المثاقفة بين حسام الخطيب ونجم عبد الله كاظم.. قراءة في المنهج والمعاني (4)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. صالح الرزوق
ولكن يجب علينا أن ننتبه لحقيقة أساسية تحكم منطق ومنهجية الخطيب وكاظم، أن نقطة البداية تنطبق على النهاية، ومركز هذه الدائرة هو محيطها أيضا، وبلغة مباشرة يعتبر المنهجان أن بعض الظواهر هي أكسيومات (أو بديهات) أو أقله هي تحصيل حاصل. ومن ذلك علاقة الرواية الستينية بكافكا. ويوجد في كتاب الدكتور حسام الخطيب فصل كامل يعقد به مقارنة بين رواية يتيمة لجورج سالم هي (في المنفى) ورواية كافكا (القضية). بينما يتابع الدكتور نجم كاظم مجمل أعمال كافكا ليحدد أسباب التطابق بين مصير أبطال الرواية الستينية ومعراج أو متاهة أبطال كافكا. ومثل هذه النظرة المخصصة عند الخطيب لم تكن بعيدة عن النظرة البانورامية لكاظم. فقد اتفقا أن أوضاع العرب والتمزقات الاجتماعية والسياسية وأساليب القمع التي عانى منها الكاتب العربي وجدت صداها في أعمال كافكا ولا سيما في الستينات (ص149). ولم تكن معاناة أبطال كافكا في أعماله الميتافيزيقية التي تعالج مشكلة الجفاف الروحي في مجتمعات إصلاحية معادية لأي نزوع ثوري غريبة عن رواية الستينات والتي مهدت لهزيمة قاسية عام 1967 وخرجت من رماد خسارة مهينة عام 1948. ومن نافلة القول أن شخصية الرواية العربية وجدت مفاتيح شخصيتها في هذه الفترة. وانتقلت من تقشير الطبيعة من أجل وصفها ومحاكاتها إلى تقشير النفس البشرية من أجل إعادة اكتشافها وثم إعادة تركيبها. أو ما يقول عنه الدكتور الخطيب (حرفيا): لمتابعة مشكلة الغربة الروحية للإنسان في إطار مفهوم البراءة والخطيئة الأصلية (ص141).
وبودي أن أضيف نقطتين عن كافكا:
الأولى أنه كاتب متكتم، لا يعطيك نفسه بسهولة. فهو يخدع القارئ ويترك له علامات تضلل وتشوش تفكيره. ومن العسير على أي قارئ أن يفهم ماذا يريد كافكا من تضخيم أوهامه. ولماذا يتبع الصدفة دون أن يؤمن أنها جزء من أقداره؟؟. وهذا يناسب رؤية الكاتب العربي في منعطف الستينات، فقد تخلى عن نفسه دون أن يكتشف أي طريق مضمون للبديل.
النقطة الثانية أن أعمال كافكا مفصلة، ولا تخلو من الحوار الصامت أو المناجاة مع الذات والآخر مثل أي ذهاني فقد معنى نفسه أو أنه يتوهم أن الأمنيات هي الواقع ذاته. لقد كانت الرغبات في أعمال كافكا بمرتبة المنطق أو العقل المفكر. وهو ما حول أفعالها لمجرد ردود فعل. وأعتقد أن هذا كان يخدم الكاتب العربي لتمرير سخطه على السلطة والمجتمع (أو التاريخ والحضارة) دون أن يخاف من المحاسبة.
وهذا لا يمنعنا من الإقرار أن تأثير كافكا شيء والمؤثرات الكافكاوية شيء آخر. وقد ألمح الدكتور كاظم لذلك بمعرض مناقشته كافكا. فهو مجرد علامة وجودية بالغت بغموض وميتافيزيقية واقع أبطالها. وما تسرب إلينا من هذه الأجواء يدين لكامو وسارتر بقدر ما يدين لكافكا إن لم يكن لبوهوميل هاربال، وهو تشيكي آخر يعكس كل أعراض كافكا باللامسؤولية عن الذنب والسقوط تحت أعباء الخطيئة الأصلية. ولا يغيب عن الذهن حالة قسطنطين جورجيو الذي كان سفيرا في الحكومة الرومانية الموالية للنازيين في فترة صعودهم. إنه لا يمكنك أن تقفز من فوق هذا الكاتب، فقد كان مناوئا لسياسة سايكس بيكو، وهرب بعد سقوط النازية إلى السعودية، وكتب فيها كتابه المعروف “محمد نبي الإسلام”. ولكن ما يهمنا في هذا السياق روايته “الساعة الخامسة والعشرون”. وهي حكاية مواطن روماني يعتقل بالصدفة وهو في الطريق لحفل زفافه، ويسجن مع اليهود في معسكرات الإبادة بشبهة أنه يهودي كما جرى مع بطل رواية “القلعة الخامسة” لفاضل العزاوي.
ومشكلة الصدفة المستحيلة أو القدر الأعمى هي واحدة من أهم اللحظات العصيبة التي بنت عليها الرواية العربية كل فلسفتها في الستينات. فقد كانت تعبر عن الدوافع المجهولة التي عقّدت مصير الأمة بعد سقوط دولة العثمانيين. وكانت غصة في قلب كل عربي أن يرى تركيا واليابان وقبل ذلك ألمانيا وهي تخرج من الهزيمة وتعيد تركيب ذاتها، بينما يدفن العربي نفسه في ركام الحضارات الميتة، ويغرق في الظلام والبرد مثل جميع أبطال كافكا وجورجيو. ولعل فشل مشروع الدولة الوطنية هو الذي قاد الباحثين للقفز من فوق المؤثرات التي تعبر عن رؤية وأجندا الدول الغربية. لقد انصب الاهتمام على أدباء المقاهي والخلايا النائمة. مثلا حلقة سارتر ودوبوفوار. حتى أن إدوارد سعيد في دراساته اعترف بفضل سارتر على تشكيل وعيه المبكر بالمعنى الوجودي لمشكلة الحرية. لكن لم يكن أحد يولي الوجودية الديغولية أي اعتبار. وغاب اسم أهم أقطابها مثل موروا ومالرو تماما. وتكررت المشكلة مع صوت التوري الإنكليزي جيفري آرشر. ولم نسمع به في بحث الدكتور كاظم مع أنه اهتم بمصير رواية الثمانينات.
ولتفسير هذه الظاهرة يوجد عندي اقتراحان:
الأول أن هذه المؤثرات فرضت نفسها بشكل ميتافيزيقي. مثل آلية عمل صورة المدينة اليوتوبية أو مدينة الأمنيات (ما يسميه الإيطالي كالفينو: مدن الخيال). فقد كنا نخترع أسماء رومنسية لعواصم الميتروبول (مدينة الضباب/ لندن. عاصمة النور/ باريس). بينما فشلنا في إضفاء أي معنى جماهيري على المدن النموذجية (ومنها برلين وموسكو وهافانا).
الثاني طبيعة عمل الذاكرة المأساوية. فهي تبحث عن ما هو غير موجود، وبالسر تكيل اللوم والتقريع على على ضعف الواقع. وهو ما يسميه حمزة عليوي بـ “الجغرافيا التخيلية”، ويعمل بنظام التمثيل وآلياته (7) وليس بأسلوب الراصد والملاحظ. ولا شيء ينفع استعادة أو تنشيط الذاكرة مثل التمثيل، فهو تحويلي وله عدة عتبات. بينما الملاحظة تكون موضوعية ولا مجال للتمني أو إسقاط الرغبة فيها.
ولا شيء يوضح مثل هذا التحويل كالرواية. فقد دخل النوع في ما أود أن اسميه “أدب الدرجة الثالثة”. وهو كل ما يجد نفسه خارج ذاكرته وضمن ذاكرة هجينة وغير واضحة، وتتعرض لدورات غسيل وتبييض، وذلك بهدف التأسيس للسان يعبر عن المرحلة وليس عن الذهن، أو عن شروط المستقبل الموضوعي وليس شروط افتراضات الحضارة. وبعيدا عن الجدل البيزنطي لسان الرواية العربية لا يحمل جينات الثقافة العربية. وهو بامتياز ابن شرعي للسان أدب العالم الثالث، أو بأحسن الحالات لنمور آسيا. حيث أن الطبيعة تتآخى مع البشر وتشكل امتدادا لنشاطهم الليلي. بينما العقل يتآخى مع النهار ويشكل امتدادا لنشاط البصر فقط. ويمكن أن تقول إن الطبيعة في الرواية العربية تقدم للشخصيات والأحداث نقطة توازن. بينما النهار يحد من قدرة البشر على التحمل، ويضعهم مباشرة أمام مسؤوليات ظروفهم الاجتماعية. ومن هذه النقطة دخلت إلينا المؤثرات الوجودية والحداثة. فقد كان الترميز والإبهام أفضل دواء مسكن لآلامنا وجروحنا.
لا يمكن أن تجد أي أثر في الرواية للعقل العربي. حتى أن محاولات التأصيل تبدو لي اغترابية تماما مثل عباءة مستعارة. وفي مقدمتها الأسلوب الهمايوني للغيطاني. ويكفي في هذا المجال التذكير بمصير الثورة العربية. لقد غادرت المركز وانتشرت في الأطراف. وسرعان ما أصبحت حاملة لمعايير المعرفة الغربية. ولم يعد للمشروع العربي الأصلي أي وجود. وحل محله أجندا وطنية بعدة أسماء ومصطلحات. لكنها بشكل أساسي تعبر عن خلق مجال حيوي للأفكار المهاجرة. وما حمل اسم الدولة الوطنية في الغرب أصبح لدينا يعرف باسم الدولة القومية. لقد ضاعت أهداف الثورة بين عدة احتمالات: الأمة من طرف والدولة من طرف آخر. وتشكلت بالمقابل عدة مشروعات نصفها رومنسيات وطنية. ونصفها الآخر رومنسيات فنية. وهذا أقرب تعريف عندي لمشروع “الحداثة”. فهي مشروع دون أدوات.
لقد وجدت الرواية العربية نفسها دون واقع ملموس تتكلم عنه مثلما وجدت الثورة البلشفية نفسها في روسيا دون بورجوازية وطنية تساعد على إذكاء المواجهة بين الطبقات. وأعتقد أن حرق الثورة العربية لمشروعها الأساسي فرض على الرواية أن تدخل في نفس الفرن، أن تحترق لتعيش. والرواية الناطقة باللغة العربية في الوقت الحالي ربما هي ترجمة رديئة لكتاب “أعمدة الحكمة السبعة” للورنس. لا يمكنك أن تجد أي فرق بين بناء الشخصيات والحبكة في هذا العمل وبين مشروع عبد الرحمن منيف مثلا. كلاهما يستعمل علبة الأدوات نفسها. وكأن لورنس يترجم منيف أو العكس، منيف يترجم لورنس. ويكفي بهذا الخصوص أن نعلم أن قائد الجيوش العربية عام 1948 كان الجنرال غلوب. وأن مرشد حكومة الثورة العربية عام 1918 هو لورنس، الجاسوس الإنكليزي المدرج في المخابرات الجوية الإنكليزية باسم روس، والممنوع من نشر مذكراته بسبب سرية وحساسية المعلومات حتى عام 1955. لقد كان موضوع الرواية العربية مثل أسلوبها موحى به. وكلما حان الوقت للكلام عن الذات والهوية نجد أنفسنا أمام فراغ أو فجوة. وهذا وحده يضع ذاكرتنا في فضاء الذواكر المنهوبة أو المزيفة. ولعل مشكلة إنكار الدور الريادي لجرجي زيدان في اكتشاف شخصية حديثة ومعاصرة للرواية من خلال ذاكرتنا التاريخية، ومنح هذا الشرف لمحمد حسين هيكل مؤلف “زينب” دليل على رهان المثقف العربي على الغرب. لقد كان أسلوب “زينب” إصلاحيا لكن موضوعها هو الراديكالي. بعكس جرجي زيدان الذي اختار الأسلوب الراديكالي والموضوعات الإصلاحية.
وأغرب ما في هذا الموضوع أن البدايات التي تدين بوجودها للنثر العربي (الموروث - بلغة الدكتور كاظم في مشروعه النقدي) كانت بمعاييرنا ساقطة فنيا. وقاده ذلك ليقول عن “الرواية الإيقاظية” لسليمان فيضي أنها لم تمتلك الوعي الفني الكافي. ثم يتابع قائلا “إنها لم تتجاوز الموروث إلا بحدود”. ويقطع بصوت أعلى في كلامه عن محمود أحمد السيد حين يرى أن روايته “في سبيل الزواج” عمل فني متكامل لأنها انفصلت كليا عن الأشكال القصصية العربية الموروثة (كما يقول بالحرف الواحد). ولهذا الكلام معنى واحد أننا لا نكتب روايات. وأن الغرب يعيد إنتاج نفسه بعدة ألسن ومن بينها اللسان العربي.
وهنا أجد نفسي مضطرا للإشارة لعدة ملاحظات أو قرائن:
1- المشروع العربي سبق الرواية بالظهور.
2- كان المشروع العربي جزءا من بنية السرد العربية. كلاهما خرج من قاعدة ثقافية متأثرة بالغرب ومعادية عرقيا وثقافيا للشرق الذي حمل لواءه العثمانيون.
3- استيقظت الرواية العربية من سباتها مع مناداة أدباء العالم الثالث بالتحرر من تأثيرات الحلم الأمريكي وليس الأوروبي. ومشكلة البحث عن هوية بعد الاستقلال كانت موجهة بالأساس ضد توسع الأمريكين لا الأوروبيين. وكل برامج الزنوجة كانت تدور في إطار فرانكوفوني تحرري هدفه الأول هو إطلاق سراح العقل الأسود المهاجر من قيود العقل الأبيض المهاجر. كان الصراع بين موجتي هجرة. وليس بين طبقة السادة وطبقة العبيد كما كنا نعتقد. وأعتقد أن الفرانكوفونية كانت تؤازر هذه السياسة من تحت الطاولة لأنها أول ضحية للنفوذ الأمريكي. وقد اكتسبت الرواية العربية شخصيتها بعد أن اشتد ساعد رواية أمريكا اللاتينية. ولا ضرورة للتذكير أن الأدب الروسي لم يلعب دورا هاما. وقل نفس الشيء عن الأدب الصيني. ودون أي جدال كانت حضارات المشرق غائبة تماما عن المشروع العربي الذي تطور بدوره داخل جدران الكنيسة الأرثوذوكسية. ويمكن أن أنظر لهذه الحقيقة على أنها جزء لا يتجزأ من سخرية القدر. فالنظرية الإصلاحية مقبولة حتى عند السياسيين المحافظين. بتعبير أوضح حتى أحزاب حكومات الاستقلال تميل للكاثوليك والبروتستانت (بغض النظر عن الخلاف الروحي معهما).
4- ظهرت أول بوادر الرواية العربية بين الحربين. وهذا يعني أنها ولدت في ظل أعمق انكسار روحي يشهده العالم الحديث. وإذا كانت زينب رواية المرأة المكافحة في سبيل تحقيق ذاتها، فإن “أعمدة الحكمة السبعة” تكلمت بالنيابة عن المشروع العربي. وكان كلامها بلغة السلاح وليس بلغة العاطفة ولا القلب. وأضيف إن “زينب” هي إسقاط للذهن على الواقع، ولا يمكن أن تتعرف من خلالها على أحوال الريف ولا الفلاح المصري. بالعكس من “أعمدة الحكمة” التي عايشت تشكيل الضمير العربي الحديث، وواكبت علاقة الإنسان العربي مع بيئته. بتعبير آخر “زينب” رواية مكتوبة عن الواقع العربي من خارجه كأنها تتأمله من فوق لتحت. بينما “أعمدة الحكمة” هي متابعة دؤوبة لدرب الآلام الذي سارت عليه القبائل العربية في منعطف القرن الماضي. وفيما أ رى لم يكن لدى العرب سيرة فنية، بل مجرد محاكاة لطبيعة البيئة التي فرضت نفسها عليهم. أما الشطط (الخوارق والمعجزات) فهي البضاعة المستوردة من دول الجوار (الممالك التي تمتلك قدرة على تنشيط مخيلتها العلمية - أو الخرافية إن صحت العبارة). وكل السير التي تناقلها الرواة لعدة عقود هي موضوعة حتما في أوقات متأخرة وتحمل علامات وآثار أول صدمة حداثة (الرحلة من الصحراء والبادية الفقيرة بوسائل الاستجمام إلى المدن - الأكروبول- حيث يعبر الإعجاز عن نفسه بالثقافة والهندسة والخلاعة. وهي أول علامة لحداثة الاستجمام أو الاتجار برأسمال طبيعي). لقد كان عقل المرويات العربية في عينيه، فهو يفكر بما يدركه ببصره وليس بما يهتدي إليه بحكمته. حتى أنه لا يحتاج لأن يتخيل، فهو يشاهد بعينيه رابع المستحيلات كالغول والعنقاء والشيطان. وبلغة فرويدية مبسطة هو كائن خصائي. بمعنى أنه يسعى لخصاء المجهول بما يمتلكه من قدرات مادية ومحسوسة. ولذلك كانت الحبكة موزعة بكل الاتجاهات وتنمو دون ضوابط ولا معايير، وتتراكم وبشكل فوضوي يذكرنا بمشكلة ما بعد الحداثة (8). فهي فلسفة لها هدف مزدودج: اغتيال الموضوع وتصعيد الذات مثل لغة “زينب” الموشاة بالزخارف على طريقة الروكوكو. أما لغة “أعمدة الحكمة” فهي مثال نموذجي عن محاكاة الواقع النفسي لعلاقة البيئة بالأشخاص. لقد كانت لغتها تحترق بأتون الأحداث، ولا ترفع صوت أفكار الكاتب فوق صوت الشخصيات (وهذه هي إشكالية “زينب” وكل جيل الرواد، ما عدا جرجي زيدان). وأعتقد أن خطة زيدان هي مثل خطة لورنس. فقد بدأ الاثنان من داخل البنية (ما يسميه زيدان “فذلكة”، بمعنى استعادة أو ثرثرة)، قبل الانتقال لتجريد الواقع (بواسطة الانتقاء والتحديد) ثم شخصنته (بواسطة الحوار وبناء الشخصيات). ومن الواضح أن لورنس هو من كتب عن “المناظر والأخلاق العربية” وليس هيكل كما ورد في عنوان روايته، حتى لو أنها سبقت لورنس بما يقل عن عشرة سنوات بقليل. وبالمختصر المفيد يمكن أن تقول عن “زينب” أي شيء إلا أن أنها رواية عربية. وبنظرة واحدة من قائمة مؤلفات هيكل تعلم أنه كاتب متأسلم. ربما أضاف لعلبة أدوات الرواية لوحة مفاتيح عربية، لكن هذا المشروع كان غائبا عن ذهنه. وللأسف توجب علينا انتظار جاسوس إنكليزي لنتعرف على أنفسنا وعلى جرحنا الحضاري وغرفة الإنعاش التي نمر بها. ومنذ المقدمة يحدد لورنس الغاية من كتابه بقوله صراحة: هو عن اعتداء الحكم التركي الجائر على الشخصية العربية، وعن الذكريات العنصرية والسياسية والتاريخية للعرب (ص 16). ليضيف بعد أقل من سطر: إنه كان يبحث مع العرب في متاهات من الرمال عن شكل من أشكال الوطن. وإنه بذل جهده معهم لتحويل الواقع اللغوي المشترك لواقع جغرافي ملموس (ص 16). أو كما ورد بعد عدة صفحات: لتجسيد الوجود القومي العربي (ص 9) (59).
لقد حمل لورنس أعراض مخاض الرواية الغربية التي تكفلت ببناء وعيها الخاص عن عالمها. وبتعبير رامي أبو شهاب(10): كانت “أعمدة الحكمة” وعيا للذات ضمن شروط الواقع الحاضن. ويمكن تفسير ذلك بشبكة العلاقات بين الوعي المجرد وأساليب الإدراك. فالوجود يحتاج لمن يعقله فنيا، والظواهر الفنية بحاجة لمن يدرك أساليب نشأتها وظهورها أو خروجها من الوعي الباطن وتشكيلها للتمثيلات والمفاهيم. وبهذا المعنى يوجد لنظام المعرفة عند لورنس جانب ذاتي (أو فني ومعرفي) بالتوازي مع جانب موضوعي (أو واقعي). وهو ما لا يتوفر في الرواية العربية التي تدين بالجانب الأول من المعادلة لمرجعياتها المعرفية وليس لوضعها في الوجود أو لنزوع يتطور من تجاربها. ولذلك لا تخلو سيرة لورنس من عدة نقاط تشابه عجيب مع ذاكرتنا الشعبية، وبالأخص المشكلة الدرامية لأبي الفوارس عنترة، ومن ناحيتين: بسالته أولا، ثم تفكيره الدائم بحريته. ويمكن القول بسهولة إن لورنس هو إعادة كتابة معاصرة لشخصية عنترة. فهو مثله دائم التجوال بين المضارب في الصحراء، مهموم دائما بالبحث عن مصادر الكلأ والمياه العذبة، ويخرج من معركة ليدخل بمعركة. ويتخلل ذلك استعمال الدهاء والكيد للإيقاع بالعدو مع مواقف تدل على شهامة ومروءة عربية أصيلة. كان كلاهما بصورة نصف إله. والفرق بينهما أن لورنس يبحث عن حرية الجماعة بينما عنترة يبحث عن حريته الشخصية. وإن لم يكن لورنس ينظم الشعر ليفتخر ببسالته في الحروب فهذا لا يعني أنه لم يكن نرجسيا، ولكنه وظف الحساسية الشعرية باستعمال أشكال من التقابل والطباق بين جبروت الطبيعة الخلابة وضعف بني البشر. أيضا استبدل لورنس قصة هيام عنترة وعبلة بفكرة هيام العربي بأمجاده. وجهود عنترة للقيا عبلة توازيها عند لورنس مشاق البدوي للوصول إلى مستقبله. ومع أن الاثنين لهما مشروع وجودي، غير أن لورنس أقرب بمشروعه لما يعرف باسم روايات الطريق (بعد أن تضيف لها هدفا ساميا ونبيلا. وتجردها من القشور الميتة التي تخفي وراءها الهم النضالي). لقد بذل لورنس جهده لاختزال معنى العرق بمضمون سياسي معاصر هو المواطنة أو الهوية. لكنه لم يتمكن من إسكات اللاهوت الشرقي الذي تدخل بشكل حاسم في توجيه بنية روايته، ولا سيما باختيار فلسفة النهاية المفتوحة. وأدى ذلك بالضرورة لإلقاء جميع الشخصيات (من ناحية المعنى وليس الصور) في التيار الجارف الذي يدعوه أهل المشرق: القدر، وأحيانا الإرادة الإلهية (وتعود هذه الفكرة للظهور في جميع بواكير نجيب محفوظ تحت اسم مختصر وغامض هو: المشيئة).
إنه مهما اختلفت الآراء لا نستطيع أن نستبعد الأصول الاستشراقية للمشروع العربي، والرواية جزء منه. غير أن عمليات التحديث هي التي دفعت حكومات الاستقلال للنظر إلى المشرق بعيون غربية. ومثلها المشروع القومي، فهو أجندا تلفيقية مستعارة، نصفها من الرومنسيات الأوروبية الوطنية، ونصفها الآخر حزمة من الأفكار التي اشتركت عدة تجارب في انتاجها ومن بينها الواقع المحلي. أما بكم تدين الحداثة للواقع؟؟!!. ربما أقل من 10 بالمائة. وهذا ينسحب أيضا على موجة التنوير الأخيرة. فهي موزعة بين ليبرالية غربية (ماركسية رأسمالية إن صحت العبارة) وديمقراطية (دستورية). وبين هذين القوسين لا تزال الرواية العربية تعيد إنتاج ماضيها. مع تبديل طريقة استجابة العقل للعاطفة، من أسلوب المناظرة مع الآخر (كما في زينب وروايات المنفلوطي التي جاءت بعدها) إلى أسلوب المناظرة مع الذات (كما في مشروع جرجي زيدان) وهو من المشاريع المظلومة. والعدل يقتضي تصحيح الصورة. أن نعترف بدور جرجي زيدان في الريادة الفنية، وتحرير ذاكرتنا الفنية من الأفكار القديمة الجاهزة. وبالمقابل أن نضع المنفلوطي بسياقه التاريخي ونقر بخدماته الجليلة من ناحيتين.. كشف عيوب أخلاق التخلف. وكشف مصادر مؤلف “زينب”. فقد كان جريئا بما فيه الكفاية ليعترف بصوت مسموع أن سرديات التنوير هي تمصير وتعريب. وأن دورنا ينحصر بالدوبلاج أو نقل الأفكار والأدوات من بلد المنشأ لبلادنا. لقد كانت الرواية هي العلامة المكتسبة التي دلت على تعميق خط تحرير مجتمعنا العربي من نفسه، والإيذان بدخول المجتمع العالمي (أو عصر الحداثة). روايات المنفلوطي ليست إلا حلقة إضافية من اختراق أوروبا لقوانين عالمنا. بعد البارود والمطبعة كان لا بد من استبدال القوالب العربية للخيال بقوالب وصور فرنسية. وبالنظر لتاريخ نشاط المنفلوطي (توفي عام 1924) نستنتج أن مشروعه التلفيقي وئد يوم ولد مشروع لورنس التأسيسي.
5- مرت الرواية العربية بعدة محطات فشل. وعلى رأسها ما يعرف بالرواية الريفية. وأعتقد أن كل رواياتنا هي نتاج حضري وتكهنات مثقفين. ولا يوجد عمل واحد يصل لمرتبة “تورتيلا فلات” لشتاينبك في رهانها على الطبيعة الصخرية والرعوية. أو مرتبة “بيدرو بارامو” لخوان رولفو الذي وضع ثورة الفلاحين في سياقها الطبيعي. وما تبقى لدينا من أعمال نموذجية عن الريف هي إعادة تصور لريف متمدين، أو لمدن ذات أخلاق ريفية. وعمليا ليس لدينا رواية نقية. ومثلما كانت ثوراتنا مدجنة، وتعبر عن قلق دولي من واقع الشرق الأوسط، كذلك كانت الرواية. تحمل كل فوضى ولا يقين الوعي الباطن. ولكن بدواعي الحقيقة يمكن الكلام عن رواية بيئية هي نتاج عقل كوارث أو دايستوبيا واقعية. ويمكن ببساطة أن تجد في كل روايات المخاض الاجتماعي والسياسي صورة مباشرة لدايستوبيا لا تستطيع أن تحلم برعب أكبر وأوسع ما صورته. ويكفي هنا أن تتذكر المحنة التي لاقاها بطل “حارس التبغ” لعلي بدر، على سبيل الذكر، وهو يكافح ضد قانون الأرض المجهولة والواقع المعلوم. وما ترتب على ذلك من نزوحات متتالية، كل منها تعبر عن موجة تهجير إجباري طال المجتمع كله. وهذه هي نفس النغمة التي عزف عليها لورنس في “أعمدة الحكمة”. فقد كان مشغولا بالبحث عن موضوع غريب لشكل فني جاهز. وبلغة أخرى: وضع لورنس القضية العربية على سرير بروكست فني. وهذا هو جوهر التمثيل الاستشراقي بالضبط.
6- العلاقة بين الرواية العربية ومصادرها علاقة جدل تاريخي. وهي جزء من ظاهرة صراع الأجيال، وليس نفي المصادر. وبرأيي إن ما نسميه البحث عن هوية عروبية هو مجرد تعبير مهذب عن عقدة أوديب. إنها تعمل على نحر الأب (أو الشكل الأبوي) ولكن دون أي رغبة بامتلاك الأم. وربما تبدو لنا الرواية المعاصرة مثل ولد يتيم، كائن غير مسمى يبحث لنفسه عن مكان أو حدود لتجربته الوجودية. ومثل هذه البنية مختلفة عن تجربة العقل اللاتيني الذي يقوم على فكرة المغالبة. ويمكن أن تفهم من ذلك أن المضمون في الرواية العربية تحرري، لكن الأساليب كلها قمعية وبطريركية، وبعيدة كل البعد عن ظواهر التكوين (جينيتيكوس) التي يميل لها العقل اللاتيني بطبيعته (وبالمعنى الذي تكلم عنه لوسيان غولدمان / التكوينات الاجتماعية وليس الطبقات - صراع الأضداد وليس النزاع على مصادر الثروة). وبودي أن أضيف إن المشروع العربي الحديث ولد مع سردياته. ومثلما كان يدين بأدواته للمؤثرات الخارجية، دخلت هذه السرديات أيضا بمركبة عسكرية أجنبية. وهذا لا يلغي عروبة المشروع وشخصيته بقدر ما يؤكد حقيقة لا يمكن التغاضي عنها. أما كل ما سبق ذلك من محاولات فقد جاءت للتعبير عن مصير هجرة الكفاءات والعقول وتبرمها مما يفرض عليها من جيوب جامدة ومحرومة من الحس التاريخي ومنطق التطور.
***
وفي النهاية يطيب لي التنويه بحقيقة لم يكلف أحد نفسه أن يقف عندها وهي المعنى أو الحكمة المرجوة من هذه المؤثرات وطريقة عملها. هل جاءت عفو الخاطر أم أنها عملياتيا جزء من نظرية داروين في “أصل الأنواع” و“التنافس على مصادر الإضاءة”؟..
إذا كانت أول موجة نهضة عثمانية هي التي سهلت على العرب انطلاق أول موجة من موجات “التنوير”. وبالتالي دشنت ما يعرف بأدب الرحلات وما نجم عنه من روايات مبكرة ثم روايات “طلب المعرفة” و“صراع الحضارات”. وأمثلتها أشهر من نار على علم، ومنها “عصفور من الشرق” و”الحي اللاتيني” و”الظمأ والينبوع” (والأخيرة للسوري ابن حلب فاضل السباعي)، وهي من الأعمال المنسية أو المركونة في صندوقنا الأسود، وهو صندوق مفاجآت معرفية ودالة، فإن الحرب الباردة وصراع الإرادات، واتساع رقعة الحلم الأمريكي، هو الذي فتح لنا باب موجات التنوير الثانية. ومنها تدفقت هذه المؤثرات على الصعيد الفني والمعرفي أو على صعيد جماليات الموضوع. ولدي أكثر من سبب لأنتقل من تفسير هذه المؤثرات إلى تسميتها وتقنينها. وأجزم أنها شكل من أشكال تحديث المثاقفة. وهي الوجه الآخر للحداثة الأوروبية الميتافيزيقية. فقد بدأ مشروع تحديث أوروبا مع احتلال القدس، وكان مشروعا روحيا، ولكنه أصبح بعد قيام دولة إسرائيل مشروعا ماديا يدعو للتبرئة، ويضع الشرق في سياق فوق تاريخي وفوق واقعي، أو سياق فانتازي تخيم عليه أزمات الغرب وسقطاته وذنوبه. وهو بالضبط المعنى المعرفي لظاهرة الاستشراق. وبتعبير شيلبي باسيك shilpi Basak إن ما يجري هو مراوحة بين الشعور بالغربة المعنوية والانتماء لبقعة جغرافية غريبة تعزز على نحو كبير (ومن طرفي المعادلة) هوية الإنسان. وهو ما يعرض هذه الهوية لمجموعة من التناقضات: كالجذب والإبعاد والاغتراب والطمأنينة (ص11)(21). بمعنى أنها تمهد لتجسيد أوهامنا بشكل حقائق، و تحويل التجربة الحقيقية إلى ذاكرة. وهذا يساعد على استكمال مشكلة “وعينا الشقي” باليوتوبيا.
وإذا كانت رحلتنا للغرب بهدف التنوير والبحث عن القيم الروحية بين ركام المادة والمعرفة، فإن رحلة الغرب باتجاه الشرق كانت لترميم الجزء الميت من الروح، وللتستر على الذنوب والنوايا الحقيقية بستار من الغموض واللاتناهي. وهو ما تجده بأوضح أشكاله في مشروع هرمان هيسة ولا سيما: سدهارتا، ورحلة إلى الشرق، وذئب البراري. والعمل الأخير رواية نيتشوية تركت بصماتها على “الغرف الأخرى” لجبرا، كل غرفة تفتحها تقدم لك تفسيرا يخل بنظام المنطق ويضع الكائن أمام احتمالات مفتوحة على الرعب والشك.
د. صالح الرزوق
حلب / 2020
..........................
هوامش:
7- الجغرافيا التخيلية. جريدة تاتو.عدد 81. 2017. ص10.
8- أعتقد أن ما بعد الحداثة تعيد عقارب الساعة للوراء. فهي توطين لدكتاتورية الكاتب مقابل اغتيال عالمه. وأهم مثال تطبيقي معاصر تجده في روايات أولغا توكارشوك. وسبقها في الشعر مواطنها جيسلاف ميوش. لقد عمدت توكارشوك في النثر وميوش في الشعر لبناء عالم غير هرمي ينمو بشكل مريض ويعاكس مبدأ تقييد الصورة المعروف الذي وضعته جمعية فاراداي لأغراض اقتصادية منذ فترة ما بين الحربين. وأشهر من نظر لهذا الخطاب المعاكس هما فوكو ودريدا. فالنزوع الموسوعي الذي يغطي مراحل هامة من تطور البشرية في كل الاختصاصات يعبر عن رغبة مبيتة للشركات متعددة الجنسيات في تجاوز خطوط العزل المعروفة وبناء إمبريالية تقضم العالم. ويمكن القول إن نزوع قتل العالم ودكتاتورية الكاتب من الاتجاهات الميتافيزيقية التي لا تحتكم لمنطق العمل الجماعي وتؤمن بشمولية الأفراد أو مبدأ الإنسان الكلي. وبكل سهولة يمكننا مقارنة رواية “الطيران” لتوكارشوك مع الأغاني للأصفهاني أو رسالة الغفران للمعري. فهي تعمل وفق مبدأ من كل بستان زهرة، وتؤاخي بين أشكال الكتابة ابتداء من الخبر حتى القصة القصيرة، ودون تردد أجد أن حدود النوع لديها تدخل في عداد الحداثة السائلة أو الحداثة المستمرة التي بدأت مع شعراء بني أمية وتحولت لتجريب بين الأساليب والثقافات في العصر الذهبي للدولة العباسية.
9- أعمدة الحكمة السبعة. الطبعة العربية. المكتب التجاري. بيروت. 1963.
10- الأدب: الوعي والفينومينولوجيا. القدس العربي. عدد 8 أكتوبر 2020.
11-
Postcolonial English Literature: Theory and Practice. Edited by: Dipak Giri. Authors Press. 2018. India. pp223.
العِلم والأدب
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. منير لطفي
كما للطائر جناحان لا يحلّق في أجواز الفضاء بدونهما، وكما للإنسان ساقان لا يستطيع الدبّ على الأرض والسعْي في مناكبها إلّا بصحبتهما؛ يمكننا القول: إنّ العلم والأدب هما للأمم جناحان وساقان؛ بهما تنهض وتسمو، وعلى وقْعهما ترقى وتتقدّم، وما بالغ الشّاعر ولا هام كأقرانه الكُثر حين قال:
"ليس الجمال بأثوابٍ تزيّننا..إنّ الجمال جمال العِلم والأدب
وليس اليتيم الذي مات والدُه..إنّ اليتيم يتيم العِلم والأدب"
ولأنّ فوائد العلم ملموسة ومحفورة، وبصماته في ميدان الحياة لا تُحصَى ولا تُعدّ؛ فإنه قد نال بعض ما يستحقّ من التقدير والتبجيل، على اختلاف في ذلك بين أمم متقدّمة وأخرى نامية وثالثة متخلّفة. هذا بخلاف الأدب الذي لم ينل ما يستحقّه من الإجلال والتوقير، حتى إنّ بعض المجتمعات الخديجة فكرًا وروحًا لازالت تحسبه ترفا زائدا لا بأس في التخفُّف منه، وحلْية غير أصيلة يمكن الاستغناء عنها وركْنها في الزاوية! مع أنّ الأدب صنْو العلم وتوأمه، ومعًا يشكّلان وجهان لعملة واحدة أحدهما فكري وهو العلم وثانيهما وجداني وهي الأدب. ولعلّنا نلحظ أنّ الأدب تاريخيًّا أقدم في الوجود، تماما كقِدم الإحساس عن التفكير وسبْق الشعور على المنطق. وهو أيضا أبقى وأرسخ في الخلود؛ فبينما نرى النظريات العلمية تتهاوى وتندثر من عصر إلى عصر، نجد الأدب كالأثر كلّما مرّ عليه الزمن ازداد ألقا وبهاء، وانظر في ذلك أدب المتنبّي في الشرق وشكسبير في الغرب وغيرهما من أساطين الأدب في العصور الغابرة.
والأدب المقصود هنا هو خلجات القلوب وهمس المشاعر ونبض العاطفة وعلامة الإنسانيّة، وهو الذي تترجمه الأقلامُ المبدعة نثرًا فنيًّا تارة، وشعرًا رقراقًا تارةً أخرى، فيشكّل مرآة صادقة لعصره ووقودًا متجدّدًا يدير دفّة التغيير باقتدار نحو مُثُل الحقّ والخير والجمال. ولا أرى هنا فرقًا بين النثر الفنيّ والشِّعر، سوى ما نراه من فرق بين حبّات الجُمان المنثورة فوق طاولة من البلّور، وأخرى منظومة بخيط من حرير حول جِيد فتاةٍ هيفاء غيداء.
والحقّ الذي لا مراء فيه، أنّ تكريمَ العلماء تكريمٌ للعلم، وتكريمَ الأدباء تكريمٌ للأدب، ومن خلال هذا التكريم الذي يلقاه العلماء والأدباء يمكننا الحكم على أمّة من الأمم من حيث تقدّمها وسبْقها في ميدان الحضارة. مع ملاحظة أنّ الفصل بين الأدب والعلم، هو محاولة بائسة فاشلة لا يعادلها سوى فصل الروح عن الجسد؛ نظرًا لما بينهما من تمازج كامتزاج الماء بالسكّر المذاب والرائحة الذكية بالورود والأزهار، ونظرا لما بينهما من تكامل وتعاضد حين يتجمّل العلم بالأدب ويتعقّل الأدب بالعلم، وحين يتيقّظ الأدب بصحْو العلم وينتشي العلمُ بسُكْر الأدب..وهو ما ينسحب أيضا على نزعة المفاضلة بينهما وخلْق حالة من الشقاق حيث لا شقاق ولا يحزنون.
بقلم: د. منير لطفي
طبيب وكاتب
مؤلَّفات العَرَبيَّة.. ضرورة المراجعة والتحديث
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. عبد الله الفيفي
قال صاحبي اللدود (ابن أبي الآفاق التراثي)، وما انفكَّ يناقرني في شأن النَّحو العَرَبي:
- القضيَّة الأولى والأخيرة في إمبراطوريَّة النُّحاة التاريخيَّة تتمثَّل في صعوبة متونها، التي هي منبع صعوبة النَّحو، وقد استعصَى علاجها أكثر من استعصاء وضع حدٍّ اليوم لوباء "كُرونا". ذلك لأنها تأتي مُجمَلةً، متداخِلةً، وبلغةٍ عتيقة، واصطلاحيَّة، على الطريقة القديمة. وقد استمرَّ المسلسل إلى العصر الحديث، وما زال، ويبدو أنه سيظل. فليلطف الله بطلبة لغتنا العَرَبيَّة، الذين يكرَّهون فيها ويُصرَفون عنها، بصناعة النُّحاة المتوارثة تلك، التي لا يحبُّون تطويرها ولا المساس بها بنقد!
- كيف استمر حديثًا؟
- انظر، على سبيل المثال في ميدان "الصَّرف"، كيف "حاس" (الشيخ أحمد الحملاوي، عفا الله عنه) كلامه في كتيِّبه "شذا العَرْف في فَنِّ الصرف"، ليُدِيخ وراءه الطلبة، حتى إذا داخوا، احتاجوا إلى مصباح (علاء الدِّين)، ليبزغ عليهم منه شارحٌ هُمام. جاء في موضوع (الفعل الثلاثي المجرَّد): "وعينه إمَّا أنْ تكون مفتوحة، أو مكسورة، أو مضمومة، نحو: نَصَرَ، وضَرَبَ، وفَتَحَ، ونحو: كَرُمَ، ونحو: فَرِحَ، وحَسِبَ." فأين ترتيب الأمثلة من ترتيب الحالات: مفتوح، مكسور، مضموم؟ لا يهمُّ، وليضرب الطالب رأسه في أقرب جدار!
- أ تواصَوا به؟! فقد رأينا مثل هذا التخليط الترتيبي من قبل في "شذور الذهب"، لـ(ابن هشام)!
- بل هم قومٌ لاهون! وإليك أمرًا آخَر. هو، مثلًا، أنَّ المؤلِّف يُدرِج (لَبُبَ، يَلْبَبُ) في باب (فَعُلَ، يَفْعُلُ)، ثمَّ يُعقِّب: "والمضارع تَلَبُّ بفتح العَين لا غير!" فما دام بفتح العَين لا غير، فلا يندرج في هذا الباب: (فَعُلَ، يَفْعُلُ)، وكان حقُّه أن يُورَد في باب (فَعِلَ يَفْعَلُ)؛ لأنَّه يَرِد بكسر العَين: لَبِبَ يَلْبَبُ، ويشار هناك إلى وروده بضمِّها أحيانًا. أو أنْ يُجعَل الفعل في بابَين، حسب لُغتَيه، وإنْ قَلَّت إحداهما: باب فَعِلَ يَفْعَلُ، وباب فَعُلَ يَفْعَلُ. فلقد أوردَ بابًا قائمًا بذاته هو باب (فَعِلَ يَفْعِلُ)، وأدرَج فيه ما ذكرَ أنَّه قليلٌ في الصحيح، كثيرٌ في المعتلِّ، مثل: حَسِبَ يَحْسِبُ، بمعنى: "ظَنَّ"، والكثير المسموع: حَسِبَ يَحْسَبُ، بفتح السين، وكذلك: نَعِمَ يَنْعِمُ. أفلا اتبع منهاجًا واحدًا مع الحالات المتعدِّدة؟!
- أي أنَّه فوق صعوبة علم النَّحو والصَّرف، فإنَّ مؤلَّفاتهما حافلةٌ باضطراب التأليف، وعدم الدِّقَّة في التصنيف؟
- كَذا.. فَليَجِلَّ الخَطْبُ وليَفدَحِ الأَمْرُ ... فَلَيسَ [لنَفْسٍ لَم تَفِضْ رُوحُها] عُذْرُ!
وكذا فقد أورد أحد عشر فعلًا، تُكْسَر عَينها في الماضي، ويجوز الكسر والفتح في المضارع، زاعمًا أنَّه لم يَرِد في اللُّغة غيرها! ونسي الفعل (نَعِمَ يَنْعِمُ/ يَنْعَمُ)، الذي سبق أن ذكره هو، قبل ثلاث صفحات.
- وأين الشرح والتحقيق؟ أم أين التنقيح والتدقيق؟ أم أين التعليقات والحواشي؟! لقد كان القدماء، إبَّان القرون الوُسطى، يتولَّون شرح معمَّياتهم، التي إنَّما عَمَّوها لكي يشرحوها، كما أريتنا في مساقٍ سابق. وبعض العمَى أهون من بعض!
- ذلك كان أيَّام الوِراقة والمخطوطات. ولكن منذ أن ظهر مخبز المطابع، اتَّسعت التجارة، واضطرم الجَشَع، وقلَّت القراءة والمراجعة. على أنَّ العَرَبيَّة- من قبل ومن بَعد- لهجاتٌ، كما قلنا مِرارًا، من التكلُّف افتراض ضبطها بصرامةٍ، في قوالب جامعةٍ مانعةٍ، وإنْ حرص أهل اللُّغة. ولم يُغْنِ عنهم خلط النَّحو بالمنطق؛ من حيث إنَّ مَنْطَقَةَ ما لا منطِق رياضيًّا له غير منطقيٍّ أصلًا.
- وماذا بعد؟
- من مصطلحات صاحبنا الحملاوي الملبِسة قوله، في "فصل في معاني صيغ الزوائد"، بأنَّ للهمز "معاني" عشرة حينما يدخل على الفعل. والحقيقة أنها (وظائف) للهمز وليست بمعانٍ له. أي أنَّ الهمزة تُكسِب الفعل تلك المعاني، كالتَّعدية، والصيرورة، والمصادفة، والاستحقاق، وليست بمعانٍ للهمز نفسه.
- وماذا بعد؟
- قل: ماذا قبل؟! خذ عندك كلمة (أفلس): يوردها، رحمه الله، في معنى: صار ذا فُلوس! وأيُّ طالب، مفلس أو غير مفلس، سيضرب هنا أخماسًا بأسداس. وهذا من تعمُّد الإغراب والإلباس على الناس؛ لأنَّ المشهور أنَّ وظيفة الهمزة هنا للإزالة، فأفلس أي: زالت فلوسُه. وعليه الحديث النبوي: "أتدرون مَن المُفلِس...". لكنَّه، كما قلتُ لك، حِرص هؤلاء على قلب دماغ القارئ، بالشواذِّ وغرائب المخلوقات. وإنْ كانت للهمز في هذا الفعل وظيفتان، فلا بأس، وكان يجب أن يتوقَّف المؤلِّف فيوضح، بَيْدَ أنَّه لا يأبَه. بل لقد كان ينبغي أن يورد الهمز في وظيفته المشهورة عن العَرَب، أوَّلًا، ثمَّ يضيف النادر. وهذا ما نعنيه بأنَّ هؤلاء مَرَدُوا على الإغراب، والاستمتاع بلَيِّ أعناق الكلام، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا؛ من حيث لا يُحِبُّون أن يكون ما يطرحون سهل التناول، ولا أنْ يفهمهم القارئ بيُسر، بل لا بُدَّ أن يصدموه بما لا يعرف، بل بما يناقض ما يعرف، وربما تفضَّل أحدهم عليه بعد أن يُصرَع بالشرح لاحقًا، إنْ بقي في العمر بقيَّة، وإلَّا بقي الأمر معلَّقًا. تلك هي اللعبة وأصولها؛ كي يصبح ما يتعاطون عِلمًا غامضًا، عسيرًا، مهيبًا، يتطلَّب تدخُّل جهابذتهم للإسعاف، جيلًا بعد جيل!
- قد يقول لك مدافعٌ عن الأشخاص، وممجِّدٌ للأئمة- وما أكثرهم!- لا عن النحو عينه ولا عن اللغة العَرَبيَّة: تلك حالاتٌ واردةٌ في أيِّ كتاب. والكمال لله وحده.
- وهذا حقٌّ يراد به باطل. لأنَّ هذا يحدث في ميدانٍ يُدَّعَى فيه العِلم الرياضيُّ الدقيق، والمحاسبة على الحرف والحركة ونظام الجملة. على حين تلحظ هنا اختلالًا منهاجيًّا في ضبط التأليف في أيسر صوره. ولا تقلُّ الشروح والحواشي عن المتون التواءً وغموضًا في معظم الحالات، فضلًا عن تشعُّبها وتشريقها وتغريبها. ثمَّ إنَّ ما ننتقده في تلك الكتب ظاهرٌ لكلِّ متصفِّحٍ ناقد، وإنْ لم يكُ متخصِّصًا. ولولاه، لما طالت الشروح، والتعليقات، والحواشي، وحواشي الحواشي، والجدال والصراع. وإنَّما هدفنا إصلاحها، إنْ أمكن ولزم الأمر، أو تجاوُز ما تجاوزه الزمن منها.
- رحم الله (يزيد بن الحكم الثقفي، -١٠٥هـ= ٧٢٣م)، الذي قال واصفًا هذه المعمعة، ومنذ اندلاعتها الأُولى:
يَصُدُّ الفَـتْرَخَـانِيُّـوْنَ عَنِّي ... كما صَدَّتْ عَنِ الشُّرَطِ الجَوَالِـيْ
إذا اجْتَمَعُوا على أَلِفٍ وباءٍ ... فـيا لكَ مِنْ قِـتـالٍ أو جِـدالِ !
- الفَتْرَخَة: المبالغة في الشيء والتعمُّق فيه. بل أقول: لولا ذلك كلُّه لما كانت خرافة الصعوبة الاستثنائيَّة التي توصف بها اللغة العَرَبيَّة، والتي ينفيها- رغم كلِّ شيء- تعلُّمُ غير العَرَب العَرَبيَّة أسرع من لغاتٍ أخرى وأسهل، وتفوُّقُهم على أبناء العَرَب.
- السؤال: لماذا لا تعاد تلك المواد النَّحويَّة والصَّرفيَّة في مؤلَّفاتٍ حديثةٍ لطلبتنا في الجامعات ولغيرهم، وبوسائل بيانيَّةٍ معاصرة، من خلال إبداعاتٍ تناسب هذا العصر، كما نجد في لُغاتٍ أخرى؟!
- إبداعات؟! مسكينٌ أنت، وطيِّب! لن يحدث، يا صاحبي؛ لأنَّه لو حدث- لا قدَّر الله!- لربما أُقفِلت أقسام النَّحو والصَّرف في بعض الجامعات العَرَبيَّة أو كلِّها، وبارت سلعة أساتذتها! لذا لن تجد سِوَى الدفاع المستميت عن ذلك التراث، وإعادة طباعة كتبه، والتمسُّك بها، بعجرها وبجرها، مع محاولة شرحها، في أحسن الأحوال، كرًّا وفرًّا، ليتأبَّد الدوران حولها، كما هي، كأنَّها نصوصٌ مقدَّسة، صالحةٌ لكلِّ زمان ومكان!
أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي
حوار مع القراء حول التدخل الإيراني والأمريكي في العراق (1)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عبد الخالق حسين
بعد نشر مقالي الأخير الموسوم: (متى يتخلص العراق من الهيمنة الإيرانية؟)(1)، استلمتُ عدداً من التعليقات من القراء الأفاضل ضمن مجموعات النقاش، و برسائل الإيميل، أو على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها. وكالعادة، كانت التعليقات المؤيدة للمضمون أكثر من المعارضة. وقد رأيتُ من المفيد تلخيص ما دار من مناظرات في مقال، وذلك لتعميم الفائدة، و بدون ذكر الأسماء، ما عدا تعليق الأخ الكاتب عبد الرضا حمد جاسم في صحيفة المثقف الغراء، لأنه عبارة عن خلاصة معظم ما ورد في التعليقات المعارضة، ونشرتُ ردي عليه بشكل موجز في قسم التعليقات. وأغلب التعليقات كانت بأسلوب هادئ ما عدا القليل منها متشنجة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، أن أحد الأخوة من المدافعين عن التدخل الإيراني، بعث لي رسالة إيميل فيها قائمة من نقاط الاعتراض على مقالي جاء فيها متهكماً: (نتخلص من التدخل الإيراني عندما نتخلص من أقلامٍ غير مُنصفة كقلمك)، ويضيف: (وسوف أترك التعليق حول (حبيبتك) أمريكا وديمقراطيتها الترامبية وكيف أنَّها أينما وُجِدت، وجِدت المصائب.)
نسي صاحبنا، سامحه الله، أن إيران هي التي أينما وُجدت وُجدت المصائب. أنظر إلى حال اليمن ولبنان وسوريا، وكذلك العراق. أكتفي هنا بتوجه النصح للأخ المعترض، أن ولائنا يجب أن يكون للوطن قبل الولاءات الأخرى مثل الدينية والمذهبية والعرقية وغيرها، وأدعوه لقراءة مقال الدكتور حميد الكفائي الموسوم: (المذهب ليس بديلا عن الوطن!)(2).
كذلك الملاحظ أن أنصار إيران يعتبرون التدخل الإيراني ليس تدخلاً، بل واجب ديني مقدس، حتى أضفوا صفة القداسة على المليشيات العراقية الولائية (أي الموالية لإيران). فالولاء لإيران عندهم هو دعم للكرامة والسيادة الوطنية، أما معارضة التدخل الإيراني دفاعاً عن العراق فمعناه العمالة لأمريكا وإسرائيل. وهكذا انقلبت المقاييس في هذا الزمن الرديء حيث أصبح ولاء العراقيين لإيران هو عمل وطني ، والولاء للعراق عمالة لأمريكا وإسرائيل.عجيب أمرهم.
وتلافياً للإطالة، رأيت من الأفضل تقسيم المقال إلى حلقتين. الأولى أناقش فيها اعتراضات الأخوة في مجموعة النقاش. والثانية للرد على تعليق الأخ الكاتب الأستاذ عبد الرضا حمد جاسم.
***
رد على اعتراضات مجموعة النقاش
المؤسف أن ركز معظم الأخوة المشاركين في مجموعة النقاش على نقطة واحدة ذكرتها في مقدمة المقال، وهي لماذا نجحت الديمقراطية في الهند رغم أن شعبها يتكون من أكثر من 2000 أثنية ودينية (الرقم ليس مبالغة، بل من غوغل)، والهند في نظر العالم أكبر دولة ديمقراطية متماسكة، بينما فشلت في العراق رغم أن تنوع الشعب العراقي لا يزيد عن ستة أو سبعة مكونات؟ فتجنبوا التعليق على جوهر الموضوع الذي كان حول الصراع بين المكونات العراقية، والتدخل الإيراني في الشأن العراقي، فركزوا حملتهم على الهند فقط. إذ جاؤوا بالكثير من الأمثلة من صراعات بين المسلمين والهندوس، وبذلك اعتبروا الهند ليست دولة ديمقراطية ولا متماسكة...!! بينما هذا الحكم مخالف للإجماع العالمي الذي يعتبر الهند أكبر دولة ديمقراطية متماسكة.
فردي على اعتراضات الأخوة كالتالي: عندما نصف الهند بالديمقراطية والاستقرار السياسي، فهذا لا يعني أنها أصبحت بلا مشاكل، وأنها صارت دولة (المدينة الفاضلة). فالمدن الفاضلة لا وجود لها إلا في مخيلة الفلاسفة الحالمين، لأن القضية نسبية، خاصة إذا ما وضعنا في نظر الاعتبار أن تعداد الشعب الهندي اليوم نحو 1.366 مليار نسمة، ومساحتها شاسعة (شبه قارة)، لذا فليس من المتوقع أن تتخلص مائة بالمائة من مشاكل وصدامات بين حين وآخر، بين المتشددين والمتطرفين من هذه المكونات. فهذه المشاكل لا تخلو منها معظم دول العالم، الديمقراطية والمستبدة، المستقرة وغير المستقرة. فالصدامات الدموية تحصل حتى بين أنصار الفرق الرياضية في ساحات كرة القدم، وهذا لا يمس شرعية أو تماسك ذلك الشعب أو تلك الدولة. لذلك فعلى رغم كل ما حصل في الهند من نزاعات بين المسلمين والهندوس بعد الاستقلال عام 1947 وإلى اليوم، فمازالت الهند تعتبر مثالاً للاستقرار السياسي، ونجاح نظامها العلماني الديمقراطي، وهي بالتأكيد أفضل من باكستان الإسلامية عشرات المرات. فباكستان رغم انفصالها عن الهند لأسباب دينية، إلا إنها لم تسلم من صراعات دموية مذهبية بين المسلمين أنفسهم، أي بين السنة والشيعة، وحتى بين الحكومة والمنظمات الإسلامية المتشددة الإرهابية.
وقد قرأنا كيف كان الإنكليز يثيرون الصراعات الدموية بين الهندوس والمسلمين، فإذا ما حصل نوع من الاستقرار في مكان ما في الهند، يأتون بمسلم ليذبح بقرة في سوق مزدحم ليشتبك الهندوس مع المسلمين في مجازر دموية.
فالشعب الهندي بمختلف مكوناته مسالم بطبيعته بصورة عامة. وأنا أطلعت على آراء بعض المسلمين الهنود، فوجدتهم يفضلون كونهم مواطنين في الهند على أن يكونوا في باكستان. فإثناء دراستي في كلية طب الموصل كان عندنا أستاذ هندي مسلم في غاية الطيبة، سألناه مرة عن وضع المسلمين في الهند، فامتدح الوضع، و قال أن المسلمين رغم أنهم أقلية في الهند إلا إن هذه الأقلية هي أكثر من أكثرية باكستان المسلمة (في الستينات من القرن الماضي). وخلال عملي كطبيب جراح في بريطانيا، التقيت بالعديد من الأطباء الهنود المسلمين من كشمير، وسألتهم فيما لو يفضلون ضم كشمير إلى باكستان، فأكدوا أنهم يفضلون بقاءهم مع الهند على باكستان. والسبب هو نجاح النظام العلماني الديمقراطي في الهند، وفشله في باكستان حيث الانقلابات العسكرية وحكم الجنرالات، والتعصب الديني...الخ. وشتان ما بين الهند و باكستان في جميع المجالات: السياسية، والاجتماعية والاقتصادية والعلمية وغيرها حيث المحصلة في صالح الهند. والجدير بالذكر أن كلمة (باكستان) تعني (الأرض الطاهرة) في إشارة استفزازية إلى أن بقية الهند غير طاهرة!
ولكن يبدو أن لكل عراقي مفهومه الخاص عن الديمقراطية، ويريدها وفق مقاساته. فالحكومة الديمقراطية كما وصفها ونستن تشرتشل، ليست الحكومة الفاضلة أو المثالية، ولكن لحد الآن لا توجد حكومة أفضل من الحكومة الديمقراطية.
والجدير بالذكر، أن أهم سبب لما يجري من صراعات دموية في العالم اليوم هو تسييس الإسلام. فأغلب الصدامات الدينية في الهند وبورما، والفلبين وباكستان، والشيشان، والصين والبلاد العربية والإسلامية من بينها العراق، وغيرها هو الإسلام السياسي، الذي راح يفرِّخ التنظيمات التكفيرية مثل طالبان، والقاعدة وداعش، ولشكر طيبة، وبكو حرام وغيرها كثير، وبتمويل من السعودية والدول الخليجية الأخرى، ونشر أيديولوجيتها الوهابية التكفيرية.
فالإسلام السياسي لا ينشر الإرهاب في الهند فقط، وهم فئة قليلة لا يمثلون المسلمين الهنود إطلاقاً، بل نشروا القتل في مجتمعاتهم الإسلامية أيضاً ضد من لا يوافقهم على أيديولوجيتهم التكفيرية. فهناك دراسة تؤكد أن أكثر من 80% من ضحايا الإرهاب الإسلامي هم من المسلمين، ولا علاقة له بالاختلاف العرقي أو الديني أو المذهبي، بل هو سياسي، وإنما يوظفون الدين والمذهب لتعبئة الجماهير وتضليلها وإشعال الفتن لأغراض سياسية قذرة. وعلى سبيل المثال، الشعب الصومالي متجانس عرقياً ودينياً ومذهبياً، ولكن مع ذلك تفتت دولة الصومال لثلاثين سنة بسبب الإسلام السياسي المتمثل فيما يسمى بـ(محاكم الشباب الإسلامية)، الذين ينشرون القتل العشوائي إلى اليوم. نفس الكلام ينطبق على الجزائر، حيث قتل المتطرفون الإسلاميون نحو ربع مليون جزائري في التسعينات من القرن الماضي، و القاتل والمقتول كلاهما من دين واحد ومذهب واحد.
فالإسلام السياسي هو ليس العدو اللدود للحضارة والإنسانية فحسب، بل هو أيضاً العدو اللدود للإسلام نفسه كدين حنيف، دين السلام والمحبة والتسامح، ومكارم الأخلاق كما نقرأ عنه في الكتب الدينية. ولكن إجرام الإسلاميين السياسيين التكفيريين ومليشياتهم الولائية المسلحة في العراق هي التي أباحت قتل الأبرياء من المتظاهرين السلميين ببنادق القناصة، وجعلت الكثير من الشباب ينفرون من الدين.
