صحيفة المثقف
  • مدخل
  • الاولى
  • مقالات
    • أقلام حرة
    • آراء
    • أقلام ثقافية
    • قضايا
    • أقلام فكرية
    • شهادات ومذكرات
    • كتب واصدارات
    • علوم
    • دراسات وبحوث
    • ثقافة صحية
    • تنوير واصلاح
  • أدب
    • نصوص
    • ترجمات
    • هايكو
    • روافد
    • قراءات نقدية
  • حوارات
    • حوارات عامة
    • مدارات حوارية
    • نص وحوار
    • مرايا حوارية
    • حوار مفتوح
  • تقارير
    • تقارير وتحقيقات
    • أوركسترا
    • يوتيوب المثقف
    • اخبار ثقافية
  • استفهامات
    • مواربات
    • استطلاع
  • فنون
    • مقاربات فنية وحضارية
    • لوحات فنية
    • معارض تشكيلية
  • ملفات
    • المرأة في أسر العبودية
    • المرأة والسياسة
    • مستقبل الديمقراطية
    • المثقف والانتخابات
    • ملف: المثقف 10 سنوات عطاء زاخر
    • ملفات سابقة
  • تكريم
    • يحيى السماوي
    • وفاء عبد الرزاق
    • عبد الرضا علي
    • شوكت الربيعي
    • فرج ياسين
  • المؤسسة
    • رئيس التحرير
    • إصدارات المثقف
    • كتب ماجد الغرباوي
    • نشاطات المثقف
    • مناسبات المثقف
    • جوائز وشهادات
    • جائزة الابداع
    • ملتقى المثقف
    • ساهم معنا
  • كتّاب مشاركون
  • اتصل بنا

قصة النخيل بكليّة اللغات في جامعة بغداد

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ضياء نافع

ضياء نافعقال لي أحد طلبتي القدامى، الذي التقيته قبل فترة وبمحض الصدفة في موسكو، ان كليّة اللغات في جامعة بغداد، و بفضل زراعتك للنخيل في حدائقها (عندما كنت أحد مسؤوليها الاداريين) اصبحت تسمى الان في بعض الاوساط الجامعية هناك  – (واحة باب المعظم)، وذلك، لان  الشخص الذي يقترب من كليّة اللغات في مجمع الكليات ، يلاحظ من بعيد تلك الواحة المكتظة بالنخيل، والتي تقف شامخة امام بنايات كليّة اللغات . وقال لي هذا الطالب القديم، اننا – نحن الطلبة آنذاك – كنّا نتساءل فيما بيننا، لماذا قرر معاون العميد ان  يزرع ذلك العدد الكبير من النخيل في حدائق كلية اللغات فجأة وفي نهاية التسعينيات بالذات . ثم طرح عليّ هذا السؤال ضاحكا وهو يقول، اننا لم نتجاسر ان نسألك حول ذلك عندما كنّا طلبة لديك، ولكنني اتمنى ان اسمع منك الجواب الآن، اذ ان الاسرار لا تبقى اسرارا بعد مرور السنوات، واليوم مضى ربع قرن على هذا الحدث (الاخضر الجميل !) . ضحكت أنا طبعا، وقلت له، ان اسلوب طرحك للسؤال يجبرني فعلا ان اجيب عنه بلا شك، وهكذا بدأت بالحديث عن قصة تلك الحملة التي اسميناها آنذاك (نزرع 100 نخلة في حدائق كليّة اللغات)، وها هي ذا بتفاصيلها كما حدثت، ارويها للقارئ العراقي، لاني أرى انها تعدّ الان تاريخا طريفا يستحق ان نعرفه و نتأمله ونستنتج منه دروسا .

