصيلة انتقاداته إياه، فانه وضعها في تقييم عام يقول:"ليس في المتنبي أتضاع الفيلسوف، وليس فيه روح الصالح التقي، بل ليس في ديوانه إلا بيت واحد يذكر الرحمة"[19].
إن تقييم المتنبي المذكور أعلاه له معناه ومغزاه الخاص بمعايير الوجدانية التي مثّلها الريحاني، بوصفها التيار العملي للملمة الجزئيات المتناثرة في التاريخ والمعاصرة والثقافات من اجل سكبها في الكلمة الفاعلة والإخلاص لها في الإحساس والعمل. من هنا انتقاده اللاذع للأنانية الضيقة بين الشعراء، ولخضوع شعرهم للأوزان والقوافي لا لمعاناة الإخلاص للعدل والحرية[20]. ووضع هذا الإخلاص في عباراته التي حورّ فيها مضمون الوصايا البابلية، بأن "يكرم أبويه من سيبويه ونفطويه والكسائي، وأن لا يحلف باسم ليلى بالباطل، ولا يمدح بالزور، ولا يكذب على هند وشقيقاتها، وأن لا يشته قصيدة أخيه"[21].
لقد أراد الريحاني الانتصاف من الشعر والشعراء، والإنصاف للمخلصين منهم. ولا معيار للإنصاف سوى الوجدان الذي ينبغي أن تتلألأ فيه ومن خلاله صدق المعاناة ورؤيتها الحالمة وقدرتها على إدراك المعنى الحق في الفعل. ولا يعني ذلك سوى الدعوة للخروج من إسار الكلمة وحروفها إلى فضاء الحقيقة الكامنة فيها، والاعتماد عليها في تأسيس وبناء وعي الذات القومي. ووضع الإطار العام لهذه الفكرة في مطالبته لأن يكون وجدان الشاعر "قوميا صحيحا في إنسانيته". فالإبداع الأدبي بشكل عام والشعري بشكل خاص عند كل أمة لها وزنها التاريخي، يكشف عن أن أدبها وعلمها مسخران للغرض الأكبر من جهادها وهو هويتها واستقلالها وتعزيز قوميتها ووطنيتها[22]. من هنا اعتقاده القائل، بأن "من ينشد فنا لا وطن له يمسي ولا فن له ولا وطن"[23]. وذلك لأنه حتى الأمة القوية التي لا أدب لها ولا فن لهي كالعملاق الأبكم. بينما الأمة القوية الحرة لا تستحق حريتها ما دام في العالم أمم مستضعفة[24].
لا غاية لهذه الوجدانية العارمة التي مثّلها الريحاني في عباراته الخطابية وملأ بها كتاباته، وبالأخص في (انتم الشعراء) و(بذور الزارعين) و(الريحانيات) غير استثارة عقل وضمير الأمة العربية في أفرادها وجماعاتها. من هنا استنتاجاتها العامة الجميلة التي لا أساس تاريخي لها. وهو ضعف لازم تيار الوجدان ككل. فالتاريخ الواقعي يكشف عن أن "الأمم الحرة القوية" هي أكثر من يستعبد "الأمم المستضعفة"، وبالتالي، فأن حرية المستضعفين ليست هبة أو هدية من أحد، بل النتاج الضروري لإرادة الأمم نفسها. ومن ثم فلا حرية حقيقة دون النضال من اجلها.
وهي فكرة شاطرها الريحاني خطابا ووجدانا، ولكنه لم يكن قادرا على صياغة منظومتها. وهو نقص عوضته "عقلانية الجنان" في نسجها الخيوط غير المرئية لوجدان الأمة وصقل عاطفتها بقيم العدالة والوحدة. من هنا تحول التاريخ عندها إلى جزء من العاطفة لا بالعكس. مما أدى إلى ضعف رؤيتها الواقعية وكذلك ضعف قدرتها على تأسيس منهج قابل للنفي الذاتي في مجرى بناء وعي الذات الثقافي. بل حتى في استلهامه الإيجابي والمتفائل لفكرة الدورة التاريخية القائلة، بأن التاريخ هو سلسلة دائرة تبدأ وتنتهي بالرجوع إلى بدايتها، باعتبارها "ناموس الارتقاء والتطور"، فأن الدورة تظل جزئية وعابرة. وذلك لأنها لم تعدو، شأن "منهجيته" التاريخية، أكثر من كونها اجتزاء للفكرة وتطبيقا خاطفا لها بما يتناسب مع مزاج الوجدان الهائج. ولعل قصته القصيرة المنشورة بعنوان (عام 1950)، التي كتبها عام 1920، والتي يمكن اعتبارها من بين أجمل القصص السياسية (الخيالية) القصيرة وأكثرها "نبؤة" في القرن العشرين عن الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 وآفاقها، نموذجا متميزا لذلك. حيث نراه يستلهم في آن واحد الفكرة الماركسية والدارونية المخلوطتين بالرومانسية الأدبية وشذرات متناثرة من مختلف التيارات السياسية الأوربية. إذ يتكلم فيها عما اسماه بسلسلة التاريخ التي تبدأ من الحكم الأبوي وتنتهي بالحكم الاشتراكي مرورا بالحكم الاستبدادي والحكم الدستوري. في هذه القصة القصيرة "يتنبأ" بسقوط الثورة البلشفية وذلك لعدم مرور روسيا بالدستورية بعد النظام الاستبدادي. وكتب بهذا الصدد على لسان أحد أبطاله الذي يروي قصة انتصار وهزيمة الثورة، قائلا:"إذا تأسس حكم العمال على عرش الحكم الاستبدادي مثلا لا يلبث أن يسقط فيقوم مقامه الحكم الدستوري البرجوازي. كذلك الحال في روسيا، عندما سقطت البلشفية"[25]. غير أن دورة التاريخ الخالدة لا تلبث أن تعيد مجراه إلى نصابه الحق، حيث تنتصر الثورة البلشفية من جديد على النطاق العالمي بعد اتحاد عمال بريطانيا وأمريكا ووقوفهما ضد الحرب الجديدة. ولكن "لا برايات حمراء، بل برايات بيضاء". حينها "تنبعث البلشفية من قبرها وقد طهّرها الفشل والزمان، فاستولت وهي عزلاء على زمام الأحكام في العالم المتمدن"[26].(يتبع....).
ا. د. ميثم الجنابي – مفكر وباحث
.........................
[1] أمين الريحاني: الريحانيات، ج1، ص2-3.
[2] أمين الريحاني: فيصل الأول، ص277.
[3] المصدر السابق، ص278. وهو استنتاج سبقه إليه الأفغاني.
[4] المصدر السابق، ص280.
[5] أمين الريحاني: ملوك العرب، ج1، ص104.
[6] المصدر السابق، ج1، ص281.
[7] المصدر السابق، ج1، ص277.
[8] أمين الريحاني: هتاف الأودية، ص23.
[9] المصدر السابق، ص25.
[10] المصدر السابق، ص29.
[11] المصدر السابق، ص84-85.
[12] المصدر السابق، ص89.
[13] المصدر السابق، ص93-94، 97.
[14] المصدر السابق، ص101.
[15] أمين الريحاني: انتم الشعراء، ص6-7.
[16] المصدر السابق، ص153.
[17] المصدر السابق، ص44.
[18] أمين الريحاني: أدب وفن، ص112.
[19] المصدر السابق، ص113.
[20] أمين الريحاني: انتم الشعراء، ص14-18.
[21] المصدر السابق، ص10.
[22] المصدر السابق، ص82.
[23] المصدر السابق، ص88.
[24] أمين الريحاني: بذور الزارعين، ص87.
[25] أمين الريحاني: الريحانيات، ج1، ص267.
[26] المصدر السابق، ص274.
الحرية والإبداع
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عدنان عويّد
إذا كانت الحرية في سياقها العام تعني وعي الضرورة، أو الضرورة الواعية كما يقول "هيجل"، أي وعي الإنسان للظرف المادية والفكرية التي تتحكم بحاجاته الأساسية، المادية منها والمعنوية في نطاق المحيط الذي يعيش وينشط فيه، بغية الحفاظ على وجوده وإشباع حاجاته بكل مستوياتها السياسية والاقتصادية والثقافية، أو بتعبير آخر، إشباع حاجاته المادية والمعنوية بشكل عام، مع حضور شرطي المسؤولية والوعي اتجاه فهم وممارسة هذه الحرية. فإن الإبداع هو ذاك النشاط الإنساني الحيوي والمتميز في قدراته ومهاراته (الفكرية والعملية) عن النشاط الفطري والسطحي في شقيه المادي والروحي الذي يبذله الإنسان من أجل تأمين واستمرارية بقائه، وذلك كون النشاط الإبداعي المتميز الذي تحقق عبر الإنسان بفعل تحرره من بعض قيود الضرورة التي ُفرضت عليه تاريخيا، يظل نشاطاً يصب غالباً في تنمية مهارات وقابليات واهتمامات الإنسان من جهة، وفي القدرة على الغوص بعيدا في عالم المجهول، أي المغامرة من جهة ثانية، وبالتالي كشف تلك المكنونات من قوانين الضرورة (معوقات الحرية) في الوجودين المادي والفكري معا، بغية زيادة إشباع حاجات الإنسان بعامة، وتحقيق تقدمه والسمو به نحو عالم الوعي العقلاني، والنأي به بعيدا عن عالم الفطرة والغريزة المتوحشتين من جهة ثالثة .
بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه علينا هنا هو: ماهي العلاقة القائمة مابين الحرية والإبداع؟ .
لاشك أن هناك علاقة جدلية ما بين الحرية والإبداع، حيث نجد أنه، كلما اتسعت مجالات الحرية اتسعت بالضرورة مجالات الإبداع، والعكس صحيح أيضا، إذ كلما اتسعت مجالات الإبداع، يكون هناك اتساع في مجالات الحرية. وتاريخ الإنسان أصلا هو تاريخ صراعه مع الطبيعة ومع نفسه (المجتمع) من أجل الحرية، أي في المحصلة من أجل الإبداع. فصراعه الأول مع الطبيعة مثلا كان صراعا من أجل تجاوز قوانين الضرورة الحكمية (العمياء) التي كانت تتحكم به وبإرادته وتخضعه دائما لإرادتها العمياء، فعبر صراعه الأول هذا استطاع أن يكتشف ولأول مرة بنشاطه وإبداعه الخاص سر العديد من قوانين الطبيعة ويتحكم بها، وبهذا أصبح يميز ذاته كانسان يختلف عن بقية مفردات الطبيعة المحيطة به، بل راح يسخر آلية عمل تلك القوانين لمصلحته، الأمر الذي أفقدها سر قداستها بالنسبة له، ولم تعد تجلياتها في الطبيعة من رياح ورعد وأمطار ... الخ، تشكل آلهة يقدم لها الولاء والقرابين طمعا في رضاها وكف غضبها أو شرها عنه، أو بتعبير آخر الحد من حريته وإبداعه.
غير أن هذا الإنسان ذاته الذي راح يسيطر على قوانين الطبيعة شيئا فشيئا عبر ما حققه من حرية وقدرة في إبداع وسائل إنتاج جديدة واكتساب مهارات متنوعة من خلال الإنتاج الهادف إلى تأمين خيراته المادية والمعنوية معا، راح هو ذاته عبر آلية عمل إنتاجه، يضيع في منتجاته أيضا، وُيدخل ذاته في عبودية جديدة تحدُّ من حريته وإبداعه اللذين ناضل طويلا ضد الطبيعة وعالم الغريزة من أجل الحصول عليها أو انتزاعها، وهذا الشكل الجديد من الضياع والعبودية أخذ يتحقق عندما أصبح هناك فائض في الإنتاج لدى البعض من الناس (أفراد وجماعات)، هذا الفائض الذي دفع منتجه إلى البحث عن تبادل إنتاجه مع منتج آخر من أجل إشباع حاجاته المادية والروحية أكثر، بيد أن هذا التبادل أخذ شيئا فشيئا يغذي بدوره روح التملك والحيازة، فكانت وسائل ومواضيع الإنتاج ومنها الأرض أول أشكال هذا التملك وهذا ما دفع (روسو) للقول فيما بعد: (عندما قام أول إنسان بتسييج قطعة من الأرض وقال هذه ملكي، وصدقه بعض المغفلين، بدأت عملية استغلال الإنسان للإنسان)، أي الحد من حريته وإبداعاته. بل إن الحرية والإبداع ذاتهما لم يعودا في مجتمع الاستغلال هذا ملكا للمبدع، بل ملكا لمن يملك، ولا يحق لصاحبهما التصرف يهما إلا وفقا لما يريده المالك بشكل مباشر أو غير مباشر !! .
من هنا بدأت مسألة الحرية والإبداع تأخذ اشكاليتها التاريخية الجديدة ما بين المالك والمنتج، وكشكل من أشكال العلاقات الاجتماعية التي دار حولها الصراع الإنساني ولم يزل عبر كل تجلياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية . ففي الوقت الذي يقاتل أو يناضل فيه الإنسان من أجل حريته الاقتصادية والتقسيم العادل للدخل الاجتماعي، نراه يقاتل أو يناضل أيضاً من أجل حريته الاجتماعية والسعي إلى تحقيق مجتمعه المدني بديلا عن مجتمع الرعاء، وفي الوقت الذي يقاتل فيه من أجل الحصول على المواطنة، نراه يقاتل أيضا من أجل الحصول على المشاركة في القرار السياسي للوطن الذي يعيش فيه، مثلما نراه يقاتل ويناضل كذلك من أجل حرية الرئي والممارسة، والصحافة، والتحزب، ودولة القانون .. الخ .
نعم هذه هي مسيرة الحرية والإبداع في عالم الإنسان، إنها مسيرة نضال طويل ولا أظن أن الإنسان سيحصل عليها كاملة، وذلك كونه إنسانا، من لحم ودم، ليس لجوهر إنسانيته حدود، أي، ليس لحريته حدود، وكذلك لإبداعه حدود، إلا حدود العقل والمنطق الذين يصبان في حاجات الإنسان غير المحدودة، أي في عوامل الحفاظ على إنسانيته التي ناضل كثيرا من أجل استرجاعها أو إعادة بنائها وتنميتها... إنها مسيرة إنسان يعيش في عالم له قوانينه الوضعية، الخاصة به، والبعيدة في سيرورتها وصيرورتها عن إرادته ورغباته، فالناس (يصنعون تاريخهم بأيديهم إلا إنهم لا يصنعونه على هواهم)، وبالتالي هذا يتطلب منهم دائما الكشف عن هذه القوانين وسر آلية عملها، والتحكم بها وتسخيرها لتحقيق حريتهم، أي استمرار وجودهم وإبداعهم .. نعم لقد ُكتب على الإنسان الكشف دائما عن المجهول، ولهذا كانت حريته، وكان إبداعه، بل مغامرته الوجودية كلها.
أمام كل ما جئنا عليه، تبقى هناك مسألة لها من الأهمية الكبيرة في حياة الإنسان وحريته، لا بد أن نشير إليها، أو نقف عندها قليلا وهي: في الوقت الذي يدخل فيه الإنسان عالم ضياعه عبر منتجاته، أي عالم تشيئه، واغترابه، واستلابه المادي والروحي، هذا العالم الذي لم يعد فيه الإنسان إنسانا، بل شيئا آخر لا يختلف فيه عن منتجاته هو نفسه، أي يتحوإلى سلعة أو ترس في آلة (شيء)، أي بتعبير آخر دخوله عالم التسليع، وتصبح له قيمة مادية تحدد مقدارها درجة الخدمات التي يقدمها في نطاق وجوده الاجتماعي، حيث لم يعد يختلف حاله هنا عن حاله في عالم الضرورة الحكمية، أوسوق النخاسة سابقاً، إلا في مسألة واحدة فقط،هي، أنه قادر على تغيير سيده بحريته، هذه الحرية التي أريد لها أن ُتدفع إلى أقصى حد ممكن في ظل السوق الرأسمالية الاحتكارية وعالم الفردية. لقد تحولت الحرية وفقاً لهذا التحول التاريخي بالضرورة إلى قيد في عالم الإنسان، انطلاقا من القانون الحياتي الذي يقول (طل شيء يعطى صفة الإطلاق يتحول إلى الضد). وهذا يدفعنا إلى التأكيد بأن الحرية والإبداع قد دخلا بالضرورة أيضا في عالم التشيء، والاغتراب، والاستلاب، عندما أغرت الإنسان شهوة الحرية المفتوحة على المطلق بعيدا عن حس المسؤولية اتجاه نفسه أو الآخرين، حيث هُدر في هذه الحالة كل النضال الذي قدمه تاريخياً من أجل بناء عالم حرية العقل والمنطق، أمام حرية الغريزة والشهوة والأنانية الضيقة .
من هنا نؤكد على أن العقلانية التي تفرض المسؤولية والواجب والحق والعدالة والمساواة .. الخ، تظل وحدها من يصون ويوجه الحرية والإبداع معا، هذه العقلانية التي لم تكن في يوم من الأيام شعارا يراد منه التسويق لمفاهيم يهدف مطلقيها نمذجة الإنسان وتسليعه وبالتالي تذريره وإفقاده جوهر إنسانيته عبر تحويله إلى ترس في آلة تضخ لمطلقي هذه الشعارات ما يحقق سعادتهم واستمرار بقائهم وقوتهم، مثلما لم تكن أيضا – أي العقلانية - آلية عمل دماغ مجرد من معطيات الواقع، إن العقلانية التي نقصدها هنا هي تلك العقلانية المشخصة التي كونتها نضالات الإنسان عبر تاريخه الطويل، ضد ضرورات الطبيعة والمجتمع من أجل الحصول على حريته، والفسح في المجال واسعا أمام إبداعاته كي تجوب عالمي الواقع والمجهول لخلق عالم آخر للإنسان لا تعود فيه للضرورة وقوانينها العمياء في (الطبيعة والمجتمع) القدرة على التحكم كليا في حياة الإنسان وإرادته، إنها العقلانية التي ترمي إلى إخراج الإنسان في عالمنا المعاصر من تشيئه واستلابه واغترابه، إلى عالم الإنسان الجوهر، عالم الضرورة الواعية... عالم العدالة والمساواة .
د.عدنان عويّد
كاتب وباحث من سورية
في الدستور تتوحد الأمم وتنكشف الغمم !.. مصر أنموذجاً
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. محمود محمد علي
ما زلت أؤمن بل ربما أكثر من أي وقت مضي بأن الدستور هو أبو القوانين، فهو الذي يحدد من الذي يحكم، وكيف يحكم، ويحدد مسؤوليات الحكم، وسلطاه، ونطاق هذه المسؤوليات، وحدودها، ويحدد واجبات وحقوق المحكوم، وكيفية أدائه لواجباته، وضمانات حصوله علي حقوقه؛ ومن ثم الدستور يمثل قانون أعلى يقوم على تحديد القواعد الأساسية لشكل الدولة، ونظام حكمها، وشكل حكومته، وتنظيم سلطاته العامة.
وكلمة دستور ليست كلمة عربية فهي كلمة فارسية تعني الدفتر أو السجل الذي تجمع فيه قوانين الملك وضوابطه، وبذلك فإن الكلمة تستخدم للدلالة علي القواعد الأساسية التي يقوم عليها تنظيم من التنظيمات ابتداء من السرة والجمعية والنقابة وانتهاءً بالدستور العام للدولة والكلمة في اللغة الفرنسية تعني التأسيس أو التكوين كما قال محمد حماد في كتابه قصة الدستور المصري .
والقانون الدستوري هو أكثر فروع القانون العام حداثة لأنه أكثر تعبيراً عن مفاهيم الديمقراطية والحرية والمساواة من غيره من القوانين، وعمر القانون الدستوري لا يتجاوز مائتي سنة وهو يعود إلي الثورتين الأمريكية والفرنسية.
وهناك أنواع من الدساتير، بعضها مدون وبعضها غير مدون، وبعضها مرن وبعضها جامد، ويعتبر الدستور مكتوباً إذا كان في أغلبه صادراً في شكل وثيقة، أو عدة وثائق رسمية من المشرع الدستوري، ويعتبر غير مكتوب إذا كان في أغلبه مستمدا من غير طريق التشريع؛ أي من العرف والقضاء، ويطلق بعض الفقهاء علي الدستور غير المدون اصطلاح الدستور العرفي .
وإذا رجعنا إلي التاريخ الدستوري سنجد أن الدساتير العرفية أي غير المدونة كانت أسبق في الظهور من الدساتير المكتوبة، وما زالت إنجلترا حتي اليوم يحكمها دستور عرفي تكونت قواعده بالعادة والسوابق الدستورية المتكررة.
وأول الدساتير المكتوبة التي ظهرت في القرن 18 كانت دساتير الولايات المتحدة الأمريكية التي بدات توضع ابتداء من سنة 1776 بعد استقلالها عن إنجلترا، فلما كونت هذه الولايات فيما بينها "تعاهدا" صدر دستور " الدول المتعاهدة" عام 1781، وبازدياد الروابط بينها تحولت إلي نظام الدولة الاتحادية، وظهر الدستور الاتحادي سنة 1787، وهو نفسه الذي يحكم الولايات المتحدة اليوم بعد أن أدخلوا عليه الكثير من التعديلات كما قال محمد حماد في كتابه السالف الذكر.
ولما قامت الثورة الفرنسية اعتنق رجالها فكرة الدساتير المكتوبة، وكان أول دستور لهم وهو دستور 1791 دستورا، ومن فرنسا وأمريكا انتشرت فكرة الدساتير المكتوبة إلي كل بلاد العالم.
والفارق بين الدستور المرن والدستور الجامد يتضح من تعريفهما، فالدستور المرن هو الذي يمكن تعديله بنفس الإجراءات التي يعدل بها القانون العادي، أما الدستور الجامد فهو الذي يتطلب في تعديله إجراءات أشد من الإجراءات التي يعدل بها القانون العادي .
والهدف من وراء جعل الدستور جامداً غير قابل للتعديل إلا بشروط محددة أن يكفل المجتمع نوعاً من الثبات لأحكام الدستور، وهناك بعض الدساتير التي يحظر واضعوها تعديلها خلال فترة زمنية محددة، تكفي لتثبيت أحكام الدستور قبل السماح باقتراح تعديلها، وهناك دساتير بحظر واضعوها تعديل ببعض أحكامها، خاصة الجوهرية منها، لا سيما ما يتصل منها بنظام الحكم المقرر، وذلك بقصد حماية تلك الأحكام علي نحو يحول دون تعديلها أصلاً، كما فعل الدستور المصري لسنة 1923 الذي حظر تعديل الأحكام الخاصة بشكل الحكومة النيابي البرلماني، ونظام وراصة العرش، ومبادئ الحرية والمساواة، وكما هو الحال في دستور البرتغال لسنة 1991 الذي يحظر تعديل شكل الحكومة الجمهوري كما قال محمد حماد في كتابه السالف الذكر.
وهناك طريقتان لوضع الدساتير، الطريقة الأولي عن طريق انتخاب جمعية تأسيسية، حيث يتاح للشعب فرصة انتخاب ممثليه ليقوموا بهذه المهمة، وأول من أخذ بهذا الأسلوب هي الولايات المتحدة الأمريكية بعد استقلالها عن بريطانيا سنة 1776م، والطريقة الثانية تتم عبر الاستفتاء الدستوري ؛ حيث يتم وضعه بواسطة جمعية نيابية منتخبة من الشعب، أو بواسطة لجنة حكومية، أو بواسطة الحاكم نفسه، ثم يعرض علي الشعب في استفتاء، ولا يصبح الدستور نافذاً إلا بعد موافقة الشعب عليه.
تحقق الطريقة الأولي اشتراك الشعب في وضع الدستور عن طريق انتخاب ممثلين عنه يضعون هم الدستور، وتحقق الطريقة الثانية اشتراك الشعب في إقرار الدستور، فتكون له الكلمة الأخيرة بقبوله أو برفضه، ولكل من الطريقتين أنصار يدافعون عنها علي اسس مختلفة، ولكن يبقي أن الشعب في الحالتين هو صاحب الكلمة في دستور بلاده سواء كانت الكلمة الأولي باختيار من يضعون الدستور، أو بالكلمة الأخيرة الموافقة أو رفض ما يعرض عليه من نصوص الدستور كما قال محمد حماد في كتابه السالف الذكر.
كم أشعر بالفخر بأن مصرنا الحبيبة كانت سباقة من أجل وضع قواعد عادلة تحكم علاقة الحاكم بالمحكومين، وكان ذلك مع نهايات القرن الثامن عشر الميلادي في ظل ظروف أكثر تعقيداً من مثيلاتها في أوربا وأمريكا، فقد كانت مصر تئن تحت حكم المماليك في أسوأ عصورهم وأكثرها ظلماً وافتئاتاً علي حقوق الشعب، وكانت أوضاعها تغري باحتلالها وفرض السيطرة عليها من أكثر من طامع، وطامع إلي تكوين إمبراطورية تكون مصر درتها وتاجها المشرقي.
وقد حاول الفرنسيون فقاد نابليون أكبر حملة فرنسية لم تستطع أن تستقر في مصر أكثر من ثلاث سنوات، وحاول الإنجليز في أكثر من حملة لكنهم فشلوا في تحقيق مآربهم إلا بعد مرور ثلاثة أرباع القرن، وبعد أن حقق الشعب المصري أول دستور حقيقي في العام 1881، وهو الدستور الذي بدأ جنيناً في العام 1795 عقب ثورة شعبية كبري، حتي تحول إلي معاهدة ومعاقدة بين الشعب والوالي الذي اختاروه لحكمهم في أوائل القرن 19، ولم يلبث أن تحول إلي القانون الأساسي أو السياستنامة التي وضعت في العام 1837، والذي مهد لدستور 1882.
لقد كانت مسيرة طويلة من الكفاح خاضها الشعب المصري تحت عنوان الدستور، بدأت منذ قرنين من الزمان، وتجربة يجب أن تحكي وقائعها ويقرأها كل جيل، ليتعلم منها، وليبني علي أساسها، وليعتز بجهاد أجداده وآبائه الذين صنعوا تلك التجربة الرائدة في مجال التطور الدستوري التي سبقت الكثير من الدول في الشرق والغرب، تجربة شعب تواق إلي إلي إرساء مبادئ الحق والعدل الاجتماعي، وأسس الشرعية الدستورية، وقيم الحكم الديمقراطي الحقيقي، الذي يحقق له ذاته، ويصون كرامته، ويؤكد ريادته، ويحفظ حقوقه.
عبر هذه المسيرة الطويلة علي مدار قرنين من الزمان عرف النظام السياسي المصري العديد من أشكال الوثائق الدستورية المنظمة للحياة السياسية المصرية، تنوعت مسمياتها ما بين قوانين نظامية، ولوائح أساسية، وأوامر ملكية أو خديوية، وإعلانات دستوريه، ودساتير.
بدأت مسيرة الشعب من أجل الانعتاق من جعبة الحاكم بإرغام السلطان العثماني علي تولية محمد علي حكم مصر في 9 يوليو عام 1805، وكان مشهدها الأخير مع بدايات القرن الواحد والعشرين مع إرغام الشعب الرئيس محمد حسني مبارك علي التخلي عن الحكم .
قرنان من الزمان بين مشهدي البداية والنهاية، بين مشهد الإطاحة بالوالي الثماني خورشيد باشا، ولقطة إسقاط نظام مبارك شهدت مصر خلالهما نضالاً طويلا للشعب المصري انتهي بإصدار دستور للبلاد سنة 1882 في عهد الخديوي توفيق، ثم ما لبثت سلطات الاحتلال الإنجليزي أن ألغته، ولكن الشعب المصري واصل جهاده إلي أن صدر في 19 أبريل سنة 1923 دستور انعقد علي أساسه أول برلمان مصري في 15 مارس سنة 1924.
وظل دستور 1923 قائما إلي أن ألغي في 22 أكتوبر سنة 1930، ثم استطاعت الحركة الوطنية إجبار الملك فؤاد علي إعادة العمل بدستور سنة 1923 بعد أقل من أربع سنوات، وظل معمولاً به إلي أن قامت ثورة الجيش المصري من خلال الضباط الأحرار في 23 يوليو سنة 1952.
في أعقاب قيام ثورة يوليو 1952 شكلت لجنة مكونة من خمسين شخص من أبرز الشخصيات السياسية والثقافية والقضائية والعسكرية تحت قيادة رئيس الوزراء ''على ماهر'' وبعضوية الفقيه الدستوري ''عبد الرزاق السنهوري''، وصدر الدستور الجديد عام 1956 .
وبعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970، تولى السلطة مؤقتاً نائبه السيد محمد أنور السادات إلى أن تم ترشيحه بواسطة مجلس الأمة لرئاسة الجمهورية وقد تمت الموافقة علي رئاسته للجمهورية في الإستفتاء الشعبي الذي أجري في منتصف أكتوبر 1970. وفي 20 مايو 1971 طلب الرئيس السادات من مجلس الشعب وضع مشروع دستور جديد فقرر المجلس بجلسته المنعقدة في نفس اليوم تشكيل لجنة تحضيرية من خمسين عضوا من أعضائه ومن أهل الرأي والخبرة ورجال الدين. وفي جلسته المنعقدة في 25 مايو 1971، تقدم لعضوية اللجنة التحضيرية ثمانون من أعضاء المجلس، فقرر المجلس أن يرفع عدد الأعضاء من 50 إلي 80 عضوا واعتبر جميع المتقدمين أعضاء في اللجنة.
وعقب قيام ثورة 25 يناير وتنحي الرئيس السابق محمد حسني مبارك، كلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي تولى إدارة شئون مصر، لجنة للقيام ببعض التعديلات الدستورية، وتم عرضها للاستفتاء على الشعب في 19 مارس 2011، وبعد موافقة الشعب المصري في الاستفتاء، أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة في يوم 30 مارس 2011 إعلاناً دستوريا من 63 مادة مشتملاً على أغلب التعديلات التي تم اقرارها في الاستفتاء بالإضافة إلي بعض المواد الأخرى.
وفي 30 يونيو 2013 قامت ثورة كبيرة ضد حكم الرئيس محمد مرسي، على أثرها عطل العمل بدستور 2012. شُكلت لجنة من 10 خبراء قانونيين لتعديل دستور 2012. أنهت لجنة العشرة عملها في 20 أغسطس 2013. وفي المرحلة الثانية أجريت تعديلات قامت بها لجنة من 50 شخصًا، أُعلنت أسمائهم في 1 سبتمبر 2013. واختير عمرو موسى رئيسًا للجنة الخمسين في 8 سبتمبر 2013. تضمنت المسودة النهائية للدستور عدة أمور مستحدثة منها منع إنشاء الأحزاب على أساس ديني. وقُدمت المسودة النهائية للرئيس المؤقت عدلي منصور في 3 ديسمبر 2013، لتعرض على الشعب المصري للاستفتاء عليها يومي 14،15 يناير 2014، وقد شارك في الاستفتاء 38.6% من المسموح لهم بالتصويت، وأيد الدستور منهم 98.1% بينما رفضه 1.9% وذلك وفقًا للجنة المنظمة للاستفتاء.
ما أريد أن أتوصل إليه في هذا المقال هو أنه في الدستور يسعي إلي جمع شمل الأمة والوقوف يداً واحدة ضد المليشيات ؛ وقد وجدنا أنه من مقدمة الدستور العراقي: «نحن شعب العراق الذي آلى على نفسه بكل مكوناته وأطيافه أن يقرر بحريته واختياره الاتحاد بنفسه، وأن يتعظ لغده بأمسه، وأن يسنَّ من منظومة القيم والمثل العليا لرسالات ومن مستجدات علم وحضارة الإنسان هذا الدستور الدائم. إنَّ الالتزام بهذا الدستور يحفظ للعراق اتحاده الحر شعباً وأرضاً وسيادة». ومن الباب الأول في الدستور هذه الفقرة: «جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديموقراطي وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق»... ليس خافياً على أي عراقي أن الدستور الذي ينص في ديباجته وفي بابه الأول على وحدة البلاد، وخلوّه من تحديد هويته العربية، كان بناء على ضغط الزعماء الأكراد والحاكم «المدني» الأمريكي بول بريمر الذي عُرف الدستور باسمه. لكن هذا التشديد على الوحدة «أرضاً وشعباً» لم يكن في يوم من الأيام محل احترام الزعماء الأكراد، فقد اتخذوا إجراءات كثيرة تحول دون دخول العراقيين إلى إقليمهم، و «كردوا» مناطق كثيرة في الشمال، خصوصاً في كركوك بحجة تعريبها أيام صدام حسين، وتصرفوا كدولة مستقلة في علاقاتهم الديبلوماسية مع الخارج، فلديهم ممثلون في كل السفارات، ولديهم جيشهم الخاص (البيشمركة) الخاضع لرئاسة إقليمهم، في مخالفة صريحة للقانون الذي يعتبر هذا الجيش جزءاً من المنظومة الدفاعية الخاضعة لقيادة رئيس الوزراء، حتى أنهم يقيمون علاقات مع إسرائيل غير خافية على أحد. وذلك حسب قول مصطفي زين في مقاله الدساتير لا تليق بالمليشيات.
أسأل الله تبارك وتعالي أن تتحرر العراق الشقيقة من براثن المصيدة المليشاوية مثلما تحررت مصرنا الحبيبة.. اللهم استجب.. أمين.
د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط
ديوان فوانيس عتيقة.. ومضات شعرية خاطفة وإقتناص لحالات إنسانية متنوعة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: إستبرق العزاوي
صدر حديثا ً للشاعر العراقي جاسم العلي مجموعته الشعرية الجديدة التي تحمل العنوان (فوانيس عتيقة) وذلك عن دار ثائر العصامي للطباعة والنشر والتوزيع ببغداد، ويحتوي الديوان الذي يقع في 74 صفحة من القطع المتوسط على إحدى وخمسين قصيدة، تنوعت موضوعاتها الانسانية بين الرومانسي والاجتماعي والوطني وتمظهرت بشكل نصوص شعرية مختزلة أشبه بومضة خاطفة تحمل في طياتها الكثير الدلالات ولعل عنوان الديوان يعكس شكلا ً من أشكال تلك النصوص، ويمكن القول أن الشاعر جاسم العلي قد عمِد َ الى تبني أسلوب الايجاز لشعري في محاولة لمواكبة مظاهر العصر التي بات الاختزال فيها صفة تسود مختلف منابر التعبير حيث البصريات الحسية والمراهنة على سيماء الصورة ودلالتها في أنساق الخطاب لذلك فقد أدرك الكثير من صناع الجمالي الادبي أو الفني الى أهمية تبني معادلة جديدة من التوازن بين عناصر الخطاب . وفي إطار الحديث عن فكرة الايجاز فقد باتت تستهوي الكثير من الشعراء والمعروف أن مفهوم الإيجاز في اللغة هو تقليص مساحة الكلام وتكثيفه وتطويعه لصالح إيجاد المعنى أو المغزى الاكبر الذي يريد الشاعر إيصاله وبحسب (سوسير) ثمة توظيف للإيجاز يعتمد على إخراج الصورة من معناها المستخدم لسانيا ً الى المعنى اللا متوقع وكثيرا ً ما يتجسد ذلك في الجملة الشعرية أكثر من غيرها من فنون الأدب حيث تنتقل الألفاظ من معناها اللغوي الى معناها الكلامي وقد حاول الشاعر العلي تجريب هذه الآلية في نصوص هذا الديوان وقد نجح في الكثير من نصوصه .
أو َ كلما حمِلت ُ إليك ِ
النرجسة َ بيدي
نثرتَها مسافات ُ،
.... التعلثم
وإضطراب ُ مخاوفنا الضئيلة . ص 47 من قصيدة تلعثم .
وفي إطار الحديث عن قصائد ديوان فوانيس عتيقة لابد من الحديث عن شكل القصيدة التي وردت في هذا الديوان التي عكست هموم الشاعر حيال العديد من الموضوعات الانسانية .
الأجنة ُ
لم تكتمل
بيد أن َ الأعاصير َ،
تُطلق ُ فيها ثواني الخروج
تُرى من يُفوّج
في تداخل ِ هذه البحار
كي يفسرَ للحزن ِ
... معنى التضاؤل ؟
فقد تنوعت قصائد الديوان بين الرومانسي كما في قصيدة (شغف)
عيناها تحترقان بالتساؤل،
وأصابعها تحركت
مثل َ كنيسة ٍ أطفأت أنوارَها
قلبُها الرقيق
دس َ له في دمي
أرى رعشَته الهائمة
ينثرها الفضاء .
ولم يفت الشاعر حدث إنتفاضة تشرين في العام 2020 حيث إقتنصت مخيلته الشعرية عددا ً من الصور التي ضجت بها ساحة التحرير وهي تحتضن الصراع بين شباب ينشدون مسقبلا ً مشرقا ً وبين جهات حاولت إسكات صوت الشباب المنتفض ضد الفساد والمفسدين والتبعية التي يعاني منها العراق فجاءت قصيدة حكايات تشرينية لتعبر عن الحدث بجمل شعرية مقتضبة ومعبرة ومتدفقة .
في تشرين
بساط الموت أحمر،
وأصابع الحبيبات
مثل رمح ِ الرب،
في قلب ِ الخريف
2 –
حين تُغلَق ُ الأفق
بوجه الريح
لا تخشى الرصاص،
أو المطر
فكلاهما ربيع .
3-
زهرة ُ الحرية أنثى
تشاكس الليل الطويل،
على صدر الجريح
... ليستريح .
وفي رحلة الغوص في ثنايا ديوان (فوانيس عتيقة) يمكن ملاحظة أن عناوين القصائد أيضا ً أخذت طابع الاختزال والاقتصاد والتكثيف فجاء معظمها بكلمة واحدة مثل (سكون، مسافة، شغف، أنت ِ إخترت ِ، تفاصيل، صمت) الى آخره من العناوين التي جسدت متونها فكرة قصائد الومضة التي تعد نمطا ً شعريا ً قد بدأت بواكيره في سبعينيات القرن المنصرم في تجارب عدد من الشعراء حتى تأصل هذا النمط الشعري عبر الزمن ليتبلور بوصفه شكلا من أشكال التجديد الشعري ويتميز بخصوصيته في التركيب، والوحدة العضوية لعناصر القصيدة (الايحاء، وعدم المباشرة) .
ونلاحظ أن هذا اللون الشعري قد إنتشر في السنوات المنصرمة الماضية إستجابة لضرورات العصر الذي نعيش حيث سرعة إيقاع حياتنا اليومية ووفرة ما نتلقاه من مواد صورية وبصرية تحمل الكثير من معاني الصور الشعرية، وثمة آراء تُرجع هذه الانماط الى مرجعيات يابانية وأوربية بيد إننا نشعر أنه محاولة أدبية تتفاعل فيها عناصر الايقاع والصورة والفكرة وتمتزج فيها خصائص تراثنا الشعري العربي مع مفرادت الحداثة العالمية لأننا ببساطة نعيش هذا التثاقف الانساني الكوني عبر نوافذ معرفية وإعلامية ذات آفاق رحبة .
إستبرق عزاوي – ديترويت
وللمطبعة أسرار!
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. يسري عبد الغني
لا تزال نشأة أول مطبعة تاريخية في مصر تحفها العديد من الأسرار، خاصة أن بصماتها حاضرة في مختلف مجالات المعرفة، على الرغم من مرور أكثر من قرنين على تأسيسها كأول مطبعة رسمية حكومية في مصر، كانت حافزاً لنشأة المطابع في الدول العربية بعد ذلك . المطبعة تعرف باسم بولاق أو المطبعة الأميرية، أنشأها محمد علي في العام 1820 م كما هو ثابت باللوحة التذكارية، وهي عبارة عن قطعة من الرخام طولها 110 سنتيمترات وعرضها 55 سنتيمتراً، ونقشت عليها أبيات شعرية باللغة التركية.