يتبع
د. عبد الخالق حسين
........................
روابط ذات صلة
1- د. عبد الخالق حسين : متى يتخلص العراق من الهيمنة الإيرانية؟
https://www.almothaqaf.com/a/opinions/953785
2- د. حميد الكفائي: المذهب ليس بديلا عن الوطن!
https://akhbaar.org/home/2021/2/280615.html
لعنة المعرفة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: محمد عبد الكريم يوسف
كان اكتشاف النار وكروية الأرض والطيران والجاذبية محطات أساسية في تاريخ المعرفة الإنسانية وتقدم البشرية ونقطة تحول في رفاهية الإنسان، ورغم ذلك فقد تعرضت أفكار العلماء الأوائل الذين قدموا المعارف الجديدة للنقد والتشوية وتعرضوا لما لم يتعرض له إنسان آخر من صنوف التعذيب والعزل والرفض الناجم عن الجهل بأفكارهم، وهوما نسميه اليوم في علوم الإدارة "مقاومة التغيير".
تنجم "لعنة المعرفة" عن "التحيز المعرفي" وجهل الناس في فهم الأفكار التي يطرحها الأخرون من معارف جديدة . وقد تنشأ لعنة المعرفة نتيجة خلاف في المصالح الاقتصادية بين الأفكار الجديدة والقديمة وعدم قبول أصحاب المصالح الأقدم أي تغيير يهدد مصالحهم وبالتالي يرفضونها ويعتبرونها خروجا صارخا على الناموس الكوني المعمول به منذ بدء الخليقة وحتى لحظة ظهور الأفكار الجديدة . وهذا يعني أن الأشخاص الذين يتفوقون على الأخرين بالمعرفة يعانون الكثير ويكافحون لإثبات صحة أفكارهم ونظرياتهم فتحل بهم " لعنة المعرفة " .
قد تعيق " لعنة المعرفة " الناس بطرق مختلفة، وقد يصبح التواصل أكثر صعوبة، ويصير التنبؤ بسلوك الآخرين في غاية الصعوبة . ويرتبط هذا التحيز بمجال التعليم حيث يكافح الخبراء في مجال معين لتعليم المبتدئين الذين يجدون صعوبة في تفسير حقيقة أن ليس كل شخص لديه نفس المستوى من الخبرة بما يفعلونه.
قد يساعد فهم " لعنة المعرفة " على أن يصبح المرء أفضل في التنبؤ بسلوك الآخرين والتواصل معهم وتعليمهم ومناقشتهم في القضايا الخلافية . سنحاول في هذا المقال أن نسلط الضوء على " لعنة المعرفة " ومجالاتها وتأثيرها المجتمعي.
نماذج من لعنة المعرفة :
يمكن أن تؤثر لعنة المعرفة على الناس في مختلف المجالات الحياتية والمهنية منها:
- يمكن أن تجعل "لعنة المعرفة" من الصعب على الخبراء تعليم المبتدئين: نظرًا لأن الخبراء الذي يقومون بتدريس المادة أكثر دراية فيها من طلابهم، فإنهم غالبًا ما يكافحون لتدريس المواد بطريقة يمكن لطلابهم فهمها ويقومون بتبسيطها وشرحها بطرق مختلفة وأحيانا يفشلون في تبسيط المصطلحات لطلابهم فتحل بهم " لعنة المعرفة" ويصنفون بأنهم لا يستطيعون التواصل مع الغير . على سبيل المثال، قد يجد أستاذ الرياضيات صعوبة في تدريس طلاب السنة الأولى، لأنه من الصعب على الأستاذ أن يفسر حقيقة أن لديه مستوى مختلفًا من المعرفة الخلفية عن هؤلاء الطلاب. وقد يجد الأستاذ المحاضر في قسم اللغة الإنكليزية أنه لعمل شاق أن يشرح لطلابه الفلسفة والمسرح والنثر إذا لم يكن الطلاب يتقنون فنون اللغة والتراكيب والتعبير والإنشاء.
- يمكن أن تجعل "لعنة المعرفة" من الصعب على الناس التواصل مع بعضهم البعض. إن تواصل الأشخاص مع بعضهم يعتمد على المعرفة التي يشاركونها، وقد يكون من الصعب على الأشخاص الذين يعرفون أشياء مختلفة مناقشة نفس الموضوع، حتى عندما لا تتضمن هذه المناقشة التعليم المباشر. على سبيل المثال، قد يكون من الصعب على عالم أن يناقش عمله مع أشخاص عاديين، لأن العالم قد يجاهد لتذكر أن الآخرين ليسوا على دراية بالمصطلحات في مجاله العلمي. وهنا يبرز السؤال الهام عن الفرق بين التعليم المباشر والتعليم غير المباشر في أكثر من مكان من هذا العالم . فالطالب الذي يخضع للتعليم المباشر أكثر قدرة على النجاح في الحياة المهنية من الطالب الذي يخضع للتعليم غير المباشر .
- يمكن أن تجعل "لعنة المعرفة" من الصعب على الناس التنبؤ بسلوك الآخرين. غالبًا ما يكافح الأشخاص ذوو المعرفة للتنبؤ بكيفية تصرف الأشخاص الأقل دراية منهم، لأنهم يكافحون لتجنب أخذ المعلومات التي لديهم في الاعتبار عند تخيل عملية تفكير الشخص الآخر. على سبيل المثال، قد يفاجأ الملاكم المحترف ببعض الحركات التي يقوم بها الملاكم المبتدئ، إذ قد يقوم المبتدئ بحركات "خاطئة" من منظور تقني، والتي لن يستخدمها معظم الأشخاص الذين يعمل معهم الملاكم المحترف.
- يمكن أن تجعل "لعنة المعرفة" الحياة مستحيلة على العالم في مجتمع جاهل، وهذا ما حدث مع كوبرنيكوس وغاليلو وسقراط حيث دفع هؤلاء حياتهم لقاء معرفتهم التي تفوق قدرة الاستيعاب المجتمعية لديهم .
دراسة التنصت:
من أشهر الأمثلة على "لعنة المعرفة" دراسة نُشرت في أطروحة الدكتوراه عام 1990 لطالبة الدراسات العليا بجامعة ستانفورد إليزابيث لويز نيوتن تحت عنوان "دراسة التنصت" . في هذه الدراسة، تم اختيار المشاركين بشكل عشوائي ليكونوا إما عازفا أو مستمعًا. يعزف كل عازف بأصبعه على ثلاث نغمات (تم اختيارها من قائمة تضم 25 أغنية مشهورة)، ثم طُلب منه تقدير احتمالية أن يتمكن المستمع من تحديد الأغنية التي نقر عليها بنجاح، يتم ذلك فقط بناءً على التنصت على حركة الإصبع.
لقد أظهرت نتائج هذه التجربة بوضوح الدور الذي تلعبه "لعنة المعرفة" في تفكيرنا:
وقدرت الدراسة أن المستمعين يستطيعون تحديد أنغام تم اكتشافها في حوالي 50٪ من الحالات، مع تقديرات تتراوح متوقعة تتراوح من 10٪ إلى 95٪.
لكن في الواقع، استطاع المستمعون تحديد النغمة بنجاح بناءً على نقر الإصبع في 2.5٪ فقط من الحالات، وهو أقل بكثير من أكثر التقديرات تشاؤمًا التي يقدمها العازف. وقد انتشرت في نهاية الألفية السابقة ( القرن العشرون) الكثير من البرامج التلفزيونية التي تطبق " دراسة التنصت" فيها .
بشكل عام، توضح "دراسة التنصت" كيف تستطيع "لعنة المعرفة" أن تؤثر على حكم الناس على الأشياء . وعلى وجه التحديد، يظهر أن الأشخاص الذين يعرفون اللحن الذي يتم انتاجه لديهم و التعرف عليه، ويكافحون للتنبؤ بدقة بمنظور الآخرين، الذين ليس لديهم نفس المعرفة التي لديهم.
غالبًا ما تتم الإشارة إلى أطروحة نيوتن لعام 1990 في الأدبيات العلمية على أنها تحمل عنوان "الثقة المفرطة في توصيل النوايا: من ألحان مسموعة وغير مسموعة". ومع ذلك، يبدو أن العنوان الأصلي للأطروحة هو:
The Rocky Road from Actions to Intentions
"الطريق الوعر من الأفعال إلى النوايا"
ويتضح من صفحة العنوان وفي مدخلها على موقع جامعة ستانفورد. يبدو أن هذا التناقض قد حدث نتيجة لكيفية الإشارة إلى الرسالة من قبل مشرف نيوتن، البروفيسور لي روس، في فصل من كتاب عام 1991 نشره حول هذا الموضوع، مما أثر على كيفية الإشارة إليها من قبل الأشخاص الآخرين بمرور الوقت.
ظهر مصطلح "لعنة المعرفة" لأول مرة في بحث عام 1989 نشره الاقتصاديون كولين كاميرر وجورج لوينشتاين ومارتن ويبر. أراد الباحثون في هذه البحث، تحدي الافتراض الخاطئ السائد بأنه في المواقف التي يوجد فيها عدم تناسق في المعلومات (بمعنى أن بعض الأشخاص لديهم معلومات أكثر من غيرهم)، يستطيع العلماء الأكثر استنارة دائمًا التنبؤ بأحكام أقل من العلماء المطلعين.
وأظهر بحث المجموعة أنه، في الواقع، غالبًا ما يكون العلماء الأكثر استنارة غير قادرين على تجاهل المعلومات الخاصة التي يعرفونها فقط، حتى عندما يكون ذلك في مصلحتهم. وبناءً على ذلك، خلصوا إلى أن زيادة المعلومات ليس دائمًا خيارا أفضل، لأن امتلاك معرفة أكثر من الآخرين قد يعيق أحيانًا قدرة الناس على التنبؤ بسلوك الآخرين.
لماذا نمر بتجربة "لعنة المعرفة"؟
تحدث "لعنة المعرفة" بسبب الطريقة غير الكاملة التي نعالج بها المعلومات. على وجه التحديد، نظرًا لأننا نقضي معظم الوقت في رؤية الأشياء من منظورنا العلمي الخاص، و نكافح لنتذكر أن منظور الآخرين ومستويات المعرفة لديهم تختلف عن منظورنا المعرفي، بسبب فشلنا في التكيف تمامًا من منظورنا الشخصي. وهذا يفسر بجلاء قدرة الإنسان العادي المعرفة على خداع الإنسان العالم .
يعني هذا أساسًا أنه عندما نعرف جزءًا معينًا من المعلومات، فإننا نكافح لتخيل منظور أولئك الذين لا يعرفون ذلك. وعلى هذا النحو، فإن "لعنة المعرفة" هي نوع من التحيز الأناني، و "تحيز معرفي" يجعل من الصعب على الناس تفسير حقيقة أن أفكار ومعتقدات وآراء الآخرين تختلف عن أفكارهم ومعتقداتهم وآرائهم.
يوجد للعنة المعرفة تأثير مماثل لفجوة التعاطف، وهو "تحيز معرفي" يجعل من الصعب على الناس تفسير الطريقة التي تؤثر بها الاختلافات في الحالات العقلية على الطريقة التي يتخذون بها قراراتهم مع الآخرين.
كيف تفسر لعنة المعرفة
على الرغم من أنه من المستحيل عمومًا تجنب لعنة المعرفة تمامًا، إلا أنه من الممكن بالتأكيد التخفيف من تأثيرها إلى حد ما.
سندرس ما يمكن الإنسان القيام به لتقليل تأثير "لعنة المعرفة" عليه، وسنورد بعض الإرشادات المهمة التي قد تساعد على فهم طريقة أخذ هذا التحيز في الاعتبار.
أساسيات
من أجل تقليل تأثير "لعنة المعرفة" بنجاح، علينا أولاً أن نعترف أنها موجودة، وأن ندرك حقيقة أن الناس لديهم مستويات مختلفة من المعرفة تختلف عنا.
من المفترض أن تكون قراءة هذه المقالة قد أعطت القارئ بالفعل فهمًا جيدًا لمصطلح "لعنة المعرفة"، ومتى ولماذا من المحتمل أن تواجهها، مما قد يساعد فهم المصطلح على تحديد نوع المواقف التي يجب أن يكون مدركًا لتأثيرها بشكل خاص.
علاوة على ذلك، في بعض الحالات، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالتعليم، فإن إحدى أفضل الطرق لتجنب "لعنة المعرفة" هي طلب التعليقات من الأشخاص الذين تتواصل معهم، للتأكد من أنهم يفهمون كل ما تقوله. سيسمح لك ذلك بتقييم الاختلاف في مستويات المعرفة بينك وبين الآخرين، مما قد يساعد على حساب هذا الاختلاف مع الآخرين بدقة .
بالإضافة إلى ذلك، هناك بعض الطرق الجيدة لمنع العديد من المشكلات المرتبطة بالفجوات في المعرفة منها التأكد من توضيح كل مصطلح ومفهوم تقني تستخدمه أثناء استخدامه، حتى لو بدا ذلك واضحًا لك، في أي وقت تكون فيه غير متأكد تمامًا من أن الغالبية العظمى من الجمهور المستهدف سيكون قادرًا على فهمه.
يمكن أن تساعد هذه الإجراءات في المواقف التي لا يمكنك فيها الاعتماد على الجمهور في تقديم ملاحظات كافية، وهو ما يمكن أن يحدث، على سبيل المثال، في المواقف التي يُحتمل أن لا يعترف فيها الأشخاص بأنهم لم يفهموا شيئًا ما، أو في المواقف التي يكون فيها التواصل هو في المقام الأول من جانب واحد (على سبيل المثال إذا كنت تكتب ورقة بحث).
تقنيات إزالة الصعوبات:
عندما تدرك أجواء "لعنة المعرفة" وطلب التعليقات من الجمهور، يمكنك أيضًا استخدام العديد من تقنيات إزالة المشكلات للمساعدة في حساب تأثير التحيز المعرفي.
تتشابه العديد من هذه الأساليب مع تلك التي قد تستخدمها عند محاولة تقليل التحيز الأناني، حيث يكون الهدف هو أن تفهم بنجاح وجهة نظر شخص آخر لديه منظور مختلف عنك بسبب الاختلاف في المستوى المعرفي بينك وبينه . وللقيام بذلك، يمكنك، على سبيل المثال، تصور منظور ورؤية الأشخاص الذين تتواصل معهم، أو استخدام لغة الإبعاد الذاتي، وكلاهما يحسن القدرة الشخصية على تقييم منظور و رؤية الآخرين.
و يمكنك أيضًا استخدام العديد من تقنيات إزالة المنظورات العامة في التعامل مع "لعنة المعرفة". تتضمن هذه الأساليب أشياء عديدة مثل إبطاء عملية التفكير وتحسين بيئة اتخاذ القرار لديك، مما سيمكنك من التفكير بطريقة أوضح وأقل تحيزًا.
ليست المسألة مسألة خبرة:
من المهم أن تتذكر أن "لعنة المعرفة" لا تتعلق بالضرورة بالصعوبات التي تواجه الخبراء عندما يتعلق الأمر بالتواصل مع المبتدئين، وعلى الرغم من أن هذه طريقة شائعة يتجلى فيها تحيز المعرفة العليا على المعرفة الدنيا. بدلاً من ذلك، فإن "لعنة المعرفة" تتعلق بصعوبة التواصل التي تواجه الناس عندما يعرفون شيئًا لا يعرفه الآخرون.
على هذا النحو، لا تحاول حساب "لعنة المعرفة" فقط في المواقف التي تكون فيها خبيرًا في مجال معين، أو في المواقف التي تكون فيها أكثر دراية من أي شخص آخر. بدلاً من ذلك، تذكر أن هذا التحيز يمكن أن يلعب دورًا في أي موقف يعرف فيه شخص ما شيئًا لا يعرفه الآخرون، ثم يفسرون الأشياء وفقًا لذلك.
توقع سلوك الآخرين
وحيث أن معظم الناس لا يدركون "لعنة المعرفة" وأبعادها، وبالتالي لا يعرفون كيف يفسرونها، فإن فهم كيفية تأثير "التحيز المعرفي" على تفكير الناس يمكن أن يساعد في التنبؤ بسلوكهم بدقة أكثر.
وعلى وجه التحديد، إذا كنت تعلم أن شخصًا آخر على دراية بمجال معين أكثر من غيره أو لديه بعض المعلومات التي لا يعرفها الآخرون، يمكنك أخذ ذلك في الاعتبار عند التنبؤ بكيفية تصرفه، على افتراض أنه سيفشل في تفسير "لعنة المعرفة" على أنها محاولة لتقييم سلوك وتفكير الآخرين.
على سبيل المثال، إذا كنت تستضيف حوار حيث يُتوقع من طالب دراسات عليا جديد أن يشرح بحثه لجمهور غير أكاديمي، فإن فهم "لعنة المعرفة" يمكن أن تساعد على التنبؤ بأن طالب الدراسات العليا على الأرجح سوف يلقي خطابًا تقنيا للغاية إلى الجمهور المستهدف. بعد ذلك، يمكن شرح هذه المشكلة للطالب وإخباره بما يمكنه فعله لشرح بحثه باستخدام اللغة التي سيتمكن الجمهور من فهمها.
ملخص واستنتاجات
- "لعنة المعرفة" هي "التحيز المعرفي" الذي يسبب للناس الفشل في اعتبار حقيقة أن الآخرين لا يعرفون نفس الأشياء التي يقومون بها.
- تعني "لعنة المعرفة" أن الأشخاص الأكثر معرفة من غيرهم في بعض المجالات سيكافحون عمومًا لحساب الاختلاف في المعرفة بينهم وبين الآخرين، وبالتالي سيكافحون للتواصل مع الآخرين أو للتنبؤ بسلوكهم.
- يمكن لمفهوم "لعنة المعرفة"، على سبيل المثال، أن يجعل الأمر أكثر صعوبة على الخبراء في مجال معين لتعليم المبتدئين، كما هو الحال في حالة الأساتذة الذين يكافحون لتعليم الطلاب، حيث يفشل الخبراء في حساب الاختلافات في المعرفة العميقة بينهم وبينهم المبتدئين.
- نحن نختبر "لعنة المعرفة" لأننا نقضي الكثير من الوقت في رؤية الأشياء من منظورنا الخاص، لدرجة أننا نكافح لتذكر أن وجهة نظر الآخرين ومستويات المعرفة تختلف عن وجهة نظرنا ومستويات معرفتنا.
- ولحساب مقدار "لعنة المعرفة"، يجب أن نكون على دراية بتأثيرها، وتجنب الافتراض التلقائي للمعرفة المشتركة، وطلب التعليقات من الآخرين، واستخدام تقنيات إزالة الرؤية العامة التي تسبب إبطاء عملية التفكير.
قد نعاني الكثير من "لعنة المعرفة" في حياتنا ولكن لنأخذ مثالا حيا من العظماء الذين واجهوا الكثير من الصعاب ورغم ذلك تغلبوا عليها بصبرهم وأناتهم واجتهادهم .
بقلم محمد عبد الكريم يوسف
غنائم الحرب: تجارة الهيروين في أفغانستان بمليارات الدولارات
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عادل حبة
أجندة واشنطن الخفية: استعادة تجارة المخدرات
بقلم البرفسور ميخائيل جوسودوفسكي
Global Research المصدر:
ترجمة: عادل حبه
على الرغم من إعلان الرئيس ترامب وبايدن أخيراً عن انسحاب القوات الأمريكية، لا تزال تجارة الأفيون الأفغانية محمية من قبل قوات الاحتلال الأمريكية والناتو لخدمة النخب المالية المتنفذة. إن اقتصاد الأفيون في أفغانستان هو عملية تدر مليارات الدولارات وتغذي سوق الهيروين الأمريكية التي تثير قلق الرأي العام في ذروة أزمة كورونا.
خلال العقد الماضي، كان هناك ارتفاع في إنتاج الأفيون الأفغاني. في المقابل، زاد عدد مدمني الهيروين في الولايات المتحدة بشكل كبير. هل هناك علاقة؟
كان هناك 189 ألف مدمن على الهيروين في الولايات المتحدة في عام 2001 قبل غزو الولايات المتحدة والناتو لأفغانستان. وبحلول عام 2016، ارتفع هذا الرقم إلى 4500000 (2.5 مليون مدمن على الهيروين و 2 مليون مستخدم عرضي). وارتفع عدد الوفيات جراء تعاطي الهيروين من 1779 في عام 2001 إلى 10574 في عام 2014. ولقد إزدادت مساحة حقول الخشخاش الأفغانية من 7600 هكتار في عام 2001 (عندما بدأت الحرب بين الولايات المتحدة والناتو في أفغانستان) إلى 224000 هكتار في عام 2016 (الهكتار الواحد يساوي حوالي 2.5 فدان). ومن المفارقات أن ما يسمى بعملية الإبادة الأمريكية في أفغانستان كلفت ما يقدر بنحو 8.5 مليار دولار من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين منذ بدء الحرب بين الولايات المتحدة والناتو وأفغانستان في أكتوبر 2001 ".
تنتج أفغانستان حاليا 84 % من الأفيون الذي يغذي سوق الهيروين في العالم. لئلا ننسى، حدثت الزيادة الكبيرة في إنتاج الأفيون في أعقاب الغزو الأمريكي في أكتوبر 2001 مباشرة.
من الذي يحمي صادرات الأفيون من أفغانستان؟
في الفترة 2000-2001 ، "فرضت حكومة طالبان بالتعاون مع الأمم المتحدة، حظراً ناجحاً على زراعة الخشخاش. وانخفض إنتاج الأفيون بأكثر من 90% في عام 2001. في الواقع، تزامنت الزيادة في إنتاج زراعة الأفيون مع بدء العملية العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة وسقوط نظام طالبان. من أكتوبر إلى ديسمبر 2001 ، وبدأ المزارعون في إعادة زراعة الخشخاش على نطاق واسع من تشرين الأول إلى كانون الأول عام 2001.
وكشف مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) في فيينا أن زراعة الخشخاش في عام 2012 امتدت على مساحة تزيد عن 154000 هكتار، بزيادة قدرها 18٪ عن عام 2011. وأكد متحدث باسم مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة في عام 2013 أن إنتاج الأفيون يتجه نحو مستويات قياسية.
حرث الأفيون في أفغانستان (1994-2016)
المصدر:UNODC/MCN opium surveys
المصدر: مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC).
في عام 2014 ، سجلت زراعة الأفيون الأفغاني رقمًا قياسياً، وفقاً لمسح الأفيون الأفغاني لعام 2014 الصادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (انظر الرسم البياني أدناه). وحدث انخفاض طفيف في 2015-2016.
الحرب جيدة للعمل وتغذي اقتصاد الأفيون الأفغاني وتعد تجارة مربحة في اقتصاد المخدرات وغسيل الأموال.
وفقًا لمسح الأفيون الأفغاني لعام 2012 الصادر في نوفمبر 2012 من قبل وزارة مكافحة المخدرات (MCN) ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC)، بلغ إنتاج الأفيون المحتمل في عام 2012 حوالي 3700 طن، بانخفاض قدره 18% مقارنة بعام 2001 .
هناك سبب للاعتقاد بأن هذا الرقم البالغ 3700 طن تم التقليل من شأنه بشكل كبير. وعلاوة على ذلك، فإنه يتعارض مع توقعات مكتب الأمم المتحدة لمكافحة التصحر بشأن محاصيل قياسية على مساحة ممنتشرة من الزراعة.
في حين أن سوء الأحوال الجوية والمحاصيل المتضررة قد لعبت دوراً، كما توقع مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريم ، استناداً إلى الاتجاهات التاريخية، فإن الإنتاج المحتمل لمساحة زراعية تبلغ 154000 هكتار، يجب أن يتجاوز أكثر من 6000 طن. وفي 80 ألف هكتار مزروعة في عام 2003، كان الإنتاج بالفعل في حدود 3600 طن.
وتجدر الإشارة إلى أن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة قد عدل المفاهيم والأرقام المتعلقة بمبيعات الأفيون وإنتاج الهيروين، على النحو الذي حدده المركز الأوروبي لرصد المخدرات والإدمان على المخدرات (EMCDDA).
لقد أدى التغيير في منهجية الأمم المتحدة في عام 2010 إلى مراجعة نزولية حادة لتقديرات إنتاج الهيروين الأفغاني للفترة من 2004 إلى 2011. واستخدم مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة تقديراً يينص على أن محصول الأفيون العالمي بأكمله قد تم تحويله إلى هيروين، وقدم تقديرات إنتاج الهيروين العالمية على هذا الأساس. قبل عام 2010، تم استخدام معدل تحويل عالمي يبلغ حوالي 10 كجم من الأفيون إلى 1 كجم من الهيروين لتقدير الإنتاج العالمي للهيروين (17). وعلى سبيل المثال ، يُعتقد أن الكمية المقدرة بنحو 4620 طناً من الأفيون الذي جرى حصاده في جميع أنحاء العالم في عام 2005 تجعل من الممكن تصنيع 472 طناً من الهيروين (مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة عام 2009). ومع ذلك، يقدر مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة الآن أن نسبة كبيرة من محصول الأفيون الأفغاني لا يتم تحويله إلى هيروين أو مورفين ولكنه يظل "متاحاً في سوق المخدرات كأفيون" (مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة ، 2010)، وتقرير أسواق الأدوية في الاتحاد الأوروبي: تحليل استراتيجي ، EMCDDA ، لشبونة ، كانون الثاني عام 2013.
لا يوجد أي دليل على أن نسبة كبيرة من إنتاج الأفيون لم يعد يتم تحويله إلى هيروين كما تدعي الأمم المتحدة. وقد ساعدت منهجية مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة المنقحة، من خلال التلاعب الكامل بالمعطيات الإحصائية، على تقليص حجم التجارة العالمية في الهيروين بشكل مصطنع.
وفقاً لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، المقتبس في تقرير EMCDDA:
"ما يقدر بـ 3400 طن من الأفيون الأفغاني لم يتم تحويله إلى هيروين أو مورفين في عام 2011. مقارنة بالسنوات السابقة ، هذه نسبة عالية بشكل استثنائي من إجمالي المحصول، تمثل ما يقرب من 60 ٪ من محصول الأفيون الأفغاني وما يقرب من 50 ٪ من الحصاد العالمي في عام 2011.
إن ما قام به مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، الذي تتمثل وظيفته في دعم إجراءات منع النشاط الإجرامي المنظم، هو التعتيم على حجم تجارة المخدرات الأفغانية وطبيعتها الإجرامية، بالحديث، دون دليل، عن أن جزءاً كبيراً من الأفيون لم يعد موجهاً نحو سوق الهيروين غير القانوني.
في عام 2012، وفقاً لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، كانت أسعار الأفيون من المزرعة حوالي 196$ للكيلوغرام. وإن كل كيلو جرام من الأفيون ينتج 100 جرام من الهيروين النقي. تبلغ أسعار التجزئة الأمريكية للهيروين (بمستوى نقاء منخفض) ، وفقاً لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة ، 172 دولاراً للجرام. علماً إن سعر غرام الهيروين النقي أعلى بكثير. ويتم جني الأرباح إلى حد كبير على مستوى أسواق البيع بالجملة والتجزئة العالمية للهيروين وكذلك في عملية غسيل الأموال في المؤسسات المصرفية الغربية. تشكل الإيرادات المتأتية من التجارة العالمية في الهيروين منجماً بمليارات الدولارات تصب في خزائن المؤسسات المالية والجريمة المنظمة.
سجل الإنتاج في عام 2016. برنامج مزيف للإستئصال
وفقًا لـ كتب الأمم المتحدة حول المخدرات والجريمة:
"ارتفع إنتاج الأفيون في أفغانستان بنسبة 43%، أي إلى 4800 طن متري في عام 2016 مقارنة بمستويات عام 2015، ووفقاً لأحدث أرقام مسح الأفيون الأفغاني الصادرة اليوم عن وزارة مكافحة المخدرات الأفغانية ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة. كما زادت المساحة المزروعة بخشخاش الأفيون إلى 201 ألف هكتار في عام 2016 ، بزيادة قدرها 10 % مقارنة بـ 183 ألف هكتار في عام 2015.
ويمثل هذا زيادة بمقدار عشرين ضعفاً في المساحات المزروعة بالأفيون منذ الغزو الأمريكي في أكتوبر 2001. وفي عام 2016، زاد إنتاج الأفيون بنحو 25 مرة مقارنة بمستوياته عام 2001 ؛ أي من 185 طناً في عام 2001 إلى 4800 طن في عام 2016.
الثامن من آذار يوم إحتجاج المرأة العالمي
- التفاصيل
- كتب بواسطة: حسام عبد الحسين
يوم الثامن من آذار يوم احتجاج للمرأة وليس احتفال كما تروج له الحكومات وإعلامها في العالم، كون جذوره ترجع الى احتجاجات وإضرابات النساء العاملات في أمريكا ضمن قطاع النسيج بداية القرن العشرين مطالبات بتخفيض ساعات العمل ورفع الأجور، حيث قام صاحب أحد المعامل بغلق أبواب المعمل وحرقه وراح ضحيته أكثر من ١٢٩ عاملة، هذه جذوره الاحتجاجية فكيف أن يكون يوماً للاحتفال!؟.
إن تكبيل عقل المرأة وتحويلها الى أداة لتربية الأطفال وسلعة جنسية للمتعة والمزاح أو التشاجر بعنوانها وأعضاء من جسدها بين بعض الذكور أو عرضها في السلع التجارية أو قتلها وتعنيفها.. من ضمن الصراع الطبقي والربح المالي الذي تعمل عليه القوى الرجعية في العالم والمتصلة بالرأسمالية وعلى مر التاريخ وفرضه بقوانين، ولو دقننا بهذه القوانين لوجدنا إنها من صنع الطبقات المالكة والحاكمة من الرجال وبما يتناسب مع مصالحهم المادية.
لذا كل مطلب للمساواة التامة للمرأة مع الرجل على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية ترفض من قبل هذه الطبقة “الحاكمة” فتبدأ بالقصف الإعلامي بكافة فروعه، لان هذه المساواة تعني ضرب إستغلال الإنسان للإنسان الآخر الذي يسير عليه العالم اليوم. وأن تمكنت المراة بالمساواة في ناحية الإقتصادية فقط ولم تخضع للتميّز داخل العمل يعني تمكنت المراة بالمساواة من الناحية الإجتماعية والسياسية والقانونية وهذا ترتعد منه كل الإنظمة الحاكمة.
بيد تلك الإنظمة لا خيار لديها إلا إنهاء عقل الإنسان بالتجهيل أو قتله، فعلى سبيل المثال لا الحصر تحاول بهذا اليوم إجراء عدة فعاليات زائفة، ففي الصين تعمل النساء بنصف يوم، وفي ايطاليا يتم الإحتفال به بتبادل أزهار “الميموسا”، اما امريكا مجرد إعلان رئاسي للإحتفاء بإنجازات النساء (طبعا اللواتي عملن بما يخدم السلطة). اما جانب العراق أصدرت حكومة البعث قوانين في الثمانينات بتسريح الاف من النساء دون أي ضمان إجتماعي، وفي عام ١٩٩١ أصدر قرار ١١١ لمجلس قيادة الثورة المنحل الذي يجيّز للرجل بموجبه قتل المرأة لمجرد الشك! وقد إبتدع يوم ٥ آذار وسماه “يوم المرأة العراقية” لضرب الثامن من الآذار لعلمه بأهمية هذا اليوم الإحتجاجية ولفصل المراة في العراق عن الحركة النسوية العالمية. وبعد ٢٠٠٣ فقد أكتفت السلطة الحاكمة وفروعها بإصدار بيانات لا أكثر لغرض الكسب الإنتخابي وتوهيم المجتمع، وفي المقابل تعيش المراة في العراق والعالم تحت كل أشكال الظلم السافر وبكل الميادين.
نقول في اليوم العالمي لإحتجاج المرأة: أن الرجل والمرأة يمثلان الطبقة العاملة التي تُضطهد وتُسرق بشكل معلن مثل النساء اللواتي يمارسن العمل المنزلي وتربية الأطفال وإدارة شؤون البيت وثمرة عملهن تسرق من قبل الدولة بإخلاء مسؤوليتها وجهد ووقت دون مقابل نقدي! كما يسرق فائض قيمة العمال في المواقع الإنتاجية.
وعليه لابد أن يرتفع سقف المطالب وبكل الطرق النضالية والإحتجاجية التي تحقق المساواة التامة بين الرجل والمراة في العراق والعالم.
حسام عبد الحسين
لماذا هيْمنَ الغرب على الكرة الأرضية؟
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عدنان ابو زيد
أوروبا التي لا تمثل سوى 8 بالمائة من مساحة كوكب الأرض، تمكّنت بين الأعوام 1492 و 1914 من استعمار أكثر من 80 بالمائة من العالم، ونجحت في نقل مجتمعاتها من حالات الفقر الشديد، الى الغنى الواسع، وأرست بين شعوبها الرفاه، والعدل الاجتماعي، كتحصيل حاصل للتطور العلمي والاقتصادي، الذي اتاح حقبة الهيمنة على الشعوب الأخرى.
لقد سار التاريخ بطريقة مكّنت الغرب الى الآن من تحقيق التفوق على بقية شعوب العالم. في مقابل ذلك، تراجعت أمم لطالما تبجّحت بتأريخها الطويل وحضارتها الموغلة في القدم.
يقدّم فيليب هوفمان من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، الذي يطبّق النظريات الاقتصادية على السياقات التاريخية، قصة تكنولوجيا البارود، كمثال نوعي لطرائق التفكير الأوربي، باعتبار ان هذا الاختراع المفيد والضار في ذات الوقت، من مخترعات الصينيين، لكن الأوربيين تفوقوا عليهم في صناعته، وتوظيفه بوسائلهم المبتكرة، الأمر الذي سمح لهم بالاستيلاء وبسرعة على أجزاء كبيرة من العالم، متفوّقين على الشعب الأصفر الذي يفوقهم عددا، اضعافا مضاعفة.
وبالنسبة لهوفمان، لم يكن البارود سوى رمز يرتبط بالتكنولوجيا والسياسة والإدارة الناجحة، والأنظمة المالية والضرائب، والثقافة، والتنمية الاجتماعية.
لا اختلاف على حقيقة ان الفتوحات العالمية التي أنجزتها أوروبا الغربية، هي من ثمار الثورة العلمية والاقتصادية، والاجتماعية التي تفوقت فيها شعوب القارة الشقراء على غيرها، ومثلما انجبت العلماء وجهابذة الثقافة والاقتصاد، فقد ولّدت الزعماء التاريخيين، الذين نجحوا في إدارة البلدان بطريقة سمحت للعقل التجريبي والعلم، والفلسفة، في تطوير المجتمع والإنتاج.
يكمن السرّ لهذا التفوق، في الاستقرار، وحرية الرأي، والعدالة، التي توفّرها الديمقراطيات الحقيقية العتيدة، فمهما توفّرت للبلدان، الاعداد الهائلة من المهندسين والأطباء والعلماء، ورجال الاعمال، فان هؤلاء لن يتمكنوا من تحقيق انجاز، من دون نظام سياسي كَفء.
يقول هوفمان: في العام 1914، نجت الصين واليابان والإمبراطورية العثمانية فقط من التحول الى مستعمرات أوروبية. وقبل ألف عام، لم يكن أحد يتوقع التفوق الأوربي، على الإطلاق، لأن أوروبا الغربية في تلك المرحلة كانت متخلفة بشكل ميؤوس منه، وضعيفة من الناحية السياسية، وفقيرة، وكانت تجارتها الرئيسية الشاقة، ولمسافات طويلة هي الرقيق.
كانت الهيمنة السياسية لأوروبا الغربية نتيجة غير متوقعة، قبل ان تصبح ماكينة صناعية، وما ان حلّ العام 1800، حتى استولت على 35٪ من العالم على الرغم من كونها أقل ثراءً من الصين أو الشرق الأوسط.
ثمن تفاصيل أخرى تتعلق بالتفوق الأوربي، وهي ان العلوم، والوعي الاجتماعي والصحي، جعل الأوربيين في مناعة من الأمراض، مثل وباء الجدري الذي عصف بالمكسيك، والأدواء التي قتل الملايين في الهند، وجنوب شرق آسيا.
المنظور التاريخي يفسّر أيضا، كيف انتقلت الهيمنة من أوروبا الغربية الى أمريكا منذ أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، ومن المحتمل انتقالها الى شعوب أخرى، في عالم ما بعد أمريكا المتوقّع الحدوث في منتصف وأواخر القرن الحادي والعشرين.
وليس السبب في هذا التحول، الضعف الأوربي أو الأمريكي، بل لأن الشعوب الأخرى عرفت سرّ التفوق، وأخذت به، لكي تنافس أصحاب السرّ أنفسهم، الذين أفلتوا من مورفين التاريخ، وسجلاته الكئيبة، وقصدوا المستقبل.
عدنان أبوزيد
التاريخ أيها السادة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. يسري عبد الغني
أول وثاني مؤتمر للثقافة العربية !!!!---
مفهوم أحمد أمين للثقافة كان يرتبط دائما بمفهوم التعليم. ويبدو أنه كان يعتبر الثقافة أو تثقيف الناس وتوعيتهم مرحلة موازية لمرحلة التعليم، ولذلك فإنه عندما عقد المؤتمر الثقافي الأول في لبنان خلال سبتمبر (أيلول) 1947، كان أحمد أمين مديرا للإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، وهو الذي دعا للمؤتمر، فأضفى على هذا المؤتمر فكرته، فكانت المحاضرات تدور حول التعليم.
كانت خلاصة التفكير في معنى الثقافة في فعاليات هذا المؤتمر الثقافي الأول للعرب، هو ما قاله واصف البارودي، وهو من أعلام الفكر اللبناني، حيث أكد على أن الثقافة ليست كما يعتقد الكثيرون لتكوين الصفوة ولتكوين مجتمع لائق بها سلبا وإيجابا، أي يعرف كيف يتجه معها ما دامت على حق، وكيف يوجهها أو يستغنى عنها متى انحرفت عن المسير، فهي تكون مجتمعا يعرف كيف يعيش، ولا تعترف بأي مجتمع يصنع من البشر أوثانا وآلهة يعبدها من دون الله. وهكذا ربط هذا المثقف المتميز في وقت باكر بين الثقافة والأيديولوجية، في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وفي تلك الأثناء من تاريخ الفكر العربي المعاصر، ألف طه حسين كتابه "مستقبل الثقافة في مصر". وحاول ربط مصر بثقافة البحر الأبيض المتوسط، وهاجمه كثيرون (وما زالوا يهاجمونه حتى يومنا هذا)، وقالوا: إن ثقافة مصر ترتبط بثقافة العرب، وليس مع ثقافة البحر المتوسط.
نعود لنسأل: ما هي الثقافة؟ هل هي تكوين الصفوة المختارة في المجتمع؟ هل هي توصيل أنواع معينة من المعارف والمهارات والفنون إلى جماهير الشعب؟
في المؤتمر الثقافي العربي الثاني الذي عقد في مدينة الإسكندرية من 22 أغسطس (آب) إلى 3 سبتمبر (أيلول) 1950، استمر أحمد أمين في دعوته للتعليم، وقال كلمته المشهورة: كل الأقطار العربية تتذبذب بين مبدأين مشهورين، وهما : التعليم للجميع، وفتح أبواب الجامعات والمدارس العليا على مصاريعها، أو تقييد ذلك بنخبة من أبناء الأغنياء ونوابغ الفقراء.
كانت الثقافة في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين تلتقي دائما مع التعليم، وكانت تعتبر المثقف من الصفوة المختارة في المجتمع، على طريقة المجتمعات الأوروبية والأميركية المتقدمة. ثم انفصلت الثقافة عن التعليم، وأنشأنا وزارات للثقافة في مجتمعات غير متعلمة.
لم توجد ثقافة في الدنيا بلا علم، ولم يوجد في الدنيا علم بلا تعليم محترم، وهي قضية بديهية لا تحتاج إلى ذكاء أو مهارة. لم ينبغ كبار المثقفين العرب خلال الجيل الماضي في مختلف المجالات إلا بالعلم والتعليم والمعرفة. القضية أخطر مما نتصور، لأنها قضية التقدم أو التخلف، وليست قضية وجود وزارات للثقافة أو إلغاء هذه الوزارات.
القضية هي: ثقافة بلا علم لا تساوي شيئا، وعلم بلا ثقافة لا يساوي شيئا. قضية خطيرة هي ميزان التقدم الذي نريده. ومن كانت في يده كفتان للميزان: العلم والثقافة يستطيع الوصول إلى الأفضل والأحسن، ويستطيع أن يدوس بقدميه على جميع أنواع التخلف.
بقلم: د. يسري عبد الغني
اللغة العربية الخامسة.. الفصحى الهجينة (1-3)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. محمد تقي جون
مشكلة البحث: اذا اتفق مجتمع ما على جعل اسم الحمار بمعنى (الشخص العاقل) وصار ينادي أحدهم الاخر (كيف حالك يا حمارنا) فيحييه الاخر بأحسن منها، ويتفاعل المارة معهما أحسن تفاعل، فهذا لا يعني أن المعنى الجديد للفظ حمار صار بديلا أو مرادفا للفظ الاصلي في اللغة. بل يبقى لفظ حمار يعني (الدابة المعروفة) ويعني مجازا (الشخص الغبي)، وان هذه اللغة الجديدة محرّفة ومسروقة يجب إعادتها.
هذا ما حصل بالضبط للغة العربية المعاصرة التي تسمى خطأ (العربية الفصحى) فهي لا عربية ولا فصحى، وانما هي لغة عرفية وضعها المترجمون في مطلع العصر الحديث لمواكبة الحياة المتطورة في العالم والعرب في اشد حالات التخلف بعد سلاسل الاحتلالات، واللغة العربية في اشد مراحل التراجع.
كان هم المترجمين وضع مفردة أمام كل لفظ ومعنى غربي. ولعل العولمة اللغوية او المنظومة اللغوية العالمية دفعت إلى ذلك أيضاً لإيجاد ترجمة موحدة لالفاظ كل لغة. وقد غرقت العربية فعلا في بحر الانگليزية الطامي، لذا أسميتها (الفصحى الهجينة) . وكان الفرق الحضاري، وحيوية اللغة الانگليزية حاسماً في صناعة هذه النسخة الاستسلامية للغة العربية. وما عانته اللغة العربية يشبه النواحي الأخرى كالسياسة والاقتصاد والفكر والأدب، فكلها صارت نسخاً مكررة من النسخ الانگليزية الأصلية. ولابد من الاعتراف بأن (العربية الخامسة) وهي في تراجعها غير قادرة على مجاراة اللغة الانگليزية وهي في عز قوتها وتطورها.
وهذه اللغة هي النسخة الخامسة للغة العربية: الاولى (الفصيحة) وهي التي تكلمها العرب الأقحاح في الجاهلية، وصدر الإسلام، والعصر الأموي. وكانت عربية خالصة لم تشبها العجمة. واتسمت بكثرة مفرداتها وجمالية الفاظها. والثانية (لغة القرآن) وهي منتخبة تخلصت من اللفظ الحوشي، واضافت الفاظا وتعابير جديدة، فضلا عن طاقات تعبيرية كالعمق والمصطلح والتعبير الصوتي والايحائي. والثالثة (المولّدة) وهي التي صنعها العباسيون بتأثير العجم والترجمة والتلاقح الحضاري والاختلاط، وهي لغة البلاغة التي تجيع اللفظ لتشبع المعنى، وقد فقدت الكثير من الفصاحة وجمالية اللغة العربية بعدما دخلها: المولّد والمعرّب والدخيل والمترجم. أما الرابعة فهي (المختلطة بالعامية) وهي لغة القرون الوسطى التي استمرت إلى أعتاب العصر الحديث. وكان آخر قاموس لغة ينتمي اليها (تاج العروس) للزبيدي. وبعدها جاءت عربيتنا الهجينة التي صنعها المترجمون وروجتها مجامع اللغة والقواميس الحديثة كالمعجم والوسيط والمنجد وقاموس المعاني وغيرها المبتورة عن قواميس اللغة الفصيحة والبليغة التي بدأت بالعين وانتهت بتاج العروس.
وصف العربية الخامسة
الذي لم يُنتبه عليه هو أن أننا نقول الفاظا وضعت قسرا أما ألفاظ ومصطلحات انكليزية غير موجودة في اللغة العربية، أو موجودة بمعان مختلفة كجعل (الحمار = الرجل العاقل) . ونقول عبارات مترجمة من الانكليزية بالضبط، ونركب جملا عربية على قواعد انكليزية. فالعربية الخامسة في اغلبها نسخة مكررة من الانكليزية في:
1- الالفاظ
2- المعاني
3- القواعد
الألفاظ
اقتراض الألفاظ من اللغات الأخرى أمر شائع لا ضير فيه. ولم تخل لغة في العالم من ألفاظ اقترضتها من لغات أخرى. ولكن كثرة الاقتراض يؤشر حالة فقر اللغة. وفي العصر الحديث مع عصر التكنولوجيا والعلوم الحديثة التي حملتها الاحتلالات أصبح اقتراض العربية المعاصرة الخامسة لاسيما من الإنگليزية يفوق الإحصاء والحصر، فأشَّر الفقر المدقع والإفلاس الوبيل. ويتنوع اقتراض الألفاظ الانگليزية؛ فالقسم الأكبر استعمل في الفصحى، وقسم كان استعماله في العامية العراقية أكثر من الفصحى، وقسم اقتصر على العامية دون الفصحى، وكله استعمل في الأدب والفن والحديث اليومي. وقد أخذنا منهم حتى التوافه مثل (هههههه) ترجمة لـ(hahaha) و(أششش) ترجمة ل(Shhh) ـ
ومن الالفاظ المقترضة التي تبنتها عربيتنا فبدت كأنها عربية صليبة:
* رصيد
يقال (اشتريت رصيداً) و(أعطني وصل الكهرباء) وهي (فاتورة، أو إيصال بالاستلام (وصل) أو مبلغ مودع في البنك) . كل من (الرصيد والوصل) غير موجود في اللغة العربية. ففي العربية الرصيد من (رصد - الرصد) وهو المراقبة، فقالوا (أسد رصيد) الذي يراقب ليفترس. ومنه (الرصد العسكري) الذي يراقب حركات العدو. وما يتعلق بالمال في العربية لفظ (أرصد - إرصاد) أي أعدَّ، كقول النبي محمد () : (ما أُحِبُّ عِندي مِثلَ أُحُدٍ ذهباً فَأُنفِقَه في سبيل الله، وتمُسي ثالثةٌ وعندي منه دينارٌ إِلاَّ دينار أُرْصِدُه لدِين) أَي: أُعِدُّه، ولكنه لا يسمى رصيداً.
أما (الرصيد) بمعنى فاتورة، أو إيصال بالاستلام (وصل) ، فهو منقول من الانگليزية (Receipt) . مثال: (اشتريت رصيدا فئة عشرة دنانير = I bought a 10 diner category Receipt) .
* سكرتير
يقال: (الآنسة سكرتيرة المدير) (السيد سكرتير الجمعية) بمعنى (منظم العمل مع المدير) .
لا توجد في العربية لفظة (سكرتير) . وهي انگليزية: (Secretary) . وتترجم الى (أمين السر) من (Secret) التي تعني (السر) . واشتق منها: (أمانة السر، السكرتارية = Secretariat, Secretarial) . مثال (هل أنت سكرتيرة قانونية؟ = Are you legal Secretary?)
* فرشاة
يقال: (ارسم بالفرشاة) (أنظف أسناني بالفرشاة) (أمشط بالفرشاة) وهي (اداة معروفة متنوعة حسب الاستعمال) . لا يوجد تخريج للفرشاة في اللغة العربية من الفعل (فرش) . ولا يوجد أصل لها في الكتب والأشعار مطلقاً؛ فالرسم الحديث وتنظيف الأسنان لم يعرفهما العرب. والكلمة منقولة نقلا بتغيير بسيط من الكلمة الانگليزية (Brush) . مثال (أنظّف أسناني بالفرشاة مرتين في اليوم = I brush my teeth twice a today) .
* الروتين
يقال (الروتين ثقيل) (ما أطول خطوات الروتين) . الروتين في أبسط تعريفاته (طريقة محددة تجري على وتيرة واحدة في العمل الإداري) . في اللغة العربية لا توجد كلمة (روتين) . وهي انگليزية من (Routine) وتستعمل بمعاني: (نمط، رتابة، عمل يومي، ابتذال، فقرة مكررة) .
وقد اشتق من الروتين كل عمل يجري على نسق واحد، فيقولون (إجراء روتيني) ، (روتين يومي) . والروتين يقترن بالعمل الإداري، فيضع خطوات ثابتة ومحددة لاستكمال المعاملات في الدوائر والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية. واللفظة واسعة الانتشار ثقيلة الوطء على العاملين في الدوائر. مثال (لا تقلق، هذه مجرد استفسارات روتينية don’t worry these are just= Routine enquiries)
* الكليشه
يقال (كليشهات جاهزة) (هل عندك كليشة الموضوع) وهي (عبارات محددة يُتَّفق عليها لكل غرض أو معاملة. ولا يترك وضع النص الإداري لأهواء أي شخص، بل يخضع للمؤسسات. وخطابها غير أدبي، له خصائص ومفردات رسمية تتسم بالوضوح وعدم التأويل، وذات بعد إجرائي وقانوني، وترتبط بالمجتمع ارتباطا فاعلا) . وتسمى أيضاً (Form = الفورمة) . والكليشة كالروتين من متعلقات الإدارة، إلا أنها تقترن باللغة الإدارية وليس العمل الإداري.
كلمة (كليشه) لا وجود لها في اللغة العربية، كما إن فكرتها لا عهد للعرب بها، فالكتب الرسمية للدواوين العربية في العصور الإسلامية تخضع لأساليب وأمزجة كتابها. وهي انگليزية من (Cliché) ومعناها: (قالب، تعبير مأثور، ابتذال، كلمات تكتب نفسها) مثال (لا أريد أن أكون كليشه = I don't want to be a Cliché)
* فايل
يقال (يحفظ في الفايل) (ضعها في الفولدر) . الفايل (مجموعة من أوراق رسمية مرتبة مضمومة إلى بعضها) والفولدر (يضم الفايلات) . في العربية لفظة ((فايل) بالهمز وبدونه بمعنى (ضعيف) كقولهم (رأي فايل وفائل = ضعيف) . ولا توجد لفظة (فايلات) جمعا لها. كذلك لا توجد لفظة (فولدر) . واللفظتان منقولتان من اللغة الانگليزية: (File) (Folder) . وقد ترجمت (File) إلى (ملف، ملفة، إضبارة) . وترجمت (Folder) إلى (حافظة، مجلد) . وهي ترجمات غير موفقة؛ فـ(الملف: اللحاف يلتف به) . و(المجلد: الكتاب المحفوظ بالجلد) جاء في ازهار الرياض (وصنّف التاريخ الكبير في سبع مجلدات ضخمة) و(الإضْبارَةُ بالكسر: الإضمامة. يقال: جاء فلان بإِضْبارَةٍ من كتبٍ، وهي الأضابير. وقد ضَبَرْتُ الكتبَ أَضْبِرُها ضَبْراً، إذا جعلتها إضْبارَةً) . مثال (هذا الفايل غير سليم = This file is not valid)
* الكحول
يقال (مدمن على الكحول) (عنده مشروبات روحية) بمعنى الخمور و(امسح الجرح بالإسپيرتو) بمعنى سائل لتعقيم الجروح. لا توجد لفظة (الكحول) في كتب اللغة والأدب العربية في العصور الإسلامية. وكذلك لفظة (الإسپيرتو) . ولم يرد اصطلاح (المشروبات الروحية) . ولفظة الكحول انگليزية من (Alcohol) لفظا ومعنى سوى قلب الـ(H = الهاء) إلى (حاء) تجنباً لاشتراك اللفظة مع لفظة (الكهول = كبار السن) .و(مشروبات روحية) ترجمة لـ(اسپيرتو) من (Spirits) . كما تعني (المعنويات) وقد فصلنا ذلك في مبحث المعنى. وفي العراق جعلوا الإسپيرتو اسما لدواء الجروح، والكحول للشراب المسكر. مثال (مع حالتكَ، حتى شربُ الخمر لا ينفعك = If you drink alcohol with these, they won't work) .
* ثيمة
يقال (ثيمة السوبرمان الخارق) (ثيمة الرواية) بمعنى (الفكرة الرئيسة) أو (الموضوع) . لفظة (الثيمة) غير موجودة في اللغة العربية. وهي انگليزية من (Theme) التي تعني (الموضوع، الفكرة الرئيسة، جذر الكلمة، الإنشاء) . وقد نقلها المترجمون لقوة دلالتها الفنية التي تتفوق على مقابلها العربي مع تغيير بسيط. وجمعوا (ثيمة) على (ثيمات) كما يجمع الانگليز (Theme) على (Themes) . ومصطلح (الثيمة) متداول بين المثقفين والأدباء.
وتأثراً بـ(ثيمة) التي تنتهي بالتاء، أضافوا الى (موضوع) التاء ليصبح (موضوعة) مثل (موضوعة القصة) وهو غير مستعمل في العربية وخطأ غير مبرر. مثال (الثيمات كثيرة جداً في هذه القصة = So many themes in this story)
* لوجستي
يقال (الدعم اللوجستي) (العمل اللوجستي في المؤتمر) (الأمور الفنية والمالية واللوجستية) بمعنى (التموين، الخدمات، الإمدادات، النقل) . اللفظة غير موجودة في اللغة العربية. وهي انگليزية (Logistic) بمعانيها. وهي مستعملة في الميدان المدني والعسكرية، وترد بكثرة في الكتابات كافة. مثال (لن نقدم أي دعم لوجستي = We won't offer any logistical support)
* أرشيف
يقال (أرشيف السينما) و(أرشيف المكتبة) و(أرشيف الوزارة) بمعنى (مكان الوثائق والمستندات المحفوظة الخاصة بالدائرة المعينة) . لا يوجد في اللغة العربية أصل واستعمال لهذه الكلمة. وذكر المعجم الوسيط مقابلا عربياً للأرشيف هو (ربيدة) والجمع (ربائد) (ما يصان فيه الكتب والسجلات) . وهي انگليزية من (Archive) وأصلها يوناني (تعني الوثائق والمستندات العامة المحفوظة في مجلس المدينة) . ويشتقون منه كما في الانگليزية فعل (أرشف – يؤرشف) . مثال (نريد أرشفة ملفاتك وملاحظاتك = We need archive files and your notes)
* كيلو
يقال (تبعد بغداد 170 كيلومتراً) و(اشتريت سبع كيلوغرامات من الخيار) وهي (وحدة قياس عالمية) . لا تمت لفظة (كيلو) إلى اللغة العربية بصلة، على شيوعها وتداولها الكثير. بل لا يوجد اسم عربي ينتهي بحرف الواو. وكان وحدة قياس الوزن في العربية (الرطل) ، ووحدة قياس الطول (الفرسخ) . والـ(الكيلو) انگليزية من (Kilo) وهي مع اختصارها:
(Kilometer = Km)
(Kilogram = Kg)
وقد أصبحت وحدات القياس الانگليزية هي السائدة بلفظها ومعناها في عالمنا العربي والعالم اجمع وأهمها مع ترجمتها:
متر = (Meter) ديسيمتر = 1/10 متر = (Decimeter) سنتيمتر 1/100 متر = (Centimeter) مليمتر 1/ 1000 متر = (Millimeter) ميل = 1000 متر = (Mile) متر مربع = (Square meters) (هكتار =10 آلاف متر مربع = Hectare) إنج = بوصة = (Inch) ياردة = (Yard) قدم = (Foot) غرام = (Gram) باوند = نصف كيلو غرام = (Pound) قيراط = (Carat) أوقية = (Ounce) لتر = (Liter) غالون = (Gallon) مثال (عليَّ أن أقطع 170 كم لأصل إلى بغداد = I have to travel 170 kilometers to Baghdad) الأمثلة:
* مليون
يقال (تسلَّمتُ مليون دينار) (كلف المشروع مليار دينار) (موازنة البلد ترليون دينار) . وهي (أرقام كبيرة عالمية) . لم تعرف العربية هذه الأرقام الكبيرة، فأكبر رقم عرفوه هو (ألف) وإذا حسبوا أكبر من ذلك أضافوه إلى الألف (عشرة آلاف) (مئة ألف) و(ألف ألف) الذي يقابل المليون. ولفظة (مليون) انگليزية من (Million) وكذلك الأرقام صعوداً: (مليار/ بليون = ألف مليون = Billion) (تريليون = مليون مليون = Trillion) مثال (هناك أربعة ملايين شخص في بغداد =There are four Million people in Baghdad)
* أوتوماتيك
يقال (يعمل اوتوماتيك) و(جهاز أوتوماتيكي) بمعنى (يعمل بنفسه دون تدخل الإنسان) . اللفظة غير موجودة في اللغة العربية. وهي انگليزية لفظا ومعنى (Automatic) . ونحن أخذنا منها المعنى المتعلق بالأجهزة ذاتية الحركة فقط. ولكن الانگليز يستعملونه بمعنى التلقائية في المجالات كافة. ولم يرد في الاستعمال العربي (يعمل آليا) (أو (يعمل تلقائياً) . مثال (لا يوجد حق تلقائي بدون تقديم مسوغ = There is no automatic right without giving reason)
* أرتوازي
يقال (بئر ارتوازية) و(حوض ارتوازي) و(نافورة ارتوازية) بمعنى (ما يتدفق منه الماء بدون مضخات) . اللفظة غير عربية. وهي منقولة من اللغة انگليزية (Artesian) . وهي واسعة الاستعمال في مجال الزراعة والري. مثال (أنا أحب النافورة الارتوازية = I like the artesian fountain)
* ديمقراطية
يقال (نظام نازي) (الدكتاتورية البغيضة) (حق الفيتو) (الحكم الديمقراطي) ، وهي (أنظمة السياسة) . لم تحض (السياسة) بمثل هذه الأهمية أثراً ومفهوماً عند العرب في العصور الإسلامية؛ فالسِّياسة اشتقت من (السائس الذي يسوس الدّوابَّ، أي يقوم عليها ويروِّضها. وكذلك الوالي يَسُوس الرَّعيّةَ أَمْرَهم) . وللسياسة اسم آخر هو (الإيالة) قال زياد بن أبيه (إِلنا وإيلَ علينا، أي سُسنا وساسَنا غيرُنا) . وقالوا في وصف الحاكم الحسن السياسة (عَدلُ السِياسَةِ) (مرضيُّ السياسة) . ولم ينسبوا إلى السياسة فلم يرد (سياسي) مثل (رجل سياسي) أو (سياسية) مثل (قضية سياسية) . وهذا يعني أن السياسة ومصطلحاتها مما نقل إلينا من الانگليز. وهم يسمون السياسة (politics) ويسمون السياسي (politic) . ومن الانظمة والمصطلحات السياسية الفاعلة في حياتنا التي ننطقها بأسمائها الانگليزية: (أرستقراطية: حكم الطبقة العالية = Aristocracy)
(إمبريالية: الهيمنة = Imperialism) (امبراطورية: حكم الهيمنة = imperialistic) (اوتوقراطية: حكم الفرد = autocracy) (ثيوقراطية: حكم رجال الدين = Theocracy) (دكتاتورية: حكم الاستبداد = Dictatorship) (بيروقراطية: حكم الإدارة = Bureaucracy)
(تكنوقراطية: حكم الفنيين = Technocracy) (فدرالية: حكم الاتحاد = Federal) (كونفدرالية: اتحاد حكومات مستقلة = Confederation) (ليبرالية: حكم التحرر = Liberalism) (ديمقراطية: حكم الشعب = Imperialistic) (رايكالية: أصولية = Radicalism) (ملكية: حكومة يحكمها ملك = kingship) (جمهورية: حكم الشعب = Republic) (شوفينية: المغالاة والتعصب = Chauvinism) (برگماتية: العملية أو النفعية = Pragmatism) (النازية = Nazism) (برلمان: مجلس النواب = Parliament) (حق النقض، الفيتو = Veto) . مثال (كان نظام صدام دكتاتورياً =The regime of Saddam was dictatorial)
* طبلة المريض
يقال (افتح طبلة للمريض) (أين طبلة مريضكم) بمعنى (جدول متابعة صحة وعلاج المريض) . لفظة (الطبلة) غير موجودة في اللغة العربية. وهي تصرف لفظي للمفردة الانگليزية (Table) ، التي تعني (الطبلة، المائدة، الطاولة، الجدول، القائمة) . واستعمال (الطبلة) في المستشفى المقصود به (الجدول الصحي للمريض) وليس (قطعة الأثاث) . والصحيح أن يقال (الجدول الصحي للمريض) (جدول المريض) . مثال (افتح جدولاً صحياً لمريضك = Open a table for your sick)
* سيارة
يقال (سافرت بالسيارة) (اشتريت عجلاتٍ للسيارة) (السياقة فن وليس مقود ودواسة) . فـ (السيارة: الالة المعروفة) و(مقود ودواسة: من أدواتها ومتعلقاتها) . في اللغة العربية (السيَّارة: الجماعة السائرون) ومنه قوله تعالى (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) . و(الكواكب السيَّارة: الشمس والقمر وزحل والمريخ والزهرة وعطارد والمشتري) . و(سيّارة: اسم علم) و(كل ماش هو سيَّار) . فاللفظة غير عربية بمعنى الآلة. وهي ترجمة للفظة الانگليزية (Car) . واختيار لفظ السيارة ترجمة لها اعلان عن فقر العربية إلى الفاظ كثيرة للمخترعات الحديثة وتفاصيل العصر. وقد اختيرت لفظة (السيارة) لانها تسير بسرعة فائقة. وهي صفة وليس اسما. وكثير مما ترجم هو وصف لعدم وجود اسم مقابل. وعلى الرغم من وضع الفاظ عربية بديلة الا انها لم تكن دقيقة ولا موفقة في اختيارها في الاستعمال، مما جعل الأسماء الانگليزية تطغى وتبقى مع وجود الألفاظ العربية البديلة التي أهمل أغلبها وظلت ترجمات مقترحة فقط.فمثلا (العجلة) عرفها العرب وان كانت بسيطة. ولكنها لا تصلح مسمى للسيارة؛ لأنها معقدة فيها اجزاء وليس واحدة. ففيها جزء محرّك حديد (Wheels) وهذا لا يوجد لفظ مقنع يقابله. وفيها جزء لين (Tyre) يسمى خطأ (المطاط) لان (المطاط) في العربية (لبن الإبلِ الحامضُ الشديدُ الخثورةِ) . ولا يعطي (هيكل السيارة) معنى (Chassis = الشاصي) ، فالهيكل لغة (الفرس الطويل، وبيت النصارى) و(المرآب) يترجم به (Garage) وهو في العربية (المصلح والحارس والجامع) فهو غير دقيق في ترجمة گراج. أما لفظة (ورشة) فهي غير عربية، بل مزج للكلمتين الانگليزيتين (work shop) . و(حدل، هو أحدب أحدل أي مائل الشق قد ارتفع أحد منكبيه على الآخر، أو ذو خصية واحدة، وبه حدب وحدل. وإنه لحدل غير عدل) . و(حدل: ظلم) ولم يستعمل (حادل، حادلة) فلا وجه تقارب بين المعنى العربي ومعنى (حادلة) . ومتعلقات السيارة كلها نستعملها بألفاظها الانگليزية ومنها:
(مفتاح السيارة، سيويچ Switch =) (المقود أو السكَّان، ستيرن، = Steering) (دولاب العجلات، ويل Wheels =) (العجلة المطاط، تايرTyre =) (عجلة احتياط، سپير Spare tyre =) (أنبوب الإطار، چوب = Tube) (غطاء العجلات، كَب = Caps) (لوحة الأجهزة، دشبول = Dashboard) (مساعد السائق أو الجابي، سِكِن Second =) (مصابيح، لايتات = Lights) (مولد، داينمو Dynamo =) (عجلات مزدوجة، الدبل Double loll =) (دواسة الوقوف، بريك = Brakes) (دواسة القابض، كلچ = Clutch) (هيكل السيارة، الشاصي = Chassis) (أصوات انفجار في مفحمة السيارة، بگِ فاير = Backfire) (غطاء المحرك، بنيد = Bonnet) (قاطع دورة، بلاتين = Platinum) (ميزانية، بلنص = Balance) (بكرة، پلي = Pulley) (مضخة، پم = Pump) (مضخة الماء، واتر پم = Water pump) (مضخة الدهن، أويل پم = Oil pump) (مكبس، بستم = Piston) (بطارية، باتري = Battery) (ثقب العجلة، پنچر = Puncture) (موقف للسيارة = park) (مرآب، گراج = Garage) (ورشة = work shop) . مثال (أريد شراء سيارة = I want to buy a new car) .