استدعاني مرّة عميد الكليّة أ.د. مخلف الدليمي فورا لأمر هام جدا (وكنت أنا حينئذ معاون العميد)، وعندما ذهبت اليه وجدته قلقا، وقال لي، ان رئيس جامعة بغداد أ.د. عبد الاله الخشاب اتصل به هاتفيا الان، وأخبره وهو غاضب وزعلان جدا، انه عرف من مصادره الموثوقة، ان  الاستاذ فلان الفلاني في كليّة اللغات قد استلم رشوة جماعية من طلبة الماجستير، وانه طلب من عمادة الكليّة متابعة ذلك ومعالجة الموضوع بكل حزم ودقّة واعلامه فورا بالنتائج . قلت له، ان احالة ذلك الامر الى اللجان التحقيقية سينعكس سلبيا على سمعة الكلية (خصوصا وان هذا الاستاذ معروف في الاوساط الاعلامية)، لهذا اقترحت عليه ان نعالج الموضوع بحذر شديد وفي اضيق مجال، وطلبت منه ان اذهب انا الى بيت هذا الاستاذ اليوم مساء واتكلم معه بشكل مباشر ورسمي حول ذلك، اذ ربما نصل معه الى حل محدد لهذه القضية الاخلاقية المعيبة . وافق العميد على هذا المقترح، وهكذا اتصلت هاتفيا بالاستاذ المذكور واخبرته، اني سازوره مساء في بيته لأمر هام . ذهبت في الموعد المحدد، ووجدت ذلك الاستاذ ينتظرني بقلق امام باب بيته، وسألني رأسا عن الموضوع ونحن لانزال في الشارع، فقلت له بشكل مباشر ودقيق وموجز ما ذكره رئيس الجامعة، وانني جئت لبحث الموضوع معه، لأن عمادة الكليّة تريد ان تجد حلا لهذه المسألة دون تلطيخ سمعة الكليّة بمثل هذه الامور غير الاخلاقية في حالة نشرها واعلانها . اخبرني هذا الاستاذ رأسا وبدون لف او دوران، انه أخذ من كل طلبة الماجستير فعلا مبلغا متساويا من المال، لانهم ارادوا ان يساعدوه بعد ان أخبرهم حول حادث جرى له في بيته، وانه حذّرهم من عدم الكلام عن ذلك بتاتا، وقال لي وهو يكاد يبكي انه مستعدّ الان وفورا ان يسلمني المبلغ باكمله واعلام عميد الكليّة و رئيس الجامعة بذلك . استلمت منه المبلغ، وهو ليس بالقليل، خصوصا في زمن الحصار آنذاك، وعدت في اليوم التالي الى العميد ووضعت المبلغ على منضدته وحكيت له ما دار في اللقاء . اتصل العميد رأسا برئيس الجامعة، واخبره بذلك، وقال له انه مستعد الان ان يجلب المبلغ له لبحث الموضوع . رفض رئيس الجامعة هذا المقترح رفضا حادا وشديدا ومطلقا، وقال، المهم ان الاستاذ هذا فهم ان الجامعة تتابع الامور و لا تتهاون مع هذه الافعال المشينة، ويجب على العمادة الان ان تجد حلا  للموضوع، وان هذا المبلغ لا يمكن ان يدخل في حسابات الكلية او الجامعة باي حال من الاحوال . وهكذا قررنا ان نعيد المبلغ الى الطلبة كي يعلموا بموقف العمادة والجامعة اولا، وثانيا، كي نتخلص من هذا المأزق، واتفقنا ان نستدعي كل طالب على حدة ونرجع المبلغ له . تقبّل بعض هؤلاء الطلبة المبلغ بكل سرور وقالوا انهم كانوا مضطرين لذلك، و رفض البعض الآخر الاقرار بانهم أعطوا المبلغ هذا خوفا من تبعات هذا الاقرار . بقي لدينا مبلغا لا نعرف (العميد وانا) ماذا يمكن العمل به، اذ لا يمكن الحديث حوله مع رئيس الجامعة بتاتا بعد موقفه الغاضب والحازم والصارم عندها، ولا يمكن ادخاله ضمن ميزانية الكلية وحساباتها باي شكل من الاشكال، ولا يمكن اجبار هؤلاء الطلبة على الاقرار بعملهم واستلام المبلغ  مثل بقية زملائهم . وبعد التي واللتيا، اقترحت استخدام المبلغ المتبقي لشراء فسائل نخيل كي نزرعها في حدائق الكليّة (والاقتراح طبعا يعكس عشقي الدائم للنخيل !) ، وقد وافق العميد على هذه الفكرة، وهكذا ابتدأت بشراء الفسائل وحددنا اماكن زرعها بمساعدة المهندس الزراعي ومساهمة الفلاحين وتأييد بعض الزملاء المتحمسين للفكرة من حولنا، وأخص بالذكر منهم بالذات المرحوم أ.د. علي يحيى منصور (المعاون العلمي آنذاك)، وانجزنا العمل كما يجب . وقد زار كليتنا مرة رئيس الجامعة الخشاب، ورافقته في زيارته، واثناء مسيرتنا في الممر الخارجي للكليّة تحدثت معه حول النخيل التي كانت امامنا في الحدائق وقد كان منظرها  جميلا، وقلت له انها نتيجة حملة (لنزرع 100 نخلة في حدائق كلية اللغات)، والتي قامت العمادة  بها بعد مكالمته الهاتفية حول تلك (القضية !!!) التي يعرفها ومن المؤكد انه يتذكرها، فضحك الخشاب وقال – احسنتم .

هذه هي قصة النخيل التي تم زرعها قبل ربع قرن في حدائق كليّة اللغات، الحدائق التي يسميها البعض (واحة باب المعظّم)، كما قال لي طالبي القديم عند اللقاء معه في موسكو...        

 

ا.د. ضياء نافع

 

الانتخابات والمصالحة والدوران في حلقة مفرغة

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ابراهيم أبراش

ابراهيم أبراشنتفهم دوافع الكثرة من المواطنين الفلسطينيين المتحمسين والمندفعين لإجراء انتخابات بأي ثمن، وقد أظهرنا في مقال سابق أسباب ذلك، كما نثمن جهود الدكتور حنا ناصر رئيس اللجنة المركزية للانتخابات الذي يقوم بجهود مشكورة تتجاوز مهامه التقنية، إلا أن المسالة الانتخابية بدلا من أن تكون حلا لإشكال وتعزز من فرص المصالحة أصبحت بحد ذاتها إشكالا واستحضرت مواضيع الخلاف مجددا، الأمر الذي يعزز الشكوك حول إجرائها قريبا وزيادة التخوفات من خوض تجربة الانتخابات دون توافق ولو نسبي على أسس ومرجعيات النظام السياسي .

وهكذا بعد تفاؤل حذر لم يستمر إلا أياما قليلة عادت المناكفات مجددا حول قضيتين رئيستين وهما الجهة ذات الاختصاص بالإعلان عن الانتخابات ومرجعية وبرنامج الحكومة :

1- هل المرسوم الرئاسي يسبق التوافق/المصالحة أم يأتي نتيجة له .

اشتراط التوافق قبل صدور المرسوم الرئاسي بإجراء الانتخابات وأن يصدر قرار الانتخابات عن اجتماع الفصائل وإن كان في ظاهرة مقبول ومفهوم، إلا أن الخشية أنه لا يتعلق بآلية انتخابية أو إجراء شكلي أو حرص على المصلحة الوطنية بل يكمن وراء هذا المطلب التشكيك بشرعية الرئيس وبالتالي بأهليته لاتخاذ قرار أو مرسوم منفردا بموضوع استراتيجي كالانتخابات كما أن من يقف وراء هذا المطلب تجاهل قانون الانتخابات واللجنة المركزية للانتخابات، كما تتخوف من انتخابات تشريعية لا تتلوها انتخابات رئاسية .