وأتذكر هنا قيام مكتبة الإسكندرية بالاحتفاء بالمطبعة من خلال معرض لها، وإصدار "مطبوع" عنها وكتاب يؤصل لتاريخها، وهو الكتاب الذي حصد جائزة الدولة التشجيعية في مصر، قبل عدة أعوام . وكان من أبرز مكونات المعرض اللوحة التذكارية التي تعتبر المرجع الوحيد لتاريخ إنشاء المطبعة، وصندوق الحروف العربية ومعظم الأدوات المستعملة فيها، والتي بقيت على شكلها منذ تأسيسها بجانب الخزانة الحديدية في عهد محمد علي باشا، إذ تذكر اللوحة أن هذه الخزانة صناعة إنجليزية، كانت تستخدم في حفظ أختام الأسرة المالكة الخاصة بالمطبعة .
وأذكر تقديم المعرض لنماذج للأقلام والمتاريس الخاصة بماكينات المسبك، والطابع التذكاري الذي أصدرته الهيئة القومية للبريد بمناسبة مرور 175 عاما على إنشاء المطبعة، وضم العدد الأول من جريدة "الوقائع" المصرية وهي أول صحيفة مصرية، إضافة إلى استعراض دفتر الرواتب والأجور، والتي يرجع تاريخها إلى عام 1887 م، وبيان تطور الإيرادات والاستثمارات للهيئة عن فترة الثمانينات، ونماذج من التقاويم الميلادية وهي مجموعة نادرة من نتائج الحائط يرجع تاريخها إلى عام 1892 م، وعلى الرغم من أن الماكينات كانت متواضعة ولم تكن بالكفاءة الحالية فإن ألوانها مازالت جيدة لم تتأثر وقد مر عليها أكثر من 100 عام .
إضافة إلى ذلك احتوى المعرض على الماكينات التي كانت مستخدمة في المطبعة، وظلت تعمل حتى وقت قريب منها ماكينة طباعة الظروف بأنواعها، ومكبساً للتجليد، وآخر للتذهيب، وماكينة طبع البروفات، وماكينة سبك الحروف .
وأظهر المعرض أن المطبعة لعبت في أول الأمر دوراً لخدمة المشروع الحربي لمحمد علي، حتى تطور دورها، إلى أن نشأت إلى جوارها العديد من المطابع الخاصة، ومعها ظهرت الصحافة كأداة إعلامية، وكان هذا هو أول وأهم دور قامت به المطبعة حيث عملت على إلغاء الاحتكار الفكري، فصار الأدب والعلم والمعرفة والثقافة مشاعاً، وأصبحت من المنافع العامة، فأشرقت بذلك شمس لم يألفها العامة، إلى أن تطورت في عصور أخرى لاحقة .
ولم تنشأ المطبعة بمفردها مستقلة عن بقية مشروعات محمد علي، بل كانت جزءاً من مشروع تنموي كبير له، وكانت كأي مؤسسة أخرى من مؤسساته يرجى منها أن تساهم بإنجاح جانب من ذلك المشروع التنموي، ولذلك كان إنشاء محمد علي للمطبعة بعد إجلاء الحملة الفرنسية عن مصر في سنة 1801م، حين عمت الفوضى البلاد، إلى أن استطاع محمد علي أن يصعد إلى سدة الحكم، وبدأ يفكر في بناء دولة قوية من النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية، فبدأ بإنشاء المؤسسات على النمط الأوروبي الحديث، ومن بين المشروعات التي احتاج إليها في مسيرته التنموية المطبعة، التي أطلق عليها عدة أسماء، منها "دار الطباعة"، و"مطبعة صاحب السعادة"، و"المطبعة الأميرية"، إلا أن اسمها الرسمي التاريخي الذي عرفت به هو "مطبعة بولاق".
ويعتبر النص التذكاري لإنشاء المطبعة، والمطبوع باللغة التركية هو الوثيقة الوحيدة التي تدل على تاريخ إنشائها، والذي وثقته أنه العام 1235 هجرية 1820م . ومن بين ما كانت تضمه الخزانة الحديدية التي تعود إلى عهد محمد علي الكبير، وكان يستخدمها في حفظ أختام الأسرة الحاكمة، وكذلك الأقلام والمتاريس الخاصة بماكينات السبك، فضلاً عن المفتاح الخاص بها وعليها حرف(م)، الذي يرمز إلى محمد علي.
كان أول مطبوعاتها، هو القاموس العربي الإيطالي، والذي كتب في أسفل أولى صفحاته من الكتابة العربية: "تم الطبع في بولاق بمطبعة صاحب السعادة"، واسمها في الجزء الإيطالي هو المطبعة الأميرية.
وفي هذا السياق، يبدو من التوقيع أن كلمة بولاق وردت قبل اسم المطبعة، وفي الجزء الإيطالي وردت باسم "بولوقو" بالخط الكبير في سطر مستقل فكان اسم "بولاق" مرتبطا بالمطبعة من أول الأمر.
ونلفت النظر هنا إلى ما قامت المطبعة بطباعته من كتب مثل "المثل السائر" لأبي الفتح الموصلي، و"الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، و"تاريخ ابن خلدون ومقدمته"، و"العقد الفريد" لابن عبد ربه، و"فقه اللغة" للثعالبي، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان، و"فوات الوفيات"، و"إحياء العلوم" للغزالي، إلى غيرها من أمهات الكتب التي لا تزال تحظى بإقبال هائل .
وشهدت الفترة من سنة 1881 إلى 1896 فترة ركود بمطبعة بولاق، فمع قيامها بكل ما احتاجت إليه الحكومة من أعمال الطباعة فإنها لم تتقدم في أي ناحية من النواحي التقنية والاقتصادية بل وتدهورت تماماً . كما عانت من انشغال الحكومة بالثورة العرابية، حيث توقفت عن العمل بعض الوقت خلال الثورة، وخاصة بعد تعزيز تواجد الإنجليز في مصر، حيث نزح عدد كبير من الأجانب عن مصر، ومن بينهم بعض عمال المطبعة من الفنيين، واستمر ذلك إلى قيام ثورة،1952 فكانت قفزة جديدة لها مع إنشاء وزارة الصناعة عام،1956 إلى أن تقلص دورها وأصبحت في ذاكرة التاريخ .
ونحب أن نعود هنا ونؤكد على أن ظهور الطباعة وانتشارها كان له أكبر الأثر في النهضة الأدبية، وفي تطور لغتنا العربية، حيث أحيت التراث العظيم من المخطوطات الأدبية، وساعدت على نشره، كما يسرت للناس تبادل الآراء والأفكار، وحفزت العلماء والأدباء إلى إظهار مؤلفاتنا وآثارهم الأدبية ونشرت الصحف بين ملايين القراء .
وكما أوضحنا فإن المطابع العربية دخلت مع نابليون، ثم أسس محمد علي المطبعة التي عرفت بمطبعة بولاق وتولى إدارتها أحد السوريين، وعاونه في عمليات التصحيح عدد من شباب الأزهر، وكانت تتوالى طبع المنشورات والأوامر، ثم طبعت صحيفة الوقائع المصرية، ثم الكتب التي ترجمت في الطب والرياضة .
وبعد حين أُنشئ فيها قسم أدبي تولى طبع العلوم والفنون، ثم ضم هذا القسم إلى دار الكتب، ثم أنشئت بعد ذلك المطبعة القبطية المصرية، وأقبل الأهالي على شراء المطابع التي انتشرت في أنحاء البلاد، ولكن الحق يقال أن المطابع بدأت في أداء رسالتها العلمية منذ عهد محمد علي حين بدأت تطبع ما ترجم، إلا أن الرسالة الأدبية الحقيقية لهذه المطابع بدأت في عهد إسماعيل حين هاجر إلى مصر الكثير من أدباء الشام، وأنشأوا الصحف والمجلات، وحين جاء جمال الدين الأفغاني فأيقظ الأدب في الخطابة والكتابة، ونتذكر أيضًا جمعية إحياء الكتب القديمة ودورها في نشر العديد من كتب التراث .
هذا، وقد أخذت المطابع تتنافس في بعث الكنوز القديمة من تراثنا الأدبي من كتب اللغة ودواوين الشعر، وكان في مقدمة ما طبع مقدمة ابن خلدون، ووفيات الأعيان لابن خلكان، وخزانة الأدب للبغدادي، وزاد نشاط طبع الكتب الأدبية حين نقل بعض الكتب بالتصوير الشمسي من مكتبات أوربا،
وتطبع الآن الألوف من الكتب الأدبية والعلمية والثقافية بوجه عام كل عام، وبذلك تؤدي رسالتها وتحمل أعظم عبء في بناء نهضتنا الأدبية وبحق إن التطور التكنولوجي الرهيب الذي لحق بالطباعة، جعلها الدعامة الأولى في بناء الثقافة.
بقلم: د. يسري عبد الغني
عذرا.. لن نمنحكم صمتنا
- التفاصيل
- كتب بواسطة: محمد الورداشي
في صبيحة السادس والعشرين من يناير الجاري، بساحة النصر، مدينة الدار البيضاء، توقفتُ جامدا في مكاني مشدوها من الترسانة الأمنية التي انتشرت في الساحة، حيث لم تمض إلا لحْظاتٌ حتى تفاجأت بأن المدينة (الدار البيضاء) كلها مطوقة بالجهاز الأمني المغربي بشتى أنواعه.. لقد اعتقدت أن ثمة خطرا كبيرا يحيق بأمن البلاد، فإذا بي أتفاجأ أكثرَ حين رأيتُ ذوي الوزْرات البيضاء يدخلون الساحة(1)، إنهم الأساتذةُ الذين فرض عليهم التعاقدُ؛ هؤلاء الذين خاضوا، وما يزالون، معاركَ منذ أربع سنوات بغية إسقاط مخطط التعاقد، ومن ثم، الإدماج في سلك الوظيفة العمومية. هؤلاء الأساتذة يرفعون شعاراتٍ عنوانها العدالةُ الاجتماعيةُ، والحريةُ، والمساواةُ. بيد أن الدولة المغربية تقابلُ هذه الأصوات بمقاربةٍ قمعيةٍ استباحت دماءهم وداست كرامتهم في سبيل الحفاظ على مصالح نخبتها. وأنا أجيل بصري في هذا الجيش المدجج، تواردت إلى خاطري ذكرى أليمة محفورة في ذاكرة وجسد ووجدان المغاربة.. تذكرت انتفاضة الأطفال والشباب الذين كانوا تلاميذَ وطلبةً، في مارس 1965، انتفاضة "كانت احتجاجا على قرارات مجحفة في حقهم"(2)، فقدمت استشهادات، وسالت دماءٌ كثيرةٌ كانت "المؤشر على فشل سياسة "إغناء الفقير بدون إفقار الغني" (3). فالظروف الاجتماعية المهترئة التي نسجت خيوط إضرابات مارس 1965 وأذكت فتيلَها، هي ذاتُها التي أذكتْ فتيلَ الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد، الذين سالت دماؤهم وما تزال.
على أن المقارنة بين ما حدث في 1965، وما يحدث اليوم دليلٌ واضحٌ على أن الدولة المغربية لم تدخل في اهتماماتها التعليم والثقافة، وأي تمرد على هذا الإهمال المقصود تقابله بالمقاربة القمعية. وبهذا، فإنها تسعى بطرق مختلفة من حيث الشكلُ، لكنها متفقةٌ من حيثُ الغايةُ؛ أي سعيها إلى تكميم الأفواه، وإخماد نيران الرفض المؤججة في نفوس "البدونيين" (بدون سكن، بدون عمل، بدون هوية...) الذين هم ضحايا اللبرالية الجديدة التي تحمي نفسها من خلال إنتاجها المجتمعات المراقبة، على حد تعبير دولوز"(4).
وهكذا، نرى أن المقاربتين القمعقراطية والتلفيقراطية اللتين تنهجهما الدولة المغربية في مواجهة احتجاجات الأساتذة آيةٌ على أنها وصلت إلى النفق المسدود، الذي لم يبق بعده إلا الإدماج من جهة، وجهلها وتعنتها أمام الحركة الجدلية الاجتماعية التي تحرك المجتمعاتِ البشريةَ، وتعطي للحياة معنى الاستمرارية في حركة التاريخ. ومن ثم، نقول إن"السياسة المغربية، كغيرها من سياسات العالم العربي، سياسة فاقدة للبوصلة، ومحتقرة للإنسان"(5). فاقدةٌ للبوصلة؛ لأن إرادتها ليست بيدها أولا، ولكونها لم تفقه بعد أساليبَ حضاريةً ناجعةً (الحوار، مواجهة المشكل وليس الهروب إلى الأمام والتسويف...) للتعامل مع مشاكل وأزمات المجتمع المغربي الاجتماعية، وبخاصة أزمة قطاع التربية والتعليم..ثانيا، وحسبانها إسكات الأصوات لا يتم إلا بالقمع في واضحة النهار، واستباحة دم الأستاذ والدوس على كرامته ثالثا. ومحتقرةٌ للإنسان؛ لأنها منذ استقلالها "الجزئي والشكلي" انكبت على التحديث المادي، وغضتِ الطرف عن العنصر البشري، فكانتِ النتيجةُ نخبةً تركض لاهثةً وراء التحديث المادي، وشعبا لا يزال يعاني الأميةَ والتفقيرَ، ويتعرض للعنف من قبل دولةٍ ضربتْ ما سنّتهُ في دستورها (منع العنف و...) عرض الحائط.
وبناء على سلف ذكره، نقول للذين لا يحسنون إلا القمعَ والرفسَ، إنكم تتواجهون مع أساتذة لهم منسوب وعي كبير بظروفهم في هذا الوطن الجريح، وبمرامي وأبعاد سياساتكم التي تحمي مصالح الأقلية النخبوية على حساب السواد الأعظم من الشعب الفقير، ونؤكد لكم أن "كل محاولة (منكم) للتكميم أو فرض الرقابة (ما هي إلا) محاولة إتقاء أشعة الشمس بالغربال"(6)؛ فلن نسلمكم صمتنا أبد الآبدين، ولن تسرقوا منا أصواتنا الرافضة للمخططات التخريبية للمدرسة العمومية؛ لأن هذه الأخيرة ليست مجالا للتسييس والأدلجة، ولا سلعةً تتاجرون بها على حساب بؤس الشعب المغربي.
كما أننا نقول للأساتذة الذين يتخلّفون عن معاركنا، ويتشدقون بكونهم ذوي مبادئ و... دون أن يشاركونا ما نحن فيه علما أننا جميعا قابعون في المشكل نفسه، نقول لكم، وبكل هدوء، أثبتوا لنا وجودكم "بالممارسة التي تبقى هي وحدها الكاشفة لحقيقة المواقف والأفكار والانتماءات"(7). ومن ثم، فإن الثقافة وحدها لا تفيد بدون ممارسة، والأستاذ المثقف الحقّ هو من يعبر عن ثقافته ومنسوب وعيه نظريا وعمليا، قولا وفعلا، رفضا واحتجاجا، ولا يمنح صمتَهُ على حساب كرامته.
محمد الورداشي
............................
الإحالاتُ والمراجعُ:
1- تجدر الإشارةُ إلى أن الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد قد خاضوا مسيرة (القطب الثاني) بمدينة أكادير في اليوم نفسه 26 يناير 2021، وتعرضوا بدورهم للقمع والضرب والرفس أسوةً بإخوانهم في الدار البيضاء (القطب الأول).
2- محمد برادة، "سياقات ثقافية"، منشورات وزارة الثقافة، ط1..2003، ص49،
3- نفسه ص50،
4- نفسه ص129،
5- نفسه ص137،
6- نفسه ص14 (بتصرف)
7- نفسه ص96.
النظام العثماني وظهورالوطنية الجزائرية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عتيق العربي
لقد تأسس الحكم العثماني مواصلا للقيم الاسلامية ومواجها للقوة البحرية الأوروبية الغازيةعلى شواطئ البحر المتوسط .فقد كان نظاما امبراطوريا كلفه استينفاذ القوة وتبعثر الجهود وتشتت المصالح .مما جعله لايطيل كثيرا في المنطقة المغاربية مع ملاحظة الظروف المحلية في تونس وليبيا والجزائر وحدوث ثورات مناوئة له في تلك البلاد.التي توسعت عبر الفضاء الواسع وحكمها الانكشارية والشيوخ وممثلي البايات في كل االمقاطعات ومناطقها افي الجزائر العثمانية .
1. نظام الدولة
لذا قسم العثمانيون الجزائرالئ ثلاث بايلك 1. التيطري في المدية والشرق في قسنطينة والغرب في معسكرثم وهران ودار السلطان في العاصمة }وكان يسموا مناطق التابعة للبايلك سناجق كالولاية ثم النواح ثم الاحياء او الحارات كما القايدات 1اوالاوطان واما الضواحي فكانت تسمى الفحوص
وكانت النقود المستعملة في الجزائر العثمانية متنوعة بين السلطاني والسكينة العثمانية والليرهة الإيطالية والدورو الإسباني والريل والفرنك ومنها كان نوعان هناك نقود التبادل وهي المعروفة عاديا ممثلة في قطع نقدية معدنية كان منها الزياني والدينار الحفصي في المرحلة الاولى ثم ظهرت السلطاني العثماني والسكينية التركية كما استعملت الريال والريل بوجو والدرهم والبياستر الاسباني وكان هناك نقود الحساب التي مؤداها تقدير الاثمان وتقييم السلع مرة وللدفع المالي التبادلي مرة اخرى ،و منها الصايمة والموزونة ريال دراهم صغار عموما، كما وجدت نقود احرى مثل الخروبة والدورو الفرنسي والمحبوبة وغيرها ..
وكانت مصادر الخزينة العثمانية في الجزائرالقرصنة البحرية والرسوم والتاوات المفروضة على الدول الاجنبية والسفن في البحر المتوسط . ضرائب على التجار الاجانب والشركات الاجنبية والسواح والمقيمين منهم .هدايا وعطايا مفروضة على القناصل وبعد الاخلال بالمعاهدات المعلنة سابقا معهم.. ضرائب على السكان المحليين.منها ضرائب على الارض وعلى الاملاك –فارس. و النشاطات...يبع الاسرى او تحصيل اثمان تحريرهم ..غرامات متنوعة –منها غرامة اللزمة على غير القادرين على الجندية ...غرامات على القرى للانكشارية بعد حروجهم للمحلات.غرامات الجمرك على التجار المتنقلين من بايلك الى اخر .غرامات على الحرفيين ..غرامات على الافراد والعائلات احيانا ..منها على السيبا بعد دخولهم البايلك..غرامات على المطامير والمخازن على الفلاحين. معونات على المواطنين وحتى السيبا احيانا.. الجزية على اليهود.المكوس على استعمال المكان –وكانت تعطى تفويضا لموظفين مكلفين .تعميم غرامة اللزمة على كل السكان.. الزكاة. والعشور حكور .العوايد والضيفة ايام الاحتفالات والاعياد وحين دخول الباي المدينة او حين تنصيبه—الدنوش وهي عطايا متنوعة .. واليباشي وهي غرامة على السيبا والصحراء بعد دخولهم البايلك..
ومن ذلك سوف نكتشف التغيرات والتأثرات لهذا النظام على المجتمع الجزائري وفعاليته ة نشاطاته ووطق اكتيسابه للوعي والادراك وشحنات الامفعال
2 - بنية المجتمع السياسي العثماني:
لقد كان الحكم العثماني،حكما متسلطا،متمكنا بفضل القوات الانكشارية ووجد قوته في استمالة السكان الحضريين وقبائل الجوار المديني نظرا للهجومات والتحرشات الاسبانية والبرتغالية على الساحل الإفريقي الشمالي ،ونجح في تطوير الدويلات المنتشرة في تونس والجزائر وليبيا ولكنه فشل في المغرب الأقصى .استطاع خير الدين وعروج صد الهجومات الأوربية على الساحل الجزائري حيث استطاع عروج أن يفتح تلمسان ويخضعهها لخلافة أسطنبول وواصل خير الدين حملاته في التوسع واستمالة القبائل الحضرية والريفية في المناطق الداخلية .
لقد استطاع خير الدين ان يفشل حملة نائب ملك صقلية سنة 1518م/924ه وقضى على افرادها واسر بعضهم، وفاز عليهم ولكنهم، نظرا لمعرفة الأتراك مسار الأمور والسياسة فعينوا بعض الزعماء والمشايخ على مقاطعاتهم،منهم محمد بن القاض الزواري عليه قبائل الشرق، ومحمد بن علي على قبائل الغرب الجزائري،وبما هذين الأخيرين بصلة بالحكم الحفص والزياني،فقد تحرشا وتمريضا من طرف الحكمين ضد الاتراك .ولكنهم عملوا مع الأتراك حيثا ونجحا في احتضان بعض قبائل الشرق وقبائلأخرى في الغرب الجزائري .
لقد رفض الأمير عبدالله،خليفة أبي حمو الثالث،سلطة الأتراك ى،لكن خيرالدين حمى ودافع عن . الأمير مسعود – الذين عارض أخيه عبدالله ولكن مسعود تمرد أخيرا عن الأتراك أيضا،إلا أن المسار اتجه نحو الصلح * مع الأتراك واتفقا على سلطة موحدة عثمانية بفضل أحد الفقهاء وعلماء المنطقة .
والملاحظ أن عدم تماسك السلطة العثمانية،في المرحلة الأولى كان واضحا وخاصة بعد وفاة عروج وأخيه مقتولا،حيث عاد أبي حمو الثالث الى تلمسان غربا وحميده العبد الى تنس جوارا .حيث واجها كل منها التحرش الإسباني .لقد قام عملاء الاسبان بقطع الطريق عن عروج وأخيه إسحاق حين عودتهم من الغرب الى العاصمة في موقعه حامية بني راشد كما تم حصار عروج في تلمسان .(2) حيث كان عروج متوقعا حاميه السلطاني الوطاس في حمايته بالوصول اليه،ولكن نفذ الصبرلديه فهرب،فلحقه الإسبان في بني يزقن في غرداية في ماي 1518 وقضوا عليه، فإنتهى الحكم الى أبي حمو الزياني بمناصرة الإسبان له حتى وقت لاحق حيث سيمتد التوسع العثماني الى تلمسان بعد فتنة خطيرة في ضواحي قلعة المشور بين الرافضين والقابلين للحكم العثماني .
3 النظم الإجتماعية في العهد العثماني: لقد مثل التنظيم العثماني في الجزائر، هيئة غير موسعة ومتشتتة مثلت القبائل تمثيلها في الجنوب، بينما كانت رئاسة الخلافة في العاصمة قسنطينة وهران والتيطري حيث المدن الكبيرة وكثافة السكان والأراضي الخصبة وقرب البحر،حيث العثمانيون إمبراطورية بحرية قوية وجدت نافذة لها إتجاه إسطنبول المركز لقد ساهم في شساعة الأراضي العثمانية من المشرق إلى المغرب أدى إلى ضعف نشاط قبضة الحكم العثماني على البعض المناطق، رغم أن كثافة الروح الدينية وقوة الإرتباط بالقيم المرجعية للسكان .
لكن أن الواضح إلتزام ممثلي الخلافة في كل المناطق كان مرتبطا بقوة النظام، بينما ضعفه في الأيام الأخيرة بعد ضعف الخلافة المركزية وصعود الحضارة التكنولوجية الأوروبية عجل في سقوط الخلافة منذ غزو نابليون لمصر وسقوط الأسطول الجزائري العثماني .
لكن الوضع الداخلي الذي يعلن صراع قوى بين القبائل إلى تعيين الباشا والآنا والخوجا، كان متعدد الأوجه مما جعل البعض يرفض تسليم الضرائب وإعلان التمرد على خلافات العثمانية رغم قوة الجيش الإنكشاري الذي لم يحاول التوغل في المناطق الداخلية لثقته في السكان إن التمثيل العثماني للجزائريين بدأ يضعف بعد مؤامرة التدخل الأوروبي على هذه البلاد، فيما كان يعكس الوضع المحلي عدم تطابق إجتماعي ونشوء طبقات كان يخلقها عملية تقسيم الأرض وتعيين المراعي والسلم التجاري وقوة القوافل التي كانت تتعرض للقطاع في كل مكان .رغم ذلك نشأت جماعات حرفية وجمعيات تعاونية، تمركزت في القصور والتجمعات الكبرى .
في حين بقي المواطن البسيط عالة على القبلية والعائلات الكبرى التي جعلت من بعض هؤلاء عمالا وخدما له في جميع المجالات الإقتصادية والفلاحية والتجارية والحربية، وهذا من الفتح العثماني على المناطق الإسلامية .
يقول عبد العزيز الدوري (1): فقد استولى العثمانيون على القطاعات المملوكة كلها، فيما فيها تلك التي حولت إلى وقف أو ملك، وضمت الأراضي السلطانية "الخراجية" التي تعمل بدفع .الخراج. المنصوص عليه في التراث الإقتصادي الإسلامي منذ عهد الخلافة الراشدية ولكنهم اتخذوا النظام الإقطاعي المملوكي أساسا في تنظيم الأراضي مع إبطال صفته العسكرية >.
لذلك تقسيم الأراضي حسب سياسة إجتماعية محددة تم على إثرها توزيع إقطاعات على أشخاص لا يخدمونها بل هم مجرد أرباب عمل بالمفهوم الحديث مما سهل التفكك الإجتماعي وخلق الإضطراب وزعزعة ضوابط الإلتزام ونزع الثقة لذلك تم تسليم اخصب الأراضي على المقربين من السلطات والخليفة والباي والباشا ومشايخ القبائل الإسلامية عبر كل مناطق الإمبراطورية العثمانية، وقد قام هؤلاء بتعيين ممثلين عنهم في تسيير وخدمة تلك الأراضي وبعدها توكيل جماعات من العمال يسهرون على خدمتها إذا كانت شاسعة أو عاملا واحدا إذا كانت قليلة المساحة وقريبة من السكن .
وذلك لم يكن نافيا لوجود ضرائب على استزراع هذه الاراضي كما يرى كذلك الدوري، حيث ذلك يخضع لمعاهدة سابقة مع الإدارة وتوثيق تلك التعهدات وسجل أصحابها، حيث لجأت السلطة أحيانا لتعيين عمالا من الجند يكونون تحت وصاية أمناء معنيين من طرف الإدارة العثمانية ولكن التطور اللاحق جعل السلطة تلجأ إلى المشايخ لأنهم أقرب تمثيلا للسكان وهم أكثر احتراما من الغير، مما جعل العامل خماسا، وأحيانا عامل يومي أجير بالمقايضة بدل عرقه لدى كبار العائلات والمشايخ .
إن تسليم الأرض لبعض ممثلي الخلافة، جعل هؤلاء المكلفين ينتظرون الفرصة لنقص النظام وفرض قرارهم، وأبدعوا نظام السخرة وانمحت الصفة العسكرية على ملك الأرض وتسييرها هكذا تم توارث الأرض من المماليك والمتعهدين حيث كانت الضريبة رمزية تدفع للسلطان سميت المصالحة، في بعض الأماكن،رغم أن الخلافة العثمانية حاولت تجميد تلك العمليات لكنها فشلت ولم تحرر حتى تحديد الفترة الإستعمالية للأرض، بل تطور النموذج إلى ملكيات وراثية بحق التصرف الكامل .
عتيق العربي - الجزائر
................................
[1] عبد العزيز الدوري: مقدمة في التاريخ الإقتصادي في التاريخ الإقتصادي العربي (م د و ع) بيروت 2007 ص 93/94
التجربة السياسية الشيعة في العراق
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مهدي الصافي
ثقافة الفرد او المجتمع تتحدد بعدة عوامل مشتركة بين الامم والشعوب او المجتمعات الصغيرة منها"الدين-الاثنيات-البيئة وطبيعة الارض (قرى وارياف او مدن قروية او مدن عصرية) -المهن والحرف والصناعة والاعمال التجارية-الموروث الشعبي او القبلي او العائلي-الادب والحكم والامثال والعادات والطبائع المكتسبة..الخ.
ولادة الطائفة او المجتمع الشيعي مر بمراحل ومنعطفات تأريخية مختلفة بعد وفاة الامام علي ع (661م-40هجرية)، واندلاع الصراع الاموي العلوي على قيادة المسلمين والتمسك بسلطة الوراثة، وهذه قضايا مثيرة للجدل وللنقاش الطائفي العقيم، الا ان البحث الاكاديمي المحايد، يمكن له ان يحدد بدايات انطلاق او نشوء الامبراطورية الاسلامية الاموية (عهد معاوية)، التي امتدت فيما بعد الى شمال افريقا والى الحدود الجنوبية الغربية الاوربية في الاندلس، مما تسببت بولادة معارضة قبلية وعقائدية داخلية، تم التعامل معها بقوة السيف تارة، وبالترغيب والترهيب والسجون تارة اخرى...
مراحل صناعة مجتمع المعارضة والخوف والقلق والعمل السري في هذه الامبراطورية (المعارضة الشيعية، والخوارج هي اهم الفرق التي وقفت بوجه الدولة الاسلامية الرسمية بعد وفاة النبي محمد ص، من عهد الخلفاء الاربعة الاوائل مرورا بالدولة الاموية والعباسية وصولا الى العهد العثماني)، ليست عملية هينة، انما تخللتها مراحل عديدة من المعاناة والالم والحرمان والانتفاضات بعد واقعة كربلاء (مقتل الامام الحسين ع واصحابه (10محرم61هجرية) ، وسقوط الاف الضحايا، وبداية رحلة النفي والهجرة والاختفاء، وصولا للعهد العباسي بعد انتهاء الامبراطورية الاموية (132هجرية)، حيث اصبحت الارضية خصبة لولادة المذاهب الاسلامية الاربع (والمذهب العقائدي السياسي الخامس المذهب الجعفري)، اذ كانت المذاهب الاربع (السنة والجماعة) مذاهب الدولة او الامبراطورية العباسية الشبه رسمية (لانها تقلبت مستوياتها واختلفت حظوتها من خليفة او والي وبين منطقة واخرى)، بينما تحول المذهب الخامس الى مذهب معارض رسمي للدولة (على اعتبار انه يمثل الجناح العلوي المنافس الشرعي في الثورة التي اسقطت الحكم الاموي)، وهذه الحالة او الولادة الجديدة ايضا مرت بمراحل صناعة اخرى اختلفت او تطورت كثيرا عن ما كانت عليه بدايات العهد الاموي، حيث يمكن مجازا ان يطلق على العهد العباسي بداية الحراك الفكري العقلي الاسلامي، الذي انتج فرق وطوائف ومدارس اسلامية متعددة ومتناقضة او متصادمة (بعد دخول بلاد فارس في السياسة والحكم..كما حصل بعد ذلك عهد السلاجقة )، هذه المقدمة المختصرة جدا ليست الهدف مما نبحث هنا، انما نود ان ننتقل منها الى تعريف الحالة السياسية-المذهبية الشيعية واسباب تعثرها وانهيارها في الحكم بعد 2003...
بعد نجاح الثورة الاسلامية الايرانية1979 (بقيادة المرجع قائد الثورة السيد الخميني رحمه الله)، واسقاط نظام شاه ايران محمد رضا بهلوي، حدث انفجار عاطفي كبير في الوطن العربي وبقية الدول الاسلامية، اعطى قوة دافعة هائلة للاسلام السياسي في المنطقة، ولهذا تم التخطيط لاسقاط هذا الاندفاع الاسلامي الثوري، بمؤامرة الحرب العراقية الايرانية عام1980، وقد تكرر هذا الامر بعد ذلك بعقود، في مؤامرة (وكأنها صورة طبق الاصل) اسقاط ثورات الربيع العربي بعد 2003، عبر اغراق المنطقة بالحركات الارهابية والوهابية المتعددة الجنسيات، وكأن الامبريالية الرأسمالية العالمية المتحالفة مع دول البترودولار الخليجي، لاتريد لشعوب ودول الشرق الادنى الاوسط النهوض، او ان تنعم بديمقراطية حضارية حقيقية، غير تلك المسرحيات الاصلاحية الهزيلة، بفتح مجالات وفضاءات محدودة للحريات المدنية (كشعار المساواة بين الرجل والمرأة، او التغني بالسماح للمرأة بقيادة السيارة في المملكة العربية السعودية او فتح دور السينما واقامة الحفلات الراقصة الخ.) ...
شيعة العراق جزء من المشهد السياسي-الطائفي المعلن في منطقة الخليج العربي-الفارسي، تنامت عندها قوة الحركة الاسلامية الشيعية في بلاد الرافدين، بعد ان كانت متذبذبة او متأرجحة نسبيا بين رفض الحوزة العلمية التقليدية لاقحام التشيع بلعبة السياسة والحكم، وبين قوة تأثير الحركات المتنافسة الاخرى في المجتمع (اليمين القومية العربية، واليسار الشيوعي)، لكن تغيرت الامور جذريا بعد الثورة واندلاع الحرب مع ايران، فقد اعتبر الخطر او المد الشيعي الايراني (بعد ان تم رفع شعار تصدير الثورة الايرانية للدول المجاورة) في المنطقة مثير للازمات الداخلية لبقية الدول (التي تتواجد فيه طائفة شيعية مهمة، كالبحرين، والسعودية، والكويت، فضلا عن العراق الخ.)، حتى بات نظام الدكتاتور الاحمق صدام، يعتبر ان المعارضة السياسية العربية العراقية الشيعية عميلة لايران، وتستحق الاعدام بتهمة الخيانة، وهذه قمة التوحش والاقصاء والتهميش لتاريخ عربي شيعي وطني عريق في العراق، (وقد اصدر قرار اعدام بأثر رجعي لكل من ينتمي لحزب الدعوة الاسلامية)، واستمرت معاناة المكون الشيعي العربي حتى بعد ان تم ازاحة اكثر الانظمة شرورا في المنطقة (نظام صدام البائد) بعد2003، فقد تحولت المؤامرة الى المرحلة الثالثة، وهي احياء الفتنة النائمة، اي صراع الدول الاسلامية السنية مع دول الهلال الشيعي المفترض (التي تمتد من ايران الى العراق واليمن مرورا بسوريا الى لبنان)، دون ان تكون هناك اية هدنة منطقية او عقلية لاعطاء فرصة للحوار المتبادل بين جميع دول المنطقة، لعلها تحمل في طياتها حلولا جذرية لمشاكل هذه الدول، ذات التأريخ والجغرافية والحضارة والثقافة وحتى البيئة المشتركة...
ايران الاسلامية الشيعية-طالبان الافغانية الوهابية -الاخوان والسلفية في مصر-الوهابية في السعودية والخليج-الحكم الاسلامي الشيعي في العراق تجارب الاسلام السياسي في الحكم اثبتت فشلها، فهي من حيث المبدأ تتعارض مع المبادئ الديمقراطية العامة، ولايمكنها التعايش معها، لكن من الممكن جدا ان تعطي نموذجا سيئا ومشوها عن علاقة الدين بالسياسة، في حال تم المزج بين الدين والديمقراطية، فمنذ عقود تحدثنا عن ان المسلمين ليس بحاجة الى احزاب اسلامية (لانهم بالاصل مسلمين)، هم بحاجة الى احزاب تنموية متحضرة، تؤمن بالديمقراطية، وحرية الرأي والعقيدة، والعدالة الاجتماعية وحقوق المرأة، وبناء دولة الامة المتعددة الثقافات والاعراق والطوائف الخ....
بدأت تجربة التشيع العربي في العراق بالانخراط في العمل السياسي الواسع بعد ولادة الحركة الاسلامية (حزب الدعوة اواسط القرن الماضي)، لكنه اتخذ من فكر اخوان المسلمين النظرة الشمولية في العمل الدعوي، العابر لجغرافية الحدود الوطنية، مما جعل الناس تبتعد عنها لعدم موضوعيتها في الطرح والغايات او الاهداف، وتتجه لبقية الانتماءات والتوجهات السياسية او الفكرية الواقعية، فالحركات الاسلامية عموما لايمكنها مغادرة التراث السياسي الاسلامي، وبعودتها الى الماضي ترجع الى مربع احياء الفتن الطائفية، واثارة الخلافات المذهبية، وتطبيق الحدود او الشريعة الاسلامية، ففي السنة كما في التشيع هناك اختلاف في القراءات كما يقال او في فهم الشروحات للنصوص والتأويل القراني اوشرعية تقديم السنة النبوية على القران الكريم في بعض المواضع او الفتاوى، وهذا علم واسع يجب ان يخرج من المدارس والحوزات والمعاهد الدينية القديمة المغلقة على التراث، الى فضاء العلم التحليلي الحديث، في مراكز الدراسات والبحوث والعلوم الاكاديمية العصرية، واتباع اسلوب المقارنة المنطقية للاديان والاساطير والاثار المكتشفة، التي اصبح بأمكانها ان تضع دراسات الاديان الى جانب العلوم الاجتماعية والانسانية، ودراسات علم الاثار والالسنيات والاساطير والادب القديم الخ.
بعد عام1991 وفشل انتفاضة 15 شعبان في الجنوب والشمال، ظهرت مدرسة شيعية شعبية صدرية اخرى (محمد صادق الصدر رحمه الله)، اختلفت كثيرا عن تجربة الشهيد الاول محمد باقر الصدر (رحمه الله)، الشهد الاول كان ينظر الى تجربة العمل والتنظيم السياسي وسيلة عصرية للمشاركة او الوصول الى سدة الحكم، الا انها بقيت حركة او محاولة نخبوية اسلامية، لم تدعمها الجماهير لجعلها بمستوى تأثير الحركات القومية او اليسارية العاملة حينها، بل كان من المشهور في المحافظات الشيعية اطلاق تسمية "موسكو الصغرى" على بعض المناطق، بعد ان استقطب الحزب الشيوعي الطبقات المسحوقة في المجتمع (مجتمع الفلاحين والعمال فضلا عن الموظفين والمثقفين والفنانين والادباء وابناء شيوخ العشائر ورجال الدين)، وكما يقال ان الفقراء وقود الثورات، لم تكن هناك اية قاعدة شعبية مؤثرة لحزب الدعوة في الشارع، عدا الخطوط والانتماءات المعروفة في المجتمع، بينما عمل الشهيد الثاني (صادق الصدر) العكس بنزوله المباشر الى الشارع (في احياء صلاة الجمعة)، جدير بالذكر ان الحوزة الشيعية التقليدية (في النجف وقم) عارضت الاسلوب السياسي الثوري للشهيدين الصدرين (وهذا امر وبحث طويل، منه مايتصل بنزاع الحواشي والدوائر القريبة المغلقة والوكلاء على منصب المرجع الاعلى، وامور وقضايا تتعلق بنظرية الحكم الاسلامي في غياب الامام المعصوم الخ.)، المشكلة التي ظهرت بعد 2003 في الحكم الشيعي للعراق، ان النيات لم تكن سليمة او اسلامية خالصة، تنازلت الاحزاب والتيارات والقيادات او مايطلق عليها بالزعامات الشيعية عن حقها الدستوري في قيادة الدولة والشعب، فقد قامت بالمشاركة الرئيسية في عملية تفكيك نظام الدولة والحكم وفق المقاسات والترتيبات الامريكية التي قادها بريمر بخبث (مؤامرة تفكيك الدولة والمجتمع عبر تشكيل مجلس الحكم، ومن ثم الجمعية الوطنيةوفقا للطوائف والمكونات والاثنيات)، ونفذها الجميع بخبث وغباء ايضا، الموافقة على المحاصصة والتوافق في النظام السياسي سمح للانظمة الخليجية او الحركات الارهابية الوهابية، من ان تنفذ الى المناطق الغربية (ذات الاغلبية العربية السنية)، لتقيم لها حواضن ارهابية، او تفتح لها منافذ الاستقطاب الطائفي، وذلك لانها تشعر بحماية تلك البؤر المتوترة لمشاريعها التخريبية (ولهذا تجدهم في ثورة مطلبية دائمة لخروج الجيش منها، ورحيل قوات الحشد الشعبي عنها)، وكذلك لقربها من العاصمة بغداد (ومن حواضن الارهاب في حزام بغداد)، التي تبقي صورة كراسي الحكم الطائفية ماثلة امامهم (اما عودة العرب السنة لحكم العراق او الاقاليم الفيدرالية او التقسيم والانفصال)، هذا الازمات صنعت مليشيات وفصائل شيعية مسلحة لمواجهة المد الارهابي الداعشي، ولتحرير الارض المغتصبة في المناطق الغربية، بعد ان عجزت المؤسسة العسكرية والامنية عن مواجهة فلول الارهاب الاعمى (عدة اسباب ادت لضعف اداء تلك المؤسسات الدستورية اهمها الفساد المالي والاداري، والمحاصصة في توزيع القادة والضباط والمراتب، والتدخلات السياسية، والفساد والرشوة داخل بعض اقسامها واجنحتها)، التيار الصدري كان له الدور المؤثر في ايقاف المد الداعشي في العاصمة بغداد، ومن ثم في محيط مدينة سامراء (هناك اخطاء وجرائم فردية حصلت اثناء الاقتتال الطائفي بعد تفجير المرقدين العلويين في سامراء عام 2006)، ولكن الاشكال تطور وانتقل الى العمل السياسي، تيارات سياسية لها اجنحة وسرايا وفصائل مسلحة منخرطة بالعملية السياسية ونظام الحكم المركزي والمحلي (كتجربة حزب الله لبنان، وحتى تجربة الحرس الثوري الايراني، الذي يتدخل ايضا بقوة في السياسة والحكم)، تيار او حزب سياسي له جناح او فصيل عسكري في اي دولة من دول العالم، يشارك في الانتخابات العامة، لايمكن الوثوق بنتائجها، او القول بأنها مشروعة او عادلة او نزيهة، حيث يمكن ان يكون التنافس بينها وبين بقية الاحزاب والتيارات السياسية المدنية شريفا او بعيدا عن التجاوزات، فهذه التيارات المسلحة لايمكن ان تتقبل الهزيمة او الخسارة الكبيرة او الابتعاد عن القرار السياسي في الدولة، مع انها حتى لوكانت تمتلك القاعدة او الاصوات الحقيقية للجماهير التابعة لها، فهي لاتعني شيئا امام الدستور والاسس والمبادئ الديمقراطية، لان المسألة لاتتعلق بنسبة الاصوات التي يمتلكها هذا الحزب او ذاك التيار، او بجماهيرية هذه الفئة او تلك، انما بالسلاح وفوهات البنادق المسلطة على الشعب، وعلى صناديق الاقتراع غير الامنة، علما ان الجماعات المسلحة في اي دولة مضطربة (التي يكثر فيها السلاح المنفلت، وعمليات التصفية الجسدية، وكواتم الاغتيال المقيدة اغلبها ان لم يكن جميعها ضد مجهول، وعصابات الجريمة المنظمة، الخ.) لاتعنيها تلك الاجراءات السياسية او المدنية الدستورية، لانها تؤمن بنظرية قوة سياسة الامر الواقع، الذي تفرضه سلطة فوهات البنادق على الارض...