* ريجيم
يقال (أتبعُ نظاما غذائياً) (أكلها دايت) (أفضل طريقة للتنحيف الريجيم) (الحمية عمود الصحة) ، بمعنى (الأكل وفق نظام يمنع تراكم الشحوم في الجسم) . في اللغة العربية توجد لفظة (الحمية) ، (سُئل الحارث ابن كَلَدة عن الطبّ فقال: الأزْم، بمعنى الحمية والإمساكُ عن الاستكثار من الطعام) . و(الازْم لغة: العض بالأنياب كناية عن غلق الفم بقوة) . وقال البوصيري في نبويته: (وَالْزَمْ حِمْيَةَ النَّدَمِ) أما (ريجيم) و(دايت) فهما من الانگليزية: (regime) = (الحمية، طريقة الحكم، شكل الحكومة) . (الحمية = diet) (التزام الحمية = dietary) ولفظة (regime) استعمالها للنظام السياسي أكثر من (Diet) التي تستعمل للحمية والأكل الصحي أكثر. ولكن عندنا استعمال (regime) للحمية والنظام الغذائي أكثر. مثال (استمري بالحمية = Go on a regime)
* ماكنة
يقال (الماكنة الزراعية) (الآلة الطابعة) (الماكنة الحربية) (يجب إتباع آلية معينة) . يقصد بالماكنة (آلة تسَتعمل الطاقة لتؤدي عملاً) و(معدات فيها أجزاء متحركة) . وبهذا تكون الآلات الصناعية مكائن، والسيارات والقاطرات، والآلات الكاتبة والحواسيب وغيرها مما ينطبق عليه التعريف. و(الآلية بمعنى التقانة) . في اللغة العربية استعملت (الآلة) بمعنى (الأداة التي يستعان بها في الأفعال والأعمال) فالسيف آلة، والمنجل آلة، والظهر آلة لأنه يُحمل عليه. قال كعب بن زهير: (يَوماً عَلى آلَةٍ حَدباءَ مَحمولُ) بل تكون الآلة غير ملموسة كقول الإمام علي (آلة الرياسة سعة الصدر) . وهذا يعني اختلاف معنى (الآلة) في اللغة العربية عنها في الأمثلة. ولم يستعمل العرب اللفظة المشتقة منها (آلية) وهي (التقانة) . أما لفظة (ماكنة) فغير مستعملة، وكذلك اللفظة المشتقة منها (مكننة) طبعاً. وكلمة (ماكنة) مأخوذة من اللفظة الانگليزية (Machine) وهي تعني (الآلة) بتعريفها المتقدم. ومشتق منها: (آلات = Machinery) (آلية، تقنية = Mechanism) (مكننة = جعل الشيء ميكانيكياً) = Mechanization) وقد نقلت لفظة (ماكنة) ومشتقاتها إلى اللغة العربية لتتبناها وكأنها وليدتها. مثال (اعملْ على مكننة الزراعة = Work on the Mechanization of agriculture) .
* تكنولوجيا
يقال (تكنولوجيا المعلومات) (تكنولوجيا الطاقة) (تكنولوجيا جديدة) . (التكنولوجيا تتألف من مقطعين: تكنو بمعنى الأداء، ولوجيا بمعنى علم. فيكون معناها العام : علم الأداء والتطبيق. أو الاستعمال الأمثل والشامل للعلوم وتطويرها) . في اللغة العربية لا توجد لفظة (تكنولوجيا) فهي علم متقدم على حياة العرب. وهي لفظة انگليزية (Technology) من اصل ايطالي. وقد وضع لها مقابل عربي مشتق من نطقها هو (تقني، تقنية، تقانة) وكلها غير معروفة في اللغة العربية. مثال (التكنولوجيا صممت لارغام الجميع على طريقة تفكيرها =Technology designed to force everyone to her way of thinking) .
* قسطرة
يقال (اعملْ قسطرة) (أجريَتْ له قسطرة) بمعنى (إدخال أنبوب يسمى قسطر لسحب أو حقن السوائل في الأوعية أو القنوات المختلفة. أو إدخال أدوات جراحية كالبالونات أو الشبكات المعدنية أو المستشعرات المختلفة) . في اللغة العربية (قسطر الدراهم: انتقدها) و(قَسْطَر: عالم رومي، والجمع قساطرة) . ولا توجد لفظة (القسطرة) فهي غير عربية، بل هي انگليزية من: (Cath) (Catheter) (يقسطر، يعمل القسطرة = Catheterization) وواضح انها منقولة بلفظها عدا ان (c = ك) قلبت (ق) و(th = ث) قلبت (س) و(t = ت) قلبت (ط) وأضيف إليها التاء (ة) فنقلت من لفظ (كثتنر) إلى (قسطرة) بل تترجم ايضا إلى (قثطرة) . مثال (عملنا قسطرة ثانية للقلب = We did another cardiac Catheterization)
* كورنيش
يقال (نذهب إلى الكورنيش) (الكورنيش منتجع عائلي) . بمعنى (طريق ساحلي أو طريق بمحاذاة نهر يكون له منحدر باتجاه الماء) . وفي بغداد منطقة (كورنيش المزرعة) . وهي مفردة غير عربية، وذات أصل فرنسي جاءتنا عن طريق الانگليز (Corniche) . مثال (أنشئ الفندق على الكورنيش المطل على نهر النيل =The hotel is located on a corniche by the Nile)
* مناورة
يقال (مناورات عسكرية) (يجيد المناورة) (هو يناور) . بمعنى (تمرين قتالي للتدريب. ووسيلة للتمويه والوصول إلى غاية بدون استرعاء الانتباه) . لا توجد في اللغة العربية لفظة (المناورة) واشتقاقاتها، وان بدت عربية لكثرة تداولها. وانما هي انگليزية لفظا ومعنى: (ناور = Maneuvered, Manoeuvred) (يناور = Maneuver) (مناورة =Manoeuvre, Maneuvering, Manipulation Maneuver,) (مناورات = Maneuvers) مثال انها مناورة عسكرية = It is a military Manoeuvre)
* فلكلور
يقال (الفلكلور العراقي) (ملابس فلكلورية) (حكايات من الفلكلور) ، بمعنى (علم حياة الشعوب، أو مجموعة الفنون القديمة والقصص والحكايات والأساطير المنحصرة ضمن عادات وتقاليد مجموعة سكانية معينة في بلد معين) . في اللغة العربية لا يوجد مصطلح (الفلكلور) ، وهو مصطلح انگليزي (Folklore) . مثال (قرأت أمس قصة من فلكلور العراق =Yesterday I read a story in Iraqi folklore)
* باص
يقال (استقل الباص) (أفضِّل سيارة الأجرة على الباص) ، بمعنى (سيارة كبيرة لنقل الركاب) .
لا توجد هذه الكلمة في اللغة العربية كما مر. وهي انگليزية: (Bus) و(Autobus) . وقد ترجمت خطأ إلى (حافلة) ففي العربية (ناقة حافلة: تركت اياماً فكثر لبنها) مثال (قلتِ ان هناك حافلة في كل ساعة = You said there's bus every hour)
* قرصان
يقال (سرق القراصنة السفينة) (أنت قرصان وليس تاجرا) (يحترف القرصنة العامة) . فـ(القرصان: لص البحر خاصة، ويسمى عمله قرصنة) . في اللغة العربية لا توجد لفظة (قرصان) (قراصنة) (قرصنة) . فهي غير عربية. والكلمة انگليزية (Corsair) منقولة بلفظها ومعناها مع تغيير وتصرف بسيط في اللفظ. وللانگليزية ألفاظ أخرى للقرصان منها: (قرصان = Pirate, Freebooter, Buccaneer) (قرصان الجو = Hijacker) (هكر، قرصان الانترنت = Hacker) (قرصنة = Piracy, Hacking) . مثال (كل قراصنة الكومبيوتر (الهكر) يحبون جلب الانتباه = Every hacker loves attention)
* فلو آوت
يقال (خذ فلو آوت لنزلة البرد) و(ثيروكسين للدرقية) و(أسبرين للقلب) وغير ذلك من أسماء الأدوية. كل أسماء الأدوية التي نتعاطاها في العصر الحديث هي انگليزية. وأسماء الأدوية تمثل استسلام لغتنا العربية التام والمرعب لسيولها المقتحمة وعدم التمكن من إيجاد ترجمة لها أو بدائل. وتطول قائمة الأدوية لتكون بالمئات أو الألوف. وهذا الجانب يفضح عدم قدرة اللغة العربية على إنتاج كلمات طبية جديدة تواكب العصر والتطور، أو تحريك ألفاظ طبية عربية للتعبير عن الأدوية الحديثة. ومع الأدوية نقلت من الانگليزية ألفاظ ومصطلحات تتعلق بها مثل: (الحقنة) في العربية المتأخرة ما يعطى للمريض في دبره بآلة حاقنة. ولكن المترجمين استعملوا الحقنة والحقن ترجمة لـ(Injection) . ولا يوجد في العربية (كْريم = Cream) بتسكين الحرف الاول، ويوجد (المرهم) ولكن بلا خصوصية فهو لا يختلف عن (الكريم) فهو (أَلْيَنُ ما يكون من الدواء الذي يُضَمَّدُ به الجرحُ، يقال: مَرْهَمْتُ الجُرْحَ.) ولم يعرف العرب المتعلقات بالدواء مثل: (الاسم التجاري = Trade name) (دواعي الاستعمال = Indications) (موانع الاستعمال = Contraindications) (حبة، قرص:Tablet, Pill) (بودرة:Powder) (كبسولة:Capsule) (لفاف، بلاستر:Plaster) (حقنة، حقن: Injection, Syringe) . ومن اسماء الادوية وهي اكبر من ان تحصر ليس في بحث بل كتاب (أموكسلين كبسول:Amoxcilline cap) (امبيسلين كبسول:Ammpicilline cap) (بنسلين حب:Penicilline tab) (فيتامينات:Vitamins) (اسبرين حب:Aspirin tab) (أنسولين:Insulin) (لنكوميسين كبسول:Lincomycine cap) (ازثرومليسين كبسول:Azthromycine cap) مثال (عندي نقص فيتامينات = I have a vitamins deficiency)
* فاجيون
يقال (اشتريت قماش تارتان) (البسُ تراك سود) (قياسي اكس لارج) وهو (ما يخص الأقمشة والملابس وأحجامها) . عرف العرب الأقمشة التي وصفت بـ(الفاخرة) و(المنوعة) ومن ذلك ما يصنع من (القطن والحرير والكتان) . ومنه المحلي والمستورد مثل: (البندقي والسوسي والموصلي والزبيدي والاسكندري والهندي والمقصبات والكشيمري والفراء) . ولكن راجت في زماننا أقمشة وألبسة اجنبية: فرنسية وايطالية وانگليزية وغيرها اخذت الصدارة، فنقلت الى حياتنا ولغتنا. فـ(Sweater) هي (السترة) بتغيير بسيط في النطق. وقد توهم الدكتور محمد العدناني في كتابه (معجم الأخطاء الشائعة) فجعل لها تخريجاً عربياً من (السِّتر) ، وقال يجب ان تلفظ (سُترة) (بضم الميم وليس كسرِها) . والأصح برأيي كسرها كما تلفظ في لغتها الأصلية. وهكذا (Jacket = الجاكيت) ( pantaloon= بنطلون، بنطال) (Coat, Suit = القاط) .وفي اللغة العربية يسمى ما يغطي العورة وأعلاه تكة (التُبَّان) . ودخل (السروال) في العصر العباسي بتأثير العجم، وتسميه الكتب أيضاً (السروالة) وجمعها (سراويل) ، ومنهم من يجعل سراويل مفرداً. وهو يغطي العورة وكامل الرّجلين. أما (البيجاما) فلم يعرفها العرب أو تذكرها اللغة العربية. ولفظة (اللباس) بهذا المعنى ترجمة لـ(Underwear) التي تعني حرفياً (اللباس التحتاني، الداخلي) . و(البيجاما) لفظة انگليزية (Pajama) . من الاقمشة الانگليزية التي نتداولها:
(أزياء، موضة Fashion =) (تارتان Tartan =) (شامو Chamois =) (نايلون = Nylon) (بوليستر Polyester =) (ستن Satin =) (شيفون Chiffon =) ومن اللباس:
(مثال، موديل Model=) (نمط يقاس عليه، باترون patron =) (تراك سوت Track suite =) (تريكو، حياكةTricot =) (نصف كم، تي شيرت T- shirt =) (روب Robe =)
(كوستم Costume =) (بيجاما Pajama =) (لباس داخلي Underwear =) (بلوز Blouse =) (حذاء ذو ساق، بوت Boot =) (جاكيت Jacket=) (قبوط، كوته Coat=) (بالطو Balto =) (سروال قصيرShort =) (قياس Fit =) (فيته، شريط قياس = Feet) (غرفة قياس الملابس Dressing room, Fitting room=) (حجم صغير Small, S=) (حجم متوسط Medium, M=) (حجم كبير Large, L=) (أكبر مرة XL =) (أكبر مرتين XXL =) (أكبر ثلاث مرات XXXL =) مثال (أنا أفضل النايلون على بقية الأقمشة = I prefer nylon over other fabrics)
* كومبيوتر
يقال (عندي لابتوب) (أعرفُ الباسوورد) (فلاش 10 گيگه) وهي (مصطلحات تتعلق بعالم الكومبيوتر) . بما أن الكومبيوتر حديث، فليس في العربية ألفاظ تخصه. ولأهميته في التكنولوجيا والحياة الحديثة فانَّ ألفاظه ومصطلحاته أخذت مداها الأبعد في الاستعمال. وقد دخلت لغتنا مصطلحاته بلفظها الإنگليزي، كما ترجم قسم منها إلى اللفظ العربي. الا أن الألفاظ والمصطلحات الإنگليزية هي المستعملة أو الأكثر استعمالاً. فلفظة (الحاسوب) وضعت ترجمة دقيقة لمعنى (Computer = كومبيوتر) لانه من (Compute التي تعني (إحصاء، حسبان، يحصي، يحسب) . من ألفاظ الحاسوب الإنگليزية: (معدات الحاسوب، هاردوير = Hardware) (برامج الحاسوب، سوفتوير = Software) (الفأرة، محرك السهم، ماوس = Mouse) (صندوق الكومبيوتر، كيس = Case) (كلمة السر للدخول، باسوورد = (Password) (گيگه = Gega) (أيقونة = Icon) (قرص تسجيل، سي دي = CD) (لوحة المفاتيح، كيبورد = Key- board) (دخول = Enter) (يشطب كلمة = Delete) (خزان حبر الطابعة، كاترج = Cartridge) (طباعة صورية، أوفسيت = Offset) (تجربة طباعة، بروفه = Proof) (إلغاء = Cancel) (إلغاء الأمر، كنسل = Cancel) (ستاند باي، توقف = Stand by) (تدقيق = Cheek) (مصفوفة = Matrix) (دخول = Enter) (رقمي = Digital) مثال (هل تعرف كلمة السر = Do you know the password?)
* مونولج
يقال (ممثل مشهور) (فنَّان كبير) (مخرج المسرحية) (بطل الفيلم) (فيلم كوميدي) (فن الكاريكاتير) (فن الميم) (مسرح العبث) (غناء المنلوج) وهي (ما يطلق عليها الفنون الجميلة. وهي فنون وضعت وفق أسس علمية وليس اعتباطية بدائية) . في اللغة العربية (الفَنُّ: النوع) وجمعها (الفنون) و(الفن: العناء) و(الفنون: الأخلاط من الناس) . و(رجلٌ مُتَفَنِّن وٌمِفَنٌّ، أي ذو فنونٍ يأتي بالعجائب) ومثله (امرأةٌ مفَنَّةٌ) ولا يوجد (رجل فنان) وتأتي مفردة (فنان مثنى فن) قال ابن الابار في (إعتاب الكتاب) (قلما تلاقى الفنان: منظوم ومنثور) . ولم تعرف العربية مصطلحات الفن المعاصر. فـ(المخرج: الذي يطلع شيئا إلى الخارج واقعا ومجازا) قال الشاعر (المُخْرِجُ الكاعبَ الحسناءَ مذعنةً) . و(الحفلة والاحتفال: الاجتماع والتحشد) و(عنده حَفْلٌ من الناس، أي جَمْعٌ) . وقالوا (كانت جنازته حَفِلة) أي (مزدحمة بالمشيعين) . ولم يعرفوا (الممثل) فالتمثيل عندهم (التشبيه) . و(المسرح: الفضاء الذي ترعى به الماشية) . ولم يذكروا (السينما) .
و(الرسم) في العربية (الأثر، وجمعه رسوم) و(الكتابة) لانها أثر أيضاً. و(الرَواسيمُ: كتبٌ كانت في الجاهليّة) . و(الثوبُ المُرَسَّمُ، بالتشديد: المخطَّط) . و(رَسَمَ عَلَيَّ كذا وكذا، أي كتَبَ) . و(الرسم السلطاني: قراره المكتوب) كقولهم (رسمنا بما هو آت = قررنا الآتي) . ولم يعرف الرسم بمعناه المستقر في أذهاننا اليوم. ولم تستعمل (رسمة، رسومات، مرسم..) وقولنا (الواسطي الرسام) الذي رسم مقامات الحريري، لم تسم أعماله (رسومات) بل (منمنمات) . واستعمل الجغرافيون العرب مصطلح (لوح الرسم) يقصدون بالرسم (الخطوط الجغرافية) . وهكذا حال كل ما يتعلق بالرسم مثل: رسام، لوحة، أصباغ، فرش...الخ والفاظ كثيرة اما استحدثت أو ترجمت أو نقلت من الإنگليزية. و(اللحن: التطريب في القراءة) و(الأصوات المختارة في الغناء، وجمعها: ألحان ولحون) و(الخطأ النحوي واللغوي) و(الفطنة، ومنه الملاحن وهي: مسائل كالألغاز يُحتاج في حلها إلى الفطنة) . ولم يعرف العرب (الغناء الملحَّن) في الجاهلية وصدر الإسلام. وعرف الأمويون الغناء بالآلات عن طريق الفنانين الإيرانيين الذين جلبهم عبد الله بن الزبير لبناء أضافه للكعبة المشرفة. وظهر ملحنون وفنانون ومطربون كبار مثل معبد والبغوم. وفي العصر العباسي تطور التلحين وظهر إبراهيم الموصلي وابنه اسحاق وتلميذه زرياب. وفي الأندلس تطورت الموسيقى بفعل الأسبان الا انهم لم يعرفوا كتابة اللحن (النوتة الموسيقية = musical note) فكانوا يقيدون الالحان بكلمات ساذجة تطورت إلى فن الموشحات. واللحن والموسيقى والغناء الحديث ومصطلحات له بالعشرات مثل الرسم استحدثت او ترجمت او نقلت. و(النحت: القطع، نحتَ النَّجَّارِ الخَشَبَة قطعها، والنُّحاتة: النشارة) . و(نَحَتَ الجبلَ: قَطَعَه) . ومنه قوله تعالى (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا) . وقيل عن الفرزدق (ينحت من صخر، وجرير يغرف من بحر) أي كأنه في صعوبة تأليفه الشعري كأنه يقطع الصخر، بينما جرير لسهولة الشعر عنده كأنه يغرف من بحر. وللحنت أيضاً عشرات المصطلحات الفنية. وكذلك الفنون الأخرى.واستعمال هذه الالفاظ في الفن جاءت ترجمة من اللغة الانگليزية، فضلا عن عشرات المصطلحات التي ترجمت ووضعت ازاءها ألفاظ عربية طوعا او قسرا. فالعربية لم تعرف (المنتج، الإنتاج) في عصر فصاحتها، وهما محصوران بـ(ولادة الماشية) يقولون (نُتجت النعجة فهي نتوج، وهو نتاج) ولم يقبل ابن السكيت بـ(أنتجت النعجة انتاجا) . ثم بعد انحراف اللغة قُبل (المنتج، الإنتاج) ولكن بقيا في مجال ولادة الحيوان. وجرّت جرا إلى مجال الفن في العصر الحديث. ومثله (البديل) فهي عامة (البديل: الشيء او الشخص الذي يوضع مكان شيء او شخص آخر) وجعل (البديل) بإزاء (Stand-in = ممثل بديل) إعطاء اللفظة معنى مخصوص لم تعرفه ولا تدل عليه. ومثل هذا كثير. وهذا الأمر مر على الجميع او تجاهله الجميع لعدم قدرة العربية على خلق الفاظ تغطي الحياة المعاصرة، مما دفع إلى تحرك الألفاظ العربية والتصرف بها دون مراعاة الخروج من دائرة اللغة العربية وتضييع ألفاظها لأنها أصبحت لا تعبر عن معانيها التي وضعت لها.
و مصطلحات الفن المعاصر منها ما ترجم الى العربية مثل: الرسم (Drawing) التخطيط الاولي (Sketch) التشكيل المجسم (Modeling) التصميم (Design) التجريدية (Expressionism) التكعيبية (Cubism) ألبوم صور= (Album) أكشن = (Action) . ومنه ما عرف بلفظه وهو الاكثر مثل: رقص باليه = (Ballet) تراجيديا = (Tragedy) كوميديا = (Comedy) فن الزنگغراف = (Zincography) فريق العمل الفني = (Cast) ثنائي = (Double cast) سينما = (Cinema) (سيناريو = Scenario) (كاتب سيناريو، سينارست = Scenarist) (لقطة = Shot) (عارضة أفلام = Sheet) (كاميرامان، حامل الكاميرا = Cameraman (دبلجة = Dubbing mixing) أكاديمية الفنون الجميلة = (Academy of arts) مثال (هذا اعظم مونولوج في التاريخ = This is the greatest monologue of all time) .
وغير هذا الكثير الكثير.
الأستاذ الدكتور محمد تقي جون
جامعة واسط
المثاقفة بين حسام الخطيب ونجم عبدالله كاظم: قراءة في المنهج والمعاني (3)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. صالح الرزوق
إنما أهم اختلاف في منهجية الدكتور الخطيب وكاظم هو في متابعة جماليات المكان. مع أن الاثنين يربطانه بتحول الواقع والمجتمع فهما ينظران له بشكل متعارض. ففي سوريا ومصر تحتل العاصمة مكانة مركزية وترمز لعموم البلاد. نقول عن دمشق الشام، وعن القاهرة مصر (وغالبا يتبع ذلك أم الدنيا). ولكن لم نسمع مثل ذلك عن بغداد. وربما لهذا السبب نظر كاظم للرواية على أنه فن المدينة. والحق يقال احتلت بغداد معظم مساحة الرواية العراقية، وحتى الروايات المهاجرة، ومنها أعمال غالب هلسا ونعمات البحيري (مصرية) كانت لا ترى من العراق غير عاصمته. وفي الذهن “وجوه بغداد الثلاثة” لهلسا وبعدها “أشجار قليلة عند المنحنى” للبحيري. ولكن أجواء الرعب التي رسمها الكاتبان يمكن تعميمها على عموم أرجاء العراق. بمعنى أن بغداد كانت عينا سحرية أو عدسة مقربة تنظر منها لكل ما يجري في العراق، وهو يمر بلحظة تحول حاسم من تاريخه. ويرتبط بالفعل جو الرواية العراقية بمدينة بغداد ونهر دجلة (أكثر من نهر الفرات)، مع أنه معروف باسم بلاد ما بين النهرين. لماذا هذه العين العوراء، وأين ذهبت العين الثانية؟؟.
لا شك أنها مغيبة، وتحجبها إرادة النقد الأدبي. فالبصرة وكركوك من المدن المنافسة لبغداد في مساحة التجربة الروائية، لكن كان نجم كاظم يركز على الثنائي المعروف التكرلي وفرمان، وهما من أبطال حواري ومتاهات بغداد. وهذا يعني أنه قفز من فوق تجارب قصي الشيخ عسكر ومحمد خضير وجمعة اللامي، وهؤلاء من أبطال الجنوب، وتحديدا البصرة وما لف لفها. وحتى لا يخيب ذهن أحد، لا بد من الدخول في الحيثيات. كانت دراسة الخطيب مهتمة بالفضاء المعرفي وفضاء رموز السلطة أو المدينة الجامعية وحياة الطلبة، ثم القرية وبيت المختار والمخفر وحياة الفلاحين ومعلم المدرسة الأفندي المغترب. بالمقابل لم يغادر نجم كاظم أزقة بغداد مع أن للرواية العراقية رصيد هام خارجها، وأذكر على وجه التحديد الصحراء والبادية (في مشروع عبدالرحمن منيف) والمعتقلات والسجون (في بقية المشروعات وعلى رأسها فاضل العزاوي حميد العقابي ومحي الدين زنكنة). وتخترق هذه الجبهات أمكنة مجهولة أو أمكنة غير مسماة. وتدور الأحداث في مدن ليس لها وجود على الخريطة كما في “ويبقى الحب علامة” لزنكنة و”شرق المتوسط” لمنيف. فالمكان هنا لا يعبر عن قيمة فيزيائية متبدلة، ولكن عن قيمة فانتازية متغيرة. وبها يقيس بقية الثوابت التي لا يخلو منها الشرق لا القديم ولا المعاصر. والمقصود بذلك الجور والدكتاتورية والسادية. حتى أن المكان ينقلب من مهد أم حنون لمكان جارح وأداة تعذيب لتكسير الرؤوس. أو أنه يعبر عن حالة حصار سياسي وطبيعي، وتتجلى في النهاية بحالة حصار حضاري. وينتبه نجم كاظم لذلك في واحدة من لمحاته الذكية حين يقول: إن التحولات لحقت بالنماذج والأحوال وغلبت عليها السلبية. أو أن موقف الرواية منها كان سلبيا. ويسأل نفسه لماذا كل هذا الضعف وخيبة الأمل؟. ثم يجيب نفسه أيضا بقوله: لأن الروائي جزء من مجتمعه والمجتمع العراقي لم يعاصر غير النكبات والمآسي.. (ص 72). ويترتب على ذلك مشكلة لها علاقة بالنضج الفني. وهي أن يفصل الروائي ذاته عن ذوات شخصياته (ص79). ويقدم الدكتور كاظم مثالا هاما على ذلك من خلال دستويفسكي الذي لم يكن يفرض نفسه على لغة مواقف شخصياته. وبلغة باختين (والكلام للدكتور كاظم) يعقله على أساس أنه أنا غيري (ص80)، أو أنت وليس أنا ولا هو. ويوجد فرق واضح بين استعمال ضمير الغائب وأسلوب المخاطبة. فهذا يضمن للشخصيات التورط بحوار إدراك ماهية مع ذات المؤلف (المنتج الثانوي لوحدات السرد والمنتج الأول للبنية).
ويبدو لي أن العقل السلوفيني قد ترك بصمته بشكل واضح على الشخصيات الروائية في العراق. فهما نتاج نفس الشجرة التي تعتمد أسلوب الإدارة المركزية في الحكم وليس أسلوب التحاور مع الذات الوطنية (وهي مرآة عاكسة لحقيقة المعنى الملحمي الذي يدفع عربة أو قطار المجتمع على القضبان). ولكن دستويفسكي هو ماكينة إنتاج على نطاق فائق الحجم، ولا يوجد لديه أية مصالحة بين الأفكار والعالم، وتغلب عليه صفات الإنكار والعدمية أو إلغاء الحقيقة والتهرب من آثارها. في حين أن الرواية العراقية تدين لماكينة إنتاج أصغر بالحجم. فهي أقل شمولية وأقرب للتخصيص. بمعنى أنها تحاصر ذاتها المستلبة بسقوط موضوعها. وهكذا تجد أن بغداد مدينة مغلقة على نفسها وعلى المحتويات الموجودة فيها من جماد وعاقل. ويمكن أن تؤكد على هذه الحقيقة من خلال رموز فرمان. إنه يوظف عناصر بصرية بسياق إفرادي كالنخلة والسفينة وشارع ضيق وليل طويل والنافذة ويسلط عليها تجريدات إنسانوية بصيغة الجمع مثل صيادون والجيران. وإذا وضع العاقل بصيغة المفرد فإنه يضطر لتعريفه باستعمال أسماء وألقاب تامة مثل السيد معروف وسراب عفان ووليد مسعود وسوى ذلك. فهل كان ينظر للطبيعة على أنها شيء يكتفي بذاته، وللمجتمع على أنه تراكم مجموعة أشياء ذاهلة عن نفسها وتمر بحالة غيبوبة أو خلع حضاري؟..
أعتقد أن هذا هو المرجو بالضبط من الرواية العراقية الجريحة التي من المفترض أنها تنقل إلينا تفاصيل وأسباب جرح عميق يخترق طبقات الذات النفسية عموديا ووفق تناقضين هامين: عالم الذاكرة البعيدة التي تعتاش على أمجاد بغداد مدينة السلام أو المدينة التي ابتلعت حضارة بكاملها وتحولت لصورة ذهبية عن مرحلة لا يدانيها شيء اليوم إلا واشنطن وبقية الميتروبولات الاستعمارية في أوروبا الناهضة. وعالم الذاكرة القريبة المعذبة والتي تحفر قبورها وهي تحتضر.
وأعتقد أن هذا الإحساس الجمالي بالمدينة ووعي الشخصيات لها هو مجرد حامل لوجهة نظر مسقطة عليها بالقوة. فالذاكرة صنيعة الآخر وليست صنيعة الذات. وهي أيضا حصيلة تراكمات وعي لا سلطة له على ذاته. فالوعي ثقافة، والثقافة حضارة، مفسرة والحضارة في نهاية المطاف فارغة من أي محتوى إلا مضمون القوة، سواء القوة الناعمة أو التقليدية. وقد أدرك باختين ذلك حينما عزا لدستويفسكي هبة الخلاص الذاتي بتصعيد الروح أو قوة التطهير المسيحي بحيث يكون الفادي هو المخلص والمنظف، أو يكون الواحد بخدمة الجماعة. وكم هناك من فرق كبير بين هذه الحالة التضحوية وفلسفة الفرسان الثلاثة (نتاج العقل الرومنسي اللاتيني) والتي تنادي بالواحد للكل والكل للواحد. فهذا الديالكتيك غائب بالإكراه عن فلسفة المشرق كله حيث يكون المجتمع بخدمة الطاغية الذي يتحول إلى إله كلي القدرة. ومن معطف هذه الفكرة أو من تحت عباءتها خرجت كل روايات حرب الخليج الأولى (بشعارات عروبية) وحرب الخليج الثانية (بشعارات وطنية تحررية) لتصب وتنتهي عند حرب الخليج الثالثة (بدعوى تحرير البلاد من نفسها وتحرير الإنسان من دولته). وكان الدكتور كاظم محقا حين انتبه لحقيقة أن الرواية الروسية والعراقية لا تقع أحداثها في الماضي بل في الوقت الحاضر(ص80) لأنه لحظة متطاولة مثل نبضات قلب ميت، كل شيء حوله يتبدل وهو على ما هو عليه.
ويلاحظ الدكتور كاظم مشكورا قفزة نوعية في أسلوب تقديم الشخصيات، بينما يكتفي الدكتور الخطيب بمتابعة موقف الرواية السورية من تاريخ منطقتها أو من مرحلة ذات أهمية تاريخية. وهذا يعفي الدكتور الخطيب من متابعة وعي كل شخصية بالواقع. في حين لا يتأخر الدكتور كاظم عن تصنيف أسلوب ظهور الشخصيات على مسرح الأحداث بواحدة من طريقتين: مباشرة إخبارية، وغير مباشرة استبطانية يتقمص بها الروائي شخصياته (ص 95). بمعنى أنه يلبس لكل حالة عباءة خاصة بها، أو أنه يضع لكل مقام مقال. وطبعا يوجد تفسير بسيط لهذا الفرق النوعي، وهو الغاية الأساسية من الرواية. فإذا كانت في بواكيرها في أوروبا مكتوبة لتسلية العجائز والسيدات (كل من يعجز عن المشاركة بالحروب الاستعمارية والتوسع)، فقد تحولت للتعبير عن هموم الأفراد أو أبناء الطبقة المتوسطة. بمعنى أنها كانت مكتوبة لفئة تتعايش مع مخيلتها قبل أن تتحول لنوع من التطهير أو السباحة بتيار الأحداث الجارف. وهذا يعني أيضا أنه طرأ انتقال من حالة التخدير الحضاري (التبرير) لحالة المعاناة والعذاب (الاحتجاج). ويمكن أن تجد ما يشبه ذلك في بواكير الرواية العربية. فقد كانت مكتوبة للمتعلمين فقط قبل أن تتحول لمعايشة يومية عن طريق الرواية التلفزيونية وتحويل الروايات لأفلام. بالإضافة لبرامج تطوير صناعة النشر المدعومة من الدولة أو من اليونسكو. وربما يفيد هنا أن نذكر أن معدلات الأمية انخفضت من 98% في عموم البلدان الناطقة بالعربية عام 1860 لأقل من94% بقليل عام 1920. وبلغت 80% بالضبط عام 1960 لتهبط لما دون 35% ببداية عام ( 2010) (6) . ولكن أيضا هذه الأرقام قد لا تدل على شيء له معنى حدي. فالتعليم لا يدل بالضرورة على المتابعة. وتوجد أمية مقنعة كما تشير الإحصائيات. وأهم ما يشجع على الانتقال من المتابعة إلى التقمص في تقديم الشخصيات عند العرب هو توسع الاقتصاد المنزلي على حساب اقتصاد العائلة أو العشيرة. وساعد على ذلك لحد كبير سياسة الإسكان في الدول (الفقيرة والغنية على حد سواء). فهي تسجن كل أسرة في مساحة ترسم المعاناة حدودها، وهذا ما يحول الإنسان من مشارك ببيئة مفتوحة إلى شخص معتزل ومتنسك ومتحصن بأسراره الشخصية. وبالتدريج احتلت المكتبة في المنزل مكان التنور (لإعداد الخبز) أو مكان السيلو (لتخزين المؤونة - الدقيق لإعداد العجين - والحطب لإضرام نار الطهي)، أو حتى مكان الماشية والدواجن التي كانت عمودا أساسيا في الاقتصاد العائلي.
***
أما آخر نقطة اختلاف بين منهج الخطيب وكاظم تجدها في طريقة شرح وتفسير الحوار.
ينظر الخطيب لكلام الشخصيات على أنه آلية مشروعة لنقل المعنى ولمنح الشخصيات مساحة ديمقراطية يعبرون بها عن أفكارهم دون إملاءات من شخصيتين: افتراضية وهي الراوي، وفعلية وهي المؤلف. ويفكك الخطيب الحوار مثلما يفكك بقية الرواية: الحبكة والمشاهد والمونولوجات.
لكن يعزل كاظم الحوار في أنابيب اختبار خاصة ويحاول أن يقرأه من ناحيتين: المعنى والمستوى، أو علاقته بشريحة المتكلم بغض النظر عن الروائي. ولذلك هو يقسم الحوارات لنوعين: بالفصحى وبالعامية. ويتابع ظهور كل شكل على حدة، ويؤكد أن الحوار منوط بالشخصية المتكلمة (ص114)، وأنه أداة تساعد على رسم الشخصية ومعناها (ص126). ولا ينسى الإشارة لتنويع الحوار في الرواية الواحدة وأحيانا بين الروايات. فهو تارة بالعامية وتارة بالفصحى. بتعبير آخر كان الخلاف بين الشخصيات وبين اللحظات السردية وأيضا بين الروايات. بمعنى أن الظاهرة الألسنية كانت عابرة للشرائح الاجتماعية وللنصوص. وهي تعبر ولا شك عن قلق فني لا تخلو منه رواية عربية. فالحوار أساسا شيء والكلام شيء آخر (ص124). وببساطة إن الحوار قانون فني لكن الكلام نشاط ألسني. ولمزيد من التوضيح يمكن أن ينعقد الحوار بين متحاورين دون أن يعمد أي واحد فيهم لإطلاق لسانه (دون أن يتكلم). وبالاستطراد الحوار هو جزء من العقد الاجتماعي بين الإنسان وذاته، وهو الضامن للتعبير عن هوية المفرد ضمن الجماعة، ويمكن أن يقدم لنا تفسيرا لحالة الحضارات (عند عبد الخالق الركابي في “سابع أيام الخلق”) وحالة الأعراق والتكوينات الاجتماعية (عند برهان الخطيب في “شقة في شارع أبو نواس”). أما الكلام فهو تعبير عن موجود متعين للكائن، وهو تقويم لما لا يمكن ضمان تقويمه. وبلغة باختين: إنه أي خطاب دون هدف. وربما هذا يضع وجودنا كله بين قوسين. فالكلام هو تحقيق لوجود الكائن والحوار هو تحقيق لمشروعيته في وجوده. وعليه أعتقد أن كل رواياتنا العربية صامتة مثل معظم الروايات الأوروبية باستثناء مشروع جيمس كيلمان (في اسكوتلاندا) فرواياته كلامية، وتعتاش على جراحها، وتقترح للرواية وظيفة أن تكون مقاومة أو أداة للنضال ضد الإلغاء وخير وسيلة لتعويم الذات. وهذا لا يعطينا الحق لتصنيف أي من الأسلوبين بالطريقة التي صنفتهما به حلقة براغ وقبلها الشكلانيون الروس، وبالأخص باختين. فالحوار يمكنه أن يكون مونولوجيا وديالوجيا. لكن الكلام هو ديالوجي دائما. وأعتقد أن تجاور كل هذه القطاعات في أي عمل (بنفس توزيع البلورات في بنية عضوية ملموسة ومنظورة - لو استعرنا من هيرل مصطلحاته في دراسة المتعضيات والمواد الصنعية) هو جزء من المعنى الكرنفالي لإيقاع السرد. لكن مشكلتنا أن الرواية العربية مترددة دائما، لا تقطع برأي، وتنتقل عشوائيا بين هذه المستويات، وتحول نشاط التعبير والتواصل لما يشبه لوحات متقابلة أو متجاورة.
وللتوضيح. توجد منهجية تتطور من بنية واحدة عند همنغواي على سبيل المثال (وهي اللغة المبسطة) وعند جيمس كيلمان (من اللغة المحكية بكل ما تنطوي عليه من أخطاء واعتداء على القواعد وخروقات للنحو). بينما يوجد غموض وقلق وحيرة تصل لدرجة الخوف من التعبير عن خلجات النفس واللسان في الرواية العربية. وهذا جزء لا يتجزأ من أحوالنا بشكل عام. الخوف مما نجهل، حتى أنفسنا، باعتبار أننا أرقاء للمجتمع الدولي وللنظام ولمافيا النشر، وأخيرا لمافيا الشارع أو حركة الكتلة الشعبية المحرومة من الحس التاريخي والمستسلمة ببلادة ليد القدر الجائر. كل هذه الإشكالات لا بد أنها ستضغط على ذات الكاتب ليتكلم بعدة أصوات من أجل الوصول لخلاصة ضعيفة عن هشاشة حياته وعن انكشافه للمفترسات والضواري في السياسة والمجتمع. وهو ما يسميه الدكتور كاظم في واحدة من عباراته المضيئة والحكيمة: التعبير الجمالي عن تأزم الإنسان الفرد (بمعنى المواطن الطيب) ص 105.
صالح الرزوق
.......................
هوامش:
6- انظر:
Literacy. Max Roser and Esteban Ortiz-Ospina, world literacy organization. An-nual report. 2018.
جدير بالتنويه أنني لا أعول على هذه الأرقام. من يعلم كيف تم تجميعها وتبويبها. وإذا دخلت بالتفاصيل ستشعر بالدهشة ولن تصدق عينيك وأنت تقرأ. فقد ورد أن نسبة الأمية في العراق تصل لـ 49.9 عام 2018. بينما تبلغ في سوريا 10.5 عام 2016. والبلدان متجاوران ويتبعان سياسة واحدة في مجانية التعليم وإلزامية الدراسة. بينما هي 3.8 في تركيا عام 2017. وكلنا نعلم أن جنوب البلاد يمر باضطرابات وهو موزع بين عدة ألسن قومية أهمها اثنان: العربي والكردي. أين المنطق؟؟؟!!!.(هذه الأرقام مذكورة في إحصائيات: كتاب الحقائق الدولية CIA). نسخة عام 2020 الصادر بتاريخ 14 - 5 -2020.
متلازمة الزاوية والضريح بين صدق النوايا والتصيد المريح
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. محمد بنيعيش
أولا: الضريح بين المدلول السليم والاستغلال الأثيم
يبدو أن مفهوم الزاوية قد صار متلازما تلازما ذاتيا مع مصطلح الضريح في أذهان العامة وأيضا الخاصة، وذلك لتحول الطرق الصوفية من نزعة فردية أو جماعة محدودة ومعدودة إلى مدرسة منظمة ومرتبة وذات تسلسل روحي ونفسي واجتماعي وربما اقتصادي أيضا. إضافة إلى هذا فقد أصبح الضريح سواء في الفكر الصوفي أو السياسي والاجتماعي العالمي عبارة عن معلمة تخلد ذكرى رجل عظيم قد تولى، له تاريخه وتراثه وفضائله، كمحفز على التواصل المستمر بين السلف والخلف من باب الالتزام بالمبادئ والولاء والوفاء بالعهد...
وهذا الأمر لا علاقة له بانحراف العبادة أو الشرك والبدع وما قد يمس بسلامة العقيدة بوجه من الوجوه !. فقد يكون ضريح سلطان عادل أو ولي صالح أو عالم نحرير أو جندي ومجاهد شهيد...
وبهذا فقد يتوالى على إدارة شؤون الزاوية ومعها معلمة الضريح ورثة الشيخ، إما باستحقاق معرفي ووراثة روحية معرفية وإما بوراثة تقليدية تبركية وامتداد طبيعي لكل تجمع بشري في أي ميدان كان، وكل له إيجابياته وقيمته.وعند هذا التسلسل فقد يكون الالتزام والدوام أو التخلخل والتسلل وظهور الأورام والعلل. وهنا كما نرى ينشأ التمصوف والتمشيخ والتكلف والتخلف...
فلقد أصبح التمصوف كظاهرة مرضية منذ زمان بعيد ذا ألوان متنوعة لا تحصى في أساليبها وطرق استغلالها لميدان التصوف التحقيقي وميل الناس إلى تعظيم واحترام أهله، يكاد يشبه طرق" آل ساسان " التاريخيين وحيلهم في التسول واستغلال الآخر بأدنى الأتعاب. إذ كما يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: "وأنواع الغرور في طريق السلوك إلى الله لا تحصى في مجلدات ولا تستقصى إلا بعد شرح جميع العلوم الخفية وذلك مما لا رخصة في ذكره، وقد يجوز إظهارها حتى لا يقع الغرور"9. بحيث إن المتمصوف أو المتقمص لدور الصوفي قد لا يجد عناء في كسب ثقة العامة حينما يريد أن يلبس عليهم أمره أو أمر الزاوية والضريح أو القبر الذي يتخذه وسيلة لغايته، وذلك بمجرد دعواه ولو بغير حجج أن صاحب هذا القبر كان وليا صالحا تجد الناس يقصدونه بالزيارة والتبرك حسب نواياهم وبواعثهم.
وهذا عمل حسن ومقبول منهم إن بقي على سبيل المحبة و التذكر والتفكر والاعتبار، أو كمعلمة روحية وتاريخية، ولم لا التبرك في حدود الشريعة وسلامة العقيدة، بيد أن الأمر قد لا يبقى عند هذا الحد بل المشكلة تكمن في المحيطين بالقبر أو الضريح المقصود بالزيارة، خاصة إذا كان غير موثق ولا تاريخ له ولا سند صحيح في نسبة القبر إلى صاحبه .
إذ هناك سيجد المتصوفة فرصتهم لبث الخرافات والأكاذيب من باب ادعاء الكرامات المبالغ فيها لاستغلال المشاعر الطيبة للجمهور الزائر وبالتالي العمل على ابتزاز أمواله بشتى الوسائل ولو بالتسول في باب التوسل على سبيل ادعاء القدرة على التطبيب والعلاج من الأمراض الروحانية أو الصرع أو قراءة الغيب بالفأل المنظوم والمزيف، وما إلى ذلك مما قد يفتعله المتمصوفة من خلال التمويه بدعوات وتمتمات محفوظة توهم العامي الغمر بنوع من المعرفة والخصوصية، بينما الأمر ليس سوى تحايل وتغرير من أجل الابتزاز المالي والنفسي، وربما الاستدراج الجنسي في كثير من خلوات الأضرحة والأماكن المسماة غلطا وزعما بالزوايا، حيث لا تجد مراقبة رسمية ولا علمية أو وعيا اجتماعيا بخطورة هذا الابتزاز والتغرير عند سكان هذه المنطقة أو تلك، وهذا ما يشيع كثيرا في عدة أماكن وخاصة عند خلوات نائية غير مقصودة بكثافة!
كما قد نلاحظ ظاهرة التسول الفاحش عند هذه الأضرحة المهملة وتكريسه سواء من طرف القيمين على صيانتها أو السكان المجاورين لها، حتى قد أصبحت هذه الصفة كأنها من لوازم كل من ينتسب إلى ولي صالح، وهو ما يسيء إلى الصوفية كثيرا في ربط هذه الظواهر بهم رغم أنها تناقض سلوكهم وأخلاقهم مبدأ وغاية وعلى رأسها الزهد والورع والكفاف والعفاف. لكن الجمهور الغمر وماكري المتمصوفة هم الذين ساهموا في تشويه هذه الصورة، إضافة إلى تكريس بعض السلطات وتشجيعها لهذه الممارسات، إما بحمايتها وغض الطرف عنها، وإما بدعمها ماليا على سبيل نثر الحب للالتقاط وجس النبض. هذا مع علمهم بأن هؤلاء المتمصوفة لا قيمة لهم دينيا ولا أخلاقيا ولا علميا، ولكن من باب تمرير الهدف السياسي أو الأمني لترويض وتدجين الجماهير حتى يتحقق الاستقرار الوهمي والانصراف للاشتغال بما لا يدع مجالا للإلحاح في المطالبة بالحقوق والواجبات والإصلاحات العامة والمهمة، وبالتالي تكريس التسليم لمن لا يستحقه من الأحياء والأموات كمهدئ بارد وقاتل!
ومن هنا فقد تغير مفهوم الزاوية لدى العامة وحتى أشباه العلماء في كثير من البلدان وأصبح في منظورهم عبارة عن مقبرة مسقفة تحتوي عدة قبور يأتيها الناس لاستدرار الحياة من الأموات ليس إلا، إذ أصبح المخيال الشعبي لا يفصل الزاوية عن المقبرة، بل أصبحت هذه الأخيرة هي أهم خصائصها والمميزة لها، ومن ثم وجد المتسلفة الوهابيون وغيرهم من التيميين المتطرفين الفرصة سانحة لوصف الصوفية بالقبوريين، فكان التطرف مقابل التطرف وضاعت بينهما الحقيقة!
ثانيا: تأصيل الزاوية وحماية التاريخ من خلال الضريح
إذ الزاوية في الأصل ليست سوى بيت من بيوت الله تعالى يمارس فيها الذكر المتواصل مع الرغبة في التزكية والتربية وتحصيل الطهارة الظاهرية والباطنية، كما نجده في قول الله تعالى: " فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ".
فتغير مفهوم الزاوية ودورها الروحي وأصالتها الدينية إلى مجمع فلكلوري أو مجال للشعبذة هو الذي أصبح يغلب على أذهان العامة وحتى أشباه العلماء الذين يعانون من بطالة فكرية وكسل عن البحث في حقائق الأشياء ودقائقها، ومن ثم تجند أصحاب المفهوم السليم والأصيل للزاوية ومؤسستها، فاستخرجوا ما كان مغفولا عنه اصطلاحا ومضمونا وذلك من أجل تصحيح المفاهيم وردع كل متطفل وواهم. بحيث نجد الشيخ سيدي جمال الدين القادري بودشيش شيخ الطريقة والزاوية الحالي قد سار في هذا البحث من خلال أطروحته الفذة "مؤسسة الزاوية بالمغرب بين الأصالة والمعاصرة" إلى تصحيح مفهوم الزاوية ودورها الروحي والاجتماعي والتاريخي مع التنبيه على خطر تغير المفهوم الاصطلاحي ومضامينها عبر التقادم والتآكل التاريخي. نقتبس بعض فقرات تقرير مناقشته، يقول فيها كأول استنتاج: "ولئن جرى العرف الأكاديمي على أن يقدم الباحث في خاتمة عمله أهم النتائج التي توصل إليها فإن هذا العرف يجعلنا ملزمين مع الاعتراف بتقصيرنا بإبراز النتائج التالية:
- تأكد لنا خطر الأطروحة التي روج لها بعض المستشرقين ورددها وتبناها بعض الكتاب المعاصرين، ومفادها أن لفظ "الزاوية" بدأ يحل تدريجيا محل الرباط في المصادر ابتداء من القرن السابع الهجري الموافق للقرن الثالث عشر الميلادي، ذلك لأننا عثرنا على ورود مصطلح "الزاوية" في مصدر عريق، ويعتبر من أمهات مصادر العلوم الإسلامية ألا وهو صحيح الإمام البخاري، حيث ورد فيه قوله في ترجمته لباب من أبواب كتاب الجمعة "باب من أين تؤتى الجمعة؟ وعلى من تجب؟ لقول الله عز وجل "إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة" وقال عطاء: إذا كنت في قرية جامعة فنودي بالصلاة من يوم الجمعة فحق عليك أن تشهدها سمعت النداء أو لم تسمعه – وكان أنس رضي الله عنه في قصره أحيانا يجمع وهو بالزاوية على فرسخين" ومن المعلوم أن أنس بن مالك رضي الله عنه صحابي خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وقد توفي سنة تسعين هجرية، وهو آخر صحابي مات بالبصرة. ولعل مما يزيد استخدام مصطلح "الزاوية" منذ فجر الإسلام تأكيدا ما نجده في كتب شراح صحيح البخاري، فمن ذلك ما قاله الإمام بدر الدين العيني في عمدة القاري: "الزاوية هو موضع ظاهر البصرة بينها وبين البصرة فرسخان" وقال الإمام ابن حجر في فتح الباري: "الزاوية موضع ظاهر البصرة معروف وهذا وصله ابن أبي شيبة من وجه آخر عن أنس أنه كان يشهد الجمعة من الزاوية وهي على فرسخين من البصرة" فهذا الاسم إن كان علما يدل على مكان معين يرجح أنه ارتبط بالاعتكاف على العبادة واشتق منها.
فمؤسسة الزاوية والتربية الصوفية، على حد تعبير الشيخ جمال الدين، متجدرة في البيئة الإسلامية لفظا ومعنى مصطلحا ومضمونا، وليست مستوردة ولا مستنبتة ولا مزروعة في كيان الأمة الإسلامية، بل إنها من أصالتها منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين"11. فكان هذا استنباطا ممتازا وتنبها دقيقا وعميقا من شيخنا سيدي جمال الدين يبين عن مدى أصالة المفهوم الصوفي لديه، معرفة وذوقا ومصطلحا ومؤسسة، إذ الزاوية القادرية البودشيشية ومعها كثير من الطرق والزوايا الأصيلة في داخل المغرب وخارجه، تبقى شاهد عصر، ومؤكدة ما قلناه عن مفهوم الصوفي والتصوف، ومفهوم الطريقة والزاوية في حلتها الأصيلة والراقية ودورها التربوي والتعليمي والاجتماعي والوطني، وقبل هذا وذاك التوحيدي الروحي.
وحينما تبرز طريقة أو زاوية أصيلة على يد شيخ محقق ومجدد فقد يلجأ بعض البطاليين من رجال الفكر والسياسة عندما يشعرون بأن نجمهم آيل للأفول وبعد أن تمكنوا من استقطاب فئات من الجماهير على سبيل التزوير والتغرير إلى استعمال المتمصوفة الذين سبق وحددنا مواصفاتهم كوسيلة لمحاربة الصوفية الحقيقيين من المصلحين والمجددين في الأمة. وذلك بالعمل على تحريك الطرق الميتة، والنفخ الوهمي في أشباحها بالريح لا بالروح، وذلك لسلوك أسلوب المنافسة وإحياء الليالي المتتالية وإقامة الحفلات والمواسم لم تكن من قبل معهودة لديها، بل كانت قبلها جامدة وربما خاوية على عروشها لا يرتاد زواياها سوى العجزة والبطاليين والفاشلين وأيضا المعتوهين والمهوسين والممسوسين، اللهم إلا ما قد نجده من بعض الطرق التاريخية الكبرى التي ظلت في كثير من جوانبها تحافظ نوعا ما على شيء من الانضباط الشرعي ظاهريا على أكثر تقدير، أما من الجانب الروحي والترقي واعتبار المراحل والأحوال والمقامات فهذا مناله بعيد وبعيد جدا!
ومما زاد هذا النوع من التمصوف تجذرا وتكريسا في المجتمع الآيل للانحلال والانحراف هو ما تقوم به بعض وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية من إبراز مظاهره على شكل ما يسمى بالتراث الشعبي مع إضافة كلمة صوفي أو روحي إليه، وما يصاحبه من أعمال بهلوانية وحركات فلكلورية بل تفسيرات خرافية ووهمية للحركة الروحية عند الصوفية، بحيث قد أصبحت تعرض وكأنها عبارة عن فلكلور أو رياضة بدنية وطقوس شعبية ذات اعتماد مبدئي على إيقاعات موسيقية تساهم في تحصيل الاضطراب البدني ذي الخلفية العصبية والمكبوتات النفسية.