صحيح لا بد من توفر درجة من التوافق قبل إجراء الانتخابات ولكن هذا لا يعني اشتراط المصالحة الشاملة قبل الانتخابات، حيث فشلت مئات جلسات حوارات مصالحة استمرت لعقد من الزمان، ولو نجحت حوارات المصالحة أو كان هناك فرصة لنجاحها ما كنا أمام إشكال الانتخابات، ففشل حوارات المصالحة أهم الأسباب التي دفعت الرئيس للدعوة للانتخابات .

ومن جهة أخرى ما الذي يضمن أن ينجح لقاء فصائلي أو أكثر في تحقيق التوافق حول موضوع الانتخابات وألا تتشعب مواضيع النقاش وتتداخل الملفات وتتفجر الخلافات مرة أخرى ؟وإذا ما فشلوا في اللقاء الموعود فهل يتم التراجع عن الانتخابات أو تأجيلها لحين حدوث التوافق مما يعني العودة لنقطة الصفر والدوران في حلقة مفرغة ؟! وفي هذه الحالة هل من بديل عن الانتخابات ؟.

وفي هذا السياق نقترح أن يصدر بوقت متزامن مرسوم يحدد موعد الانتخابات بناء على قانون الانتخابات التي تم التوافق عليه سابقا، وفي نفس الوقت يتم تحديد موعد للقاء تشاوري قبل الموعد المحدد للانتخابات مع التأكيد بأن الانتخابات ستجرى في موعدها المحدد في المرسوم بغض النظر عن نجاح أو فشل جلسة / جلسات المشاورات، وبهذا يتم قطع الطريق على الذين يتحججون بغياب التوافق حتى يتهربوا من الاستحقاق الانتخابي .

2- مرجعية وبرنامج الحكومة المنبثقة عن الانتخابات .

وحيث أن حركة حماس، ومن معها من فصائل، طرحت شروط ومحددات قبل إجراء الانتخابات فإن حركت فتح طرحت أيضا شروطها المقابلة حيث قال عزام الاحمد بأن أية حكومة تنبثق عن الانتخابات عليها الالتزام ببرنامج منظمة التحرير الفلسطينية .

نعتقد أن خطاب السيد السنوار قائد حماس في غزة والذي تحدث عن سلاح المقاومة وقدراتها كان وراء تصريحات عزام الاحمد عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة واللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول ملف المصالحة في حركة فتح وهي تصريحات تستحضر أيضا موضوع سلاح المقاومة .

ما تحدث به عزام الاحمد كلام واقعي حتى وإن كان مؤلما وهو يطرح قضية جوهرية لا يمكن تجاهلها وخصوصا أنها كانت سببا في فشل انتخابات 2006 وكانت حاضرة في كل حوارات واتفاقات المصالحة .

فبعيدا عن الأماني والتطلعات الوطنية وعن الخطاب الديماغوجي، فإن الانتخابات هي لعضوية مجلس تشريعي لسلطة حكم ذاتي تحت الاحتلال شكلتها منظمة التحرير الفلسطينية، ومن المعروف أن برنامج المنظمة يقوم على الحل السلمي للصراع والمفاوضات والاعتراف بإسرائيل، ولا يمكن لأية حكومة أن تكسر هذا الواقع حتى وإن كانت حكومة منتَخبة من الشعب إلا في إطار توافق وطني على الخروج من مربع سلطة حكم ذاتي والعودة لحالة التحرر الوطني وهي حالة لا تستقيم ولا تحتاج لا لانتخابات ولا لسلطة وحكومة .

لقد رأينا مصير الحكومة التي شكلتها حركة حماس برئاسة السيد إسماعيل هنية بعد انتخابات 2006 وما آلت إليه الأمور عندما انقلبت حماس على السلطة الوطنية ومنظمة التحرير وحاولت أن تؤسس لسلطة مقاومة وحكومة ربانية، كما نتابع واقع حكومة وسلطة حماس في غزة، وإن لم تلتزم حكومة جديدة برئاسة حماس أو بمشاركتها ببرنامج المنظمة الذي يعترف بإسرائيل ويلتزم باستحقاقات أوسلو الخ فهل ستتعامل معها إسرائيل ؟وهل ستسمح لوزرائها بالتنقل بين الضفة وغزة .وهل الجهات المانحة ستفي بالتزاماتها تجاه السلطة ؟ . ومن جهة اخرى كيف تلتزم حماس ببرنامج منظمة التحرير وهي خارجها وتشكك بصفتها التمثيلية للشعب الفلسطيني ؟.

وهكذا يبدو وكأننا ندور في حلقة مفرغة أيهما يسبق الآخر المصالحة أم الانتخابات، مما يستحضر اتفاق المصالحة 2011 الذي أدرج الانتخابات ضمن رزمة شاملة تشمل 6 ملفات منها ملف منظمة التحرير وسلاح المقاومة أو الأمن .

هذا المشهد السياسي ومناكفاته يعزز الشكوك حول مصداقية وقدرة الطبقة السياسية في إجراء الانتخابات، كما يثير تخوفات من إجرائها دون توافق وطني يستعيد الثقة بين مكونات النظام السياسي ويستبعد سياسة الاقصاء المبيتة والنية في كسر العظم والانتقام .