القوة الشيعية المؤثرة في الشارع العراقي بعد 2003 هي التيار الصدري، والاجنحة المنفصلة عنها من التيارات والحركات الشيعية المسلحة (الافرع الصغيرة المنشقة عن التيار الصدري، التي تعاظمت قدراتها بعد فتوى الجهاد الكفائي، والدعم الايراني المفتوح لها)، او تلك التي استغلت فتوى الجهاد الكفائي، لادخال قياداتها وفصائلها المسلحة في تشكيلات او هيئة الحشد الشعبي، لمكاسب ومصالح سياسية بائسة، وما حصل مؤخرا من اعادة صياغة التعريف الواضح للفتوى، بأن من يمثلها من الفصائل المسلحة هي المنضوية تحت مايسمى حشد المرجعية، الرافضة لاستغلال اسم الحشد الشعبي في التنافس السياسي الانتخابي، او في مايسمى بتقسيم كعكة المحاصصة، على مائدة توزيع الوزارات والمناصب الوظيفية العليا بين الاحزاب والكتل البرلمانية (وكأنها علوة الخضرة او قاعة للمزاد العلني، ساحة للنهب والفرهود)، هذه التصرفات والاساليب الملتوية اربكت الشارع الشيعي، واحرجت المرجعية الشيعية السيستانية الهادئة تحديدا، واقحمتها في متاهات الصراع السياسي المحلي والعربي او الاقليمي في العراق، هذا لايعني ان المكونات الشريكة في العملية السياسية نزيهة او بعيدة عن الفساد واسباب انتشار الارهاب، الا اننا نتحدث عن تجربة انتظرها شيعة العراق قرون طويلة...
ثورة تشرين في بغداد والمحافظات الشيعية2019، وسقوط المئات من الشهداء والاف الجرحى، وماجرى بعدها من اعتقالات عشوائية، وعمليات تعذيب ممنهجة للناشطين وبعض المتظاهرين، وزيادة نسبة عمليات الاغتيال العلنية، وتقاعس المؤسسة العسكرية والامنية والحكومة عن كشف مايسمى بالطرف الثالث (المتهم بقتل المتظاهرين)، ودخول التيار الصدري (القبعات الزرق) لساحات التظاهر، وتهديداته العلنية لبعض المتظاهرين، فتحت ابواب النقد والمراجعة والمواجهة امام الجميع، وظهرت عدة اسئلة نخبوية وشعبية على السطح، حول ضرورة ابعاد الدين او الطائفية والاثنية عن السياسة والنظام الديمقراطي، ثم فتحت جوانب واسئلة فرعية داخل كل مذهب او طائفة عن علاقة النظام الديمقراطي بالدولة والامة، فبعد الهزيمة التاريخية للمذاهب السنية الاربع (وجماعة الاخوان) امام تصاعد المد السلفي والوهابي والداعشي الارهابي، وانتقال ظاهرة الدعشنة او التدعيش الى التشيع السياسي (في ايران، والحركات الشيعية المتطرفة في العراق)، اصبحت الخيارات محدودة امام الشعوب العربية والاسلامية، وباتت لاتملك غير خيار انظمة الحكم الديمقراطية العلمانية، والتفكير الجدي بصناعة او انتاج ثقافة سياسية عربية تنموية اصلاحية، تنظر الى تجارب الامم والدول المتحضرة في العالم، على انها النموذج العلمي العملي الواقعي لنجاح الشعوب في بناء الدول المتطورة...
كانت تجربة الشيعة في الحكم بعد 2003في العراق سيئة، بل كارثة كبرى، اذ انها جلبت او جرت المذهب الجعفري والشيعة الى المشاركة والمنافسة في السياسة وادارة الدولة، فظهرت كل العيوب والمساوئ والانحرافات او الاشكالات العقائدية او المذهبية عبر الفساد والفشل والاخفاق والنهب المنظم لثروات الشعب وظلم فقراء الشعب وسحقهم (كما فشلت حركة اخوان المسلمين والوهابية في الخليج)، ولازلنا نؤكد على ان اسلوب السيد محمد صادق الصدر (رحمه الله) في فتح حوزته، ومسجد الكوفة لعوام الناس، او ما يطلق عليهم اليوم اتباع التيار الصدري، كانت تجربة مريرة، لاتختلف كثيرا عن تجربة الامام علي ع او الامام الحسن والحسين ع مع شيعة الكوفة، مع انها انتجت الصفوة او الثلة المخلصة، ولكنها انتجت ايضا القاعدة الجماهيرية المتناقضة والمتباينة في تدينها او ايمانها، فالجاه والسلطة صنعت الظاهرة القارونية في البلاد، مع انها اكثر توحشا وتجاوزا ونهبا من قارون نفسه، كان الناس من مختلف الاديان والطوائف تلوذ بالمراجع ورجال الدين الشيعة، اليوم بات يردد الشيعة والشعب "بأسم الدين باكونه اي سرقونا الحرامية"، يكرهون سيرة او ذكر اسم رجل الدين او اي زعيم او تيار سياسي اسلامي شيعي او سني، في مرحلة تاريخية مصيرية، وضعت الدين والمذاهب والحركات الاسلامية على طريق المواجهة الشاملة مع الحضارة الالكترونية -الفضائية...
الخلل ليس في الدين او في فطرة الناس، انما بالتفكيروالعقول التراثية المتصارعة مع ذاتها، التي لاتقوى على المراجعة بنية التغيير والاصلاح، ولايمكنها تقبل نتائج المواجهة مع التطور العلمي والتكنولوجي او التقدم السياسي الحضاري العلماني، لان ادواتها المعرفية معطلة بالكامل، هي مشلولة امام العلم، لان حقيقة الايمان بوجود الخالق عزوجل، والاديان لايمكن لها ان تقدم الفهم التاريخي الاسطوري لهما كحجة او دليل امام الحقائق العلمية وحتى الموضوعية، بينما بالعقل والعلم والمعرفة يفهم الناس ربهم ودينهم بصورة مختلفة عما يقدمه من يحسب انفسهم وكلاء الله عزوجل على خلقه...
كان الناس يعتقدون ان رجل الدين او الاسلامي الحركي صاحب كتاب الحلال والحرام والخطوط الحمر، لايمكنه ان يسرق دينارا او سنتا واحدا، او حتى يكذب او يكون منافقا وانتهازيا، لان زحمة ضخ الصور الدينية والاحاديث الصحيحة والملفقة عن نزاهة الصحابة او السلف الصالح، والاتباع والخلفاء والولاة، جعلت من تلك الاكاذيب حقائق راسخة بالوجدان الشعبي للمسلمين، لكنها سقطت مع اول تجربة جلبت الويل والفساد والارهاب والفوضى للمجتمعات، الفساد الذي لم يستثني مجالا معينا، بما فيها مجالات قوت الناس وادويتهم واحتياجاتهم الاساسية (كما حصل من نهب للبطاقة التموينية واموال مخيمات النزوح، والادوية ومشاريع بناء المستشفيات والمدارس وتعبيد الطرق، وبقية الخدمات الضرورية لحياة وبيئة امنة خالية من الاوبئة والامراض) ..
بعد ان مرت الشعوب العربية المسلمة (السنية والشيعية) بتجارب الحكم الديني الطائفي الفاشلة، التي لم تخلف غير الفساد والمعاناة والجهل والتخلف والارهاب، صار لزاما ان تفكر هذه الشعوب بصناعة دولة الامة الموحدة خلف الفكر والثقافة السياسية التنموية، التي بدورها ستكون قادرة على ان تنتشل ابناء تلك المجتمعات المحطمة بسبب البطالة والفراغ، وانتشار الجريمة والمخدرات، او حالات الاحباط واليأس، الى واقع التنافس والسباق الدولي نحو بناء دولة التطور والازدهار والتكنولوجيا، لاسبيل للنجاة او الخروج من هذه الماساة، الا بالوحدة الاجتماعية والالتفاف حول النخب المثقفة والمفكرة، تلك التي لايمكنها ان تنظر الى الحياة على انها وسيلة لاغتنام الفرص، انما الى حياة العمل والصناعة والانتاج والتقدم العلمي، الذي سيجلب السعادة والامل والرفاهية والامن والاستقرار كما حصل في اوربا الحديثة، بعد معاناتها الطويلة مع حكومات القرون الوسطى، فالتطور الاخلاقي والعلمي والابداع الانساني جاء بارادة الله عزوجل، وليس عبر بوابة الكنيسة او المسجد او الحسينية او فتاوى الفقهاء او المذاهب والفرق، الاسلام اوسع من ان يختزل بحوزة او معهد ديني او رجل دين او حركة اسلامية، هو يمثل اهم قاعدة الهية متينة لبناء المجتمعات الانسانية على اسس ومنطق علمي عقلاني رصين، لايمكنه ان يتجرد عن اسرار واكتشافات هذا الكون الواسع..
الدولة او الامم التي لايقودها الاذكياء ستفشل
مهدي الصافي
د. عبد الجبار الرفاعي يفوز بجائزة البطريركية الكلدانية في العراق
- التفاصيل
- كتب بواسطة: صحيفة المثقف
فاز المفكرُ العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي بالجائزة الأولى التي تمنحها البطريركية الكلدانية في العراق لأفضل الأعمال الفكرية المنجزة في سنة2020 . وقدّم الكاردينال لويس روفائيل ساكو الجائزةَ للدكتور عبد الجبار الرفاعي في مقرِّ البطريركية ببغداد، ومنعت ظروفُ جائحة كورونا من إقامة حفلٍ بهذه المناسبة.
مُنح الرفاعي هذه الجائزة لإسهامه الفكري الجادّ في ترسيخ القيم الأخلاقية والإنسانية السامية في الدين، وإشاعة ثقافة الحقّ في الاختلاف والتنوع والتعددية، ودوره الرائد في بناء لاهوتٍ إنساني وعلمِ كلامٍ جديد ينشد إيقاظَ القيم الروحية والأخلاقية والجمالية في الدين.
وكان عبد الجبار الرفاعي قد فاز بعدّة جوائز، منها:
1- الجائزة الأولى للإنجاز الثقافي في الدوحة على منجزه الفكري الرائد وآثاره في تأصيل المعرفة وثقافة الحوار وترسيخ القيم السامية للتنوع والتعددية والعيش المشترك، الدوحة - قطر 14 ديسمبر 2017.
2- الدرع الذهبي للحركة الثقافية بأنطلياس في لبنان، لدوره في إغناء المنجز الثقافي في العالم العربي، 1 مارس 2013.
3- اعترافًا بالمهمة التي نهضت بها مجلةُ قضايا إسلامية معاصرة في بناء علم الكلام الجديد وفلسفة الدين باللغة العربية، وبوصفها الدوريةَ الأهمّ المتخصصة في الأديان بالعربية خصّص "المعهد البابوي في روما التابع للفاتيكان" كتابَه السنوي عام 2012 لهذه المجلة. وقضايا إسلامية معاصرة مجلة فكرية فصلية تهتم ببناء فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، أسّسها ويحرّرها عبد الجبار الرفاعي منذ ربع قرن تقريبًا، ومازالت تصدر حتى اليوم.
4- الجائزة الأولى على أطروحته للدكتوراه، في مباراة تنافست فيها أكثر من 200 رسالة وأطروحة جامعية، نظّمها مكتب الشهيد الصدر سنة 2009.
5- الجائزة الأولى لكتاب الوحدة الإسلامية في طهران على جهوده في الكتابة والنشر والدعوة للوحدة والعيش معًا في فضاء التنوع والاختلاف، سنة 2005.
6- الجائزة الأولى للمؤرخ العلامة حسن الأمين في بيروت على منجزه المعرفي والثقافي، 2003.
يذكر أن عبد الجبار الرفاعي من مواليد الرفاعي في محافظة ذي قار في العراق، سنة 1954، وبعد أن تخرج في المعهد الزراعي ببغداد سنة 1975، انخرط في دراسة علوم الدين في الحوزة العلمية في النجف الاشرف سنة 1978، وحضر دراسة المقدّمات وبعض السطوح فيها، ثم أكمل ما بقي من دراسة السطوح والبحث الخارج في الحوزة العلمية في قم . وتتلمذ في المنطق والنحو والصرف والبلاغة والفقه وأصول الفقه من المقدّمات والسطوح على الشيخ حسين جودة و الشيخ عبد الأمير الساعدي، والشيخ أحمد البهادلي والشيخ هادي آل راضي والشيخ باقر الإيرواني والسيد أحمد المددي. ودرس جزءا من كتاب "تجريد الاعتقاد في علم الكلام" على يد السيد محمد محمد صادق الصدر، وقسما من منظومة السبزواري على السيد مسلم الحلي، والعقائد على الشيخ أحمد البهادلي، في حوزة النجف. كما درس في حوزة قم: بداية الحكمة على الشيخ باقر الإيرواني، ونهاية الحكمة على الشيخ غلام رضا الفياضي، والأسفار الاربعة على الشيخ عبدالله الجوادي الآملي، وتمهيد القواعد لابن تركه، وفصوص الحكم لابن عربي على السيد كمال الحيدري. كذلك حضر دروسَ البحث الخارج في الفقه وأصول الفقه لمدة ثمان سنوات، في حوزة قم، حتى تأهل علميا للاستناد الى نظره الخاص في الاستنباط الفقهي. وحضر دروسَ البحث الخارج عند: السيد محمود الهاشمي الشاهرودي، والشيخ محمد حسين الوحيد الخراساني، والسيد أحمد المددي، والشيخ باقر الايرواني، والشيخ محمد هادي آل راضي.
وحصل عبد الجبار الرفاعي على الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية، بتقدير امتياز، 2005. والماجستير في علم کلام، بتقدير امتياز، 1990، وبكالوريوس المعارف الإسلامية، بتقدير امتياز، 1988. ولقب الأستاذية سنة 2012، وأشرف على وناقش أكثر من 60 اطروحة دكتوراه ورسالة ماجستير في الفلسفة وعلم الكلام والدراسات الإسلامية. وبلغت آثارُ عبد الجبار الرفاعي المطبوعة حتى اليوم خمسين عنوانًا.
الفنان ليوناردوا دافنشي.. عالماً طبيعياً!
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. محمود محمد علي
كان العلم الأوروبي عند مطلع العصر الحديث، كما يري أستاذنا الدكتور فؤاد زكريا، علماً ميكانيكياً فى المحل الأول. فالميكانيكا نفسها كانت أهم العلوم وأدقها وبفضلها تحققت مجموعة كبيرة من كشوف القرنين السادس والسابع عشر. والأهم من ذلك أن نموذج المعرفة ذاته كان هو النموذج الآلي ؛ أعنى أنك تستطيع أن تفهم الظواهر على أفضل نحو إذا ما استطعت أن تنظمها فى نسيج تكون فيه كل منها مؤدية إلى الأخرى بطريقة آلية خالصة . بل إن الكون كله كان آلة ضخمة تسير فى عملها بانتظام الساعة الدقيقة . وعلاقة الله بالعالم أشبه بعلاقة الصانع بصنعته؛ بمعنى أن العالم قد صنع متقنناً منذ البداية، ويظل يسير بعد ذلك بنفس الدقة والانتظام اللذين صنعا بهما.
ولقد كان دافنشى خير من يمثل هذا الاتجاه فى عصر النهضة؛ حيث رأى فى الميكانيكا أساساً للعلوم الطبيعية التى تقوم على مفاهيمنا للمادة ولحركتها فسجل العبارة التالية: " الميكانيكا فردوس العلوم الرياضية، إذ أن فيها نصل إلى ثمار الرياضيات "
Mechanics is the paradise the mathematical science because by means of it comes to the fruits of mathematics.
وبلغ تقديره لأهمية العلوم الميكانيكية أقصاه؛ حيث يقول: " يطلق توصيف الميكانيكي على تلك المعرفة، التى تولد من التجربة، بينما المعارف التى تتولد من العلوم، وتنتهى فى العمليات اليدوية، فإنها تسمى عندئذ بالعلوم نصف أو العلوم شبه الميكانيكا " .
إن تقدير دافنشى لعلوم الميكانيكا كان له أثره فى أن يصبح واحداً من كبار المهندسين والمصممين للآلات فى عصره ؛ حيث كان مهتما بشكل خاص بمشاكل الاحتكاك والمقاومة وتوصيف عناصر مثل أسنان اللولب والتروس والرافعات الهيدروليكية وأجهزة التدوير وتروس الثقل، وما شابه ذلك بصورة فردية أو فى مجموعات متنوعة، وبمرور الزمن اختلط اهتمامه بالميكانيكا التطبيقية . كما أدرك دافنشى أن القوى الميكانيكية العاملة فى القوانين الأساسية للميكانيكا تعمل فى كل مكان سواء العالم العضوي أو غير العضوي . وهكذا فإن القوة أصبحت فى النهاية المفهوم الأساسي بالنسبة لدافنشى وكخاصية روحية فإنـها كانت تشكل وتحكم الكون .
وأينما فحص دافنشى ظواهر الطبيعة، كان يعترف بوجود قوى أولية تحكم شكل ووظيفة الكون . ففى دراساته عن طيران الطيور التى اتخذت فيها فكرته الشبابية عن إمكانية أو جدوى أداة الطيران شكلا قد أدت به إلى بحوث شاملة فى عنصر الهواء.
وفى دراساته للماء التى اهتم فيها بالخواص الطبيعية يقدر اهتمامه بقوانين الحركة والتيارات . وفى بحوثه عن قوانين نمو النباتات والأشجار. وكذلك التكوين أو التركيب الجيولوجي للأرض وتشكيل التلال .
وأخيراً فى ملاحظته لتيارات الهواء التى تستحضر لهب شمعة أو صورة خيط رفيع من سحاب ودخان . وفى رسوماته – خاصة فى دراساته عن الدوامات بناء التجارب العديدة التى قام بها، وضع دافنشى مرة أخرى شكلاً للتمثيل ينطبق على أسلوب معين كان من تصميمه هو نفسه، وكان هذا يتضمن تقسيم الظاهرة إلى أجزائها المكونة لها – خطوط الماء والتيارات الدائرية للدوامات . ولكنه فى الوقت نفسه يحتفظ بالصورة الكاملة والرؤية التحليلية والتجميعية . وهكذا فإنه بالنسبة لكل المجالات الفردية المنفصلة لمعرفة علم الطبيعة، قدم دافنشى صورة موحدة للعالم: نظرية لنشأة الضرورة وقانون الانسجام اللذين خلقهما الله" .
وانطلاقاً من هذا يرى بعض الباحثين أن دافنشى: " كان عبقرية تكنولوجية لا مثيل لها، ففي أعماله تتحول التقنية إلى تكنولوجيا، تحولا تعبر عنه أقواله حول الأهمية المطلقة للتجربة، التي يدعى هو أنه تلميذها بالنسبة إلى التأمل الفلسفى وإلى المعرفة الكتبية، والتي ليست على الأقل إلا قاعدة لبناء النظرية التى تحل محلها وتخالفها، تحول نادى به تصريحه الشهير القائل بأن الميكانيكا هى فردوس الرياضيات، حيث تعطى الرياضيات كل ثمارها، الميكانيكا تتحول من فن تجريبى إلى علم تطبيقى، والتالي إلى علم مغلق أمام كل أولئك الذين ليسوا مهندسين، تحول حققته مشاريعه الآلية التى سبقت زمنه، والتى لا تقدم لنا صوراً كما تقدم المجموعات التقنية من القرن الخامس عشر والسادس عشر، بل مشاريعاً محسوبة ومنجزة بالمقاييس مثل الرسوم الجيومترية .
وتبين مذكرات دافنشى ذلك؛ حيث تحوى دراسات وبحوث تجريبية قيمة في مجال الهندسة الميكانيكية، ومن بين هذه الدراسات والأبحاث أنه وصف وبين بالرسم كثير من الاقتراحات للمخترعات الحربية التى تشمل الدبابات والمدافع والبنادق .
ومما يدل على ذلك تلك الرسالة التى أرسلها إلى الأمير" لود فيكو سفورزا " والتى بين مواهبه فى مجال الهندسة الحربية، حيث يقول فيها: " سيدي الأجل الأفخم، لقد اطلعت الآن إطلاعاً كافياً على جميع البراهين التى يتقدم كل أولئك الذين يحسبون أنفسهم أساتذة فى أدوات الحرب، فتبين لي أن اختراع هذه الآلات السالفة الذكر، واستخدامها لا يختلفان فى شئ عن الآلات والطرق التى تستخدم الآن، وقد جرأني هذا على أن أتصل بعظمتكم دون أن أبغى فقط الإساءة إلى أحد غيري، لكي أكشف لكم عما عندي من الأسرار، ثم أعرض عليكم بعدئذ، إذا سركم هذا أن أشرح لكم شرحا وافيا فى الوقت الذى يوائمكم جميع الأمور التى أوجزها فى هذه الرسالة، وهى على النحو التالي:-
1- إنى أستطيع بناء جسور نقالة عظيمة الفائدة فى مطاردة العدو أثناء الحرب أو الفرار منه بنجاح. وهى جسور خفيفة وقوية فى آن واحد، كما يسهل فكها وتركيبها بسرعة فائقة.
2- فى حالات الحصار المضروب على قلعة للأعداء يمكنني بوسائلي الخاصة، تفريغ المياه التى تملأ الحفر والخنادق من حولها. وعندي لهذا الغرض آلات حديدية وسلالم تنفع فى تسلق الجدران العالية.
3- إذا كان هناك نهر يمنع الاشتباك بين جيشين، فأنا أستطيع تغيير مجرى النهر وتحويله ضد العدو . كما أحسن حفر الخنادق والأنفاق تحت الأرض بحيث يتمكن المهاجمون من بلوغ القلعة المحاصرة فى سرية تامة ومباغتة العدو من الداخل .
4- أستطيع بناء مركبات مصفحة بالحديد ومجهزة بالمدافع وقاذفات النيران . كما أن بمقدوري صناعة قنابل يدوية محرقة تلتهم جنود العدو عند الهجوم .
5- فى أيام السلم أستطيع أن أحوز رضاكم التام فيما يختص بتشييد العمارات والأبنية والجسور فوق الأنهار وإقامة السدود ومد الأقنية الصالحة للري. وبوسعكم أن تتأكدوا من ذلك .
وبناء على ذلك يذكر بعض الباحثين أن دافنشى قد رحل إلى مدينة " ميلانو" بعد أن رد عليه الحاكم مشجعاً . وبدأ عمله هناك كمستشار فني لأعمال استكمال " كاتدرائية ميلانو"، ثم قام بتصميم بعض الآلات التى كان قد وعد لود فيكو سفورزا بها .
ويذكر " ول ديورانت " في كتابه "قصة الحضارة"، أن دافنشى فكر فى وضع كتاب يبين كيف تصد الجيوش بقوة الفيضان الناشئ من إطلاق المياه، وكتاب يبين كيفية إغراق الجيوش بسد المياه التى تجرى فى الوديان، ووضع تصميماً لأدوات تقذف بطريقة آلية وابلاً من السهام من سطح دوار، ولرفع المدافع على عربات، وإسقاط سلم مزدحم بقوة محاصرة تسلق الجدران، وأغفل " بورجيا " معظم هذه الأدوات لأنه ظنها عملية، واكتفى منها بتجربتين أو ثلاث فى حصار " تشيري" عام 1503 .
واعتمدت طريقة دافنشى على تحويل كل مشكلة تصادفه إلى فحص منطقي للمبادئ الأساسية الخاصة بها، سعياً وراء الحصول على الهيئة المثلي لطريقة الحل . ويتضح ذلك حين اشتدت رغبته فى استئناف طريقة عمل من المحامل والوصلات والتروس، وغير ذلك من آليات نقل الحركة الميكانيكية.
ولم تقتصر جهود دافنشى على ابتكار الآلات الحربية، بل كانت له إسهامات أخرى فى العلوم الميكانيكية، منها كما يذكر بعض الباحثين أنه عمل فى ميلانو مهـندساً للهيـدورليكا، حيـث قام بتعديل بوابات الأهوسة المقامة على القنوات ( عن طريق إنشائها بزوايا محدودة للصمود فى مواجهه الماء)، وخاصة أهوسة قناة " ماريتزانا "، وقد انبهر دائماً بالقدرات الهائلة للحياة الجارفة . كما صور فى لاسكتشاته عشرات الآلات التى أدخل عليها تحسينات " .
وامتد نشاطه إلى تخطيط بعض المدن، وقد كتب فى ذلك يقول: "يجب أن تقام المدينة إلى جانب نهر لا تعكر مياهه الأمطار، يجب أن يكون ارتفاع أبنية هذه المدينة فى مستوى واحد، ويجب أن يدخلها النور والهواء وتسودها النظافة وتنشأ فيها ميادين فسيحة واسعة .
ثم يستطرد فيقول: ويجب أن تكون فى هذه المدينة نوعان من الطرق: طرق مرتفعة أو معلقة تزدان بنوع من الأناقة، وطرق منخفضة أو سراديب تسير تحت الأرض ترتفع رويداً رويداً عن المياه الصافية، ويرتفع منها الطين المتراكم باستمرار بواسطة الكراكات والمجاريف .
وكان دافنشى يتعمق فى رسومه إلى أحط حاجيات المعيشة، وكان يصمم الغرف موزعة أحسن توزيع، بحيث يدخلها النور والهواء، ويضع لها مدخنة تبقى الأخشاب مستعرة على الدوام .
وبجانب اهتمام دافنشى بإصلاح البيئة، كانت له اسهامات علمية فى الكشف عن آلات أخرى منها كما يذكر كراوذر أنه صنع آلات لخيوط بأشكال لولبية، وسار من خلال التجربة إلى الطريق الصحيح الموصل لاختراع الساقية، وأبتكر كماحات (فرامل ) ذوات سيور، وترساً لمضاعفة سرعة الحركة ثلاثة أضعاف، ومفتاحا مضبباً قابلاً للضغط ، وترس آلة للف المعادن وتدويرها، وقاعدة متحركة لآلة طباعة، وترساً ينغلق من تلقاء نفسه لرفع سلم . وأحياناً فكر دافنشى فى تعديل الآلة البخارية التى قال بها " هيرو الاسكندرى ". كما اثبت بالتجربة كيف يستطيع الإنسان بالضغط فى مدفع أن يرمى قذيفة من الحديد على مدى ياردة . وأبتكر وسيلة للف الخيط وتوزيعه بالتساوي على مغزل دوارا ومقص ينفتح بحركة واحدة من حركات اليد.
هذا بالإضافة إلى أنه وضع تصميماً لمرابط الخيول التى يمكن حفظها نظيفة وللمداخن التى تدور مع الهواء كى لا يدخل الدخان الحجرات، كما وضع تعديلات متقنة لآلات النسيج، وكانت مقترحاته ورسوما ته تشمل ألآت لصنع الحبال وآلات خيوط الحرير، وقطع الأقمشة، وآلة لإزالة الوبر، ومقص الحرير والأقمشة، وقبعات الصوف.
من ناحية أخرى، فقد كان لتقدير دافنشى للميكانيكا أثره الفعال فى أن يقوم بدراسات تجريبية فى أصول هذا العلم من استاتيكا وديناميكا. ففي مجال الاستاتيكا بحث دافنشى فى مركز الثقل، وفى مبدأ الرافعة وجمع للقوى وتحليلها، وقد كان دافنشى على علم بما توصل إليه أرسطو وأرشميدس فى هذا المجال .
فمثلاً حول مركز الثقل قام دافنشى بدراسات تجريبية توصل من خلالها إلى أن مركز الطبيعي يقسم الجسم إلى جزأين متساويين، فهو يوضح ذلك فيقول: " يستقر مركز الثقل لكل جسم معلق تحت نقطة ارتكازه، وبذلك يطلق اسم الخط المركزي على الخط المستقيم الذى يتصوره المرء ممتدا من الجسم .
كما كان دافنشى على بينة من أن مركز الثقل يمكن أن يقع خارج الجسم نفسه، حيث يقول: " يحدث أحياناً أن يوجد مركز الثقل خارج الثقل، أو بعبارة أخرى فى غير نطاق المادة أى الهواء؛ كما توصل دافنشى أيضاً إلى الحقيقة القائلة بوجوب وقوع مركز ثقل داخل نطاق قاعدته كشرط أساسي لتوافر حالة الاتزان له، وفى هذا يقول: " تتناسب الأوزان أو القوى تناسباً عكسياً مع أطوال أذرعتها مقاسه من نقطة الارتكاز الرافعة عندما تكون المجموعة فى حالة الاتزان؛ كما عرف دافنشى مبدأ الرافعة الذى نادى به أرشميدس، وحاول أن يصوغ قانونه، فأكد بأنه بقوم على بديهيتين:-
الأولى: أن الجسمين المتساويين يكونان متساويين وزنا إذا علقا على بعدين متساويين من نقطة الارتكاز.
الثانية: أنهما إذا لم يكونا على بعدين متساويين من نقطة الارتكاز، فإن أبعدهما يهوى إلى أسفل .
وبعد أن صاغ دافنشى مبدأ الرافعة الذى قال به أرشميدس، عرج إلى تطبيقاته، ومنها مثلاً الموازيين ودارة اللف، أو المرفاع الصغير، وفيها يحصل على ما يعرف بالفائدة الميكانيكية، حيث نسلط قوة صغيرة نسبياً لنتغلب على قوة أكبر، وقد أولى دافنشى عناية خاصة للموازين ذات التدرجات التى يمكن قراءتها معرفة الوزن المطلوب مباشرة، وطبق هذه الفكرة فى قياس درجة رطوبة الهواء، حيث يزيد الوزن على الكفة التى تحمل المادة الممتصة للرطوبة، وبذلك يمكن تحديد كميتها.
ومن ناحية أخرى تناول دافنشى فى مذكراته دراسة مسألة جمع قوتين أو سرعتين فى اتجاهين، كما تعرض أيضا للمسألة العكسية، وهى تحليل قوة ما إلى قوتين فى اتجاهين معينين .
ويؤكد الدكتور "جلال شوقي "، أن أرسطو قد توصل إلى إيجاد محصلة قوتين متعامدتين على بعضهما البعض منذ زمن بعيد، ولكن دافنشى لم يقصر دراسته على هذه الحالة الخاصة، وإنما تعداها إلى الحالة العامة التي تتخذ فيها إحدى القوتين – أي وضع مائل مع القوة الأخرى . وقد وقف دافنشى على فكرة وجود قوة محصلة تحدث نفس تأثير القوتين مجتمعتين، واستعان فى حل مسألة تحليل القوة برافعة افتراضية في وضع متعامد مع خط عمل القوة المراد تحليلها، وبذلك يكون دافنشى أول من أدخل فكرة العزم فى الاستاتيكا، كما أنه أول من توصل إلى مركبات القوة عن الشد في الحبال الحاملة للثقل".
وفى مجال الديناميكا، يعتبر دافنشى بحق من رواد علم الديناميكا، إذ كانت الدراسات السابقة لعصره تتناول أساساً علم الاستاتيكا، ومن ثم فقد عمل دافنشى فى حقل بكر كان له فيه فضل واضح، وقد تعرض دافنشى للقوانين التى تنظم حركة الأجسام، واكتشف بالفعل قانونين من قوانين الحركة الثلاث التى نعرفها اليوم، وذلك قبل أن ينشرها اسحق نيوتن فى كتابه بحوالى مائتي عام . كما تناول دافنشى بالدراسة أيضاً حالة خاصة من القوة هى قوة الجاذبية.
حقاً لقد تعرض دافنشى للقوانين التى تنظم حركة الأجسام، فاستنتج بالتجربة أن الجسم لا يتحرك من تلقاء نفسه، وإنما يحركه غيره، وجميع أنواع الحركة تميل إلى الاستمرار، أو أن الجسم المتحرك يستمر فى حركته ما دام واقعاً تحت تأثير المتحرك . كما توصل دافنشى بالتجربة أيضا إلى أنه إذا تحرك جسم تحت تأثير قوة مسافة معينة فى زمن محدد، فإن نفس القوة ستجعل جسما له نصف الكتلة بتحرك ضعف المسافة البادئة فى نفس الزمن .
كما توصل دافنشى بالتجربة إلى أن لكل فعل رد فعل مساوي له في المقدار ومضاد له فى الاتجاه، وقد أوضح ذلك عند تحليله لعمل الباراشوت، حيث قال: " أن مقاومة الجسم للهواء تعادل مقاومة الهواء للجسم. أنظر كيف يستطيع النسر أن يحلق فى أجواء شديد الخلخلة بضرب أجنحته فيه. شاهد أيضاً كيف يملئ الهواء المتحرك فوق البحر الشرع المنتفخة، وكيف تسير السفن ذات الحمولات الكبيرة، من هذه الأمثلة وللأسباب المبينة قد يستطيع كيف يتغلب على مقاومة الهواء، وينجح فى غزوه ورفع نفسه فوقه " ؛ كما تحدث دافنشى عن حالة خاصة من القوة هى قوة الجاذبية، تلك القوة التى تؤدى إلى سقوط الأجسام على مركز الأرض متبعة فى ذلك أقصر الطرق وهو الخط المستقيم، فكتب عن سقوط الأجسام قائلاً: " إن الجسم الذى لا يعوقه عائق يتخذ أقصر طريق فى سقوطه على الأرض، وفى الهواء منتظم الكثافة تزاد سرعة حركة الجسم فى سقوطه من لحظة إلى أخرى " .
ويذكر الدكتور " جلال شوقي" بأن دافنشى قد أجرى تجربة بإلقاء كتلة ثقيلة من أحد الأبراج، فلاحظ أن الأجسام الساقطة تحيد بعض الشئ عن موضع تلاقى الخط الرأسي المسقط من البداية إلى الأرض، وقد وجد أن هذا الانحراف يأخذ اتجاهاً شرقياً، وقد عزا دافنشى وصف مسار الجسم الساقط بأنه يجمع بين حركة خطية مستقيمة، وأخرى منحنية، وسبب الحركة الخطية المستقيمة إلى مركز الأرض، وأنها حركة خطية فى ذاتها، وفى كل نقطة من المسار.
كما بحث دافنشى فى القوى التى تؤثر على جسم موضوع على سطح مائل، وبين أن الجاذبية تؤثر على الجسم فى اتجاهين، احدهما عمودي على المستوى المائل، والآخر فى اتجاه المستوى المائل . كما بين أيضاً أن نسبة سرعة كرة منزلقة على مستوى مائل إلى سرعة جسم ساقط لا يعوقه عائق، كنسبة ارتفاع الجسم الساقط إلى طول المستوى المائل .
مما سبق يتضح لنا أن دعوة دافنشى إلى تطبيق العلم على مجال الصناعات تمثل أول مظهر من مظاهر التحول الفلسفي فى عصر النهضة الذى هيأ الأذهان قبل فرنسيس بيكون لقبول فكرة الآلية ووضع الأساس الفكرى للعصر الصناعي الحديث .
د. محمود محمد علي
قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط
أزمة العراق سيادياً
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عبد الحسين شعبان
مشروع معهد العلمين وملتقى بحر العلوم للحوار
توطئة: حسناً فعل معهد العلمين وملتقى بحر العلوم للحوار، حين حاولا استشراف "أزمة العراق سيادياً" وذلك من خلال مناقشة رؤية خمسة رؤساء سابقين لمجلس الوزراء تعاقبوا على سدت المسؤولية بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، العام 2003، وهم كل من: د. إياد علاوي ود. ابراهيم الاشيقر (الجعفري) وأ. نوري المالكي ود. حيدر العبادي وأ. عادل عبد المهدي.
وكان سدى هذه المبادرة ولحمتها هو موضوع السيادة، سواء بإجاباتهم أو بمشاركة رؤساء مجلس النواب السابقين أيضاً، إضافة إلى شخصيات أكاديمية وثقافية وسياسية، والهدف من ذلك تقديم رؤية نقدية تحليلية للإجابات المذكورة، على أن تلتئم ندوة لجميع المشاركين للتوصل إلى استنتاجات وتوصيات ليصار إلى تعميمها على أصحاب القرار، ثم لنشرها كاملة باللغتين العربية والانكليزية.
المبادرة
تكتسب هذه المبادرة أهمية بالغة للأسباب التالية:
أولاً- إنها تعيد طرح القضايا ذات الطبيعة الإشكالية النظرية والعملية في ما يتعلّق بالسيادة ارتباطاً بالنظام السياسي وآفاق العملية السياسية التي تأسست على قاعدته، خصوصاً بعد حركة الاحتجاج الشعبية التي بدأت في 1 تشرين الأول (أكتوبر) العام 2019، والتي ما تزال مستمرة.
وثانياً- إنها تنشغل بموضوع السيادة ومدى تحققها عملياً بعد أكثر من 17 عاماً من الاحتلال، وهو أمر مهم ومطلوب، خصوصاً بعد تصويت مجلس النواب على إخراج القوات الأجنبية كافة، إثر مقتل قاسم سليماني رئيس فيلق القدس الإيراني وأبو مهدي المهندس أحد أبرز مسؤولي الحشد الشعبي يوم 3 يناير (كانون الثاني) 2020 على يد القوات الأمريكية، مع الأخذ بنظر الاعتبار المواقف المتعارضة من وجود القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي بشكل خاص، والقوات الأجنبية بشكل عام، بما فيها توغل القوات العسكرية التركية المستمر والمتكرر، إضافة إلى قواعدها العسكرية التي أقامتها في العراق، ناهيك عن التغلغل والنفوذ الإيرانيين.