حتى قد وجدنا عروضا من هذا القبيل يشارك فيها تائهون غربيون جاؤوا يبحثون عن التصوف الحقيقي الذي قرأوا عنه في الكتب فإذا بهم يقعون فريسة هذا النوع من المتمصوفة الذين زادوهم في تيههم وحولوهم عن قصدهم. وبالتالي صدروا معنى التصوف محرفا وشاذا من خلال ما رأوا أو مارسوه إما بسذاجة أو مكر استشراقي، هدفه القيام بدراسة الأنماط الاجتماعية والسلوكية والعقدية الطائفية الحاصلة في الأمة، ووضع اليد على مواطن الضعف فيها حتى يتسربوا إليها من بابها ويغرروا بها بأساليبهم المعهودة في المكر والخداع الثقافي!
فقد رأينا في بعض البرامج المتلفزة لقنوات متعددة صورا مخجلة من هذا القبيل كمثال بعض النساء والرجال الأوروبيين مسنين وشبابا وكهولا قد يدعون أنهم وجدوا أنفسهم في طقوس وحركات مبنية على الرقص المفتعل والمنظم مع اختلاط بل احتكاكا بالرجال وإيقاعات موسيقية في بعض التجمعات المسماة غلطا بالزوايا أو التكايا والتي قد تنسب خطأ إلى التصوف، لكنها أبعد منه بعد المشرقين والمغربين!
وهذا العرض وغيره من العروض كأصحاب السواطير والأباريق المشروبة من الماء المغلي والصخب الموسيقي المزعج وغير ذلك مما لا علاقة له بالعبادة من قريب أو بعيد قد يكون الهدف منه إساءة نظرة الجمهور للتصوف كعلم إسلامي جوهري في درجة الإحسان، وبالتالي صرفهم عن سلوك طريق الحق والصلاح نظرا لما يعهدونه من خروقات ومفاسد قد تصبح لديهم من العوائد والأعراف الشعبية التي قد يلزقونها ظلما وعدوانا بالصالحين من ذوي الأضرحة والأصرحة، و الذين كان همهم الوحيد هو إصلاح ذاتهم وغيرهم والعزوف عن شهوات الدنيا ومفاتنها واجتناب أماكن الشبهات والمحرمات.
في حين أن توظيف مصطلحات فضفاضة، من مثل كلمة القيم الروحية والأخلاق الإنسانية والتوجه السلوكي والتواصل والتعايش والمحبة في مثل هذه المواقف المختلة، لا علاقة لها بالتصوف كعلم قائم بذاته وله قواعده، وهي بمثابة تعدي على التصوف الحقيقي وعلى التراث وعلى منهجية البحث العلمي الدقيق، وهذا ما لا يقبله صوفية التحقيق بتاتا.
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المملكة المغربية
الواقعية والمجتمع الكامل
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ابراهيم ابو عواد
الواقعية في تحليل العلوم الاجتماعية لا تعني نسخَ الأحداث اليومية المُعاشة، ونقلَ الوقائع من حياة الأفراد المادية إلى عالَم الأفكار الذهنية والنظريات المُجرَّدة، وإنَّما تعني تحويل السلوك الاجتماعي فرديًّا وجماعيًّا إلى منظومة معرفية رمزية تشتمل على الهُوية الوجودية والقيم الأخلاقية والطبيعة الزمكانية (الزمانية - المكانية)، ثُمَّ تطبيق هذه المنظومة على أرض الواقع بشكل تدريجي، ليس بسبب ضعف المنظومة، ولكن بسبب عدم قدرة الناس على تحمُّل التغييرات الفكرية المفاجئة والصدمات الاجتماعية العنيفة، وهذا يدل على خطورة حرق المراحل، والقفز مِن طَوْر إلى طَوْر بشكل عبثي وفوضوي . ولا يوجد تغيير اجتماعي بأسلوب الصعق الكهربائي، والتنقُّلِ عبر المراحل غير الناضجة . يجب إنضاج كُل مرحلة اجتماعية قبل الانتقال إلى مرحلة أُخرى، وهذا يستلزم أن يكون الفكر الاجتماعي (غذاء الواقع) ناضجًا، حتى يستفيد جِسمُ المجتمع مِنه، تمامًا كالطعام (غذاء الجسد)، يجب أن يكون ناضجًا حتى يستفيد جسمُ الإنسان مِنه .
2
استعجالُ الإنسان في تحقيق أهدافه وقطفِ ثمار التنمية، يُشكِّل خطرًا حقيقيًّا على أهدافه، وتهديدًا مُباشرًا للتنمية . والنهضة الاجتماعية تُشبه عملية الطبخ على نار هادئة، تتطلَّب التحلِّي بالصبر والانتظار، والحفاظ على التوازن بين العناصر والمُكوِّنات . والتخطيطُ للأحداث أهم مِن سَيْر الأحداث، وهذا يعني أن الإنسان قادر على تجاوز نقاط ضعفه وضعف إمكانياته، إذا امتلكَ الإرادةَ الصُّلبة، والرؤية الثاقبة، والقدرة على التخطيط، والمعنويات المرتفعة، وهذا يُفَسِّر سبب نهضة دُوَل فقيرة، وانهيار دُوَل غنية، كما يُفَسِّر نجاحَ بعض الأفراد الذين لا يَملِكون مواهب، وذهابَ بعض أصحاب المواهب إلى النسيان، لأن العِبرة لَيست في امتلاك الموهبة، وإنما في تسويق الموهبة، والخُروج مِن الزِّحام، وتكوين صوت شخصي مُؤثِّر بعيدًا عن ضجيج الأصوات. والمشكلةُ المنتشرة في المجتمعات أن الأفراد ينتظرون تكوينَ ثروات حتى يبدؤوا في إنشاء مشاريعهم الشخصية، وهذا الانتظارُ هو سبب عُزلة الفرد، وعَجْزه عن تغيير واقعه المُعاش . يجب على الأفراد أن يَصعدوا السُّلَّمَ دَرَجَةً دَرَجَةً، وأن يقوموا بإنشاء المشاريع بما يتوفَّر لَدَيهم مِن إمكانيات وموارد، بلا تأخير ولا انتظار، لأن قطار الحضارة لا يتأخَّر عن موعده، والعُمر لا ينتظر أحدًا . وعذابُ الانتظار أكثر صعوبة من عذاب الاقتحام، وخَير وسيلة للدفاع الهجوم .
3
التدبيرُ نِصف المعيشة، وإدارةُ الموارد أهم من الموارد . وهذه الحقيقةُ ينبغي توظيفها في فلسفة المجتمع التي يظهر تأثيرُها في سُلوك الفرد وطُموحاته . وعلى الفرد أن يُدرِك أن النهضة لَيست كثرة الإمكانيات، وإنما طريقة توظيف الإمكانيات لخدمة الصالح العام، وأن المجتمع الكامل ليس الخالي من الأخطاء والعُيوب، والمعصوم من الفشل، والمُنَزَّه عن الهزيمة، إن المجتمع الكامل هو الذي يعترف بأخطائه وعُيوبه، ويقوم بتصحيحها، ويُحاول سَد الثغرات، بعيدًا عن المُكَابَرَة والتحايل والتبرير، ويَجعل فَشَلَه مرحلةً من مراحل النجاح، وذلك بالتعلُّم من أخطاء التجارب لمنع تَكرارها، ويَعتبر هزيمته حادثًا عَرَضِيًّا، ولحظة زمنية للتحضير للنصر القادم والنهضة الشاملة. والسَّعْيُ إلى الكمالِ كمالٌ. ومهما كانت الإمكانيات شحيحة، والثروات ضئيلة، والتحديات جسيمة، فينبغي ألا تُشكِّل عائقًا أمام مسيرة التنمية، فالقُوَّة الحقيقية هي الرصيد في قلوب الناس، وليس الرصيد في البنك، فهو مُجرَّد رَقْم . والاستثمارُ الفَعَّال هو صناعة الإبداع المعرفي، وتحويل الفرد مِن رَقْم هامشي إلى كيان إنساني وصانع للأمل المشرق، وهذا لا يتأتى إلا بتطوير أداء الفرد، ووضع الثقة فيه كَي ينهض بالمجتمع، ويَقُوده إلى آفاق تنموية جديدة . ومَهما عانى الفردُ من قِلَّة الحِيلة، وضِيق ذات اليد، والانكسارات والخَيبات، فعليه أن يتذكَّر السُّلحفاةَ، فهي كائن ضعيف وبطيء، ومعَ هذا لا تَندُب حَظَّها، ولا تَلُوم القَدَرَ، ولا تُقَارن نَفْسَها مع الحيوانات السريعة ذات القُوَّة والقُدرة . إنَّ السُّلحفاةَ تعرف إمكانياتها الضئيلة، وتتصرَّف وَفْقَها، وهي تسير في طريقها بلا كَسَل ولا مَلَل. ومُواصلةُ السَّيْر وعدم الاستسلام للظروف، مِن أهم الإنجازات وأكبر النجاحات . ومَن أمسكَ طَرَفَ الخَيْط، فقد نَجَحَ في نِصف الامتحان، ومَن وَضَعَ رِجْلَه على الطريق الصحيح، فقد اجتازَ الصَّعْبَ، وبَقِيَ السَّهْلُ . ومَن مَشى في النَّفَق المُظلِم ولم يتوقَّف، اقتربَ مِن رؤية الضَّوْء في آخِر النَّفَق . ومَن أدمنَ قَرْعَ باب المُستقبل، أوشكَ أن يُفْتَح . وقد قِيل: ليس الطريقُ لِمَن سَبَق، إنما الطريقُ لِمَن صَدَق .
إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن
أخميم.. مانشستر ما قبل التاريخ (1)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. محمود محمد علي
أخميم هي البيت الكبير، هي أول حلمي، هي أول خطواتي باتجاه الكون، أخميم هي التاريخ، هي الانتماء والهوية، أخميم هي الأم التي من ثراها خُلقت، وإلى ثراها سأغُط في يوم ما في سباتٍ طويل، أخميم هي الحبل السري الذي يمدني بأسباب الحياة الذي أحمله في أعماقي أينما توجهت وطالت بي سنين الإغتراب لتشدني من جديدٍ وتعيدني إلى أحضانها، أخميم هي الشمس التي لا تغرب، هي الجنة التي سلمت من أيدي الغزاة، وهي الجحيم الذي يفتك بي إن سقطت أو تأوهت، أو أصابتني أعاصير الحياة .. أخميم هي اللبنة الأولى التي أضعها لتأسيس حياتي، وهي الحلم الذي يسير بي نحو تحقيق ذاتي لأقى بها نحو الأمان والسلام والحضارة بعلمي وعملي وجهدي، أخميم هي الروح والوريد والقلب الخافق، لا حياة لي بدونها، أخميم هي المأوى لي في الحياة والممات، فهي التراب الذي تختلط به ذرات أجزائي بعد الفناء.
ليغفر لي عزيزي القارئ في هذا المقال أني قد بالغت في التغني بأخميم، فهي موطني، نعم موطني الذي قال عنه "ابراهيم طوقان" :" الجلال والجمال والسناء والبهاء في رباكِ .. والحياة والنجاة والهناء والرجاء في هواكِ.. هل أراك سالماً منعماً وغانماً مكرماً ؟ هل أراك في علاك تبلغ السماك ؟ موطني موطني .
وأخميم إحدى المدن الهامة بمحافظة سوهاج تقع في الضفة الشرقية لنهر النيل يحدها من الشمال مركز ساقلته ومن الجنوب مركز دار السلام، ومن الشرق المنطقة الجبلية ومن الغرب مدينة سوهاج، وتضرب أخميم بجذورها عبر التاريخ المصري القديم تعتبر من الأماكن الأثرية الهامة في الصعيد فهي عاصمة الإقليم التاسع من أقاليم الصعيد والذي يبدأ من الجنوب إلي الشمال، مع جريان نهر النيل، وهي المدينة التي تضم أكبر المعابد الفرعونية الموجودة في باطن الأرض ولم يتم الكشف عنه كليا وهو معبد الملك رمسيس الثاني.
ومدينة "أخميم" تسمي في اللغة المصرية القديمة (الهيروغليفية) بـ" خنت-مين " (نسبة إلى الإله مين)، والتي عرفت في النصوص الفرعونية باسم (خنتي مين) ويعني (مقر من)؛ وفي العصر القبطي عرفت باسمين (شمين) و(خمين)، وفي اللغة اليونانية أو الإغريقية تدعي" خيميس" و"بانوبوليس"، بينما في العربية باسم أخميم وهو إسمها العربي ؛ وهنا نستشهد بما ذكره جوتييه في قاموسه ؛ حيث قال :" أخميم لها عدة أسماء منها الأسماء المقدسة وهي: Khen Min أو Khenme Mik أو Khenti Min أو per Min اوMin، وكلها تنسب إلى الإله (من) وهو إله الفلاحة عندهم. واسمها المدني Apou والرومي أخميم، بانوبوليس نسبة إلى الإله Pan وهو إله الفلاحة عند الرومان، ومن اسم Khen Min المصري تكونت أسماء رومية أخرى وهي : Khemmou Khenim واسمها القبطي Chemin أو Khmin ومنه اشتق اسمها العربي أخميم. وكانت قاعدة القسم التاسع بالوجه القبلي الذي يسمى Taqah khmin... وذكرها أميلينو في جغرافيته فقال: إنها وردت في كتب القبط باسم Schmin ,Schmim, Eschmi وقد حرفت الشين إلى خاء، وهو تغيير مألوف، فصار أخميم وهو اسمها العربي؛ ثم قال: إن اسمها الرومي Panoplies ويقال لها Tpanyos ..
وقد ووردت أخميم في كتاب المسالك لابن خرداذبة، وفي كتاب البلدان لليعقوبي من كور مصر بالصعيد، وذكرها المقدسي في كتاب أحسن التقاسيم فقال: أخميم مدينة كثيرة النخيل ذات كروم ومزارع، ثم ذكرها الإدريسي في نزهة المشتاق فقال: مدينة أخميم في شرق النيل وبها البناء المسمى بريا، وهي الآن باقية ثابتة (أي في القرن الخامس الهجري قبل أن تهدم). ووردت في معجم البلدان، أخميم من قرى صعيد مصر، وفي قوانين ابن مماتي وفي تحفة الإرشاد من أعمال الأخميمية، ووردت في الانتصار فقال: أخميم بلدة قديمة واقعة في شرق النيل وبها آثار مبان قديمة، وهي مدينة الإقليم، وكان بها مقام الوالي، لأنها كانت مفردة بالولاية والآن يسكنها نائب الوجه القبلي وبها قاض وجامع قديم وعدة مدارس وبها أسواق وقياسر وفنادق وغير ذلك. ووردت في تربيع سنة 933 هــ باسم أخميم، وفي تاريخ سنة 1231هـ باسمها الحالي القديم.
في العصر الفرعوني كانت أخمبم عاصمة "فسم خمينو " وفى العصر الرومانى كانت عاصمة قسم "بانوس"؛ وفى العصر المسيحى اشتهرت بـ اديرتها الكثيرة؛ وفى بداية العصر الإسلامي بقت عاصمة كورة الإخيميه واستمرت كذلك حتي نهاية العصر المملوكى.. بعد الغزو العثماني ألغيت "الإخيميه" وانضمت لولاية جرجا، وبقت أخميم تابعه لمركز ومحافظة سوهاج.. فى سنة 1903 صدر قرار من الداخلية بفصل البلاد التي توجد على شرق النيل عن مركز سوهاج، وتحويلها لمركز باسم "إخميم".، وتشتهر أخميم بنوع معين من المنسوجات الصوفية.
ويقال أنه كان في أخميم جماعة من "بنى قرة"، من فصيلة من بنى هلال بن عامر بن صعصعة، ينتهى نسبهم إلى "معد بن عدنان جد النبى - صلى الله عليه وسلم، وكان بأخميم "بربا" – أي محل للعبادة (عند القبط) مشهورة، ونفى إليها " نسطور" رئيس الفرقة المسيحية المسماة النسطورية. وفيها آثار قديمة ذات قيمة عالية عند المؤرخين، ومن أشهر أعلامها ذو النون المصري، وكان من أعظم علماء عصره أدبًا وعلمًا، وتُوفِّى سنة 248هـ ؛ حيث تزوج منها، وخلف ابنته "عزيزة"، و" عزيزة" ماتت ودفنت ووضع لها ضريح بجانب بيتي الذي ولدت فيه وأقطن فيه حتي الآن.
ووردت أخميم أيضاً في كتاب "المسالك" لإبن خرداذبة وفى كتاب البلدان لليعقوبى من كور مصر بالصعيد، وذكرها "المقدسي" في كتاب "أحسن التقاسيم"، :" فقال أخميم مدينة كثيرة النخيل ذات كروم ومزارع"؛ ثم ذكرها "الإدريسى" في "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" فقال :" مدينة أخميم في شرق النيل وبها البناء المسمى بريا، وهى الآن باقية ثابتة يقصد في القرن الخامس الهجري قبل أن تتهدم"؛ ووردت في "معجم البلدان" للبلاذري :" أخميم من قرى صعيد مصر وفى قوانين إبن مماتى وفى تحفة الإرشاد من أعمال الأخميمية"؛ ووردت في الانتصار:" فقال إن أخميم بلدة قديمة واقعة في شرق نهر النيل بمصر وبها آثار مبانى قديمة وهى مدينة الإقليم وكان بها مقام الوالى لأنها كانت مفردة بالولاية والآن يسكنها نائب الوجه القبلى وبها قاض وجامع قديم وعدة مدارس وبها أسواق وقياسر ووكالات وفنادق وغير ذلك ووردت في تربيع سنة 933 هجرية الموافق عام 1526م باسم أخميم"، وهو الاسم الذى تعرف به في وقتنا الحاضر .. وللحديث بقية..
د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.
الابتزاز العاطفي.. جريمة مع سبق الاصرار
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مريم لطفي
"لن يستطيع الابتزاز العاطفي ان يضرب جذوره بالارض مالم نمد له يد العون".. سوزان فورورد
يعرف الابتزاز العاطفي على انه نوع من انواع العنف العاطفي وهو احد الاشكال الفعالة للتلاعب والذي يمتهن التهديد فيه اشخاص مقربون، وعادة مايكون بين طرفين (اباء وابناء، ازواج وزوجات، اشقاء، اصدقاء).
ولابد ان يكون هناك طرفان الاول مبتز ويمتاز بالنرجسية وحب الذات الى ابعد الحدود وقد يصاحب ذلك نوعا من السادية التي تسهل عملية الابتزاز، في حين يمتازالطرف الثاني (الضحية) بالعاطفة والطيبة المفرطة مع سهولة الشعوربالذنب، وهذا مرض نفسي اخر!، لان استفحال المبتز بسبب ضعف الضحية وتنازلها المستمر تلبية لهذه العاطفة المرضية التي ادت الى شعورها الدائم بالذنب بسبب اودون سبب، وذلك يرجع الى التربية الخاطئة التي تربت عليها الضحية بطفولتها بسبب اشعارها الدائم بالذنب وتحميلها عواقب الامور من قبل الاهل مما ادى الى تفاقم الحالة واعتبارها سلوكا اعتياديا اعتادت عليه هذه الشخصية مع علمها انها حالة مرضية!
واذا وقعت الضحية بهذا الشرك فانه يصبح من السهل السيطرة عليها والتحكم بها باي اسلوب سواء اكان ذلك بالترغيب او بالترهيب!
ومن البديهي في اي حالة من حالات الابتزاز فان المبتز يمتلك سلاحا معينا يبتز به ضحيته، وفي حالة الابتزاز العاطفي فان المبتز يمتلك معلوماته الدقيقة التي جمعها عن ضحيته نتيجة قربه منه وصلة قرابته التي زودته بنقاط الضعف التي ستكون المفتاح السحري للدخول!
هل انت ممن يعانون من عاطفة مفرطة؟
هل ورثت هذه العاطفة التي تسميها انت عاطفة في حين انها مرضا نفسيا يستحق العلاج؟
هل عانيت من فرط الاهتمام من قبل الوالدين اواحدهما فانعكس عليك سلبا؟
هل عانيت من فرط الاهمال الذي ترك عندك شعورا بالنقص؟
كم مرة تعرضت فيها للابتزاز العاطفي في طفولتك؟
كم مرة ارغمت على التخلي عن مقتنياتك الثمينة في طفولتك او مراهقتك مقابل عدم افشاء اسرارك؟
كم مرة استولى فيها صديقك على مصروفك اليومي لسبب اولاخر؟
هل كافأت ابنك على طعامه فان اكل كافأته وان شرب وان نام وان درس ووووو، حتى اضطررت ان تدفع له مقابل كل فعل يومي!
كم مرة تعرضت للمقايضة داخل الاسرة اما ..او!
كم مرة استسلمت واذعنت للتخلى عن رايك مقابل ضغط ما او لارضاء من تحب؟
هل مسخت دورك كإنسان لارضاء الاخرمهما كان هذا الاخر؟
هل يحق لاي مخلوق ان يصادر حياتك بكل وقاحة؟
ان الاساليب والوسائل التي يلجأاليها المبتز تبرر غايته بالابتزاز لكي يستطيع ان يحصل على مايريد، ومن الجدير بالذكر ان المبتز الذي غالبا مايكون فردا من افراد العائلة لابد ان يكون مريضا نفسيا بامتياز، وهذا المرض او بالاحرى الانحراف السلوكي هو الذي يعطيه ديمومته، لان المبتز لايكتفي ولن يكتفي بصفقة او اثنتين حصل عليهما بالتحايل على والديه ان كان ابنا اوزوجا او زوجة او اخا اوصديقا مادام هذا الباب اصبح كمغارة علي بابا يحصل منه على مايريد بدون تعب!
وعلى مر السنين لابد اننا تعرضنا لشتى انواع الابتزاز العاطفي منها العاطفي (استثارة العواطف) وهو الاسلوب المتبع لانتزاع مايمكن انتزاعه بالضغط النفسي على الضحية، والمبتز هنا يستغل كل مايمكن استغلاله حتى حب و تعلق الاخرين به، فالزوج يهدد زوجته بانه سيتركها اذا لم تفعل مايريد كترك العمل مثلا وبانه سيحرمها من اطفالها، والزوجة كذلك ستفعل نفس الشئ وتترك البيت ان لم ينفذ مطالبها، والابن سيقطع علاقته بوالديه ان لم يشتروا له مايريد ومايريد قد يكون اكثر من قوة استيعابهم بكثير فهو الان بات يهدد بالانتحار لكي يشعرهم بالذنب، فهم في هذه الحالة مرغمين على التنفيذ .
ومنها المادي عن طريق الاستيلاء المباشرباستخدام الوقاحة والضغط للاستحواذ واغتصاب الاشياء.
ان المبتز انسان معاقِب ويتخذ العقاب بشتى انواعه سلاحا له كما ويلجأ الى عدة اساليب تمكنه من احكام سيطرته على الضحية نذكرمنها على سبيل المثال:
العقاب الذاتي:وهو التهديد بالحاق الاذى بنفسه كأن يقوم بالتهديد بقطع شرايينه وقد يقطعها فعلا اذا مااظطر لذلك خصوصا اذاكان شخصا ساديا وماسوشيا في ذات الوقت تتساوى عنده السلوكيات المنحرفة المتضادة، وقد يقوم بجرح نفسه امام ناظري والديه لاشعارهم بالذنب والالم، وقد يصل الامر الى الانتحار وهذا يحدث كثيرا ونسمع به، كذلك ينطبق الحال بالنسبة للمتزوجين، او الاخوة.
- عقاب الاخرين والاخرين هنا هم المقربون اوالاهل الذين اتخذهم مادته الدسمة للاستيلاء والابتزازكافرا بكل القيم، فهو يبدأ باسهل الطرق وهي "المسكنة" فان ادت الغرض كان بها والا فيبدأالتهديد العلني بالحاق الاذى اما بمقتنيات الاهل كالبيت والسيارة اوارهاب الاسرة بتحطيم الاشياء، وهذا يحدث كثيرا والاغرب ان الابن يهدد بايذاء اخيه في حال لم ينفذ الاهل مطالبه وقد يتبع الاخ الاخر نفس النهج مع والديه ليبلغ الابتزاز ذروته، والاهل مضطرين لتلبية مطالب الابن او الابناء العاقين المبتزين الجاحدين لكل عاطفة، خاضعين مبررين ذلك بحبهم لابناءهم الذين يستغلونهم ابشع استغلال، اين حب الابناء اذن لابويهم! او استغلال الزوج لزوجته وابتزازها ليحصل على مايريد منتهجا نفس الاسلوب المرضي، والعكس صحيح.
- التلاعب بمشاعر الاخرين واصطياد الاخطاء مهما كانت صغيرة لجعلها شماعة جيدة لتبرير الابتزاز والثأر للذات المريضة، كأن يتذكر المبتز ذكريات بعيدة المته يوما ولازال واقعا تحت تاثيرها.
- لايترك لك الوقت للتفكير فهو يلزمك بالاستجابة والا! لكي يشوش تفكيرك ويسد عليك الطريق فتضطر للرضوخ.
- اللوم وهو من اسوء الاساليب التي يتبعها المبتز لما لها من تاثير سلبي يؤدي الى ارهاق النفس والشعور بالذنب من خلال تحميل الضحية اعباء فشل كل شئ الذي يؤدي بدوره الى ضعف الثقة بالنفس بل انعدامها وجعلها سهلة الانقياد.
- المبالغة وتهويل الامور البسيطة التي يقوم بها لجعلها ذات قيمة، والمبالغة في العقاب عن الاخطاء البسيطة حتى وان كان لايملك ذلك الحق.
- استخدام الصوت العالي والالفاظ النابية لارهاب الضحية واضطرارها للخنوع.
- الشكوى الدائمة واختراع الاكاذيب حول ذلك وتاليف الحكايا وادعاء الفقر والمرض والبؤس وعدم الاهتمام بالهندام والمظهر لاستثارة المشاعر.
- التجاهل والصمت اسلوب اخر وسلاح عقابي بامتياز بحيث يلجأ المبتز الى تجاهل الضحية وعدم الرد على مكالماته ان كان بعيدا او قريبا لاشعاره بالذنب تجاه المبتز والبحث عن طريقة لارضاءه.
- المبتز يجعلك في دائرة مفرغة "دوامة"فلاشغل لك ولاحياة سوى ارضاءه وتلبية مطاليبه، ومهما فعلت ومهما قدمت فانت مقصر بنظره ولاتاخذ غير الجحود.
وكل مبتز له طريقته واسلوبه با لمقايضة والضغط والتهديد، وان له القدرة على استخدام اي شئ مهما كانت قدسيته او قربه منه للحصول على مايريد!
ولان الموضوع موضوع قرابة فالتعامل معه يكون صعبا للغاية، ويفسره المبتز على انه خوف وهذا يشعره بالرضا والتقدير للذات المريضة، بالوقت الذي يعتبره الضحية التماس عذر لحدث معين وعاطفة زائدة، لان الاستجابة المتكررة للمبتز الذي بدأ يتفنن بالاحتيال وأخذ المزيد والمزيد ضاربا كل شئ عرض الحائط فلا عاطفة تمسكه ولادين يحده ولامبدأ يردعه!
تبدأالمرحلة الاولى من الابتزاز بصورة حميمية وخفيفة يلجأ اليها المبتز باساليب ملتوية كالمسكنة او التمارض او ادعاء الفقر والغرض من ذلك كله استثارة العواطف لايصال الضحية الى الشعور بالذنب وما ان يصل الضحية الى هذه المرحلة حتى يحكم سيطرته عليها و تبدأ السلسلة التي لها اول وليس لها اخر خصوصا اذاكان الضحية انسان عاطفي يمتاز بالطيبة المفرطة وتنطلي عليه هذه الاساليب الخبيثة.
وللوقوف بوجه الابتزاز العاطفي ومواجهته علينا القيام بمايلي:
- اولا يجب ان يعرف الضحية ويدرك جيدا انه رهن عملية ابتزاز مادية كانت ام معنوية، وعليه ان يتوقف ويضع حدا بان يقول لا.
- وضع الحدود بل الخطوط الحمراء وعدم السماح بتجاوزها، فلكل انسان الحرية في ممارسة حياته الخاصة دون ضغط من احد مادام انه يعيش بما يرضي الله .
- العاطفة المفرطة مرضا وليس عاطفة وعلى الانسان ان يتعالج من العاطفة المرضية التي تسبب له الاحراج والاذى في الحياة.
- التربية الصحيحة للاطفال وعدم اخضاعهم للابتزاز من خلال مقايضة سلوكهم بالحب المشروط فذلك يؤدي حتما الى تنامي هذا الشعور عند الطفل واستجابته فيما بعد لقوانين الابتزاز العاطفي!
- المبتز قبل كل شئ انسان وخصوصا اذاكان قريبا فنصحه وارشاده ومحاولة ارجاعه الى جادة الطريق بهدايته الى الصراط القويم ولو ان الامر في غاية الصعوبة لكنه ليس مستحيلا لان راس الحكمة مخافة الله.
- اذا لم تنجح كل الاساليب لردع المبتز فالابتعاد عنه في هذه الحالة فضيلة.
وعليك ان تعلم انه في يوم من حياتك سيضطرك ضغط الابتزاز العاطفي الى التخلي عن كل مامن شأنه ان يجعلك ضعيفا خائفا طائعا، تعطي بلا حدود وبلا مقابل، وانك دائما في دائرة اللوم والتوبيخ دائم التبرير، دائم الاستعطاف، انت وماتملك من مشاعر واحاسيس مستغل من قبل اناس المفروض انهم اقرب الناس اليك، لكنك للاسف اصبحت صفقة وفريسة لمطامعهم ماديا ومعنويا، وقد حان الوقت لتقول توقفوا انا لي وحدي، ومن احبني فليحبني كما انا بدون ان يقايضني على شئ، ولن يفرض عليّ احد اي امر لااقبله ولا ادين لاي احد الا لله وبما يرضى به وعليك ان تتوقف عن جلد نفسك لارضاء الاخرين لان ارضاءهم غاية مستحيلة.
مريم لطفي
رواية (ثلاث وستون) للروائي احمد الجنديل.. مقالة نقدية تحليلية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: حميد الحريزي
(أقذر الفساد ما كان يحتمي خلف أسم الله) ص73
(ياتي زمان على أمتي القابض على دينه كالقابض على جمرة) النبي محمد(ص)
العنوان
ثلاث وستون عنوان الرواية دلالة على عمر التقاعد الالزامي للموظف في الحكومة العراقية ومايسمى بسن التقاعد والذي اصبح الان وحسب القانون الجديد 60 عاما، حيث يقدم موظف الخدمة العامة عصارة عمره وشبابه وخبرته العلمية والمهنية من اجل الصالح العام، ونحن نتحدث هنا عما يفترض ان يكون عليه موظف الخدمة العامة وما عشناه خلال كل فترات الحكومات السابقة، حيث التفاني والامانة والنزاهة والابداع الا ماندر من المرتشين والفاسدين محل نبذ واحتقار من المجتمع ومحل المحاسبة والعقاب من قبل الحكومات على الرغم من قلة الرواتب وهزالة المعاشات ولكن مع وفرة في القيم الانسانية والوطنية والاخلاقية النبيلة .
ولكن للاسف الشديد انقلب الحال في زمن الديمقراطية واصبح الفاسد والمرتشي هو السائد والنزيه والشريف والمضحي عملة نادرة ومحل تندر السفهاء لانه لم يلتحق بركب الفاسدين ويبقى يعيش حياة الفاقة والضنك والتهميش.
وبدلا من تكريمه وتثمين جهده وماقدمه من خدمات لبلده ولشعبه خلال فترة خدمته الطويلة كما يجري في اغلب بلدان العالم التي تحتلرم مواطنيها وتكرم من يستحق التكريم وتوفر له كل اسباب الراحة من سكن وسفر وخدمات صحية وحتى زيادة في راتبه على ماكان يتقاضاه اثناء الخدمة لتوفر له حياة كريمة، للاسف في بلدنا يترك يعاني الكثير من المشقة والعناء والروتين القاتل اثناء انجاز معاملته التقاعدية التي قد تستمر لاشهر حتى تكتمل، كما ان راتبه يقلص الى مايقارب النصف مما كان يتقاضاه اثناء الخدمة وليس ههناك اية ميزات صحية او ترفيهية خاصة بالمتقاعد .
(وليد عبد العظيم) معلم مخضرم عاش زمن الحكم الديكتاتوري واحيل على التقاعد في زمن الديمقراطية وحينما ذهب الىمديرية التربية لانجاز معاملة التقاعد تبلغه (حمدية) الموظفة في المديرية بان عليه ان يجلب كتاب مباشرته وخدمته في مدرسة الزهور المدرسة التي كان يدرس فيها سابقا دون ان تداري كبر سنه وصعوبة سفره في ظل ظروف تصاعد عمليات الارهاب ومخاطر السفر،ولم ينتصر له السيد المدير المختم بخاتم ازرق آامرا اياه بتنفيذ امر (حمديه) وجلب كتاب تاييد لاكمال المعاملة، يعرض عليه احدهم خارج الدائرة بان يقدم له خدمة في سبيل الله وان ينجز له معاملته ويجنبه متاعب السفر والخطر مقابل دفع مبلغ مليونين دينار، يرفض وليد عبد الحليم ان يكون مرتشيا في اخر عمره ويتجاوز الكلام المهين للمتبرع بالمساعدة عند اعلانه الرفض(درب الكلب على القصاب) منوها بانه سيظطر العودة اليه لاكمال معاملته، كما يعود الكلب للقصاب نتيجة جوعه رغم طرده واهانته .
يتالم كثيرا كما يرفض مقترح ولده رياض بالموافقة على تقديم الرشوة واراحة نفسه ويقرر السفر الى مدينة مدرسة الزهور لجلب الكتاب، والذهاب لوحده ويرفض مرافقة ولده له
تتدعى الذكريات والصور في مخيلة وليدوتبدل الاحوال من حال الى حال وكيف اصبح الانسان الشريف النزيه الذي لم يهادن الديكتاتورية وتحمل التعذيب والاذى ثمنا لصموده وعدم افشائه اسرار الناس والمصلين في المسجد، فقد تفاجأ وليد في احد الايام بمداهمة منزله واقتياده من قبل امن السلطة الديكتاتورية الى دائرة الامن من دون ان يعرف السبب، فهو ليس سياسيا ولايتكلم في السياسة ولم ينتمي لاي حزب سياسي، ولم يسبب الاذى لاحد ولم يقصر في واجبه التعليمي .
يتعرض للاهانة والضرب والتعذيب ومطالبته بالاعتراف على جماعته؟؟
لاينفع معهم الانكار كونه انسان مستقل لاعلاقة له بالسياسة ولا ينتمي الى اية جماعة سياسية، يضرب بقساوة ينزف دما من انفه وشفته، يهدد بالاغتصاب ان لم يعترف !!!
بماذا يعترف (وليد عبد العظيم)، لا اعتراف لديه الا كونه انسنا نزيها شريفا يحب الناس والناس يحبونه، يكره الظلم والظالمين. يتعاطف معه احد افراد الشرطة وهي دلالة الى كون ليس كل من انتمى الى قوات الامن هو شرير وقذر وجلاد فقد يكون هناك من اضطره رغيف الخبر للانتماء الى هذه المؤسسة الامنية .
كان معه عدد من السجناء منهم الشاب الصلب العنيد زهير ابن الخبازه، وعلوان وغيرهم،ولكل منهم سلوكه وردود فعله امام الجلاد، فقد كان علوان خنوعا ذليلا متملقا للجلاد وقد ادلى بكل اسماء الناس الذين يدخلون المسجد لاداء الصلاة، وقد كان محل احتقار من قبل زهير ابن الخبازة ورفاقه .
بعد ان يأس المحقق من حصوله على معلومة من استاذ وليد اطلق سراحه مع اعتذار ثعلبي مخزي من قبل الجلاد .
الهروب من البطولة:
بعد خروجه من السجن يحتفي به اهله واصدقائه المقربين ويأخذ الناس ينسجون االحكاية حول بطولة الاستاذ وليد ومقاومته البطولية للجلادين في السجن وعدم افشائه باسرار المقاومين، مع اضافة المزيد من التزويق والتفخيم للرفع من شأن وليد وجعله اسطورة من اساطير البطولة والصمود، انها عادة الكثير من الناس ورغبتها في تصنيع الابطال ومن ثم تقديسهم وعبادتهم فهكذ يصنع الناس اصنامهم ووليد يتسائل (كم نحن ماهرون في صناعة البطل؟نسقيه دماءنا، نرضعه أو جاعنا ليزداد غطرسة وعنفوانا، نقدم له الصبايا ليتمتع بأجسادهن، نضع على صدره اوسمة خيباتنا وهزائمنا ليجلدنا بسوط جبروته كل صباح ... حتى اصبح البطل المقدس الخارج من قاع طقوسنا الغارقة في الوهم الراعي والمنقذ والقدوة لكل حلقات حياتنا البائسة) ص60-61.
ممايجعل وليد عبد العظيم يتذمر كثيرا مما يشيعه الناس عنه ليصنعوا منه بطلا ومعبودا للجماهير، وهو الانسان المسالم الكاره للشهرة والزعامة ويكره عقلية وسلوكية العبيد، فهو لم يكن اكثر من انسان مناضل من اجل الحرية والكرامة الانسانية، مدافع عن قيم الجمال والحب والعدل، كارها للقبح والظلم ومثل هذا الانسان لايفتش عن الشهرة ولا يريد ان يمتلك العبيد ويكره التقديس للفرد.. وهنا يصف سارتر الفرق بين المناضل ومشروع البطل حيث يقول سارتر واصفا مستجدي البطولة (كان موظفا مطمئنا محدود المباد هات ومعتادا على اكتشاف وجهه الأليف في عين رفاقه واثقا من ذاته واثقا من انه يجد في أعماق ذاته إرادة الحزب الحازمة كصخرة. وهاهو يجد نفسه مهجورا في عزلة الهزيمة التي لاكفارة عنها والحزب قد غلب على أمره والأمل قد سحق ويكشف في عيون العدو المنتصر وجها وحشيا ومجهولا هو وجهه وتنهار أناه التي كان يدعمها بالكثير من الأوامر والخطابات والرسائل وتظهر أنا أخرى.تفرد بائس يذكره على نحو غريب بالوحدات البرجوازية وموته الذي موهه طوال حياته بتظاهره انه سيموت من اجل القضية يرتد نحوه على حين غرة لان القضية قد تمزقت ولأنه يموت من اجل لاشيء. فهل خسر حياته وهل ربحها الأخر؟؟)
وكم يبدو هنا الفرق واضحا بين فهد المناضل وبين مالك سيف الفرق بين المناضل وطالب البطولة والأمثلة والشواهد كثيرة.
ان المناضلين الحقيقيين ليسو إبطالا بالمرة وهم(لايفكرون إلا بواسطة العقل الكفاحي الذي منحهم إياه الحزب ,لكن لما كان فكرهم يرفض كل قيد فأنهم يدفعون بهذا العقل المكون (بتشديد وفتح الواو) الى أقصى مداه ويحلونه الى عقل مكون (بتشديد وكسر الواو)
وعند ذلك سيكونون مناضلين منتجين ومجددين مبدعين وليس مجرد تابعين ومنفذين طيعين
وهذا هو الفرق بين وليد عبد العظيم وزهير ابن الخبازة وغيرهم من المناضلين وبين علوان ومن شاكله من أدعياء البطولة والشجاعة بين الناس ومنكسر ذليل جبان في الزنزانة حينما يكون بعيدا عن الانظار ...(كل بطل يقتحم القدسية من اوسع ابوابها حتى لو كان سافلا...) ص61
لذلك قر ان ينتقل من مدرسته ومدينته الى مدرسة ومدينة اخرى ليبتعد عن مظاهر ووههم التبجيل ويعيش حياته على بساطتها.
وهو مستغرق في ذكرياته الاليمة يصل الى مدينة مدرسته القديمة (الزهور) وقد كان الناس كل مشغول بحاله في واقع الخوف من وباء الكورونا ووباء الفساد والزيف والخرافة والدجل (لو كان الامر بيدي لقطعت كل الالسن الملتوية التي تمتهن المواعظ الخيصة وارحت البلاد والعباد من شرها) ص72هكذا كان يفكر استاذ وليد وهو يشهد ظاهرة النفاق والزيف للكثير من ادعياء الدين والتدين وممن يعتلون المنابر لموعظة الناس وهم الاكثر فسادا وخرقا لتعاليم الدين (اقذر الفساد ماكان يحتمي خلف اسم الله) ص73.
يتوجه الى فندق في المدينة كان على معرفة بمالكه فيشهد بابه قطعة مكتبوب عليها بدلا من فندق الامل (جمعية احباب الله الخيرية) ص80.
ثم يشهد ان مدرسته (الزهور) تحول اسمها الى مدرسة (جند الله)! فيصاب بالدهشة بسبب تغير كل شيء ليكون منسجما مع فكر اسلامومي مزيف يهيمن على ثقلفة القطيع، وأدعياء الدين من المزيفيين والمنتفعين والوصوليين والانتهازيين (الناس في هذا اللد امامهم الظاهر، ولهذا اهتمت بالظاهر مثلما اهتمت بالمستور، طالما ان الظاهر يحقق مايريده المستور) 101.لذلك اجتهد هؤلاء الادعياء الى الحفر في الماضي القريب والبعيد لكي يلبسوا كل مظاهر الحياة بلباس الدين والتدين كالمظاهر الشخصية للافراد مثل اطلاق اللحى وحلق الشارب (اكرموا اللحية واهينو الشارب)، وتتالختم بالخواتم مختلفة الالوان والاصول والاشكال ولمختلف الاغراض كما يدعون، وتغيير الاسماء فمثلا الانتقال من مدرسة الزهور الى العروبة ومن ثم الى جند الله ...الخ، من غازي الى قاسم الى جمال الى صدام الى محمد باقر ...الخ . فلكل زمان جلد ومظهر وسلوك طبعا دون تفكر او تدبر وانما هي موجات تأتي ثم تضمحل ... وبذلك يحل الدجل والنفاق وازدواج الشخصية في مثل هذه الظروف يتكاثر اهل الفساد وممارسيه وينحسر دور النزيه والصريح والصادق في زمن (النهضة الشاملة) كما يسمونها فتكون (النزاهة في مجتمع غارق في الجهل انتحار) ص102.
يتوجه الى المدرسة (جند الله) حيث تخبره الست ربيعه بان السجلات اتلفت ولايمكنها تزويده بمثل هذا الكتاب لعدم وجود اوليات، فيعود ادراجه وهو في حيرة من امره في مجتمع (الحقائق لا وجود لها، حلت محلها الشعارات والكذب المطعم بذكر الله) ص117 يعود الى حنش ابن حواس الخياط الذي اصبح من وجهاء المدينة هو واخوانه حيث ركب الجميع الموجة الطاغية فأصبحوا من اصحاب الشأن والنفوذ، حنش الذي كان استاذ وليد معلمه واستاذه مازال يذكر له افضاله عليه وعلى والده واخوانه فاراد ان يساعده ويرد له معروفه ايام زمان وباعتباره احد ابطال مقاومة النظام الديكتاتوري فهو يمثل تنقية وتزكية لكل من يرافقه ويصاحبه ويدعي قربه اليه، يعده حنش ان لا يبتئس ابدا فالكتاب سيتدبر امره هو، مكث في المدينة بضيافة حنش وكرمه مايقارب الاسبوع، زار خلالها (منتدى الصفوة الاسلامي) ص114، ليلتقي كذلك بالشخصية الهامة حيث وعده حنش انهم يترقبون قدومها للمدينة والقاء خطبة لوعظ الناس هناك، وقد حصل ذلك، والمفارقة الكبرى ان هذه الشخصية الكبيرة هو علوان المتخاذل الجبان الذي اعترف على كل جماعته زمن الديكتاتورية وقد كان الشرطي (قاسم ابن الحاج عبد الامير) اشرف وانظف منه، ناهيك عن المقاوم الجريء زهير بن الخبازه ووليد يقول (وصلني صوت يأمر الناس الجالسين بالوقوف احتراما للقادم الجليل، دخل شيخ يتكيء على عصاه، اراد أن يمد لي يده لتقبيلها، فاضعت الفرصة عليه، عندما مددت يدي لمصافحته، اردت ان اقول له أن الابطال لايقبلون الايادي حيث وقد اصبح (الناس صنفان، صنف يذهب الى حبل المشنقة وعلى شفتيه عصفور يغني للنصر، وصنف يختبيء بين فخذي زوجته وهو يرتجف خوفا، وعندما تتبدل الاحوال والادوار، يطوي النسيان الصنف الاول ويخرج الصنف الثاني حاملا تاريخ البطولة والشجاعة والاقدام) ص139 ولاشك ان وليد عبد العظيم من الصنف الاول وعلوان كان الصنف الثاني وهاهو اليوم يحتل ارفع المناصب ويحصد اعظم المكاسب، يتعرفه وليد عن طريق حنش ويزوده بورقة لانجاز معاملته وقضاء حاجته .
يكشف له حنش عن حقيقته فهو ينافق الوضع القائم في العلن حيث الزهد والورع والسعي لمنفعة الناس في العلن بينما هو يمارس كل ملذاه الدنيوية في السر من شراب ونساء ومالذ وطاب من الطعام وافخر الملابس والسكن الباذخ من حيث السعة والتاثيث وهذا ماشهده وليد بالفعل، عاش وليد وتذوق كل هذه الملذات م فيض كرم حنش، ليكون من(اصحاب الرؤوس المزدوجة والالسن المتعددة الاشد فتكا من جميع الفيروسات التي ارعبت العالم) ص157.
يجهز له حنش كتاب التاييد من المدرسة وبامر مدير التربية خوفا من الشيخ علوان، يرافقه الى مدينته محملا بالهدايا الثمينة في حقيبة كبيرة، تكمل الست مديحة ومديرها المختم معاملته وهو جالس في غرفة المدير وبسرعة قياسية بفضل نفوذ الشيخ البطل (علوان).
يعود حنش الى مدينته بعد وداع استاذ وليد مع مزيدا من الود والاعتذار عن اي تقصير .يعيش وليد حالة من الازدواجية المؤلمة حيث يقول (شعرت بأني محجوز بين رأسين متنافرين، رأس مستنسخ من رأس الشيخ علوان، ورأسي الاخر الذي يلقنني أن الانتصار الحقيقي هو البحث عن القيم العليا داخل نفوسنا والارتقاء بها الى عالم السلوك) ص143.
وقد (كان الالم يتزايد ومع وصوله ذروته رأيت الرأس المغشوش يسقط دفعة واحدة وهو يقطر بالنجاسة والعفونة ومعه سقط شعار (جئنا لنبقى)، ورايت الشيخ علوان يتدحرج وسط الدماء المتعفنة التي خلقتها الشعارات الكاذبة) ص150 .
يصحو استذ وليد على نفسه يعود الى ذاته النقية القوية المقاومة لكل اشكال الفساد والقمع والزيف بكل انواعه ومسمياته .
يترك وليد متابعة معاملة التقاعد ويستشعر ان لامكان له في مثل هذه الحياة المزيفة الفاسدة، يشعر انه يقترب من منيته، فيهيء كل جسده وروحه للرحيل وبالفعل تغادر روحها الى ربها راضية مرضية، نقية زكية لم تخضع لاغراءات البطولات ولا المناصب ولا المكاسب كان الروائي ااحمد الجنديل موفقا جدا في سرد واقع معاش ويرافق تحولاته وتبدلاته واساليبه في عراق الامس واليوم وان كان يقول في مستهل الرواية بانني (دونت ما بقي من ذيول حكايته – يعني حكاية استاذ وليد عبد العظيم – لمن يعشق الخيال، اما المغرمون بالواقع فلا املك لهم غير النصيحة بالابتعاد عن قراءة هذ الرواية التي كتبتها للمتعة فقط، ولاشيء غير المتعة في هذه الرواية) ص5 .
لكن من يبحث في الواقع يراه اكثر مرارة وتوصيفا مما وصفه وقدمه لنا الروائي في روايته الجميلة والمكتملة من حيث المبنى والمعنى، وباسلوب سردي بليغ يحمل بين طياته الكثير من الحس الشعري والبلاغي والفلسفي.
بقلم: حميد الحريزي
عواصم الدولة العباسية!!
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. صادق السامرائي
مما يميز الدولة العباسية، ذلك القلق الذي عصف بمؤسسيها من الخلفاء، والذي جعلهم يبحثون عن عاصمة يستشعرون فيها بالأمان.
والعديد من الخلفاء بعدهم كانوا في حالة من الوسوسة بخصوص العاصمة، وبناء المدن التي يأمَنون فيها على حياتهم، ويضمنون تجسيد تطلعاتهم، وتأكيد منطلقاتهم في الحكم.
وهذا مختصر مكثف للعواصم التي إتخذوها أو كادوا أن يعلنوها، ويمكن للمتخصصين بالتأريخ أن يوضحوا لنا الأمور الغامضة بهذا الشأن.
أولا: الكوفة
عندما أعطيت البيعة لابي العباس السفاح في أواخر أيام الدولة الأموية، إتخذ الكوفة عاصمة للخلافة الجديدة وإستمرت (132 - 134) هجرية.
ثانيا: هاشمية الأنبار
بناها أبو العباس السفاح كعاصمة ومات فيها (134 - 136) هجرية، ولا يذكر كثيرا عنها، ولا توجد قصور فيها، وربما القبر الموجود فيها يعود لأبي العباس السفاح.
ثالثا: الكوفة
أين كان أبو جعفر المنصور قبل بناء بغداد، لا يوجد جواب واضح وقاطع، لكن أكثر المصادر تشير إلى أنه قد إتخذ مكانا قرب الكوفة قبل بناء بغداد (136 - 149) هجرية، ولم توضح حقيقة ذلك المكان، ولا توجد قصور للخلافة تؤكد ذلك، ويُذكر أن له قصر فيه، وقد وصلت الإضطرابات ذات يوم إلى باحته.
ويبدو أن أبا جعفر المصور كان مولعا بالبناء باللبن والطين، مما سهل إندثار ما شيّده بسبب الأمطار والفيضانات.
رابعا: بغداد
بناها أبو جعفر المنصور المؤسس الحقيقي للدولة العباسية (140 - 149) هجرية، إستمر بناء المدينة تسعة سنوات، وكانت دائرية الشكل، وذات موقع ستراتيجي وسطي، حول نهري دجلة والفرات، محصنة ذات أربعة أبواب.
وبقيت عاصمة منذ بنائها حتى الإنتقال إلى سامراء (149 - 222) هجرية، من ثم عادت عاصمة حتى سقوط الدولة العباسية (279 - 659) هجرية .
خامسا: الرقة
حاول هارون الرشيد أن يتخذها عاصمة، ولديه محاولات أخرى لنقل العاصمة من بغداد، وهو الذي كان يبحث عن مكان لعاصمته قرب سامراء، وقد شيد قصورا فيها، وكذلك من بعده المأمون الذي جعل من مناطق محيطة بسامراء منتجعا له وميادين صيد.
ويروى أن زبيد زوجة الرشيد قالت لمنصور النميري: قل شعرا تحبب فيه بغداد لأمير المؤمنبن فقد إختار عليها الرقة فقال: " ماذا ببغداد من طيب الأفانين...ومن منارة للدنيا وللدين، تحي الرياح بها المرضى إذا نسمت...وجوشت بين أغضان الرياحين"
سادسا: سامراء
بناها المعتصم مدينة تسر الناظرين (سر من رأى)، ولتنافس جمال مدن الأندلس التي شيّدها الأمويون. وأصبحت عاصمة للدولة العباسية (222 - 279) هجرية.
سابعا: دمشق
وفي سنة (243) هجرية، كاد المتوكل أن يتخذها عاصمة للإبتعاد عن الأتراك، وبنى فيها قصرا بداريا وعزم على سكناها، لكن قادته أثنوه عن الأمر، ورجع بعد شهرين أو ثلاثة
وفي هذا قال يزيد بن محمد المهلبي:
"أظن الشام تشمت بالعراق...إذا عزم الإمام على انطلاق، فإن تدع العراق وساكنيه...فقد تبلى المليحة بالطلاق".
ومن الصعب تفسير هذا السلوك لدى الخلفاء العباسيين، فكأنهم في حالة من القلق وعدم الشعور بالأمان، وفي محاولات للهرب من المحيطين بهم والذين يضمرون لهم الشرور والغدر.
فالدولة العباسية أسِسَت بالقوة وبسفك دماء مروعة، فكان السيف سلطان، والأعداء كثر وإرادة السلطة لا ترحم أحدا، مما جعل القلق يعصف بالخلفاء الأقوياء، ويدفعهم للبحث عن مكان يستشعرون فيه الأمان، وهذا من أهم الأسباب التي جعلت الدولة العباسية تعتمد على الموالي أكثر من العرب، لأن العباسيين قتلوا من العرب والمسلمين أعدادا غفيرة، وإرتكبوا إبادات جماعية بحق الأمويين والعلويين، لتثبيت أركان دولتهم، فهم ربما يحسبون العرب أعداءً لوجودهم، ولهذا كان للموالي بأنواعهم سلطتهم وسطوتهم، كالبرامكة والأتراك وغيرهم.
د. صادق السامرائي
مقترح لدراسة علمية لمشروع جامعي جديد
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عبد الجبار العبيدي
من الجامعات خرج التقدم.. وظهر الفكرغير المقيد.. وحل العقل المتطلع والمتعطش الى المعرفة على اساس من البحث العلمي والتجربة التي هي اساس كل كشف جديد.. وعلى اساس من التفكير العلمي تحسن النظام الاجتماعي الذي قام على اسس العلم الطبيعي حين اعتبره العلماء هو قاعدة العلوم .
من هنا ظهرت النظرية القائمة على التجربة العلمية التي تقول: ان كل معرفة لا تقوم على تجربة علمية فعلية لا قيمة لها في ميدان التقدم العلمي المعروف.. وبذلك ألغيت التكهنات الغيبية لدراسة العلوم التي اعتمدها رجال الكنيسة في العصور الوسطى الاوربية.. حتى ظهرت فكرة تصنيف العلوم القائم على فكرة تحليل المواهب الذهنية والفوائد التي يجنيها الانسان من علوم الطبيعة القائم على التجربة والبرهان وليس الحدس والتخمين .ونتيجة لذلك ان تغيرت كل التفاصيل.. فكيف نحن اليوم وقد أستبدل التعليم الرسمي الرصين بالتعليم الأهلي بلا قيود..
يهدف المشروع الى أنشاء موسوعة علمية تكون بمثابة قاموس علمي جديد قائم على ترتيب عقلي للعلوم والاداب والحرف وعلى أساس الفكر غير المقيد بالأفكار الميثيولوجية، وتحديد لفظة العلم في المنهج الدراسي الجديد تحديدا منطقياً يعتمد على التجربة والبرهان، وعلى رأس كل فرع من هذه الفروع مجموعة من الاكاديميين المتخصصين الذي يؤمنون بالفكر والحرية والتقدم، وليس في رؤوسهم الماضي القديم، شرط ان لا تتدخل العناصر الحكومية المتزمتة دينياً في تكوينه لحين الانتهاء منه ثم مناقشته بالطريقة العلمية المعتمدة.. في ترتيب العلوم .
اذا ما اتيحت لهذه المجموعة العلمية ان تعمل بحرية تامة، اعتقد ستأتي بشيء جديد في كل فرع من فروع العلوم والاداب والحرف . وتقتصر اهمية هذه الموسوعة على تغيير المفاهيم المتوارثة في اكثرمن ميدان من ميادين المعرفة العلمية.لان المشرفين على تحريرها وكل الذين سيكتبون موادها يجب ان يكونوا من المتفائلين في صنع رؤية جديدة لمستقبل الانسان العراقي قائمة على العقل والعلم والحرية. لذا يجب ان تكون المؤسسات الدينية القائمة على التكهنات الغيبية بعيدة عنه، لان الاقلام التي ستساهم في كتابته تقوم على الفكر الحرالواعي للحركة العلمية المجردة من التأثيرات الميثيولوجية الغيبية والفكر الارسطوطاليسي الذي يعتمد المنطق الفلسفي المطلق في الوصول الى حقائق الاشياء - نظرية قديمة انتهى زمانها-.. حتى لا يقال ان من ساهم بكتابتها هم من الملحدين او اللادينيين او المتطرفين في النظرة العلمية.
ان الوعي العلمي الصادر من الجامعات ومناهجها المتحررة من الميثيولوجيا هي التي كونت فكرة التقدم ودواعيه تمهيدا لربطه بحياة المجتمع، لان التمسك بمشاريع موروثة وان كانت بطريقة قانونية واجتماعية تعيق المجتمع من التقدم والوقوف بوجه الطامحين نحو الحقوق، والقوانين التي تخدم طبقة معينة دون غيرها من طبقات المجتمع هنا اعاقة التقدم.. وعلى مؤسسات الحقوق الجامعية ان تطرح قوانين عادلة وتطبيقها على ايدي أساتذة يملكون حرية النظر في القضايا المهمة واصدار الحكم عليها.
من هنا لابد من زوال امتيازات الطبقة المتعارضة للتقدم العلمي التي منحت لنفسها قوة القانون حتى تصورت انها اصبحت فوق القانون كما في بعض الجامعات الاهلية التي تأسست على غير هدى من القانون والعلم التجريبي.. وبالتالي يتكون لنا رأي عام يستطيع ان يرد السلطة عن هواها لتأمين حقوق الناس.. وعلى هذا الاساس من الوعي الخلقي تنشأ القوانين الجديدة.. وبمرور الزمن يبدأ الفكروالتفكير الواعي بالتحسن والتقدم حتى يصبح عقيدة.
بلا شك سوف يُراعى في النظرية الجديدة العقل المؤمن بالله والقائم على التفسير العلمي للنص الديني دون دخل لنظريات فقهاء القرون الهجرية الأولى المتزمتة فيها من اصحاب المذاهب الدينية المخترعة.. الذين فسروا النص الديني تفسيرا خاطئا وفق نظرية الترادف اللغوي القائم على ادراك المشخص ولم تكن فيها التسميات الحسية قد استكملت بعد تركيزها في تجريدات.لذا سيكون ايمان اصحاب النظرية الجديدة بالمخلوق سبيلا الى ايمانهم بالخالق، وبذلك يكون المحور الاساس في كتابته صادرا من العقل لا من القلب اي بعيدا عن العاطفة الدينية.. وهذا تفسير حديث في الفكر له قدره واهميته.
نحن نعتقد اذا ما نفذت مثل هذه التوجهات في الموسوعة العلمية الجديدة سوف نحرك عجلة التاريخ العراقي نحو الطريق السليم بعد هذا التعثر والركود الذي اصاب الحركة العلمية والمنهج المدرسي في التعليم.. نتيجة ممارسات الأنظمة الفردية والدينية المتزمتة خطأ نظرية ترتيب العلوم والمناهج الدراسية التي حولوها الى روزخونيات ملائية جامدة وأرفقوا معها نظريات الوهم.. حين أكثروا من مناهج الدين الولائية الوهمية. ليقوم المنهج الدراسي على قاعدتين هما: الفكر العلمي.. واستقرار فكرة التقدم في الأذهان.. ان هذه الموسوعة يجب ان تبنى على:
- في مجال الحقوق العامة، تبنى الدراسة على تحديد سلطات الدولة عن حقوق الناس، وبهذا لم يعد يحكم في الدولة الا الدستور والقانون لتحديد شكل الحقوق المدنية لعامة الناس.. بعدها سنرى كيف ان المجتمع المبتلى بالوهميات الدينية والخارجين على القانون يتغير نحوالتغيير الشامل للحياة المجتمعية المتجردة من العقليات الانانية والمتمسكة زورا بالأحساب والأنساب والمذاهب الأحادية الجامدة والانصراف الى مصالحها الخاصة لتدوم معها السلطة دون الاخرين .