انعدم ثقة حركة فتح وحركة حماس بعضهما البعض وعدم ثقة أي منهما بالفوز بالانتخابات بأغلبية تؤهله لتشكيل الحكومة تجعل من الانتخابات القادمة مغامرة خطيرة لكل منهما وعدم إجرائها والاكتفاء بما بيد كل منهما من سلطة في سياق محاصصة جغرافية أهون الشرور والمخاطر بالنسبة لهما، وخصوصا أن أي من الحزبين سيكون غير قادر على طرح برنامج سياسي مُقنع للشعب، أيضا ما نخشاه وفي حالة إجراء الانتخابات أن يحل المال السياسي محل البرامج السياسية، الأمر الذي سيُفقد الانتخابات ومخرجاتها أية مصداقية ؟ .

 

إبراهيم أبراش

 

ابن السيد البطليوسي.. العالم النحوي الذي نشأ معية الفلاسفة

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. محمود محمد علي

محمود محمد عليذكر ابن طملوس الأندلسي في كتابه "المدخل لصناعة المنطق" بأن كتب أبو حامد الغزالي وجدت قبولا عظيما لدي أهل الأندلس بسبب تبني أبو بكر بن العربي (صاحب العواصم القواصم) وتبني محمد بن تومرت لفكره أثناء تواجدهما خلال رحلة العلم إلي المشرق، فنقلو كتب الغزالي كما يذكر ابن طملوس " واختفي ما كان عساه أن يشكل شقاً لمعارضته بشدة، كما حدث بالمشرق؛ بل قد راجت كتبه، وأخذ الناس في قراءتها وأعجبوا بها وبما رأوا فيها من جودة النظام والترتيب الذي لم يروا مثله قط في تأليف، ولم يبق في هذه الجهات من لم يغلب عليه حب كتب أبي حامد الغزالي ".

ومن بين تلك الكتب كتبه في المنطق، ويظهر أن كتب المنطق قبلها لم تصل بلاد المغرب إلا نادراً، كما يفهم من كلام ابن طملوس؛ حيث يقول:" فلما أردت مطالعتها (أي كتب المنطق) لم يكن يبدي قبلها كتاب أنظر فيه، غير أني عندما تصفحت كتب أبي حامد رأيت من تلويحاته وإشاراته، التي تكاد أن تكون تصريحاً أن له فيها تأليف، فأطلعت علي هذه الكتب المذكورة من كتب أبي حامد

بعد هذه التهيئة النفسية والذهنية لتقبل المنطق وإدخاله في الدراسات الفقهية والنحوية التي استغرقت ما يقارب القرن، أصبح المنطق أحد العلوم التي تؤخذ من المشرق، حينما يرتحل أهل المغرب إليه لأجل الدراسة، وأصبح النحاة يدرسونه كسائر العلوم التي يدرسونها، وربما تكون البادرة الأولي البارزة في ذلك ما تمثل لابن السيد البطليوسي الذي تميز بثقافة فلسفية إلي جانب ثقافته اللغوية النحوية، وقد ألف في هذا الباب كتابه " الحدائق في المطالب العالية الفلسفية " وذكرت له المصادر أيضاً كتاب " شرح الخمسة المقالات الفلسفية "، وكذلك " إصلاح الخلل الواقع في الجمل" وفي هذا الكتاب الأخير تناول ابن السيد مسائل نحوية كثيرة واستخدم فيها معرفته المنطقية وتصدي بهذا النهج لكثير من علماء النحو والمنطق؛ حيث أورد تعريفات أبي القاسم الزجاجي وغيره إضافة إلي تعريفات بعض المناطقة للاسم والفعل والحرف وغيرها، واعتبر كثيراً من التعريفات قاصرة عن تحقيق الغاية لأنها لا ترقي إلي درجة التعريف بالحد وعدها من ثم تعريفات بالرسم "، ومثال هذا أن الزجاجي قد عرف الاسم بأنه ما جاز أن يكون فاعلاً أو مفعولاً أو دخل عليه حرف من حروف الجر، ويعلق ابن السيد علي هذا التعريف وغيره بأن القوم قد: "حدوا الاسم بحدود لا تستغرق أقسامه " .

كذلك تناول ابن السيد تعريفات المناطقة الاسم، فاستعرضها ورأي أنها قاصرة أيضاً عن الإحاطة بأقسام الاسم، ومثل ذلك تعريف " أبي يعقوب الكندي (185هـ-256هـ)" وجماعة من المنطقيين الذين ذهبوا إلي أن الاسم:" صوت موضوع بإتقان لا يدل علي زمان معين، وإن فرقت أجزاؤه لم تدل علي شئ من معناه ". ويقول ابن السيد:" إن هذا التعريف غير صحيح لأنه ينطبق أيضاً علي الحرف .

أما ابن المقفع فقد حد الاسم في كتابه الموضوع في المنطق بأنه " الصوت المخبر الموضوع غير المؤقت الذي لا يبين الجزء منه عن شئ من المسمي "، ويري ابن السيد أن هذا غير واضح . فإذا ما وصلنا إلي الفارابي وجدنا ابن السيد يوافق علي التعريف ويقول:" لم نر فيه لأحد من المنطقيين حداً أحسن ولا أثقف من تحديد أبي نصر الفارابي فإنه قال: الاسم لفظ دال علي معني يمكن أن يفهم بنفسه وحده من غير أن يدل ببنيته لا بالعرض علي الزمان المحصل الذي فيه ذلك المعني " . ومن هنا يقدم ابن السيد تعريفه الخاص للاسم فيقول:" الاسم كلمة تدل علي معني في نفسها غير مقترن بزمان محصل يمكن أن يفهم بنفسه ".