وثالثاً- إنها تضع هدفاً لهذه المراجعات يتلخص في إمكانية التوصّل إلى مشتركات واستنتاجات وتوصيات، لاستعادة السيادة العراقية التي ظلّت منقوصة ومجروحة ومعوّمة منذ غزو قوات النظام السابق للكويت في 2 آب (أغسطس) 1990، وحرب قوات التحالف الدولي في 17 كانون الثاني (يناير) 1991 لتحرير الكويت، وما أعقبها من فرض حصار دولي شامل على العراق، حيث زاد عدد القرارات التي صدرت بحقه أكثر من 75 قراراً دولياً (نحو 60 قراراً منها قبل الاحتلال والبقية بعده) ويعدّ بعضها خرقاً سافراً للسيادة وبعضها الآخر تقييداً لها أو انتقاصاً منها أو تعويماً لممارستها.
ورابعاً- إنها تشتبك باتفاقية الإطار الاستراتيجي التي تم توقيعها في الوقت نفسه مع الاتفاقية العراقية - الأمريكية لعام 2008 والتي انتهى مفعولها في 31/12/2011، حيث اضطرّت القوات الأمريكية إلى الانسحاب من العراق لأسباب عديدة، منها ما تكبدّته من خسائر بشرية ومادية ومعنوية، ناهيك عن ضغط الرأي العام الأمريكي والعالمي، إضافة إلى الأزمة المالية والاقتصادية العالمية وانعكاساتها على الولايات المتحدة .
السيادة والقرارات الدولية
إذا كان موضوع السيادة وممارستها قد ورد مشوشاً في الإجابات المختلفة، سواءً عدم المجيء على ذكره أو الإتيان عليه بصفته موضوعاً "نظرياً"، وأحياناً اختلط مع مواضيع أخرى أو أنه ارتبط بمفهوم " المكوّنات" وبعض تفسيرات الدستور المختلفة، دون التوقف عند الجوانب العملية التطبيقية (البراكسيس)، فإن مثل تلك الالتباسات القانونية الفقهية والسياسية وردت هي الأخرى في القرارات الدولية التي أصدرها مجلس الأمن الدولي، بدءًا من القرار 1483 الصادر في 22 أيار (مايو) 2003، والذي أعلن انتهاء العمليات الحربية وتعامل مع الولايات المتحدة وبريطانيا بوصفهما دولتين قائمتين بالاحتلال، والقرار 1500 الذي صدر في 14 آب (أغسطس) 2003 الذي اعتبر مجلس الحكم الانتقالي "خطوة مهمة في تشكيل حكومة عراقية معترف بها دولياً وتتولّى ممارسة السيادة "، أو القرارات الأخرى بما فيها القرار الذي سبقه ونعني به القرار 1490 الصادر في 3 تموز (يوليو) 2003، أو القرارات التي تلته، ولاسيّما القرار 1511 الصادر في 16 تشرين الأول (اكتوبر) أو القرار 1518 الصادر في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2003 وجميعها صدرت ضمن الفصل السابع.
كما صدر القرار 1546 في 8 حزيران (يونيو) 2004 ضمن الفصل السابع أيضاً (بعد إلغاء مجلس الحكم الانتقالي ) ودعا إلى حكومة عراقية مؤقتة مستقلة وتامة السيادة لها كامل المسؤولية والسلطة بحلول 30 حزيران (يونيو) 2004، لكن القوات المحتلة استمرت في العراق بامتيازاتها وحصاناتها الكاملة بجيوشها والمتعاقدين معها، علماً بأن القرارات السابقة تعاملت مع القوات المحتلة نظرياً على أقل تقدير، بوصفها المسؤولة عن إدارة العراق وضمن الفصل السابع الخاص بالعقوبات (من المادة 39 إلى 42 من ميثاق الأمم المتحدة)، إلّا أن صدور القرار 1546 أعاد وضع الفصل السابع قيداً جديداً في عنق العراق المقيّد أساساً بنحو 60 قراراً كانت قد صدرت قبل الاحتلال كلّها كانت ضمن الفصل السابع، باستثناء القرار 688 الذي صدر في 5 نيسان (أبريل) 1991 وهو القرار اليتيم والتائه والمنسي من سلسلة القرارات التي أصدرها مجلس الأمن الدولي، وهو القرار الخاص بوقف القمع الذي تتعرض له المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق وكفالة احترام حقوق الإنسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين.
إذا كان العراق قد استمر في الرضوخ مكرهاً لتنفيذ الالتزامات الدولية، فإن المحتل تحرر من التزاماته بموجب اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها وأصبح حرّاً طليقاً من القيود، بزعم مطاردة الإرهاب الدولي الذي فتحت الحدود أمامه، حيث تم تمديد مهمة القوات الأجنبية بالقرارات 1637 في 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 2005 و1723 في 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 2006 والقرار 1790 الصادر في 18/12/2007 الذي مدّد بقاء القوات الأجنبية إلى 31 كانون الأول (ديسمبر) 2008.
وقد تغيّرت الوضعية القانونية للقوات الأمريكية التي ضغطت لتوقيع اتفاقية العام 2008 لتكريس شرعية وجودها، فبعد أن كانت "قوات محتلة" تحولت إلى فريق في قوة متعددة الجنسيات بقيادتها متعاقدة مع الحكومة العراقية، أي أن "الاحتلال العسكري" تحوّل إلى "احتلال تعاقدي" أو تعاهدي، وامتلكت القوات الأمريكية حرّية استخدام الأراضي والأجواء والممرات المائية لمواجهة أي خطر يتهدّد السلم والأمن الدوليين، أو يعرض الحكومة العراقية أو دستورها ونظامها الديمقراطي للتهديد، فضلاً عن مواجهة الإرهاب الدولي.
وهكذا أنشأت عدداً من القواعد العسكرية وتصرّفت بحرّية بما فيها القيام بارتكابات شنيعة لحقوق الإنسان، سواء في السجون أو من خلال المواجهات المباشرة تحت زعم ملاحقة الإرهابيين دون الحاجة إلى اتباع الإجراءات التي يتطلبها وجود قوات عسكرية في أراضي دولة أجنبية متعاقدة معها، الأمر الذي يتنافى مع قانون المعاهدات والاتفاقيات الدولية، ولاسيّما اتفاقية فيينا حول قانون المعاهدات لعام 1969 التي تفترض أن يكون الاتفاق بين طرفين متكافئين وعلى أساس الإرادة الحرة دون أن يشوبه أحد عيوب الرضا، وليس كما هو واقع الحال بين طرفين أحدهما قوي ومحتل والآخر ضعيف ومحتلة أراضيه.
وبالطبع فقد تجاوزت الولايات المتحدة على قواعد القانون الدولي بما فيها المتعلّقة باتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لبروتوكولي جنيف لعام 1977 المتعلقة بالحرب وآثارها؛ الأول- الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، والثاني- الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية، مستندة بذلك إلى قواعد القانون الدولي التقليدي الذي أصبح من تراث الماضي والذي يقوم على مفهوم "الحرب الوقائية" أو " الحرب الاستباقية"، علماً بأن القرار 1373 الذي صدر في 28 أيلول (سبتمبر) 2001 عقب أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية الإجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة إثر تفجير برجي التجارة العالميين، قد أعاده إلى الواجهة، بأن أعطى الحق في شن الحرب فيما إذا شعرت الدولة أن ثمة تهديداً إرهابياً وشيك الوقوع أو محتمل.
واستندت واشنطن إلى ذلك حين احتلت أفغانستان العام 2001 والعراق العام 2003، بزعم العلاقة بالإرهاب الدولي، إضافة إلى امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، بما فيها غاز الانثركس، الذي اتضح زيف تلك الدعاوى، وهو ما كشف عنه الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش بعد أن مشّطت القوات الأمريكية العراق طولاً وعرضاً.
السيادة الداخلية
وإذا كان ذلك يشمل مفهوم السيادة الخارجية للدولة العراقية، فإن من يمتلك السيادة الداخلية في العراق أخضع لتوزيع طائفي وإثني منذ مجلس الحكم الانتقالي وكرّس للأسف قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية الصادر في 8 آذار (مارس) من قبل 2004 والذي ثُبّت في الدستور الدائم المستفتى عليه في 15 تشرين الأول (اكتوبر) العام 2005، والذي تحدث عن ما يسمى بالمكوّنات، وذلك في المقدمة (مرتان) وفي المواد 9 و12 و49 و125 و142، وليس ذلك سوى نظام سياسي يقوم على مبدأ المحاصصة والتقاسم الوظيفي.
وأعتقد أن ذلك بدأ يتحسّس منه العديد من القوى والشخصيات، بل إن بعضهم يعلن براءته منه ويحاول البحث عن الممكنات لتغييره أو لوضع حد له، لأنه في الواقع أوقع البلاد في ورطة حقيقية أنتجت نظاماً مشوّها يقوم على الزبائنية السياسية والحصول على المغانم، لاسيّما في ظلّ ضعف مرجعية الدولة وعدم تطبيق حكم القانون وولّدت هذه المحاصصة: الفساد المالي والإداري واستشراء العنف والإرهاب، لاسيّما بشيوع ظواهر التعصّب ووليده التطرّف التي لعبت سنوات الاستبداد والدكتاتورية في ظل النظام السابق، إضافة إلى الحروب والحصار دوراً كبيراً في تغذيتها، خصوصاً بانتشار السلاح والاستقواء به عبر ميليشيات وقوى مسلحة باستخدام أجهزة الدولة أحياناً أو قوى منفلتة من خارجها.
وبالطبع كلّما كانت الدولة صاحبة سيادة كاملة كلّما تمكنت من اختيار نظامها السياسي والاجتماعي بحرية كاملة بما فيها السيطرة على الموارد الاقتصادية، والعكس صحيح أيضاً كلما كانت الدولة مثلومة السيادة أو منتقصة أو مبتورة، كلّما اضطرّت للرضوخ للقوى المتنفّذة فيها، سواء على المستوى الخارجي الإقليمي أم الدولي أم على المستوى الداخلي، دون أن يعني ذلك الانعزال عن المحيط الدولي والعلاقات الدولية، التي ستترك تأثيراتها سلباً وإيجاباً على سيادة الدولة واستقلالها.
ما السبيل لاستعادة واستكمال السيادة؟
لاستعادة السيادة كاملة على المستوى الخارجي يحتاج الأمر إلى إعادة النظر بعلاقتنا الدولية، فعلى الرغم من وجود قوات أمريكية ودولية بطلب من الحكومة العراقية إثر هيمنة تنظيم داعش الإرهابي على الموصل في 10 حزيران (يونيو) 2014، فإنه بانتهاء هذه المهمة ينبغي انتهاء وجود هذه القوات، خصوصاً وأن البرلمان اتخذ قراراً بذلك بتاريخ 5/1/2020، ولا بدّ من تحديد سقف زمني لتنفيذه وإلّا بقي الأمر مفتوحاً، علماً بأن القوات الأمريكية مارست منذ العام 2003 وحتى الآن أعمالاً تتنافى والسيادة العراقية، بما فيها القيام ببعض الأعمال العسكرية بالضد من إرادة الدولة العراقية التي لم تحسب لها أي حساب، كما حصل في تحليق طائرات فوق مطار بغداد وتعقب عناصر تعتبرها إرهابية، منهم من له مسؤوليات في أجهزة الدولة العراقية .
وللأسف فإن الموقف من وجود القوات الأمريكية ليس موحداً، فالتحالف الكردستاني لم يحضر في التصويت على جلاء القوات الأجنبية، وكذلك التحالفات والقوى السنيّة بأسمائها المختلفة، بل على العكس من ذلك، فإنها تعتقد أن وجود القوات الأمريكية ضرورة لمواجهة داعش من جهة وتدريب القوات العراقية من جهة أخرى، فضلاً عن وجودها سيكون عامل تقليص للنفوذ الإيراني في العراق، وغيابها سيعزز من دور ما يسمى بالقوى الشيعية والنفوذ الإيراني المتعاظم، سواء أعلنت ذلك أم لم تعلن لكن ذلك واقع الحال، في حين أن القوى القريبة من إيران والتي يسمى بعضها بالولائية تصرّ على خروج هذه القوات، بل ويقوم بعضها بقصف مواقع للقوات الأمريكية بما فيها السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء، خارج إطار القوانين والأعراف الدبلوماسية والتزامات الحكومة العراقية التي يدخلها في حالة حرج وتناقض.
ومن مظاهر انخرام السيادة العراقية هو زيارات مسؤولين أمريكان بمن فيهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للقاعدة العسكرية الأمريكية في عين الأسد شمال بغداد في 24 ديسمبر (كانون الأول) 2018 دون إشعار الحكومة العراقية، ناهيك عن طلب إذنها، وكما زار وزير الخارجية مارك بومبيو القاعدة يوم 28 ديسمبر (كانون الأول) 2019، والأمر مستمر ومتكرر منذ العام 2003 ولحد الآن.
ولاستكمال السيادة العراقية على جميع الأراضي العراقية فيتطلب الأمر أيضاً الطلب من تركيا مغادرة الأراضي العراقية وتفكيك قواعدها، وليس حجة وجود قواعد حزب العمال الكردستاني PKK سوى ذريعة لا يمكن قبولها لأنها تتعارض مع مبادئ السيادة، ولابدّ من إعادة النظر بجميع الاتفاقيات التي تسمح للقوات التركية بالتسلل داخل الأراضي العراقية منذ العام 1984. كما إن استكمال السيادة يتطلب إعادة بحث الاتفاقيات المائية مع تركيا بما يضمن تأمين حقوق العراق وحصته وفقاً لقواعد القانون الدولي فيما يتعلق بالأنهار الدولية، ومثل هذا الأمر ينطبق على إيران، وبسبب استفراد الدولتين واستغلالهما ضعف العراق وتعويم سيادته قامتا بعدد من الإجراءات التي من شأنها حرمان العراق من موارده المائية بما يلحق ضرراً بالغاً بالسيادة والمصالح الوطنية العراقية.
أما بشأن التغلغل الإيراني الناعم والنفوذ السياسي الهادئ، فلا بدّ من اعتماد استراتيجيات جديدة وفقاً للمصالح العراقية أولاً لكي لا يكون العراق ساحة للصراع الأمريكي - العراقي، وثانياً لكي لا يكون جزءًا من المحاور الإقليمية والدولية المتصارعة، وثالثاً يستطيع أن يقيم علاقات متوازنة مع دول الجوار غير العربي من جهة ومع الدول الأجنبية الأخرى، فضلاً عن إعادة بناء العلاقات العربية على أساس المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة وبروح السلم والأمن والإخاء وعدم الاعتداء وحل المشاكل العالقة بالطرق السلمية والدبلوماسية وفقاً للمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة.
أما بخصوص السيادة الداخلية، فيتطلب إعادة النظر بالنظام السياسي ككل والخطوة الأولى تبدأ من الدستور، إما بإلغائه وسنّ دستور جديد أو بتعديله جذرياً، علماً بأن ما ورد فيه من حقوق وحريات واعتماد مبادئ المواطنة هي أمور جيدة ومتقدّمة، لكنها تقدّم بيد لتقيّد في اليد الأخرى، فضلاً عن العديد من القوانين التي شرّعها البرلمان، والجانب الإجرائي في ذلك اعتماد الآليات الواردة فيه، خصوصاً بإجراء مراجعة شاملة كان لا بدّ من القيام بها خلال أربعة أشهر بعد انتخابات العام 2005 .
والأمر يتعلق أيضاً بعلاقة السلطة الاتحادية بالإقليم من حيث الصلاحيات، بما فيها المواد الخاصة بالنفط وتنازع القوانين على أساس قواعد النظام الفيدرالي المعمول به دولياً في أكثر من 40 بلد، وقد تحتاج هذه الأمور إلى حوار وطني شامل يشارك فيه الجميع من قوى ومنظمات وشخصيات أكاديمية وثقافية وحقوقية ومن مختلف التوجهات الفكرية والاجتماعية، والهدف هو تحقيق السيادة الكاملة وبناء نظام سياسي على أساس المواطنة العابرة للطوائف والإثنيات والحاضنة للتنوّع والقائمة على أساس التكافؤ والمساواة والشراكة والمشاركة والعدل الاجتماعي، وهنا لا بدّ من تحديد الأولويات والتدرج فيهان خصوصاً في ظل إرادة وطنية شاملة .
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
......................
* نشرت هذه المساهمة في كتاب من إعداد وتقديم د. إبراهيم محمد بحر العلوم الموسوم "أزمة العراق سيادياً"، دار العلمين للنشر والعارف للمطبوعات، إصدار ملتقى بحر العلوم للحوار، العراق، الكوفة - النجف الأشرف، 2021 .
والبحث جزء من مشروع يناقش 5 رؤساء وزارات هم : إياد علاّوي وابراهيم الجعفري ونوري المالكي وحيدر العبادي وعادل عبد المهدي ومنظورهم للسيادة، كما يناقش منظور 5 رؤساء برلمان هم : حاجم الحسني و محمود المشهداني و إيّاد السامرّائي و أسامة النجيفي و سليم الجبوري، وشارك في الحوار شخصيات أكاديمية وفكرية وثقافية وسياسية في 5 محاورٍ شملت النظام السياسي والوعي بأهمية العوامل الإقليمية والدولية وإدارتها والمصالح الوطنية والتّوازن الإقليمي الدولي وكيف تعاطت حكومات ما بعد العام 2003 مع مبادئ السيادة.
المراجع النقدية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. ليلى مناتي محمود
إن النقد الادبي عند العرب نشأ عربياً؛ لأن أساس كل نقد هو الذوق الشخصي، تدعمه ملكة تحصل في النفس بدون ممارسة الآثار الأدبية، فلقد وجِدَ النقد الأدبي بصورته الأولى بعد أول مقطوعة شعرية قالها العرب، أي أنه كان ملازماً للشعر،متواجداً بتواجده، متطوراً بتطوره وأن الشعر يثير أنواعاً خاصة من الانفعالات، ومن المؤكد أن تكون هناك استجابات لهذا الانفعال في جانبين سلبي وايجابي،تحكم على الشعر لترفع مستواه، وجعله قابلاً للتدوين والاعجاب. وإن النقد الأدبي توطد واستقر في عهد الطبقات الأولى من اللغويين، عُرفت له مقاييس واصول، وهو ذلك النقد الذي تدعمه اسس نظرية او تطبيقية عامة وقد استعنت ببعض النماذج لمراجع نقدية قديمة، لأنها تساعد قارئ الادب على التواصل مع النص وفهمه، وتعينه على تذوقه واكتشاف جوانب الابداع فيه ويغرس فيه الاحساس بالجمال . ومن اهم تلك المراجع:
أولاـ الشعر والشعراء لابن قتيبة:
1ـ تعريف الكاتب:
هـو محمـد عبـد االله بـن مسـلم بـن قتيبـة الكـوفي الملقـب بالـدينوري نسـبة إلى دينـور الـتي ولي قضـاءها، ولـد في بغـداد وسكن في الكوفة وكان إماما من أئمة الأدب، وفقيها ومحدثا ومؤرخا، قصد البصرة واتصـل بالجـاحظ ثم انتقـل إلى بغـداد وتـوفي فيهـا سـنة (276 هــ / 889م)،" كـان صـادقا في مـا يرويـه، عالمـا باللغـة والنحـو وغريـب القـرآن ومعانيـه والشـعر والفقـه،وكثـير التصنيف والتأليف .
لـه تصـانيف ممتعـة ومفيـدة، تناولت معـارف أهـل زمانـه، قـد حـذا فيهـا حـذو المـبرزين مـن معاصـريه أمثـال: الجـاحظ وأبي حنيفـة الـدينوري، وكان هـم هـؤلاء أن يجعلـوا اللغـة والشـعر والأخبـار في متنـاول الكتـاب،الـذين بـدأ يـذيع صـيتهم ويعلـو شـأنهم إبـان دولة بني العباس .
لم يقتصـر دور ابـن قتيبـة علـى جملـة مـن التصـانيف الأدبيـة واللغويـة الـتي وضـعها والـتي أسـهمت إلى حـد بعيـد في إنمـاء المكتبـة العربيـة وإغنائهـا، بـل كـان مـن المـدافعين عـن السـنة والكتـاب ضـد النزاعـات الفلسـفية والتيـارات الفكريـة الـتي عرفـت في عصره،فاتهمه البعض بالزندقة شأن المارقين في كل عصر المتنطحين للقلة من الأضداد .
ولابـن قتيبـة آثـار كثـيرة قيـل أنهـا ثـلاث مئـة كتـاب في شـتى الموضـوعات منهـا كتـاب " معـاني الشـعر الكبـير" وكتـاب " عيـون الشـعر " وكتـاب " المعـارف " وكتـاب " أدب الكاتـب" كتـاب " الخيـل " وكتـاب " خلـق الإنسـان " وكتـاب " الأشـرية" ... الخ
2ـ تعريف الكتاب:
هـذا الكتـاب مـن مصـادر الأدب الأولى،وممـا أبقـي لنـا حـدثان الـدهر مـن آثـار أئمتنـا الأقـدمين، ألفـه إمـام ثقـة حجـة من أوعية العلم. تناول فيه ابن قتيبة المشهورين من الشعراء فأورد أخبارهم وما يستجاد من شعرهم وما أخذته علـيهم العلمـاء من الغلط والخطأ في ألفـاظهم أو معـانيهم... وكـذلك الـذين يقـع الاحتجـاج بأشـعارهم في الغريـب، وفي النحـو، وفي كتـاب الله (عز وجل) وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
. وهـذا الـذي قصـد إليـه:" ذكـره وكسـد شعــره، وكــان لا يعرفـه إلا بعـض الخواص،فأمـا أقـل مـا ّ فأمــا مـن خفـي اسمــه، وقــل ذكـرت مـن هـذه الطبقـة إذا كنـت لا أعـرف مـنهم إلا القليـل، ولا أعـرف لـذلك القليـل أيضـا أخبـارا " كمـا قـال هـو في ّ خطبة كتابه، وقدم له بمقدمة تنطوي على أبواب في أقسام الشعر، وعيوب الشعر، والإقواء والأكفاء،والعين في الإعراب وأوائل الشعر .
ثانياـ طبقات الشعراء لابن معتز
1ـ التعريف بالكاتب:
أبو العباس عبد االله بن المعتز بـن المتوكـل بـن المعتصـم بـن هـارون الرشـيد مـن الخلفـاء العباسـيين ولـد في سـامرا ولا تعـرف سـنة ميلاده معرفة ثابتة والأرجح كـان سـنة 247 هـ وقـد انصـرف منـذ حداثتـه إلى الدراسـات الأدبيـة فتخـرج علـى جماعـة مـن العلمـاء، نذكر منهم المبرد النحوي البصري والأديب المشهور وأبا العباس ثعلب إمام الكوفيين في النحو واللغـة فكـان ابـن المعتـز مـن الطبقـة ّ المثقفـة ,إن لم تكـن ثقافتـه عميقـة وقـد نظـم الشـعر وهـو في نحـو الثالثـة عشـرة مـن عمـره قتـل ابـن المعتـز سـنة 296 ه بعـد أن اضـطرب علـى خليفـة المقتـدر وعسـكره وبـايعوه بخلافـة ثم عـادوا مـذعنين للمقتـدر، ولم يهنـأ ابـن معتـز بلقـب الخليفـة إلا يومـا أو بعض يوم، فتفرق الناس عنه وقضي عليه خنقا .
وقد أسـلمت المدرسـة البيانيـة في الحكـم والأدب وفي تذوقـه زعامتهـا إلى ابـن المعتـز الـذي ربي في ظـلال النعمـة والحسـب المنيـع وهـو أديـب وشـاعر ذو عاطفـة جياشـة وحـس مرهـف فجـرى أثـر تلـك النعمـة وبـدأ الفـن في أروع صـوره وأجمـل معانيـه وأعـذب 1 فنونه في شعره الذي كان لا يسوغه رغبا ولا رهبا .
2ـ مؤلفات ابن المعتز:
ذ كر أصحاب الكتب التي فيها ترجمة له أن له عدة مؤلفات منها: - كتاب الزهر والرياض - كتاب البديع - مكاتبات الأخوان بالشعر - كتاب الجوارح والصيد - كتاب أشعار الملوك - كتاب الآداب - كتاب على الأخبار - كتاب طبقات الشعراء - كتاب الجامع في الغناء - كتاب في أرجوزة في ذم الصبوح - كتاب السرقات .
3ـ تعريف الكتاب:
طبقـات الشـعراء لابـن المعتـز مـن أهـم الكتـب الـتي وجـدت في تراثنـا الأدبي الرائـع،يعرض ألوانـا مـن الشـعر لطائفـة مـن شعراء الدولة العباسية،ويجمع أشتاتا من أخبارهم ونوادرهم ومالهم من علاقات وصلات . وقـد أصـطلح الأدبـاء علـى أن ينعتـوا الشـعراء العباسـيين بلفـظ المحـدثين ولم يكـن ابـن المعتـز أول مـن افـرد تأليفـا عـن المحدثين وحدهم بل وسـبقه على الاقل استاذه المبرد في كتاب له اسمه الروضة، وسبقه هـارون بـن علـي المـنجم في كتـاب اسمه البارع . يذكر ابن المعتز أن الناس في زمانه كانوا يهتمون بأشعار المحدثين وأخبارهم . وقـد أوجـز فيمـا اشـتهر في عهـده وقصـر اهتمامـه علـى القصـائد والأخبـار الخاصـة بمعرفتهـا ولهـذا كـان كتابـه مـن أعظـم المصادر التي لا يستغنى عنها مـؤرخ أو أديـب ولا نجـد في غـيره مـا اشـتمل عليـه إنـه أثبـت أشـعارا تزيـد عـن ألـف وخمسـمائة بيـت لا توجد في كتاب سواه، لهذا كان تقويم ما صنف منها من أعسر الأمور .
ثالثا:ـ العمدة لابن رشيق:
التعريف بصاحب الكاتب: هو أبو علي الحسن ابن رشيق القيرواني الأزدي، ولد في نهايات القرن الرابع الهجـري في مدينـة (المحمديـة في) المغـرب العربي وكان ذا ميول أدبية فاتحة إلى القراءة، ورغب في الاستزادة مـن علـوم اللغـة والأدب، فرحـل إلى القـيروان ولمـا بلـغ السـابعة عشر، اتصل ثمة بالمعز بن باديس وابنة تيمة وأهل العلم والأدب فاشتهر أمره ونبه ذكره . تتلمذ علي يد أشهر علماء عصره كالقزاز النحوي صاحب (الضرار الشعرية) وعبد الكريم النهشلي صاحب (الممتع في علم الشعر وعمله) وغيرهمـا تـوفي رحمـه االله غـرة ذي القعـدة سـنة 456 هـ عـن سـت وستين سنة . وتعددت جوانب ابن رشيق الأدبيـة والعلميـة ولكـن غلـب عليـه جانـب الشـعر والنقـد ولـه ديـوان شـعر كبـير تناقـل كثـير من المؤلفين بعض قصائده في موضوعات مختلفة . ولا يختلف شعره كثيرا عن شعر معاصريه في موضـوعاته فهـو يغـرق في المـديح والتملـق والمبالغـة في صـفات الممـدوح مـع اصـطناع الظـرف أحيانـا والمبـادرة إلى القـول فيمـا يعـرض مـن موضـوعات أو يقـترح في المجالـس إلى جانـب الغـزل بالمؤنـث والمـذكر ووصف الخمر ومجالس اللهو كما يتفق شعره مع روح عصره في أسلوبه وديباجته وميله إلى الوزان الخفيفـة والرقيقـة والاكثـار مـن 3 التشبيهات والاستعارات، وإن كان لا يميل إلى الصنعة اللفظية كثيرا كالجناس والطباق، ولو انه لم يخل منهما
2ـ مؤلفاته:ـ
ترك ابن رشيق آثار نقدية جلاّ يتصدرها كتابـه (العمـدة في محاسـن الشـعر وآدابـه ونقـده) ولـه أيضـا (قراصـنة الـذهب) الذي صنفه للرد علـى ابـن شـرف الـذي اهـتم ابـن رشـيق بالسـطو علـى آراء أسـتاذه عبـد الكـريم النهشـلي، ولأبـن رشـيق كتـاب (الأنموذج في الشعراء) وهو ترجمة مفصلة لشـعراء القـيروان في عصـره،فضلا عن تلـك الكتـب فلابـن رشـيق عـدد مـن الرسـائل المفقودة .
3ـ تعريف الكتاب:
كتـاب العمـدة يعـد عمـدة دراسـات الشـعر في هـذا القـرن، وقـد قـال عنـه ابـن خلـدون " وهـو الكتـاب الـذي انفـرد بهذه الصناعة وأعطاها حقها ولم يكتب احد فيها قبله ولا بعده مثله" ويقول أحمد أمـين، إنـه بهـذا الكتـاب قـد نقـل النقـد من نقد شاعر خاص أو شعراء معينين كما فعل صاحب الموازنة والوساطة إلى نقد الشعر عامة، فابن رشيق قـد نقـل النقـد مـن المشرق إلى المغرب، وأن النقد بعد العمدة لم يعد حكرا لعلماء العـراق أو الشـام بـل شـارك ابـن رشـيق بكتابـه الكبـير في جهـود هؤلاء.
ويعـرض ابـن رشـيق خطـة كتابـه في المقدمـة فيقـول:(فقـد وجـدت الشــعر أكـبر علـوم العـرب وأوفـر حظـوظ الأدب،وأحرى أن تقبل شـهادته، وتمثـل إرادتـه، ووجـدت النـاس مختلفـين في كثـير منـه، يقـدمون ويـؤخرون ويقلـون ويكثـرون، يبوبـون أبواب مبهمة،و لقبه ألقابا متهمة ,و كل واحد منهم قد ضرب في جهة، وأنتحل مذهبا هو فيه إمـام نفسـه، وشـاهد دعـواه فجمعت أحسن ما قاله كل واحد منهم في كتابه ليكون العمدة في محاسن الشعر وآدابه إن شاء االله تعالى . فهـو لا يـرى أن النـاس اختلفـوا في الشـعر، ووقـف كـل مـنهم منـه موقفـا خاصـا أدلى فيـه برأيـه، وأنـه وقـف علـى كـل مـا قيـل في الشــعر، ومــا بــذل مــن محــاولات و جهــود في فهمــه ونقــده وتبويبــه واطلــع علــى مــذاهب العلمــاء فجمــع آرائهــم ونســق بينهــا وهضمها واختار منها ما كان سديدا في رأيه فصار هذا الكتاب
4ـ قيمة الكتاب:
كتـاب العمــدة كتــاب جليــل القــدر اجتمعــت فيــه الثقافــات العالميــة، وتمازجــت فكــان مــرآة للحركــة النقديــة، والــروح الفلسـفية، والحيـاة الاجتماعيـة عرفـت في ذلـك العصـر، فهـو مـن ثم شـاهد قـيم لمـا بلغـه الفكـر الإنسـاني مـن التشـبع والتحـري وتقصي الحقائق في روح علمية منهجية تتسم بسمة الدقة وسعة الآفاق وغزارة العلم والمعرفة . والكتـاب مرجـع مـن مراجـع الأدب تتجلـى فيـه الـروح الموسـوعية، الـتي طافـت خـلال عصـور الأدب، منـذ فجـره إلى عهـد ابـن رشـيق، وجمعـت مـن شـتى المصـنفات والمجموعـات ومـن شـتى المصـادر والمـوارد، قــدرا عظيمـا مـن الشـعر وأبرزتـه بعـد التنخيـل والمقارنة وإبراز يطمئن إليه العالم والمؤرخ والأدب .
رابعا - دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني:
التعريف بصاحب الكتاب:
هـو أبـو بكـر عبـد القـاهر بـن عبـد الرحمـان بـن محمـد، فارسـي الأصـل، جرجـاني الـدار مـتكلم عـن مـذهب الأشـعري، فقيه على مذهب الشافعي، ولد بجرجـان ولم يبرحهـا حـتى لطلـب العلـم، ولمـا طافـت شـهرته الآفـاق شـدت إليـه الرحـال وحثـت المطي،وظل متصبرا بجرجان يفيد الوافدين عليها إلى أن توفي بجرجان ودفن به سنة 741 هـ . تتلمذ علي يد شيخه أبو الحسين محمد بن الحسن بن عبـد الـوارث الفارسـي ابـن أخـت أبي علـي الفارسـي، وأنـه قـد قـرأ علـى القاضي الجرجاني علي بن عبد العزيز بن الحسن بن علي بـن إسماعيـل الجرجـاني، وقـد قـرأ عليـه وحمـل عنـه الأدب وعلومـه وكـان يفتخر به في مجالسه . أثـار عبـد القـاهر الجرجـاني تشـير بأنـه قـد أحـاط علمـا بمـا صـنفه السـابقون عليـه في علـوم الـدين والفلسـفة والكـلام والأدب و اللغة، وأدلى بدلوه فيما عرضوا له من قضايا ومشاكل،فضلا عن ما حفظ وجمـع لـه مـن شـعره، فيتضـح مـن آثـاره وإحاطتـه بما كتب أبو عمرو بن العلاء،والخليل، ويونس،و الأخفش، وسيبويه، وابن قتيبة، وأبو هلال العسكري .... وغيرهم . وتتلمذ في الفقه على مذهب الشافعي،وفي الكلام على مذهب الأشعري، وغلبت عليه شهرة اللغوي النحوي . تتلمذ علـى يديـه جلـة مـن العلمـاء مثـل علـي بـن يزيـد الفصـحي،وهـو مـن أشـهر تلامذتـه، قيـل عنـه: إنـه النحـوي الحـاذق بمـا اخذ عن عبد القاهر، وأبو النصر احمد بن محمد الشجري، وهو من العلماء المبرزين في اللغة والنحو بعامة . اشتهر عبد القاهر بسعة الصدر، وطول النفس، في مناقشة معاصريه ومؤلفاته هي:
المعنى: وهو شرح مبسوط للإيضاح يقع في ثلاثين مجلد . المقتصد: أقتصد الجرجاني شرح المعنى في مصنفه المقتصد . الإيجاز: هو اختصار أبي علي الفارسي, ووصفه صاحب " كشف الظنون" الكلمة: علق عليه صاحب " الإنباه" بقوله إن عبد القاهر لو شاء لأطالّ . الجمل: وصفه صاحب"كشف الظنون" وصفا يطابق واقعه وللجرجاني كتب أخرى .
(التلخيص - كتاب رسالة الشافعية – كتاب العروض - كتاب أسرا البلاغة - كتاب المختار) تعريف الكتاب: ـ
أ ـ سبب تأليفه:
إن النـاظر إلى كتـاب عبـد القـاهر الجرجـاني يجـد رجـلا يحمـل وسـيفا، لا يـألو أن يشـهره دائمـا في وجـه خصـمه، إلا أن الرجـل طغى عليه حب العلم، ولاسـيما إذا كـان في كتـاب االله، فالقـارئ لكتابـه يلـتمس المنافحـة الـتي يحسـها بيديـه مـن قبـل الجرجـاني في دفاعه عن نظرية النظم على طريقـة المتكلمـين، فـأن عبـد القـاهر الجرجـاني يصـرح أن هنـاك أنـاس قـد سـبقوه في الكـلام علـى وجه الإعجاز بفكر وطريقة لم يعرض لها الجرجاني .
ب ـ من أين اشتق الجرجاني مادته:
الكتـاب قـد ألـف مـن أجـل بيـان وجـه الإعجـاز في القـرآن،إذا فمادتـه الأولى هـي القـرآن، ثم إن عبـد القـاهر اعتمـد على علمين جليلين، وهما:سيبويه والجـاحظ فهـو لم ينتفـع بهمـا، فقـد ذكـر الجرجـاني، أن الخليـل وسـيبويه بلغـا في فقـه النحـو مبلغا لم يسبقهم إليه أحد, ثم ذكر أن الجاحظ بلغ في بابه أي علم الشـعر والمعرفـة جـوهره وطابعـه ومعدنـه، مبلـغ الشـيخين في علم النحو، وتفرد الجاحظ في علم الشعر كتفرد الشيخين في علم معاني النحو .
خامسا - منهاج البلغاء وسراج الأدباء:
تعريف الكاتب:
ولـد أبـو الحسـن القرطـاجني في سـنة (608- هــ 1211 م) بقرطاجنـة واشـتهر بنسـبته إلى مسـقط رأسـه حـتى عـرف بالقرطاجني، وقد نشأ أبو الحسن حازم في وسط ممتاز ذي يسار . حفظ القرآن وتخرج في قراءتـه علـى شـيوخ جلـة مـن قـراء بلـده،وأقبـل مثـل معاصـريه ابـن الآبـار والمخزومـي علـى دراسـة العلـوم الشـرعية واللغويـة واكتملـت عناصـر ثقافتـه فكـان فقيهـا مـالكي المـذهب كوالـده، نحويـا بصـريا كعامـة علمـاء الأنـدلس، فـارق حـازم وطنـه ومسـقط رأسـه مهـاجرا إلى المغـرب، كانـت حياتـه حافلـة بـالأدب والعلـم، زاخـرة بالنشـاط الفكـري في كـل مكان حل به من بلاد الأندلس والمغرب وإفريقية وقد عمر حازم وكانت وفاته ليلـة السـبت 24 رمضـان سـنة (684 /23هـ نوفمبر 1385 م)عن ست وسبعين سنة قضاها في البحث والدرس .
2ـ تعريف الكتاب:
المنهـاج كتـاب بلاغـة، ونقـد تـذكر موضـوعاته المختلفـة المتنوعـة بمصـنفات الرومـاني (384 هـ 944 م)،والقطـابي: (388 /هــ 998 م)، الجرجــاني (474/ هــ 1081 م ـ1082 م) كمــا يكمــل صــنيع كثــير مــن النقــاد أمثــال قدامــة: (337 / هــ 508 م) والأمدي:(371/ هـ 981 م) والخفاجي: (366/ ه 1073م .(وهـو فضـلا عـن ذلـك يتميـز بخصـائص تفـرق بينـه وبـين عامـة المصـنفات مـن نوعـه مـن جهـتي الشـكل والمـادة، ويسـتدعي في أسلوب حازم في المنهاج انتباها خاصا، فهو مقتضب في عرض الإحكام والقواعد خال في الغالب من الشواهد .
وينقســم الكتــاب إلى منــاهج والمــنهج علــى فصــول أو فقــرات طويلــة يســميها علــى التــوالي معلــم، إضــاءة تنــوير أو معرف، إضاءة ... وتتـوالى الإضـاءة فـالتنوير داخـل المعلـم أو المعـرف الواحـد ولـيس ثمـة فـرق عنـده بـين المعلـم والمعـرف، ولا بـين الإضاءة والتنوير بل هي تنويعات في تسمية الأقسام لا تخلو من حذلقة. وبـالرغم مـن الطريقـة الترتيبيـة الـتي أدخلهـا حـازم علـى مصـنفه فجعلـه أقسـامها ومنهاجـا ومعـالم ومعـارف و اضـاءات وتنــويرات، نلمــس في هــذا الكتــاب جوانــب مــن التعقيــد تقــوم في وجــه مطالعــة، فلغــة حــازم مستصــعبة لا يمكــن لمــن يجعــل الاصطلاحات المنطقية النفوذ إلى ما ورائها، كما لا يتسنى لمن لم يألف الاستعمالات الحكمية أن يدرك غرضه منها بسهولة .
سادسا ـ المثل السائر لابن الأثير:
تعريف الكاتب:
هـو أبـو الفـتح نصـر االله بـن أبي الكـرم محمـد بـن عبـد الكـريم بـن عبـد الواحـد الشـيباني، المعـروف بـابن الأثـير الجـرزي، الملقـب بضـياء الـدين. كـان مولـده بجزيـرة ابـن عمـر ونشـأبهـا، وانتقـل مـع والـده إلى الموصـل، وبهـا اشـتغل وحصـل العلـوم، وحفظ كتاب االله الكريم، وكثير من الأحاديث النبوية، وطرفا صالحا من النحو واللغة وعلم البيان وشيئا كثيرا من الأشعار . ثم اتصل بصلاح الدين الأيوبي في مصر، فوصله القاضي الفاضل رئـيس ديوانـه بالعمـل عنـده، ثم طلبـه الملـك الأفضـل نور الدين بن صلاح الدين، وولي عهده بدمشق، فخيره صـلاح الديـن بيــن البقـاء والذهـاب فاختـار الذهـاب، فاستـوزره نـورالديـن وحسنـت حاله عنده . ولما توفي السلطان صلاح الدين، واستقل ولده الملك الأفضـل بمملكـة دمشـق، اسـتقل ضـياء الـدين المـذكور والــوزارة، وردت أمـور الناس إليه، وصار الاعتماد فـي جميـع الأحـوال عليه . وتوفي ابن الأثير سنة (637 / هـ 1239 م) في بغداد وكان قد توجه إليها رسولا من قبل صاحب الموصل . ولابن الأثير من التصانيف
1ـ المثـل السـائر في أدب الكاتـب والشـاعر طبـع في مصـر سـنة 1939 م بتحقيـق محمـد محـي الـدين عبـد الحميـد ثم سـنة 1959 م بتحقيق الدكتورين احمد الحوضي وبدوى طبانة .