- نريد من المشروع ان تعتمده الجامعات منهجا متقدما يهدف الى جملةحقائق منها:
- أظهارفكرة التقدم وترسيخها في الأذان بأعتبارها حقيقة ثابتة تمهد
لحركة التطور الاجتماعي.. وضع القوانين التي تخدم اطلاق الحرية الكاملة لحركة الاقتصاد والتجارة الداخلية اولاً سواءً في الزراعة او الصناعة أو انشاء البنوك او الشركات الكبرى الربحية دون تدخل معين في التوجه والتوجيه. وبذلك يكسب الاثنان هنا حرية الحركة والعمل والقول دون معارضة حكومية مقصودة .لنبتعد عن الاساطير التي تقول:
ان دوافع التقدم هي في اراء الفقهاء واصحاب النص الديني الذين لا يؤمنون بالصيرورة التاريخية في التغيير. أفكار عقيمة جرداء لا يمكن ان ينبت فيها شيئاً. والتي ثبت بأنتهائها في العصور الوسطى تحولت اوربا الى النهضة الاوربية والتقدم العلمي الشامل.
- النظر في تكوين القوانين التي تعيد بناء النظام السياسي المقيد بسلطات الشعب وهو الدستور الذي يتوائم وروح العصر بعيدا عن الطائفية والعنصرية والفرز الديني الغير مرتبط بالشريعة .كما في المادة "2" أولاً من الدستور العراقي التي تنص على:"ان الاسلام دين الدولة الرسمي وهومصدر اساس التشريع ولا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادىء احكام الاسلام.هنا المشكلة.. المشكلة لا يمكن ان تتقدم دولة ضمن هذا الفرض الديني المقيد لحركة التطور. .وخاصة حين يعتمد التفسير النصي المذهبي الجامد القديم.
- هذه العملية ستجعل من عامة الناس ايمانهم بالقانون، ايماناً تلقائياً دون معارضة، واحترام الدستور طواعية، وبذلك سوف يسود الامن على النفس والمال وضمان حرية القول والفكر د ون تدخل.. لا ان يقتل العلماء والمفكرين دون تحقيق قانوني .وبذلك ننهي عسكرة المجتمع لصالح النفعيين الجهلة الذين لا يؤمنون بحركة التاريخ المتطورة.. ونقتصد في الأموال المهدورة لهم بدون وجه حق لصالح الرفاهية والانجاز المجتمعي.
- هنا تصبح نهضة الفكر العلمي هي القوة التي تحرك الناس نحو الامام بعد الغاء حركة التاريخ المغلقة المرتبطة بالتراث التقليدي المتمثل بغياب الوعي المجتمعي، وبعد ان تعكف المجموعة الى دراسة تجارب الامم والاخرين ماخوذة من التاريخ والحضارة.من هنا سيهدف المشروع العلمي الكبير الى انشاء فكر جديد واسع المدى ينحصر في نتائج محددة هي:
1- ان كل شيء في هذا الكون قائم على قوانين محددة لاتخضع للحدس والتخمين والوهم والتقليد.. بل للتطور والتغيير حتى تصبح النظريات الغيبية ليس لها فيه من نصيب.
2- استخدام النظرية الجدلية والشك في القوانين المتعارف عليها دون تدخل الا من وجهة نظر علمية بحتة للوصول الى الهدف العلمي المطلوب.. وابعاد نظرية الظن في التنفيذ.
3- وضع الثقفة الكاملة بالنظريات العلمية لنعطى المكانة الاولى لذوي الاختصاص من العلماء والاكاديميين الذين سيشتركون في العملية العلمية الكبرى في التطوير والتنفيذ.. دون النظر الى المعتقد والطائفة والجنس، بذلك يصبح شاغل المركز مؤهلا للنجاح في التنفيذ.
لا يسعنا هنا في هذه العجالة ان نعرض كل الاراء الجديدة التي نريد لها ان تكون واقعا على الارض، لانها في حقيقتها ثورة علمية واسعة سوف تخرجنا من الطريق المسدود الذي به نحن واقعون اليوم.شرط ان تضمن السلطة الوطنية -ان وجدت.. ضمان الامن والسلامة لمبتكريها وعدم التدخل فيما يقترحون الا بما يتعارض مع الدستور والقانون وحقوق الناس في التطبيق، لُتخرج عملا يضع الجامعة في ركب الجامعات المتقدمة..
ومن الله التوفيق.
د. عبد الجبار العبيدي
..................
* لكل من لديه وجهة نظر اخرى حق المشاركة فيما يقترح.. والمشروع عام وليس خاصا.. أنه مشروع الجامعة العراقية .
المثاقفة بين حسام الخطيب ونجم عبد الله كاظم.. قراءة في المنهج والمعاني (2)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. صالح الرزوق
نعود للمقارنة بين الدكتورين الخطيب وكاظم. مع أن كليهما مختص بالأدب المقارن الحديث، وكليهما يخرج من عباءة المدرسة الأنغلوساكسونية في تعريف معاني مطلقة كالهوية والعقل والضمير والمنطق، يبدو لي الخطيب أوضح من كاظم. فالأول يضع محددات ومعرفات لمجال بحوثه، بينما يبدأ كاظم من نقطة النهاية، ويترك مهمة استنتاج التعريفات على عاتق القارئ. حتى أنه يقفز من فوق أهم مشكلة في بحثه، وهي الرواية العراقية: ما هو المقصود بها، ماذا ينطوي تحت لوائها، هل المقصود بالعراق الكيان السياسي المعروف بحدوده الحالية أم سنجق العراق الذي كان يحكمه العثمانيون. ويمكن تمديد هذه الإشكالية لتشمل اللغة والجنسية والهوية (بمعنى الانتماء). ما هي شروط الرواية التي نسميها عراقية؟.
فالعراق ليس بلد التناقضات فقط، ولكنه أيضا بلد المتحولات السياسية. ونطاقه أو مداه المجدي مر بعدة أطوار. وهناك عدة نقاط انفصال وارتباط منها مشكلة اليهود العراقيين، ومثلهم العراقي الإيراني المهجر بعد وصول صدام للدولة، هذا غير جدلية شمال - جنوب. والمقصود بها تداخل الماهيات بين الكويت والعراق وكردستان. ويضاف لكل ذلك الرواية المهجرية المكتوبة بلغة غير عربية ثم الرواية الفلسطينية المكتوبة داخل العراق. ولتوضيح المسألة أضرب مثال عبد الرحمن منيف (المتنازع عليه بين السعودية والعراق)، وجبرا إبراهيم جبرا (المتنازع عليه بين العراق وفلسطين). وكذلك لا يوجد أي توضيح لمشكلة حدود النوع (معنى رواية). وأعتقد أن هذه المشكلة تمثل واحدا من أهم التحديات في الأدب العراقي، فهو بلد معروف بالانقلاب على المفاهيم. ومثلما بدأ القلق على معنى الشعر العربي من العراق وانتقل تعريفه من البنية الفنية إلى الحساسية الفنية، تعاني الرواية من نفس الأعراض. فالقصة الجديدة ظهرت أول ما ظهرت في العراق (ومثالها يوسف الصائغ مؤلف المسافة. وهي تحت نوع فني جديد يتراوح بين المسرح والقصة الطويلة والرواية القصيرة). وأعقبتها النوفيلا التي كتبها قصي الشيخ عسكر وقدم لنا منها ما لا يقل عن 12 عملا (كل نوفيلا تتراوح بين قصة طويلة بحجم قصص فلوبير وبلزاك) ورواية قصيرة (بحجم روايات مارغريت دوراس). لكن ما يفاقم من هذه القضية أن الشيخ عسكر يتعمد إدراج نصوصه تحت عنوان (رواية).
لقد تركنا الدكتور نجم عبد الله كاظم في ظلام دامس. لم يحدد ماذا يستحق الانتماء للعراق، وماذا يجب أن ينضوي داخل إطار فن الرواية. وإن لم تكن هذه المسائل ذات أهمية تذكر بالتقويم الأخير، غير أنها لا تساعدنا على تأكيد ماذا يعنيه بدفاعه المستميت عن عدد الروايات العراقية. فلقد بنى على الكم عدة نتائج ومنها بدأ في مناقشة تحويل المجتمع من أبوي بطريركي عشائري لمجتمع مدني متجانس يتبنى مفهوم القوة العاملة ووحدات الإنتاج بغض النظر عن الجنس والطبقة (ص24).
وغني عن الذكر أن مشكلة النوع هي واحدة من أكثر العقد البنيوية التي تواجه نظريات التفكير المعاصر، ابتداء من محاورة فوكو للمعرفة بواسطة حفرياته وانتهاء بتوجه أمبرتو إيكو في التفكيك والتأويل. لقد بدأت السردية تتحول لخاصرة طرية كلما أمعنت الطبيعة والمجتمع بالتبلور نحو مزيد من الاختصاص. ومع أننا في مرحلة الصناعات الصغرية (أو ما نقول عنه عصر النانو - وهو عصر يسعى لمزيد من الضغط باتجاه الانتقائية والتحديد) فإن الفنون تفقد أشكالها واختصاصاتها وتنحدر نحو مساحة مبهمة نسميها مساحة الكتابة. وقد بدأ هذا النوع الميتافيزيقي الوهمي بالظهور في بواكير الثمانينات مع نصوص وليد إخلاصي السوري (ولا سيما في كتابيه: الدهشة في العيون القاسية، ويا شجرة.. يا) حتى روايته المستديرة (رواية المائدة المتنقلة التي تتكون من حلقات منفصلة ولكن متقاطعة)، والإشارة هنا لكتابه (ملحمة القتل الصغرى) الصادرة في التسعينات. وربما لم يستقر هذا الشكل الأدبي إلا مع برهان الخطيب الذي انفجرت جعبته في السنوات الأخيرة عن ثلاثة أعمال مختلف عليها، تارة يسميها “رواية قصص” وتارة يقول عنها “رواية حوارية”. وأخص بالذكر “أخبار آخر الهجرات”، وهي مجموعة قصص قديمة عمل على إعادة تدويرها بشكل عدة مربعات حوارية، كل منها تمهد لما بعدها، وبنفس طريقة فوكنر في معجزته الخالدة (اهبط يا موسى). وبعدها “ذلك الصيف في اسكندرية” التي استحقت من الدكتور كاظم وقفة متأنية (مع أنه عزا الرواية لإبراهيم الخطيب سهوا) ، وقد عمد خلال ذلك لتقليل الفرق الفعلي بين قصة طويلة ورواية قصيرة (انظر الصفحات 189-196). ثم إنه حدد بشيء من التأني وكثير من الدقة أهم ملامح تحت النوع ورأى أنها 4: وحدة الموضوع، ووحدة المكان، ووجود علاقة عضوية بين الشخصيات، وأخيرا التجارب المشتركة والمتشابهة والتي تجري في فترة واحدة (ص193).
باختصار لم يقدم لنا الدكتور كاظم أية مقترحات حول إطار بحثه. حتى أنه لم يحدد خريطة العراق. هل هي المتعارف عليها خلال ثورة العشرين، أم هي التي انبثقت بعد الاستقلال وتأسيس الجمهورية عام 1958، أم ما يعرف اليوم باسم الجمهورية العراقية التي ظهرت مؤخرا بعد الغزو الأمريكي في 2003؟؟. مثل هذه التعريفات لا تساعدنا على فهم بدايات ونهايات فن الرواية العراقية بل العربية أيضا. وإذا أمكن دائما التهوين من المسألة لو وضعنا في الذهن أن الرواية العراقية تأسست في وقت متأخر، لكن هذا فقط إن كنا نهتم بالرواية الناضجة والمستقرة، وإذا لم نكن معنيين بتطورها ومتابعة معنى الذكورة والأنوثة والدين والطائفة. مثل هذه البنود تحتاج لحفر عمودي ومسح أفقي. وهو ما كان الدكتور كاظم يخطط له حسب ما ورد في الهوامش. وفي هذه الحالة يكون المذنب هو القدر الذي وضعه في إضبارة المشروعات الناقصة والتي لم يكتب لها أن تكتمل (مثل مشروع صدقي إسماعيل في سوريا، ومشروع سعد محمد رحيم في العراق المعاصر والحديث أيضا). ولكن هذا لا يعفينا من مشكلة تالية في التعريفات، وهي ماذا يقصد الدكتور كاظم بكلمة واقع محلي؟؟. وتوجد أكثر من إشارة يدافع بها عن محلية سياق الرواية العراقية. بمعنى أنه يجد في إضفاء الطابع المحلي جزءا من مكون أساسي له علاقة بحامل الرواية (وهو أبطالها أو الشخصيات) والفضاء الموضوعي الذي ينتمون له وهو (الهوية). وإذا شئنا أن نختصر نقول: إن الدكتور كاظم يولي أهمية فائقة لمشكلة الماهية في الرواية، ويعتقد أنها تمثيل للواقع (ص29). غير أن هذه الاصطلاحات أيضا تتحلى بقدر كبير من المطاطية والإبهام. هل الواقع المحلي هو ما نراه بأعيننا فقط (الواقع الطبيعي - المنظور) أم أنه كل شيء له علاقة بموضع الشخصيات من واقعها الاجتماعي؟. وهذا يدفعنا للتفكير بكافكا. هل كان كاتبا فضائيا (مثل الموظف الفضائي - الوهمي الذي ضرب اقتصاد العراق وألحق به أضرارا فادحة)، أم أنه نموذج لعصر بكل شروطه المشحونة والمحتقنة. وفيما أرى إن التصوير غير الواقعي للواقع المحلي مسألة معروفة في الرواية العراقية وغيرها. ولكن بالمقابل التصوير الرمزي لواقع افتراضي يكون أحيانا وسيلة ناجعة لتشخيص أزمات أي بيئة محلية. وفي الذهن رواية: “الترحال في نهيلون” لألان سيليتو، ويقابلها في الأدب العراقي المعاصر رواية “ليلى والحاج” لمحمد الأحمد. وفي الأدب السعودي رواية “وترمي بشرر” لعبده الخال. هذه النماذج لا تشخصن التجريدات المحلية فقط بل إنها تسعى لدمج الصور بالأفكار لتكون أفكارا مجسدة، منظورة ومسموعة. وعلى ما أفترض إنه كان من المفيد لو تناول الدكتور كاظم هذه المعضلة الفنية بمقدمته مثلما تناول بشكل خفيف، ولكن معلم وضروري، عدة إشكالات منها المعنى الاجتماعي للتقاليد(ص11) وظاهرة تعاقب الأجيال (ص55) ودور الواقع الداخلي في بناء فضاء الرواية (ص12)، إلخ...
وبظني إن هذه المشكلة تشكل خطرا داهما على فهمنا أو تقبلنا لمعاني الواقع في أي رواية إذا وضعنا في الذهن الحالة البائسة للفن الملتزم، أو فن النهاية الإيجابية. فهو في معظم حالاته كتابة حسب مقاييس ومواصفات موضوعة سلفا من أعلى وفي مكاتب متخصصة منفصلة عن الواقع الحقيقي للبشر والمجتمع. وهي حالة مزمنة في العراق وسوريا وليبيا وقبلئذ مصر أيام الزعيم الوطني المرحوم عبد الناصر. لقد كان الواقع يعني بالضرورة الأعمال التي تكتب عن موضوعات عسكرية أو ريفية، وكأن المدينة خارج حسابات الواقع. وحتى الآن توجد شراذم لهذه النظرة الضيقة التي تعطي للقرية والفلاح ثم الجبهة والجندي الأولوية مع أنهما واقعيا مجرد صدفة تاريخية. وقد كان من نتيجة هذه الضغوط (التي احتلت مرتبة تابو رابع) أن تخصصت روايات المدينة بالكلام عن العشوائيات ومجتمع الأحياء المخالفة الفقيرة بالخدمات والبشعة والدميمة والتي تخنق أية رغبة بالفهم والأمل وهي في مهدها. وهو ما نجح في الالتفاف من حوله حنا مينة في سوريا (بالأخص في الحلقة الثانية من ثلاثيته بقايا صور - أقصد “المستنقع”)، وقبله غائب طعمة فرمان الذي هرب من الأحياء الشعبية وإشكالياتها بأسلوبين: النظر لهذه الأحياء بوجدانه، وبالمنافي والمنولوجات الذاتية (وبالأخص في روايته “المرتجى والمؤمل”). ففيها نوع من التبادل بين طور محلي داخلي وطور واقع خارجي. بتعبير آخر كان يتنقل في أرجاء ذاكرته بين بغداد التي لا يمكنه أن ينفصل عنها وموسكو التي انتقل ليعيش فيها. وما بين الطورين قدم شهادة عن عذاب ابن الله، أو مسيح المجتمعات المتخلفة الذي اختار التعالي على واقعه. ويمكن أن تقول الذي اختار أن يهضم واقعه بسياسة الإلحاق والتبرئة. فهو يغادر بغداد لعلاج ابنته، ويقيم في موسكو بمصحة. ومثل هذه التقابلات تضعه بمواجهة أمراض وعلل صحته وأمراض وسقطات مجتمعه (أو بيئته المحلية).
وتبقى مشكلة الظروف التاريخية لأي واقع محلي. فهما من بين العوامل المتبدلة، كلما تبدلت الظروف انعكست على شكل الواقع ومضمونه أو وجهه الألسني والذهني (بتعبير دريدا - لأن اللغة هي وجه المشاعر التاريخية - وهذا واضح في كتابه “تطبيقات أدبية” - بتحرير ديريك أتريدج) (4).
والقضية ليست في العلاقة بين النص والواقع وإنما في هجرة النصوص وتأجيل النشر. فرواية “بصقة في وجه الحياة” للتكرلي مكتوبة عام 1948 ولم تنشر إلا عام 1995. و”شقة في شارع أبو نواس” لبرهان الخطيب (ورد اسمه بالخطأ برهان الصايغ - ص58) مكتوبة في الستينات ومنشورة في السبعينات على أعتاب أهم تحول تاريخي في سياسة مصر من المعسكر الاشتراكي والقضية الفلسطينية. هذا غير حالة جبرا في (صيادون في شارع ضيق) المكتوبة عام 1955 بالإنكليزية والمنشورة في لندن عام 1960 ولكن المعربة عام 1974. وآخر مثال عربي هو رواية 67 لصنع الله إبراهيم المكتوبة عن النكسة عام 1968 والتي لم تنشر إلا عام 2017. إن تأجيل النشر قد لا يضر بالنص ولكنه يبدل من علاقته بواقعه وظروف مرحلته. والعاطفة المؤجلة ليست مثل البديهة الحاضرة. ويمكن أن تسمع دقات ساعة الزمن العربي وهي تضيع في أروقة الرقابة والعقل البيوريتاني وغيرها من الظروف. وهذا يخلق مشكلة من نوع آخر كان على الدراسة أن تتلافاها بإضافة معيار لحدود أي جيل (ص55). مثلا أن نحتكم لحساسية الجيل وليس لتوقيته كمل فعل فاضل العزاوي حينما وضع أدباء من الألفية الثالثة في جعبة أدباء الستينات وأطلق عليهم عنوانا عريضا هو “الروح الحية”. وربما أوعز إلينا الدكتور كاظم بشيء بهذا الاتجاه حينما استعمل عبارة “أنفاس الجيل” عوضا عن كلمة “جيل” بمفردها، ويبرر هذا الاختيار بقوله: إن بعض الأجيال تمتد خارج حدودها التاريخية وتحمل أنفاسها لوراء حواجز المرحلة كما هو حال معظم نتاجات الجيل السيتيني (ص55).
لكن يبدو الدكتور كاظم أكثر تدقيقا بما يخص مطلح الرواية النسائية. فهو يحددها بكل رواية طويلة أو قصيرة كتبتها امرأة داخل العراق أو خارجه. ويعتبر أن نقطة البداية كانت مع (ليلة الحياة) لحورية هاشم نوري الصادرة عام 1950 باسم مستعار هو (فتاة بغداد) كما ورد في (ص33). وهذا يعني أنه ينظر لجنس المنتج وليس لموضوع العمل. فالكتابة النسائية لم تتطور وتأخذ معناها النضالي (باعتبار أن المرأة في الشرق متورطة بحرب شاقة ضد تقاليد تعسفية لها حراس اجتماعيون بالإضافة لحراس الدين) إلا مع بثينة الناصري وبعدها عالية ممدوح. وهما نموذجان يحملان لواء الكتابة من أجل تحرير المؤنث وليس المرأة فقط. وأذكر هنا مثال (موت إله البحر / قصص قصيرة) للناصري و(محبوبات) لممدوح.
والشيء بالشيء يذكر. يبدو أن سوريا كانت سباقة بهذا المضمار. فمن بواكير نماذج أدبيات المرأة المناضلة لا يغيب عن الذهن نص منشور في مجلة الحديث عام 1936 لفلك طرزي بعنوان (ضلال ثم هدى أو بين عاملين)(5). وهو أفضل مدخل معتدل لانتشار ظاهرة “أدب الأظافر الطويلة” الذي بشر به الثنائي غادة السمان وكوليت خوري. وإذا كانت الأولى ذات ثقافة أنغلو ساكسونية (حاملة لقيم فرجينيا وولف)، فالثانية ذات ثقافة فرانكوفونية تعبر عن روح وجودية متمردة على طريقة ذكور كامو. وهذا يعني أن المرأة كانت جرحا في جسد اللغة مثلما هي جرح في أسلوب الكتابة. وهو ما تعكسه شروط إنتاج بنية السرد عند عالية ممدوح بشكل أساسي. واعتداء ممدوح على شكل الرواية المعروف استند على أدب دعوي عالم ثالثي يعي نفسه بشروط غيره. فقد دمجت في شكل المتوالية السردية (لأدب الواقع السحري) مع منطق ذهاني باطني يغلب عليه التفجع والمشاهدة وليس منطق الجسد المفقود أو القرين ولا أطراف الشبح كما هو حال الثنائي غادة السمان وكوليت خوري. فالثنائي السوري يميل للانتحارية وتطهير الدنس بالموت كباب من أبواب الخلاص، بينما تنحو ممدوح لشكل من أشكال المعاتبة والتحريض فقط. بمعنى أن كتابتها احتفالية وليست عدمية.
وعودا على بدء كان تعريف الدكتور كاظم جازما بتوسيع الرواية النسوية لتشمل كل نتاجات المرأة وليس حصرا النصوص المكتوبة لأجل المرأة. وهذا يعاقب الرواية النسائية بكتابات متدينة ومطيعة لدرجة أنها تغالب نفسها مغالبة ولمصلحة مجتمع القهر البطريركي. ويمكن أن ندعوها الكتابات المصابة بعقدة الغواية الذكورية أو عقدة جوكستا. ثم يعتبر سميرة المانع رائدة في الكتابة النسائية، ويستعير من نازك الملائكة شروط الريادة وهي: أن لا تكتفي بالسبق التاريخي، وأن تكون مؤثرة، وفتحت الباب لنصوص تالية تحذو حذوها. (ص 36). ولكن هذا لا يمنعه من اعتبار “زهرة الأنبياء” لسالمة صالح، الصادرة عام 1994، على أنها منعطف واضح في الكتابة النسائية. وهي في الواقع عمل قوامه المشاهدة والانطباعات العابرة، وبلغة خيال واقعي ذاتاني مجنح على طريقة سليم بركات في سيره الريفية مثل (الجندب الحديدي) وما أتى بعدها. ولذلك يمكن أن تضع هذا النموذج في عداد ما يسميه الدكتور كاظم باسم “المحاولات والحضور الخجول / ص38” بمعنى أنها عمل تسعيني لكن روحه خمسينية.
صالح الرزوق
........................
هوامش:
4- انظر:
Jaques Derrida. Acts of Literature. Routledge. 1991.
5- انظر كتابي: الحركة الرومنسية في القصة السورية - رؤية في مرحلة. منشورات النور. ألمانيا. 2017.
رواية (الذئاب على الابواب) للروائي احمد خلف
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. جمال العتابي
وضوح الرؤية والموقف في فيض من المستويات السردية
تتمثل عقدة رواية (الذئاب على الأبواب) للروائي والقاص العراقي أحمد خلف، التي صدرت في عام 2019، ببطلها يوسف النجار، لقد وضع أحمد شخصيته الرئيسة في أتون الأزمة، في قلب المحنة، في اللحظة الحاسمة من تاريخ المأساة، إن مجتمعاً يقوم على القمع بأشكاله المختلفة، المجتمع المقهور من الداخل والخارج، يدرك فيه الإنسان مقدار الإستلاب والإحباط الذي يحيق به، إذ يحيله إلى كائن عاجز غير قادر على كسر قيوده المكبلة لحريته، هذا الواقع يسرق أحلام المرء حتى لوكانت وسيلة للمقاومة، إن درجة الحس المأساوي التي تعصف بأحمد خلف، جعلت منه صوتاً خاصاً، يختلط فيه الألم بالأمل، الشعور الحاد بالمسؤولية، والعجز عن القيام بها، الإلتصاق بالأرض والكفر بها، الإيمان بالمجتمع والإغتراب عنه، من هنا يتابع أحمد خلف خطه الذي إنتهجه بصلابة وقوة ودون مهادنة.
الروائي أحمد خلف لا يعتمد تسلسلاً تاريخياً في الكتابة، فتلك ليست مهمته، لكنه يعتمد الأحداث في عهدين مختلفين لكن متصلين، مادة لبناء معماره الفني الروائي، وهذا ما يقتضي أن يكون قد عاش حرارة أحداث العهدين، وبأسى عميق، هذا ما آل اليه حال العراق من ألم وحزن معمق، وفجيعة أشاعت الخراب وراكمته في زمن الديكتاتورية والقمع والإستبداد، وما تركه الإحتلال وحكم الطوائف من فساد وخراب أبشع.
إن شخصية يوسف النجار بطل الرواية، تمثل نتاجاً طبيعياً لهذا الواقع، في مراحل القهر والفقر والظلم، وبعد أن فقد زوجته وابنته في حادث تفجير إرهابي لمنزله، وفي واقع الحال، فأن يوسف يستسلم للواقع والقبول به، وهو يعاني من وجع لا يمكن البوح به أو الإعلان عن رفضه إلا سراً، لكنه سيطر على سلوكه ونمط تفكيره، وقاده إلى مزيد من الأوهام والخيالات، ليتحول هذا السلوك إلى حالة مرضية نفسية، يمكن وصفها بالبارانويا، وهي إضطراب عقلي، يعرف بجنون الإرتياب، أو هي نمط تفكير ينجم عنه الشعور غير المنطقي بفقد الثقة بالناس، والريبة منهم، والإعتقاد بوجود تهديد ما، والإحساس بوجود عيون ترصد وتراقب، تحاول الحاق الأذى فيك، سواء كان ذلك بوجود دليل، من عدمه.
تشارك رواية الذئاب على الأبواب روايات الكاتب فرانس كافكا، في التعبير عن إنسحاق الإنسان، وعدم تمكنه من التمرد، أو التخلص من الكواببس التي تحوله كائن مسخ، على الرغم من ان الروائي حاول ان يعطي بطله شحنة ثورية تسترد توازنه وتخفف من قلقه، في لحظة إختيار للمواجهة، مع خصم مبهم يكون على مرمى من فوهة مسدسه الذي إشتراه لتحقيق تلك الغايات.
إستطاع أحمد خلف أن يكشف لنا معنى أعمق من خلال فيض المستويات السردية للواقع، ورؤية الواقع هذه هي بممضمونها رؤية في أسباب الخراب ودوافعه، فالبناء قائم على ضمير المتكلم، مع ساردين آخرين متداخلين، بلغة يختلط فيها المحسوس بالمرئي، الداخلي بالخارجي، في تآلف وإنسجام، لغة أتقنها الكاتب، وتألق في إستخدامها وتوظيفها فنياً بما تواكب حركة الأحداث، ويعمق أثرها لدى المتلقي. هكذا ينقل لنا أحمد نمطاً جديداً من شخصياته، تنوء بثقلها في حياة المجتمع العراقي، وباتت واحدة من أبرز صفاته السلوكية العامة، وإذ يتحرك السرد في عدة إتجاهات فانه ينسج الشاشة التي ترتسم عليه الدلالات والرموز، وعلاقاتها بالزمن والوجود، والحياة، فكأنه بذلك يرسم درب الخلاص من أزمات الوطن الكارثية.
يفسح الروائي مجالاً بإتجاه الماضي، لا من أجل الماضي نفسه، بل ليكون رؤية للحاضر، إذ يلتقي يوسف النجار بمصادفة عابرة، بزميلة الدراسة الجامعية (الأربعينية عبير)، وتتجدد العلاقة، بنمط عاطفي، يحاول النجار من خلالها ان يعوض خساراته، إلا انه بمثابة هروب إلى اللاشيء، وما كانت عبير قادرة ان ترمم حياة النجار، وهي الأولى بالحاجة إلى هذا الترميم العاطفي والنفسي، الإثنان عاجزان عن التعامل مع الأشياء، فيتراجعان كل منهما الى دواخله هرباً من العنف، والفوضى، ومن اللامعقول الذي يحيط بهما، حائران ومتناقضان غاية ومعنى، إنه العبث والضياع، وسؤال يرتسم عن معنى المأزق القابع في قاع هذه الرواية، وربما يعود ذلك الى الطبيعة التي درجت عليه الكتابة الروائية عند أحمد خلف، ولاسيما في تناوله الواقع العراقي في أحداثه المتشابكة والمعقدة. وحين يجد شرط ومعنى الكتابة متيسرين لديه. وأهم ما يستوقف المتابع لكتابات أحمد خلف هو الصلابة والوضوح في الرؤية والموقف، والنظرة المنحازة بثبات وإستقامة، لعالم يشتد فيه الصراع من أجل الإنتماء والهوية، أو موقف البطل في التعبير عنها.
في الرواية جمالية إستثنائية غير الشكل، وان كان شرطاً مهماً في الكتابة كأسلوب، أو كتقنيات أسلوبية سردية، بل هي جمالية دلالة تحاولها الكتابة، وتتوخى توظيفها في محاربة اللاجمالي في الواقع والتاريخ، انها مواجهة الكتابة ضد العنف واللاعدالة.
جمال العتّابي
العالم العلامة د. محمد جاسم حمادي المشهداني شيخ المؤرخين
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. علي ياسين خضير
الحمُد للهِ الذَي فَضلَ العلَم وشرفَ العُلماء وَجعَلهم ورثة الأنبياء وفضلهم على الكثير منَ العباد ورفع درجاتهم إلى أعلى الدرجات في الدنيا والاخرة واحمد الله جل وعلا ان اكون ممن تَشرفوا بالانتساب الى العلم طلباً، وتتبعاً للعُلماء حباً وتقدير واعتزاز، وجعلني حافظ للعشرة الودية مع من احببتهم اساتذتي الذين احاطوني بعطفهم الأبوي وبعلمهم الغزير ومن هذه الاطلالة رغبت نفسي ان اكتب عن احد اساتذتي الأجلاء الكبار من العلماء الكرام الذي كان لي الشرف ان يكون احد اساتذتي في الماجستير والدكتوراه وعشت معه فترة طويلة من الزمن والى الان، فكان صاحب فضل عليَّ بعد الله، الا وهو الاب المربي الكبير العلامة الاستاذ الدكتور محمد جاسم حمادي المشهداني الامين العام لاتحاد المؤرخين العرب، وعميد معهد التاريخ العربي والتراث العلمي للدراسات العليا، ورئيس الهيئة العربية لكتابة تاريخ الانساب.
الذي استحضر في عقلي وقلبي ووجداني الشيء الكثير، سيما وانه يعد علماً من أعلام الوطن العربي الزاخر بعلمائه ومفكريه ورجاله الذين احيوا تراث الامة وحضارتها، فهو شخصية وطنية في العراق،وشيخ المؤرخين وقدوة للباحثين والمفكرين، إنه سليل الدوحة المحمدية من اشراف ال بيت الرسول عليهم السلام فقد نال شرف النسب والعلم وجدة السيد الزاهد حمادي عباس الحسيني المشهداني من كبار علماء اهل التصوف في بغداد، فيعد العلامة الاستاذ الدكتور محمد جاسم المشهداني حفظة الله مدرسة تاريخية وأدبية وفكرية متميزة أسهمت في إثراء الحركة العلمية في العراق وسائر أقطار الوطن العربي، ساهم بشكل كبير من خلال مؤلفاته التي بلغت 80 مؤلف ويجاوز 270 بحث، 350 مقالاً ونيف، كما اشرف على اكثر من 450 رسالة ماجستير ودكتوراه، الامر الذي يدعوني ان اقف لهذا العالم وفقه اجلال وتقدير فهو رمز وطني في بلدنا العراق فيعد قامة كبيرة عرفه العراق في العصر الحديث والوطن العربي، بل من عمالقة التاريخ والفكر والأدب في العالم العربي، قضى جل عمره في البحث العلمي والتأليفِ وخدمة وطنة وتراث الامة الاسلامية لإنتاجه العلمي الكبير ومؤلفاته في أفادة المكتبة الاسلامية وستظل تفيد أجيالاً من الدارسين والمثقفين وطلاب العلم، فعلا عالما جليلا أغنى المكتبة العربية بنفائس إبداعاته في التاريخ الاسلامي وعلم الانساب والمنهج العلمي والنقدي الامر الذي يجعله رائداً ومؤسسا لمدرسة فكرية قائمة بذاتها عرفت باسمه فنجد العديد من الكتب التي الفت وتقارن في المنهج النقدي وخاصة في مجال الموارد كان المشهداني حاضر فيها ولمنهجه تبع الأغلبية، وترك اثراً في نفوس سامعيه من خلال حضوره الفاعل في البحوث والمحاضرات في المحافل العلمية والمؤتمرات والندوات وورش العمل فكان العقل والنفس تصغي قبل الاذن، فكان من اساتذة الجامعة المستنصرية في بغداد لحين تقاعده استاذاً معطاء، لم يكن المشهداني مؤرخاً فحسب بل كان شاهدا على تاريخ العراق وحضارته فواكب احداث عصره وصبر في صعاب المواقف التي مرت على بلده وتفاعل معها بمواقفه المشرفة فرفض ان يترك بلدة ويستلم جامعات ومؤسسات يديرها في بلدان عربية وافنى عمرة وصحته في التأليف والبحث العلمي فأحب وطنة قولاً وفعلاً فكان حاضر دائما في عقله وقلبه وقلمه ومؤلفاته ومحافله الدولية، فعلا هو جوهرة فريدة ورمز كبير شيخ المؤرخين وقدوة الباحثين، ووفق أبناءه وتلاميذه ومحبيه للاقتداء به والسير على طريقه المستقيم .
بقلم الاستاذ المساعد الدكتور
علي ياسين خضير
مبادىء الاصلاح في النظام الاشتراكي في فيتنام
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عادل حبة
بقلم الكاتب الإيراني م.ف.هاشمي
ترجمة: عادل حبه
اضطر الشيوعيون الفيتناميون، بعد محاولات فاشلة لتنفيذ خطة الخمس سنوات في مواجهة التضخم المتصاعد، إلى اتخاذ خطوات نحو الإصلاح. tفي عام 1986، انعقد المؤتمر الوطني السادس للحزب الشيوعي الفيتنامي وأقر برنامج "دوي موي" للتحديث، والذي بشرع لاحقاً في فيتنام بإنشاء اقتصاد اشتراكي للسوق. كان تحديث اقتصاد البلاد على أساس اقتصاد السوق، مع الحفاظ على التوجه الاشتراكي للبلاد، خطوة جديدة وصعبة وغير مسبوقة في تاريخ البلاد، مما تطلب التجربة وإحتمال الخطأ. كان الهدف هو تحويل الاقتصاد إلى اقتصاد اشتراكي محوره السوق، والتخطيط وتقسيم الأنشطة الاقتصادية بين الشركات الخاصة والمملوكة للدولة والاعتراف بالملكية الخاصة للمؤسسات الصغيرة. وتقرر تقسيم الأسهم المعروضة في سوق الأوراق المالية بثلاثة أقسام. أسهم الدولة التي تشكل غالبية الأسهم، وأسهم العاملين في مؤسسات الدولة، وأسهم المؤسات العائدة للقطاع الخاص. ووافق المؤتمر على برنامج الإصلاح المتكون من خمسة بنود على النحو التالي: 1) السعي لزيادة إنتاج المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية والصادرات ؛ 2) استمرار رقابة الدولة على الرأسماليين والتجار الصغار، مع دعم الاقتصاد المختلط 3) إعادة هيكلة نظام التخطيط وجعله أكثر كفاءة 4) إعادة هيكلة الإدارات لجعلها أكثر كفاءة 5) تحسين الهيكل التنظيمي للحزب وقيادته الحزب وطاقمه. في ذلك الوقت، كان النظام السياسي الفيتنامي لا يزال نظاماً موحداً شديد المركزية، ويُفترض فيه تولي قيادة الحزب الشيوعي الفيتنامي مبدأ الهيمنة عليه. وكان النهج المتبع في اقتصاد فيتنام هو "التوجه الاشتراكي" من خلال "التخطيط المركزي". في هذا النظام، لم يكن هناك مجال لاقتصاد السوق والملكية الخاصة والاندماج في الاقتصاد الدولي، لأن تحقيق هذه الأشياء يتطلب إصلاحات قانونية واسعة في مختلف مرافق الدولة.
وسرعان ما بدأت تظهر الآثار الإيجابية لبرنامج تحديث البلاد على حجم الناتج المحلي الإجمالي، واستقرار الاقتصاد الكلي، وتنمية الصادرات، والاستثمار الأجنبي المباشر، والحد من الفقر. ففي النصف الأول من هذا القرن، بلغ متوسط معدل النمو الاقتصادي السنوي لفيتنام 7.1 في المائة، وهو أعلى معدل تم رصده في العالم. وبلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي لفيتنام، الذي كان 18.1 مليار دولار في بداية الإصلاح ، إرتفع إلى مبلغ 124 مليار دولار في بداية القرن. وتزايد دور القطاع الخاص في قطاع الخدمات يوما ًبعد يوم، بحيث زادت حصة هذا القطاع في اقتصاد البلاد من 41% إلى 76 %. وأعلن المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي الفيتنامي صراحة أن اقتصاد السوق لا يعني فقط الرأسمالية، ولكنه ينطوي أيضاً على الإستفادة من منجزات الحضارة الإنسانية، وبالتالي يمكن دمجه مع الاشتراكية.
لكن فيتنام ، بإعتبارها بلد ناشئ متوسط الدخل، واجهت أيضاً تحديات كبيرة. ففي بداية العقد الثاني من القرن الحالي، شهدت فيتنام أحد أعلى معدلات التضخم في آسيا بنسبة 16٪ سنوياً، كما عانى المستثمرون الأجانب من ركود بسبب الركود الاقتصادي العالمي، وكان الاقتصاد العالمي متردداً في العمل في فيتنام. ونصحت دراسة أجراها معهد ماكينزي في فيتنام الحكومة بالحاجة إلى إصلاحات في نظام التعليم في البلاد، إذا أريد لاقتصاد فيتنام أن ينمو بنسبة 7 إلى 8 في المائة بحلول عام 2020. وكان محور هذه الإصلاحات هو نقل جزء من سلطة الحكومة إلى السوق. وكان الفقر لا يزال سائداً في الريف ، وكانت الإصلاحات أمر حتمي بالنسبة لدولة ينحدر 80 في المائة من سكانها من الريف ولازال يعتمد ثلثيهم على الزراعة لكسب الرزق.
ومن ناحية أخرى، بعد انهيار كومنولث الدول المستقلة، اضطرت فيتنام إلى تحرير تجارتها، وخفضت قيمة عملتها الوطنية، ووضعت التنمية الاقتصادية على جدول الأعمال. وعلى الرغم من أن عملية الإصلاح في فيتنام بدأت رسمياً في المؤتمر السادس للحزب الشيوعي، إلاّ أنها قد بدأت منذ فترة سابقة، حيث تم إضفاء الطابع التجاري على التعاونيات، وطبقت الإدارة الفردية على التعاونيات، ونُسب إليها فائض الإنتاج من التعاونيات. كما تمت إزالة التحكم في الأسعار على بعض المواد الاستهلاكية. وفي ظل هذه الظروف، مع وفاة لو دوان الأمين العام للحزب الشيوعي الفيتنامي، وانتخاب نجوين فان لينه خلفاً له، بسارعت حركة الإصلاح. وكان الأمين العام الجديد شخصية إصلاحية وزعيم سابق لجبهة التحرير. ومع ذلك، فإن الإصلاح الاقتصادي تطلب تغييراً سياسياً، وإصلاحاً في نظام التعليم والمؤسسات المملوكة للدولة، وفي نظام ملكية الأراضي، بالإضافة إلى حماية أكبر لحقوق الإنسان. لقد أضحت الاشتراكية والتصنيع اليوم، مصحوباً بالتحديث وفي مجتمع مفتوح قائم على أساس تطوير الصناعة والخدمات. وكان لا بد من إجراء هذه التغييرات بطريقة لا تعرض الاستقرار السياسي للبلاد للخطر.
إن نمو القطاع الخاص، وتطور شبكة الإنترنت والتحديث السريع ، فضلاً عن عوامل أخرى مثل التعاون الدولي والعضوية في منظمة التجارة العالمية (WTO)، و APEC ، و AFTA ، واللامركزية في الهيكل الاقتصادي والإداري للبلاد، يمكن أن يؤدي إلى عدم الاستقرار. ولذا كان يجب النظر في النمو الاقتصادي في وقت واحد في سياسات التنمية. لقد كان من الضروري أن يكون النمو الاقتصادي مصحوب بالتقدم الاجتماعي والمساواة منذ البداية وفي جميع مراحل التنمية. ويجب عدم التضحية بالأهداف الاجتماعية من أجل التنمية الاقتصادية. لذلك ، عندما واجهت فيتنام توصيات البنك الدولي فيما يتعلق بتحرير السوق، رفضت الحكومة الفيتنامية خطط التكيف الهيكلي التي طرحها البنك، وهو الشرط لتقديم القروض لفيتنام، بسبب تركيزها على خصخصة الشركات المملوكة للدولة. ومع ذلك، ادعى البنك الدولي مراراً وتكراراً أن فيتنام اتبعت نموذجاً اقتصادياً أوصى بها البنك؟. هذا الادعاء يهدف لتسجيل النجاح الذي حققته فيتنام لصالح البنك الدولي. وعلى أي حال، قام الحزب الشيوعي وحكومة فيتنام بإجراء تغييرات جذرية في المجال الاقتصادي وحرروا القوانين الخاصة بالاستثمار الأجنبي والتجارة في مطلع القرن الحالي. وتم توقيع الاتفاقيات مع شركاء فيتنام الرئيسيين، بما في ذلك اتفاقية التجارة مع الاتحاد الأوروبي ، وآسيان ، ومنطقة التجارة الحرة لرابطة أمم جنوب شرق آسيا (AFTA) واتفاقية التجارة الثنائية مع الولايات المتحدة. وأخيراً، بعد 11 عاماً من المفاوضات، أصبحت فيتنام عضو في منظمة التجارة العالمية. وتمت عملية الإندماج بالاقتصاد العالمي.
بموجب قانون الاستثمار الأجنبي الجديد، تم ضمان ملكية 100 ٪ للمستثمرين الأجانب، وتم توفير إعفاءات ضريبية واسعة النطاق لهم. كما تم الاعتراف بحق الحركة غير المحدودة لرأس المال الأجنبي داخل وخارج البلاد وبذلك استطاعت الدولة التي كانت على وشك الانهيار الاقتصادي أن تتجه صوب الرفاه الاجتماعي ببرنامج تحديث اقتصادي، ورفعت من مكانتها العالمية من خلال المشاركة في التعددية الإقليمية والمؤسسات الدولية. وأصبحت البلاد، التي كانت تعاني من نقص مزمن في المواد الغذائية، ثاني أكبر مصدر للرز في العالم بعد تايلاند، ورابع أكبر منتج للبن في العالم، وانخفض معدل الفقر من 70% في بداية الركود إلى أقل من 10%. وعندما بدأ دنغ شياو بينغ الإصلاحات في الصين، تجنبت فيتنام بجدية التقليد المحض والآلي لتجربة الدول الأخرى.
ومع ذلك ، لم يطرأ تغيير أساسي على القطاع العام في الاقتصاد الفيتنامي، واستمر العمل بتأسيس المؤسسات الكبرى المسماة "الشركات العامة" كي تلعب دورها. ووفقاً لتلك الخطة، استفادت فيتنام من التجربة الصينية وتم أيجاد ما سمي ب"أبطال الوطن" أي تأسيس مؤسسات مربحة ومؤثرة على مستوى الطراز الأعلى في العالم، بحيث أصبحت قادرة على المنافسة مع الإحتكارات العالمية. وعلى هذا الأساس تم دمج المؤسسات الصغيرة التابعة للقطاع العام وتشكلت 12 مؤسسة انتاجية كبرى، وتراوحت حصة مؤسسات الدولة في الرأسمال الثابت ومن الإئتمان البنكي والعمالة من 19، 27، 45، 39 على التوالي.
وقد أدىت هذه الهيكلية إلى أن يتصور بعض الخبراء بأن فيتنام تنوي الإسترشاد بـ"keiretso "(وهي مؤسسة يابانية غير رسمية في اليابان تنظم مجمع النشاطات التجارية) أو نموذج "Chaebol"، وهي المؤسسات الكبيرة المملوكة للعوائل في كوريا الجنوبية، حيث تتجاوز سلطة المالك سلطته القانونية) في البلد. بينما كان هدف الحكومة والحزب الشيوعي الفتنامي هو الرقابة على عملية تصنيع البلاد والحفاظ على نظام الرفاهية فيها، وأن يتمتع القطاع العام بإمتيازات أكثر من القطاع الخاص. ومع ذلك، لم يمض وقت طويل حنى تم الكشف عن حالات سوء الإدارة في الشركات المملوكة للدولة. فوفقاً لبيانات وزارة المالية الفيتنامية، بلغ الضرر الذي لحق باقتصاد البلاد من سوء إدارة المؤسسات العامة 26.1 مليار دونج (1.25 مليار دولار) سنوياً. لكن قادة فيتنام لم يروا أي تناقض بين اقتصاد الدولة وبين اقتصاد السوق، وإعتبروا نقاط الضعف هذه عابرة وقابلة للإصلاح. كما إعتبروا أن القطاع العام هو العمود الفقري للاقتصاد الوطني.
في الوقت الحاضر ، تشكل 90٪ من تجارة فيتنام مع أستراليا وأوروبا وأمريكا الشمالية. وكان النفط الخام والرز والمعادن يمثل نصف صادرات فيتنام قبل عشر سنوات، ولكن الآن انخفض هذا الرقم إلى أقل أكثر من 25٪، أما بقية سلع التصدير الفيتنامية فتشمل المأكولات البحرية والملابس والمطاط والأحذية والمنتجات الخشبية وبرامج الكمبيوتر وغيرها من الأجهزة الإلكترونية. ومن بين جميع الشركاء التجاريين لفيتنام، تلعب الصين والولايات المتحدة الدور الأبرز. وتلتزم فيتنام في علاقاتها مع بقية العالم بشعار"الأربعة الأخيار": أي حسن الجوار، الأصدقاء الحميمون ، الشركاء الجيدون، الرفاق الطيبون. وتحاول فيتنام عدم التورط في النزاعات بين شركائها التجاريين، لذلك لم تنحاز فيتنام لأي طرف في الحرب التجارية الأخيرة بين الصين والولايات المتحدة، لأن السوق الأمريكية تحتوي على أعلى نمو من الصادرات الفيتنامية ومعظم وارداتها من الصين.
بذل المؤتمر السادس للحزب الشيوعي الفيتنامي جهوداً شاملة لتنظير خطة "دوي موي". وكانت من ضمن هذه الجهود التغلب بشكل تدريجي على الدوغمائية التي كانت رائجة والسطحية والتبسيط في التعاطي مع المقولات الإشتراكية. فعلى سبيل المثال، جرى فهم الاشتراكية على أنها نقيض للرأسمالية، أو إنها قفزة على الرأسمالية في بلد مثل فيتنام، أ أنها بمثابة الحرمان من القيم والمكاسب التي حققتها الرأسمالية، وسادت نظرة ميكانيكية ودوغمائية لموضوعة الإشتراكية. هذه النظرة تقتصر العلاقة الجدلية بين الاشتراكية والرأسمالية فقط على بطلان الإنتاج البضاعي وقانون القيمة، وعلى مصداقية الاقتصاد القائم على التخطيط المركزي ودفع الإعانات الإجتماعية.
إن المبالغة في دور الملكية العامة وسوء فهم العلاقة بين القوى المنتجة والعلاقات الإنتاجية، يؤدي إلى افتراض أن العداء للملكية الخاصة هو مرادف للقضاء على الاستغلال، ويتجاهل دور القوى المنتجة في تشكيل هذه العلاقات. إن فهم الحزب الشيوعي الفيتنامي للاشتراكية ينعكس "البرنامج السياسي لإعادة البناء الوطني في الانتقال إلى الاشتراكية" الذي تبناه المؤتمر السابع للحزب. وجاء في الوثيقة الصادرة من المؤتمر أن "المجتمع الاشتراكي الذي نسعى إلى بنائه هو مجتمع مزدهر وقوي يعتمد على المساواة والديمقراطية والسلوك الحضاري. والشعب في هذا المجتمع هو الذي يدير شؤونه". ويركز البرنامج على ما يلي: 1) تعزيز الوحدة الوطنية حول اتحاد العمال والفلاحين والمثقفين 2) تعزيز الديمقراطية الاشتراكية، والتأكيد على أن الاشتراكية لا يمكن تحقيقها بدون الديمقراطية 3) التركيب المنسجم بين مصالح المجتمع والتعاونيات والأفراد 4) التصنيع والتحديث وتكامل إقتصاد السوق صوب الاشتراكي 5) بناء الديمقراطية الاشتراكية وتعزيز حقوق الشعب بصفته سيد المجتمع 6) النمو الاقتصادي والتنمية الثقافية والتقدم الاجتماعي والمساواة 7) بناء الاشتراكية بالتوازي مع الدفاع عن الوطن الاشتراكي 8) تقوية العلاقات الخارجية والصلة مع العالم.
تواجه فيتنام الآن عدة تحديات رئيسية: أولاً، تحدي الاستقرار والأمن الداخلي. فلا يمكن تطبيق خطة "دوي موي" بدون سلام واستقرار. ثانياً، إعادة هيكلة الاقتصاد المحلي حتى تتمكن الدولة من التكيف بشكل أفضل مع الاقتصاد العالمي وتتحمل آثار التقلبات المالية العالمية. ثالثاً، استخدام القدرة الاقتصادية لتعزيز مكانة الدولة في العالم، الأمر الذي يتطلب في حد ذاته تعميق العلاقات الاقتصادية والسياسية والأمنية مع الشركاء الرئيسيين، وخاصة الصين والولايات المتحدة وروسيا واليابان والهند. رابعاً: العلاقة المتبادلة بين معدل النمو ونوعية التنمية الاقتصادية. خامساً، العلاقة بين النمو الاقتصادي السريع والتنمية المستدامة. سادساً، العلاقة بين النمو الاقتصادي والمساواة الاجتماعية. سابعاً: العلاقة بين إعادة بناء الاقتصاد وإحياء النظام السياسي. ثامناً: برنامج إعادة بناء المجتمع واستقراره، وأخيراً العلاقة بين الاستقلال والحكم الذاتي من جهة وبين الاندماج في المجتمع الدولي من جهة أخرى.
وعلى الرغم من أن الإصلاحات الأساسية في المجالات الحاسمة مثل اقتصاد السوق وتحرير التجارة تتم بوتيرة أسرع بكثير مما كانت عليه في مجالات أخرى مثل التعليم العالي وإدارة المؤسسات المملوكة للدولة، فإن تنفيذ خطة"Doi Moi" على مدى العقود الثلاثة الماضية قد أحدث تغييرات اجتماعية واقتصادية واسعة النطاق في فيتنام. وتشير هذه العملية التي استمرت ثلاثون عاماً إلى تعمق عدم المساواة في المناطق الريفية وبين الأغنياء والفقراء، وإذا ما استمرت هذه العملية، فهذا يعني أن مليون عامل سيدخلون سوق العمل الفيتنامي كل عام وسيزداد عدد الفقراء والعاملين بدوام جزئي في البلاد. وتجدر الإشارة إلى أن توسع اقتصاد السوق، شئنا أم أبينا، سيكون مصحوباً بالنفعية والفردية والأنانية وتفضيل مصلحة الفرد على الجماعة، وهو ما يجب على الحزب أن يجد حلاً له. وقد تناول المؤتمر الأخير للحزب الشيوعي الفيتنامي بشكل جدي بعض الأخطاء والفشل الذي واجهه، ومن بينها مسألة حماية البيئة والبيروقراطية والفساد والجنوح والعلل الاجتماعية. إن توفير شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي للشعب الفيتنامي منحت الفرصة له بتوجيه الانتقاد للحكومة وللحزب، ولكنها توفر في الوقت نفسه منصة مناسبة للانحراف عن الأهداف الرئيسية للبلاد، فضلاً عن انتشار الجريمة. ويصبح هذا العامل أكثر أهمية عندما نعلم الآن أن أكثر من 70٪ من الفيتناميين يمكنهم الوصول إلى الإنترنت، بينما في عام 2011 لم يتجاوز هذا الرقم سوى 35٪.
بنية الجاذبية في تشكيل منظور جديد
- التفاصيل
- كتب بواسطة: طالب عمران المعموري
اقتراب نصي لـ(متاحف الطفولة) للشاعر ناصر ابو الورد
في البدء أحاول أن أقترب سياقياً محاولا فهم النص ونسقيا من خلال تحليل بنية النص وتشريحه ومعرفة دلالاته وابعاده الجمالية1
اختيار الشاعر تلك العنونة (متاحف الطفولة) محاولا تحديد البؤرة النصية2 ملمحا ومكثفا لبراءة الطفولة والدعوة في رؤية نور الطفل البريء الذي بدواخلنا، البراءة التي لا تعرف الحقد ولا الحسد وهي رمز الصدق والعفوية.
يحاول الشاعر أن يروي لنا قصة حلم وقصيدة أمل بأسلوب شعري، نثري، سردي وبحكائيه وبألفاظ شفيفة يجعلنا نعيش في أنفاس عذبة وأريج عبق، استشف من حلو كلماته وعذوبتها تعبيرا عن روحه النبيلة الصافية الشاعر ابو الورد شاعرا صافي القلب طفولي الفطرة، عبر عن احساسه الرائع واقترابه من عالم الطفولة، احسن الشاعر في اختيار هذه العنونة التي تمتعت بلغتها الانزياحية الشاعرية بثنائية ومفارقة لفظية (متاحف / الطفولة)
استهل قصيدته بجملة شعرية (أطروا نوافذهم بالسنديان) ترجم لنا معنى البراءة، صور لنا بمخيلة عالم مخملي باذخ يذيب القلب أطره بأكاليل وياسمين .
استطاع الشاعر بلغته الشعرية انزياحا عن المعيار الذي منح النص بنية الجاذبية في تشكيل منظور ورؤيا جديدة كما في نصه:
على بعد حكايةٍ يزرعون لهم جدةً
كي يقطفوا(كان يا ما كان) طازجة
على بعد شرفةٍ تنتظرُهم معشوقةٌ بعمرِ فراشةٍ
على أبواب أعمارِهم تتكسرُ الفواجعُ
احتمل النص في بنيته جذب يرغمنا على ملء الفراغ والفجوة الناتجة عن القراءة بأسلوب انزياحي يحمل قيمة جمالية :
على بعد حكاية/ يزرعون / جدة
يقطفوا/ (كان يا ماكان) / طازجة
على بعد شرفة/ تنتظرهم معشوقة/ بعمر فراشة
على أبواب أعمارهم / تتكسر الفواجع
يحاول الشاعر اثبات وجوده وذاته الشعرية الفذة بأن يخلق لنا عالما من العدم من خلال مفرداته الساحرة المتعددة الدلالات باستعارة والكناية التي هي بحد ذاتها لغة خرق(شعرية)، عكس اللغة النثرية العادية ومخالفة لها ابدع الشاعر في الجوانب الفنية والجمالية التي تكمن في خلق الصور والأخيلة والفكرة وما شابه ذلك من الرؤى من خلالا التشكيل اللغوي، ارى انه قد اضفى لنصه بعدا تجديدياً التي تخللت نصه طاقة تعبيرية مارسها الشاعر لشد انتباه القارئ ويجعله على انسجام وتوافق مع النص الشعري ويبعده عن الرتابة والملل تجلى في:
أيامُهم سربُ أوزٍ مهاجر
غايتُهم أن يبصروا الأقفاصَ فارغةً
غايتُهم أن يبصروا بنادقَ الصيدِ تحتضر
أظهر الشاعر امكاناته الشعرية من خلال شعرية الرؤيا وشعرية اللغة والتي تضمنت شعرية الرمز وبعض التناص والتنويع الداخلي من حيث الايقاع الشعري التي شكلت نسيجا دلاليا لقصيدته والذي ضمن وحدتها وتماسكها
ففي نصه:
بسطاءٌ كسائرِ النمل
حمّلَهم الشتاءُ ما لا طاقةً لهم عليه
بسطاءٌ منذ الصغر
يصلحون الأحذيةَ المعطوبة
تدين ُ لهم الشوارعُ بالهذيان
لهم في كل بقعةٍ مظلمةٍ سفارةٌ مضيئةٌ
لهم طقوسٌ تجعلُ من الجنرالاتِ ربّاتِ منازل
اختصروا العالمَ بطوقٍ من الياسمين
اختصروا أنفسَهم بمرآةٍ تجلسُ أمامَها الحمائم
اختصروا الصديقَ ..بمدينةِ الالعاب
فراشاتُ نبوءةٍ بيضاء
كم سعلوا من البرد
كم ادخروا من السلام
وقفوا على بابِ القابلة
ليقطعوا رأسَ الحرب… قبل الولادة
من خلال توظيف ثنائية التضاد بين عالم الطفولة المضيء والبريء و عالم الظلمانية بتعبير رمزي مبتعدا عن الاشارات المباشرة او اسلوب الشعارات الخطابية اضفى على نصوصه ايقاعا داخليا ضمن الآليات التي اشتغل عليها في توليد ذلك الايقاع هو اسلوب التكرار3 في الكلمة يكاد يكون في معظم قصيدته كما في، على بعد حكاية/ على بعد شرفة، غايتهم أن يبصروا الأقفاصَ فارغةً/ غايتهم ان يبصروا بنادقَ الصيدِ تحتضر، بسطاءٌ كسائرِ النمل/ بسطاءٌ منذ الصغر، لهم في كل بقعةٍ/ لهم طقوسٌ، اختصروا العالمَ/ اختصروا أنفسَهم/ اختصروا الصديقَ، كم سعلوا/ كم ادخروا، لهم في كل بقعةٍ / لهم طقوسٌ، اختصروا العالمَ / اختصروا أنفسَهم /اختصروا الصديقَ، رائحتُهم الطيبة تجاوزت السماءَ السابعة/ رائحتُهم الطيبة فتحت أبوابَ رياضِ الاطفال .
وهكذا أظهر الشاعر براعته في توظيف طاقاته اللغوية وامكانات التعبير ذات صلة بفكر الشاعر ووجدانه و رويته الشعرية .