وننتقل إلي الفعل حيث يعترض ابن السيد علي تفسير الزجاجي للفعل، وذلك حين قسم الأفعال إلي قسمين: ماضي ومستقبل، ورأي ابن السيد في هذا مغالطة وإنكار للفعل الحاضر وتشبهاً بدعوي السوفسطائية الذين شككوا في الحقائق، ومن جملة ما شككوا فيه " الزمن " حين رفضوا وجود الحاضر، ويقول ابن السيد:" أن يقال لقائل هذا: هل أنت موجود الآن أو غير موجود فإن قال إنه موجود ولا يمكنه أن يقول غير ذلك. قيل له: أفي زمان ماضي أنت الآن، أم في زمان مستقبل ؟ فإن قال إنه في احدهما قيل له: فأنت إذن معدوم موجود في حال واحدة . ويجب أن يقال له إذا كنت موجوداً كلمناك في هذه المسألة لأنك الآن معدوم، وإن قال: ليت في ماض، ولا مستقبل أثبت واسطة بينهما، وناقض .

ويري ابن السيد أن الفرق بين الماضي والمستقبل دقيق للغابة، فالفعل الحاضر يتمتع بالديمومة، ومن ثم لا يلبث أن ينقلب إلي المستقبل ليصبح جزءاً منه ماضياً . فالزمن عنصر سيال لا يثبت علي حال ولا يجمد عند طرف .

ويقسم ابن السيد الزمان إلي قسمين: (أ) زمان نحوي: وهو القسمة المعروفة: ماضي وحاضر، ومستقبل . (ب) زمان فلسفي تكون فيه الحدود غير دقيقة إذ يتمتع بالديمومة وعدم الثبات بحيث يصير الزمان بعناصره الثلاث كانه كتلة واحدة متلاحمة الأجزاء، يصعب الفصل بينهما فيلتبس علينا وجود الحاضر، إذ يصعب استخراجه من تيار الزمن العام .

وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة وهي أن ابن السيد يري أن المنطق وثيق الصلة بالنحو، ذلك أن "بين الصناعتين مناسبة من بعض الجهات "، ولا ينبغي أن تقودنا هذه الصلة إلي اعتبارهما متماثلين، فلكل صناعة قوانينها الخاصة، ويقص علينا ابن السيد في هذا الصدد حادثتين، الأولي: عن مسألة تنازع فيها مع الفيلسوف " ابن باجة " (المتوفي سنة 522هـ أو 523هـ ) الذي كان معاصراً حيث أخبره ابن باجة بأن قوماً من نحويي سرقسطة اختلفوا في قول "كثير":

وأنت الذي حببت كل قصير          إلي وما تدري بذلك القصائر

عنيت قصيرات الحجال ولم أرد       فصار الخطأ شر النساء البحاتر

فقال بعضهم " البحاتر" مبتدأ و" شر " خبره، وقال بعضهم يجوز أن يكون " شر النساء" هو المبتدأ و" البحاتر " خبره. وأنكرت هذا القول وقلت لا يجوز إلا أن يكون " البحاتر" هو المبتدأ و" شر النساء" هو الخبر (ضمير القول عائد لابن باجة)، فقلت له الذي قلت هو الوجه المختار، وما قاله النحوي الذي حكيت عنه جائز غير ممتنع فقال: وكيف يصح ما قال وهل غرض الشاعر إلا أن يخبر أن " البحاتر شرالنساء" وجعل يُكثر من ذكر الموضوع والمحمول ويورد الألفاظ المنطقية التي يستعملها أصحاب أهل البرهان، وكان رد ابن السيد عليه أنه لا يجوز إدخال صناعة في صناعة أخري، وفي صناعة النحو " مجازات ومسامحات لا يستعملها أهل المنطق، وهناك خصوصيات نحوية لا مكان لها في المنطق .

وصناعة النحو قد تكون فيها الألفاظ مطابقة للمعاني وقد تكون مخالفة لها إذ ا فهم السامع المراد فيقع الإسناد في اللفظ إلي شئ وهو في المعني مسند إلي شئ آخر " فجيز النحويون في صناعتهم " أعطي درهم زيداً، ويرون أن فائدته كفائدة قولهم: أعطي زيداً درهماً " فيسندون الإعطاء إلي الدرهم في اللفظ وهو مسند في المعني إلي " زيد" فهذه الألفاظ غير مطابقة للمعاني، لأن الإسناد فيها إلي شئ، وهو في المعني إلي شئ آخر . أما في القضايا المنطقية فالأمر مختلف عن هذا، فهناك قضايا تنعكس فيصير موضوعها محمولاً ومحمولها موضوعاً، والفائدة في الحالين واحدة، وصدقها وكيفها محفوظان عليها فإذا انعكست القضية ولم يحفظ الصدق والكيفية سمي ذلك انقلاب القضية لا انعكاسها مثال المنعكس من القضايا قولنا:" لا إنسان واحد بحجر "، وعكسها " لا حجر واحد إنسان" . وهذه القضية قد انعكست موضوعها محمولاً، ومحمولها موضوعاً والفائدة في الأمرين واحدة . ومن القضايا التي لا تنعكس قولنا:" كل إنسان حيوان "، فهذه القضية صادقة إذا صيرنا المحمول موضوعاً أصبحت: "كل حيوان إنسان" فعادت قضية كاذبة .