2ـ (الوشي المرقوم في حل المنظوم) طبع في بيروت، سنة 1289 هـ .
3ـ (المرصع في الأدبيات) طبع في الأستانة عام 1304 هـ، وفي ألمانية عام 1896م
2ـ تعريف الكتاب:
كتاب المثل السائر يعد في مقدمة كتب البلاغـة الـتي تجمـع التبويـب وحـدد موضـوع كتابـه في عنوانـه، فجعلـه في أدب الكاتـب والشـاعر أي يتـأدب بـه كلاهمـا ومـا ينبغـي أن يتـزود بـه مـن أدوات لإتقـان صـنعته، ويمكـن أن يجمـع إلى ذلـك جانـب النقد بأن يكون النظر في صنعة الكاتب والشاعر وتحليلها وبيان محاسنها أو مواقع القبح فيه . وينحصـر نقـد ابـن الأثـير في كتابـه المشـهور، المثـل السـائر في أدب الكاتـب والشـاعر وهـو كتـاب نظـر فيـه صـاحبه أولا إلى من سبقه من رجال النقد فلم يعجبه إلا الآمدي في "الموازنة " وابن سـنان الخفـاجي في سـر الفصـاحة وقـد رأى أنهمـا أهمـلا أبوابا كما أهملا التعمق في موضوعات تعد في النقد جوهرا .
ومن هناك انتقل ابن الأثير إلى موضوع الكتاب،إذ انه تناول في مقدمة ومقالتين والمقدمة فيها عشرة فصول: علم البيـان آلاتـه وأدواتـه – الحكـم علـى المعـاني – الترجـيح في المعـاني – جوامـع الكلـم – الحكمـة الـتي هـي ضـالة المـؤمن – الحقيقـة والمجـاز – الفصاحة والبلاغة أركان الكتابة – الطريق إلى تعلم الكتابة . وتـدور المقالتـان حـول علـم البيـان - المقالـة الأولى حـول الصـناعة اللفظيـة (اللفظـة المفـردة واللفظـة المركبـة) مـن مثـل السـجع والتجنـيس أو الجنـاس ولـزوم مـالا يلـزم و المنـافرة في الألـف ومـا إلى ذلـك، والمقالـة الثانيـة حـول الصـناعة المعنويـة مـن مثل الاستعارة والتشبيه والتجريد والإيجاز والإطناب وما إلى ذلك . ولقد أورد ابن الكثير من الآثار الأدبيـة وأظهـر رأيـه فيهـا كمـا حمـل موازنـات بـين بعـض الكتـاب والشـعراء مـن مثـل أبي تمام والبحتري والمتنبي فابن الأثير رجل نظر وتطبيق.
الاستاذ المساعد : ليلى مناتي محمود
قراءة في المجموعة الشعرية (صَحِيفَةُ الْمُتَلَمِسّ)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: حيدر عبد الرضا
للشاعر عبد الأمير خليل مراد
التحاور النسقي بين حسية شعرية الوجود واللاوجود في ذوات الأشياء
توطئة:
لعل فضاء القراءة إلى مجموعة قصائد (صحيفة المتلمس) للشاعر عبد الأمير خليل مراد، تقودنا نحو تلك العلاقة النسقية المتأسسة ما بين ثنائية الوجود واللاوجود في ذوات الأشياء احتمالا،وصولا منها إلى استكمال وقائع ضمنية أنا الشاعر / الآخر المرجعي، اقترانا بأسباب القول الشعري وأحواله الحسية المتواشجة وآفاق إجرائية ذاتية موصولة من الوعي المحمول بأيقونة أسئلة ومقاصد المعنى المضمر في علاقات دوال القصيدة . وعند قراءتنا إلى الأنماذج الشعرية في منجز المجموعة، تواجهنا كيفيات ومرجعيات خاصة من أمكانية النص الشعري، وذلك بدءا مما تنتجه دعوات المبعث الدلالي في حدود النظرة الإيحائية في شاعرية النص .
ـ منظور الرؤية ومواجهة الزمن المرجعي
عند قراءتنا إلى قصيدة (صحيفة المتلمس) تواجهنا مثالية العلاقة المرتبطة ما بين خاصية الأنا الشعرية وأفق أسفارها في مركبات الأطلال من التفاصيل والاستعارات المتندرة في بواعث الأحساس الفاحص في ملفات حالات القصيدة:
كَمْ مرَّ مِنَ الأَزمانْ
وَأنا كَصيّادٍ يُبْحِرُ في الَمخْطوطاتِ
(مَخْطوطاتٍ للحبِّ وأخرى للمَوتِ)
أُحْصِي الُمدنُنَ الباقيةَ (بابلَ، دلمونَ، الحيرةَ، سومرَ
وَأكدْ)
وَالمُدنَ الزائلةَ (نَحْنُ)
وَتاريخَ الأشخاصِ (مُلُوكاً، صَعَاليكَ، غُلاةً،
شُعراء) . / ص80
إذا تعاملنا مع هذه المقاطع الأولى من النص، على أساس من أنها مخطوطة في مؤشرات (الذاكرة السير ذاتية / وثيقة الأمكنة) فلربما قد لا نقف على واصلة العلاقة الشعرية التامة مع مرجعية مخيلة الأماكن إلا من زوايا نسبية في المقايسة والاحتواء الاستدلالي المحض، نقول من جهتنا الخاصة أن الشاعر أراد تأسيس لنصه استراتيجية خاصة متكونة من علاقة أنا الشاعر وحدود تعاملات المستوى النسقي من التناص ودلالات المحاكاة المتباينة ومسار مشخصات لغة الموضوعة الشعرية، وهذا الأمر بدوره ما جعلنا نواجه جملة مفهوم (منظور الرؤية) عبر سرانية وعلنية إزاء محددات جمل (كم مرة من الأزمان / وأنا كصياد يبحر في المخطوطات = مخطوطات للحب وأخرى للموت) أي أن محاور المرجعية الزمانية والمكانية أخذت تحضر في محمولات علاقة قصدية مواضع مستترة (الذات الشاعرة ـ الأداء ـ تحول الحالات ـ تحول الزمكانية = علاقة تنافذية قيد الفاعل المنفذ) وهكذا تبقى ركيزة الواصلة الموضوعية ما بين الأزمان والأمكنة والذوات، كمفصلية منفذة أخذت تحددها علاقة الأنا / فاعل الحالة، في مرحلة البحث والاستقصاء (كصياد يبحر في المخطوطات / أحصي المدن الباقية / المدن الزائلة نحن / تاريخ الأشخاص) والتعامل الأوحد في وظيفة الوحدات يبقى في مجموعة الجمل، ما يماثل علاقة عادلة ومتفاعلة في الإحصاء التذويتي إلى محاور العلامة المرجعية في جمل المدن ودلالات الأمكنة:
مِنْ كلكامشَ إلى عَبْدَ الأَمير ....و .... و....و
(وَلا تاريخَ إلاّ تاريخُ الأَشخاصِ)
أَتَهَجَّى أَبْراجي بِكآبةٍ
كأَنّني عَلى شَفا حُفرَةٍ مِنْ هذا العالَمْ
أقفُ .... ! . / ص80
الشاعر يسعى إلى استعادة تواريخ الأجناس الآدمية، في سياقية جذرية متنوعة، بدءا من كلكامش وحتى مرحلة الشاعر نفسه نزولا إلى متشكلات الصيرورة المتنوعة في كرنفالية فضاءات التنقيط في بنية المحذوف، فيما تبقى مروياته تحوي ذلك الحدوث العدمي من جملة (أتهجى أبراجي بكآبة) واللقطة الثانية هي حالة توكيدية في مجال الانفصال أو اللا تواصل مع عدمية الوجود في حراك الأشياء الخارجة من معنى موقفية الشاعر الاعتبارية (كأنني على شفا حفرة من هذا العالم) . أما الحال في قصيدة (الأرجوحة) حيث نقرأ:
ظِلاّنا يَقْتربانِ مِنَ العَتَبة
هذا يَتَخَلَّقُ في نَهْر العُمْرِ ....
خَفِياً
وَالآخرُ يَفْتَضُّ تُخُومَ الوَقْتِ ....
وَيَمْضِي . / ص78
علاقة المفتتح الصوري في النص، تزدحم في حيز شعري ملتئم على كينونته الذاتية وسيرة ذلك المنشطر نحو حساسية تفارقية من الوجود الآخر (ظلانا يقتربان من العتبة .. هذا يتخلق في نهر العمر .. خفيا .. والآخر يفتض تخوم الوقت .. ويمضي) من الواضح أن هذه العلاقة النصية في متن مستوى المقاربة مرتبطان أرتباطا وثيقا في مهمة مسافة الزمن والفعل الدوالي لذا نجد مضمار المدلول يعتمد مطابقة ما منشطرة من شيفرة (الوجود / اللاوجود / الأنا / الآخر) وصولا إلى غاية المتحدث تعديلا في مسار العلاقة التوصيفية في حالات موجهات المتكلم ووظائفه الأحوالية:
يَتَوزَّعُ في فاتَحةِ الخِصْبِ ... فُصُولاً
مِنْ خُبزٍ وَدماء
هذا ظِلُّك ... أمْ ظِلّي ...
أَمْ نَصلُ قَتيلْ
يَقْذفُني كالأُرْجُوحةِ في الحَلَبة
وَيَلُمُّ بقايايَ حُقولاً مِنْ شِعْرٍ
وَرُواءْ . / ص78
1ـ التبديل والاستبدال:
تتكشف الدوال في المقاطع المعروضة أعلاه في نص القصيدة عن حالات ابدالية ـ استجابية شبه تضامنية وحساسية وظيفة الاستبدال في مستويات حراك الجمل، مما جعل الخطاب في المقاطع أكثر تداخلا وتفاعلا ما بين ثنائية الإبدال والاستبدال، وصولا نحو الركيزة الذاتية المضمرة في السياق الدالي، وعلى هذا النحو نستعرض ما قاله الناقد السيميائي جوزيف كورتيس من هذا القول: (مشكل الاستبدال كله نوع من العملية المعكوسة للتبديل وفيه الدال يمكن أن يقابل مدلولات مختلفة، وبالعكس نفس المدلول يمكن أن تعبر عنه دوال مختلفة . / سيميائية اللغة ـ جوزيف كورتيس / ص64) وبهذا المعنى يمكننا معاينة الإجراء الاستبدالي في جملة (هذا ظلك .. أم ظلي) أن التعادل الافتراضي في بنية الاستبدال هنا تكشف لنا عن حاصلية الناتج في بنية المحذوف من الفضاء النصي ـ اقترانا لها بذلك الحاصل المفترض بين العلاقة الإشارية الواردة في الجملة، وذلك المدلول القائم بينهما في مسار التبديل الدلالي، وذلك ما يجعلنا نفهم جملة (أم نصل قتيل) على أنها المخصوصية المرجحة في دلالة المحتمل الذي هو بمثابة العلاقة المماثلة في مسار الوظيفة الظلية المتقادمة من دليل الأرجوحة .
ـ أنسنة الصورة الشعرية وحساسية الأستدعاء المضمر
تتأكد أنسنة حالات الصورة الشعرية في منحى بنيات قصائد مجموعة الشاعر، نحو ذلك التفعيل الدلالي المخصوص عبر وحدات البنية الدوالية في القصيدة ومحتملاتها المتشكلة في خلق الصورة التشكيلية الأكثر غورا في كوامن لغة المحاور الشعرية، وبهذا الصدد تواجهنا قصيدة (الطائر) وقصيدة (العتايج) وقصيدة (الشاعر):
جَسَدٌ ناحِلٌ كالقَصِيدة
لا زَادَ غيرُ هَشِيمِ الحُرُوفِ
وَبُرْعُمُ ضَوْءٍ يُزنِّر في الذاكرة . / ص50
تتأكد من هذا الفضاء محاور أنسنة الذات الشاعرة إلى محمولات أحوالها الداخلية المؤولة بأوصافها من ناحية الاستثناء واللحظة القاسية من استجابة صوت أنسانية الشاعر ـ تعبيرا صوريا ظاهرا أخذ يكشف عن أشد اللحظات في انسانية أحوال الشاعر وأنسنة دواله الواصفة، والحال يطرح ذاته في قصيدة (تقاسيم الناي الأولى) وقصيدة (إيماءات بعيدة) والحال أيضا من أنسنة المحاور في قصيدة (قطاف) المهداة إلى الكاتب ناجح المعموري:
بِأيِّ فَمٍ سَتَقُولُ القَصِيدة
الرَّبَابَةُ دَارَتْ بِنَا مِنْ زَمَانْ
وَعَلَى حائِطٍ مِنْ رَمِيمِ البَقَايا
رَأَيْتُ المَدِينةَ تَبْكِي ... وَفَانُوسَها
جُثَّةً فِي الظَّلامْ . / ص30
ـ تعليق القراءة:
لاشك أن موجهات قصائد مجموعة (صحيفة المتلمس) للشاعر المتفرد عبد الأمير خليل مراد، بمثابة فضاءات للنموذج الشعري المتمخض عن فاعلية مركزة في أدق تفاصيل شعرية الواقعة المرجعية وسمو الدلالة المنفتحة نحو لغة المعطى الداخلي والخارجي من طاقة الرؤيا الإيحائية المؤثرة لدى الشاعر .. أقول حاولنا في الفروع المبحثية من مقالنا هذا، تقديم قراءة بسيطة ومقتضبة عن سمات الإجرائية الدوالية في متون قصائد المجموعة، والتي أخذت تكشف لنا بالوقائع النصية عن علاقات دلالات القصائد المحملة بطبيعة مركزة في جمال اللغة ونصاعة الأسلوب الشعري المتاح في مجال نصوص المجموعة عبر كامل وظائفها التي لا تتوقف على مسارات الشعرية الآنوية من مساحة لغة الشاعر الذاتية، بل أنها ذلك الخطاب الحلمي في الزمن واللازمن وعبر مقترحات ذلك البديل العدمي من جدوى تحاورية وجودنا النسقي على شاشة الوجود أو اللاوجود في ذاتية الأشياء المصورة في مضمر القصيدة .
حيدر عبد الرضا
فيرجوالية.. رواية الحداثة والتجريد
- التفاصيل
- كتب بواسطة: احمد عواد الخزاعي
بمعزل عن عناصر الرواية الرئيسية، التي يستمد القارئ منها معطيات النص ودلالاته، كتب سعد سعيد روايته (فيرجوالية) لتكون نصا حكائيا مجرداً، يشكل الحوار عموده الفقري، بغياب عنصر الزمان، الذي يلعب دوراً مهما في بناء النسق الحكائي وتسلسله، وعنصر المكان المسؤول عن منح القارئ منصة لرؤية الاحداث والتفاعل مع بيئتها، اضافة الى افتقادها اهم عنصر في السرد الروائي وهو (الحدث الحقيقي)، الذي يشكل قطب الرحى الذي يدور حوله النص ويستمد منه شرعيته ووجوده. كل هذا الارباك الذي احدثه سعد سعيد في ابجديات السرد الروائي، هو بالمحصلة لا يشكل مثلبة عليه، بقدر ماهو ايذان بولادة اسلوب سردي حداثي، يمكن ان يتواكب مع التطور الحضاري والتقني الذي يشهده العالم، برؤية فنية تفاعلية تستمد ادواتها منه، فهو نص افتراضي غرائبي غير واقعي في معطياته وبواعثه، ينشأ من حصول عطل في حاسوب روائي، ينتج عنه حوارات جدلية افتراضية بين الكاتب ووحدة (SSR2981957-TS) في الحاسوب والتي لم تخلو هذه الجدليات من حضور المنطق والفلسفة فيها.. (SSR2981957-TS لا يفهم معنى كثير من الكلمات يستخدمها بشر مثل فلوس جنس، انثى، رجل، امرأة، شرف، اخلاق، مبادئ وغيرها) بعد هذا الحوار بين انس حلمي مع وحدة SSR في الحاسوب، والذي يطلق عليه اصطلاحا (السرد الكاذب) كون احد طرفي الحوار ليس له وجود حسي على ارض الواقع.. تقرر وحدة SSR الحاسوب بأن تنشر كل حوارات الروائي انس حلمي على مواقع التواصل الاجتماعي (قرر SSR2981957-TS ان يستعيد معلومات محذوفة وينشرها على موقع حقيقة حيث تعود بشر مدير انس حلمي ان ينشر بعض ما يكتب). هذا الحوار الافتراضي الكاذب، يفتح للنص مدخلاً اخر اكثر صدقاً من سببيته، عندما يبدئ جهاز الحاسوب باستعراض حوارات انس حلمي مع مجموعة من اصدقائه والذين كان معظمهم من النساء، وهنا يبدئ سعد سعيد باستخدام ادواته الفنية والمعرفية في صياغة شخصياته وميولها وافكارها وتناقضاتها، بغياب البعد السيميائي عن النص وتفاعلاته البيئية (تأثيث مكان الحدث) و(التشيؤ: اي ارتباط الابطال بالمكان وتأثيراته النفسية والسلوكية عليهم).
سبع شخصيات مختلفة (بيئياً ومعرفياً وثقافياً ونفسياً وسلوكياً) اتجاه ثابت معرفي وثقافي ونفسي واحد هو (انس حلمي)، الذي اشار النص في بعض محطاته على انه الروائي نفسه، وذلك بذكر أسم روايته محل النقد (فيرجوالية) وهذا اشعار تطميني للقارئ لإيقاعه بما يعرف ب(وهم الاقناع) اي حضور الروائي في نصه.
حوارات مطولة واخرى مقتضبة، وانتقالات سردية سريعة بين هذه الحوارات، التي تنوعت بين شاخصين رئيسيين هما (الثقافة والجنس) مع الحفاظ على بؤرة علائقية مركزية، هي علاقة البطل انس حلمي مع (روح هائمة) والتي سعى الروائي الى انتشال هذه العلاقة من واقعها الافتراضي الى الوجودي، حين اقدم بطله على السفر الى استراليا لرؤيتها، بعد ان عرفت بطبيعة علاقته الجنسية مع قريبتها ميساء، في انتقالة سردية عمودية، غريبة ومفاجئة تقاطعت مع افقية النص ونسقه الحكائي، الذي اخذ منحاً حوارياً افتراضياً هو اقرب الى ما يسمى ب(مسرح العبث)، فأنتقل النص من التعاطي مع العالم الافتراضي وبواعثه النفسية وتأثيراته على سلوك الانسان المعاصر، الى الحديث عن اخلاق ومبادئ البطل انس حلمي، الذي رفض ان يمارس الجنس مع روح هائمة، لتعارض هذا الفعل مع مبادئه واخلاقه وقيمه السامية.. لكنه برر هذا العمل على لسان بطله في حوار لاحق بينهما :
روح هائمة :لكن أعبرت المحيط الهادئ لتبقى ثلاثة ايام فقط هل انت مجنون؟
انس حلمي: لقد اخبرتك منذ البداية
روح هائمة: مالذي اخبرتني به؟
انس حلمي: انني مجنون
ربما فسرت مفردة (مجنون) الكثير من التذبذب الذي طال شخصية البطل انس حلمي، وتأرجحها بين (الرذيلة والفضيلة، العهر والشرف، الصدق والكذب، المكر والنبل)، وما يفسر جزء من هذا التذبذب، هو الاطار الحكائي العام الذي منحه صفة (الصياد) في العالم الافتراضي الذي زج نفسه فيه هربا من مشاكل زوجية معقدة.. لكنه حاول ان يظهر خلاف ذلك، بلعبه لدور الضحية بين الحين والاَخر، كما في طبيعة علاقته مع (ميساء) التي لقبها بالعاهرة، حين خطط والح عليها لاستدراجها الى لقاء حقيقي كي يمارس معها الجنس، وعندما تحقق له ما اراد، استنكر ما حصل، والقى باللوم عليها .
(فيرجوالية) نص رائد في عالم السرد الروائي، لانه انتهج التجريد كأسلوب حداثوي، متعكزاً على ركيزتين أساسيتين:
اولا: العنوان الغريب (فيرجوالية) الذي اشار الروائي الى معناه من خلال حوار ثقافي بين انس حلمي وروح هائمة :
- اهلا بك في العالم الافتراضي في الفيرجوالية
- ماذا ؟
- الفيرجوالية هي كلمة من اختراعي مأخوذة من (virtual world) وهي تعني العالم الافتراضي.
لكن هذا المصطلح العلمي التقني الذي استنبطه الروائي من مفردتين انكليزيتين، هو قريب من حيث اللفظ والمغزى من مصطلح طبي يسمى (متلازمة فيرجولي): وهو نوع من الاضطرابات النفسية النادرة، التي توهم الشخص أنه يرى جميع الناس شخصًا واحدًا، فأي شخص يقابله سواء يحبه أو يكرهه هو نفس الشخص.
وهذه المقاربة التي ربما تكون قد حدثت مصادفة في العنوان، هي مماثلة لجزء من السلوك النفسي للبطل، الذي اعتمد على الشك والريبة والميل الغرائزي مع كل المتحاورات.. لكن يبقى ما اشار اليه الروائي في تعريف العنوان هو الأساس في تعاطينا مع النص وعنوانه.
ثانيا: العالم افتراضي، الذي زج الروائي ابطاله فيه، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي ونوافذه التي تتيح للمستخدم التحاور مع الاخرين بكل حرية، وتجريد النص من كل ادواته الفاعلة والمؤثرة، التي تشكل دعائم رئيسية للفن الروائي التقليدي، واعتماده على الحوار فقط في ايصال ما يريد، مستخدماً لغة حداثية، وهي الاداة الوحيدة لدى سعد سعيد في ادارة النص، والتي اتسمت بالبساطة والذكاء في انتقاء المفردات، ومراعاة المستوى الثقافي والمعرفي للمتحاورين، وحضور الاصطلاحات الحداثية العلمية والتكنلوجية المعاصرة، وكان يجب ان يبقى النص في هذا الاطار الافتراضي التجريدي، ومنعه من الانزلاق الى الواقع الفعلي، كما حدث في علاقة البطل مع روح هائمة، وتطور هذه العلائق الافتراضية بدافع غرائزي منفلت، لكن الروائي اعادة النص الى واقعه الافتراضي التجريدي من خلال الخاتمة، التي مثلت حوارا افتراضيا كاذبا بين وحدة SSR وبين انس حلمي، عَبر حوار فلسفي يعي جيدا ازمة الانسان المعاصر في هذا العالم المادي وسطوته عليه:
- يا مسكين هذا الذي لن تستطيع اتقانه ابدا ولذلك ستبقى مجرد الة
- قلت لك اني لست بالة
- كائنا ماكنت انت لست بإنسان ولذلك لن تفقه المنطق الحقيقي
- لم افهم ما تريد قوله
- ولن تفهم .. فالإنسان يستطيع ان يخرق المنطق احيانا ومع ذلك يبقى بأمان.
احمد عواد الخزاعي
اساطير الاولين.. الاسطورة والمعجزة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مريم لطفي
"وقالوا اساطير الاولين أكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا"
الاساطير في اللغة جمع اسطورة ويراد بها كلام ملفق لااصل له ومعنى اساطير الاولين في القران الكريم ماسطره وكتبه الاولين من اباطيل فهي حكاية تروي احداث خارقة للعادة وتتحدث عن الالهة والابطال وتعبر عن معتقدات الشعوب في العصور الاولى وقد تتحدث عن أناس حقيقين واحداث وقعت فعلا مع الكثير من المبالغة والخيال لتاخذ مكانتها بين الناس،ثم تسلقها الالسن ولذلك وصف المشركين دعوة الرسول ومعجزة القران بالاساطاير لانها –الاساطير- كانت موجودة في الازمان الغابرة وتناقلها الناس كجزء من حياتهم وتراثهم، واتخذوا موقفا معاديا للقران ودعوة الرسول محمد(ص) لان الدعوة لاتخدم مصالحهم باي شكل من الاشكال، واعتبروا ان كل ما جاء به الرسول من الاساطير"وقالوا اساطير الاولين "لكي يضعفوا القيمة الحقيقية والاعجازية التي جاء بها القران،وان النبي لم يأت بشئ جديد وانما كرر ماسمعه من اساطير واخبارالامم السابقة، لانهم كانوا يستمعون الى القران ويرون من اياته ودلائله وحججه مايثبت صدق النبي لكنهم يصدون عنه لان الله جعل على اذانهم وقرا والله لايهدي القوم الظالمين . وقد تحدث القران عن الاساطير في مواضع عدة ليبين زيف المشركين وموقفهم من الدعوة "وجعلنا على قلوبهم أكنة ان يفقهوه وفي آذانهم وقرا،وأن يروا كل آية لايؤمنوا بها،حتى إذا جاؤك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا اساطير الاولين".
والاسطورة في اللغة هي من سطر وتعني الكلام المسطور "المصفوف" ولايشترط فيها التدوين،لكن بالضرورة ان تكون سطر وراء سطر فتظهر كالقصيدة ليسهل حفظها وتداولها اي انها تتناقل شفويا بسطورها،وتعد جزءا من التراث القديم الذي يعبر عن نتاجات الاولين،فهي اذن قصة شعرية مصفوفة تحتوي على موضوع ديني يتعلق بالقوى العلوية والخفية"الغيبية" وتعبر عن معارف الانسان الاول والتي تتعلق بالالهة او انصاف الالهة،والاسطورة تتمتع بقوى خارقة منها مايخص الحياة والموت والخلود، وتشترك مع الفلسفة في موضوعاتها غير ان الفلسفة تحاكي العقل بينما الاسطورة تستند الى الخيال ومنها مايتعلق بالقوى الخارقة للطبيعة،والحقيقة انها تتخذ من الاباطيل والخرافات والميثولوجيا موضوعا لها فهي الوعاء الذي سكب فيه الانسان الاول معرفته التي صاغها عن طريق الايحاء والتخيل.
وبما ان الانسان الاول قد عرف الاسطورة ووضع اسسها وحدد موضوعاتها التي اتخذت من الامور الخارقة نهجا لها لكي يستطيع ان يقنع العامة بمضمونها،لذا فعندما اهتدى الى عبادة الله الواحد وباتت المعجزات هي السمة التي تلازم الانبياء كل حسب عصره وطريقة فهم الناس لروح العصر ومايسوده من ظواهر مادية او طبيعية تسيطر عليه فقد اوكل الله تعالى لكل نبي معجزة لاقناع الناس بالايمان بالله تعالى وكما نعرف ان من اصعب الامور على الاطلاق تغيير العادات والمعتقدات، والمعجزة عبارة عن امر خارق للعادة وهي دليل واثبات حسي او معنوي ولايستطيع احد من البشر الاتيان بمثلها لانها من عند الله جل وعلا تختص بانبياءه لتكون دليلا على صحة نبوتهم ،وقد اختلفت المعجزات باختلاف المجتمعات وتعددت وقد اغدق الله على انبياءه ورسله بقدرات خصهم بها كسبيل لهداية الناس مثل النار الباردة التي لم تحرق ابراهيم(ع) ومعجزات موسى(ع) الكثيرة ولعل اكثرها اعجازا اختراق البحرليجعل الناس يؤمنون به في وقت ساد فيه السحر وكان لابد ان ياتي بامر خارق" وأوحينا الى موسى ان ألق عصاك فاذا هي تلقف مايأفكون"
والقدرات التي وهبها الله لعيسى "وأبرئ الاكمه والابرص وأحيي الموتى بإذن الله"في وقت سادت فيه الامراض النفسية والجسدية،فلابد ان تكون قدراته الاعجازية ملائمة لظروف عصره، وغيرها من المعجزات التي اوكلت لانبياء الله،واذا تاملنا نزول القران لوجدنا انه نزل على قوم متفوقين لغويا وبلاغيا وان اللغة هي الفيصل الذي يتميزون به لذا فمعجزة الرسول محمد (ص) التي وضعها الله كدستور للحياة كانت ولاتزال كتابا لغويا بلاغيا اعجازيا بامتياز،لم يستطع احد ان ياتي بمثله"قل لئن اجتمعت الانس والجن على ان ياتوا بمثل هذا القران لايأتون بمثله"" والقران صالح في كل عصر واوان وقد عارضه المشركين والمشككين واعتبروه من الاساطير،ليفندوا الدعوة الاسلامية،كما ان رحلة الاسراء والمعراج التي حدثت نتيجة اضطهاد المشركين للنبي ومقاطعته وفقدان زوجته وعمه ،جاءت كمكافأة داعمة ومؤيدة لدعوة الرسول محمد(ص).
ان المعجزة تزيد الرسل تاييدا وايمانا من قبل الناس الذين يطلبون دليلا ملموسا لاقناعهم،وهي حجة الله على خلقه فلو لم تاتهم البينات والادلة لكان حجتهم يوم القيامة الكفر لانهم يبررون ذلك بانهم لم يتلقوا بلاغا من الله"قال الم ياتكم نذير"،لذا فمن عدل الله ورحمته ارسال الرسل بأدلة وبراهين ومعجزات ثم يترك لهم الخيار اما الايمان او الكفر وعلى الله تعالى الحساب.
لقد خلط الناس بين المعجزة والاسطورة في وقت سادت فيه الاساطير وتلتها المعجزات فاعتبرها الانسان البسيط او المحدود الذكاء او الذي يلجأ الى نكرانها لغاية ما، بانها واحدة نظرا لقدرتها على اختراق الطبيعة،وهذا مانراه جليا بالتشابه الكبير بين الطوفان في ملحمة كلكامش وطوفان نوح والكثير من الامور التي جاءت بها الملحمة والتي ذكرت بالكتب السماوية كالهة الحياة السومرية التي تم خلقها من ضلع "انكي "لتشفيه بعد اكله للزهور الممنوعة وهي مشابهة لقصة ادم وحواء في سفر التكوين، واذاتاملنا قليلا وكثيرا سنجد ان الملحمة حدثت في عصر كان التوحيد فيه موجوداوالدليل على ذلك ان التاريخ الانساني بدأ بأدم وادم كما نعرف كان نبيا وقد علمه الله علوم السموات والارض ليوكل اليه ادارة الارض "وعلم ادم الاسماء كلها"ولابد ان تنتقل الصفات الوراثية او المكتسبةالى ابناءه وكل الامور بما في ذلك قصة الخلق و يرجع المؤرخون التناسل البشري ل" شيت"وهو ثالث اولاد ادم جد نوح (ع) والجديربالذكر ان ابن حفيد نوح وهو"النمرود" بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح كما ذكره ابن كثيروهو من بنى برج بابل ثم بلغ به الطغيان حدا ليدعي الربوبية! "الم ترالى الذي حاج ابراهيم في ربه "وقد كان له النبي ابراهيم(ع) بالمرصاد ووقف بوجهه وانجاه الله من بطشه ثم سلط عليه بعوضة اماتته موتا بطيئا،وعليه يكون من المنطقي ان طوفان اوتنابشتم في ملحمة كلكامش هو تقليد ونسخ لطوفان نوح، اذا اخذنا بالحسبان ان دين التوحيد كان موجودا اصلا وجود الكثير من الانبياء وقت الملحمة".
ولذا فمن الارجح ان تكون الاسطورة الصورة المقلدة للمعجزة مضافا لها بعض الامور الخارقة المنسوجة من الخيال.
هذا الخلط بين الاسطورة والمعجزة جعل الانسان غير العارف او الذي يتجرأ على كتاب الله لمعاداته بان يصفه "اساطير الاولين"نظرا لكثرة الاساطير التي سلقتها الالسن ، لذا فمن الطبيعي على من استحب الكفر على الايمان ان يلجأ الى اي اسلوب يثنيه عن الايمان بالله وتصديق الرسول ،ثم ان الكثير من المعجزات حدثت امام مراى الناس كحادثة ابراهيم وحادثة الطوفان التي اختلطت ماهيتها على الناس بين الاسطورة والمعجزة..
وعليه فان اوجه التشابه والاختلاف بين الاسطورة والمعجزة يتجسد بالاتي:
-ان المعجزة من الله جل وعلا بينما الاسطورة من صنع الانسان.
-تحتاج المعجزةالى قدرات خارقة للقيام بها،فيما تحتاج الاسطورة الى خيال خارق.
-ان المعجزة آية تحدث بسبب يرتأيه الله سبحانه وتعالى فتكون كرد فعل لعمل ما،كأن تاتي على قوم كفار فتكون المعجزة عقابا او ان تكون ثوابا كحادثة ابراهيم اي انها تحدد بزمان ومكان،فيما لاتتطلب الاسطورة ذلك.
- المعجزة امر خارق للطبيعة يقوم بها الله دعما لانبياءه لتكون دليلا على صدقهم ومدعاة لتصديقهم،فيما تكون الاسطورة عمل انساني بطولي لقصة خرافية مسّطرة.
-المعجزة تترك اثرا واضحا على مرأى ومسمع الناس باعتبارها آية تستند الى واقع حقيقي ملموس،فيما تعتمد الاسطورة على الخيال الغيبي او السحر الزائل!
وهكذا فأن المعجزة اختص بها الله في عباده ومخلوقاته وظهر الاعجاز واضحا في كل مرافق الحياة ،بينما اقتصرت الاسطورة على عمل نعتبره الان وبعد مرور السنين عملا ادبيا روى احداث خيالية عن ابطال خياليين.
مريم لطفي
يعقوب صنوع... الرائد الذي عشق المسرح
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. يسري عبد الغني
ولد يعقوب صنّوع 15 إبريل سنة 1839 في القاهرة لوالدين مصريين مقيمين في مصر في حي باب الشعرية كان والده مستشاراً للأمير يَكَن حفيد محمد علي باشا، ويروى أن يعقوب كتب قصيدة مدح في يكن الذي أعجب بها ولم يصدق أن فتى في الثالثة عشر من عمره هو الذي كتبها
فأبتعثه الأمير يكن لدراسة الفنون والأدب في إيطاليا على نفقته سنة 1853، ثم عاد يعقوب سنة 1855 ليعمل مدرسا لأبناء الخديوي يُدرِّس لهم اللغات والعلوم الأوروبية والتصوير والموسيقا.
عين في عام 1868 مدرسا في مدرسة الفنون والصناعات في القاهرة، وعضوا في لجنة امتحان المدارس الأميرية. كان بارعا في عدة لغات أهمها العربية والعبرانية والإيطالية والفرنسية والإنجليزية والألمانية، مع إلمام بالأسبانية واليونانية والروسية والبرتغالية وغيرها.
عام 1869 فكر يعقوب في تأسيس مسرح مصري تعرض على خشبته مسرحيات عربية متأثرا بما رآه في إيطاليا. وسمح له التنقل بين جميع فئات المجتمع من حرفييها وعمالها وجاليتها الأجنبية والطبقة الارستقراطية التعرف على كافة افراد الشعب المصري آنذاك واستفاد من ذلك في رسم شخصياته المسرحية الكوميدية.
ألف يعقوب صنوع مسرحيات قصيرة ممزوجة بأشعار وقام بتلحينها وعرضها في قصر الخديوى إسماعيل وأمام حاشيته من الباشوات فأعجبوا بها، قرر يعقوب أن ينشئ فرقة مسرحية من تلاميذه وكان هو يلعب دور المدير والمؤلف والملحن والملقن، وعرض مسرحيته على منصة مقهى موسيقي كبير بحديقة الأزبكية بالقاهرة وكانت توجد في ذلك الوقت فرق تمثيل إيطالية وفرنسية تعرض أعمالها للجاليات الأوروبية في القاهرة، ونجحت مسرحيته نجاحا كبيرا.
أنشأ بعدها يعقوب فرقته الخاصة لتقديم مسرحياته وفي فرقته ظهرت النساء لأول مرة على خشبة المسرح. ويرجع لقب موليير مصر إلى الخديوى إسماعيل الذي اطلق عليه ذلك الاسم وطلب منه ان يعرض مسرحياته على مسرحه الخاص في قصر النيل، عرض يعقوب ثلاث مسرحيات هي (آنسة على الموضة) و(غندورة مصر) و(الضرتان) وكانت مسرحيات كوميدية أعجب بهم الخديوي وسمح له بإنشاء مسرح قومى لعرض مسرحياته على عامة الشعب، وقد عرض على هذا المسرح أكثر من 200 عرض ل 32 مسرحية ألفها، إلى أن قدم مسرحية (الوطن والحريه) فغضب عليه الخديوي لانه سخر فيها من فساد القصر ثم اغلق مسرحه ونفاه إلى فرنسا فاستقر في باريس إلى آخر حياته.
انشأ عددا من الصحف نذكر منها أبو نضارة التي اضطر إلى إعادة إصدارها باسم "أبو نظارة زرقاء"، ثم صحيفة الوطن المصري وأبو صفارة التي أيضا اضطر الي تغيير اسمها إلى أبو زمارة، وصحيفة الثرثارة المصرية.
بسبب معارضته للسياسة المصرية في ذلك الوقت غضب عليه الخديو فأغلق مسرحه وأبعده إلى باريس. وألتقى يعقوب أديب إسحاق في باريس وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وإبراهيم المويلحي وخليل غانم ثم مصطفى كامل وغيرهم. ثم واصل دعايته للقضية الوطنية بعد الاحتلال البريطاني لمصر، فأصدر العديد من الصحف بالعربية والفرنسية وأخذ يتنقل في أوروبا للدفاع عن مصر واشترك في الحملات التي شنت على الخديوي إسماعيل والاحتلال البريطاني، وراسل احمد عرابي في منفاه في جزيره سيلان.
رغم أن صنوع كان ميالا للمسرح والتمثيل بطبعه، إلا أنه لم يجد بدا بعد إغلاق مسرحه الذي لم يستمر سوى عامين من أن يخلق متنفسا آخر لآرائه فأسس جمعيتين أدبيتين علميتين في سنة 1872: الأولى: تم تسميتها "محفل التقدم" والثانية:"محفل محبى العلم" وتولى رياستهما.
شرع في إصدار صحفه مكملا ما بدأه بالقاهرة قبل نفيه ونجح في توصيل جريدته إلى أبناء وطنه بالقاهرة وها هو عرضا موجزا لصحافته بباريس:
1- "رحلة أبى نضارة زرقا": صدر العدد الأول منها في 7 أغسطس 1879 وكان على رأس هذا العنوان "رحلة أبى نضارة زرقا (الأولى) من مصر القاهرة إلى باريس الفاخرة، تعلم جيمس سنوا رأى يعقوب صنوع، محرر جريدة "أبى نضارة زرقة البهية والدة النظارات المصرية"، وكانت الصحيفة تصدر في معظم أعدادها في أربع صفحات مليئة بالمحاورات الساخرة والمهاجمة لسياسة الخديوي وحكومته.
2- "النظارات المصرية": صدر العدد الأول منها في 16 سبتمبر 1879 ورسم في صدرها عوينات كتب في أسفلها " جريدة تاريخية علمية تحرير مصر وإسكندرية ". وكانت الصحيفة أيضا مليئة بالمحاورات التمثيلية التي استعاض بها عن غلق مسرحه، وكانت معظم أعداد الصحيفة بها صور كاريكاتورية تصور السياسة وتنتقدها بطريقة فكهة لاذعة.