متاحف الطفولة
أطروا نوافذهم بالسنديان
ركلوا البحر
ولد السندبادُ بفمِه جوازٌ دولي
على بعد حكايةٍ يزرعون لهم جدةً
كي يقطفوا(كان يا ما كان) طازجة
على بعد شرفةٍ تنتظرُهم معشوقةٌ بعمرِ فراشةٍ
على أبواب أعمارِهم تتكسرُ الفواجعُ
أيامُهم سربُ أوزٍ مهاجر
غايتُهم أن يبصروا الأقفاصَ فارغةً
غايتُهم أن يبصروا بنادقَ الصيدِ تحتضر
بسطاءٌ كسائرِ النمل
حمّلَهم الشتاءُ ما لا طاقةً لهم عليه
بسطاءٌ منذ الصغر
يصلحون الأحذيةَ المعطوبة
تدين ُ لهم الشوارعُ بالهذيان
لهم في كل بقعةٍ مظلمةٍ سفارةٌ مضيئةٌ
لهم طقوسٌ تجعلُ من الجنرالاتِ ربّاتِ منازل
اختصروا العالمَ بطوقٍ من الياسمين
اختصروا أنفسَهم بمرآةٍ تجلسُ أمامَها الحمائم
اختصروا الصديقَ ..بمدينةِ الالعاب
فراشاتُ نبوءةٍ بيضاء
كم سعلوا من البرد
كم ادخروا من السلام
وقفوا على بابِ القابلة
ليقطعوا رأسَ الحرب… قبل الولادة
الكلُ ينتظرُ منهم بشارةً لا يزفُّها إلا نبي
على أوتارِ عودهم
أخضرَّ النعناع
مكتوبٌ على سيماهم
لابدَّ للغدِ أن يكونَ سعيدًا
عند نافذتِهم
تسترخي كلُّ النوافذُ
على سواحلَ شطآنهم
تعقدُ النوارسُ اتفاقيةَ العودة
اشتروا أطنانًا من السكر.. ليغيروا طعمَ الرحيل
رائحتُهم الطيبة
تجاوزت السماءَ السابعة
رائحتُهم الطيبة
فتحت أبوابَ رياضِ الاطفال
أبدلت أقلامَ الرصاصِ
بقضبانٍ من الحلوى
كم يعشق ُ الاطفالُ ..أصابع العروس
عندهم كرةٌ أرضيةٌ بحجمِ كرةِ الطاولة
يغسلونَها بماءِ الورد
زرعوا قلوبَهم عند مفترقِ الطرق
عالمُهم تحسدُه العوالمُ الاخرى
أحمرُ الخدود
ناعمُ الملمس …حريريُّ الكلام
منه تستوردُ بضائعُ السعادة
مقابرُهم تحفةٌ نادرة
تذكرُ من زارها ..بأزليةِ الضفاف
هنا يرقدُ قيسُ بن الملوح
هناك قبرُ روميو
سعداءٌ ينسون الغرامَ تحت الأرض
تنمو قبلُهم أقحوانا
زهورٌ بريةٌ على مدِّ البصر
عالمٌ أعنفُه أن تقولَ لمن تحبُ
خذها مني قبلةً حارةً
عالمٌ يكرم (رعد عبد القادر) بلبلاً ذهبياً
عالمٌ يقدسُ الوقوفَ على قبرِ رامبو
عالمٌ لا نجدُه ألا في متاحفَ الطفولة
***
بقلم طالب عمران المعموري
.......................
المصادر
1- الشعرية عند أدونيس بين المفهوم والتجريب/ سعد بكير، رسالة دكتوراه، الجزائر، جامعة السانيا، كلية الآداب، اللغة العربية، 2013 .
2- التجديد في الشعر العراقي، سعد الساعدي، ط1، دار المتن، بغداد، 20202.
3- الخصائص الاسلوبية (رسالة ماجستير)، فوزية بنت محمد بت ابراهيم، كلية اللغة العربية والدراسات الاجتماعية / المملكة العربية السعودية.
رواية قيامة البتول الأخيرة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: الكبير الداديسي
أو عندما ينبعث الفن من دمار الحروب
رواية قيامة البتول الأخيرة (الأناشيد السرية)1 آخر أعمال الروائي والقاص السوري زياد كمال حمامي وهي ليست من الأعمال المغلق والمنغلقة على ذاتها التي يصعب على الدارس إيجاد منفذ لولوجها، ذلك أنها مشرعة الأبواب ويسهل على أي ناقد مقاربتها، فمداخلها وعتباتها من العنوان، إلى المقطع المقتطف من رسالة الإله بعل في الصفحة الأولى، مرورا بلوحة الغلاف وبداية النص إلى آخر جملة بنهاية الرواية.. تغري بالدراسة. إضافة إلى تعدد محاور محتوى الرواية وتنوع التيمات والإحالات إذ تتنوع القضايا التي لامستها الرواية بين القضايا المحلية، الوطنية، القومية والإنسانية.. مع تداخل السياسي والاجتماعي بالاقتصادي والثقافي، لتسبح بالقارئ بين عوالم متعددة ومواضيع متنوعة منها: الحب، التسامح، الصراعات العائلية، علاقات الجيران، مشاكل الشباب والمراهقين، وضع الأقليات في الوطن العربي، الصراعات الطائفية، القتل، اغتصاب الأحياء والموتى، الفساد، التطرف، وضع اليهود في سوريا، النزوح، شظف الحياة، المكر والخديعة في العلاقات الإنسانية، الصراع العربي الإسرائيلي... لتبقى الحرب وتأثيرها على المجتمع السوري وما نتج عنها من تغير في طباع وعلاقات السوريين أهم تيمة في الرواية. وكل تيمة من هذه التيمات وغيرها تستحق قراءة نقدية خاصة، لكننا في هذه المحاولة سنحاول الوقوف على نقطة قد تبدو هامشية وأقل قيمة مقارنة مع باقي القضايا الأخرى، وهي دور الفن (النحت) في الرواية؟ وما قيمة الفن وسط الحرب والقتل؟..
لابد من الإشارة في البداية إلى أن ما جعلنا نختار هذا الموضوع دون غيره، بالإضافة إلى حضور النحت اللافت بين ثنايا الأحداث واشتغالنا على التعالق بين التشكيل والرواية العربية، هو افتتاح الرواية وانتهاؤها على إيقاع النحت:
- فهي تبتدئ وضربات البطل عبد السلام النحات على الصخر ينتحت تمثالا فكانت أولى الجمل بالرواية: (ضربات إزميل ناعمة تتنَّزل على الرأس تفتح حدودا ضيقة، ومتاهات متشابكة، تتشّكل على جسد الكتلة الصخرية الصماء، تلك القطعة التي تشبه في أخاديدها وجه زهرة اللوتس التي تعيد تشكيل نفسها، بنفسها، وتنبض بكل هو مدهش ومختلف ومذهل. تتوالى الضربات المتتالية من يد: عبدالسلام، الرشيقة، تظهر ملامح الخصب، والانبعاث من الرماد لجسد تمثال "الحريـة" الصفحة11. لتقدم لنا البطل وهو يتفرّس في أركان القبو "الكهف"، المُكتَظّ بمنحوتاته وأيقوناته، وعدّة تماثيل نصفيّة لشخصيّات تاريخية وفنّيّة، وبعض رسوماته السورياليّة الصفحة11.
- وتنتهي الرواية والبطل يضحي بنفسه متحملا طلقات الرصاص من أجل صون تمثال الحرية الأثري وإنقاذه من المهربين وإيصاله إلى المتحف مفضلا فداء التمثال بروحه على أن يتم تهريبه خارج حلب: (وسقط على الأرض، مضرّجا بوطنه، نازفا، مشيرا بإصبعه إلى النعش، لحظتها، اقتربوا منه، نظر بعضهم إليه، وكأنّه يقرأ كتابا، أو يشاهد لوحة غريبة، وقبل أن يغمض عينيه، سمع صرخة مدوّية من أحد الحرَّاس:
- سيّدي! سيّدي! في الصندوق تمثال!)
وبين هذين المشهدين (البداية والنهاية) المشكلين لدقتي الرواية، ينسج السارد خيوط حكايته كما ينحت النحات معاناته في الصخر الأصم (الصفحة 11.) وهو ما يفرض على أي قارئ أسئلة من قبيل: لماذا اختار السارد نحاتاً بطلاً لروايةٍ موضوعها الحرب والاغتصاب؟ وماذا القيمة المضافة التي يمكن أن يضيفها فن النحت لرواية حرب؟ وهل يمكن أن يكون للفن(النحت) أي دور في إيقاف الحرب أو على الأقل التخفيف من حدة المأساة التي يعيشها الشعب السوري روائيا؟
قبل الخوص في هذا الموضوع نلفت عناية القارئ إلى تعدد الفنون التي وظفها السارد في بناء روايته سواء منها الفنون الأدبية (كالشعر)ـ أو الفنون الإيقاعية (الرقص والموسيقي) أو الفنون البصرية (السينما والتلفزيون)، أو الفنون التشخيصية (المسرح)، أو الفنون التشكيلية بمختلف تلويناتها من عمارة، تشكيل المجوهرات الرسم، والنقش.. ليبقى النحت هو ذلك الخيط الرابط بين مختلف هذه الفنون ومن بين أهم القوى الفاعلة التي ساهمت في بناء وتطور الأحداث، فمن حين لآخر يتردد مشهد البطل عبد السلام وهو يضرب بالإزميل على منحوتات، سواء في لحظات الانكسار أو لحظات النشوة والفرح، وحتى لحظات النوستالجيا والحنين للحظات مشرقة من الماضي.. فهل توظيف كل هذه الفنون في الرواية أمر عفوي واعتباطي؟
رواية قيامة البتول الأخيرة (الأناشيد السرية) رواية صدرت في طبعتها الأولى سنة 2018 في 318 صفحة من الحجم المتوسط، وهي موزعة على أربعة فصول متساوية المشاهد تقريبا ولذلك دلالته لأن لا شيء بريء في الكتابة الروائية ولا وجود لكتابة بيضاء:
- الفصل الأول يمتد من الصفحة 9 إلى الصفحة رقم 89 صفحة ويشمل عشرين مشهداً
- الفصل الثاني من الصفحة رقم 91 إلى الصفحة ويشمل 159 بثمانية عشر مشهداً
- الفصل الثالث يمتد من الصفحة 161 إلى الصفحة 233 ويشتمل على واحد وعشرين مشهد مشهدا
- الفصل الرابع ينطلق من الصفحة 235 إلى الصفحة 313 ويحتوي واحدا وعشرين مشهداً
تدور أحداث الرواية بحي البندرة الذي ظل عبر التاريخ مسرحا للتعايش وملتقى للمسلمين، المسيحيين اليهود، الأرمن، العرب، على طوائفهم ومذاهبهم كافّة: سنّة وشيعة، علويّين ودروز، بروتستانت أو كاثوليك، مؤمنون وملحدين، من أبناء الحي أو القادمين إليه من لبنان وإيران والعراق... مما جعل حارة البندرة (تُعَدُّ حيّا شعبيّا تعدّديّا، متآلفاً) ص 214 لكن الحرب غيرت ملامح البندرة العمرانية بالتخريب والتفجير، والسكانية بالقتل والاغتصاب، والعلائقية بتسميم العلاقات ونشر الكراهية بدل التعايش، فكان طبيعيا أن تبتدئ أغلب فقرات الرواية بفعل مضارع (يفعل أو تفعل) دلالة على التوتر الذي يقع هنا والآن...
إن اختيار فنانٍ بطلا لرواية حرب واغتصاب يجد تفسيره في كون الفنان يعد أكثر الناس رقة وإحساس بالمآسي، له رؤية ثاقبة ترى مالا تراه العيون العادية، ليغدو الفن علاجا وبلسما للجروح الاجتماعية والنفسية العميقة، لمَا يتميز به الفن من تسامٍ وتعالٍ في رؤيته للأمور، فلا غروّ إن وجدنا النحات لما ينخرط في عمله يترفع عن الحضيض الذي تعيشه العامة، (وعندما يحاول أن يبدأ النحت في الكتلة الصَّماء، من جديد، يرتجُّ كلُّ شيء في هذا المكان الصغير تمة انفجار جديد أشبه ما يكون بزلزال عنيف هز أركان المدينة العتيقة، وسراديبها السرّيّة (..) طرف يقول إنّها ثورة ، والطرف الآخر يصفها بالأزمة والفتنة، وطرف ثالث يعتنقها جهادا، وآخر يعدها احتلالا، وأطراف أخرى تؤّكد أنها: فوضى) 12 وعبد السلام وسط كل هذه الفوضى يبتعد عن الخطاب المباشر، وعن مختلف الفنون ويختار فناً تعبيريا تلقائيا يخاطب اللاشعور و(عبد السلام نفسه اشتُهر بتقديمه عدّة أدوار مهمّة مع فرقة المسرح الجامعي، ولكنّه اختصّ بعد تخرّجه بالنحت على الحجر والرسم السورياليّ فوق الواقعيّ، لاعتماد ذلك على التلقائية الانفعالية، والتعبير عن الأفكار اللاشعوريّة بالقفز فوق الواقع، واستنهاض العقل الباطنيّ، وهذا ما يناسب شخصيّته، وحالاته النفسيّة، غير المستقرّة، على نمط "سلفادور دالي"، "فلاديمير كوش" الصفحة 13.
إن الأعمال العظيمة تكون وراءها مآسي عظيمة، فلا شيء يسمو بنا إلى العظمة مثل الألم على حد تعبير دي موسيه فما عاشه عبد السلام من مآسي بقتل والده قهرا، وقتل البتول بعد اغتصابها والتنكيل بجثتها ورفض توظيفه في الوظيفة العمومية وخيانة محبوبته... كل ذلك وغيره كان له كبير الأثر على نفسيته فهو يتذكّرُ بألم شديد ليلة سقوط البتول المريع، )صورة بنت الحارة الصبيّة "البتول"، وهي تتقلّص على مرافئ العار ككتلة بشريّة متحرّكة، تتكور في زاوية الغرفة نفسها التي شهدت حالات اغتصابها اللعين، تتنفس بصعوبة، تبكي، تنتحب، تحاول أن تخفي عُريها المدنَّس، ودماءها المتخثّرة تحت ثرى ساقَيها، وثيابها الداخليّة البيضاء، وتلك الكدمات الموشومة على وجهها المصدوم، وآثار الشذوذ الجنسيّ الوحشيّ الذي تعرّضت له، بعد أن تمّ اغتصابها مرارا وتكرارا، بوحشيّة همجيّة) الصفحة12. يحاول أن يفجر ما يختلجه صدره في فنه لإخراج التمثال في مشحونا بالعواطف (تتوالى الضربات المتتالية من يد عبدالسلام الرشيقة، تُظهر ملامح الخصب، والانبعاث من الرماد لجسد تمثال "الحرية"، يتفرّس في جناحَي النسر وأطرافه المُجنَّحة، يتلمّس وجهه الذي بُعِثَ من الرخام البازلتيّ، ويماثل وجه البتول الملائكيّ، أجل، هو نسر ضخم وله وجه امرأة تخرج من الرماد، تحضن أولادها بخوف ممزوج بالحنان، تظل لهم بجناحيها الضخمين، تُرضعهم من حليب ثدييها اللذين يشبهان قلعة المدينة) الصفحة.11
لكن مشكلة الفنان في العالم العربي هو غياب الدعم، وتنكر القريب، وعدم تقدير موهبته فعلى الرغم من اعتراف الأم بموهبة ابنها لكن الفن يبقى في نظرها لا يُطعم خبزا: (تعرف أن الرسم والنحت فنّ جميل يتمتّع فيه ابنها، ويعدّه فضيلة عمره كلّه، وقد ضحّى من أجل ذلك كثيراً، ولكن: ما هذا الفنّ الذي لا يُطْعِمُ خبزا؟" سألت نفسها، ولعلّها أجابت: "إيييه.. هم أفقر خلق الله"، بل إنّها أردفت: يا لحظّك التعس يا عبد السلام..! الصفحة 265
ويبقى وحده الفنان يحمل مأساته، يفجر طاقاته في الفن، قد يتفنن ويثقن عدة فنون لكن يجد نفسه في الأخير عاطلا، فرغم كون عبد السلام فنانا عصاميا يمتح من الماضي ويجمع بين الرسم والتمثيل والنحت فكل ذلك لم يشفع له وظل متسكعا عاطلا ، لما فكر في كتابة مذكراته لم يجد لها عنوانا أنسب من (مذكرات فنان متسكع) مقتنعا بأن " اختيارات الماضي، وتشعّبها، من التمثيل إلى الرسم، ومن ثمّ إلى النحت، هي التي جعلته عاطلا عن العمل) الصفحة 135 ، على الرغم من أن الكل يعترف بموهبته والناس يعجبون بأعماله، فتلك الأعمال لا تحقق له عيشا كريما، ( كانت منحوتاته دائما تتشبّع بصور الانعتاق من العبوديّة، وكان يصوِّر بخطوطه حجم الألم، الذي يشعر به الناس، من جراء الفساد المتفاقم، وبما أنّه فنّان من النوع المغامر، فقد اقتنيت بعض منحوتاته، وعرض بعضها في"الحديقة العامّة"، وفي"المتحف الوطني"، ما وهبه نظرات الاحترام المجتمعيّة، وأتاح له بعض التقدير من الأصدقاء المقرَّبين، لكن ذلك، لم يحقّق له ريعا مادّيا مناسبا، فظلَّ في ركن المفلسين الدائمين، الباحثين عن ليلة مجنونة تنسيهم هموم الحياة، ومعاناتهم القاتلة.) الصفحة. 134، ولعل ما يزيد الفنان معاناةً رؤيتُه التافهين يتسلقون أعلى المراتب، والمسؤولون يفضلون من هو أقل كفاءة على الفنان المتعدد المواهب لذلك لن ينسى عبد السلام أبدا يوم ( تخرّجه في معهد الفنون الجميلة، وأسعفه الحظّ أن يعمل بعقد مؤقت "مُخرجا"، مساعدا فنّيا للصحيفة الوحيدة الصادرة في المدينة، وقد نشر عدة كاريكَاتورات .. ورغم أنّه أثبت جدارته في بعض التحقيقات المصوَّرة، وفي القليل من المقالات والدراسات الاجتماعيّة والأثريّة غير السياسيّة، خاصّة عن الثورة الفكريّة، والزراعيّة، إلّا أنّه لم يستطع أن يحصل على موافقة الدولة في وطنه، لا في التثبيت ولا التعيين بوظيفة دائمة، ولا حتّى في شرف الحصول على عضويّة اتّحاد الصحفيين، أو الفنّانين التشكيليّين، ولهذا، ظلَّ متسكّعا في دائرته، واستمرّ عضوا بارزا في شلّة الصعاليك الشرقيين! تقدّم عدّة مرّات للقبول في وظائف متعدّدة، مختلفة، مقبولة، وغير مُرضية، ولكن من المؤلم أنّ كثيرا من الطلبة الذين تقلّ درجاتهم عنه قُبِلوا، وحصلوا على الوظائف المهمّة، ومن المفارقات أنّه نفسه، كان يساعد زميلا له في دراسته، وفي رسوماته، التي كان يمزّقها له كثيراً ويطلب منه إعادة المحاولة، ويرسم له خطوطها البيانيّة، هو نفسه، هذا الطالب الكسول، الوصوليّ ، الطفيليّ ، قبِل فورا، وأصبح مديرا للقسم الذي درسا فيه، وتخرّجا منه معاً ولكن الفارق أنّ الأوّل مدعوم من أحد رجالات النخبة، والثاني لا دعم غير موهبته وإبداعه، لكنهما لا يكفيان للحصول على ما يستحقّ المواطن الشريف! والمؤلم أكثر، أنّ هذا المدير المدعوم قد رفض الطلب الأخير، ويقولون بسخرية لاذعة إنّه مزق الطلب بيديه، ورماه في سلّة المهملات..) الصفحة 133
في مقابل هذا الجحود من أبناء جلدته يحظى الفنان العربي بالاعتراف من الأجنبي فقد نحت عبد السلام تمثالا صغيرا (من الحجر الأسود الناريّ، لجسد نسر سوري له وجه امرأة جميلة، وجناحان واسعان، وفي كلّ جناح يتعلَّق طفل رضيع، وتظهر حفّاضات الأطفال كأنّها سلال من عنب، وأوراق الكرمة، وتزيِّن رؤوسهم أكاليل الغار، وأزهار الياسمين، هو لا ينسى، وكيف له أن ينسى؟ أنّ هذا التمثال قد نال إعجاب السائحة "سوزانا"، الكندية، حين رأته معروضا في سوق "خان الشونة"، الأثريّ، في معرض الفنان "سهيل"، الخاصّ ببيع اللوحات الفنّيّة، والقطع الأثريّة غير الممنوعة، والألبسة الفلكلوريّة الشعبيّة، والهدايا التي تجسِّد تاريخ المدينة، ماضيها وحاضرها، خاصّة قلعتها الشامخة) الصفحة 175 فأخذ التمثال لبها وقالت:(إنّه تمثال تعبيريّ رائع، يستحقّ أن يُعْرَض في أرقى المتاحف في العالم). وسلكت كل السبل الممكنة لاقتنائه دون أن تتمكن من الحصول عليه رغم استعدادها لدفع أي مبلغ، ولما فشلت في الحصول عليه ، ألحت على صاحب المعرض ليعرفها على الفنان الذي نحتت أنامله هذه التحفة النادرة.. ورحلت دون أن تحصل على المنحوتة رغم كل ما قدمته لعبد السلام من هدايا (عطرا من شذى الياسمين الحلبي الطبيعي) وتقديم جسدها له في ليلة حمراء (هي الليلة الحميميّة الأولى، والأخيرة، إذْ إنّه عندما استيقظ صباحا، وجد رسالة خطّيّة مكتوبة باللغة العربيّة، تخبره فيها أنّها امرأة ولدت في حلب1446 م، لأبوين يهوديّين) الصفحة 176. وقد ظلت ذكرى ذلك التمثال في ذاكرتها حتى لما علمت ما حل بحلب من فوضى الحرب "بكت دما وذرفت دموعا، لِما رأته من مجازر رهيبة تحدث في البلد، ووصفت الخراب بيوم القيامة،) وراسلت عبد السلام (واستسمحته عذرا أن يقبل الهجرة إلى كندا، أو أيّ بلد أو روبي آخر، وأنّها على استعداد تامّ للمساهمة، والوقوف بكلّ ما تملك من أجله،) الصفحة. 177
وإذا كانت الحيوانات من القطط والكلاب قد تفاعلت مع بشاعة وشراسة الحرب التي اندلعت في حي البندرة فألفينا (الكلب المرقَّط "ميمون"، أو كما يناديه أهل الحيّ "ميمو"، يلهث، وهو يقفز من هنا، إلى هناك، ويساعد بعض المصابين، ولكن المفاجأة الصادمة، المثيرة للانتباه، حين ركض بأقدامه الأربع، بسرعة مذهلة، واخترق دار "البتول"، راح يعوي بصوت قويّ، مشيرا إلى أمر ما قد حدث هنا..! الصفحة.16. فالفنان الذي كان يزهد في الحياة ويكفيه أن يجلس في مجلس فني ليشعر أن الحياة حيزت له بكاملها (يحسُّ أنّ العالم كلّه يجلس معه، تجوب عيناه حول ركن مُحاط بلوحتين مؤطّرتين، اللوحة الأولى بإطارها المذهَّب، وبداخلها مفتاح دار حديديّ صدئ، ذو حجم كبير، معلّقة في وسط الغرفة، واللوحة الثانية، مماثلة في إطارها، ولكنّها تحتفي بمجسّم عتيق للمسجد الأقصى ) الصفحة200 أكيد أن ذلك الفنان برِقّة أحاسيسه ودقة رؤيته سيكون له تصور مختلف عن العامة، وهو يرى الخراب يحل في كل مكان بالمدينة لا يميز بين المرافق المدنية ( أكبر سوق مسقوف في العالم يحترق وَيُهَدَّم! المساجد والكُنُس والمقامات والأوابد تُدَمَّر! أبوابها وحماماتها وخاناتها ومزاراتها صارت حُطاما! أبيحت بيوتها، وذلّت نسائها..) الصفحة.18 (حتّى المستشفيات، والصيدليّات، ومدارس الأطفال، ودور العجزة، والمقابر، لم تسلم كلّها من أنياب هذه الحرب الظالمة.) الصفحة .22 لدرجة أضحى التفجير والتخريب صورة يومية اعتيادية وهو ما يتطلب رزانة وهدوءً أكبر.. هكذا كان عبد السلام" يسمع (عدّةَ انفجارات مُدَوّية، مرّة أخرى، وعاشرة بعد الألف، تهزُّ المدينة، كأنّها بداية يوم القيامة، لكنّه لا يهتزّ، ولا يشعر بالخوف، ولا يستطيع أن يميز صوت الانفجارات، من تثاؤبات السور، وزفراته الزلزاليّة، فقد صارت هذه الأصوات عادة يوميّة، اعتياديّة..) الصفحة18، فيكون لذلك أكبر الأثر في دواخله و( يحسّ بدوار في رأسه.. الدنيا حوله تدور.. يدور التمثال.. يدور الكرسي الخيزرانيّ العتيق به.. الكهف يدور.. كلّ شيء يتناسل دوائر حمراء بلون الدم.. كلّ دائرة في ناظريه تتحوّل إلى ألف زوبعة، وألف دمعة، وألف دائرة، وألف عَلَم يرفع، وألف نشيد يصدح، وألف شعار ينبح، والدائرة ما زالت تدور.. تدو..ر" الصفحة ص 21 ولا يخرجه من هذا الدوران اللامنتهي سوى الحلم بعودة السلم والتجوال في المعارض الفنية، يرى نفسه في الحلم يتجوًّل في قاعة المعرض المقام في متحف حلب الوطني، قرب شارع "بارون"، يتفرّس في تلك المنحوتات المختلفة، واللوحات التشكيليّة المتنوّعة، والجناح الخاصّ لبيع الكتب التراثيّة والدينيّة، الأدبيّة والعلميّة، يشعر بسعادة لا توصَف، وبفخر مدهش. المعرض يعجّ بالزائرين، والسائحين الأجانب، الفنّانين والصحفيّين والنقّاد، يتوقّف أمام كتلة نحتيّة رائعة، يتأمّلها، يعقد حاجبيه، تزيغ عيناه قليلا ا، يتفرّس فيها بحدّة، يدور حولها، يدور جمع من المعجبين بها، يشيرون أمامه إلى معانيها، يتقدّمون إليه بتقدير، يشدّون على يديه، يطلبون منه التوقيع على دفاتر مذكّراتهم الملوّنة بجماليّة مدهش) الصفحة 117..
لكنه يصحو من حلمه المؤجَّل على واقع مرير يعمه الخراب واغتصاب الجثث لا يملك إلا أن (يمسح عينيه بيده، يمتصُّ لسانه الجافّ ، يتأوّه بحسرة وأسى، يدركُ أن الحلم المؤجّل قد اختفى. وقد تغير كل شيء، (إلا الكتلة الحجريّة التي رآها في حلمه، يجدها ساكنة في مكانها، لم تتحرّك من موطنها الأصلي، وما زالت على صدر الطاولة الصامدة). الصفحة 117. وكأن الهدف والحلم المنشود هو نحت الصخرة وبث الحياة فيها من خلال تمثال يحيل الصخرة الصماء عملا فنيا تشع منه الحياة وبعث الأمل في مستقبل أحسن، مقتنع حتى الثمالة أن رسالة الفنان تحرير العقول، إنارة الطريق وأن الفنان لا يمكن أن يكون قاتلا ولو عاش وسط الحروب، لذلك لما قدَّم يحيى مسدسا لعبد السلام وطلب منه الانتقام من مغتصبي البتول وقاتلي والده يقول السارد (كان هناك شيء خفيّ في عقله يحدّثه: إنّك خُلِقْتَ فناناً، وليست مهمّتك القتل) الصفحة 54
وسط الحرب والدمار لم يكن لعبد السلام إلا الفن وسيلة تخفف عنه بعض ما أصابه من توالي الخيبات والرزايا، وكأن المحن كانت تزيده جَلَداً، صبرا وقوة تحمل يقول السارد (ولعلّ ما حدث، كان دافعا له دائما لكي يثبت أحقّيّته فيما يصبو إليه، ويحلم به، وقد وفَّر له التحدّي، المزيد من المغامرات، والاشتراك في عدّة معارض فنّيّة متنوّعة، إذْ وجد نفسه أخيرا، وأدرك أنّ النحت في الحجر يشبه حياته تماما..) الصفحة.134.
إن الصخر على صلابته - في نظر الفنان- أرحم من قلوب البشر، فإذا كانت القلوب قد تحجرت، فالصخر بين أنامل الفنان مطواع قادر على التجاوب يتسع كل الأحاسيس.. (كانت منحوتاته دائما تتشبّع بصور الانعتاق من العبوديّة، وكان يصوِّر بخطوطه حجم الألم، الذي يشعر به الناس، من جراء الفساد المتفاقم، وبما أنّه فنّان من النوع المغامر، فقد اقتنيت بعض منحوتاته، وعرض بعضها في"الحديقة العامّة" والمتحف الوطني ) وكان الفن مفرج كربه، لا يقلقه شيء أكثر من عدم اكتراث الآخرين بالفن، فلكما كان (يحسّ باكتئاب شديد، وبتوتّر أشدّ حين كان، قبل أن تبدأ الحرب، يهمّ بالذهاب يوميا إلى مقهى "الثقافة" ليجلس مع أصدقائه الأدباء والكتَّاب والنقّاد، كان يحمل بعض رسوماته، أو لوحاته ذوات الحجم الصغير، أملا أن تنال إعجاب أحد ما..) الصفحة 136.
أن تكون فنانا قدرٌ وليس اختياراً، لذلك لما كانت تلومه والدته على المسار الذي اختاره في حياته وتقوله له (عليكَ ألّا تيأس.. ابحث عن وظيفة ما، أنا تعبت، ولم أعد أستطيع الاستمرار هكذا) كان يرد عليها بقوله:
- سامحيني يا أمّي، صرتُ متسكّعا، ولكن، ليس باختياري.. الصفحة 136.
لذلك أضحى الفن زاده، وهواءه الذي يتنفّسه، صحيح أنه أكسبه بعض الاحترام والتقدير في أعين العامة و(وهبه نظرات الاحترام المجتمعيّة، وأتاح له بعض التقدير من الأصدقاء المقرَّبين، لكن ذلك، لم يحقّق له ريعا مادّيا مناسبا، فظلَّ في ركن المفلسين الدائمين، الباحثين عن ليلة مجنونة تنسيهم هموم الحياة، ومعاناتهم القاتلة.) الصفحة 134، فعاش حياة ضنكى، يجترّ مرارتها في واقع يعيش أزمة قيم، اختلت مقاييسه لا قيمة فيه للفن والفنانين ما دامت (الحياة اليوم صارت، وللأسف، لا تُقاس بما يملكه المرء من العلم والثقافة، بل بما يملكه من رصيد في البنوك، وأين يعيش؟! وما هو نوع سيّا رته الجديدة؟!..) فيجلس يُسائِل نفسه:(ماذا تفيده تلك اللوحات والمنحوتات التي أمضى معها أيّاما طوالا من الأرق والتعب؟ وماذا ستقدّم له؟ لا شيء. هكذا يجيب نفسه، بل إنّ اختيارات الماضي، وتشعّبها، من التمثيل إلى الرسم، ومن ثمّ إلى النحت، هي التي جعلته عاطلا عن العمل..) الصفحة 135.. لكن رغم ذلك فقد ظل مقتنعا أن الإزميل الحديدي والصخر يفهمانه أكثر من البشر: (يُمسك عبد السلام بالإزميل مرّة أخرى، يحسّ أنّ هذه الأداة الفولاذيّة تفهم مشاعره أكثر من أيّ روح أخرى، وراح يلاطف تمثال الحرّيّة بلمساته قبل الأخيرة، فجأة) الصفحة.299،
أمام عشقه للتشكيل كان عبد السلام يمارس فنه في هالة من الطقوس تسمو به فوق الواقع، وتجعله لا يحس بما يقع حوله فالانفجارات حوله تهز البيت وهو لا يهتم ويواصل نحث تمثاله (لم يتوقف عبد السلام عن إكمال مشروعه، بل يستمرّ بنحت الكتلة الصّمّاء، يريدها أن تنطق، أن تصيح، أن تهتف، تغنّي، يحسُّ أنّ أذنيه قد أصيبتا بالصمم، يطرق بإزميله على جناح التمثال، يطرق، يطرق، يهتف: "عليك أن تطير وترفرف عاليا"، يحفر بسرعة، بسرعة، تتسارع أصوات الانفجارات والرصاص اللئيم) الصفحة 299. وهو منهمك في إتمام تحفته أمه تخبره بتفجير البيت وهو أمام الفن مسلوب الإرادة، تعلقه بالنحت يربو على تعلقه بوالدته، كل الطرق إلا الفن غير سالكة، وكل الأبواب سوى النحت والرسم مواربة فنراه وقد: (استمرّ في النحت فوق الحجر، بل أراد أن يقول لها:
- سامحيني يا أمّي، ما يحدث معي، كان أقوى منّي، ومن حبّي لكِ، لم يكن أمامي غير أن أرسم، أنحت، ولم أستطع فعل أيّ شيء آخر، لقد انتهيت.) الصفحة 299
قد تنتابه لحظات يأس ويعلن ندمه على الوقت الذي أضاعه في فن لا يشبع معدة جائع، ولا يطفئ عطش ضامئ (إنّه يعترف، الآن، وللمرّة الأولى في عمره، أنّه قد أضاع تلك السنوات في الهراء، وأيقن أن المثاليّة والرومانسيّة، والهرطقة الفارغة، والانتظارات الحالمة، لا نفع لها في هذا العالم المجنون. لم يشعر بالمزيد من الإلهام، والحماسة في إتمام نحت تمثال المرأة "الحرّيّة"، الكاملة، التي تعني له الخِصب، والتضحية، والعطاء، ولا في النوم باكرا، ولهذا، استرخى يفكّر في نفسه، وفي مستقبله، وفيما يحدث في المدينة، وفي البلد كلّها، يفكّر بوالده) الصفحة.138
ومن تم كان اختيار النحت اختيارا رمزيا لهوية بلد، أهله فنانون بالفطرة، وكل شيء فيه له قيمة نادرة، حتى الصخر قابل لأن يصير تحفاً نادرةً، تلك هي سمة أقدم مدينة عامرة إلى اليوم ويكفي التأمل في ما يمثله التمثال (حدد) ( الإله الآموري الآرامي: "بعل" عشتار إله المطر والحرّيّة، وما ترمز إليه الأشياء التي حملها: (حيث يُمسك بيده اليسرى سنابل القمح، يتوّج رأسه بها، ويرفع باليد اليمنى شعلة الحرّيّة الساطعة) إنه مصدر الخير ورمز التحر ، ومصدر إلهام ، منه تم استلهام تمثال الحرية الذي أهدتها فرنسا للولايات المتحدة كواحد من أهم المنحوتات المعاصرة، ما أن نظر إليه عبد السلام حتى ابتسم بثقة و(هزَّ رأسه، أراد أن يقول لأبراهام أن فكرة تمثال الحرّيّة في أمريكا مأخوذة ومقتبسة من فكرة تمثال إله حلب القديم، وقبل خمسة آلاف عام، بل أراد أن يشرح له أنّ زوجة "حدد"، هي عشتار Ishtar، سيدة النجوم، والحبّ ، والخصب، ولكنّه غبَّ تفسيراته، وهو يعلم أنّ هذا التمثال يمثّل تاريخ المدينة القديم، ويحكي عن حضارتها، ونزوعها إلى الحياة الزراعيّة، والعمل، والسلام، وتذكّر مقولة: "حدد"، المشهورة عالميّا، التي تعرفها، وتوثّقها، كتب التاريخ كلها: "سورية بلدكم، أينما كنتم، وهذا حقكم، فحطِّم سيفكَ، وتناول معولك، واتبعني لنزرع السلام والمحبّة: أنتَ مركز الأرض) الصفحة.281
هي حلب المتحف المفتوح، الضارب في العراقة والقدم، ووسط كل ذلك الكم الهائل من المنحوتات و القطع الأثرية والأختام والتيجان الحجريّة والمخطوطات، يبقى تمثال الإلٰه: "حدد"، إلٰه الحرب والمطر والعواصف والبروق، الذي يعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، رمز العطاء والخير (تذكر الأساطير القديمة أنّه كان يتجوّل على عربته في السماء، ويجلد الغمام بالسوط، لتتساقط الأمطار، وفي لحظة الغضب، يزمجر ثوره مسبّبا صوت الرعد الذي يهزُّ الدنيا، ويزلزلها) الصفحة 187.. كسب تلك المرزية مما نسجته الأسطورة حوله ولجماليته ودقة نحته وما يختزله من معاني متناقضة تجمع بين القوة واللين، الرحمة البأس كل من يشاهده يقف مشدوها (يتفرّس قرون الإلٰه الآراميّ التي هي على شكل قمر وسيف، وقد رفع في يده اليمنى فأسا، وفي اليسرى قبضة سنابل مثمرة، وتلك السيوف القديمة المصنوعة من الفولاذ ونترات الحديد التي يتركها البرق الشديد في تراب المدينة، ويمكن لها أن تشقّ الهواء، وقد نقشت عليها كلمات تمجد الإلٰه: "إلٰهي، أعِنّا ليفتك سيفكَ بالأعداء) الصفحة 187
أن رمزية التمثال تتجاوز صورته كمنحوتة صخرية إلى أيقونة مشحونة بدلالات ومعاني التسامح والحرّيّة لذلك تعد سرقته وتهريبه ونسبته لأي بلد آخر أو تاريخ آخر جريمة لا تغتفر، تزييفاً للحقائق والتاريخ، وعندما تنشغل العامة بالحرب يكون الفنان صرخة مدوية في الأعماق تصيح: (إنّهم يزيّفون كلّ شيء يا عبد السلام، يسرقون تاريخنا القديم، ويعبثون فيه، لا مشكلة عندهم في تزوير الحقائق، بل المهمّ هو صناعة تاريخ لهم، حتّى لو كان مزيّفا.) الصفحة281،
لكل ذلك وغيره، ما أن شعر النحات عبد السلام بالخطر يهدد الفن والبلد حتى انبرى له بكل ما أوتي من قوة وكان على أتم الاستعداد لتقديم نفسه فداء للفن والوطن والتاريخ، هكذا لما اكتشف تورطه مع اليهود وقد أحكموا الربقة على رقبته، وصوروه في وضعيات مخلة وتأكد من ضياع المرأة التي أحبها وكان يفكر في الزواج منها ولو تطلب الأمر (الزواج بالطريقة الوحيدة الممكنة، ألا وهي الاختطاف، أو كما تقول لنفسها: "الزواج خطفا) وورطوه في تهريب تمثال أثري خارج حلب وأعدو تفاصيل الخطة ووعدوه بحياة أفضل، حتى وقف بالمرصاد ضد تهريب الآثار لما لها من آثار سلبية على تاريخ الفن بالبلد وتشويه للتاريخ، كانت اللحظة عصيبة تتطلب ربطة جأش أمام إتقان أبراهام حياكة تفاصيل وخيوط العملية، وتأكد من أن عبد السلام سينفد التعليمات كما هي.. تظاهر السلام بالهدوء وقد وجد نفسه وسط (صورٍ متنوّعة لقطع أثريّة نادرة، ومدفن حجري منقوش بكتابات قديمة. يرى صورة: "روليف"، جدارية تمثّل رامي سهام يمتطي عربته، وهو من القرن التاسع قبل الميلاد، وصورة أخرى لتمثال رجل يحمل نعجة، يتأكّد أنّها منحوتة من الحجر الجيريّ، ذلك أنّها مكتوبة باللغة الحثّيّة، يتوقّف مليّا أمام صورة مسلّة حجريّة تمثّل المشهد النموذجيّ لإلٰه الطقس في الفنّ السوريّ، وتتألّف المسلّة من مشهد واحد يضم الإلٰه "حدد"، إلٰه البرق والعواصف والأمطار، والذي كان ملك العالم، في مشهد جانبيّ، حيث يُمسك بيده اليسرى شوكة ثلاثيّة، ويرفع بيده اليمنى الفأس، وهو واقف في حالة حركة على أحد أشهر رموزه وهو حيوان الثور، وتعلو الشمس المجنَّحة رأسه) الصفحة 81 .. عبد السلام وسط كنز ثمين وتماثيل يأسر جمالها من يشاهدها (يحسُّ أن "المشرَّط"، قد فقد شيئا من توازنه، أمام روعة التمثال، وها هو ذا يتلمّسه مثارا مندهشا، يقول بذهول: - تحفة..واللهِ تحفة..) الصفحة 157
وابرهام يشرح له (بخباثة وذكاء، العمليّة السرّيّة الأخيرة، وكيف سينقلون بعض القطع الأثريّة المهمّة، إلى خارج البلد، ويبيّن له أهمّيّتها ص 82، عملية تهريب الآثار تشتغل فيها عصابات متمرسة تتقن عملها ويصعب على عبد السلام الخروج من المأزق الذي وضعه فيه السارد، وقد سبق لهم قتل الحارس العجوز أبي بكري بدم بارد وهربوا تماثيل نادرة وأحكموا (ربط التمثال، بأجهزة خاصّة معدّة للنقل المريح، يحملون عديدا من القطع الأثريّة، والأختام، والتيجان، والمخطوطات.) الصفحة 159
في الليلة الموعودة يكشف السارد عن سبب اختيار نحّاتا بطلا للرواية فنجد أبراهام يطلب من عبد السلام تهريب التمثال ويقول له:
- أنتَ نحّات عظيم يا عبد السلام، ولم يُقدِّر أحد فنَّك الرائع، ولهذا، يكمن نجاحك في نقل هذا التمثال، وإخراجه من هنا.
ثمّ أردف مفسِّرا:
- لا بأس أن تدّعي أنّكَ أنتَ مَن نحته، أي أنّه ليس أثرا قديما، هذا إنْ شكَّ أحد فيه أثناء عملية النقل، أو ظهر حاجزٌ مفاجئ، أو جماعة ليست ممَّن نعتمدُ عليهم، وبعد ذلك، ستكون حياتكَ هي الأرقى بيننا.) الصفحة 283
يصطنع عبد السلام الهدوء بعفوية واضحة (اطمئنّ، سيكون كلّ شيء كما تريد، لا مشكلة في ذلك بعد الآن.) الصفحة 283 وازداد عبد السلام تباثا (حين وقفا معا أمام كتلة التمثال الثقيلة، وبدءا بحمله، ونقله، لم يفقدا توازنهما، بل كان الظلام سيّد الحركة، والصوت، والانطلاق نحو الممرّات المعتمة، بكلّ خفّة، وعناية، وسكون مخيف.) الصفحة 285. وبمجرد ما أطمأن عبد السلام على سلامة التمثال، وحسن تثبيته، نقض العهد، ونكث بالاتفاق وانطلق (بخفّة متسابق محترِف، انطلق خارج النصّ، عفوا، خارج الأجندة المحدّدة، وتوجّه بسرعة جنونية نحو مخرج الحارة الشرقي. في تلك اللحظة بالذات، وقبل أن يطلق القنَّاص رصاصته نحو رأس عبد السلام، وقد أدرك أنّه قد حنث بالعهد والحليب والولاء. أطلق يحيى رصاصاته نحو مخبأ القنَّاص، تعالى الاشتباك المتبادَل بينهما، فيما تابع عبد السلام القيادة،) وبدل أن يسلك الطريق المتفق عليه نحو الهدف المحدد (عبر مدخل الحارة، ومن ثمّ اجتاز شارع "الخندق"، الطويل، بجانب سور المدينة العظيم، وحين عكف نحو ساعة: "باب الفرج"، حاول بعض حرّاس الحواجز أن يوقفوه، ولكنّه لم يمتثل للأمر، فما كان منهم إلّا أنْ وجّهوا رشاشاتهم الأوتوماتيكيّة نحوه، و راحوا يطلقون رصاصاتهم بغزارة، أصابوه في البداية بكتفه الأيمن، ثمّ الأيسر، ولكنّه لم يبالِ لإصاباته، ولم يشعر بألم، بل أحسّ أن شيئا ساخنا يسيل من صدره نحو قدميه، وبالمثل، من ساقيه نحو أخمصَي قدميه، وبشيء من الدوار، استمرّ في القيادة حتّى نهاية الشارع، حينذاك انعطف يساراً، مخالفا إشارات المرور، توجّه بالشاحنة نحو مدخل "المتحف الوطنيّ"، العريض، ولم يأبَهْ لصراخ حرّاس المتحف، وأزيز رشّاشاتهم، بل اجتاز المدخل بصعوبة قصوى، وأمام درج المتحف توقّف، توقّف، تو.. قّاااا ف. في البداية، اختبأ حرَّاس المتحف ظنّا منهم أنّ الشاحنة مفخّخة، وأنّ الذي يقودها ما هو غير إرهابيّ متطرّف، وأنّها لا بدّ أن تنفجر، وتحوِّل متحف المدينة، وما يحتويه، إلى خراب، ودمار شامل، إلّا أنّهم، حين رأوا بأمّ أعينهم، كيف فتح هذا الإرهابيّ الطيِّب باب الشاحنة الأماميّ، وسقط على الأرض، مضرّجا بوطنه، نازفا، مشيرا بإصبعه إلى النعش، لحظتها، اقتربوا منه، نظر بعضهم إليه، وكأنّه يقرأ كتابا، أو يشاهد لوحة غريبة، وقبل أن يغمض عينيه، سمع صرخة مدوّية من أحد الحرَّاس:
- سيّدي! سيّدي! في الصندوق تمثال!) الصفحة 313. لتنتهي الرواية نهاية مأساوية تقطر رومانسية وتقدم درسا في الوطنية والتضحية والإحساس بالمسؤولية الملقاة على الأكتاف، ولا يمكن أن يقدمها إلا فنان يقدّر الفن ويعرف قيمة الآثار وخطورة تهريبها هكذا يسدل السارد ستار روايته والبطل عبد السلام يترنح (فوق دمه الساخن، ونزيفه، وقد انهار جسده، وتوقّف الزمن في خفقات فؤاده، ولومضة خاطفة، تهيأت له البتول. ها هي ذي تقفز أمامه بفرح، تطير كفراشة، ترتدي ثوب زفافها الأبيض، تنظر إليه بمحبّة، وشوق، يمدُّ يده إليها، تشير له أن يطير مثلها، فوق حقول القمح، وبساتين الورد، فوق قلعة المدينة، أسواقها، ودخان مصانعها، يبتسم، يتدفّق الدم من فمه ساخنا، نديّا.) الصفحة 313.
يستنتج إذن من خلال مقاربة حضور فن النحت في رواية قيامة (البتول الأناشيد السرية) أنها رواية واقعية حاولت تصوير الواقع السوري وما يعيشه السوريون غداة تفجير "الربيع العربي" وتبعاته من الحروب وما يرفقها من هتك للحقوق وانتشار الجريمة والاغتصاب الذي لم يسلم منه الأطفال الأحياء بل وحتى الأموات فألفينا الجقجوف ابن زيزفونة الداعرة، لا يميز في الاغتصاب بين (طفلة صغيرة لم تتعدَّ العاشرة من العمر) الصفحة 33 وبين جثة امرأة ثلاثينية: " يستلقي عاريا تماما، فوق جثّة المتوفاة، يجد متعة لا توصف في ذلك، يتهيّأ له أنّ الجثة تستسلم له، لا ترفضه، ولا تكرهه مثل الأخريات، يحسُّ أنّه يعيش معها وجها لوجه، وأنّها لا تخاف منه، أو لعلّها تعشقه، ولهذا، لا تمانعه في أيّ شيء يشتهيه، وها هي ذي تلبي رغباته الدفينة التي ليس لها حدود) الصفحة 33 ، لا أحد يكترث لعشرات الجثث من الصبايا المرميّة على ضفة نهر المدينة، بعد أن اغتصبنَّ وقتلن، ورمين كالحيوانات الميتة، تحت أو فوق تلال القمامة، والدُّور المهدَّمة، الصفحة 24، فكان الفن والفنان وحدهما القادرين على التعبير عن حجم المعاناة ، دون أن تكتف الرواية بالانفتاح نحت الصخر بل استغلت النحت عامة للتعريف بهوية بلد بكامله فنقلت القارئ إلى منحوتات الجواهر ومنحوتات الحديد وصقل المعادن التي اشتهرت بها سوريا فطافت بالقارئ في معارض خاصة يقول السارد في وصف أحد المعارض: (كان المعرض يحتوي على سيوف فضّيّة ونحاسيّة ومذهبّة متنوّعة، منها ما هو معقوف، ومنها ما هو مسنّن، مرصّعة بأحجار كريمة، رماح وسهام، أقواس وحِراب، حدوات وأربطة خيل. تفرّس فيها عبد السلام مليّا، إنّها من الصناعات اليدويّة الجديدة التي تتوفّر في سوق "النحّاسين"، وتتكاثر أهمّيّتها في احتفالات الأثرياء، ناهيك عن الصواني الملكيّة، والأواني، والكؤوس، والحلقات) الصفحة 184 كما كشفت الرواية بعض كنوز حلب المتجلية في العمارة ، أو المختبئة في الأقبية والكهوف يصف السارد يعض محتويات عرفة في كهف (في غرفة الكهف، تدقّق في موجوداتها: "العجيبة، الغريبة"، كلّ ما فيها لم يكن متوقَّعا، تماثيل حجريّة صغيرة، تمثال لامرأة عارية تحاول أن تطير بجناحيها، وتمثال آخر يبدو أنّه لإمبراطور رومانيّ، أيقونات مختلفة، مخطوطات تلموديّة، فينيقيّة، إغريقيّة) الصفحة. 223 وحتى تؤدي تلك المنحوتات وظيفتها الروائية فقد تم اخيارها بعناية وتقديمها للمتلقي بطريقة تحيل في معظمها على الحرية والانعتاق (تمثال لامرأة عارية تحاول أن تطير بجناحيها) ويكف يتأمل الوصف الذي تم به تقديم تمثال الإله حدد (قرون الإلٰه الآراميّ التي هي على شكل قمر وسيف، وقد رفع في يده اليمنى فأسا، وفي اليسرى قبضة سنابل مثمرة)...فكانت التماثيل لآلهة الحرب والمطر والعواصف والبروق، رمزا للحبّ ، والخصب وهذه القيم وحدها المفتاح السحري القادر على مساعدة السوريين لتجاوز الأزمة التي يمر منها سوريا ، والتي للأسف ضاعت من البشر، وظلت تلك التماثيل ترمز إليها....
الكبير الداديسي
..................
1- سنعتمد في هذه الدراسة الطبعة الأولى لرواية قيامة البتول الأخيرة (الأناشيد السرية) الصادرة عن دار نون4 للنشر والطباعة والتوزيع حلب سوريا2018
الى البابا.. مع التحية!!
- التفاصيل
- كتب بواسطة: احمد الحاج
استهل كلامي هاهنا انطلاقا من ما ورد في كتابكم المقدس "طوبى للانسان الذي يجد الحكمة وللرجل الذي ينال الفهم" الامثال 3: 13، وأقول لو أن مدمني ومتعاطي المخدرات بأنواعها الصناعية والطبيعية قد خرجوا في تظاهرات حاشدة حول العالم للمطالبة بمنحهم الحق في التعاطي والادمان، فهل أن مثل هذه التظاهرات تبيح لنا تقنين المخدرات وتبريرها بذريعة الحرية الشخصية، أم أن المطلوب هو مكافحتها والتحذير منها ومعاقبة المتورطين بها مع علاجهم نفسيا وجسديا وتثقيفهم اخلاقيا وتربويا حفاظا على المجتمعات من الانحلال، والدول من الانهيار، والشعوب من الانحطاط؟!
ولو أن السحرة والمنجمين والمشعوذين قد خرجوا في تظاهرات ووقفات احتجاجية مماثلة في روما ولندن وباريس وواشنطن للمطالبة بوقف محاربتهم في ارزاقهم والحيلولة من دون التضييق عليهم، فهل هذه بدورها ستبيح لنا تقنين الشعوذة والسحر والتنجيم واباحتها ومنح هويات ممارسة مهنة للمتورطين بها ؟! الجواب قطعا لا، ذاك ان المطلوب شرعا وقانونا وعرفا هو محاربة هذه الظواهر القمئة والحد منها والتضييق عليها قدرالامكان حفاظا على العقول والانفس والاموال والاديان ولأن السحر محرم في جميع الشرائع السماوية ولا استثناء في ذلك ولا تفنين لأن النص صريح بحرمة السحر والعرافة " متى دخلت الارض التي يعطيك الرب الهك لا تتعلم ان تفعل مثل رجس اولئك الامم، لا يوجد فيك من يجيز ابنه أو ابنته في النار ولا من يعرف عرافة ولا عائف ولا متفائل ولا ساحر ولا من يرقي رقية ولا من يسأل جانا او تابعة ولا من يستشير الموتى لأن كل من يفعل ذلك مكروه عند الرب" الثتنية 18: 9 - 12 .
وهكذا يتبين لنا وبالقياس على ما سبق مع الفارق طبعا بعدم وجود أي مسوغ أخلاقي ولا عقلي ولا نقلي يبيح لنا مباركة - الشذوذ - بكل انواعه والمسمى تجاوزا بـ المثلية " لأنه يخالف الفطرة الانسانية السليمة والعقول الراجحة والنفوس والطبائع السوية لايختلف في ذلك اثنان ولا يتناطح كبشان، ولاتوجد شريعة سماوية واحدة تبيحه وتباركه البتة، فعلام ننزل عند رغبة الفئة القليلة الاخيرة بذريعة دعم حقوق الانسان والحفاظ على الحرية الشخصية لنبيح علاقاتهم المحرمة وزواجهم بزعم حقهم في تكوين اسرة، فيما لا ننزل عند الفطر السليمة للاكثرية المطلقة وعند الاوامرالالهية والتعاليم السماوية الخالدة، واسأل وماذا عن حقوق النساء اذا اكتفى الرجال بممارسة الجنس مع امثالهم، وماذا عن حقوق النساء اذا كن سيفعلن ذلك ايضا مع بعضهن، ماذا عن حقوق الاطفال الضائعة في هذه الحالة ومعظمهم متبنى او نتاج تلقيح صناعي مستعار من بنوك النطف وبنوك البويضات داخل الانابيب المخبرية أو في الارحام الغريبة المستأجرة - لايعرف احدهم نسبته الى من ولا لماذا - وماذا عن سنة التكاثر وتكوين نواة المجتمع المتمثلة بالاسر والعوائل التي يعرف الابناء فيها اباءهم وامهاتهم واجدادهم وانسابهم حق المعرفة ويحملون اسماءهم متعاطفين متراحمين فيما بينهم لعمارة الارض التي استخلفنا الله تعالى فيها، ابالشذوذ جاءت الشرائع السماوية، الهذا بعث الله تعالى الرسل والانبياء الكرام، ابهذا نزلت الكتب المقدسة؟ مؤكد لا، فعلام نبارك المثلية اذن ولسنا مضطرين لذلك البتة بوجود نصوص قطعية تحرمها وفطر سليمة تستهجنها وأعراف وتقاليد تمجها، ومنها "ولا تضاجع رجلاً مضاجعة امرأة. هذا رجس" اللاويين:22:18 "؟ و" ام لستم تعلمون ان الظالمين لا يرثون ملكوت الله.لا تضلوا.لا زناة ولا عبدة اوثان ولا فاسقون ولا مأبونون ولا مضاجعو ذكور" كورنثوس 6: 9، و" اذا اضطجع رجل مع ذكر اضطجاع امرأة فقد فعلا كلاهما رجسا" .اللاويين 20: 12، و" لذلك اسلمهم الله الى اهواء الهوان. لان اناثهم استبدلن الاستعمال الطبيعي بالذي على خلاف الطبيعة وكذلك الذكور ايضا تاركين استعمال الانثى الطبيعي اشتعلوا بشهوتهم بعضهم لبعض فاعلين الفحشاء ذكورا بذكور ونائلين في انفسهم جزاء ضلالهم المحق" رومية 1: 26 - 27 .
* لماذا القمار الورقي والالكتروني والروليت والمراهنات والتاتو واللوتو وغيرها صارت في كل مكان وحي وزقاق من اوربا واميركا تعمل المافيات وعصابات الجريمة المنظمة وتجار السلاح والمخدرات والرقيق الابيض من خلالها على تبييض اموالها القذرة ولايصار الى تحريمه بقوة والعمل على منعه والتضييق عليه بشتى السبل بعد ان دمر مئات الالوف من الاسر والعوائل ومزقها اي ممزق حول العالم، مع ان جميع الشرائع السماوية قد حرمته حرمة قطعية لما فيه من آثام ورذائل واسراف وسفه وحمق لاخفى على عاقل قط، ولعل هذا احد النصوص التي حرمت القمار وحذرت منه " ذو العين الشريرة يعجل إلى الغنى.. ولا يعلم ان الفقر يأتيه" (أمثال 22:28) .
*الخمور اما عن هذه الافة الخطيرة والمدمرة وبحسب منظمة الصحة العالمية فإنها تقتل سنويا أكثر من ثلاثة ملايين شخصا، مؤكدة، ان " حالة واحدة من بين كل 20 حالة وفاة في جميع أنحاء العالم مرتبطة بالخمر" أم الخبائث، وأن هناك 237 مليون رجل و46 مليون امرأة يعانون من اضطرابات ناجمة عن تعاطي الكحول، تتراوح نسبتهم بين 14.8% و3.5% في اوربا، وبين 11.5% و5.1% في الاميركيتين ناهيك على الاف الحوادث المرورية وجرائم الاغتصاب والتحرش الجنسي والسرقة والقتل والمشاجرات والنزاعات والامراض السايكولوجية والفسيولوجية التي لاتحصى كلها ناجمة عنها وبتأثيرها، فلماذا لانصدر تحريما قطعيا لها عبر بيان صريح وواضح لاسيما وان المسيحية وبخلاف الشائع عنها تحرم السكر بالخمور، وتحرم معاقرة الخمور والاقتراب منها بشهوة وانغماس، وتكره احتساء القليل منها "لا سارقون ولا طماعون ولا سكيرون ولا شتامون ولا خاطئون يرثون ملكوت الله" كورنتوس:10:6، "ولا تسكروا بالخمر الذي فيه خلاعة بل امتلئوا بالروح".أفسس:18:5، وقد حرمت الكنيسة الارثوذكسية على رجال الدين شرب الخمر بناء على ذلك، كذلك صنعت اللوثرية، والمعمدانية، والخمسينية، والمورمونية، والسبتية، والميثودية، فإن قيل بأن قليل من الخمر لايضر فإن جميع الدراسات العلمية فضلا عن تجارب الامم الواقعية تؤكد وبما لالبس فيه بأن كل سكارى العالم وثمليه والمدمنين عليه انما بداوا بكأس صغيرة على سبيل التجربة وكل ممنوع مرغوب لينتهوا بقنينة كاملة منها او اكثر في اليوم والليلة، وتمهد اما الى تشمع الكبد لدى ضحاياها او الى الجلطات القلبية والسكتات الدماغية واما الى مراكز العلاج من الادمان الكحولي التي تكلف المليارات سنويا وترهق موازناتها، أسوة بالسجائر فكل مدخني العالم إنما يبدأون بعقب سيجارة - ضمن خطوات الشيطان الاستدراجية على خطى نظرة فإبتسامة، فموعد، فغرام، ففراش في غرفة حمراء، فخلوة، فحرام، فحمل، فإجهاض، فظلام وظلمة وخصام - لينتهي بهم الحال بعلبة كاملة او اكثر، الم يُمدح ويثني على يحيا بن زكريا لأنه لايقرب الخمر" لأَنَّهُ يَكُونُ عَظِيمًا أَمَامَ الرَّبِّ، وَخَمْرًا وَمُسْكِرًا لاَ يَشْرَبُ” لوقا 1 :13-15، فعلام نترك الحبل على الغارب ولا نضع النقاط فوق الحروف في زمن تغرق فيه البشرية كلها من القطب الشمالي الى الجنوبي يشتى انواع الرذائل والموبقات والاثام والمحرمات بما صار وبالا عليها وبما يهدد وجودها على سطح الكوكب من الجذور !