وهنا يري ابن السيد أن علم النحو تظهر فيه اختلافات ومسامحات واجتهادات ليست موجودة في علم المنطق الذي ينبني علي قواعد ثابتة مؤتلفة لا مجال لتجاوزها، وهي المشكلة التي أثارها مع ابن باجة، فبينما يريد ابن باجة أن يوحد بين قواعد النحو والمنطق، دلل ابن السيد علي أنه لا يمكن الأخذ بذلك لأنه لا يجوز إدخال قوانين صناعة في صناعة أخري، ولأن لعلم النحو خصوصية وتميز ليست لعلم المنطق، فقواعد النحو خاصة مرنة، بينما قواعد المنطق ثابتة عامة، وهذا هو نفس ما أكد عليه من قبل "أبو سليمان السجستاني (ت:380هـ) ".

وهذه الثقافة المنطقية الواسعة التي تميز بها ابن السيد قد ألقت بظلالها علي الكثير من نحاة الأندلس، ومن هؤلاء "ابن سيده"، وهو يعد أكبر عقلية أندلسية عملا في فن المعاجم، كان ممن عني بعلوم المنطق عناية طويلة؛ حيث أثرت الفلسفة والمنطق في نشاطهم العلمي.قال القاضي صاعد:"وألف فيها تأليفاً كبيراً مبسوطاً ذهب فيه إلي مذهب متي بن يونس، وهو بعد هذا أعلم أهل الأندلس قاطبة بالنحو واللغة والأشعار وأحفظهم لذلك حتي إنه يستظهر كثيراً من المصنفات فيها، كغريب المصنف، وإصلاح المنطق " .

ويتحدث ابن سيدة في معرض الفخر بما يحسنه من العلوم فيقول:" وذلك إني أجد علم اللغة أقل بضائعي وأيسر صنائعي إذا أضفته ما أنا به من علم حقيق النحو وحواشي العروض وخفي القافية وتصوير الأشكال المنطقية والنظر في سائر العلوم الجدلية التي يمنعني من الأخبار بها نبو طباع أهل الوقت، وما هم عليه من رداءة الأوضاع والمقت .

وكان أبو الوليد الوقشي الطليطلي " من المقننين في العلوم المتوسعين في ضروب المعارف من أهل الفكر الصحيح والنظر الناقد والتحقق بصناعة الهندسة والمنطق  وكانت لسعيد بن الأصفر أحد علماء اللغة مشاركة في المنطق . ولا ننسي أبا الفتوح ثابت بن محمد الجرجاني فإنه كان عالماً في اللغة مشتغلاً بعلوم الأوائل وبخاصة المنطق، وكانت تجري بينه وبين ابن حزم مناظرات في بعض الموضوعات الفلسفية وعليه أطلق ابن حزم صفة الملحد.

ولا تحدثنا المصادر بشئ عن ثقافة ابن الأفليلي المنطقية الفلسفية، ولكنها تقول أن ابن الأفليلي لحقته تهمة في دينه مع آخرين من الأطباء فأخذ وسجن . ويدل نص ابن بسام حين يقول:" ولحقته تهمة في دينه "، علي أن الأمر كان متصلاً بشئ من دراسة الفلسفة والمنطق . وهؤلاء الذين يسميهم ابن بسام الأطباء لا يمكن أن نفهم سبب تتبعهم إلا أن فهمنا أن اللفظة تعني الفلاسفة أو المشتغلين بعلوم الأوائل، إذ لم يحدث أبداً أم كان الأطباء محط تهمة أو هدفاً لاضطهاد الحكام . ولا بد أن تكون هذه التهمة كذلك، أعني ذات صلة بالدراسات الفلسفية، وإلا لما استطعنا أن نوفق بين معني التهمة في الدين وبين قول فقيه محدث مثل ابن بشكوال في الثناء علي ابن بشكوال في الثناء علي ابن الافليلي:" وكان صادق اللهجة حسن الغيب صافي الضمير حسن المحاضرة مكرماً لجليسه".

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

منهج الاصلاح في الأمة

التفاصيل
كتب بواسطة: د. بدر الدين شيخ رشيد

بدر الدين شيخ رشيد

مقاربات بين رؤيتي الخميني وسيد قطب (1)

جدليّة الأولويّة بالبدء في اصلاح الأمة: يتقاطع منهج اصلاح الأمة عند كل من الإمام الخميني وسيد قطب من نقطة البدء، ويلاحظ هذا التقاطع من خلال أدبيات كل منهما، حيث أن الخميني ركّز على وجود الحكومة رغم أنه لم  يهمل دور التربية وبناء العقيدة في المجتمع، فيما نلاحظ من سيد قطب أنه فضّل التربية وبناء العقيدة عن الحكومة، ولعل الفرق بينهما من حيث الأولوية في البدء، لا التغاضي عن أهمية الجانب الآخر للتكامل بينهما، فوجود الحكومة لايستغني عن التربية، كما أن إيجاد التربية لا يستغي عن الحكومة.

ورؤية سيد قطب في منهج اصلاح المجتمع مرّت باجتهادات مختلفة، فالرأي المتقدم، يعتبر اجتهادا جديدا، حرره في  كتاباته الأخيرة، مثل: «الظلال»، و«معالم في الطريق»، وهناك رأي آخر يبدو أنه كتبه في أوائل فكره قبل أن يتبنى الأيدلوجية الأصوليّة، يوافق فيه رأي الإمام الخميني في أهمية الحكومة في إصلاح المجتمع، فقد نقل عنه الإمام الخامئنى مرشد الثورة الإسلامية حاليا. يقول سيد قطب:« كان من الأفضل والأجدر للمسلمين، بدلاً من أن يكتبوا كل هذه الكتب، وبدلاً من أن يبثوا كل هذه الخطابات الإعلامية، وبدلاً من أن يعملوا على إدارة كل هذه المساجد، كان من الأفضل لهم بدلاً من ذلك كله، لو أنهم كانوا قد فعلوا ما من شأنه أن يساهم في نشر الإسلام وفي تعميم الثقافة الإسلامية، فلو أنهم كانوا قد عملوا في هذا الإتجاه لكان هذا خيراً لهم من كل ما يفعلونه»[1].