3- " أبو صفارة ": صدرت في يونيو سنة 1880 وصدر منها ثلاثة أعداد وكتب في صدرها " جريدة هزلية أسبوعية لانبساط الشبان المصرية بحفظهم رب البرية من المظالم الفرعونية منشئها محب الاستقلال والحرية".وكانت متضمنة أخبارا عن أحوال مصر الداخلية، هذه الأخبار التي صدرت تحت باب "مراسلات الجهات" الجديد في مجلة صنوع.
4- " الحاوى": صدر العدد الأول منها في 5 فبراير سنة 1881 وقد صدر منها أربعة أعداد جاء في صدر العدد الأول منها هذا الشعار "الحاوى الكاوى اللى يطلع من البحر الداوى عجايب النكت للكسلان والغاوى ويرمى الغشاش في الجب الهاوى".
5- " أبو نضارة": صدر منها خمسة عشر عددا كان شعارها " لسان حال الأمة المصرية الحرة"، وقد امتازت هذه الصحيفة بوجود الصور الكاريكاتورية الجميلة البالغة الإتقان، كما تمتاز مقالات الصحيفة بالعودة إلى الأسلوب العربى الأدبى. وكان الهدف من هذه المقلات هو تنبيه المصريين إلى حقوقهم وتحذيرهم من التهاون في هذه الحقوق والتمسك بالاستقلال. وبدأت الجريدة من عددها الثامن حتى العدد السادس عشر في ترجمة ما تنشره باللغة العربية إلى اللغة الفرنسية ،وذلك لتظهر للرأى العام الفرنسى كيف يتدخل الإنجليز والأجانب لنصرة الخديوي على الشعب المناضل المسكين .
6- "الوطني المصري": صدر العدد الأول منها في 29 سبتمبر سنة 1883 أى بعد مضى سنة من الاحتلال الإنجليزي لمصر، ولم يصدر منها سوى عددين، وكانت تصدر في ست صفحات بخلاف صحف صنوع الأخرى التي كانت تصدر في أربع صفحات فقط، وتحدث عن صحفه الأخرى باللغة الإنجليزية التي احتلت فيها جزءا كبيرا وكانت ترجمة لبعض مقالاته المنشورة في الصحف باللغة .
7- "التودد": من صحف صنوع الجادة، وكانت في حجم أكبر قليلا من صحفه، أى في حجم الكتب العادية، وصدرت في مارس سنة 1902، وكانت سجلا لنشاط دول الغرب ، دون العناية بأخبار مصر إلا أخبار التاريخ والآثار القديمة.
8- " المنصف ": صدر العدد الأول منها في 15 فبراير سنة 1899 وكان في صدر العدد "جريدة سياسية أدبية تجارية مديرها ومحررها الشيخ جيمس سافوا أبو نضارة المصرى بباريس " وقد استمر صدور الصحيفة لمدة عامين وكانت حملتها شديدة جدا على الإنجليز وسياستهم في وادى النيل وكذلك في حرب البوير.
9- " العالم الإسلامى": تتميز بلغتها الفرنسية، وصورها الواضحة الدقيقة، وكانت تهتم بأخبار العالم العربي والمسلمين ويظهر ذلك الرسم الذي اتخذه "صنوع" شارة للصحيفة وهو رسم القباب، والمآذن والأشخاص المرتدين للملابس العربية..
كانت الريبورتاجات التمثيلية من العناصر الهامة التي كانت تشغل جميع الصحف التي أصدرها صنوع، وكان يعتمد في ريبورتاجاته هذه على حل جميع المشاكل التي تشغل مواطنيه، والقيام بمعالجتها بطريقة تمثيلية حوارية جميلة تشجع القارىء وتجذبه لذلك قام باختيار هذا الشكل الفنى قالبا يصب فيه مادته الكتابية السياسية. وكان يقوم صنوع باختيار أسماء مستعارة في غالب الأحيان يغطى بها مهاجمته اللاذعة للشخصيات الحقيقية، فكان يسمى إسماعيل شيخ الحارة، وتوفيق توقيف أو الواد الأهبل، ورياض أبو ريض، والفلاح أبو الطلب، ومجلس الوزراء جمعية الطراطير. وكان يعلن رأيه بصراحة في المشاكل الاجتماعية والسياسية تحت هذه الأسماء المستعارة.فقد استعاض صنوع عن غلق مسرحه بكتابة هذه المحاورات التمثيلية، وقد انقسمت هذه الريبورتاجات لنوعين: الأول: المحاورات الثاني: اللعبات
لقد كان صنوع أشبه بالمغناطيس الحساس، سرعان ما يلتقط المشكلات والأحداث، حال وقوعها، ويتناولها بالمعالجة والتحليل في مسرحياته، على نحو ما نجد مثلا في:
مسرحية "البنت العصرية ": حيث تناول مشكلة انسياق بعض الاسر وراء تقليد الغرب في التبرج وانغماس الفتيات والنساء في حياة اللهو والسهرات مبينا ضرر هذا الانقياد الأعمى للتقاليد الغربية وما يتبع ذلك من تفكك، وانتشار الانحلال والتصدع بين أفرادها.
مسرحية "الضرتين": حيث تناول مشكلة تعدد الزوجات وأوضح بصراحة ما يترتب على ذلك من تفكك في الأسرة وتعاسة في المعيشة. وسخر أيضا من الباشوات والأمراء الذين يقتنون عددا كبيرا من النساء في قصورهم كما يقتنون الخيول والأثاث سواء بسواء.
مسرحية "العليل": كانت دعاية لمشروع افتتاح الحمامات الكبريتية ونصح للمرضى والمشوهين الذهاب إلى هذه الحمامات التي تشفى مياهها جميع الأمراض المستعصية.
وإذا تتبعنا إنتاج صنوع بعد إغلاق مسرحه ونفيه إلى باريس سنجده يكتب لعبات تياترية ومحاورات تمثيلية تعالج أيضا مشكلات الساعة السياسية والاجتماعية وكذلك تنتقد التقاليد وما يحدث في المجتمع من نفاق وزيف.
بالرغم من كل التاريخ الذي يحمله صنوع فإن الاديب والقاص المصري محمود تيمور ينفي بوجود شخصيتة أصلا في التاريخ الأدبي المصري. ولا ندري على وجه الدقة على أي مصادر موثقة أعتمد أستاذنا الجليل؟
بقي يعقوب صنوع منفيا في أوروبا إلى أن توفي في 1912 في فرنسا
بقلم: د. يسري عبد الغني
معجم الأساطير الجاهلية: (3)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. قصي الشيخ عسكر
أُم خارجة
كانت من أجمل نساء زمانها. تزوّجت عددا كثيرا من الرّجال. زعموا أنّ الخاطب يأتيها فيقول: خطب، فتقول: نكح. كانت ذوّاقة تطلق الرّجل إذا جرّبته، وتتزوّج آخر، وقد ولدت جلّ أجداد العرب .
أمثال العرب، ص58، جمهرة النسب للكلبيّ، ص135، خزانة الأدب 2/224، 6/375، مجمع الأمثال 2/361، المرصع 85، المعارف لابن قتيبة، ص609، المنقوص والممدود، للفراء، ص173.
أم ربيق
كنية الغول.
المستقصى2/41.
أُمّ الصبيان
قيل هي البومة، وقيل هي التابعة من الجنّ.
حياة الحيوان الكبرى، 1/228.
أم عنترة
ينسبها ابنها عنترة إلى حام بن نوح. يقول في ذلك:
يقدمه فتى من خير عبس أبوه وأمه من آل حام
عجوز من بني حام بن نوح كأنّ جبينها حجر المقام
ديوان عنترة ص67.
أُمّ عويف
دويبة صغيرة لها أربعة أجنحة وذنب طويل وهي لاتطير، يلعب بها الصّبيان، ويقولون لها:
أمّ عويف انشري برديك. . ثمّت طيري بين صحراويك. . إنّ الأمير خاطب بنتيك. بجيشه وناظر إليك.
وهي رمز الجبن.
حياة الحيوان الكبرى1/408ـ409، 2/100، ربيع الأبرار4/470، المرصع ص
155، معجم مقاييس اللّغة مادّة: أمّ.
أمّ الكلبة
هي الحمّى.
الأغاني17/252.
أمّ مرحب
كانت كاهنة يهودية تتنبأ بالمستقبل.
خزانة الأدب6/64.
الأمي
هو المنسوب إلى أم القرى ، وقيل الأميّون هم العرب الذين لم يكن لهم كتاب.
المفردات في غريب القرآن ، مادة: أمّ، العقد الفريد4/8.
أُميّة
زوّج في حياته ابنه أبا عمرو امرأته.
نهج البلاغة15/207.
أُميّة بن أبي الصلت
كان مصحوبا تبدو له الجنّ، فخرج في عير من قريش، فمرّت بهم
حيّة، فقتلوها، فاعترضت لهم حيّة اُخرى تطلب بثأرها، وقالت: قتلتم فلانا، ثمّ ضربت الأرض بقضيب، فنفرت الإبل فلم يقدروا عليها إلاّ بعد نصف الليل، ثمّ جاءت فضربت ثالثة، فنفرتها فلم يقدروا عليها حتّى كادوا يهلكون عطشا وعناء، وهم في مفازة لاماء فيها، فقالوا : لاحيلة هل عندك من حيلة؟ قال لعلّها، ثمّ ذهب حتّى جاوز كثيبا، فرآى ضوء نار على بعد، فأتبعه حتّى أَتى على شيخ في خِباء، فشكا إليه مانزل به وبصحبه، وكان الشيخ جنّيّا، فقال: اذهب فإن جاءتكم، فقولوا باسمك اللّهمّ سبعا، فرجع إليهم وقد أَشرفوا على الهلكة، فأَخبرهم بذلك، فلمّا جاءتهم الحيّة قالوا ذلك، فقالت تبّا لكم من علّمكم هذا؟ثمّ ذهبت وأَخذوا إبلهم، وكان فيهم حرب بن أُميّة، فقتلته الجنّ بعد ذلك بثأر الحيّة.
وقد أخبر أحد الرّهبان أُميّة أنّه لن يكون النّبيّ الموعود لأَنّ الرّئيّ التابع له يأتيه من شقّه الأيسر، وهو يحبّ الثياب السّوداء بينما النّبيّ يأتيه رئيه من الجانب الأيمن، ويرتدي البياض.
وهناك اسطورة تقول: إنّ أميّة كان في قوم يتعشون، فجاءت عظاية
فطردوها، فجاءتهم عجوز، فنفرت إبلهم ثلاث مرّات، فغادر أميّة القوم إلى كنيسة فحدّث راعيها حديث العجوز فقال له هي امرأة يهوديّة من الجنّ، فإذا جاءت فقولوا لها: سبع من فوق، وسبع من أسفل باسمك اللّهمّ، فلن تضرّكم، فلمّا رأت العجوز الإبل لم تتحرّك عرفت أميّة، فدعت أن يبيض أعلاه، ويسودّ أسفله، فأصبح أميّة برص، واسودّ أسفله، وفي خبر آخر بينما إذ فزعت إحدى ابنتيه، فقال ماشأنك؟قالت: رأيت نسرين كشطا سقف البيت، فنزل أحدهما إليك، فشقّ بطنك، والآخر واقف علىظهر البيت، فناداه، فقال: أوعى نعم. قال أزكى: قال لا. وتُروى الحكاية عن طريق أُخته أيضا، وعن موته يُذكر أنّه كان في بعض الأيّام يشرب، فجاء غراب، فنعب نعبة، فقال له أميّة: بفيك التراب، ثمّ أقبل على أصحابه، فقال: أَتدرون مايقول هذا الغراب؟زعم أَنّي أشرب هذا الكأس فأموت، وإمارة ذلك أنّه يذهب إلى هذا الكوم، فيبتلع عظما فيموت. فذهب الغراب إلى الكوم، فابتلع عظما، فمات، ثمّ شرب أُميّة الكأس، فمات من حينه، وقد نظم أمية قصة الخليقة في شعره كما وردت في التوراة أو كما وصلت شذراتها من فكر الأمم السابقة التي سكنت في وادي الرافدين وبلاد الشام.
الإصابة1/134، الأغانيّ4/127ـ140، البداية النّهاية2/208ـ211، حياة الحيوان
الكبرى2/108ـ110، 426، ربيع الأَبرار1/796.
أَناهيد
امرأة بغيّ مُسخت نجما، فصارت الزّهرة، وهي إلهة الطّرب
والسّرور، واللّهو، والنّظر إليها يوجب فرحا وسرورا، ومن شأنها الشبق
والباه، والألفة.
تفسير الفخر الرازي 3/238، الحيوان للجاحظ1/113، 2/456، عجائب المخلوقات، ص17.
أنده
يقول العربي لزوجته: إذهبي فلا أنده سربك. أي أزجر سربك. وهي صيغة طلاق كان
الرجل يطلق امرأته بها.
المستقصى1/137.
أنس
راجع نسور لقمان.
أنس بن مدرك
عاش مائة وأربعا وخمسين سنة.
الإصابة1/85، جمهرة النّسب للكلبيّ، ص483، المعمرين ص50.
أنس بن نواس
عمر دهرا طويلا، ونبتت له أسنان جديدة بعدما سقطت الأولى.
المعمرين ص97.
إنسان الماء
يشبه الآدميّ.
المستطرف2/278.
الأنصاب
حجارة كانت العرب يعبدونها وهي الأوثان، وكان بمكّة ثلاثمائة وستون نصبا.
الاتقان1/36، مجمع البيان3/369، المستطرف2/172، معجم مقاييس اللّغة: مادّة نصب.
الأنصار
كان الأنصار يحجّون لمناة، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، وكانوا إذا حجّوا لايدخلون من أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها.
أسباب النزول للنيسابوريّ، ص24، 28، أسباب نزول القرآن للواحدي ص41، 48.
أنوشروان
اشترط على معديكرب شروطا منها أنّ الفرس تتزوج باليمن ولاتتزوج اليمن منها، وفي ذلك يقول الشاعر:
على أن ينكحوا النسوان منهم وألا ينكحوا
في الفارسينا
مروج الذهب2/82.
أنيب
اسم شخص كان جبانا من يام وهم حيّ من همدان فأراد قومه أن يخصوه لكيلا يورث فيهم الجبن فخافوا أن يعيروا بأنّ فيهم خصياً فعزموا على قتله فقال لهم من والاهم من قبائل همدان إن لم تشركونا في قتله حلنا بينكم وبينه فرماه كلّ قبيلة من همدان بسهم حتى مات وهم يرتجزون ويقولون:
لله سهم مانبا عن أنيب حتى نوارى نصله في المنشب
منتخبات في أخبار اليمن ص107.
الأهرام
قبور شداد بن عاد، وغيره من ملوك العرب السّالفة الذين غلبوا على بلاد مصر.
التنبيه والاشراف، ص18.
أوال
صنم
الأصنام ص107.
الأوثان
حجارة كانت تُعبد، وكان العرب يسمعون في أجواف الأوثان همهمة.
الحيوان للجاحظ2/457، معجم مقاييس اللّغة: مادة وثن.
أولاد السعلاة
نسبة بعض الآدميين إلى جنس السّعلاة.
الحيوان1/113.
الأوس والخزرج
هما أخوان أوس بن حارثة وأخوه، الخزرج، كان لأوس ولد اسمه مالك، والخزرج خمسة ، فقال عن ولده: لم يهلك من له مثل مالك. وقال كلاما يشبه سجع الكهان.
الأمالي، القالي، الهيئة العامة المصرية للكتاب، 1976 ، 1/134.
أوس بن حارثة
عاش 220 عاما.
المعمرين ص54
أوس بن ربيعة
عاش 214 سنة.
المعمرين ص101.
أوس بن الصامت
هو أول من ظاهر.
أسد الغابة ص1/177.
أوس اللات
رجل يقال لذريته أوس الله " محوّل"
لسان العرب أوس.
أوّل
هو يوم الأحد عند العرب.
معجم مقاييس اللغة مادة أول.
أويس
من أسماء الذئب مصغر أوس وهي كلمة زجر الغنم والبغر حيث حقروه متفائلين
أن يعوضهم الله بدل الذي افترسه من قطيعهم.
العباب الزاخر مادة أوس، لسان العرب مادة أوس.
إياد
فشا الموت فيهم لبغيهم في الكعبة، وقد عبدت إياد وثقيف بيتا يقال له
اللات، ثم عبدت إياد وبكر بن وائل سنداد.
أنساب الأشراف1/25، نشوة الطرب ص2.
أيادي سبأ
مثل في الفرقة ذهبوا أيادي سبأ أي متفرقين من تفرق أهل اليمن.
معجم مقاييس اللغة سبأ.
إياس بن قبيصة الطائي
كان كسرى يتيمن به.
ديوان الأعشى الكبير ص159.
الأيسار
وهي الأزلام ، وكان مكلفا بها صفوان بن أُميّة، ومفردها يسر وأسماء
القداح: الفذّ، التوأم، الضريب، الحلس، النافس، المسبل، المعلى، والأيسار هم المقامرون نقيض الأبرام، وكان من العيب على الرجل الموسر أن لا يقامر والمثل أبرما وقرونا أنّ امرأة أحد الأبرام استطعمت من بيوت الأيسار فرجعت بقدر فيها قطع لحم فوضعتها بين يديه، وجمعت عليه الأولاد، فأقبل يأكل قطعتين قطعتين، فقالت ذلك.
العقد الفريد3/67، المستقصى1/17.
أيسار لقمان
كانوا ثمانية يضربون معه القداح.
مجمع الأمثال2/302.
إيل
اسم الله.
القاموس المحيط مادة إيل.
الأيل
إذا ضاق من الصيّاد رمى نفسه من رأس الجبل فلا يتضرر بذلك، وإذا لسعته حيّة ذهب إلى البحر، فأكل السّرطان، فيشفى.
المستطرف2/220.
الإيلاء
ضرار الجاهليّة. كان الرجل لايريد المرأة ولايحبّ أن يتزوّجها غيره، فيحلف ألاّ يقربها أبدا، وكان يتركها كذلك لاأيما، ولاذات بعل.
أسباب النزول للنيسابوري ص43.
أيم
هو الجان من الحيّات وفي لغة تميم أين، يقول طرفة بن العبد:
يسري على الأين والحيات معتفيا نفسي فداؤك من سار على ساق.
وأيم مطابق للمعنى العبري ئى بمعنى مارد أو البابلية مو مو بمعنى عنقاء. ص61.
تاريخ الطبري 1/104، شرح اختيارات المفضل ص98-99، اللهجات العربية الغربية
القديمة، Chaim Rabin، ترجمة عبد الرحمن أيوب ص61، معجم مقاييس اللغة
مادة أيم.
الأيّام
كان هناك تصور للعرب حول الأيّام في السعد والنحس. الأحد أوّل يوم خلقه اللّه من الزمان. الاثنين هو الثاني. الجمعة اجتمع فيه الخلق. السبت خلق فيه آدم. الاربعاء إذا وافق أربعا من الشهر يكون نحسا.
عجائب المخلوقات، ص50، عيون الأخبار1/203، مروج الذهب2/191.
أيّام التشريق
سميت بذلك لأنّ لحوم الأضاحي تشرق فيها للشمس، وهناك من يقول سميت بذلك لقولهم: أشرق ثبير لكيما نغير.
معجم مقاييس اللّغة مادة: شرق.
أيّام العجوز
إنّ عجوزا كاهنة من العرب أخبرت قومها ببرد شديد في آخر الشتاء يسوء أثره على المواشي، فلم يكترثوا بقولها، وجزّوا أغنامهم واثقين بإقبال الرّبيع، فإذا هم ببرد شديد أهلك الزّرع والضرع، فنسبوا تلك الأيّام لها، وقيل هي عجوز كان لها سبعة بنين، فسألتهم أن يزوّجوها، وألحّت، فقالوا لها: ابرزي للهواء سبع ليال حتّى نزوّجك، ففعلت والزمان شتاء كلب، فماتت في السابعة، وقيل هي الأيّام السبعة التي هلك فيها قوم عاد.
ربيع الأبرار1/87 ـ 88، عجائب المخلوقات، ص57.
أين
هو الأيم وهو الجان من الحيات والأين بقلب الميم نونا في لغة تميم.
معجم مقاييس اللغة مادة أيم
***
قصي الشيخ عسكر
قُبَيْحَة والمتوكل!!
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. صادق السامرائي
قبيحة جارية من أجمل نساء عصرها، (ملكة جمال زمانها)، وإسمها من أسماء الأضداد، أطلقه عليها المتوكل لشدة الحاقدين عليها وحسّادها.
ورغم آلاف الجواري الذين كن عنده (كما يذكرون)، لكن قبيحة قد فتنته وتيمته فأغرم بها، وتمكنت من قلبه ولبه فتزوجها، وما عاد يرد لها أمرا، وبلغت ذروة هيمنتها عليه عندما أنجبت له إبنه (المعتز بالله)، (232) هجرية، الذي كان جميلا ومتميزا بذكائه وقدراته ومواهبه ونبوغه.
وله منها ولد آخر إسمه إسماعيل.
وكان المتوكل مشغوفا بها ولا يصبر عنها، فوقفت له ذات يوم، وقد كتبت بالغالية على خدها "جعفر"، فتأملها ثم أنشأ يقول:
"وكاتبة بالمسك في الخد جعفرا...بنفسي محط المسك من حيث أثرا، لئن أودعت سطرا من المسك خدها... لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا".
وقد شجعت المتوكل على خلع إبنه (المنتصر بالله) وجعل ولاية العهد لأبنها (المعتز بالله) فأطاعها، لكنه تصرف بغير ذكي، إذ كان يوبخه ويهينه أمام الحاضرين في مجلسه، والبعض ذكر أنه كان عازما على قتله، مما أدى إلى مقتله من قبله، بتحالفه مع الأتراك وخصوصا حارسه الشخصي (باغر التركي)،، وبالسيف اليماني الذ إشتراه وقلده إياه، ليحميه وكان قاتله به.
فالأتراك إستثمروا في الجفاء بين الأب وإبنه.
ويُذكر أنها كانت تحب المال حبا جما، وتجمعه وتتحكم به في الدولة منذ زمن المتوكل، والبعض يصفها بالبخل.
وهي التي إقترحت على إبنها (المعتز بالله )، أن تكون مرتبات الجنود بيده، وأصبحت المسؤولة عن أموال الدولة العباسية والأمينة على خزائنها.
وكان أسلوبها بالنيل من القادة الذين لا ترغب بهم بقطع الرواتب عن جنودهم، ليثوروا عليهم ويتخلصوا منهم.
وعندما منعت الرواتب عن جنود (بُغا الكبير) أغار عليها، وإستولى على خزائنها، لكن الجند ظفروا به وأعادوها إليها بعد أن قتلوه (وتتضارب القصص حول مقتله)، ويُقال علق رأسه في سامراء وبغداد، وتولى إبنه (موسى) القيادة والواجبات التي كانت مناطة به، وهو الذي قتل (صالح بن وصيف)، وكذلك (المهتدي بالله).
وتذكر كتب التأريخ أن لها باع طويل في دائرة المؤامرات المفرغة، التي حصلت في سامراء بعد مقتل المتوكل، وما أعقبها من فوضى، وتحكم الأتراك المطلق بالخلفاء.
ويُقال ربما (صالح بن وصيف) الذي قتل إبنها الخليفة المعتز بالله، قد إغتصبها بعد أن إستحوذ على أموالها وشردها وأذلها ونفاها.
وكانت خطتها في عدم إعطاء المعتز بالله ما طلبه من مال، بأن الجند ستثور على (صالح بن وصيف) وتقتله كما فعلوا بأبيه، بذات اللعبة أو المكيدة التي دبرتها، وما خطر ببالها أن الأخير سيخلع إبنها ويقتله، وسيستولي على أموالها، وينفيها، فقد كانت متنفذة وذات سلطان، لكنه تغدى بها وبإبنها قبل أن تتعشى به.
وقصة المتوكل وقبيحة تذكرنا بعلاقة (رمسيس الثاني بنفرتاري) التي سرقت لبه وروحه، وتيمته دون آلاف الجواري من حوله.
قبيحة إختفت بعد مقتل إبنها مع خزائن الأموال، ويقال أنها قد حفرت نفقا سريا يتصل ببيتها، وما أن ظهرت بعد حين حتى داهمها (صالح بن وصيف) وفعل بها ما فعل، ولا يُعرف كيف نجا (إبن المعتز) من سطوة هذا المارد الفتاك المتوحش الطباع.
قبيحة ماتت في سامراء سنة (264) هجرية ودفنت فيها، ولا يزال الكثير مجهول عن شخصيتها، ودورها في الحكم أيام المتوكل وما بعده.
د. صادق السامرائي
العقل والدين.. في مسألة الإلحاد؟
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. ريكان ابراهيم
في علم النفس الديني (4)
لقد صنعَ العقل البشري ديناً كما صنعَ الدين عقلاً. هذا ما حصل عبر مسيرة الإنسان الطويلة إلى أن التقى العقل والدين في محطةٍ واحدةٍ أو حقيقةٍ واحدة هي وجود الله واحداً لا مُتعدداً وشاملاً لا محدداً.
ونحاول الآن أن نفحص الدين (الوسيلة إلى الله) كما حاول العقل أن يصنعه. عندما نقول أن العقلَ صنع ديناً، فمعنى ذلك أن هذا الدين هو مُعطى عقلي أو فاعلية عقلية (Mental activity). وكل فاعلية عقلية لا تعدو كونها وسيلة، كما هو الحال مع اللغة التي هي فاعلية عقلية يتخذها هذا العقل للتواصل والوصول إلى غاية. إن غاية (اللغة، الوسيلة) هي تحقيق التواصل الإجتماعي، بينما يقوم الدين الذي أوجده العقل البشري وسيلةً غايتها الوصول إلى الله.
أ- إنسان بعقل ← بوسيلة اللغة ← تواصل إجتماعي مع مجتمع.
ب- إنسان بعقل ← بوسيلة الدين ← الوصول إلى إله.
وكل وسيلة تحمل جانبين فيها: الجانب العملي والجانب النظري. والجانب العملي هو المحسوس الملموس بينما النظري هو الذي يمكن تصورُه لكنه ليس بالضرورة ممكناً أن يتحقق. لقد كان الإنسان قديماً يميل إلى تصديق المشاهدة والميل إلى الجانب العملي أكثر من ميلهِ إلى الجانب النظري وفيه التنظيرات، لذلك أصبح الإنسان كائناً طقوسياً يحاول بالطقوس الوصول إلى الماهية. ولازال الإنسان المعاصر ميالاً إلى المختبر الذي يُقدم له نتائج التجربة. إن الطقوس ممارسات سلوكية تملك قدرة إرجاعية إلى أفكاره (Bio Feed Back)، ومركز هذه الأفكار هو الدماغ.
تبرز لدينا في الإنسان الباحث عن ربِهِ آليتان: آلية الدفاع (Motive) وآلية الحافز (incentive). ويقف وراء الدافع عاملان: حُب الفضول في إكتشاف الشيء والخوف من المصير. الحافز هو وجود ظاهرة المخلوقات التي تَحث الإنسان على إكتشافها وإكتشاف مُوجدها.
وفي علم النفس يرتبط الحافز بالدافع إرتباطاً كبيراً، فكلما كان الحافز كبيراً، ضخماً، مثيراً، دعا إلى وجود دافع كبير ضخم مستثار. أمام هذه المراوحة بين الدافع والحافز حاول الإنسان الأول أن يُوجد طقوساً يتقرب بها إلى فهم الحافز الذي استثاره.
***
إن إنعدام الإستقرار النهائي على فهم الحافز (وجود الله) حدا بالإنسان إلى ظاهرتين:
1- ظاهرة تَعدد الدوافع.
2- ظاهرة الإحتمالات.
وقبل قليل قلنا أن هناك دافع الحُب في الإكتشاف ودافع الخوف من المصير. أما ظاهرة الإحتمالات التي أصبحت لاحقاً نظريةً معترفاً بها في مجالات البحث، فإنها واحدةٌ من وسائل الدافع الى المعرفة. والمشكلة في نظرية الإحتمالات هي مشكلة قدرة تلك الإحتمالات على الإنشطار والتشظي إلى عدد لا محدود من التوقعات على نحوٍ يُربك الفكر وقد لا يقود إلى نتيجةٍ حتمية.
ولكي يخرج الإنسان الإبتدائي من نظرية الإحتمالات التي تحتاج إلى عقلٍ كبيرٍ ناضج في إنشائها والقيام على جداليتها لجأ إلى إقامة الطقوس الميثولوجية فأصبح له دينٌ (إتقائي) يواجه به خوفه بتلك الطقوس وممارستها.
على هذا الأساس كان الدين الذي صنعه العقل ديناً:
1- تحولياً من حالة إلى حالة
2- طقوسياً أدائياً يفتقر إلى النظرية.
ويحاول بعض الباحثين في العصر الحاضر إعتبار الطقوس التي وردت في الدين السماوي (الكتاب السماوي، وممارسة رسوله) بقايا من الدين الأول الذي صنعه الإنسان، ولكن هذا غير صحيح لأن الطقوس في دين السماء تستند الى إرتباط وثيق بين المعملية والنظرية؛ ومثالنا على ذلك: النُذر أو الفدية، تلك الحالة التي أقرها الدين السماوي (دين النضج) لأنها تحمل دلالات ورموزاً تتحقق بها مصداقية السريرة.
إن الدين، صنعة العقل، ظلَ يؤثر في قدرة الإنسان المعاصر على استلهام الإشراق الفاضل في الدين السماوي الذي صنع أو صنَع العقل الإنساني من جديد فظهرت لدينا في هذاالإنسان حالة (التدين) ونعني بها الإتكاء على الوسائل الوضعية في فهم الدين الخالص.
والإنسان كائن بطيء الإنسحاب من معتقداته حتى في أجلىى حالاته الفكرية لانه لا يملك عقلاً (مفكراً) نقياً خالياً من التفكير الوجداني الذي يغطي مساحة العقل بالسلوان العاطفي ورطوبة المشاعر.
والتدين هو الذي أوجد الإنشطار المذهبي في الدين الواحد حينما أصبحت الشخصيات وقداسة الفرد وطهرانية الضريح وإختلاف النظرة إلى طبيعة الدولة التي أنشأها الدين السماوي عوامل ناخرة هادمة لحقيقة الدين الخالصة.
***
قلنا كما نقول الآن أن وظيفة الدين العُليا هي بث الطمأنينة والإستقرار في النفس البشرية، وهذا ما عجزَ عنه الدين الذي صنعه العقل، لأن العقل صانع والدين الذي أوجده العقل مصنوع، والمصنوع لا يجوز أن يكون أكبر أو أقدر من الصانع على أداء المهمة.
هل يرضى الأب أن يكون إبنه قائداً له في مسيرة حياته وهو الذي كان سبباً في ولادته ومُعلماً له دروس حياته؟ وإذا أردنا أن نشير إلى فضيلةٍ للعقل في إختراعه ديناً خاصاً به، مُفصلاً على حالة وعيه المحددة بزمانه ومكانه وثقافته، فإننا ملزمون بالإعتراف بأن الدين ضرورة عقلية للإنتماء على الرغم من الإختلاف القائم في فهم محتواه.
فما دام العقل قد (فكَر) في إيجاد دين ينتمي إلى نفسه وإلى خَلقِه وخالقه فيعني ذلك أن الدين يظل عملاً عقلياً لم يُسعفه الدين السماوي بالتبكير في الظهور فأوجده الإنسان من عندياتهِ.
إذن، لو فرضنا أن الدين السماوي لم يظهر ابداً، فهل كان العقل البشري قادراً على الوصول بتدرجه الديني الذي هو من صُنع محاولاته إلى مرحلة الدين السماوي أم أنه سيستمر في الإنتقال من دين الى دين بصورة وضعية حسية تعتمد على إدراك اللامحسوس بالمحسوس (استخدام الحس الفائق)؟ الذي نعتقده هو انه سيصل إلى مشارف الدين السماوي أو الدين السماوي نفسه ولكن بعد أن يستنفذَ كل محاولاته في صناعة إله على هواه فينشأ عنده ما نُسميه (إدراك اليقين باليأس من الشك).
هنا يلتقي الدين الذي صنعه العقل مع الدين الذي ضيع العقل، وهذا ما يؤكد ان الدين السماوي هو دين الفطرة والفطرة هي التلقائية والإستعداد الجبلي لقبول التوحيد والدين الذي ينادي بالتوحيد.
فلنعترف الآن أن الإنسان في مسألة إعتقاده كان قد دار في حلقة مُغلقة لم يُخرجهُ منها إلا استسلامه إلى القدرة الأعلى وهي الله.
نحاول الآن أن نفحص الدين الذي صَنع العقل، أي الذي أخضع العقل الطاغي المتمرد لقوته ونظَم وعيه بالطريقة التي يريد. إن الكائن الإنسان محكوم بتلاثة معطيات: التفكيروالعواطف والسلوك.
والذي فعله الدين في العقل، لكي يسيطر على هذه المعطيات هو الآتي:
1- قَدم الدين السماوي صيغة المُسلمات وهي النصوص التي لا جدال فيها. ولكي لا تكون تلك النصوص قيوداً على العقل ترك الدين للعقل فرصة التفكير في النص ولماذا جاء بهذه الصيغة الثابته. أي أن الدين لم يسلك مع العقل سلوك التدرج بل قَدم الثابت ليدور حوله النقاش.
2- قَدم الدين معلوماتٍ عن الخَلق (آثار الله) بطريقة رمزية وإشارية تتطلب من العقل البشري إعمال المجاهدة فيكشف تلك الرمزية.
3- جعل الدين ظاهرة الشك قائدة إلى اليقين ولم يجعل اليقين سبباً لإسترجاع الشك.
4- رسخ الدين السماوي في العقل ظاهرة التأمل.ويعرف الكثيرون أن التأمل هو أولى الخطوات إلى المعرفة الحقة.
5- أردفَ الدين السماوي ظاهرة العواطف في الإيمان إلى جنب ظاهرة التفكر لأننا نعرف، وفي علم النفس تحديداً، أن التفكير الوجداني يشحن التفكير العقلي بقوة المتابعة والإستمرار في المتابعة.
6- جَرد الدين السماوي سلوك الإنسان من الممارسات الساذجة والطقوس البدائية في التابو والطوطم والأسطورة لأنها لا تُفضي إلى الإيمان الحق بالخالق الحق.
7- علم الدين السماوي العقل البشري ظاهرة التواضع أمام المجهول لحين إكتشافه فأصبح عقلاً لا يمارس العمل الإختزالي في الوصول إلى النتائج.
***
لقد إتجه الدين الذي صنعه أو أوجده العقل البشري إلى فحص ظاهرة الطبيعية التي تحيط بالإنسان لكنه أهمل أهم ظاهرة إنسانية وهي ظاهرة النفس البشرية بكل ما يكتنفها من غموض وأسرار وخفايا.
فلقد حاول هذا الدين الوضعي حلَ ألغاز البراكين والزلازل والشمس والقمر والرعد والغيوم ناسياً أن أكبر لغز هو هذه النفس العاقلة؛ بينما إهتم الدين السماوي بالنفس واعتبر خَلقها وكينونتها تحدياً واضحاً أمام العقل.
أتزعمُ أنك جُرمٌ صغيرٌ وفيك إنطوى العالَمُ الأكبرُ؟
إن هناك إختلافاً واضحاً في المعاني والتسميات بين علم النفس العام وعلم نفس الدين.
وسنضع الآن جدولاً لهذه الإختلافات لنُبين فيه ما ذهب إليه علم النفس الوضعي الناتج من الدراسات الإنسانية وما ذهب إليه الدين في محاولته تأسيس علم نفس ديني يصوغ العقل البشري من جديد.
علم النفس العام - علم النفس الديني
1- هو نتائج ما تَوصلت إليه الدراسات الإنسانية للدماغ ومعطياته الفكرية والعاطفية والسلوكية.
1- هو الناتج الجاهز للنص الديني الذي يعتمد الثبات والتقدير المُسبق للسلوك الإنساني.
2- لم يناقش هذا العلم ظاهرة (الروح) وإعتبر الحديث عنها عودةً إلى بدايات غير واضحةِ المعالم.
2- أكد موضوع الروح وإهتم بها.
3- إهتم بموضوع "الشخصية" وقسمَها على نوعين: السليم والمريض وعدد أنواعاً كثيرة للشخصية المريضة.
3- لا يوجد موضوع واضح باسم "الشخصية" في علم النفس الديني بل أناب عنها مصطلح النفس في صحتها ومرضها كالنفس المطمئنة والنفس اللوامة.
4- إعتبر الدماغ مسؤولاً عن إدارة الصراع في توجيه السلوك وتحديده.
4- تحدث علم النفس الديني عن الأفئدة والقلوب وجعلها شريكة للعقل في ما تفقه فيه أو ما تضمُره من نوايا
5- لم يُفسر الأحلام تفسيراً نبوئياً مستقبلياً بل إعتبرها محاولات رمزية لحل المستعصى من المشكلات التي عجز الوعي عن حلها.
5- تعامل مع الحلم على أنها استنباءٌ بما سيحدث من خير أو شر.
6- لم يؤكد موضوع الجن والسحر والكهانة واعتبرها ميثولوجيا مَجة مُتخلفة.
6- يشير إلى هذه الأشياء بإهتمام واسع ويؤكد أثرها في النفس البشرية.
7- لا يؤمن بالحتمية السلوكية ويعد الإنسان كائناً قابلاً للتعديل والعلاج.
7- يميل إلى تقرير حالة الإنسان الذي يتصرف في حياته على وفق ما هو عليه من ثوابت وُلِد عليها.
***
كان الإنسان في دينهِ الوضعي (الدين الذي أبدعه أو إبتدعه العقل) يتغير لكي يتطور فهو ينتقل من حالة وعي إلى أخرى مستخدماً التدرج الزمني. فإله الغيم عند قوم من الأقوام يتغير إسماً وتكويناً طبقاً لوعي وثقافة أولئك القوم من زمن إلى زمن. وعدَ الأنثروبولوجيون الثقافيون حالة التغير هذه نوعاً من أنواع التطور.
هذا ما حصل في الدين الوضعي بينما كان الإنسان في الدين السماوي (الدين الذي صنع العقل والوعي) مُطالباً بأن يتطور من دون أن يتغير. وقد تحقق ذلك للدين السماوي لأنه أكد استمرارية ثبات مَرافق في حياة الإنسان وأكد مطالبة الإنسان بأن لا يتغير فيها إنما حقه أن يتطور في ضمنها. هذه المرافق هي: الإقتصاد ، واللغة، والمحرم المقدس.
ففي حالة المسلم في الإسلام لا يستطيع هذا المسلم أن يُغير من ثوابت الحلال والحرام في مصادر إقتصاده خلافاً لِما قرره كتابه السماوي (القرآن)، فهو ثابتٌ فيه وعليه أن يتطورَ في حدود هذا الثابت.
وفي اللغة العربية لم يستطع المسلم أن يُغير من لغته التي نزل بها القرآن حرفاً واحداً لأن القرآن عنده هو سيد المعاجم ورائد القواميس الذي يندحر أمامه كل إجتهاد في التغيير. وهذا ما جعل هذا الكتاب صعباً جداً على مترجمه إلى لغة أخرى لأن الترجمة الحرفية النصية أخفقت كثيراً في استلهام روح التأويل وفقه ما بعد المعنى المباشر في الجملة القرآنية.
وأدى ثابت (المُقدس المحرم أو المحرم المقدس) دوراً في العمل ضمن دائرة الطاعة للقوة الأعظم وليس في التمرد عليها، أي في العمل من الظاهرة بإتجاه خالقها. أمام هذه الثوابت وجه الكتاب السماوي العقل إلى العمل في ضمنها فأشاع في النفس البشرية الآتي من التعلم:
1- التواضع الجم في البحث العلمي عن الخالق وانعدام المكابرة في إصدار قرار الإلحاد. لأن العلم يعترف ويناقش في ما وصل إليه ولا يُصدر رأياً بالإلغاء والنفي لما يجهله، وإذا قال عالمٌ عن شيء لا يعرفه بأنه غير موجود لأنه لا يعرفه فقد جَهِل.