*الزنا والتحلل الجنسي اليوم هو آفة الافات، حتى ان العالم اليوم غارق بطوفان من التهتك والانحلال الجنسي غير المسبوق بشريا بما يؤدي الى ازدياد الأمراض المنقولة عن طريق الاتصال الجنسي بمعدل يصل الى مليون اصابة يوميا بعضها مقاوماً للعقاقير بحسب منظمة الصحة العالمية، مضيفة، ان " الانحلال الجنسي مصدر مهم وخطير لشتى انواع الأمراض العصبية وأمراض القلب والأوعية الدموية والعقم والحمل خارج الرحم وموت الأجنة وزيادة خطر الإصابة بفيروس نقص المناعة المكتسبة المسبب لمرض الإيدز..حتى ان مرض الزهري لوحده يؤدي الى 200 ألف ولادة أجنة ميتة ووفاة حديثي الولادة في العام الواحد على مستوى العالم" اما عن المواقع الاباحية فهناك عشرات الملايين منها على الشبكة العنكبوتية ناهيك عن ما تبثه الافلام والمسلسلات التلفزيونية اضافة الى ادب وفن الاثارة الرخيص، وحسبي ان اذكر هنا وبحسب احصائية اطلعت عليها، ان " المواقع الإباحية تسببت بزيادة الخيانة الزوجية بنسبة 300٪ حول العالم وان نسبة مشاهدات ما يبثه موقع اباحي واحد، وفي عام واحد 2016 بلغت اكثر من 4 مليارات و500 مليون ساعة مشاهدة وكلها تحرض على السادية، والماسيوشية، والنكروفلية، والبيدوفيلية، والزوفيلية، والبارافيلية، والشذوذ ! فلماذا لايصار الى اصدار مرسوم بابوي حاسم للحد من هذه المواقع والتضييق عليها والتحذير من خطر الاباحية والانحلال والعمل على تشجيع الزواج وتيسيره، اذ ان الاكتفاء بتحذير رجال الكنيسة فقط من مغبة الوقوع في شراك العلاقات المحرمة بعد قضايا وفضائح شتى طالت قسما منهم في ارجاء المعمورة وبما صار مادة دسمة للصحف والفضائيات في السنين الاخيرة، لأن الاكتفاء بتحذير رجال الدين على اختلاف رتبهم من دون عامة الناس بوجود كل هذا التحريض والترويج اليومي على الاباحية والانحلال والطوفان الجنسي إنما يشبه اقتلاع ظاهر الشوك من دون جذوره الضاربة في باطن الارض لتنبت سريعا مرة أخرى، ومن دون عوائق تذكر، وماذا عن تفعيل النصوص الاتية " لا تدنس ابنتك بتعريضها للزنى لئلا تزني الارض وتمتلئ الارض رذيلة " اللاويين 19: 29، كذلك " لا تقتل.لا تزن.لا تسرق.لا تشهد بالزور" متى 19: 18؟!
* كل المصارف والبنوك والشركات والمؤسسات الاوربية والاميركية فضلا عن البقية وبدرجة اقل في مختلف بقاع العالم تتعامل اليوم بالربا المحرم شرعا وعرفا وعقلا ونقلا فيما لم يصدر تحريم صريح لحرمة هذا الربا والتحذير منه وقد غرقت اوربا واميركا به الى الاذقان كذلك الامم الفقيرة التي اضطرت للاستدانة من البنك الدولي وصندوق - الحقد - الدولي وكل قروضهما قائمة على الربا المحرم بغية التحكم بسياسات تلكم الدول التي تتورط في حبائله وتسقط في شراكه وبمصائر شعوبها ولعقود طويلة مع ان النصوص عندكم تقول "لا تأخذ منه ربا ولا مرابحة بل إخشى إلهك فيعيش أخوك معك، فضتك لا تعطه بالربا وطعامك لا تعطه بالمرابحة.اللاويين:36:25 و "إن اقترضت فضة لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي ولا تضع عليه الربا"الخروج: 25:22
ولعل الدعوة الى حرمة الربا والتحذير منه اليوم باتت اشد الحاحا من ذي قبل بعد اضطرار عشرات الدول وبسبب جائحة كورونا (كوفيد - 19 ) وهبوط اسعار النفط وانهيار العملات المحلية وافلاس مئات الشركات واغلاق الاف المصانع وتوقف السياحة وتضرر المصالح، وارتفاع معدلات الضحخم والركود والبطالة الى الاستدانة من المؤسستين المشبوهتين الانفتين البنك الدولي وصندوق النقد الدولي !
*لقد ابتلي العالم ومن قرون طويلة بالتمييز العنصري على اساس الالوان والاعراق والتمايز الطبقي حيث اغنياء الى حد الفحش يموتون تخمة، مقابل اضعاف اضعاف اضعافهم من الفقراء الذين لايجدون خبزهم كفافهم لا في يومهم ولا في اسبوعهم ولافي شهرهم وربما في عامهم كذلك علاوة على فقدان علاجهم وسكنهم ولباسهم وتعليمهم وتنقلهم الى حد الموت مرضا وجهلا وفقرا وجوعا والاصابة بفقر الدم الشديد وسوء التغذية، كل ذلك لأن ثلة قليلة رأسمالية تحتكر مقدرات العالم وخيراته وثرواته ومعظمها موجودة في "اراضي وبلدان الفقراء الذين يموتون من شدة الجوع انفسهم ولسان حالهم يقول : ايشتكي الفقر غادينا ورائحنا ونحن نمشي على ارض من الذهب ؟!، فلاهم اعطوهم من خيراتهم ما يقيم حياتهم ويبني بلدانهم، ولا هم تركوهم يستثمرونها بأنفسهم في طبقية مقيتة لتظهر بعد ذلك منظمات انسانية اوربية تزعم انها خيرية تتولى عملية إطعام جياع افريقيا المنهوبة ..آسيا المسلوبة ..أميركا الوسطى والجنوبية المسطو عليها، من قبل دول تنتمي اليها تلكم المنظمات وكان حري بها ان توجه خطابها الى حكوماتها وشركاتها الاحتكارية قائلة لهم " كفاكم سرقة لماس ونفط وغاز وعاج وذهب ونحاس ومنغنيز ومطاط وفوسفات وكبريت وووو، افريقيا وآسيا واميركا الوسطى والجنوبية ولاتتركونهم يتضورون جوعا فيما نقوم نحن وكتحصيل حاصل بأطعام بعضهم من فتات موائدكم - المشفوطة - من ثرواتهم اساسا قائلين لهم - اشكروا الغرب على ما يقدم لكم من معونات ويهدي لكم من لقاحات مشفوعة بشوكولاته مصنوعة من كاكاوكم المنهوب - وبالونات - !!"
جناب البابا الفاضل، لقد خالفت وعلى غير المعهود كنسيا بقية البابوات من قبلك، واخترت اسما لك غير مسبوق بابويا وله وقعه في التأريخ المسيحي" فرنسيس " وذلك وكما صرحت به شخصيا " لشدة اعجابك بالناسك فرنسيس الاسيزي وتيمنا به لكونه كان مثالا للزهد ورعاية الفقراء والمحتاجين ورعاية حقوق الحيوان والنبات"، كما انك متأثر الى حد كبير وكما ورد في سيرتك بما يعرف بـ" لاهوت التحرير "الذي يجمع بين التعاليم الكنسية وبين العدالة الاجتماعية ومساندة الفقراء ورفع الظلم على المضطهدين في كل مكان ومنبعه اميركا اللاتينية التي تنتسب اليها - الارجنتين - والذي يعتمد على مكافحة الفقر عبر مكافحة جذوره والخطايا التي تؤدي اليه والاثام التي تتمخض عنه، فعلام السكوت على الرأسمالية البشعة التي جعلت فئة قليلة من البشرة لاتزيد عن 1% تمتلك من الثروات الهائلة ما يعادل ما يمتلكه الـ 99 % البقية من البشر مجتمعين مقابل تخديرهم بالترفيه والتسلية والمسابقات والاغاني والمهرجانات والكرنفالات والخمور والمخدرات دوريا لئلا ينتنبهوا فيثوروا ويطالبوا يتأميم ثرواتهم التي استولى عليها المرفهون بذرائع شتى بما يعرف بستراتيجية " تسلية الثدي " التي اشير اليها في كتاب " فخ العولمة " تارة، وبالحروب والفتن والنزاعات المصطنعة التي تحرض عليها الفئة القليلة لتزداد ثراءا فوق الثراء ولتبيع السلاح الى طرفي النزاع تارة أخرى، بما يحلو لي تسميته بـ " تدويخ العفل والجمجمة بالحروب والفتن والكوارث العبثية الغاشمة والناعمة "والمطلوب حاليا ليس ارسال فتات الطعام ولابقايا موائد اللئام الى الايتام لالالالا، وانما الى تحقيق وترسيخ مبادئ - العدالة الاجتماعية - انطلاقا من قول المسيح عليه السلام " تحب قريبك كنفسك " (متى 22: 39) و" لاَ تَأْخُذْ مِنْهُ رِبًا وَلاَ مُرَابَحَةً، بَلِ اخْشَ إِلهَكَ، فَيَعِيشَ أَخُوكَ مَعَكَ " سفر اللاويين (25 :36)، وقوله " لا تسرقوا ولا تكذبوا ولا تغدروا احدكم بصاحبه" اللاويين 19: 11ليوضح لنا طبيعة هذه المحبة الحقيقية "يَا أَوْلَادِي، لَا نُحِبَّ بِٱلْكَلَامِ وَلَا بِٱللِّسَانِ، بَلْ بِٱلْعَمَلِ وَٱلْحَقِّ" يوحنا 3: 18 والكل يسأل اليوم وحق له ذلك مابال ولا رجل اسود ولا اسمر ولا احمر ولا اصفر لم يتول البابوية حتى الان بل وبإستثناء البابا غريغوري وجنابكم الكريم لم يتول غير الاوربيين حصرا هذا المنصب طيلة قرون، فهل هناك مشكلة في اللون والعرق بتولي مثل هذا المنصب الحساس انطلاقا من نظرة استعلائية بدأت بإستعباد اولاد كنعان - السمر والسود - ليافث وسام بعد واقعة مشكوك بوقوعها ويعف اللسان عن ذكرها لأنها تطعن بنبي الله نوح عليه السلام واحد اولاده، تمخضت عن ذلك كله، أم ان القضية عفوية وكل ما يحدث مجرد صدفة لا اكثر، ولكن اي عقل او اي منطق بإمكانه ان يستوعب بأن مصادفة مازالت ماضية في الخلق لقرون طويلة من دون ان يطرأ عليها طارئ يغير من مسارها وينعطف بها يمينا او شمالا ليذهب بها بعيدا الى مديات اوسع وافاق ارحب ..ولماذا الصور المنسوبة الى السيد المسيح كلها تظهره على انه عار بإستثناء خرقة تستر عورته وبملامح اوربية بحتة حيث الشعر الاشقر والعينين الزرقاوين بما ابتدعه وتخيله رسامو عصر النهضة من بنات افكارهم ومن محض تخيلاتهم واوهامهم، مع ان السيد المسيح عليه السلام قد ولد وترعرع واتم دعوته كاملة في الشرق الاسمر، لا في الغرب الاشقر، فهل تعزز هذه اللوحات الاوربية بعضا من الاستعلائية الطيقية والقومية على بقية الشعوب حول الكرة الارضية ..؟!اذا كان الامر كذلك حقا فالمطلوب المزيد من الهمة التي لاتلين لإزالة جميع الفوارق الطبقية والاثنية والتمييز بين الشعوب حول العالم !
وقبل ان اختم الرسالة الثالثة اوجز خلاصتها وغايتها " اذا اردنا ان ننشر السلام الحقيقي في العالم اجمع فلابد لنا من ان نزيل اولا وقبل كل شيء كل ما يعترض سبيله من عراقيل وعقبات ومعيقات واسلاك شائكة وحواجز لتنعم البشرية بالرخاء والازدهار والسلام ولايخفى على جنابكم بأن القمار والربا والتمييز العنصري المقيت والفوارق الطبقية الهائلة والاحتكار البشع والربا الوحشي والرأسمالية المتوحشة والشذوذ الجنسي والتحلل الاخلاقي كلها عقبات مخيفة وصخور كداء وجدران صماء أمام أي سلام، وأي حوار، وأي نداء، وبخلاف ذلك مع وجود كل تلكم المعيقات والعقبات فدعوات السلام ولاريب ستكون بمثابة نفخ في قربة مثقوبة ورسم على رمال الشاطيء، حرث وسط البحر، سرعان ما ستتبدد مع اول موجة ماء، والاجدى هو الحفر على الصخر الذي بإمكانه ان يبقى ويعمر طويلا ما شاء الله تعالى له ان يعمر " .
احمد الحاج
هل هناك قراءات محايدة للنص الديني؟
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عدنان عويّد
الحياد في المواقف الفكريّة، هو أن تتخذ الحدّ الوسط في الرأي. أي عدَمُ الميل إِلى أي طرفٍ من أَطرافِ الخُصومة، أو الاختلاف في الرأي تجاه مسألة من المسائل يتم تداولها أو النقاش حولها. وهذا ما يمكن أن نسميه أيضاً بالحياد الايجابي. وبالرغم من معرفتنا بأن مسألة اتخاذ المواقف المحايدة من قبل الذين يشتغلون على كشف وتأكيد الحقائق، غالباً ما يتعرضون لموانع كثيرة تحول بينهم وبين ادعائهم الحياد، كدرجة وعيهم، واهتماماتهم، ومداركهم، ومصالحهم الماديّة والمعنويّة، ومرجعياتهم الطبقيّة والفكريّة والاجتماعيّة والأيديولوجيّة والحزبيّة.. وغير ذلك الكثير.
من هذا المنطلق (الحياديّ) تأتي مسألة توظيف النص الديني في حواراتنا وكتاباتنا عن قضايا تتعلق بدور الدين فيها، ومدى شرعيتها، أو توافقها مع النص.
إن تفسير أو تأويل الآية القرآنيّة التالية: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ). النحل. (89). جعل بعض القوى السياسيّة الإسلاميّة الداعية إلى الحاكميّة، تعتبر أن النص الديني (القرآن والحديث) هما المرجع الأساس للحاكميّة في هذه الحياة، وبالتالي كل رؤى أخرى وضعيّة يطرحها الناس لحل مشاكلهم خارج هذا النص المقدس هي بدعة وضلالة حتى ولو أجمع عليها الناس في برلماناتهم أو مجالسهم النيابيّة.
يقول ابن مسعود في تفسيره لهذه الآية: (إن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق، وعلم ما سيأتي، وحُكْمَ كل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم، ومعاشهم ومعادهم). (1).
إذن من هذا المنطلق التفسيري أو التأويلي لهذه الآية، على اعتبار أن الكتاب أو القرآن يحتوي على كل شيء يتعلق بحياة الإنسان ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، كما بين ابن مسعود، وغيره من مفسري الماضي، أو مفسري الحركات الإسلامية السياسية والجهادية منها في عصرنا الحاضر، يُحيلنا إلى مواقف بعيدة عن الحياد بالضرورة، وخاصة في قدرتنا على استخدام عقولنا التي وهبنا الله إياها في إدارة شؤون دنيانا وتعمير هذه الأرض، ونحن الأدري بشؤون دنيانا كما يقول الرسول.
ما أريد قوله هنا هو: إن الآية السابعة من آل عمران: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ). (آل عمران-7). تبين لنا حالات الاختلاف في النظر – أي في استخدام العقل - إلى نصوص القرآن، وهذا ما أشار إلية ابن كثير في تفسيره على سبيل المثال لا الحصر بقوله: (خَبًرً تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب، أي: بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد من الناس، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فهناك من رد ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحَكّمَ محكمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى . ومن عكس انعكس... وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه). (2).
إذن، هناك اختلاف في النظر (العقل)، إلى المحكم والمتشابه من الآيات القرآنية. فغياب دلالات هذه الآية المتشابهة أو تلك تجعل الكثير ممن اشتغل على مجال الفقه أو علم الكلام، أو العقائد أو غيرها من علوم الدين، يقع في متاهات التفسير والتأويل والحكم بالتالي على الظواهر أو الأحداث، وخاصة من حاول توظيف الدين لقضايا نفعيّة سياسيّة كانت أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة أو فرديّة، أو انطلاقاً من قناعة أكيدة عندهم بضرورة تطبيق الدين وحاكميته لكونه برأيهم حكم الله المقدس الذي لا يقبل الالغاء أو المراجعة أو التعديل، وقد حقق كما يعتقدون في مراحل تاريخية - وخاصة العهد الراشدي - العدل والمساواة بين الناس. بيد أن هذه الرؤية الوثوقيّة أدت إلى خلافات كثيرة وجريان دم بين المسلمين، وكان لها الدور الكبير أيضاً في ظهور المدارس الفقهيّة والكلاميّة والمذهبيّة وخاصة الفرقة الناجية.
إن غياب التفريق بين المحكم والمتشابه في النص القرآني عند المتنطعين أو محاربي استخدام العقل في تفسير النص من الفقهاء وعلماء الكلام والباحثين في التراث الإسلامي، سابقاً ولا حقاً، جعلهم برأيي يشتغلون بطريقة براغماتية ووثوقية في بحوثهم ودراساتهم وتشريعاتهم واتخاذ أحكامهم من خلال اتباع المنهج التالي في البحث والتقصي عن هذه الأحكام وهو الذي حدده الشافعي: فهم لديهم الفكرة أو القضية التي يريدون تسويقها أو فرض حكم شرعيّ عليها، أو شرعنتها، فيذهبون إلى القرآن للبحث عن دليل لها، وإن لم يجدوا يذهبون إلى الحديث، وإن لم يجدوا يذهبون إلى أقول الأئمة والفقهاء .. الخ. وكل ذلك يتم دون التبصر في المحكم والمتشابه من الآيات التي يعتمدون توظيفها للحكم أو شرعنة ما يريدونه، وغالباً لا ينظرون أيضا في خصوص السبب بالنسبة لنزول الآية التي يتكؤون في حكمهم عليها، ويعتمدون على عموم اللفظ، كما نجد أيضاً عند بعض الفقهاء رؤى تجافي الحقيقة خدمة لتلك المصالح، فإن وجد هناك نص ديني كدليل على ما يريدون الحكم عليه يقولون إن هذا الدليل قد تم نسخه، وهذا ما تم في الحقيقة، حيث قالوا بأن الآية الخامسة من سورة التوبة قد نسخت خمس مائة آية من السور المكيّة.
من خلال هذه المعطيات التي جئنا عليها هنا يأتي الأخذ بآية: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ). النحل. (89). عند المتنطعين الذين يرفضون الرأي الآخر المختلف، سلاحاً في فرض قناعاتهم على الاخرين وتديين المواقف السياسية خدمة للسلطان ً. ونأخذ مثالاً على ذلك، قضية ذبح "الجهم بن صفوان" والتضحية به يوم العيد من قبل خالد بن عبد الله القسري، وكان يومها والياً على العراق في حرم الجامع بأمر من الخليفة هشام بن عبد الملك، الذي اتهمه بالزندقة والكفر كونه قال بخلق القرآن، بينما الدافع الحقيقي هو وقوف الجعد إلى صف المحرومين من الموالي، الأمر الذي جعل القوى السلفيّة تبرر زوراً هذا الذبح كموقف عقيدي/ ديني،(3). ونحن نعرف أن العقيدة تقر بضحية العيد على الأنعام وليس على البشر.
إن هذا الموقف المخالف للنص الديني راح يجد قبوله وشرعنته لاحقاً عند ابن تيميّة وتلميذه ابن قيم الجوزيّة ومشايخ الوهابيّة، وكل من برر هذا القتل (الذبح) من مشايخ وفقهاء السلفيّة في الماضي والحاضر، بل وعند كل من سكت عن هذه الجريمة تاريخياً. وهذا الذبح ذاته امتد إلى تاريخنا المعاصر، كما فعلت داعش في مسلخ أبوكمال عندما ذبحت عدداً من المختلفين معها في المسلخ يوم العيد. والأنكى من ذلك تأتي وثوقيتهم المميتة على مجال العلم والاختراعات الحديثة، حيث نجدهم يسارعون إلى القرآن والحديث يبحثون فيهما عن أي شيء يشير إلى دلالات هذا الاختراع عند المؤولين للنصوص كي يقولوا إن هذا الحدث العلمي الجديد موجود في هذه النصوص قبل أن يُكتشف، دون أن يسألوا أنفسهم لماذا لم يكتشفه العرب أو المسلمون قبل اكتشافه من قبل الغرب في عصرنا الحاضر. ولا نستغرب أيضاً عندما نجد من يكفر هذه الاختراعات العلميّة ويكفر من استخدامها كون المسلمين الأوائل لم يستخدموها في عصرهم، وبالتالي هي تدخل في باب الضلالة، متناسين أن الأصل في الأشياء الاباحة، وإن كل حادث لم يرد فيه نص تحريم هو مباح، ويخضع في شرعنته للمقاصد الدينية الخيرة التي يدعوا إليها النص الديني وهي: حفظ الدين بوجهه الصحيح، والنفس، والمال، والنسل، والعقل.
ملاك القول: عند تناولنا لأي قضيّة من قضايا حياتنا ونريد شرعتنها أو إعطاء حكم فيها بنص ديني، علينا:
1- أن ننظر بالمحكم والمتشابه في الآيات.
2- وأن نتخذ من مقاصد الدين الخيرة مرجعاً أساسياً في تفسير أو تأويل المتشابه منها، أي رده إلى المحكم من الآيات كما ذكر ابن كثير أولاً وهو مصيب في ذلك،
3- ثم النظر بعموم الآيات التي تتعلق بهذا الموضوع لمعرفة أسباب نزولها. ثم النظر في العام والخاص منها، أي المجمل والمفردً. وبالتالي نختار الحكم الذي يتفق مع الحدث أو الظاهرة المستجدة.
4- وأن لا نمارس الناسخ والمنسوخ من الآيات على هوانا، كأن نقول كما قال بعض الفقهاء بأن الآية الخامسة من سورة التوبة نسخت (500) آية من الآيات المكيات التي تدعوا إلى التسامح واحترام الرأي الاخر وعدم التنطع بالدين. أو أن الحديث ينسخ القرآن. (4).
5- وأخيراً أن نأخذ بالجانب العقلي أيضاً في التشريع، أي الآخذ بالاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع، وتغير الأحكام بتغير الأزمان، وغيرها من القواعد الفرعية في التشريع التي تساهم في فتح باب الاجتهاد ومراعاة خصوصيات الواقع والتطور والتبدل الذي يحدث في الوجودين الاجتماعي والروحي / القيمي للناس.
أمثلة على الآيات المتشابهات:
10- آلآية المعروفة باسم "آية السيف" تقول: "فإذا انسلخ الشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة فخّلوا سبيلهم أن الله غفور رحيم". صورة التوبة – (5).
2- (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..). (الكهف. 29).
3- (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ). الحاقة . 17.
4- (ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ). (الشورى:11).
5- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا). (النساء 59).
6- (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلْإِنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰاسِقُونَ). (المائدة 47).
7- (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ ٱلتَّوْرَىٰةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَآ أُوْلَٰٓئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ). (المائدة 48).
د. عدنان عويّد
كاتب وباحث من سورية.
......................
الهوامش:
1- موقع: (www.alukah.net › sharia).
تفسير قوله تعالى: ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء.
2- موقع:quran.ksu.edu.sa › tafseer › katheer sura3-aya.
(القرآن الكريم - تفسير ابن كثير - سورة آل عمران) - ...
3- راجع حول الجهميّة وذبح الجهم بن صفوان: موقع الدرر السنية. بحث بعنوان: المبحث الثاني الجهميّة. وراجع أيضاً كتاب (مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة) للابن قيّم الجوزيّة. الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
4- القرآن الكريم - تفسير ابن كثير - تفسير سورة التوبة – الآية 5. موقع: quran.ksu.edu.sa › tafseer › katheer › sura9-aya5.
المثاقفة بين حسام الخطيب ونجم عبد الله كاظم (1)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. صالح الرزوق
قراءة في المنهج والمعاني
ربما كان الهم الأول لمشروع الدكتور نجم عبد الله كاظم هو تتبع مسارات وطرق المؤثرات الأجنبية وتجلياتها في الرواية الحديثة المكتوبة في العراق (1). وهذا يذكرني بمشروع مماثل للدكتور حسام الخطيب والذي تتبع به أشكال المؤثرات الفنية في الرواية المكتوبة بسوريا(2). وما يلاحظ على إطار مشروع الدكتور الخطيب هو نفسه ما يمكن ملاحظته على مشروع الدكتور كاظم.
الاثنان يحددان مساحة جغرافية للنص مع أن الجغرافيا تتداخل لحد بعيد مع الذهنية العربية المنتجة. ولا شك أن موضوعات الرواية السورية والعراقية واحدة ولذلك عدة أسباب.
أولا بحكم الجوار. وثانيا بحكم اللغة المشتركة. وثالثا، وهو الأهم، العلاقة المتشابهة بين هم التحرير وبناء الشخصية المستقلة الحديثة. وإذا كانت سايكس بيكو 1 قد وضعت العراق تحت مظلة إنكليزية وسوريا تحت مظلة فرنسية، تبقى الخطة هي هي، وغايتها تفكيك أي ارتباط بالماضي الإمبراطوري العثماني، وعزل المكونات في علب جيوبوليتيكية لا تختلف في حقيقتها أو جوهرها. وقد سقطت سياسة هذه العلب، ولا سيما بعد دخول سايكس بيكو 2 على الخط بزعامة أمريكا، وعودة الحرب الباردة بين الحضارات.
وإذا وضعنا بالذهن حقيقة أن الوعي في الرواية العربية هو وعي تعريبي وليس إدراكا عروبيا لجوهر القضية، لا يمكن بأية حال من الأحول عزل ظاهرة الرواية العربية عن مرجعياتها. وهذا ما يبرر تداخل العناصر التقليدية في المقاربة مع عناصر التحديث في الأساليب والموضوعات (كما تفضل الدكتور نجم في مقدمة كتابه: جماليات الرواية العراقية - ص10). إن هذه الخيارات التي يغلب عليها الغموض والحيرة والتردد، مع شيء غير قليل من الندم والتذمر، يعكس أيضا واقع الرواية في بلد المنشأ، ولا سيما التي ولدت بعد معاهدة سايكس بيكو. فهي أيضا رواية يخيم عليها القلق التراجيدي والخوف من الذات والعالم. وأعتقد أنها كانت مشغولة بفهم الأثر المدمر للحربين العالميتين وظاهرة نشوء الدكتاتوريات الاشتراكية ذات المضمون العسكري. لقد كانت الرواية الأوروبية (ومثلها الأمريكية) متورطة بحرب ذات حدين: ذاتي وهو موجه ضد واقع مضطرب ورأسمالي وقهري. وحد موضوعي الغاية منه تحرير ذاتية المبدع من رقابة الواجب المفروض لأسباب وطنية. وهكذا تكالب الاتجار بالوطنيات مع الاتجار بالتحرر من أعباء الحاضر المذنب والمخطئ لتبديل أخلاق العقل السردي وإغراقه في بحر من الرماد والإظلام. ولم يكن هناك ما هو أفضل من هذه الحالة الزجاجية والسائلة لتنبيه الرواية العربية من عدة عناصر ساكنة: اللعب باللغة (خطابها البلاغي)، واللعب بالوجدان (خطابها العربي المتأسلم)، وذلك لمصلحة رؤية تجريبية نظرت بها الرواية لنفسها ولواقعها المعاش من وراء جدار زجاجي شفاف كما فعل غالب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي وفي مرحلة لاحقة عراب الرواية الفلسطينية في المنفى جبرا إبراهيم جبرا.
وعليه إذا كان رأي الدكتور كاظم أن الرواية العربية تنحو لتصحيح مسارها بالانطلاق من إعادة النظر بالتقاليد (أو ببناء خبرات الحاضر على وعي مخيلة الماضي - بلغة مقننة حقن التقليد بالحداثة / ص 11)، فهذا أيضا مؤشر على مشكلتين.
الأولى هو ضرورة متابعة بوصلة الرواية التي لم تعد حكرا على الغرب (الغربي - أو نطاق حضارات الشمال).
الثانية هو وعي الحضارة الجريحة بذاتها. وتعبر عنه ما يسميه الدكتور كاظم رفض موجات الكتابة عديمة الهوية (ص12) والتي كانت عبءا على مسيرة الرواية في العراق (وبالضرورة في بقية بلدان الشرق الأوسط وآسيا).
وهذا يقودنا لنقطة ثانية لوح بها الدكتور كاظم في مستهل كتابه وهي زيادة مساحة الأعمال الواقعية (الاهتمام بأصول كتابة الرواية ورفد جذورها المستوردة بهم محلي كما هو حال “النخلة والجيران” لفرمان و"الرجع البعيد” للتكرلي على سبيل الذكر لا الحصر/ص13). طبعا دون إغفال هموم التجديد كما تعكسها طموحات رواية الأصوات (“خمسة أصوات” لفرمان/ ص 13).
وبرأيي أن هذه الحالة السريرية هي جزء من الذات الشاملة للخيال الروائي. فهي تعبر عن استنفار الرواية ضد نفسها، ولا سيما على طول خطوط المواجهة بين غرب خشن وآخر ناعم. وإذا كانت لدينا استثناءات (يحددها الدكتور كاظم بعبد الرحمن الربيعي وإسماعيل فهد إسماعيل / ص 12 - بالمناسبة هو نصف عراقي - وموضعيا من أهم رموز الأدب الحديث في الكويت) هناك في الشمال استثناءات كذلك (بدأت مع بوتور في فرنسا وجون بارت في أمريكا وانتهت مع جوليان بارنز وويل سيلف في بريطانيا).
بتعبير آخر إن حالة التأهب (والثقوب البيض القليلة التي تخترقها) تدل على صيرورة المخيلة، أو تشابه حالة الوضع البشري، وبالتالي على التأزيم الموضوعي الذي يقودنا لتأزيم ذاتاني. ويمكن ملاحظة هذه الحقيقة بأجلى صورها إن قارنت عملا لإميل حبيبي مع آخر ليائيل دايان أو عاموس عوز.
لدى الطرفين قانون إبادة أو قانون اتهام وتنظيف. وهذا يعني أن عقدة الرواية الأساسية أو حبكتها هي الصراع الوجودي بين مشاعر الخوف والندم (بلغة برديائيف في سياق كلامه عن شعرية دستويفسكي).
وقد عبر الشاعر الفلسطيني المرحوم محمود درويش عن هذه المعضلة بقصيدة (الظل) من مجموعته “لا تعتذر عما فعلت”(3)، وفيها يقول:
كنت أمشي، كان يمشي
كنت أجلس، كان يجلس
كنت أركض، كان يركض (ص83).
ثم يضيف بلغة ملحمية وقيامية قل مثيلها:
استدرت إلى الطريق الجانبية
فاستدار إلى الطريق الجانبية
قلت: أخدعه وأخرج من غروب مدينتي
فرأيته يمشي أمامي
في غروب مدينة أخرى (ص84).
إنه مثلما ينادي حبيبي في كل أعماله بضرورة تحرير طاقات الأرض وبالتالي الإنسان، أشتهي أن أجد عملا واحدا لدايان لا تنادي فيه بتحرير الطاقة البشرية وإسقاطها على مشكلة تحرير الأرض من نفسها. وأوضح مثال على ذلك في (غبار). إنها رواية عن إطلاق الأرض من ضريحها أو عن يوم قيامة الأرض. وهو نفسه يوم تحرير المكبوت من وعيه الباطن. وإذا عدت بالذاكرة إلى الخلف قليلا ستجد نفس المشاهد القيامية لمشكلة النزوح (الخروج والتيه في فضاء المكان) عند إيثيل مانين في (الطريق إلى بئر سبع) ثم عند أهداف سويف في (خارطة الحب). وكلا العملين مكتوب بلغة إنكليزية. وهذا يضع التقاليد والحداثة على صفيح ساخن. إنه لا يساوي بين النقائض فقط ولكن أيضا يساوي بين أجزاء المخيلة. وبودي أن أقول إن الفكرة الصهيونية دخلت في عدة دورات كالتالي: دين - أمة - دين الأمة. ويمكن أن تعتبر أن هذه الدورات المغلقة والضيقة هي مجرد انعكاس لما يجري في الجهة المقابلة بين العرب. فقد بدأت الصحوة القومية من تحت مظلة الدين، ثم تحولت لخطاب قومجي أو تحرري، ولكن سرعان ما انكفأت على نفسها وراء شعارات الدين مجددا. وهكذا تجد عند العرب أربع دوائر وليس ثلاثة فقط كالتالي: أمة الدين - الأمة - دولة الأمة - دين الأمة.
وإذا كانت الرواية العربية مهمومة بالواقع العربي وتحدياته، فإن الرواية الأورو - أمريكية تمر بهذه المحنة. فهي مهمومة بتحديات آفاق المستقبل، ومشكلة استعمار الإنسان لنفسه، أو مشكلة تدويل النماذج. ويمكن دائما أن تضع (عرس الزين) للطيب صالح في كفة مقابلة لرواية (تورتيلا فلات - أو خميس عذب) لشتاينبك. كلا العقليتين مشغولتان بتوسيع نفوذ الطبيعة والغريزة على حساب العقل والمنطق، وبتحرير الجماد من سكونيته واستعمار الطبيعة غير العاقلة للطبيعة العاقلة (الإنسان). وكأن هذه الروايات هي ترجمة لمقولة عالم الاجتماع هابرماز في تداول الأدوار بين البنية التحتية والفوقية وبشكل موجات مرتدة.
لا يفوتني هنا التنويه إلى مشكلة الروايات الأوروبية المفتوحة. لقد كانت المخيلة الأوروبية مدينة لحملة توعية بالذات (الاستفادة من تكنيك الخيال القروسطي وما قبله مع كثير من عناصر الأسطورة والحكاية الشعبية - وتجد ذلك بقوة في كتابات البريطانية أنجيلا كارتر ومعظم أدباء اليابان من جيل الحداثة). وهو نفس ما تفعله الرواية العربية المتأوربة (حينما تعكس واقعها الفني وتجتهد لتسويقه بأشكال تراثية). وربما من أحدث الأمثلة على ذلك مشروع برهان الخطيب الذي يراهن على ظاهرة المقامة والإيقاع، أو مخيلة الصوت، أو لنقل الذاكرة الإحيائية. لقد حقن حساسياته الوجودية الدافئة، والتي انطلق على هدي زخمها في نهاية الستينيات (من خلال “ضباب في الظهيرة” ثم “شقة في شارع أبو نواس”) بوعي نهضة مضادة (تكون القيمة فيها للصوت وليس الفكرة) كما فعل في روايته (ليالي الأنس) ثم روايته (عابر قارات). وبالتأكيد سبقه إلى ذلك الرائد والمعلم جمال الغيطاني في أعماله المملوكية التي وازنت بين هدم الأشكال وبنائها، أو ربطها بالماضي وانفصالها عنه. وإذا احتفظ الغيطاني من اللغة المملوكية بأساليب الإنشاء والترسل، فقد تخلى بذكاء ولباقة عن أسلوب تقديم الشخصيات، واستعاض عن التفكير بالأحاسيس، أو وضع الرغبة مكان الإرادة. بمعنى آخر لقد استسلم لإيقاع الشخصية من داخلها، ولم يجرفه إيقاع الواقع المجرد والمشخصن. وهذا يفسر كلام الدكتور كاظم عن اشتراك الموضوعات في الإلغاء والاحتفاظ (ص 15).
صالح الرزوق
....................
هوامش:
1- جماليات الرواية العراقية. منشورات دار شهريار.224ص. البصرة. 2018. وكل أرقام الصفحات المذكورة تشير لهذا المصدر ما لم يتم ذكر غير ذلك..
2- سبل المؤثرات الأجنبية وأشكالها في القصة السورية الحديثة. منشورات رام الله. 194 ص. ط6. 2018.
3- لا تعتذر عما فعلت. منشورات رياض الريس. لندن. 169 ص. 2008.
ازدراء الأديان
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. سامي عبد العال
ربما لا تكفي العبارات الساخرة لوصف تهمة " ازدراء الأديان" التي تؤيدها قوانين بعض دول العرب تجاه من ينتقد شيئاً مقدساً لدى الناس. ذلك بعد أنْ أمست أغلب الممارسات العامة محجوبةً عن التفنيد والمراجعة والتغيير. بالفعل ينبغي وجود سخرية تواجه هذه التهمة الجديرة بالازدراء حقاً، فلربما يُبطل تناطُّح السخريات مفعول الاتهام الطائش!! لأنَّ ركْض الاسلاميين ومن قَبل ركْض الدولة كجهاز رقابي خلف المثقفين والكُّتاب يمثل ذروة الملهاة وسط مجتمعاتٍ تسيئ بأكملها إلى الله بالفشل الحضاري والتلاعب بالدين!!
لقد حوّل الطرفان الحياة العامة إلى أحراشٍ يقتنص فيها الارهابُ كُلَّ من يقف بطريقه ثم تباركه الدولة على نحو غير مباشر. حتى أصبح المثقفون فرائس مطاردة ليل نهار كلَّما أدلوا بدلوهم في القضايا الدينية الشائكة. ومرةً ليست بالأخيرة ستضيع أية مجهودات معرفية ناقدة ضمن هذا الجو من الرعب الاجتماعي والفكري المغلَّف بالغطاء الديني. فضلاً عما يُنذر به من مستقبل ظلامي لجوانب الحوار حول خطابات الدين ومجالات استعمالها. وكأنَّ كل متحدثٍ في الشأن الديني (من غير المتخصص) سيهدم الدين، فضلاً عن الاعتقاد المقلوب لهذا الوضع وهو انشاء طبقة من رجال الدين الذين يتكلمون باسم الله فقط دون سواهم ولا يحق لغيرهم أنْ يناقشوا أمراً من أموره.
أفهم منطقياً أنَّ المؤدلجين دينياً ينصبون الفخاخ للإيقاع بالمفكرين والأدباء في مصائد التكفير، غير أنّ البلاهة قد وصلت بالدولة العربية (التي يجب أنْ تكون محايدةً) إلى تهيئة أجواء الضغط السياسي لإشعال هذا الصراع. لأنَّ الهدف من الإيقاع بين الاسلاميين والمفكرين هو التخلية بين الاثنين وبين أي تأثير واسع النطاق في الرأي العام. فالحرية التي يسعى إليها المفكرون ويتكلم عنها المثقفون هي المساحة الحرجة التي تراهن على تفخيخها أنظمة الدولة العربية ولا تريد أن تتسع حتى لو على جثة الشعوب ومستقبلها. بحيث يصبح كل من ينادي بها فريسة حلالاً لأي قاتل باسم الدين والحفاظ على مقدسات الأمة. وليس أنكى من أن تلعب الأنظمة السياسية اللعبة القذرة بأنْ تضع أطياف المجتمع في تناحر هي الكاسب الوحيد خلاله على حساب كل الأطراف. وبحكم كون الدولة بمثابة الوريث التاريخي للأساطير ومفاهيم الألوهية، فإنها تضع نفسها ضمنا في تلك المكانة المقدسة دون الشعوب.
بل رأينا في حياتنا المعاصرة جني ثمار التقديس من الشعوب، فلا الأنظمة ترى أفقاً حراً لحياة كريمة، ولا ترى تنوعاً ضرورياً بين المواطنين والعقول لبناء المجتمعات، ولذلك أخذت الدولة العربية الحديثة خطاب التكفير تحت غطاء القانون، ورسّخت الديكتاتوريات بمنطق مدني هذه المرة. وهنا المفارقة الساخرة: أن المجال العام لا يحرر بمنطق الدولة العربية رغباتنا وقدرتنا على التواصل الفاعل رغم أن الدولة في الغرب هي التي أسهمت في تأسيسه على قواعد الحرية والتنوع والحقوق والعدالة والمساواة. الدولة العربية تحارب المجال العام وباتت تدير الدين في شكل طقوس فقط، أما روحه وإمكانية أن يسهم في تطور الحياة الإنسانية، فهذا موضوع لا يعنيها وتتغافل عنه.
وعبر البناء التاريخي لهذا الصراع المراوغ، فإن الاسلاميين قد مثلوا (أو بالأحرى تم تنصيبهم) رأس حربة حديثة تجاه كافة أطراف التجديد والتحديث والتغيير للخروج من عصور الاستبداد. والحال أن الاسلاميين ينفثون إهانات يومية إلى أي دين طالما يخالف مذاهبهم. ويصنفون البشر على مقاييس اعتقادية تركها الله لتنوع الناس بلا حدود. ولو أنَّ هناك معياراً– من أي نوع- لكانوا هم الذين يسيئون أولاً وأخيراً إلى المقدس. فمن لا يُقدِّر الإنسان (أي إنسان) حين يفكر بحريةٍ وأصالة وإبداع لا يعرف إلهاً. ولا يحق له سرقة ملكوته ليفسد فيه ويسفك الدماء ويتعقب الآخرين. فالتلصص الديني بهذا المعنى يضع أصحابه في خانة المتنطعين. هؤلاء الذين يتفيهقون بأمور لا يعلمون مداها ولا تأثيرها على الحياة.
والغريب أنْ يجري ذلك داخل المحاكم ودور القضاء المثقلة بالمشكلات والأعباء والتحقيقات والقضايا المدنية. كأن جميع القضايا قد حُلت وانتهى أمرها ولم يبق إلاَّ ازدراء الدين والتجرؤ على المقدسات. بينما يعرف الاسلاميون قبل سواهم أنهم يحتالون لقهر المجتمع على قبول مواقفهم وآرائهم. ولأنَّ الطريق الوحيد لكشفهم كان هو التفكر العقلاني، فإنهم يدّعون الامتلاك الميتافيزيقي للقداسة. ويؤكدون طوال الوقت حماية ما يمتلكون زاعمين أنه الخير العميم للناس والأرض جميعاً. وفي الطريق الزلق نفسه يشيرون إلى دفاعهم عن ثوابت المجتمعات العربية الإسلامية وهويتها.
إنَّ التنطّع باسم الله طفرة جديدة بأشكال سياسية وتكنولوجية في قضايا الدين. لأنه بمثابة الانتهاك لحقوق الإنسان، لا لحقوق المختلف في المعتقد وحسب، بل كذلك داخل الإسلام نفسه. فقد يظن الارهابي أنه يتحدث بشكل أحادي لا خطأ فيه مانعاً خصمه حتى من طرح رأيه. وتلك كانت خطوة أولى لتكميم الأفواه جميعاً للمسلمين وغير المسلمين. ليس خوفاً على الذات الإلهية لكن تمهيد للاستيلاء على المجتمع من باب خلفي. وبهذا لن يكف الإرهابيون عن التحرش بالأفكار المعارضة في شخص أصحابها. ولأنهم لا يقدرون على النزال الفكري الحر، فسيكون اعتقال الجسد واغتياله أحياناً هو المجال الواضح. ومن ثم كان تركيزهم على العنف المادي كما جرى مع الأديب المصري نجيب محفوظ وحيال المفكر الأردني ناهض حتّر.
والسؤال الآن: من الذي بإمكانه أن يحدد معايير هذا الازدراء؟ ومن يدَّعى هذا الحق أصلاً؟ هل بغلبة الفهم العام المتوارث للنصوص الدينية وبالاستيلاء على سلطة الدولة؟ هل عن طريق الفقهاء ورجال الدين وفقهاء القانون والسياسة؟ وإذا تمَّ ذلك بهكذا وضع، أفليست المسألة عودةً إلى تفتيش الضمائر وتعريتها؟ فالهيئات القضائية لو أخذت خطوة كهذه بناء على دعاوى قضائية مرفوعة من الاسلاميين، فإنها ستشارك في جرائم جديدة. جريمة الحُكم على الإيمان بوسائل غير إيمانية وبإجراءات مشبوهة في أغلب الأحوال وإقامة سلطة زمنية على الحياة الروحية. وسيجري التنقيب عن الأفكار بمعاول هدم قانوني وستصبح تلك سابقة عقاب لا أكثر.
ظهر الازدراء الفعلي حينما تغنت جماعات الارهاب الديني بقتل وذبح البشر على قارعة الحياة العامة. لم تأبه لأهمية ثراء معاني الله داخل روح الإنسان وتجلياتها. فهل الله، المقدس، بعيد عن هذا الروح؟ وإذا كان الروح الإنساني قبساً من الوجود الإلهي، كيف يستحلون بتره، تدميره؟! أليس ذلك جنوناً لا مجرد "ازدراء" موثَّق بالقانون على الملأ؟! لعل منطق التجريم لما هو روحي أضعف الحجج لملاحقة الخصوم. لا تفكير ولا نقد بإمكانهما تجاوز أزمة المعتقدات الشائعة. تلك التي ترسخت بالعادات والتقاليد وشكلت يقيناً جمعياً غير صحيح. ولهذا تعتبر مجتمعاتنا هي الأخرى ضحية مئات السنوات من الجمود العقلي والتخلف الحضاري. وكلما ظهرت توجهات حديثة وابداعات أدبية وفكرية لا تجد صدى كبيراً، ولمحاربتها يحولونها إلى نوع من محاكم التفتيش بتواطؤ المجتمع والدولة معاً.
أظن أن الاسلاميين يخافون الإبداع الفكري لأنه يزلزل أركان مملكتهم القائمة على التقاليد. فليس أكثر ضجيجاً من إلقاء الخصم أرضاً بضربة قاضية تحت صراخ البسطاء المخدوعين. حين يشهر الاسلاميون سلاح التفسيق والتبديع لتعرية المبدعين أمام الجماهير، ذلك الفخ الديماجوجي يستعمل الدين بمنطق تكفيري لا يحتمل إلاَّ اجساداً متحاربة. وأفشل المواقف تجاه المخالفين تلك التي تسعى لسحقهم بالتلاعب حول الحقيقة. وهذا كما أشرنا في مجتمعات عربية لا حقائق فيها ولا تحترم المخالفين في التوجه. وفوق ذلك تتكلم عن الدين بشكل متحجر بينما ينكفئ المتحدثون به على مآربهم الخاصة!!
هكذا في وضع ثقافي وسياسي قميء يقف بنا على حافة الموت، هل يمكن لبشر ازدراء أي دين؟ من يستطيع الحط من قدر المقدس إجمالاً؟ كيف يكون المقدس- هذه اللامتصور- خارج الاغراق الدنيوي، خارج المدنس؟ بعيداً عن المواجهة الخشنة مع الأسئلة، علينا التأمل في مسألة الدين داخل الخطاب المتداول. ومسألة الدين معناها بأية طريقة نرى ما يفرزه الدين من منظورات وعقائد وأفعال.
إنَّ استخدام الدين للإيقاع بالآخرين هو نفسه لون من الخداع قبل أي اتهام آخر. ووضع الدين في فخ لاصطياد الأفكار يجعل الحياة العامة حلبة قتال مفتوحة. كل تهمة ازدراء لأشخاص بعينها أيا كان مضمونها تقع موقعاً ممقوتاً إلى حد القمع. فلا أحد بإمكانه تحديد ماهيتها ولا سلطة إنكارها ولا كيف تستعمل عموماً. وإذا كان ثمة من يزعم ذلك، فسيطال عنفه كل ما ينتمي للإنسان أيا كان دينه.
على صعيد آخر، نحن مازلنا نخاف - إلى حد القهر - من مراجعة ما نُؤمن به وقد يكون مختلطا بالغث والثمين من الثقافات الموروثة. فالقضية التي تُخرِج لنا لسانها يومياً: لماذا نكرر تقاليد تحت مبررات ميتافيزيقية خارج التاريخ دون مراجعة؟ إذا كان التكرارُ صُلب الإيمان، فليكن إيماناً على بصيرةٍ واقتناع وإلاَّ سيكون مُعتلاً. فعلى سبيل المثال، مسألة الأضحية التي اتهمت فيها كاتبة مصرية بازدراء الأديان (حين قالت إن ذبحها في أعياد الأضحى قسوة وعنف على الحيوانات) كانت اشارة إلى الفكرة السابقة معتبرة أنَّ الأضحية أصبحت قرابين دموية ليست هي المقصودة حصراً. وأنها شعيرة فرَّغت من مضمونها الروحي، وبالتالي هناك بُعدٌّ رمزي في واقعة أبي الانبياء إبراهيم عليه السلام. ولم يكن مدلولها فقط عملية الفتك الفاجع بالحيوانات المضحى بها لمجرد الذبح. فهل كل الجانب الرمزي هو مجرد قتل وسلخ وشواء وروائح نفاذة من الضأن؟!
ما حدث أنْ ترجمت الثقافة الإسلامية الشائعة " الفداء والذبح" فقط إلى عملية نحر الخراف والنعاج وسط ضجيج الشكل. هذا بالرغم من كون تلك الحادثة القربانية لا تنصب على أي شكل. فالحلم آمن به أبو الانبياء كرؤية حقيقية نتيجة إيمانه الأكبر بالخالق، فنهض منفذاً ما أُمر به من الله. ولعلَّ حصر المسألة في الذبح فقط كجوهر إيماني يجعل التضحية سكيناً ودماء تنضحان بالقسوة والتشفي. لدرجة أنَّ الشعيرة تفقد كلَّ مخزون ابراهيمي روحي هو لها.
فأي ذبح هذا الموصوف بالعظيم في القرآن إنْ لم يكن رمزياً في أساسه. وإذا كان للمسلمين عيدٌ تعبيراً عن هذه الحادثة، فهو عيدٌ لأنَّ التضحية كانت رمزية لا يستهلكها التكرار ولا يحولها إلى طقس زمني عابر. بل لن تتجدد أية تضحية إلاَّ بالإيمان. تماماً مثلما كان الإيمان سبباً رئيساً وراء الفداء الإلهي لإسماعيل ابن أبي الانبياء. كل أضحية تترك آثارها في هيئة إيمان أبعد من كونها ممارسة جزئية. وبخاصة أن الاضحية آتية من أبي الانبياء (رأس الديانات الإبراهيمية التوحيدية) إلى الإسلام (أخر ديانة إبراهيمية). من ثمَّ ليس شرطاً أنْ يذبح كلُّ مسلم ذبحاً عظيماً حتى ينال هذا البُعد، لكن يجب عليه الإيمان إيماناً عظيماً. العمل النبوي أسلوب حلمي للتعبير عن سمو الإيمان؛ أي كانت العبادة ذاكرة نفسية وطقسية لا تتركز فقط على النحر. فمن لا يمتلك كبشاً لإجراء الذبح، ستكون له أيضاً كل القدرة الشعائرية على استعادة زخم العمل الابراهيمي. لأن الإيمان واحد وإن تعددت أشكاله وأزمنته.
والآية ذكرت الفداء بالدرجة الأولى كثمرةٍ لهذا الإيمان البعيد لا مشاركة فيه ولا اختزال له في عمل قاتل بإسالة الدماء. فهل يفدي الإنسان نفسه باتباع الأوامر الإلهية؟ ذلك هو الرهان الديني في جميع الشعائر والطقوس. إنَّ جميع أعمال الخير تدخل في إطار القربان والتضحية باسم الله. وتأكيد الآية على كون الذبح عظيماً يعني أنَّه ليس مادياً بإطلاقٍ. وفي الوقت ذاته لن يبلغ أي كائن حيواني صفات هذا الذبيح. فالثقة بالله واليقين تجاهه- أو هكذا ينبغي- هما الأضحية التي يبذلها المؤمن مع تجدُّد العيد. فيكون الفداء خارج التوقع لا مجرد خروف من صوف وشحم ولحم!! نفس الأمر مع تهمة التطاول على الذات الإلهية التي يستنكرها الاسلاميون عندما يكتب أحد الكتاب بكلمات يقال إنها لا تليق بالذات الإلهية. ومن ثم هل قال الله لبشر بعينهم عليكم بالدفاع عنى؟ إن الله بحكم قداسته لا يستطيع أي إنسان النيل منه إلاَّ في مخيلة المؤمنين به (إساءة التأويل والقراءة). وحتى لدى هذا المستوى سيكون موضوع الإزدراء مجرد هُراء لا قيمة له. لأن الله متعالٍ فوق قدرات أي بشر أو غيرهم بجميع الديانات، ولن يزيده هؤلاء المتهكمون شيئاً ولن ينقصونه أيضاً. فالإيمان لا يخصه تعالى، بل يخص بشراً لهم رؤاهم وحقائقهم الخاصة.
هل هذه البديهية تحتاج إلى شرح؟ بعدما ترك الله الايمان به من عدمه خارج أية سلطة ولو كانت هي ذاته العليا. فالأفراد وحدهم يقدرون على الاعتراف به أو لا يعترفون من الأساس. وفي كل الأحوال لا ينبغي لأي إنسان أن يتحدث عما يتصورون هؤلاء ولا عما يذهبون إليه. وحتى مصطلح "التطاول" به نفي لهذه القاعدة الأصيلة التي تجب أية قواعد أخرى. وإذا كان الاسلاميون يتشدقون بالحرية، فلماذا يستكثرونها على كاتب أو آخر: أن يفكر بحرية تجاه كل القضايا الدينية والسياسية انطلاقاً منها؟ وذلك لن يقلل من ايمان الآخرين إلاَّ إذا كان ضعيفاً. بل سيوسِّع مساحة الحوار التي يخشاها المتنطعون إنْ وجدوا.
وبالنتيجة يجب (بل ضرورة) أن تنأى الدولة بنفسها عن التنطُّع بأي شيء، لأنه ليس من شأنها بالأساس، وما لهذا الغرض وجدت أية مؤسسة عامة في التاريخ. إن الخلط بين سلطتها الزمنية والروحية يجعل من الدولة طرفاً في صراع لا تجيده إلاَّ بعد قتل كيانها. لأنَّه كيان حسّاس لما هو إنساني وعادل وحقوقي بصرف النظر عن انتماء الإنسان ومعتقداته. ولا ينبغي أن تزج الدولة بثقلها في هذا الاتجاه، فهي شفافة ولا يصح أن تتحول إلى كتلة بلهاءٍ أو إلى كابوس بحجم الظلام الذي لا يستفيق منه المواطنون!!
سامي عبد العال
أزمة التعليم العالي وفرص المستقبل
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. محمد الربيعي
في فترة أكثر من 60 عاماً منذ تأسيس اول جامعة، لم يتم تطوير نظام التعليم العالي في العراق بأية صورة من الصور وظل يراوح في مكانه فتدهور مستواه ونوعيته مقارنة بالتعليم في دول المنطقة والعالم واصبح مملا للطلبة. يتضح ذلك من خلال أداء الجامعات في جودة التعليم والبحث العلمي، وفي الوضع الوظيفي السيئ لخريجيها، وفي سجل الإنجاز الضعيف في تلقي المنح العالمية والجوائز والتقدير والاعتراف العالمي واعتماد البرامج، وفي انعدام تمويل البحوث، وفي ضعف الاهتمام بالمناهج وببيداغوجيا التعليم الحديثة، وضعف اهتمام الطلبة بالتعلم، وكذلك في ضعفها في التصنيف المؤسساتي (لا توجد جامعة عراقية واحدة في أفضل 500 جامعة في العالم في أي من التصنيفات الرئيسية). وعلاوة على ذلك، فإن وضع الجامعات الاهلية التي تنتج نسبة كبيرة من الخريجين في العراق هو أكثر سؤاً.
اهم الأسباب الشائعة لتردي التعليم العالي هي:
القبول
وفقًا لتقارير مختلفة، فإن نسبة الالتحاق الإجمالية في التعليم العالي في العراق تزداد بشكل غير منضبط، وتعكس حالة التوسع الذي تشهده الكليات الاهلية وترهل الجامعات الحكومية وسياسة القبول المتخبطة عددا ونوعا والخاضعة لضغوط أعضاء من مجلس النواب والممارسات الخاطئة والإجراءات غير العادلة والتميزية والتي لا تكترث لمتطلبات السوق وحاجته وما يكتسبه الطلبة من مهارات وخبرات ضرورية. كما ان انتشار ظاهرة الغش في الامتحانات الحكومية للدراسة الإعدادية وحصول الالاف من الطلبة على معدلات كاملة يجعل من الصعوبة توزيع الطلبة بصورة عادلة على الاختصاصات الجامعية المختلفة.
الجودة
يعد ضمان الجودة في التعليم العالي من بين أهم التحديات التي تواجه العراق اليوم. ومع ذلك، لا تركز سياسات الحكومة على جودة التعليم. ولا تزال الكليات والجامعات في العراق غير قادرة على تلبية الحد الأدنى من المتطلبات المنصوص عليها في لوائح الاعتماد الدولي، وجامعاتنا اليوم ليست في وضع يمكنها من ناحية جودة تعليمها من تحديد مكانها حتى بين الجامعات العربية وجامعات "الدرجة الثالثة" في العالم.
التدخل السياسي
إن تزايد تدخل السياسيين من خارج الجامعات وخصوصا أعضاء مجلس النواب في إدارة التعليم العالي قد أطاح بكل امل في الاستقلالية النسبية لمؤسسات التعليم العالي وأضر كثيرا بمستويات التعليم فيها. هذا بالإضافة الى انشغال التدريسيين بالقضايا والأمور المعيشية والسياسية في البلد واهتمامهم بالمناصب الإدارية ووسائل الحصول عليها في سبيل تطوير حياتهم المهنية عبر طريق الارتباط السياسي والمهني بالاحزاب الفاسدة.
البنية التحتية والمرافق الضعيفة
تعد البنية التحتية السيئة تحديا آخر لنظام التعليم العالي في العراق، ولا سيما المختبرات والمكتبات والمرافق الرياضية ووسائل الراحة والترفيه والتي تعاني من نقصها كثير من الجامعات الحكومية والكليات الاهلية خصوصا.
ويشكل نقص أعضاء هيئة التدريس في عدد من الجامعات الناشئة وعدم توفر التدريسيين المتدربين في الجامعات الغربية والمؤهلين جيدا والاحتفاظ بأصحاب الخبرة الطويلة من كبار العمر تحديات أمام تحسين جودة التعليم.
البحث العلمي السطحي والزائف
هناك تركيز زائد على بحوث طلبة الدراسات العليا الممولة ذاتيا وهي بحوث سطحية تشوبها المصداقية وذلك بسبب عدم توفر موارد مالية حقيقية للبحث العلمي، فضلاً عن محدودية عدد أعضاء هيئة التدريس المتميزين لتقديم المشورة للطلاب.