ويعلق الإمام علي الخامنئي على كلام سيد قطب، فيقول:«لقد اختبرنا نحن هذه الحقيقة وجربناها وعاينا آثارها عن كَثَبَ، فإنه حينما تأسس النظام الإسلامي، وحينما سمعنا هتافات الإسلام تصدر من حنجرة ذلك الرجل العظيم، أعني به: إمامنا الجليل روح الله الموسوي الخميني، شاهدنا إقبالاً عجيباً وتوجهاً باهراً لقلوب كل المسلمين في هذا العالم نحو الإسلام»[2].

ولعل الاختلاف في بنية المجتمع الشيعي عن السني من جهة التكوين السياسي منذ وفاة الرسول صلى الله عليه، هو الذي أدى إلى اختلاف نقطة البدء في تغيير المجتمع عند كل من  الخميني وسيد قطب، فمنهج الشيعة متأصّل على ضرورة وجود الحكومة، وهذه الضرورة تستلزم تشكيل الحكومة بيد الرسول صلى الله عليه وسلم، عكس رؤية أهل السنة القائمة على وجود الحكومة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، بيد الأمة.

إن تركيز سيد قطب على الأمة ناتج عن الفصام المبكر بين العلم والسياسة في صدر الإسلام، إضافة إلى ضباب دور علماء السنة في السياسة، عكس علماء الشيعة الذين كانوا دائما في معترك الحراك السياسي مع الحكام الجائرين تأسّيا بثورة الإمام الحسين ضد حكم يزيد بن معاوية.

كما ينبغي أن نشير إلى أن الأولوية بين الأمة والحكومة عند كل من الخميني وسيد قطب، هي أولويّة مكانة، كما أنها أولويّة زمان ومراحل، فمكانة الأمة مقدمة عن مكانة الحكومة؛ لأن الأخيرة ما هي إلا إفراز طبيعي من الأمة، وبالتالي فمنظومة الشيعة بدأت أهمية الأمة ودورها منذ أن تغير الحكم إلى حكم وراثي استبدادي، ولهذا تجد أن أئمة الشيعة ركزوا جهودهم على تفعيل التربية وبناء العقيدة في المجتمع  الشيعي، وذلك بعد فشل ثورة الحسين بن علي رضي الله عنه، فيما نجد  من جهة علماء السنة  أن بعضهم اقتصر جهده ودوره على نصيحة الحاكم الجائر، ومنهم من ابتعد عنهم حفاظا على دينه وعقيدته.

ولعل هذا ما نلاحظه  عند الشيعة بدءا من الإمام الرابع علي بن الحسين( زين العابدين)، إلى آخرهم المهدي، إذا استثنينا الإمام الثامن الذي رُشِّحَ إلى وليّ العهد لخليفة المأمون، إلا أنه  توفي في أثناء حياة المأمون.

وعلى هذا الأساس، فكل أئمة الشيعة بعد ثورة الحسين بن علي بذلوا الجهد لإصلاح الأمة وتربيتها وبناء العقيدة، ويتجلى هذا الأمر جليّا في عهد الإمام السادس جعفر الصادق، عند ما عرض أبو مسلم الخراساني  عليه الدولة ، وذلك بعد سقوط الدولة الأموية إلا أنه رفض وقال: ليس الزمان زماني ولا أنت من رجالي[3]،  وهذه تدل على تفضيل أئمة الشيعة بناء الأمة عن الحكومة؛ لأنه لو كانت الحكومة المحور الأساسي لتغيير المجتمع، لقبل الإمام جعفر الصادق هذا العرض من مسلم الخراساني.

إن رؤية سيد قطب الأنظمة التي كانت في عصره انعكاس بموقف الإمام جعفر الصادق في عصره، حيث اعتبر الحكم الأمويّ حكما طاغوتا، وأفتى للشيعة عدم التحاكم إليهم، وهذا ما نجده  فعلا، يتجسد في أفكار سيد قطب نحو الأنظمة السياسية في عصره وخاصة في ثورة 23 يوليو، حيث اعتبرها حكما طاغوتا مثل موقف جعفر الصادق من الحكم الأموي[4].

وهكذا، ركّز سيد قطب على إعداد الطليعة المؤمنة، أعني، جيلا قرآنيا يستقي تربيته من القرآن الكريم، فهذه الطليعة تدعو إلى جيل  قرآني فريد يمارس القرآن وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهديه العملي وسيرته الكريمة كمنهج وطريق إلى دعوة الله؛ لأن القرآن هو الأصل الذي تربى عليه جيل محمد صلى لله عليه وسلم، وهو الذي سيكفل استمرار الدعوة في الأجيال اللاحقة بعده إلى يوم الدين بغض النظر عن وجود شخصيته صلى الله عليه وسلم؛لأنه« لوكان وجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم حتميّا لقيام هذه الدعوة، وإيتائها ثمارها ما جعلها الله دعوته للناس كافة، وما جعلها آخر رسالة وما وكل إليها أمر الناس في هذه الأرض إلى آخر الزمان»[5].