2- الصبروالتأمل الكاملان وهما سمتان في طالب التعلم، وبدونهما تشيع اللجاجة والفوضى والإستعجال. وإذا شاع الصبر والتأمل قلت كمية (العُصاب) في النفس البشرية وأصبح صاحبها أكثر إستقراراً ة وقدرةً على الحوار من أجل الحقيقة.
3- العلم بالمقارنة (Comparison learning): وهذا ما كان مفقوداً في الدين الوضعي، فلم يكن مُعتقِدُ دينه الوضعي قادراً على المقارنة بين ما أوكل إلى تصوره في معتقداته وكمية المنجز من هذه المعتقدات.
لقد ظل الذي يتصور ربه أفعى أو كائناً بحرياً أو صنماً حجرياً عاجزاً عن فهم العجز الكامن في هذه المؤلهات عن تحقيق شيء، أما الدين السماوي (وفيه الكتاب) فقد أوقد فتيل المقارنة في العقل.
4- محاربة الشك بفتح باب اليقين: فعلى الرغم من عدِ الشك عند بعض المدارس الفكرية سبباً لليقين فإنه له أثراً سالباً في النفس البشرية حيث يقود أحيانا الى ظهور البارانويا (أفكار الإضطهاد وأفكار العظمة). ولا يمكن أن يتحقق الإيمان ما لم يتحقق اليقين. فالفصامي والهوسي ومريض الأفكار الحصارية ومريض القلق يعانون من الوهم الذي كانت بدايته تدور في دائرة الشك.
***
من هذا الذي أوردناهُ نستنتج أن الدين السماوي أثر في العقل وقاده إلى التوحيد على ثلاثة أصعدة:
1- التفكير: وهو الذي يرتكز إلى الذكاء والذاكرة واللغة والإستنتاج عبر أدوات الحس وما فوقها من قدرة على الإستلهام.
2- العواطف: حين هذبها تهذيباً يليق بوقار الكائن الإنساني المُطالب بكيفية المثول أمام قدرةٍ تتمتع بالمُطلق.
3- السلوك: حين استطاع هذا الدين أن يرسم حدوداً وحرية محكومةً بإحترام حرية الأخر.
لقد حَقق الفكر الإنساني المُلحد بالله إغراء لدى الكثيرين فنشروا نظرياتهم وأفكارهم الداعية إلى إنكار وجود الله، واستطاع هؤلاء بما ملكوهُ من قدرة على الكتابة والنشر أن يُغروا جيل الشباب من بني الإنسان بأفكارهم.
وكثيراً ما يكون الإنسان في مُقتبل عُمرِه متمرداً مشاكساً باحثاً عن وجودهِ عبر قاعدة "خالف تُعرَف"؛ حتى إذا تَقدَم العمر بهؤلاء الشبيبة آلو إلى التمحيص وإعادة النظر في ما أغراهم من هؤلاء المفكرين الداعين إلى الإلحاد.
إن علم النفس الملحد لم يستطع أن يقف أو يصمد أمام علم النفس المؤمن بالله، لأن ذلك العلم كان يدرس السلوك البشري بواسطة مختبره النفسي والعقلي فيأخذ الظاهرة الإنسانية أخذاً تفسيرياً لا تأويلياً.
لقد جعل علم النفس الملحد الإنسانَ نواةً لأبحاثه وأوكل إلى طبيعة الإنسان كل قدرةٍ على الكينونة. ولنأخذ أمثلةً على ذلك: درسَ علم النفس حالة الغضب (Anger) عند الإنسان ووصل إلى أن مركز السلوك الغاضب هو اللوزة (Amigdla) التي تجعل الإنسان غاضباً عندما يتعرض لأسباب نفسية أو إجتماعية أو بيئية؛ فيصبح غاضباً لأن منطقة اللوزة مستثارة، لكن علم النفس لم يستطع أن يجيب عن الأسئلة الآتية:
1- لماذا اصبحت اللوزة مركزاً للغضب عند استثارتها؟
2- لماذا تُثير الأسباب النفسية والإجتماعية اللوزة؟
مثال آخر: قرر علم النفس أن المكان الأكثر من غيرهِ في الدماغ إختصاصاً بالذاكرة هو الفص الصدغي وقرن آمون.
لكن الكتاب السماوي يقول: يومَ تشهد عليهم جلودهم وأقدامهم وأيديهم. والشاهد لا يكون إلا بذاكرةٍ لديه عن الحدث الذي حضر حدوثه. هنا لم يستطع علم النفس أن يجيب عن سبب قدرة الجلود والأيدي على الشهادة.
هذا هو التحدي الذي قام به الدين أمام العقل البشري فإما أن يرفضه هارباً منه إلى الإلحاد أو أن يكتشف حقيقةً لا يستطيع إنكارها. مثال آخر:
1- لماذا تُبصر العين ولا تسمع؟
2- لماذا تسمع الأُذن ولا تبصر؟
3- لماذا لا يضحك الحيوان؟
4- لماذا ننام؟
5- كيف نحلم؟
6- هل ينام الدماغ؟
***
إن العقل المجاهد في محاولة صناعته إلهاً وديناً يوصله إلى ذلك الإله سيلتقي يوماً ما مع الدين السماوي الذي قدَم للعقل صورة الإله وطبيعة الدين الذي أقره الله طريقاً للوصول إليه، وهذا ما حصل عَبر كل ما قدمناه من تدبر وقراءة.
إذا كان الأمر كذلك وقد كان كذلك، فهل يمكن القول إن واحداً منهما يكفي للقيام على حياة الإنسان وصولاً إلى التوحيد؟ هل سيكون العقل وحده عقلاً ونائب فاعل عن الدين كما سيكون الدين ديناً ونائب فاعل عن العقل فيعيش الإنسان بواحدٍ منهما؟
إثنانِ أهلُ الأرضِ: ذو عقلٍ بلا دينٍ، وآخر دَينٌ لا عقلَ له.
للإجابة عن هذا السؤال نقول: ستستوي كفة العقل والدين وصولاً إلى مرحلة الإيمان بالله على المستوى العقلي الرياضي المجرد لكن لن يغني وجود العقل عن وجود الدين على المستوى القيمي للأشياء وعلى مستوى الأخلاق، لأن العقل في طبيعته لا يؤمن بالقيم ولا أخلاق مع العقل بينما تكمن القيم التي تٌقاس بالميزان ولا تحسب بالعداد في الدين.
فالإيمان العقلي بالله يُشبه الإيمان بالمسألةِ الحسابية يقرأها ويضع حلاً لكنه لا يقيم لها اعتبارات أخلاقية. فيما الإيمان الديني يضيف إلى الإيمان العقلي حلاوة ورطوبة ومذاقاً.
للإيضاح أكثر نقول: هَب أن رجلاً عالماً في الرياضيات أو الفيزياء يُوحد الله ويؤمن بخلقه للصغير والكبير بدون أن يعتنِقَ ديناً، فهل يجد هذا العالم معنى للصلاة والصوم وصولاً إلى رضا الله كما يفعل أتباع الدين السماوي؟ إنه لن يقوم بذلك لإفتقاده إدراك الغرض من هذا، لكن رجلاً آخر عالماً مثله في الرياضيات أو الفيزياء مثلاً يُوحد الله بعد إعتناقه ديناً سماوياً، سيقوم بالصلاة والصوم لأنه يؤمن بهما طريقاً إلى رضا ربه. فالأول لا يفهم معنى للعلاقة بين أن يُوحد الله وأن يُصلي له. هذا المثال يكفي على ما نعتقدُه سبباً للقول أن العقل يُوفر الإيمان المجرد بالله فيما يوفر الدين الإيمان المًعضد بطريقة الشكر لهذا الإله.
***
لماذا يُثير أتباع العقل الأسئلة حول الله فيما يتحاشى ذلك أتباع الدين وخصوصاً الدين السماوي؟ إن أسئلة أتباع العقل تتركز على النواحي الآتية:
1- إذا كان الله هو خالق كل شيء فمن خلق الله؟
2- لماذا أقر الدين قاعدة (لا إجتهاد في النص)؟
3- إذا كان الله جميلاً فلماذا خلق القبح في الأشياء؟
4- إذا كان الله يعاقب المجرم فلماذا خلقه غير قادر على الفضيلة؟
5- إذا كان نور الله يملأ كل شيٍ في الكون فأين تكمن النجاسة؟
6- إذا كانت الوراثة تفعل فعلها في إنتاج أجيال الملحدين فما دور العقل في الإنتصار على الموروث؟
هذه هي أهمُ الأسئلة التي أثارها العقل فلم يجد لها جواباً فمالَ إلى الإلحاد. وفي مقابل هذه الأسئلة لجأ أتباع الدين إلى ترك أسئلةٍ لا يملكون إجابة لها فأقروا ان مجرد إثارة مثل هذه الأسئلة عملٌ يقع في دائرة الحرام، فلجأ الكثير منهم إلى الصمت حتى تناهى إلى أذهان أتباع العقل أن اسئلتهم مفحمة ومعجزة لأصحاب الإيمان.
إن علم النفس يردُ على أتباع العقل بالآتي:
1- في مسألة (مَن خلق الله؟) يسأل علم النفس أتباع العقل ما يأتي: إذا كان النجار قد صنع (خَلق) الكرسي فكيف صنعه؟ إنه صنَعه بالفكرة فمن صنع الفكرة؟ صنعها الدماغ. فلماذا لم يسأل هؤلاء: من صنع الدماغ؟ إنهم لا يبحثون عن صانع للدماغ بل يحيلون إليه قدرة وفكرة الصناعة وينسون أن الدماغ مخلوق.
فإذا وصلنا إلى أن الله هو خالق الدماغ نكون قدوصلنا إلى سؤال: مَن خلق الله؟ ولو أجبنا أتباع العقل بالقول أنه لابد لله من خالق فينشأ سؤال آخر يقول: من خَلق خالق الله؟ وهنا ينشأ الإلحاد بالله لأنه سيُصبح قيمة وسطى بين خالقهِ ومخلوقاته، بمعنى آخر إنه سيُصبح مبعوثاً من خالقه إلينا وهذا لا ينطبق على الوصف الذي أقر بأن الله هو المُطلق.
وإذا أردنا أن نُقرب ما أوردناه بأمثلة فلدينا ما نقول به الآتي: يوجد في عضلة القلب مركز لكهربائية القلب تُسمى (العتبة الصانعة Base maker). وفي الدماغ البشري تنبعث موجات كهربائية من الفص الخلفي له (Occipital lobe) و تبعث الموجات الكهربائية المغذية لفصي الصدغ والجدار والفص الأمامي.
من أين جاءت الطاقة الكهربائية للدماغ مع علمنا أنه لا يوجد أي إتصال للنسيج الدماغي مع أنسجة أخرى أو محطات تغذية أخرى؟ معنى ذلك أن الدماغ صانعٌ لطاقته الكهربائية بنفسه فلماذا لا يقودنا هذا إلى استنتاج أن الله قوةٌ مكتفية بذاتها في صُنع ما تريد؟
2- الدين دينان: دين الإيمان بالله خالقاً أزلياً واحداً لا يتجزأ، ودين العقيدة. والنصوص تخص الحدود التي تجعل للإيمان معنى. مثال ذلك المدرسة : للمدرسة مناهج تُعلم التلميذ الكيمياء والفيزياء والرياضيات واللغة ولها أعرافٌ وطقوسٌ تقوم على إحترام المعلم والنظر إلى المعرفة بأخلاق وإنضباط أمام مُعلمها ولها مراسم إحترام زمن الدرس واللباس الخاص بالتلمذة.
ومثلما لا يمكن الإعتراض على عِلم المدرسة (النص) بينما يمكن الإجتهاد في أعرافها بحرية محدودة، كذلك لا إجتهاد في النص الذي منه وعلى رأسه الإيمان بمنهج الكون (الله).
3- الله جميل وقد خلق القبح في مخلوقاته لكي يُبرزَ صورة صورة الجمال على طريقة صراع الأضداد (الضِدُ يُظهرُ حسنه الضد). ولولا القُبح لما ظهر الجمال. فالكون في كل مفاصله محكوم بالثنائية. فالرسام البارع يرسم المناظر الجميلة لكنه يستطيع أن يرسم لوحةً تظهر قبح رأس البوم.
4- أودع الله في الإنسان عنصري الصراع (الشروالخير) ليرى كيف يجاهد الإنسان في خلاصة من السلوك الشرير.
5- الوراثة مؤثرٌ قويٌ لكن مبدأ الطفرة عامل كبير كما أن وسائل التعليم الجيد تٌخفي الكثير من آثار التوريث السيء.
د. ريكان إبراهيم
عمّار المسعودي يزرع بهجته شعراً
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. جمال العتابي
عمار المسعودي يمتلك أفقه ولغته الشعرية المميزة بإسلوب يعرفه، شديد الإخلاص له، المسعودي ابن (الصلامية) إحدى قرى الحسينية في كربلاء، كتب أول قصيدة له على كيس سمنت، كان أبناء القرية يقرأون للسياب والجواهري، ويقرأون الروايات ويتابعون الأحداث السياسية بعد إعلان الجمهورية الأولى في تموز 58، أولئك الذين تأثروا بالإنفتاح على حركة التجديد في الثقافة العالمية، تركوا بصماتهم على أجيال لاحقة، ومنهم عمار المسعودي، فأصدر مجموعته الشعرية الأولى في بداية التسعينات، وتلتها مجاميع أخرى، آخرها ديوانه الشعري، (عمار المسعودي يزرع بهجته) عام 2017.
هنا تتحول القرية إلى رمز لعالمه الخاص، عالم الروح والعقل، وحتى الخلود، فالشاعر في كل قصائده الوصفية لهذا العالم، يستعين بالمشهد الواقعي اليومي مادام يفيض بالحيوية من حوله، والقصيدة طافحة بالبراءة والبساطة والنقاء بنفس غنائي دافيء، والمتتبع لقصائد المسعودي يجد للطبيعة وجوداً سحرياً ، وأصبح هم الشاعر أن يجمع المكان والزمان والأشياء في لحظة الحضور الأزلي، فإزدحمت قصائده بالتفاصيل و عناصر الطبيعة الساحرة من حوله، ونثر أسماء القصائد موزعة على الأ شجار والفاكهة والمياه والحقول والريح والنخيل والأرض والأقمار والسماء، وأسراب الطيور، والندى والعطش وكأنها أقواس قزح مفعمة بالصور والألوان، والأنغام الصافية، إذ لا تكاد قصيدة واحدة في الديوان تخلو من هذه المفردات.
ان قوةً ما تتملك المسعودي تجد قرينتها في مرتع الطفولة التي ما تزال تشغل كل ركن من أركان وجوده، انه يدرك ما يكتب سوف يرتبط بلا شك بأجمل الأشياء، حين يجدها مصدراً لسعادته وكما يختار، وثمة لغة يحتفظ الشاعر بأسرارها لا تتوفر لشاعر آخر :
لو أني من أوراق وأغصان وأشجار فقط/لكان سهلاً علي أن /أبوح بأسراري عن هجرة الطيور
وفي قصيدة عناصر خالدة يقول:
لا أبحث عن الإرتواء/ما يشدني هو العطش، لأختبر شفتيَّ/لأراقب ما تهرّبين من المطر.
ثمة ساحر خفي يحول الاشياء الى نقيضها أو ينقلها من حال الى حال، هذه الطاقة والإنفعالات لا تلبث أن تجد لها متنفساً في الطبيعة للتعبير عن حرمان من لذة الحب، فإستطاب هذا الحرمان.
يميل المسعودي الى الإيجاز باللفظ، إلى حد الإكتفاء بالإشارة، مقتصد في التعبير، القصيدة لديه تكاد تتحول إلى نقش مختصر أو رسالة مكتوبة على جناح طائر،
لنتأمل (فاكهة لبهجاتي) :
لا أريد أكثر/من أن أغني/لهذه الأنهار/أن أخضرَّ/
بدلاً من عشبة نائية/أن أهدأ/صخبي صار /يؤلمني
وفي قصيدة أخرى يتصاعد الإيجاز والأقتصاد في اللغة:
أنا ريح/لا تحسن /إصطياد/النوافذ
عمار في أعماقه إنسان وحيد، متواضع، حبيس داخل ذاته، يحب الجمال، فهذه الصور المكثفة البسيطة تشيرالى واقع خفي وراء الواقع المرئي الملموس، مستسلم لإغراءات الطبيعة المضنية، لا يتردد أن يدخل ذاته في القصائد كلها:
(سألني، هنائي، راح عني، خرج مني، رماني في جب، لا تلمني، كلمني، يحيط بذاكرتي، انا عاشق نخيل، صرت طيراً منه، أودعني في بهائه، أتفقد أبي، أحلم ان اكون غنياً، أنا أنزل، اتقطر حزناً، أنا أقرب إليك، من الهامش أنا، أنا حفنة ماء.....).
وهناك عشرات الأمثلة، في قصائد المسعودي غارقة في ( الأنا)، لكنه سعى إلى خلق حالة من التوازن والإنسجام في محاولات ونداءات لأمل وحلم، تعبيراً عن إنتماء شاعر عاشق لوطن فالأنا في نهاية المطاف ليس موقفاً عدمياً خاسراً، لأنه عاش أبعاد المأساة بحرارة وصدق، تمثلها في قصائد(أملأ من عناقيده، عبث، أستبدلها بشجرة، لا أصلح للهجرة، أبني وحياتي تتهدم، وغيرها)، في هذه القصائد، تتحول اللغة إلى التزام بالعالم والإنسان، لاتفقد حدودها الجمالية في الصدق بمعناه الفني الرحب لأن صدمة الكارثة أقوى من هذا التيار الهاديء، والمشكلات أعنف من أن تقنع بالقيم الجمالية والأشكال الفنية المحكمة:
أبني وطناً /أسوِّره بالشموع /مرة وبالدموع
في فهرس الأمنيات يخفي إحتجاجه على فوضى العالم وراء الحزن والإكتئاب، وهو في النهاية حزن يوجهه العقل الناصع والوعي الدقيق، الشعر عنده هنا ملتزم، لا بالمعنى الذي تردده الألسنة دون إحساس، إنه شعر يشارك معاصريه آلامهم :
ليتني أنتمي لهذه الأسيجة
تلك التي نزفت على صلابتها/أعظم لحظاتي
صفوفاً في مدارس /حصوناً في سجون
ان كل شيء في شعر المسعودي يبدو واضحاً ملموساً مبتعداً عن الإنفعال، لكنه ملفوف في غلالة شفافة من الرموز والأسرار، وإستطاع الشاعر أن يملأ فراغ الوجود الموحش أو أرضه الحرام المهجورة، لتتحول حياته وتجربته محوراً يعبر عنها في شعره، فأصبح جزءاً من كيانه الشعري لا ينفصل عن العالم المحيط به، محاولاً التوفيق بين عناصر الخلق الشعري، وكأنه يقول :ليس من الخطأ أن تجد الطبيعة طريقها الى الشاعر والإنسان، بل الخطأ أن يفقد الشاعر إيمانه بالحياة.
يضيف عمار عنصر البهجة في أشد الحالات الإنسانية قسوة، وشعره أشبه بحقل كثيف تشابكت فيه الزهور والأشجار والنباتات، تحلق فيه الطيور، ويقطر الندى، وتحولت القصيدة إلى فهرس مفصل بأسماء هذه الكائنات، التي لا تحتاج الى متخصص للتعريف بها، لان المسعودي يقدمها طازجة نابضة بالحياة.
السؤال الأهم، هل يمكن لقصيدة عمار أن تجدد نفسها؟أم تظل تلوذ بإغراءات الطبيعة؟ بما يعني الإستسلام لها، أشد ما أخشاه أن تحتج الطبيعة على الشاعر نفسه، وتبعده عن القصيدة! بإعتقادي ان المسعودي بإمكانه أن يضيف لتجربته عناصر جديدة ومثيرة، تؤكد نضج وعيه الشعري وعمق تفكيره، ان ما تميزت به قصائده من جمال في الأداء والتعبير، وما تمتعت به من طعم شعري خاص، لا تحجب الدعوة الى البحث عن المعنى الإنساني العميق في تجارب المسعودي المقبلة، لتعلن عن نفسها انها فوق المقارنة مع ما سبقها من آثاره الشعرية.
جمال العتّابي
من ثقافة الوعي الى ثقافة التسليه
- التفاصيل
- كتب بواسطة: أياد الزهيري
الثقافه لغةً؛ تعني الفطنه والحذاقه، أما أصطلاحاً؛ فهي نظام يتكون من مجموعه من الأفكار والمعتقدات، والأجراءات، والسلوكيات. والثقافه وفقاً لهذا التصور لا يمكن حصرها في مستوى أرتقائي واحد، بل تتدرج من الحاله البدائيه الى الحاله الراقيه، وهذا ما يكشف التباين في ثقافات الشعوب وكذلك الأفراد في المجتمع الواحد. فالثقافه الواعيه؛ هي الثقافه التي تنور عقل الأنسان، وترتقي في طريقة تفكيره، وتهذب من سلوكه، وتدمجه في دائرة المدنيه، حيث تعبر عن نفسها بقيم التسامح، والمحبه، والأعتراف بالأخر، وأحترام القانون، والسعي لتطوير المعارف والقدرات، وأرتفاع منسوب التعامل الأنساني بين البشر. لا شك أن الثقافه الواعيه تنعكس على الواقع في حاله من النمو والتطور، ويعيش المجتمع في بحبوحه من السلام والوئام والمحبه .
الواضح أن الأمم والشعوب، كلما ترتقي في السلم الثقافي كلما تعيش في حاله حضاريه متقدمه، والسبب أن الثقافه لها صله عضويه مع الجانب الحضاري بلحاظ أن الثقافه عباره عن معارف، وسلوك يجسد هذه المعارف، كما ذكرنا أعلاه في التعريف الأصطلاحي للثقافه، وهذا عكس ما يتصوره البعض، وهو تصور خاطيء، بأن الثقافه تعني مجموعة الأفكار والمعارف النظريه التي يحملها الفرد، وهذا خطأ كبير، وهذا عين ما أشار اليه القرآن الكريم، وصوره بصوره فنيه جميله حيث قال (كَمَثل الحِمار يَحمل أُسفاراً)، فمثلاً هناك الكثير من حفظة القرآن، حيث يحفظوه على ظهر قلب، وهم لا يفهموه ولا يعملون به، فهؤلاء حالتهم كحال الحمار الذي يحمل الأسفار، ولا يدري ما فيها. فالثقافه هي غذاء الأنسان الروحي والوجداني المنعكس على الممارسه والأخلاق، ولذلك عمل الأستعمار القديم على تكريس حالة الجهل في المجتمع لكي يديم وجوده في الهيمنه عليه وأستغلاله، أما اليوم، فالأستعمار يزيف الثقافه ولا يمنعها، ويحرفها، بل ويفرغها عن محتواها الحقيقي، ويحولها الى لون من ألوان التسليه، في محاوله لأشغال الشعوب في اللهو، وعدم الأنصراف للأعمال الجديه، لكي لا تتفرغ للتفكير والعمل الجدي، وتأخذ زمام المبادره بأدارة وتنمية نفسها . كما هناك محاوله تحمل طابع التخريب لهوية الشعوب، وخاصه الأسلاميه، والعمل على تحطيم مرتكزاتها، أملاً في أهتزاز الثقه بها من قِبل أبناءها، لكي يكون ذلك مقدمه لأحلال الثقافه المهيمنه والتي تأتي من خارج الحدود، والدفع بالتماهي فيها والأنصهار بها، رغبةً بأسقاط وتلاشي كل المحرمات التي تمنع الأستغلال والتطبيع الغير مرغوب مع دول لها أطماع توسعيه في بلداننا الأسلاميه، وهذا يأتي من معرفة الأخرين بضرورة القيم الثقافيه الرصينه ومدى ممانعتها وتصديها لكل ألوان الهيمنه والأستغلال للشعوب الأخرى، من هنا علينا معرفة طبيعة الحروب الحديثه والتي تدعى بحروب الجيل الرابع والخامس والتي تعتمد على العامل الثقافي وأستخدامه في أستباحة الشعوب وتركيعها، بدون أطلاق طلقه واحده، بل سيكون أحتلال هذه الشعوب بترحيب أبناءها المخدوعين بما سُرب لهم من ثقافه مزيفه، وتحمل آثار الأفيون، الذي يخدر شباب هذه الشعوب.
أن الثقافه التي يحاول خصومنا بثها بين أوساطنا، هي ثقافة التسليه، وهي ثقافة لهو يمتزج فيها اللهو البري والغير بريء . تقوم على أساس أدخال مفردات الأدمان على الأستهلاك، والغرق برغبات المتعه العابره، واللذه السريعه، وهذه مفردات أن أستبدت بك ستضعف عندك أي حالة تحدي في مسيرة حياتك، لأنها تحبب لك حياة الترف والدعه والميوعه والحياة المخمليه الناعمه، في حين نحن شعوب، وخاصه من عاشت حروب طويله في أمس الحاجه الى العمل الجاد، وأمامنا تحديات كبيره وعصيبه علينا تجاوزها بالمعارف الراقيه والسواعد الخشنه .، فالبلدان لا تبنى بالأماني، والأحلام، ولا ننتظر أن يأتي الأخر البعيد فيبني لك بالمجان.
نحن العراقين لمسنا دخول الثقافه التسلويه ألينا بعد السقوط، والتركيز عليها، ومن مظاهرها كثرة بناء المولات والفنادق الفارهه والمطاعم الكبيره، وترويج أقتناء السيارات الفخمه، والسفر الكثير، وكل مظاهر الهدر المالي الغير مبرر، ولكن شاهدنا وبأم أعيننا كيف أدى ذلك الى شيوع الجريمه، وأنحلال الأخلاق، والرغبه بعدم العمل، والأتجاه لسهر الليالي الحمراء والماجنه، وكلنا لمس التطور اللاأخلاقي في مجتمعنا ونزوعه للرذيله، فقد أنهارت القيم بشكل سريع، وبخطى مخيفه، بحيث أدخلت الرعب الى قلوب الجميع، وأصبح الأمن في خطر، وتعرض المجتمع الى حاله من التصدع غير معهوده، ودخلت عادات وأخلاقيات غريبه عن منظومتنا الأخلاقيه.
لاشك أن ثقافة التسليه لها قوة جذب أقوى، وأكثر أغراء من ثقافة الوعي، وخاصه عندما تأتي بعد فتره طويله من الحروب والحصار، فالنفوس تكون متعبه وتواقه للتسليه والترفيه، فالأستمتاع بها لا بأس به، عندما تكون بحدود معقوله ومقبوله، كحاله يُستفاد منها للتنفيس، حيث يستجمع الأنسان من خلالها قواه، ويعيد توازنه النفسي، وخاصه بعد معانات وحرمان طويل من جراء الحكم الشمولي والديكتاتوري البغيض . فمن المستحسن أن تجتمع ثقافة الوعي والتسليه لكي تغذي الروح والعقل، وتريح النفس معاً، كما الحذر كل الحذر من الأستغراق بالتسليه الى حد الثماله، فهذا النوع يفسد الذوق وخاصه الأستماع مثلاً للموسيقى والأغاني المبتذله والرخيصه، كما أن أرتياد كازينوهات القمار والمراقص يولد خشونة الطباع، ويخلق نوازع الشر في النفوس والعقول، لذى فالثقافه تدخل في صلب حياة الفرد والمجتمع، وهي من تصوغ شخصيتهما، وترسم طبيعة حياتهما، وهي من تقرر درجة الأمان المجتمعي . أن ثقافة التسليه لم تخلق الا شعباً فارغاً، وينحو نحو العبث والفوضى، ولا يستسيغ العمل الجاد، ولا يحترم قيم العمل، لذى ترى هناك من يدفع مجتمعنا الى تكريس ثقافة التسليه، كما من الضروري الأشاره الى عنصر غايه في الخطوره، الا وهي أشاعة ثقافة الشعوذه، عبر برامج تلفزيونيه يقدمها مشعوذين يلعبون بعقول الناس، عن طريق أقناعهم بقراءة المستقبل، حتى أني أرى الأستغراق في مشاهدة كرة القدم، واحده من الممارسات التي تقتل الكثير من الوقت وتستهلك الكثير من الجهد، وقد أشار أحد الباحثين الى دور أغاني أم كلثوم، ومدى تأثيرها على المجتمع المصري، وأشاعتها للأسترخاء فيه، في وقت يكون المجتمع المصري بأمس الحاجه الى اليقظه والحذر من العدو الأسرائيلي، فَنُسبت الى أحد أسباب نكسة حرب ال1967 تأثير أغاني أم كلثوم على المجتمع المصري في أشاعة اللهو والترف والفع بأتجاه الأسترخاء، والأبتعاد عن كل ما هو جاد، ومن مأساة مجتمعنا حتى الطبقه المثقفه لا تتصف أغلبها بالجديه، فتراها تجير الكثير من المؤتمرات واللقاءات الثقافيه الى مهرجانات للترفيه والمتعه والتسويق لأنفسهم .
أياد الزهيري
قراءة في كتاب جمهرة الألفاظ العامية العراقية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: نبيل عبد الأمير الربيعي
للباحث والمترجم صلاح السعيد
صدر عن دار الفرات في مدينة الحلة بالاشتراك مع دار سما للكاتب والباحث والمترجم صلاح السعيد كتابه الموسوم (جمهرة الألفاظ العامية العراقية) الطبعة الرابعة مزيدة ومنقحة، الكتاب تضمن 352 صفحة من الحجم المتوسط ذات غلاف وطباعة جيدة، وقد تمت فهرست المفردات حسب الحروف الأبجدية مع الإهداء والمقدمة وما كتبه الكتاب حول الكتاب من اعجاب واستحسان، ويعد الكتاب مرجعاً مهماً للمفردات والألفاظ العامية العراقية. وقد اضاف السعيد لهذه الطبعة 765 مفردة عامية جديدة إضافة للمفردات السابقة ليصبح الكتاب يحتوي على 1930 مفردة عامية عراقية مستخدمة في الوسط الاجتماعي. والكتاب ممتع وقد تضمن الكثير ومن الأمثال الشعبية وأبيات الشعر الشعبي العراقي.
الكاتب والمترجم صلاح مهدي السعيد الحلي تولد مدينة الحلة عام 1945م، حاصل على شهادة البكالوريوس في كلية الآداب قسم اللغة الانكليزية، عمل مدرساً داخل وخارج العراق، وهو عضو نقابة الصحفيين العراقيين وعضو جمعية المترجمين العراقيين ورئس اتحاد أدباء وكتاب بابل، وقد ترجم الكثر من المقالات وصدر له أكثر من (20) مؤلف بين الترجمة والبحث والتأليف، وحائز على الجائزة الأولى لوزارة الثقافة العراقية لعام 2022م في مجال بحوث العقائد والانثرولوجيا عن كتابه الموسوم (طقوس وعقائد).
تمكن الباحث من جمع الكثير من المفردات العامية العراقية وتعتبر هذه المفردات مدخلاً لديباجة المعجم اللساني العراقي، وقد سلط الضوء الباحث على المفردات التي تطورّت وتشعّبت ونمت وتنقّلت وتبدّلت، وكأنها تحاكي روحاً وحالة عضوية قائمة، بما يوحي لنا بأن ما نقله ووثقّه السعيد هو علم يُعتّد به، ويُفخر بمكوثه. وهي مفردات نتداولها من خلال الاسترسال التراكمي من الحراك اللساني الممتد في عمق التاريخ، بعض أصول المفردات الماكثة من ألسنة لعدوّ أو محتّل سابق أو لاحق بصيغ مركبّة أو محرّفة أو مختزلة، لا تشكّل انتقاصاً من تاريخنا، لكن التوثيق يؤكد بعدم سلامة لهجاتنا من العجمة، ويمكن أن نقتبس بعض المفردات ليس للحصر مثل، أوجاغ، آهين، جادّة، جغان، عافرم، جطل، جشمجي... الخ. ونقرّ هنا أنه لا توجد لغة في الدنيا خالية من الاستعارات والتلاقحات حتى النائية منها، فالمفردات حُبلى بكلمات اللغات القريبة والبعيدة، وحتى من مصادر اللغات العراقية القديمة والعربية.
نجد إن اللغة العراقية الحالية منجم لغوي يمكن من خلاله الوصول إلى كثير من خفايا التاريخ اللساني البشري، وأن خامته تشرَئب إلى السومرية والأكدية، أو ربما أبعد من ذلك حتى اللغات الفراتية الأولى.
فإن دور الباحث السعيد في تدوين الألفاظ العامية العراقية سمّة لبيبة، يخشى البعض عن ضياعها وكذلك الباحث، وكم أنا ممتن للأستاذ صلاح السعيد للريادة التي قام بها في معجمه هذا (جمهرة الألفاظ العامة العراقية) التي تم اصدارها بأربع طبعات. لكن اليوم هناك مفردات دخيلة دخلت على المفردات العراقية العامية لم يسمع بها جيلي من قبل ولا الباحث صلاح السعيد ومنها : علاس، خمط، نگري، حواسم، دفتر، بوري. فقد حدثت انقلابات جذرية في مفردات العامية العراقية، فالطبقة الحاكمة اليوم لا تأتي بعاداتها وتقاليدها فحسب، بل تأتي بلغتها ولهجتها وألقابها أيضاً، وتفرضها على المجتمع بمرور الوقت حتى يصبح الشارع صدى كلام هذه الطبقات، وثمّة من يسخر من هذه وتلك، فيحصل خلط وعجب عجاب، كما هو حاصل اليوم. فقبل عام 2003م كان الحاكم البدوي قد حوّل الشارع العراقي إلى ثكنة عسكرية ترطن بمفردات الصحراء والسلاح، واليوم جاء الفلاح بكل ترسّبات الريف، وألقى حمولته اللغوية بلهجتها الثقيلة والصادمة في الطريق. حيث يقال اليوم في الشارع العراقي للمرأة الجميلة (صاكة)، وهي مفردة عامية تطلق على الأشياء المسبوكة جيداً، و(صكه) أي صفّاه جسدياً، و(المصكوك) المغتال أو القتيل. فضرورة تدوين كل تلك التخرّصات والشطحات لتشكّل سمة مرحلة تفيد الدارسين مستقبلاً. ودراسة الكلمات تصّب في فهم سمات الناس وطبيعة زمانهم وخصوصيتهم العقيلة.
وأخيراً نقول كثرة المفردات العامية التي جمعها الباحث صلاح السعيد لرمزية ثرائها وتراكم تجاربها وما اضاف لها من أمثال وقصائد شعبية تشكل متعة للقارئ والمتابع. وفي السابق نجد كلمة (حريشي) المتداولة في الجنوب العراقي تعني بالآرامية (السكوت أو الخرس) وتعدّ من الشتائم كدعوة للخرس، ونجد إحدى عشائر الجنوب (الحريشية) التي تعني الخرسان. وما زلت أتفحص باستغراب وفضول المفردات والأمثال التي ذكرها الاستاذ السعيد أجد بعضها سومري أو آرامي أو مندائي أو تركي أو فارسي، وحري القول بأن للكلمات روحاً ومدىً، مثلما هي الكائنات، فإن كُتب لها البقاء، فهي ماكثة، وإن وهنت، فهي فانية وبائدة، ووراء ذلك أسباب تتعلق بالجهد البشري. وتمكث المفردات رهينة يُبذَل من طرف أهلها، ولا يمكن لها أن تُعين نفسها بنفسها، وتقف شامخة دون تدخل بشري.
وقد ذكر الباحث في ص17 من الكتاب قائلاً: "اللهجات الدارجة نجدها في كل لغات العالم تقريباً"، وهذا ما نجده في اللغات الأخرى من التركية والانكليزية والالمانية والدنماركية والسويدية، فهناك اللغة الفصحى وهناك اللغة الدارجة كما هي في اللهجات العراقية العامية.
وثمة من يجد في الاختلاف بين اللهجة والفصحى مثلبة، وأنا أجدها مكرمة، أولها أن العامية حافظت على الموروث، والثانية أنها تضطلع على اسلوبين للتفكير يساعدنّ على تطوير ملكات العقل، كما هو حال من يتعلم لغتين، أو يعرف ثقافتين، بالرغم من أن الفرق فيما بينهما بسيط، وعن المثقفين يقلّ حتماَ، حتى تتطابق عند البعض، وهنا نقرّ أنه لا توجد لغة في الدنيا إلى صنفين إحداهما مثقفة والأخرى عامية، لذا فمن يتعلم إحداهما يفهم الأخرى.
لكن هناك بعض الملاحظات على بعض المفردات العامية التي استخدمها العراقيون في حياتهم اليومية، وقد شرحها الباحث صلاح السعيد بغير ما هي معروفة لدى الآخرين ومنها: أستكان وهي لفظة انكليزية وتعود إلى الانكليز والهنود ومع الاحتلال البريطاني للعراق وما زالت بعض المناطق شمنال العراق تسمي الاستكان (بيالة)، لكن بعض الجنود الانكليز كانوا يتناولون الشاي بالكوب، وهو الفنجان الزجاجي الكبير، وتميزاً لقدح الشاي الهندي (البيالة) عن الكوب الانكليزي اطلق هؤلاء على القدح اسم استكان، وهذا ما اكده د. علي ثويني في كتابة (الألسنة العراقية) ص 318.
كما اعتقد أن الباحث فد ترك سهواً بعض المفردات استخدمت في الالفاظ العامية العراقية مثال ذلك مفردات (أيجّات) وهي بمعنى الخيول المعمرة في سباق الخيول (الريسز) و(أيجه) تُطلق على المرأة التي تجاوزت فترة الشباب كذلك. فضلاً عن مفردات من الممكن إضافتها للكتاب منها: أطرقجي (بائع السجاد)، بازهر (طارد السم) وهي كلمة فارسية، بخّ بمعنى الذبح، برجم وهي كلمة تركية بمعنى (المسامير الحديدية المقببة، برداغ أي بمعنى كوب الماء وهي من لغات الشرق القديم، بلشتي (الحيلة) وقد اشتقّت من كلمة بلشفي، بلشه (ورطة)، بنجرجي، تنباك وهي لفظة هندية تلفظ على النحاس وفي التركية تعني تبغ النرجيلة، توثية (عصا)، جام كلمة تركية بمعنى الزجاج وكذلك هي كلمة من لغات البلقان، جراويّة أي غطاء الرأس وقد استعملها السوريين، جرخجي أي الحارس، جفجير، جفيان، جلاق، جلبي، جلّت أي بمعنى كلّت أو اكتفت، جمالة، جيب، جيجان بمعنى الشيشان الذين جاؤوا إلى العراق أيام الاحتلال العثماني، حايط انصيص، حبنتري، حسوه من الحساء، حمامجي، حسجة، الحرمدان أي حقيبة السفر، الجزدان كلمة تركية، البازبند وهي كلمة فارسية، خاتون وهي السيدة من اصل تركي ومغولي، خازوق من اصل تركي ويعني الوتد، خاصكي أي حاشية السلطان، خراب البصرة، خرگة ويقال للرجل خرگة وخنيوة وخنجة، خوجة أو خواجة، خنده وهي فارسية بمعنى السيد، دامرجي، داية ، الدربند فرسة بمعنى سنبلة من الحديد، درو فارسية بمعنى الألم، وهكذا هناك الكثير من المفردات بالإمكان للباحث اضافتها للكتاب ليعتبر معجم للألفاظ العامية العراقية.
مع كل ما ذكرت سابقاً أنا اشكر الباحث صلاح السعيد لهذا الجهد الذاتي الذي بذله لإخراج هذا الكتاب الذي يضم مفردات عامية قد تندثر ويطويها الزمان على النسيان.