معظم الطلبة ليس لديهم خبرة او معرفة سابقة بالبحث العلمي ولا يحضون باشراف او تدريب ملائم مما يؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على أبحاثهم. علاوة على ذلك، فإن مؤسسات التعليم العالي العراقية معزولة عن العالم وضعيفة الارتباط بمراكز البحث العالمي وضعيفة المعرفة باحتياجات الصناعة المحلية والعالمية وبمشاكل الانتاج.
هيكل الحوكمة الضعيف
تواجه إدارة التعليم العالي تحديات هائلة نتيجة المركزية المفرطة والهياكل البيروقراطية والافتقار إلى المساءلة والشفافية والكفاءة المهنية. ونتيجة للزيادة في عدد الجامعات والكليات والطلاب المنتسبين، زاد عبء الوظائف الإدارية للجامعات بشكل كبير وتم تحميل الأكاديميين مسؤوليات كثيرة خارجة عن مهمات انتاج ونشر المعرفة وتسبب ذلك في سوء الأداء في الجامعات.
وبينما تواجه كل من مؤسسات التعليم العالي الحكومية والاهلية المشاكل المذكورة أعلاه تنشغل القوى السياسية في الصراعات السياسية حول الوظائف الوزارية والجامعية بعيدا كل البعد عن اهداف ومهمات التعليم العالي الحقيقية. وأصبحت التعينات الادارية في يومنا هذا تخضع لاعلى الاعتبارات الطائفية والحزبية، وأصبحت بالإضافة للفساد الشكوى الرئيسية لدى التدريسيين والاكاديميين.
وبينما تعاني الجامعات الحكومية من نقص كبير في التمويل عمل مجلس النواب وأذرعه الأحزاب والقوى السياسية على ضمان استمرار حاجة الجامعات وفقرها، واستمر التدخل في شؤونها وفرض الإملاءات على الوزارة والجامعات مما أدى الى تخبط كبير في سياساتها خصوصا سياسة القبول ومعادلة الشهادات وفِي اضاعة فرص منافستها عالميا في وقت يشكو فيها التدريسيين من انعدام كفاءة وعدالة ادارات جامعاتهم. ويبدو أن انهاء هيمنة القوى السياسية على التعليم سيكون العامل الرئيسي لتحسين أداء مؤسسات التعليم العالي. اما الكليات الاهلية فلا قيمة لها في الإنتاج العلمي الوطني فيما عدا القيمة الحقيقية الوحيدة التي تضيفها هو تخريج اعداد كبيرة من العاطلين كل عام.
الطريق إلى الأمام؟
على مدى أكثر من خمسة عشر عاما كتبت كثيرا وقدمت العديد من المقترحات ووضعت استراتيجية لإصلاح التعليم العالي بالرغم من اهتمام الأوساط الاكاديمية بها لم يرى منها التطبيق الا النزر اليسير لذلك لا ارغب في اعادتها كلها وسأحاول التركيز على بعض الحلول الأساسية والتي يمكن اعتمادها في الوقت الحاضر.
تجديد مؤسسات التعليم العالي الحكومية
من أجل ان تتطور الجامعات سيتعين علينا تغيير نظام التعليم الحالي بما يتضمن الغاء وزارة التعليم العالي ومنح الجامعات استقلاليتها الإدارية والأكاديمية وتأسيس المجلس الاعلى للجامعات ومجلس البحث العلمي وإلغاء أسلوب تعينات إدارات الجامعات الفوقية والمبنية على المحاصصة واستبدالها بأسلوب ديمقراطي يعتمد على خيارات الهيئات التدريسية، وأحترام الحريات الاكاديمية.
ويجب على الجامعات ان تتوصل إلى رؤية وبرامج جديدة تعالج على وجه التحديد مشكلة المناهج القديمة والتلقين واحتياجات الدولة والصناعة والاقتصاد والمجتمع، وعلى أساسها تلتزم الجهات الفاعلة على مستوى الدولة بتوفير الدعم الكامل للجامعات.
التعاون الخارجي
يجب على الدولة تعزيز التعاون بين الجامعات العراقية وأعلى الجامعات الغربية والعالمية وأيضًا إنشاء روابط بين مختبرات البحث العراقية ومراكز البحث التابعة للمؤسسات العالمية لتحسين الجودة والبحث التعاوني.
نهج متعدد التخصصات
يجب أن يكون هناك نهج متعدد التخصصات في التعليم العالي حتى لا تقتصر معرفة الطلاب على مواد الاختصاص وانما يجب ان يشمل تعليم المهارات واللغات واخلاق المهنة.
تطوير التعليم الاهلي
توسع التعليم العالي الأهلي في العراق بسرعة كبيرة في العقدين الماضيين ورافق هذا التوسع تدهور الجودة وفساد المؤسسات، فاذا أراد العراق تحسين هذا القطاع فما عليه الا جعل التعليم الأهلي غير ربحي وكما هو عليه في مختلف انحاء العالم فلقد ثبت ان الربحية هي أساس فساد التعليم. كذلك يجب أن تكون مؤسسات التعليم العالي الاهلية بعيدة عن الانتماءات السياسية وتدار من قبل هيئات ادارتها وليس من قبل المستثمرين وان تكون هياكلها مزودة ببنيات تحتية ومرافق جيدة.
أخيرا، إذا كان العراق يريد حقا أن يحقق تنمية اقتصادية واجتماعية، فإنه بحاجة إلى الاستثمار في راس المال البشري والعائد من التعليم وزيادة الإنفاق على تطوير قدرات ومهارات ومواهب أساتذة وطلبة الجامعات العراقية.
أ. د. محمد الربيعي
الدكتور عبد السلام نوير.. المفكر السياسي والسياسي المفكر!
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. محمود محمد علي
علمتني التجارب من خلال اشتغالي بالفلسفة السياسية والجيوبوليتيكا، أن هناك فرق كبير بين المفكر السياسي والسياسي المفكر؛ فالأول هو أكاديمي لا تأتي معرفته في السياسة إلا من خلال الكتب حصرا، أي من خلال معرفة غيره في السياسة عبر عملية مراكمة كمية لنظريات سياسية، أو عبر الارتقاء من المعرفة الحسية لغيره النابعة من التجربة العملية إلى المعرفة الممنطقة من خلال الجهد العقلي.. أما الثاني، فهو الذي يتمتع بثقافة سياسية واسعة من خلال قراءة الكتب من ناحية، والذي، من ناحية أخرى، يتميز بممارسة بالعمل السياسي، تلك الممارسة التي تغنيه في فهم النظريات السياسية، وتسمح له في تطويرها، كما في ترشيد ممارسته للعمل السياسي، فينتج عن ذلك معرفة مضافة وتعميق لا متناهي لها... فهذا الثاني يحسن إدارة العلاقة الجدلية بين النظرية والممارسة.
والسياسيّون المفكّرون هم قلّة حتى في دول العالم أجمع، ولهذا السبب تقوم الدول المتقدّمة، بتقسيم المجال السياسي إلى قسمين: الأوّل إلى مفكّرين وأكاديميين يضعون أبحاثهم وتحليلاتهم وخلاصاتهم من خلال معاهد مختصّة ومراكز دراسات عملاقة.. أما القسم الثاني وهو القسم العملي فيُجيَّر إلى الذين يتميّزون بدينامية اجتماعية، وبقدرة فعّالة على الحراك السياسي والاجتماعي، حيث يقومون بتطبيق أبحاث المفكّرين على ميدان عملهم اليومي في السياسة بمفهومه الفرنسي (la politique et non le politique) وبهذا يكون التقسيم على هذا المستوى بمثابة "ابتكار"، و"صناعة" للسياسي المفكّر، ولكن على صعيد المؤسسات العليا لا على صعيد الأشخاص، وبرأيي هذا أكثر فاعليّة ومراعاة لمبدأ التقسيم في العمل الذي يطال هنا بالذات العمل السياسي بشكل عام بدل البحث عن هذا السياسي المفكّر الذي يندر وجوده بالإجمال.
ويعد الأستاذ الدكتور "عبد السلام على نوير" أستاذ العلوم السياسية وعميد كلية التجارة – جامعة أسيوط بجمهورية مصر العربية، واحداً من هؤلاء الذين جمعوا في فكرهم بين المفكر السياسي والسياسي المفكر، فهو يمثل واحداً من الأساتذة الجامعيين العظماء الذين استطاعوا بحوثهم ومؤلفاتهم أن ينقلوا البحث في الفكر السياسي والعلوم السياسية من مجرد التعريف العام بهما، أو الحديث الخطابي عنهما – إلي مستوي دراستهما دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارماً إلي أبعد حد: فالنص السياسي لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.
و"عبد السلام نوير" (مع حفظ الألقاب) يعد واحداً من أهم وأشهر النجوم الكبيرة المتلألئة في سماء العلوم السياسية خلال أكثر من نصف قرن، حيث يمثل لنا مفكراً أصيلاً وعالماً كبيراً في هذا التخصص الدقيق؛ لقد كان "عبد السلام نوير" يمتلك الكثير من عمق المعرفة السياسية وجدية الأدوات المنهجية، فهو يمثل صاحب مسيرة طويلة وممتدة في تاريخنا السياسي، فله أكثر من خمسين بحثاً علميا في علوم السياسة وباقي فروعها.
علاوة علي أنه يعد قامة، وقيمة علمية، وأخلاقية كبيرة، على المستوى العلمي، والمستوى الشخصي أيضاً، لأنه دائما ً كان يمد يد العون، لمن يعرف، ولمن لا يعرف صغيراً وكبيراً؛ كما يتميز بدماثة الخلق، وحسن المعاملة مع أصدقائه وزملائه فى العمل، وأنه كان يسعى دائماً إلى تحقيق هدف سامى ونبيل، وهو جبر الخواطر.
وقد كان "عبد السلام نوير" قمة في التواضع، فهو الإنسان بكل ما تحمله كلمة الإنسان من معاني ودلالات، فلقد وهب حياته كلها للجامعة : تعليماً وبحثاً، وظل اهتماماته الرئيسية هي اهتمامات أستاذ جامعي يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن، ومن هنا فإنه يمثل القدوة والريادة وستظل كتاباته تمثل المنارة التي يهتدي بها الإنسان في الظلام تمثل الشعلة الخالدة، شعلة الفكر، وما أعظمها من شعلة .
ولقد شهد له زملاؤه ومعاصروه له بالدقة، والأمانة العلمية، والثقافة الواسعة ..إلي جانب ما يتمتع به من خلق رفيع، ولا غرو في ذلك فهو يمثل منظومة حافلة بالعطاء العلمي الجاد، والشموخ الإنساني المتميز، باحثاً ومنقباً، محققاً ومدققاً، مخلفاً وراءه ثروة هائلة من الكتب العلمية، والبحوث العلمية الرصينة، وطائفة كبيرة من المريدين والاتباع الذين أعطاهم خلاصة فكره وعلمه.
ولد "عبد السلام نوير" بمحافظة سوهاج- مركز طما في الحادي عشر من شهر سبتمبر لعام 1965م، وتدرج في مراحل التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي، حيث دخل كلية التجارة – قسم "العلوم السياسية" بجامعة القاهرة عام 1987م، "وذلك بتقدير عام جيد جداً مع مرتبة الشرف، ثم عُين باحث مساعد (معيد) بمركز دراسات وأبحاث التعليم العالي (يناير 1990م – نوفمبر 1991م)، ثم عُين باحث مساعد (معيد) بقسم الاتصال الجماهيري، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية (يونيو 1994م – ديسمبر 1998م)، ثم اُختير خبيراً بقسم الاتصال الجماهيري، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية (ديسمبر 1998م - 17 ديسمبر 2000م)، ثم عُين بعد ذلك مدرساً بقسم العلوم السياسية، كلية التجارة، جامعة أسيوط. (18ديسمبر 2000م - يوليو 2004م (، ثم استمر في الترقية بالعمل الإداري الأكاديمي إلي أن رُقي أستاذاً في ذات التخصص في الثامن والعشرين من شهر سبتمبر عام 2009، وعقب ذلك تولي منصب رئيس قسم العلوم السياسية في عام 2011، ثم وكيلاً لشؤون التعليم والطلاب في عام 2015، ثم عميد كلية التجارة جامعة أسيوط (21 يناير 2015 حتى الآن).
لم يكن "عبد السلام نوير" منعزلاً داخل جدران الجامعة، بل كانت له مشاركات في كثير من الهيئات والجمعيات العلمية؛ فكان رئيساً لمجلس إدارة مركز الاستشارات بكلية التجارة بجامعة أسيوط، ثم رئيساً لمجلس إدارة مركز الدراسات والبحوث السياسية والاستراتيجية بكلية التجارة بجامعة أسيوط، ثم أميناً للجنة قطاع الدراسات السياسية والاقتصادية بالمجلس الأعلي للجامعات، وأعمال كثيرة أخري يطول شرحها..
وللدكتور "عبد السلام نوير" إسهامات كبيرة في العلوم السياسية، نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر من كتبه: مكتبة الأسرة دراسة تحليلية، والمعلمون والسياسة في مصر، ونقابة المعلمين، وأصول العلوم السياسية (بالاشتراك)، ورؤية المواطنين الأفارقة للتكامل الإفريقي(بالاشتراك)، والإعلام والتنمية (محرراً مشاركاً) .
وأما في يتعلق بالأبحاث والدراسات فنذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر أيضاً: -أبعاد الموقف التركي من حرب الخليج، والعرب وقضية إرتيريا، وسياسية الجماعة الأوروبية تجاه المنطقة العربية في ضوء أزمة لوكيربي، والتبعية الإعلامية العربية: مظاهرها وأثارها، والسياسة التعليمية في مصر، والمنظمات غير الحكومية في مصر، والأبعاد السياسية للفقر (بالمشاركة)، والحرية السياسية في الإسلام (بالمشاركة)، والعمل العربي المشترك في مجال التعليم، والتعليم والثقافة، والمشاركة السياسية للمرأة في مصر، والتعليم والحراك الاجتماعي في مصر، والثقافة السياسية لطلاب الجامعات، وسكان العالم الإسلامي في القرن العشرين، والعولمة وسياسة التنمية البشرية في إفريقيا، والدور السياسي للشباب، والمشاركة السياسية للمرأة في مصر، والتطور الديمقراطي في مصر : الملاح والمؤشرات وآفاق المستقبل.. وهلم جرا ..
وفي تلك الكتابات والأبحاث لم يكتف "عبد السلام نوير" بالإلمام بمقتضيات البحث العلمي في مجال العلوم السياسية، أو ترسيخها في قلوب وعقول تلامذته، وكل من يستمعون إليه، بل أيضاً كان يتميز بأنه كان أكثر جرأة فى الرأي، وشدة فى اقتحام القضايا الأكثر حساسية مثل قضية الثقافة السياسة، والتعليم والحراك الاجتماعي، والتطور الديمقراطي.. وأمور كثيرة أخري.
علاوة علي أنه كان له السبق في استبطان عقول من يشرف علي رسائلهم؛ بمعني أنه كان مقتنعاً تماماً بأن لكل باحث شخصيته وميوله، فمنهم من يميل إلي المنهج المسح، ومنهم من يميل إلي التحليل والتعمق، في حفر الأفكار والقضايا السياسية، فلم يحرم هؤلاء أو هؤلاء من ميولهم، ولكنه أضاف إليها، فحافظ علي شخصية تلامذته والقواعد العلمية في آنا واحد، مما يندر أن يتوفر عند أساتذة كثيرين..
وحتي لا يطول بنا الحديث الشيق والجميل عن "عبد السلام نوير"، لا أملك إلا أن أقول: تحيةً لـ"عبد السلام نوير"، ذلك الرجل الذي يمثل بالفعل قيمة سياسية وفكرية، ما جعل زملاءه وتلاميذه من السياسيين والكُتاب والأساتذة الجامعيين يعترفون له بريادته في تنوير العقول ومكافحة الجمود والتعصب.
وهنا أقول مرة أخري تحيةً مني لـ" عبد السلام نوير " الذي آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ، وشعور إنساني رفيع، وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً .
بارك الله لنا في "عبد السلام نوير" قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه السفهاء، وأمد الله لنا في عمره قلماً يكتب عن أوجاعنا، وأوجاع وطننا، بهدف الكشف عن مثالب الواقع، والبحث عن غداً أفضل، وأبقاه الله لنا إنساناً نلقي عليه ما لا تحمله قلوبنا وصدورنا، ونستفهم منه عن ما عجزت عقولنا عن فهمه.
د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط
تأملات عبر قصائد الهايكو: شفة الاوركيد
- التفاصيل
- كتب بواسطة: توفيق الشيخ حسين
الهايكو شكل شعري ياباني أصبح له تأثير عالمي خلال القرن العشرين ببساطته وإيجازه، ويعتبر الشاعر الياباني (ماتسو باشو) 1694 – 1644 / صانع قصيدة الهايكو، قبل زمن شاعر الهايكو كانت القصيدة المسماة (هايكاي) لعبة متمدنة لتزجية الوقت أكثر مما كانت شعرا ً جادا ً، وكان مطلعها المسمى آنذاك (هوكو) والذي سينفصل فيما بعد ويستقل تحت أسم (الهايكو)، وأن أشهر شعرائها رهبان بوذيون ويعتمدون على فلسفة بوذية الزن (التأمل).
هناك قواعد شكلية كان لابد للهايكو الياباني أن يلتزم بها وتتمثل في نظام المقاطع الذي يتكون من ثلاث جمل تحوي الأولى خمسة مقاطع والثانية سبعة والثالثة خمسة هي التعبير المركز عن تلك الصورة الشاعرية المختصرة التي توحي ولا تصرح، تشير الى الفراغ ولا تملؤه، تركز عنايتها على بدايات الأشياء، ونهاياتها، لا تهتم بلحظات التمزق والصراع بل بلحظات الصفو والاستنارة، والملاحظ أن الخصائص الفونولوجية في شعر الهايكو تذكر في خطاطتها الإيقاعية بإيقاع الموسيقى الشعبية التقليدية اليابانية، هذه الأبوة بين شعر الهايكو والأغاني الشعبية تتعدّىالى مستوى الصّور الأسلوبية والموضوعات مثل العلاقات العائلية والحيوانات الصغيرة والتي يعزى الأهتمام بها الى الفلسفة أو الذيانة الكونفوشيوسية المؤسسة على إرث الآباء والأجداد، عندما أستعار الغرب هذه التجربة في مطلع العشرينيات في القرن الماضي، لم تمنع الشعراء من أن يحدثوا بعض التعديلات .
ويعتبر كتاب (واحدة بعد أخرى تتفتح أزهار البرقوق) ذو العنوان الناضج بالصور الشعرية، والصادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في سلسلته الجديدة (إبداعات عالمية / فبراير 1999) والذي سهرعلى ترجمته وتعريب محتواه النقدي والدراسي والشعري بأسلوب شائق وجذاب الشاعر والروائي والناقد(محمدالأسعد) نقطة ضوء للقارىء العربي تمكنه من رؤية وتلمس بعض من تلك العوالم الأدبية والفكرية الساحرة للحضارة اليابانية الأصيلة، وبعد ما يقارب نصف قرن على ظهور نبأ قصيدة الهايكو في اللغة العربية بين سطور مقالة مترجمة للأستاذ (دونالد كين) عن الشعر الياباني نشرتها فصلية (عالم الفكر) الكويتية عام 1973 (المجلد الرابع العدد الثاني) وما توالى بعدها من ترجمات أو محاولات كتابة هايكو(عربية) ثم تشكيل تجمعات وعقد ملتقيات وصولا ً الى الوقت الراهن .
أنقسم المهتمون بالهايكو الى تيارين: الأول يرى أن الهايكو يجب أن يبقى داخل الإطار الذي أطره به أصحابه اليابانيون، إذ يرفضون خروج النص عن خصائصه الكلاسيكية، والثاني: ذو نزعة تجديديه، يرى أنه من الضروري إضافة أشياء تتميز بها اللغة العربية مع الاحتفاظ بالمشهدية التي هي أساس الهايكو وروحه، نقل الشاعر السوري المقيم في اليابان ويعمل أستاذا ً لغويا ً ومدرسا ً للغة العربية (محمد عضيمة) ألف قصيدة وقصيدة من الهايكو مباشرة الى العربية، ولعل المبدع (محمود الرجبي) واحد من الطلائع التي أهتمت بهذا الجانب التواصلي عبر أكثر من صفحة وتجمع على الفيس .
ديوان الشاعر (علي محمد القيسي) المعنون (شفة الاوركيد) ** يتميز بقصائده التي تتبع نمط شعر الهايكو بأسلوب متميز، جاءت تسمية مجموعته الشعرية من زهرة (الأوركيد) التي تحمل من المعاني العميقة والتي جاءت من رمزية هذه الزهرة الجميلة، تحمل رسائل الحب والحكمة والتفكير، أطلق عليها الفيلسوف الصيني (كونفوشيوس) أسم (زهرة عطر الملوك)، وتتمتع بالجمال والغرابة وفي الشرق عموما ترمو (الاوركيد) الى الرفاهية والخصب .
(علي محمد القيسي) شاعر من العراق، مواليد 1971 / بكالوريوس إعلام من جامعة بغداد، كتب النثر والشعر ووجد نفسه في النثر أكثر، تعرف على شعر الهايكو بالصدفة حيث يقول : (قبلها كنا نكتب التوقيعة للشاعر عز الدين المناصرة عام 2004، كنا مجموعة من الشعراء اسسنا موقع على النت أسمه " الأقلام " فيه عدة أبواب لمختلف الأجناس الأدبية، وكان معنا شعراء من جميع بلداننا العربية، وزدت حبا ً بالتكثيق الذي ممكن أن يفتح على آفاق التأويل، وبدأت القراءة للشاعر المناصرة وأمين الذيب وأسماء عدة ومن ثم أتجهنا الى الفيس بوك وعالمه الشاسع لتكون المحطات وآفاق جديدة) .
أسس نادي (نبض الهايكو) عام 2015 واصدار مجلتها المعروفة(نبض الهايكو) وتأسيسه (مختبر الهايكو) عام 2018 ليكون مدرسة شعرية ونقدية في مجال شعر الهايكو، الشاعر (علي القيسي) في مجموعته الشعرية (شفة الاوركيد) تضم عددا ً من قصائد الهايكو، وكل قصيدة تعكس تجربته في تأمل واستكشاف جمال الطبيعة، وتمثل له بمثابة غصن إنساني يشكل شمعة في ظلام القصيدة .
حتى تأتي
أقارن بين فتنتها
والاوركيد
ليلة مطيرة
على شفة الاوركيد
قطرة عالقة
حقل الاوركيد
كل الأفكار اترجمها
بعناق
من خصلات شعرك
استدل وجهة الريح
التي تحمل عبق الاوركيد
الصفة الحقيقية للهايكو هي الحيوية وحس الحياة، وقصائد الهايكو لا تهدف الى أن تسحر بفنيتها، بل تسعى إلى أن تكشف من خلال التأمل أعاجيب الخلق الطبيعي .
الشاعر (علي القيسي) مسكون باللعب الشعري الموغل في المجازات والاستعارات والتي تمنح الجمالية للقصيدة الهايكوية، وقصائده تعتمد البساطة والعفوية .
على الشاطىء
كما لو تتراقص الصواري
من تنهيدة عاشقة !
صخب العالم
كم هو صغير أمام
ابتسامتك !
بالطباشير
الطفل يرسم أمه
بعيون لا لون لها
شتاء
أكسر حدة البرد
حين أتذكرك
قهوة مرّة
يخبرني انكماش عينها
عن المذاق
تقول الدكتورة (آمنه بلعلي):
(قصيدة الهايكو في الوطن العربي تكتب بطرق شتى استنادا الى دعاوى شتى، حتى أصبحت قصيدة بلا ضفاف، لقد وصلت إلى العالم العربي بشخصية اخرى، لأنها أكتسبت هويات اخرى لا تسمح لنا بمعرفة بنيتها ولا منطق كتابتها سوى أنها تجربة تقنية، فهل نحتاج الى قارىء سيأتي يقرأ الهايكو بطريقة اخرى أم يمكن أن تتجرد البلاغة من هويتها فيكون الهايكو هو بلاغة المستقبل وقصيدة المستقبل التي تنهي هيمنة أشكال مؤثرة في الذائقة العربية ؟) .
توفيق الشيخ حسين
السلطة في دائرة الإتهام
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ثامر الحاج امين
منذ زمن ليس بالقريب والسلطة في دائرة اتهام الفلاسفة والمفكرين، فالفيلسوف اليوناني افلاطون الذي عاش قبل الميلاد قال فيها ان (أغلب الناس عند السلطة يصيرون أشرارا)، كما ان دراسات علمية عديدة أجمعت على ان السلطة مفسدة وهذا الاستنتاج قام على نظرية ان السلطة تعمل على تدمير أدمغة البشر بحيث تجعلهم لا يتورعون عن انتهاك حقوق الغير من أجل التشبث بها والاستمتاع بمزاياها، في حين هناك من له رأي آخر فيها، فالرئيس السابق لأوروغواي خوسيه موخيكا دافع عنها بقوله (السلطة لا تغير الاشخاص، هي فقط تكشفهم على حقيقتهم)، وكل ما قيل فيها من آراء فإنها لا ترقى الى مستوى الجزم في استنتاجها، فتجارب عدد من الدول منها سنغافورة في ظل سلطة (لي كوان يو) وتجربة ماليزيا مع (مهاتير محمد) تكشف ان السلطة ليست مفسدة بل هي وسيلة لتطويرالبلدان ورفاهية شعوبها حيث نهض حكام هذه الدول بمستوى بلدانهم وجعلوها في مصاف الدول المتقدمة بعدما كانت تعاني من الفقر والجوع والأوبئة .
أسئلة كثيرة دارت في رأسي بعد ما انتهيت من قراءة كتاب (سجين في قصره)، وأبرزها: هل السلطة هي التي تفسد الرجال أم الرجال الأغبياء ان وضعوا فيها فانهم يفسدونها؟ وبعض الاجابة غير المباشرة على هذه الاسئلة وجدتها في ثنايا الكتاب المذكور، فكتاب (سجين في قصره) الذي قام بتأليفه الصحافي الامريكي ويل باردينوربر يكشف عن دور السلطة في فضح الاخلاق وقدرتها على تحويل الانسان من كائن وديع الى حيوان مفترس وان فقدانها يكشف عند البعض حالة الضعف التي كان يخفيها جبروت السلطة وادواتها الشرسة، فهذا الكتاب يتناول تفاصيل السنوات والايام الاخيرة التي قضاها "صدام حسين" سجينا في واحدة من قصوره القريبة من بغداد تحت حراسة الجنود الاثني عشر الذين اختارتهم امريكا بدقة واوكلت اليهم مهمة حراسته تحت رقابة مشددة بالكاميرات على سلوكهم اليومي مع الطلب منهم (تجنب التفاعل مع الزعيم المخلوع مع بذل قصارى جهدهم لإبقائه سليما وسعيدا خلال خضوعه للمحاكمة) وكان ايضا محظور عليهم كتابة مذكراتهم او حتى ذكر طبيعة مهمتهم في تواصلهم مع احبائهم في الوطن، لكن المؤلف استطاع بناء التسلسل الزمني لمادة كتابه بالاعتماد على ذكريات الجنود الذين عادوا الى وطنهم بعد انتهاء مهمتهم بتسليم صدام حسين الى الحكومة العراقية التي نفذّت به حكم الاعدام بعد ساعات قليلة من تسليمه، فالكتاب يستند في مادته على روايات هؤلاء الجنود الذين كانوا يحرسونه في قصره ويرافقونه الى مقر محاكمته ويكشفون للمؤلف عدد من المفاجئات عن حياة السجين الكهل ــ الاسم الذي كانوا يطلقونه على صدام ــ كيف كان يقضي يومه، ماذا يأكل، أي السكائر أحب اليه، البرنامج اليومي لنشاطه، احاديثه اليومية معهم ــ تحت رقابة الكاميرات ــ ماذا كان ينوي فعله لو كُتب له العودة الى السلطة، اشتياقه للمرأة، وتفاصيل اخرى كثيرة تكشف عن سلوك مختلف لصدام حسين لم يألفه العراقي في شخصيته طوال الفترة الطويلة من حكمه، فصدام السجين غير صدام الرئيس فقد جاء في روايات الجنود انه مثل أي شخص اخر عادي يفرح ويحزن، وكان ودودا يخاطب حرسه بـ "صديقي" وعلى قدر عال من العاطفة حيث يذكر مسعفه (أليس) الذي كان مسؤولا عن صحته ومتابعتها يوميا انه عندما قرر الغياب لبعض الوقت والسفر الى امريكا لتفقد حالة أخيه الخطيرة وبدافع اخباره بالحقيقة نابعا من شعوره بالواجب باعتباره المسؤول عن حالة صدام الصحية شرح لصدام اسباب غيابه وقف صدام وعانقه ثم قال "سأكون أخاك"، فهل يمكن للعراقي ان يتخيل هذا السلوك وهذه المشاعر من رجل حكمه بالرعب والحديد والنار طيلة عقود من حكمه؟ اعتقد كل هذا يمكن ان يحدث عند فقدان السلطة، فالاذلال والشعور بالمهانة وضياع المجد كل هذا يولد هكذا حالة من الضعف او الصحوة عند من يفقد السلطة، الكتاب يكشف معلومات كثيرة لم تتداولها الصحافة والاعلام بشأن الفترة التي قضاها صدام حسين تحت حراسة الامريكان فهي تمثل صورة انسان آخرغير صورة النرجسية الطاغية والطموح الشرس والقساوة التي لا تعرف الشفقة تلك الصورة المرعبة التي تركها في أذهان العراقيين ويمكن ايجاز الانطباعات التي جاءت في روايات الحراس عنه بالنقاط التالية :
* كان صدام حسين لطيفا مع حراسه الامريكان يشاركهم شرب الشاي ولعب الشطرنج ويتعامل معهم تعاملا أبوياً ويعتبرهم أولاده، وبالمقابل كانوا يسعدون بإرضائه وقليل الطلبات على نحو مثير للاستغراب والجميع كانوا يجلبون اشياء له لم يكن يطلبها .
* كان يفرح لأصوات اطلاقات النار البعيدة والانفجارات التي تهز المنطقة المحيطة بسجنه ويعتبرها دليلا على المخلصين له ويرى انهم سيحاولون في نهاية المطاف تحريره، كما انه لم يكن يشعر بأي قلق من انه سيعدم، كان يعتقد ان ما يجري له مجرد فترة ازعاج مؤقته وانه سيحكم العراق مجدداً .
* لشدة حرص الامريكان على حياة صدام حسين فانه في ايام محاكمته كان يجري نقله بالمروحية بلاك هوك ذهابا وايابا بين المحكمة ومكان احتجازه في القصر، واذا كان هناك يوم او يومين فقط بين جلسات المحاكمة، كان الحراس الامريكيون يبقون صدام في سرداب اسفل قاعة المحاكمة لتجنب تعريضه لمخاطرة غير ضرورية .
* عندما تلقى قرار الحكم بالإعدام وكنوع من الازدراء المغرور استخف صدام بالحكم بقوله (لقدحُكم علي بالموت سابقا، ولم يحدث ذلك ابدا) يقول آدم روجرسون ــ احد حراسه ــ انه حتى عندما أصبح موته شبه مؤكد ظل صدام مقتنعا بأنه " سيخرج ويتزوج مجددا وان كل هذا سيُلقى خلف ظهره، كان واثقا مائة بالمائة .
* في ايامه الأخيرة طلب مشاهدة فيلم (الآم المسيح) وبعد مشاهدته له على جهاز الدي في دي المجهز به من ضمن ادوات الترفيه أسّر لحارسه جيف برايس بانه افضل فيلم شاهده في حياته .
* في اللحظات التي سبقت اقتياده الى منصة الاعدام واثناء جمعه لحاجياته الشخصية نادى صدام على هتش ــ اقرب الحراس له ــ وقدم له ساعته ريموند ويل غالية الثمن التي كان يفضل ارتداءها في قاعة المحاكمة وعندما اعتذر الاخير عن قبول الهدية لأسباب تتعلق بالقواعد الصارمة التي تحكم سلوكه مع السجين قال له صدام (اريدك ان تأخذها .. انت صديق طيب) .
* طلباته الى حراسه كانت تنقل عبر مترجمه جوزيف وهو امريكي لبناني 53 عام والذي كان يشاركه تدخين السيجار والدردشة معه بحميمية ظاهرة وعن طريق المترجم كان صدام يسأل حراسه عن اصلهم (من يا عمام).
* مكان احتجازه يضم اثاثا بسيطة عبارة عن طاولة وكرسي ودراجة تدريب ثابتة للتمارين الصباحية يسميها حصانه الصغير ويقوم المسعف بقياس ضغطه بعد الجهد المعتدل وراديو قديم مسيطر على برامجه مع اوراق وكتب في القانون .
* يذكر المسعف أليس انه عند كل زيارة لصدام كان يجده دائما مرتديا احدى دشداشتيه (واحدة بيضاء والاخرى رمادية) وكان يغسلهما بيديه ويجففهما تحت شمس بغداد في منطقة استراحته كل يوم .
* كان يكتب القصائد ويهديها الى حراسه .
في الأخير وفي ضوء تجارب الشعوب أجد ان الخلل لا يكمن في السلطة انما في الانسان الذي يمسك بها ويدير مؤسساتها فمنه تستمد نجاحها وعليه يقع فشل ادارتها مع الثابت انه (عندما يصل الناس إلى السلطة، لا تتوقّعوا منهم أن يتصرّفوا بشكلٍ مختلفٍ تماماً عن سلوكهم من قبل، فالطيّبون لن يصبحوا طغاةً بين ليلةٍ وضحاها، كما أن الحمقى لن يتحوّلوا إلى حكماء، وإذا أردتم معرفة معدنهم الحقيقي راقبوا تصرّفاتهم بعيداً عن عدسات الكاميرا والأضواء).
ثامر الحاج امين
لماذا نعترض على زيارة البابا للعراق في هذا الوقت؟
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. رياض السندي
ان فكرة زيارة البابا للعراق هي قديمة وترجع الى عام ١٩٩١عندما فرض الحصار على العراق، ففكرت حكومة صدام حسين دعوته لينقل معاناة الشعب، ولكنه رفض لان ذلك يشكل دعما لحكومة صدام حسين.
ان البابا يمثل قيمة روحية كبرى في العالم ويتبعه اكثر من ملياري مسيحي يمثلون ثلث سكان الارض، وهو شخص مرحب به في كل زمان ومكان، وخاصة ان البابا الحالي هو من أصول ارجنتينية ومن دول العالم الثالث، ويتفهم قضايا شعوبها، وله اراء متميزة في الكثير من قضايا الكنيسة وفي المسيحية ذاتها.
ولكن الآن، والشعب يعاني من الظلم والفساد والاحتلال وليس من جوع الحصار أو الديكتاتورية فقط، ويأتي البابا في هذا الظرف العصيب الذي تكالبت عليه ازمات كبيرة لم يسبق لها مثيل، مثل مرض الكورونا، وقصف الميليشيات الموالية لإيران للسفارة والقواعد الامريكية، واحتجاجات العراقيين منذ سنة دون جدوى، فلا معنى لهذه الزيارة سوى تقديم دعم لحكومة الفساد وعدم الالتفات لمعاناة الشعب العراقي.
قد يحتج البعض بانه رجل دين وليس رجل سياسة؟ وهذا غير صحيح، فلو كان رجل دين فقط لما دعته الحكومة العراقية واهتمت به، فما اكثر رجال الدين في العراق والعالم ولا احد يشتريهم بفلسين، لا بل ان البعض منهم خطفوا وقتلوا وتم رميهم في المزابل ولم تتحرك الحكومة او تلتفت لقضيتهم، بل البابا هو رئيس دولة الفاتيكان رغم صغرها، وله منصب سياسي كبير .
هذا هو سبب اعتراضنا على زيارة البابا في هذا العهد دون الالتفات لقضية الشعب ككل، كما لم يلتفتوا له عندما كان يرزح تحت الحصار والجوع لمدة ١٣ سنة، وتناوب اربعة بابوات على حكم الفاتيكان ولم يلتفتوا إليه، بينما اليوم تحكم العراق حكومة فاسدة لا تهتم للشعب ولا توفر له ابسط مقومات الحياة حتى لو كان لقاحا بسيطاً لمرض الكورونا الوبائي، وياتي البابا تلبية لدعوته حكومته، ان هذا لا يعني سوى ان هذه الزيارة مدفوعة الثمن مقدماً. ونتمنى ان لا يكون ذلك صحيحاً.
د. رياض السندي
٢٠٢١/٣/٤
بمناسبة زيارة البابا لمدينة إبراهيم
- التفاصيل
- كتب بواسطة: نيران العبيدي
ابراهيم تلفظ بالعبرية افراهام وهي من مقطعين أب وتعني الأب و راهام وتعني الرفيع وحقيقة الأسم مشتق من الكلدانية أبرام او افرام بالروسية وتعني الأب العالي
ومن ثم الآرامية، وتعني الأب الرحيم.
لكن أسمه، بعد الإيمان أصبح يعني أبو الجمهور، أو الجميع، أو والد الأمم.
ومازالت الأقوام الكردية تستعمل أصل الكلمة العبرانية، فتترجم كلمة إبراهيم إلى بابي همي، أو بوبو هميشكو، بمعنى والد الجميع، أو أب الجميع.
عندما ارتحل إبراهيم الخليل، والخليل تعني حبيب الله، لأنه أحبه واصطفاه من بين البشر، لم يقصد بارتحاله فلسطين غرباً من العراق، بل صعد إلى أعلى يمين الفرات فوصل إلى شمال العراق، يقال: زاخو، ومن ثم مدينة أورفا التركية، وبعدها نزل إلى سوريا، ثم أرض كنعان فلسطين.
(وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) سورة العنكبوت الآية 76
هاجر إبراهيم ابن تارح بعد أن ضاق من الملك النمرود ورهطه، ومن زوج أمه آزر ذرعاً، وآزر كان تاجراً ونحاتاً للتماثيل، لذا يعدّ إبراهيم أول من هاجر طالباً اللجوء بأرض كنعان من العراقيين، بسبب اختلاف الرأي.
الروايات تقول: نزلت رحمة الله عليه بقوله: (يانار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم) فتحولت النار إلى بركة ماء، والحطب إلى أسماك تسبح في تلك البركة المباركة في مدينة أورفا التركية بمقام سيدنا ابراهيم . ومازال مقامه يزوره الحجيج في جامع إبراهيم الخليل هناك في اورفا التركية التي كانت اسمها أوديسا في العصور الكلاسيكية، واراهي بالآرامية وسميت بالرها عند العرب.
حين وصل سيدنا إبراهيم أرض كنعان، حصلت له رؤية تقول: سأجعل من ذريتك بعدد النجوم في هذه الأرض المباركة، فنصب وشد خيمته خارج مدينة الخليل لكونه غريباً ولاجئاً طبقاً للمثل القائل يا غريب كُنْ أديب.
الكتب المقدسة تقول ارتحل من أور الكلدانية إلى حران، ومن ثم شكيم فبيت إيل بأرض كنعان، وبعدها إلى مصر ومن ثم رجع الى بيت إيل فدمشق ثم بئر السبع. و(بيت إيل) تعني بيت الإله، وقد اختلف المعنى عند إبراهيم ( وكان يعني به المطلق في حين تجسد بتمثال عند البقية) و(إيل أو إل، بالعبرية: אל؛ بالسريانية: ܐܠ؛ بالإنكليزية: ʼĒl أو ʼIl وهي كلمة سامية شمالية غربية تعني (إله) أو (رب)، أو تشير (كاسم علم) إلى أحد آلهة الشرق الأدنى القديمة المتعددة).
تزوج إبراهيم الخليل من سارة، وكانت أصغر منه بأكثر من 10 سنوات، وهي من مدينة أور الكلدانية، المصادر اليهودية تقول: كانت أخته غير الشقيقة، وكان ذلك جائزاً بوقتها، لكن المصادر الإسلامية تقول: ابنة خالته وشقيقة لوط، ولم تنجب سارة ولداً له إلا في الثمانينيات من عمره بعد أن بشرته الملائكة التي كانت تجوب الصحراء أمام خيمته في أرض كنعان.
تقدم إبراهيم بدعوة الملائكة للعشاء، وقام بغسل ارجلهم من التراب فرأت الملائكة نعمة في عين إبراهيم وبشرته بغلام، لهذا يقال إبراهيم تبرر أمام الله بأعماله، وليس بصلواته، ويقال الأعمال الصالحة أساس الإيمان.
بعدها تزوج هاجر وهي جارية مصرية، ويقال كانت له زوجة أخرى اسمها قنطورة وكانت كنعانية فلسطينية، وبعضهم يقول: قنطورة هي هاجر ذاتها، تبدل اسمها بعد الإيمان، ويعني رائحة البخور.
هناك رأي يقول: كانت قنطورة محظيته، وليست زوجته، لكنه أنجب منها 4 بنين، وتفرد الطبري بإضافة زوجة أخرى للنبي إبراهيم اسمها حجور بنت أزهير، لكن هذه الزوجة لم يذكرها مصدر سوى الطبري.
هناك اختلاف كبير ما بين الروايات الإسلامية والروايات اليهودية بشأن القربان الذي قدمه إبراهيم الخليل أمام مذبح الله في بيت إيل، فالروايات اليهودية تقول: اسحاق، بينما الروايات الإسلامية تقول: إسماعيل، وفي جميع الأحوال اليهود والنصارى يعدّون العرب أبناء الجارية هاجر، أما اليهود فهم أبناء السيدة سارة.
المذبح كانت تقدم فيه قرابين التقدمة دم الحيوانات، ومن ثم تحرق مع البخور، وكان الاعتقاد السائد لإرضاء روح الله التي تتمتع برائحة المحرقة التي تعلو المذبح، وكانت المراسيم تجرى مع الصلوات ومباركة الرب.
ومن حادثة القربان، والضحية التي قدمها الله بكبش فداء لابن إبراهيم، سمي العيد الكبير لدى المسلمين بعيد الأضحى.
على الرغم من المسيرة الطويلة التي خاضها المهاجر إبراهيم عليه السلام في حياته، لكنه بقي يتذكر مدينته أور الكلدانية، ونحن اليوم نستذكر سيدنا وأبو الجميع ابن مدينتنا الناصرية بمناسبة زيارة البابا لمدينة أور التاريخية.
نيران العبيدي
كند 3آذار
الملتقى الوطني الديمقراطي الفلسطيني
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. ابراهيم أبراش
شاركت في الندوة التي نظمها عضو اللجنة المركزية لحركة فتح الدكتور ناصر القدوة عبر تقنية الزوم يوم أمس الثاني من مارس حول الانتخابات، وفي هذا اللقاء الذي شارك فيه حوالي 230 شخصية متعددة الاتجاهات السياسية، أعلن الدكتور ناصر عن تشكيل الملتقى الوطني الديمقراطي الذي سيخوض الانتخابات التشريعية بقائمة مستقلة ستكون مفتوحة أمام الجميع بما فيهم مروان البرغوثي ومؤيديه وجماعة دحلان بدون محمد دحلان، مستبعداً حركة حماس ومن ينتمي تنظيمياً لها، كما طرح الدكتور ناصر 22 نقطة كأساس للبرنامج السياسي للملتقى.
بشكل عام فإن الساحة الفلسطينية وطبيعة النظام السياسي لا يتعارض مع تشكيل ملتقى أو حزب أو تجمع جديد بعد وصول التنظيمات والفصائل القائمة لطريق شبه مسدود وباتت المراهنة عليها فقط كمنطلق للتغيير والتجديد واستنهاض الحالة الوطنية كمن يراهن على سراب، بسبب ترهلها وارتهاناتها الخارجية وبعد انكشاف توجهات عند بعض القوى النافذة في الطبقة السياسية الحاكمة في غزة والضفة لتوظيف الانتخابات لتجديد شرعيتهم المتآكلة واقتسام مغانم سلطة تحت الاحتلال ملتزمة بالإملاءات الأمريكية والإسرائيلية، وقطع الطريق على أي مساع وطنية جادة لإحداث تغيير وطني حقيقي .
سيكون للملتقي الوطني الديمقراطي مصداقية أكبر إن كان هدف القائمين عليه ليس فقط الحصول على عضوية في المجلس التشريعي، بل إحداث تغيير جذري في النظام السياسي وهذا ما أكد عليه الدكتور ناصر، حتى وإن كنت أعتقد أن التغيير الجذري يجب أن يبدأ بمنظمة التحرير، مجلساً وطنياً ولجنة تنفيذية ورئاسة، لأن المنظمة عنوان الشرعية وليس المجلس التشريعي ولأنه يمكن لقيادة الشعب المتمثلة في الرئيس أبو مازن واللجنة التنفيذية أن تعطل بل وتلغي كل مخرجات الانتخابات التشريعية إن جاءت على غير رؤيتها السياسية وتعارضت مع المصلحة الوطنية من وجهة نظرها.
المشكلة لا تكمن في تشكيل ملتقى أو جماعة سياسية جديدة ، بل في تعدد القوائم ذات المرجعية أو التوجهات الوطنية التي تتنافس في هذه الانتخابات التشريعية وخصوصاً القوائم المحسوبة على حركة فتح أو ستنزل باسم حركة فتح، وحتى الآن وحسب علمي توجد خمس قوائم مؤكدة: الأولى الرئيسة التي يقوم على تشكيها عضوا اللجنة المركزية جبريل الرجوب وحسين الشيخ ويدعمها الرئيس أبو مازن، والثانية قائمة مروان البرغوثي، والثالثة قائمة ناصر القدوة أو الملتقى الوطني الديمقراطي، والرابعة قائمة محمد دحلان، وربما قائمة خامسة يشكلها نبيل عمرو، والحبل على الجرار كما يقول المثل.
من الممكن أن يكون تعدد القوائم الوطنية الفتحاوية أمراً محموداً وخطوة ذكية لو كانت في سياق تفاهم ضمني بين القائمين على هذه القوائم واللجنة المركزية والرئيس بهدف استقطاب كل عناصر حركة فتح بما فيهم الغاضبين أو المستائين من ممارسات اللجنة المركزية للحركة أو بعض عناصرها، أيضاً استقطاب المواطنين المستقلين أو غير الحزبيين، و المستائين من تنظيماتهم السياسية الدينية أو اليسارية، حتى وإن كان هذا التعدد سيشتت الأصوات. في اعتقادي أن هذا التشتت لن يكون مضراً إن كان هناك تفاهمات مسبقة كما أشرنا حيث سيتم تجميع كل الفائزين في الانتخابات في تكتل برلماني واحد، وهذا التعدد سيكون أقل ضرراً مما لو نزلت حركة فتح بقائمة واحدة دون توافق داخلي، لأنه في هذه الحالة الأخيرة هناك احتمال عدم فوزها بأغلبية مريحة في الانتخابات.
أما إن لم تنجح حركة فتح في لملمة أوضاعها والتوافق على قائمة واحدة وتنافست عدة قوائم دون تنسيق فلن تفوز أية قائمة بعدد مقبول من الأصوات وسيكون الفائز في هذه الانتخابات هي حركة حماس، كما ستتزايد الخلافات بين الفائزين في القوائم الفتحاوية حيث سيُحَمِل كل طرف فتحاوي بقية الأطراف بالمسؤولية عن الفشل .
مع استمرار الأمل بوحدة حركة فتح وتوافقها على قائمة فتحاوية وطنية مشتركة، إلا أن التخوفات ما زالت قائمة من نتائج كارثية للانتخابات ليس فقط على حركة فتح بل وعلى القضية الوطنية برمتها. وتجنباً لما هو أسوأ وكاقتراح للخروج من المأزق الذي تواجهه حركة فتح أقترح على القيادات القائمة على تشكيل قوائم فتحاوية أن لا تكون على رأس هذه القوائم أو ضمنها وبهذا تُبعد كل الشبهات والمزاعم بأنها تسعى من تشكيل القوائم الى الحصول على عضوية التشريعي فقط، كما أنه بالامتناع عن وجودها في القوائم تنسجم وتلتزم بقرار الرئيس أبو مازن بالأشخاص الممنوعين من الترشح للانتخابات وبهذا تحافظ على وحدة حركة فتح ولو نظرياً.
واخيراً ومع مرور كل يوم تتزايد حالة القلق من الانتخابات وعلى الانتخابات، وحالة القلق لم تعُد من التدخلات والضغوط والاشتراطات الخارجية، بل من عدم نضج الوضع الداخلي وخصوصاً الفتحاوي والتراجع التدريجي عن كل ما سبق من حديث عن وجود تفاهمات بين حركتي فتح وحماس. ومع ذلك فالشعب ما زال يراهن على أن تشكل الانتخابات مخرجاً من المأزق والطريق المسدود للنظام السياسي، ولأن فشل إجراء الانتخابات أو فشل الالتزام بمخرجاتها يعني العودة لوضع أسوأ من الوضع الراهن، كما أُعيد التأكيد بأن غالبية الشعب ما زالت تراهن على حركة فتح ومنظمة التحرير، فعليهما تقع المسؤولية في حالة النجاح وفي حالة الفشل .
إبراهيم أبراش
الجيتو الإجرامى الصهيونى أمر لاهوتى مقدس
- التفاصيل
- كتب بواسطة: احمد عزت سليم
كما أكد أحدُ المفكرين: "إنَّ الدائرة اليهوديَّة السحريَّة هي نِتاج "الجيتو"، ولا يُمْكن الفِكَاك منها "، فقد إعتمدت الصهيونية في تصرفاتها الإجرامية لتصفية الشعب الفلسطينى على كونها جيتو بأمر لاهوتى، لتصبح كافة التصرفات والحوادث والحالات الفردية الصهيونية الإجرامية مقدسة وإلهية وتشكل نظاما لاهوتياً يحكم حركتها وينفى عنها الشك والريبة وتحل الأيديولوجيا فى اللاهوت واللاهوت فى الأيديولوجيا، ويصبح تاريخ اليهود هو تاريخ اليهودية هو تاريخ الأيدلوجيا وهو تاريخ الإله الذى عقد معهم ميثاقاً أبدياً واصطفاهم فيه عن العالمين وأضحى تاريخ الإله هو تاريخ الشعب الذي اختار الإله واحتكر كل منهما الآخر، لا يهم الإله أن يعلو الحاخام ويكيل له اللكمات على ما فعله بالشعب بل يندم الإله من أجلهم ويسير كنار آكلة أمام الشعب، ولا يهم الشعب إذا مال عن الرب إلهه ولم يحفظ ما أوصى به الرب فقد كشف الرب له عن نفسه وخلق العالم من أجله .
هكذا تتأسس الحادثة والسلوك والحالة الفردية والجمعية الإجرامية الصهيونية للجيتو الإلهى الصهيونى إلى ماهية قبلية، من قبل الوعى الإنسانى بكونها صادرة عن الإله لتبرر ما بعد الأمر القطعى / الأمر الإلهى والخلق الإلهى الذى يبدأ بهذه الحادثة اليهودية أو تلك الحالة أو ذلك السلوك اليهودى فلا ينتهى ذلك ولا تنتهى تلك ويصير كل منهما بخصوصيته المتفردة - المزعومة - كائنة مهما كانت طبيعتها ومسارها خلال التاريخ وصولاً إلى نهاية العالم والتاريخ، وجلوسها وحدها على عرش العالم تحكمه وتحكم التاريخ ـ كما تتصور ـ فقد وعدهم الإله بملك عالمى، فكل يهودى أيا كانت الطائفة التى ينتمى إليها ينتظر قيام مملكة إسرائيل الكبرى كتوطئة حتى يأتى موعد امتلاك " أقاصى الأرض" كوعد للإله لكهنته والذين " سيأكلون ثروة الأمم " حيث سيعود المسيح اليهودى المخلص ويحكم العالم ويسود الرخاء، الذى يحققه المسيح اليهودى، فيعود الميثاق الأبدى ويعلو العالم ويعود الهيكل ويقوم ملكوت الرب على الأرض، فى شكل ارتدادى- عبثى - بإعادة طقوس التاريخ المقدسة وشعائره ويملأ الأرض شعب الرب المطيع والمطبق للأحكام الإلهية، المطبق للقانون الإلهى على الأرض، وتكون التوراة خاتمة التاريخ والمسيح اليهودى المخلص قائدها وتندرج مملكة الأنبياء – تحقيقاً لهذا الميثاق وهذا الوعد بأن النبوة خاصة بهم- تحت إمرة المسيح اليهودى المخلص، وتندرج الأمم الباقية الثانوية تحت إمرة هؤلاء الأنبياء المقدسون، هكذا تتحقق سلطة الإله / النص/ الميثاق / الوعد / القانون/ الحاخام/ فيسود الشعب وكما قال مارتن بوبر: أن هناك تطابقا كاملا بين الوحى والعقيدة والتاريخ، فكل بنى إسرائيل أنبياء، والتاريخ يصير وحياً والوحى يصير تاريخاً، والتاريخ يتدخل فيه الرب بشكل مباشر " .
على هذا النحو تصير الحادثة اليهودية كأنها الماهية وكأنها الجوهر وكأنها المادة الأساسية التى تتوالد و تتوالى منها الأحداث على كثرتها وفرديتها لتصبح بذلك الصورة الأولى للإنسان الكامل الذى تمنى موسى أن يصير أفراده كلهم أنبياء، فأصبحوا حملة رغبة الإله وأوامره وصار سلوك هؤلاء الأنبياء مصدرا للسلوك كما أن الإله صار مصدرا للسلوك هو الآخر وقد حل فيهم، ولذا فأقوال علماء التلمود أفضل مما جاء فى شريعة موسى، بل أن الإله يستشير الحاخامات على الأرض عندما توجد مسألة معضلة لا يمكن حلها فى السماء، بل أن الحاخامات المتوفين مكلفون بتعليم المؤمنين فى السماء، ولا يمكن تغيير كلام الحاخامات ولو بأمر الإله وقال الرابى مناحم : أيها اليهود إنكم من بنى البشر لأن أرواحكم مصدرها روح الإله وأما باقى الأمم فليست كذلك لأن أرواحها مصدرها الروح النجسة .
هكذا تصدر الحادثة عن روح الرب ويتأسس العقد الإرادى حول وحدة واحدة هى رابطة لاهوتية تجمع الإله والنص والميثاق والشعب فى قانون ونظام لاهوتى واحد، متساوية فى ترتيباتها ومكانتها وتوزعاتها وتأثيراتها على الأرض زماناً وتاريخاً فاليهودى اليمنى فى العصور البعيدة هو نفسه اليهودى الفلاشا الإثيوبى فى القرن الحادى والعشرين هو ذاته اليهودى الصينى فى القرن الثالث عشر وهم جميعا ذاتهم اليهودى الأمريكى المنحدر من أصل روسى أو بولندى أو ألمانى وكل هؤلاء هم بذاتهم وذواتهم هم اليهودى داخل الكيان العنصرى الصهيونى الإسرائيلى فى فلسطين المغتصبة، وذلك لأن أرواحهم مصدرها روح الإله التى لا تتغير ولا تتبدل، والإله الذى توحد فيهم، فتوحد اليهودى الماقبلى فى اليهودى المابعدى، وتوحدت المثالية فى الوجود، والميتافيزيقا فى الأفراد والجماعات، ليصير اليهودى إلهاً متعالياً فوق سائر المخلوقات التى خلقت جميعاً من أجل خدمته، فهو سابق عليها، له جوهره الأبدى الذى لا يتغير ولا يتبدل، له صورته التى أعطاها له الإله وميزه بها عن سائر الأغيار بالعقل اليهودى الذى هو عقل البشرية لا أولئك الحيوانات القذرة.
هكذا أصبح الوجود أفقياً بالنسبة للاهوت حيث يتموضع الإله والشعب والميثاق والنص فى وضع أفقى وقد توحدوا معاً فيه، والوجود بالنسبة للعالم هرمى يحتل قمته الإله/ النص/ الميثاق/ الشعب وفى الأسفل عالم الأغيار، ويصير هذا التموضع اللاهوتى معبراً عن العظمة التى تجلى فيها البشر/ الشعب اليهودى وهو قابع مع الإله فى قمة الهرم وقد أصبح ذاكرة البشر الغائرة والكائن الكلى الواجب الوجود من أجل الوجود ذاته الذى خلقه الإله له، ومن ثم يتخطى حدود التطورات البشرية التى شهدتها الإنسانية وقوانينها التطورية، إن لم تكن كينونته هى التى تجرى بها هذه التطورات وتدفعها إلى التطور، ومهما أفقدت تلك التطورات الميتافيزيقا الكثير من عناصرها وعزلتها بقوة العلم والتقدم التكنولوجى، لكنه مع اليهودى يبقى لا معنى للوجود إلا به، وتصير عناصره منهجا فى معرفة ورؤية الآخر وتفسير تصرفاته وتطوراته فى مقابل الثبات العنصرى اليهودى الذى يفسر هو الآخر التصرفات المقدسة الخاصة بما يسمى الشعب اليهودى، المزعوم .
وهى بذلك تنفى القوانين العامة التى تحكم البشرية جمعاء وما توصلت إليه البشرية من منهجية علمية أسس عناصرها جهود البشر أجمعين طوال تاريخهم الفكرى والبحثى الطويل، ورغم ما توصلت إليه البشرية كافة من حتمية ترابط الظواهر الشامل فى كافة مستوياتها البنيوية بدءا من الجسيمات الأولية وانتهاء بالمجرات الكونية، وما لكل ذلك من باطن وظاهر، مع التطور التاريخى من زمن إلى زمن تاريخى ناتج بالضرورة عن الظروف الموضوعية للحظة التاريخية السابقة عليه، وهكذا العالم الموضوعى الذى يقوم على أن كافة أشياء العالم الموضوعى وظواهره مترابطة ومتغيرة أبداً فى ضوء هذا الواقع الموضوعى، لكن اللحظة اليهودية حولت العالم الموضوعى إلى عالم لاهوتى تملأه الأيدلوجيا العنصرية وقد وحدت فيه بين المتناقضات الداخلية، فاللحظة اليهودية كما تصورها المزاعم والأوهام والخرافات مستقلة بذاتها، انخلقت بمفردها، دامت وصارت بذاتها ولذاتها وأضحى لها قانونها المميز المتحد بإرادة الرب الذى حل فيها هو أيضاً وتوحد معها، نافية بذلك ما فى العالم الموضوعى من تمايز وتصادم وتناحر وأن الأشياء كلها تتغير وتتطور باستمرار فيظهر فيها الجديد الذى بدوره يقدم عناصر داخلية وخارجية تحوى معالم التناقض والتى بدورها تتطور نحو جديد قادم كامن، فيه أيضاً مصادر تناقضات جديدة، لكن اللحظة اليهودية وهى فى نفيها للعالم الموضوعى مدعية انغلاقها بمفردها المرسوم بالأمر الإلهى تضع اليهودى على رأس هذا الأمر الإلهى، فيصبح بناء على ذلك فوق البشر بتفرده وعنصريته وكأنه قد انعزل فى جيتو لاهوتى عن الوجود فى ثبات أزلى ومستقراً على ذاتيته العنصرية، بل هو فى عزلته هذه يحرك ويسيطر على ذلك الوجود المنعزل عنه كما يشاء هؤلاء البشر الآلهة بلحظتهم اليهودية المزعومة .
بقلم: أحمد عزت سليم
عضو إتحاد كتاب مصر