نبيل عبد الأمير الربيعي
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (199): الإيمان والأخلاق
- التفاصيل
- كتب بواسطة: صحيفة المثقف
خاص بالمثقف: الحلقة التاسعة والتسعون بعد المئة، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، رئيس مؤسسة المثقف، حيث يجيب على أسئلة الأستاذ الدكتور صادق السامرائي:
الإيمان والأخلاق
ماجد الغرباوي: المهم في هذا البحث دراسة الإيمان كسلطة مؤثرة في توجيه وعي الفرد والتحكم بإرادته. والإيمان مشاعر نفسية عميقة، ذات مرجعية عقدية ترتبط بالرؤية الكونية للإنسان وفهمه للذات والآخر، وكيفية انعقاد الإيمان في أعماق النفس البشرية. وهي آلية معقدة، يصعب تفسيرها، خاصة الإيمان بالخرافات واللامعقول وكل ما يتعارض مع منطق العقل. وهذا يؤكد ارتباط الإيمان بمشاعر الإنسان وأحاسيسه وجهازه العصبي وقناعاته ومستوى وعيه وقوة إدراكه ووعيه لذاته. وبشكل أدق، إن الإيمان عنوان لسلسلة عمليات شعورية ولا شعورية، ترتهن إرادة الفرد وقراراته. فالإيمان لا يخضع لصرامة العقل دائما، بل الغالب ينعقد بغفلة منه، بفعل الخطابات العاطفية والمشاعر المؤثرة والظواهر السحرية وقوة إيقاع الكلمات على ذهن السامع، وكيف تخترق النفس لتهيمن على مشاعره، حيث تترسب تدريجيا في أعماقها، ثم تتراكم مع كل خطاب أو مشهد عاطفي جديد، وهذا أحد أسباب رسوخه، وتمرده على العقل وقوانينه، فتجده أكثر إخلاصا لقناعاته النفسية، رغم تزامن العقل والعاطفة في تلقي المشاعر، غير أن النفس تتفاعل مع العواطف لا شعوريا، خاصة وهي تُلهب مخيلة السامع، وتحلق به عاليا في عوالم الأوهام السحرية، خلافا لمنطق العقل الذي يستدعي جهدا تأمليا لإدراك حقائق الأشياء، ويتوقف أمام كل معلومة ليتأكد من صحتها، وهو أمر صعب، خاصة مع تواضع الوعي، فتتماهى النفس مع مشاعرها وتصوراتها، وتعيش دفئا إيمانيا يضفي معنى على تجربته الروحية، ويبعث فيها روح الطمأنينة، خاصة إبان الازمات ومواجهة التحديات.
لا ريب أن الإيمان مظهر بشري محير، حينما نعجز عن تفسير تجلياته، وهو يخاصم عقله، ويتماهى مع معتقده، بل ويغيب أو ينكص عند تلقي الخطابات العاطفية، وما توحي به الطقوس والأمكنة من دلالات رمزية وقناعات، تغزو اللاشعور وترتهن إرادته، فينقاد لإيمانه، غير مبالٍ لتداعيات عمله. وقد ينساق الفرد مع إيمانه حد التضحية بالنفس وفاء له. لذا توظف الأيديولوجيات خطابات عاطفية للتأثير مباشرة على مشاعر الإنسان، وتلهب الخيال، بعيدا عن العقل ورقابته، حد التمرد والانسياق وراء النفس ومقاصدها. فالإيمان ينسج منظومة معرفية وفقا لموازينه وقناعاته، توجه سلوك الفرد.
وأقصد بالإيمان مفهومه العام الذي تقدم بيانه. مصدره تراكمات شعورية ولا شعورية، نفسية – ثقافية، هي سر نسبيته وتفاوته بين شخص وآخر، رغم وحدة العقيدة أحياناً. يبدو هذا واضحا من تجلياته النفسية والسلوكية وردود الأفعال. فالإيمان هو المحرك الحقيقي لوجود الفرد، خاصة العلاقات الاجتماعية، وقد شاهدنا جميعا كيف يدفع الإيمان بعض الناس لتفجير نفسه بيقين راسخ. بل حتى الطموح الفردي ينطلق من إيمان يسبقه تصور عقدي، وهذا يعطي راهنية لعلاقة الإيمان بالأخلاق، من خلال التركيز على دور الإيمان في إحياء ضمير الإنسان، وديمومة رقابته التي يرتهن لها الفعل الأخلاقي. ولما كانت مناشئ الإيمان متعددة فيمكن تطوير الرؤية الإيمانه من خلال ذات المناشئ، التي يمكن تقسيمها إلى نفسية وثقافية، تتوالى على بناء وصياغة إيمان الفرد. سواء كان موضوعه فكرة أو أسطورة أو كائنا أسمى أو الخالق تحديدا. وهذا يتوقف على فهم الضمير، لنفهم كيف يمكن للإيمان بشكل خاص والدين كخطاب روحي وأخلاقي التأثير فيه؟.
تقدم أن الضمير "وازع نفسي، ورقيب ذاتي، يضبط الأداء السلوكي للفرد"، فهو يشترك مع الإيمان بوصفهما حزمة مشاعر ضاربة في أعماق النفس، تشتبك مع الأنساق الفكرية والعقيدة والثقافية المضمرة. وتتزود من الصفات النفسية والوراثية. وتتأثر بإيقاع الخطاب الوعظي والإرشادي. وكلاهما انفعال نفسي تستجيب له مشاعر الإنسان. يتأثران بالبيئة والثقافة والاجواء السياسية والاقتصادية، والاستعدادات الذاتية للفرد، فثمة شخص متمرد بطبيعته، تلاحقه الشكوك والأسئلة المصيرية، وآخر بطبيعته، بسيط، وربما ساذج أو خامل، ينطوي على طيبة فائقة، تجعله يصدق كل شيء. وبالتالي فإن وحدة الطبيعة البشرية رغم اختلاف خصائصها، تقتضي تأثير الإيمان في يقظة الضمير، ولو نسبياً. وتؤكد قدرة الأديان على حمايته، من خلال تزكية النفس، وتهذيبها، وكلما صلحت نفس الإنسان صلح ضميره وقيمه الإنسانية. ولا يقتصر صلاح النفس على الأديان، ويمكن للفرد تولى تهذيب نفسه بنفسه، لكن للدين خصوصيته التي لا ينافسه أحد عليها، وهي قدرته على شد الفرد بالغيب والمطلق، وهيمنته عبر التجليات اللاشعورية للمقدس. أي قدرته على خلق أجواء نفسية وروحية ترتهن إرادة الإنسان ومشاعره، فينشدُ لا شعوريا للغيب، ويتمثل عوالمه، التي تقوم بدورها – أي التمثلات – بخلق أجواء إيمانية، تتفاوت من فرد لآخر، لاشتراك الخيال بالتمثّل. كما يتصف الخطاب الديني بقوة إيقاعه وتأثيره، وقدرته على تمرير رسالته، وإقناع المتلقي بمضمونها. بل يمتلك القلوب، ويُلهب المشاعر. ومن يمتلك القلوب، يمكنه إعادة تشكيل الوعي بسهولة، وبرمجة إرادة معتنقيه على وفق مقاصده، عبر نصوص قدسية ومتعالية ومعطى نهائي، يقتصر فيه دور الفرد على التأويل والتبرير، بهذه الطريقة يضمن ولاءهم وانقيادهم. فالدين سطلة هائلة، وعنصر أساس في تشكيل هوية المجتمعات الدينية. وهذه الخصائص هي التي تدفع الناس للالتزام بتعاليمه. فيمكن للدين بمعنى الإيمان والقيم الأخلاقية والروحية حماية الضمير الإنساني، ومساعدته على الصمود أمام مطلق التحديات، النفسية والخارجية، عبر خطابي الترغيب والترهيب. والكلام هنا عن الضمير وحمايته ليبقى رقيبا صارما، يمارس سلطته. محفزا على الخير ورادعا عن الشر. شريطة أن يكون ضميرا حيا، متوثبا، يقظا، نابضا بالحياة. ومع غفلة الضمير أو تراخيه، يزيغ الفعل الأخلاقي عن مقصده، ويتخلى الفرد عن قيمه في لحظة ضعف، فإما الندم وتوبيخ الضمير، أو التهاون والتراخي واستسهال تداعيات الفعل. وفي كل مرة يتهاون مع نفسه، يفقد الضمير قدرته على الردع. فيلجأ للتبرير بادئ ذي بدء، ثم يسحق ضميره فيما بعد، وينسلخ عن قيمه وأخلاقه، يفعل ما يحقق رغباته، وأول عمل يقوم به الحط من قيمة الإنسان عندما يجعل منه وسيلة لتحقيق مآربه، حداً يغدو اقتراف الجرائم أمرا عاديا مستساغا، مادام يحقق مصالحه. والسبب هو انقلاب موازين الخير والشر، بفعل التمادي في الجريمة، فيصف القرآن هذه الحالة بقوله: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ). مما يؤكد تداعيات الشر على نفسية الإنسان ومشاعره وضميره، حداً يصاب بضبابية الرؤية: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ).
وبهذا نفهم أن الفعل الأخلاقي يتوقف على شرطه، الذي تقدم الحديث عنه مفصلا، وكلامنا هنا عن الضمير، كيف يمكن تحفيزه وحمايته؟. وهل يستطيع الدين أن يلعب دورا في إحيائه، واستعادة دوره الرقابي؟.
حياد الإيمان
لا ريب بجدوى الإيمان لحماية ضمير الفرد، وضمان صموده، خاصة الإيمان الديني المعروف بقدرته على ربط الإنسان بالغيب والمطلق والمقدس، وتمكنه من إعادة تشكيل الوعي. غير أن الإيمان ليس بريئا، وليس محايدا، وينحاز لموضوعه ومعتقده ويقينياته، فكيف نحرز استقلاليته وحياديته، وهو يُملي قناعاته على الضمير الذي نتطلع لحياديته وإنسانيته وتعاليه على جميع الخصوصيات؟. ومثالها لو تخلى الضمير عن مسؤولياته أمام اضطهاد الآخر، المختلف دينيا، وهو أمر متوقع، مع سطوة الأيديولوجيات الدينية التي تربط مصير الفرد بمواقفه وسلوكه، وتعتبر الموقف من الآخر مقياسا لإيمان الفرد ومدى إخلاصه لعقيدته وأيديولوجيته. بل أن الدين هو ضرب من الأيديولوجيا، فكيف نتوسل به لضمان يقظة الضمير، وعدم انهيار منظومة القيم الأخلاقية؟.
مرًّ بنا، أننا مع استقلال الأخلاق عن الدين بمعنى التشريع، على خلاف الأشاعرة. ويمكن للدين أن يلعب دورا حاسما في موضوع الأخلاق من خلال ضمير الإنسان. لكن يبقى الإشكال حول حيادية الدين، ونزاهة الإيمان. فكيف نستفيد من الطاقة الروحية للدين في استتباب القيم الإنسانية والأخلاقية، دون الإخلال بالشرط الأخلاقي؟. وهل سيتأثر ضمير الإنسان بالقيم الدينية في موقفه من الفعل الأخلاقي؟. وهل يقف مع الدين أم يتمرد عليه إذا اقتضى الموقف الأخلاقي الانتصار للآخر، باعتباره إنسانا، بغض النظر عن خصوصياته؟. وفي هذه الحالة سيفقد الدين تأثيره إذا تمرد عليه، أو يفقد الضمير صدقيته، إذا تخلى عن وظيفته. وهذه هي إشكالية العلاقة بين الدين والأخلاق. فكيف يمكن تسويتها، والاستفادة من الطاقة الروحية للدين دون الإخلال بشرط الفعل الأخلاقي؟.
ورغم أنها إشكالية معقدة لكنها ليست مستعصية، بل يمكن تسويتها من خلال فهم جديد للدين. فما هو مفهوم الدين الذي نتطلع لاستثمار طاقاته الروحية؟ هل الدين بمعنى التشريع، وقد قلنا باستقلال الأخلاق عنه؟ أم الدين بمفهوم آخر؟.
سبق أن ذكرت رأيا حول مفهوم الدين، أجده مناسبا لحلحلة الإشكالية، والتمهيد إلى تسوية عملية، دون التفريط بأي من القيم الأخلاقية والدينية. قلت في كتاب الفلسفة النسوية:
(الدين تجربة روحية تروي ظمأ الإنسان المتعطش للمطلق، والمرتهن للغيب والمقدس. يغمره قلق مصيري لا شعوري، وتوق جنوني للسمو يستبد به وهو يعيش تجربته، فتنعكس آثارها على سلوكه ومشاعره ومواقفه. والدين بهذا الفهم الصوفي يساهم في تعميق قيم التسامح والسلم الأهلي، حينما يضفي الدين معنى لحياته وتضحياته، ويرفد المجتمع بقيم المحبة والسلام، ويساهم في تماسك الأواصر الاجتماعية، والحث على العمل الصالح. وعدم التآمر ضد مصالح شعبه ووطنه. لا يسود الاستقرار والأمن، ولا تحقق المواطنة أهدافها من خلال القوانين وقوة القضاء، بل ينبغي وجود ثقافة موازية تثقف الشعب على القيم والمبادئ الكفيلة باستقرار الشعب. والدين بالمعنى المتقدم يلعب دورا إيجابيا عندما يخلق وازع التقوى، وحب الخير، وحينئذ سيلتزم بالأنظمة والقوانين حتى في خلواته بعيدا عن عدسة الرقيب الأمني. وهذا النمط الديني يعارض منطق الفرقة الناجية، ويفتح باب النجاة أمام الجميع، ويحول دون دعوى احتكار الحقيقة، وسيادة منطق التكفير). بهذا غدا واضحا أننا نتوسل بمفهوم مغاير للدين، ونتطلع لدور يقوم به الدين بمفهومه الإنساني، الذي يرتكز في مشروعه السماوي على الإنسان بما هو إنسان، بغض النظر عن خصوصياته. يؤكد هذا ما ذكرته أكثر من مرة أن الأحكام الأخلاقية في القرآن، أحكام إرشادية، ترشد لحكم العقل العملي من الأخلاق. بل وفقا لهذا لا يمكن للدين الوقوف ضد الفعل الأخلاقي، لأن قوانين العقل لا تخصص، والفعل الأخلاقي من مدركات العقل العملي، كما تقدم بيانه، لا فرق بين شخص وآخر، بما في ذلك الانتماء الديني. فالعدل حسن والظلم قبيح يحكم بهما العقل، بغض النظر عن موقف الشرع منهما. وقد ذكرت شواهد من القرآن، كموقف موسى النبي الذي استفزه قتل الغلام من قبل العبد الصالح، واصفاً عمله بالظلم: (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا).
مركز اشتغال الدين
تقدم أن مركز اشتغال الدين هو الضمير، وليس الفعل الأخلاقي. أي أن الدين لا يفرض على الفعل الأخلاقي شرطه وقناعته، لاستقلالية الأخلاق عن الدين، لأنها من مدركات العقل العملي. وحتى لو أرجعنا الأخلاق لله، فإن المراد بلفظ الجلالة الخالق، خالق كل شيء: (الإنسان وفطرته وطبيعته وعقله). وهذا لا يغير من الحقيقة شيئا، ويبقى الحُسن والقُبح عقليان لا شرعيان. وأن الحسن حسن بذاته، لا ما حكم الشرع بحُسنه. والقبيح قبيح بذاته، لا ما حكم الشرع بقبحه. وقد بينت أسباب ذلك، وقلت: إذا نفينا حجية العقل العملي في مجال الأخلاق فإنه يلزم التبعيض في أحكامه، واحكامه الأصيلة والأساسية مطلقة وكونية لا تخصص. كما لا يمكننا إدراك مقاصد الدين البعيدة في بعض المواقف التي نعتبرها، وفقا لمقاييسنا، أفعالا لا أخلاقية كقتل الغلام من قبل العبد الصالح، أو عندما همَّ إبراهيم النبي الكريم بقتل ولده استجابة لرؤيا رآها. كما أن أحكام الشريعة متحركة، تستيجب لمتطلبات العصر والزمان والظروف السياسية والاجتماعية المحيطة بها: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم). بينا الدين بالمفهوم الذي تقدم ثابت: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)، (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ). (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ). فالإسلام بمعنى التسليم هو الإطار العام لجميع الأديان، رغم اختلاف شرائعهم، وكل منها يعد طريقا للنجاة بنفسه. ولا ريب في دلالات الآية، ومن يدعي النسخ عليه أن يأتي بدليل قرآني، صريح، واضح لا لبس ولا شبهة فيه. فتبقى الآية أصلا في علاقة المؤمنين مع بعضهم.
الدين لا يناوئ العقل، وأحكام العقل ثابتة وكونية، لذا نتوسل بطاقته الروحية، لإحياء ضمير الإنسان، وتحصينه، وتثبيته على الصراط المستقيم. والنصوص الدينية في جميع الأديان ليست نادرة. وثمة دعوات واضحة لإحياء النفس، وليست النفس سوى الضمير الحي للإنسان، بما هو إنسان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). والنفس هنا شاملة للضمير الإنساني، فهو يتشكل في أحضانها، وتنعكس عليه صفاتها وخصائصها. وفي الآية التالية إشارة وإن كانت بعيدة، لكنها ملهمة لمن يطيل التأمل فيها: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا). ولا يكفي أنك تحييها جسدا، بل حياتها الإنسانية التي هي مركز المشروع السماوي. فالإنسان إنسان بروحه وضميره وعقله: (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ). وبالتالين الدين يرفد الضمير بطاقة روحية من خلال تزكية النفس، وتزويدها بقيم ومفاهيم إنسانية، لذا تخاطب الآية الإنسان: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى). وهي مهمة الضمير حصرا، فالضمير بعد أن يتشبع بالمعاني الإنسانية، يمارس دوره الرقابي، وينهى النفس عن الهوى.
بهذا نفهم سبب تأكيد الفلاسفة على الإيمان والدين رغم قولهم باستقلال الأخلاق عنه. ابتداء من سقراط إلى كانط مرورا بأفلاطون. فقد اعتبر سقراط الإيمان مكملا للأخلاق، لكنها لا ترتكز عليه. وجعل أفلاطون للدين مكانة في الأخلاق أكثر مما فعل سقراط، فالفضيلة لا ترجع إلى الحكمة بل إلى بصيرة ملهمة مشربة بنفس ديني. واعتبر كانط الدين ضرورة للأخلاق رغم استقلاليتها عنه. وبالتالي فالدين لم يغب عن تفكير الفلاسفة، وقد أولوا إهتماما كبيرا له، بل بأنفسنا نشعر بقيمة الدين وضرورته لتقويم الأخلاق.
لكن السؤال كيف يؤثر الدين على ضمير الإنسان؟ وما هي وسائله؟
يأتي في الحلقة القادمة
............................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه
منظرو الاقتصاد (17): آرثر پـيگو
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. مصدق الحبيب
(1877 – 1959) Arthur Pigou
هو الاقتصادي الإنگليزي الذي تتلمذ على يد مارشل والذي ربما كان تلميذه المفضل لذكائه وتفوقه بحيث أن مارشل أعطاه الفرصة ان يحاضر في قسم الاقتصاد مباشرة بعد تخرجه وهو بسن الرابعة والعشرين. كما انه جعل منه خليفته في رئاسة القسم وهو في الثلاثين من عمره. عُرف بالتصاقه بمنهج مارشل واخلاصه لفلسفته في التدريس والبحث فكان يردد غالبا على طلابه "أي شئ تسألون عنه في الاقتصاد سترون جوابه عند مارشل". وكما كان وفاؤه لمارشل فقد اهتم بطلابه وتخرجت على يده نخبة بارزة من الاقتصاديين الذين قادوا مسيرة الاقتصاد في القرن العشرين. وقد ساهم حماسه وحماس طلابه في زرع البذرة الاولى لما سمي فيما بعد بمدرسة كمبردج في الاقتصاد.
ولد آرثر في رايد الواقعة في جزيرة وايت في الجنوب البريطاني. كان أبوه ضابطا في الجيش وأمه منحدرة من عائلة بارونات معروفة. دخل مدرسة هارو الاهلية العريقة في لندن فكان تلميذا مجتهدا مهذبا فاز بجوائز مدرسية عديدة اضافة الى نشاطه الاجتماعي. كانت دراسته الجامعية في الفلسفة والاخلاق، ثم تفرغ لدراسة الاقتصاد في كلية الملك بكمبردج وبدأ التدريس فيها عام 1901. ثم اصبح زميلا في الكلية بعد عام واحد فقط أي في 1902، وفي العام التالي فاز بجائزة آدم سمث لعام 1903. بعد ذلك حصل على درجة الاستاذية عام 1908 فاستلم مباشرة رئاسة قسم الاقتصاد، خلفا لمارشل الذي تقاعد من عمله الجامعي في ذلك العام.
كان آرثر رجلا مبدئيا مخلصا في عمله ومعروفا بقيمه الاخلاقية العليا التي غالبا ما كانت سببا لمتاعبه الشخصية التي تحملها نظرا لالتزامه بمسؤوليته. فحين اندلعت الحرب العالمية الأولى رفض الانخراط في القوات المسلحة البريطانية لانه كان رافضا للحروب ولفكرة القتال ضد ابناء جنسه والتي لاتجلب الا الموت والخراب. لكن انصياعه للواجب الوطني جعله يقبل ان يصبح سائقا لسيارات الاسعاف مع الاحتفاظ بعمله كأستاذ جامعي. وفي هذا الصدد كان كارها لعمله في اللجان الوطنية العليا. فقد انتدب للعمل في لجنة كونليف الوطنية للتبادل التجاري لعامي 1918 و1919 واللجنة الملكية لضريبة الدخل لعامي 1919 و1920 ولجنة چيمبرلن للنقود والبنوك لعامي 1924 و1925. فلم ير لنفسه المكان المناسب في هذه اللجان عالية المستوى لما يسود فيها عادة التدخل السياسي والنفاق والتدليس. وحتى الاكاديمية البريطانية التي منحته عضويتها عام 1925 استقال منها. ومع تركه العمل في كل تلك اللجان فضل ان يبقى اكاديميا مستقلا منصرفا للتدريس والبحث.
كان آرثر پيگو من الاكاديميين الاوائل الذين استهوتهم فكرة ان لعلم الاقتصاد رسالة انسانية هي خدمة المجتمع وتحسين احوال معيشة الناس، فهو القائل بأن الاقتصاد عبارة عن نشاط يحمل ثماره الطيبة معه. ولذا فقد اشتغل على عدة محاور اقتصادية كالدورة الاقتصادية واقتصاد المالية العامة والتبادل التجاري والارقام القياسية وطرق تقدير الناتج القومي، لكن جهوده تركزت على مجالين اصبحا فيما بعد الموضوعان اللذان يشيران لمساهماته المتميزة، وهما اقتصاد الرفاه ونظرية العمالة. ولابد لي هنا ان اشير الى الترجمة العربية التي ورثها تلميذ الاقتصاد والقارئ العربي لهذين المصطلحين التي لا أراها ترجمة دقيقة. فاقتصاد الرفاه في هذا الصدد Economics of Welfare لايقصد به اقتصاد السعادة والترف، انما اقتصاد الصالح العام، حيث يقول التعريف الانكليزي بانه فرع الاقتصاد الذي يعالج ما يجنيه المجتمع من الفوائد والاضرار المترتبة على تبني القرارات والسياسات الاقتصادية من قبل الحكومات والمؤسسات، العامة والخاصة. أما ترجمة Employment بـ "العمالة" فهي الأخرى ترجمة غير موفقة لانها تعطي الانطباع المباشرعن الاشتغال كعميل لجهات اجنبية ! فيهمل القارئ انها مشتقة من "عمل، يعمل، فهو عامل، وليس عميل". أعتقد ان الترجمة الأدق هي الاستخدام، والمقصود به استخدام عنصر العمل كواحد من عناصر الانتاج، وهي بهذا متوافقة مع الاستعمال الشائع لمفهوم استخدام الموارد الاقتصادية.
في عام 1912 نشر پيگو كتابه الموسوم "الثروة والرفاه" والذي أصدر نسخة منقحة وموسعة منه عام 1920 بعنوان "اقتصاديات الرفاه" الذي أصبح الكتاب -الهوية له بما شمل من طروحات جديدة اُعتبرت كمساهمات قيمة لأدب النظرية الاقتصادية. في هذا الكتاب أولى پيگو اهتماما خاصا باعادة صياغة وتوسيع وتطوير مفهوم مارشل الـ Externalities والمقصود به الآثار الجانبية، الايجابية والسلبية، الناتجة عن تطبيق القرارات والسياسات الاقتصادية. فبدلا من أن لايعير لها اهتماما متخذو القرارات وراسمو تلك السياسات ولا ينتبه اليها المجتمع، أشار پيگو الى اهميتها واهتم بمعالجتها. وتماما كما تعالج الادوية في الغالب عرضا مرضيا رئيسيا ولا تأبه بالاعراض الجانبية، يحدث هذا على صعيد الاقتصاد نتيجة لاتخاذ أي قرار اقتصادي. والتعريف الرسمي لهذه الآثار الاقتصادية الجانبية هو الكلفة المفروضة أو المنفعة المتحققة للاخرين والتي لم يُحسب لها حساب عند من سببها وهو يخدم غرضا معينا لمشروع ما.
لنفترض اننا نتحدث عن بناء مطار في مدينة ما. فلهذا المشروع، اضافة لمنفعته الاصلية بتوفير خدمات النقل الجوي، اضرار وكذلك فوائد جانبية غالبا ما لم تؤخذ بالحساب الاقتصادي. فمن الاضرار الرئيسية التأثير على نقاوة الجو في المنطقة المحيطة بالمطار بسبب الكم الهائل من الغازات المنبعثة من محركات الطائرات، وكذلك ما يترتب على الضوضاء الناتجة جراء اقلاع وهبوط الطائرات من ازعاج، اضافة الى ضغط المرور الاضافي على الطرق والجسور وماينتج عنه من ازدحام واختناقات. أما الفوائد فقد تكون في هيئة الانتعاش الاقتصادي للمنطقة المتمثل بالحاجة الى المزيد من الفنادق والمطاعم والمحلات التجارية وشركات النقل والسياحة والاتصالات وغيرها. ولابد ان تكون تلك الاضرار مكلفة، فمن يتحمل مسؤوليتها؟ كما ان الفوائد ينبغي ان تـُشجع وتـُدعم لتخرج من نطاقها الفردي الى نطاق المجتمع الاوسع. وهنا يقترح پيگو بأن الكلفة ينبغي ان تدفع على شكل ضرائب اضافية تفرض على مشروع المطار وبذلك ستتجنب المدينة او الولاية تحملها. أما الفوائد فينبغي ان تدعم من قبل الحكومة شريطة ان تتوسع ليجني المجتمع الاوسع ثمارها. وهذه الضرائب والاعانات المقترحة هي التي عرفت فيما بعد بـ :
Pigouvian tax and Pigouvian Subsidy.
امثلة اخرى على هذه الآثار الاقصادية الجانبية ومعالجتها بالضرائب والاعانات تبعا لسلبيتها أوايجابيتها، منها مثال حول حريق في غابة يندلع بسبب الشرار المنبعث من ماكنة القطار المارعبر الغابة! فمن المسؤول ومن ذا الذي يدفع الكلفة؟ مثال آخر حول مصنع للورق يُنشأ على ضفة نهر ليطرح فضلات الانتاج في النهر علما ان النهر هو المصدر الوحيد لماء الشرب للقرية القائمة على ضفتي النهر وعلى مسافة ليست بعيدة من المصنع. هاذان المثالان يركزان على الآثار السلبية التي تفوق بكثير اي آثار ايجابية، لو وجدت.
كما يعطي پيگو مثالا عن الآثار الايجابية التي قد تنفرد بنفسها والتي تتمحور على التمييز بين المنفعة الفردية والمنفعة الاجتماعية. فيأخذ طالبا يمول ذاتيا تعليمه الاولي من اجل هدف واحد هو حصوله على عمل يعيله. يقول پيگو ان الطالب يتعلم لهدف فردي وربما لايدري ان المجتمع سيستفيد من ذلك ايضا، وبذلك يستطيع المجتمع ان يدعم ويشجع هذا الطالب وطلاب اكثر ان يزيدوا من مستوى تعليمهم او يتلقوا برامج تدريب اضافية من اجل ان تزداد الفائدة الجمعية. وينبغي ان يحدث ذلك عن طريق تقديم الزمالات والبعثات والمنح الدراسية التي تمول ذلك التعليم الاضافي من اجل المنفعة الفردية والاجتماعية معا.
يرى پيگو ان الآثار الاقتصادية الجانبية تقدم التبريرالمفحم لتدخل الحكومة والالتزام بمسؤوليتها تجاه المجتمع برسم السياسة وتنفيذها وتمويلها وادارتها ومراقبتها. وذلك عندما تبرز الحاجة في الحالتين: الآثار الاقتصادية الجانبية السلبية Negative Externalities التي تعالج بالضرائب، والآثار الاقتصاددية الجانبية الايجابية Positive Externalities التي تعالج بالاعانات. وهو هنا يخرج عن فلسفة الـ Laissez Faire واليد الخفية التي تنظم شؤون اقتصاد السوق الحر الذي ينبغي ان يترك لوحده دون اي تدخل حكومي. و پيگو كغيره من الاقتصاديين الذين خرجوا عن هذه الفلسفة يرى ان اقتصاد السوق الحر لابد ان يخفق هنا وهناك، وحين يخفق في أمر ما سيكون من واجب الحكومة التدخل لمعالجة الخلل. ةالغرض الاول من ذلك هو ارجاع التوازن الذي قد يتطلب عدالة التوزيع باستخدام الضرائب والاعانات كأدوات تسوية بيد الدولة من اجل اعادة التوزيع أو تحفيز الانتاج وزيادة الاستخدام. وهذا الاعتقاد ناجم عن ايمان آرثر بمبدأ ان الدولة، وباستشارة الاقتصاد، تستطيع رفع الحيف عن المواطنين وتحسين حالتهم الاقتصادية واحلال العدالة الاجتماعية. وما على الاقتصاديين الا ان يرسموا الطريق الصحيح ويحددوا الخطوات والادوات لتحقيق ذلك. پـيگو يعتبر هذا الهدف بالنسبة له أسمى من الانشغال بالتنظير لمجرد تسجيل المساهمات الابتكارية في النظرية الاقتصادية. ومن الجدير بالذكر هنا هو الاشارة الى اختلافه في هذا المجال مع صديقه القريب جان مينرد كينز حول دور الدولة في الاقتصاد! أو ربما بمعنى أدق دور الاقتصاد في الدولة.
ومما ينبغي ذكره هنا هو ان اقتصاديي الرفاه الذين برزوا بعد الكساد العالمي تجاوزوا طروحات پـيگو حول الآثار الاقتصادية الجانبية ومعالجتها بالتدخل الحكومي عن طريق استعمال الضرائب والاعانات كأدوات لتصحيح الانحرافات المتأصلة في اقتصاد السوق. المثال الابرز على ذلك هو مقالة الاقتصادي رونالد كوس الحائز على جائزة نوبل الموسومة "مشكلة الكلفة الاجتماعية" والمنشورة عام 1960 والتي تضمنت انتقادا صريحا لنظرية پـيگو في الآثار الاقتصادية الجانبية ومعالجته المقترحة لها. يعتقد كوس انه لا داعي ابدا الى التدخل الحكومي لمعالجة تلك الآثار! اذ ان من المثمر ان تدخل الاطراف المعنية في المفاوضات وتصل الى التسوية دون جر الحكومة الى هذا الامر. ويأخذ مثال پـيگو حول مصنع الورق فيقول لو يعطي نظام اقتصاد السوق الاهمية لتوزيع الملكية وتنظيمها لاصبحت حلول هذه المشاكل بسيطة. فمثلا لو ان كل ضفاف النهر معلومة الملكية والحقوق مسجلة لاصحابها لاصبح موضوع انشاء مصنع الورق على ضفاف النهر قضية قانونية يترافع فيها الطرفان بموجب القانون فتكون ادارة المصنع امام حقوق استخدام ماء النهر العائدة للسكان. هذا اذا لم يصل الطرفان الى تسوية خاصة بالتفاوض بينهما. فاذا شعرت ادارة المصنع ان طلبات السكان باهضة ولايمكن تحملها سيعزفون عن تنفيذ خطة بناء المصنع في ذلك الموقع. وواضح ان كوس ومن يؤمن بطروحاته هم اولئك الذين يقفون ضد التدخل الحكومي وسن القوانين والقواعد والاجراءات العامة المعروفة بـ Regulatory policies. الاتجاه الذي اتسع خلال الستينات من القرن المنصرم وبعدها، والذي أدى الى ظهور مدرسة الخيار العام Public Choice School في الاقتصاد التي تعترض على رمي كل الامور بيد الدولة، خاصة وإن اصحابها يعتقدون ان نصيب فشل الحكومات في حل المشاكل الاقتصادية لا يختلف كثيرا عن نصيب القطاع الخاص، بل ربما كانت دوائر الحكومة أقل كفاءة.
الموضوع المهم الثاني الذي تميز به پـيگو هو نظرية الاستخدام والبطالة. في عام 1913 نشر پـيگو بحثه عن البطالة، والذي نقحه وطوره ووسعه خلال العشرين سنة اللاحقة فنشره عام 1933 بعنوان "نظرية البطالة"، والذي تضمن آراءه الاساسية في هذا الموضوع. ورد في موسوعة العالم الجديد ان نظرية پـيگو هنا تستند على أساسين هما:
- ان الاجور ينبغي ان تساوي الناتج الحدي للعمل
- وان منفعة او قيمة الاجور للعامل عند قبوله العمل تساوي المنفعة او القيمة الحدية فيما لو لم يقبل العمل. وبتعبير اوضح ان قيمة الاجر بالنسبة للعامل يجب ان لاتنخفض دون الحد الادنى المقبول لديه في ذلك الظرف. اذ انها لو انخفضت عن ذلك فلا يكون للعامل الحافز لقبول ذلك العمل.
وقد تحدث پـيگو عن مرونة العمل، وبالاخص مرونة الطلب على العمل من قبل اصحاب العمل والشركات والمصانع. والمرونة هي المفهوم الذي يصف مدى استجابة كمية العمل المطلوبة تبعا للتغيير في معدلات الاجور. تكنيكيا يمكن حساب هذه الاستجابة بقسمة نسبة التغيير المئوية في كمية العمل المطلوبة على نسبة التغيير المئوية في الاجور، زيادة ونقصانا. وبموجب النتائج الرقمية فقد جرى تصنيف المرونة تبعا لقيمتها. فاذا كانت قيمتها اكثر من واحد، فهي توصف حالة الاستخدام او التشغيل بانها "مرنة". وهذا يعني ان الطلب على تشغيل العمال يستجيب بشكل ايجابي واكبر من معدل انخفاض الاجور، كما يستجيب بشكل سلبي واكبر من معدل ارتفاع الاجور.أما اذا كانت قيمة المرونة اقل من واحد فان الطلب على التشغيل سيوصف بانه "غيرمرن". لنأخذ مثالا رقميا نفترض فيه ان العمال في مكان ما سيقبلون اجورا اقل من ذي قبل بنسبة 10%، فماذا ستكون استجابة اصحاب العمل بالنسبة لتشغيل العمال؟ فاذا اقبلت ادارة العمل على زيادة التشغيل بنسب اكثر من 10% فان مرونة الطلب على العمل تكون "مرنة"، والعكس صحيح، اي اذا كانت استجابة الادرة هي زيادة التشغيل بأقل من 10% ستكون مرونة الطلب على العمل "غير مرنة".
وقد قام پـيگو فعلا بتقدير مرونة الطلب على العمل في بريطانيا فوجدها بين 3 و4 %. كما كان من دواعي الصدف ان يحصل الاقتصادي الامريكي پول دگلاس على تقديرات مشابهة عن مرونة الطلب على العمل في أمريكا. ان ماتعنيه هذه المرونة هو انه لو اُ تخذ قرار برفع اجور العمال بنسبة 1% فان رد فعل اصحاب العمل سيكون تخفيض عدد العمال او ساعات العمل بنسبة 3-4 %، وبذلك سيُحبط قرار زيادة الاجور بالمعنى الاجمالي وسوف لن يتحقق هدف رفع الحيف عن العمال والكادحين ورفع مستوى معيشتهم. والعكس سيحدث ايضا فلو فرضنا ان العمال وافقوا على تخفيض اجورهم بنسبة 1% فسيندفع اصحاب العمل لزيادة التشغيل بنسبة 3-4% من اجل انتهاز فرصة تخفيض كلفة الانتاج وتحقيق ارباح اكثر.
كان پـيگو صديقا حميما لكينز. ورغم اختلافه الفكري معه فقد حافظ على روح الاحترام والتعاون حتى انه ساعد كينز بمبالغ كبيرة اثناء بحثه ونشره لنظرية الاحتمال. لكن كتاب كينز " النظرية العامة للعمالة والفائدة والنقود" المنشورعام 1936 والذي احدث تغييرا كبيرا في السياسة الاقتصادية، ليس فقط في بريطانيا بل على المستوى الدولي، انتقد فيه كينز بشكل واسع طروحات پـيگو حتى انه ذكر پـيگو 17 مرة في معرض نسف افكاره في الاستخدام والبطالة والنقود والتدخل الحكومي. وقد رد پـيگو على ذلك عدة مرات وفي مناسبات مختلفة. ومن موقفه المخالف لكينز عرفنا ما سمي ب "تأثير پـيگو" Pigou Effect المقصود به تحفيز الناتج الوطني ورفع مستوى الاستخدام والاستهلاك في اوقات الانكماش وانخفاض الاسعارDeflation والذي اوضح من خلاله پـيگو علاقة الاسعار بالانتاج والتشغيل والاستهلاك حيث يعتقد پـيگو بأنه في وقت الانكماش وانخفاض الاسعار، سيعود الاقتصاد الى حالته الطبيعية وسيكون متوازنا اكثر مما يتوقع كينز. اذ ان مستويات الاسعار المنخفضة ستعني زيادة عرض النقود وارتفاع الميل الحدي للادخار والاستثمار الذي سيؤول الى زيادة التشغيل وبالتالي زيادة الانتاج وتوزيع اكثرللدخول التي سيذهب اغلبها الى الاستهلاك ! وبخلافه، فعندما ترتفع الاسعار للمستوى التضخمي، ينخفض الميل الحدي للادخار ويهبط الاستثمار والانتاج وتنخفض معدلات التشغيل اكثر وكذلك الاجور والدخل الاجمالي فيصبح المجتمع غير قادر على شراء السلع المتوفرة في السوق.
من الموضوعات التي اهتم بها پـيگو هو موضوع التفريق بين مفهومي صافي الناتج الخاص الحاصل نتيجة للقرارات الاقتصادية التي يتخذها الافراد وصافي الانتاج الاجتماعي الحاصل نتيجة للقرارات الاقتصادية التي يتخذها المجتمع. وكذلك بين الناتج الحدي الخاص والناتج الحدي العام. واوضح ان في اقتصاد السوق والمنافسة الحرةغالبا ما تتخذ القرارات الاقتصادية العامة من اجل تعظيم المنفعة الفردية المختلفة عن المنفعة العامة. وهذا ماينبغي معالجته من قبل الدولة. فمثلا احدى وسائل تحقيق الصالح العام هو تحويل جزء من دخول الاغنياء الى الفقراء عن طريق الضرائب والذي له اثر مضاعف حيث ان القيمة الحدية للدولار عند الفقير تكون اعلى من قيمتها الحدية عند الغني مما يسفر عن الاستخدام العقلاني للدخل وتحسين الحالة المعاشية للكادحين والمعدمين الذي سينسحب على تحسين الانتاج عموما وزيادة الانتاجية والمنفعة العامة للجميع. كان پـيگو متأثرا تأثيرا كثيرا بلبرالية جيمس مِلْ، حيث آمن بالفرد الذي تقيمه عقلانيته وموضوعيته وسعيه واحترامه للقانون. وكلما تهذب الفرد تهذب المجتمع وكلما كان المجتمع مهذبا كانت حكومته كذلك لترتقي الى مسؤوليتها العليا في حماية المجتمع والعمل الجاد من اجل الرفاه العام.
كان لپـيگو اصدقاء كثيرون تربطهم علاقات المودة والانسجام والتعاون المشترك لكنه لم يتزوج ! وكانت هوايته المفضلة تسلق الجبال مع مجموعة من الاصدقاء، وهي الهواية التي لم يعد قادرا على ممارستها بعد ان اصيب بمرض القلب واصبح ملازما لبيته. استقال من رئاسة قسم الاقتصاد في كمبردج عام 1943 لكنه بقي يحاضر هناك كلما استطاع ولحين وفاته عام 1959.
ا. د. مصدق الحبيب