هذا، وأشار سيد قطب إلى أهمية القرآن لكونه المنبع الصافي الذي استقى منه الرعيل الأول الذي صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، حيث فسّر أن سر ظاهرة استمرارية هذا الدين وهذه الدعوة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم هو استقاء هذا الجيل من هذا المنبع الصافي، حيث لم يكن مربوطا بوجود شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، فهناك عنصران مهمّان لنشأة الجيل القرآني الفريد في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، عند سيد قطب:

الأول: اكتفاء الجيل الأول بهدي القرآن وحده حيث اعتبروه منهجا وسلوكا.

الثاني: كون الرسول صلى الله عليه وسلم، مصدر التلقي في بيان هدي القرآن.

فسيد قطب ذكر أنه لم يعد يخرج مثل طراز جيل النبي صلى الله عليه وسلم، نعم، يرى أنه وُجِدَ أفراد من ذلك الطراز في التاريخ الإسلامي لكنه لم يحدث أن تجمع مثل ذلك العدد الضخم في مكان واحد كما وقع في الفترة الأولى من حياة هذه الدعوة[6]،  فهو يرجع إلى  عدم تكرار مثل الرعيل الأول إلى ثلاثة عوامل:

الأول- اختلاط النبع الذي استقت منه الأجيال التالية بفلسفة الإغريق ومنطقهم وأساطير الفرس وتصوراتهم وإسرائيليات اليهود، ولاهوت النصارى، وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات، حيث اختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم، وعلم الكلام،كما اختلط بالفقه والأصول وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل.

الثاني: تغير منهج التلقي الذي كان عليه في ذلك الجيل الفريد، فهم لم يكونوا يقرءون القرآن بقصد الثقافة والاطلاع ولا بقصد التذوق والمتعة، بل كان قصدهم العمل فيما تلقوا فيه من أوامر.

الثالث: الجيل الأول كان الرجل منهم عند ما يدخل في الإسلام يخلع جميع الرواسب الجاهلية وكان يبدأ عهدا جديدا منفصلا عن حياته التي عاشها في الجاهلية[7].

فالظاهر أن العامل الرئيسي هو عدم وجود مرجعية دينية تقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم بعده، وهذه العوامل التي ذكرها سيد قطب كلها منبثقة من هذا العامل الرئيسي، فمثلا، اختلاط المنبع الصافي بفلسفات الأمم الأخرى كان سببا لغياب تلك المرجعية، والتي لها المقدرة على الفهم والاستنباط من القرآن، وتمييز غيرها من المذاهب المنحرفة، فبعد اتساع رقعة الإسلام ودخول الأمم الأخرى كالروم، والفرس، واليهود، في الإسلام، بدأ هذا الاختلاط، وخاصة في عهد عمر وعثمان رضي الله عنهما، فهناك ستة عوامل رئيسية أدت إلى ظهور الفرق بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم.

غير أننا نكتفي بإيراد العامل الرابع لما له من علاقة  تخص بحثنا هذا من حيث اختلاط النبع الصافي بفلسفات الأمم الأخرى، وهذا العامل هو إفساح المجال للأحبار والرهبان للتحدّث في عهد عمر وعثمان رضي الله عنهما.

وكان هذا التحدث من الأحبار والرهبان نتيجة لمنْعِ تدوين السنة في عهد مبكر، وقد فسح هذا التحدث عن التوراة والإنجيل انتشار الفوضى في العقائد، والأعمال، والأخلاق، والآداب، وصميم الدين ، ولباب الأُصول؛ لأنّ الفراغ الذي خلفه منْعُ تدوين الحديث أوجد أرضية مناسبة لظهور بدع يهودية، وسخافات مسيحية، وأساطير مجوسية، خاصة من ناحية كهنة اليهود، ورهبان النصارى، الذين افتعلوا أحاديث كثيرة ونسبوها إلى الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، كما افتعلوا على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم الأساطير[8].

ومن هنا أشار ابن خلدون إلى سبب هذا الاختلاط، وهو أنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنّما غلبت عليهم البداوة والأُمّية، وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء ممّا تتشوّق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة، وأسرار الوجود، فإنّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدون منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى، مثل كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد اللّه بن سلام وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم وتساهل المفسرون في مثل ذلك[9].

نقد الذات وكشف مكر الأعداء:

انتقد كل من الإمام الخميني وسيد قطب  أوضاع العالم الإسلامي، ويتركز نقد الخميني على رجال الدين أو ما يعرف برجال الحوزة، كما انتقد أيضا دور الاستعمار، بينما تركّز نقد سيد قطب على المجتمع ككل، فيما يطلق عليه بالجاهليّة، بالإضافة إلى نقده لدور الاستعمار في تخلف العالم الإسلاميّ.

فالخميني اعتبر رجال الدين في الحوزات العلميّة عاملا أساسيا ساهم في تخلف العالم الإسلامي، وذلك يتنافى  مع ما عرف من الإسلام أنه«دين المجاهدين الساعين للحق والعدالة، دين أولئك الذين ينشدون الحرية والاستقلال، إنه عقيدة المناضلين والمعادين للاستعمار»[10].

كما أن عملاء الأجانب، أخذوا يبثون أن الإسلام ليس فيه شيء، وأنه مجموعة من أحكام الحيض والنفاس وأن على رجال الدين الاقتصار على تدريس الحيض والنفاس، فأثرت تلك الدعاية  على الطبقة المثقفة، سواء من الجامعيين أو الكثير من رجال الدين الذين لم يفهموا الإسلام جيدا، فأصبح الإسلام يعيش بين شعوب الدنيا بغربة، حتى وصل الأمر إلى أنه «لو أراد الإنسان أن يعرض الإسلام كما هو، فلن يصدقه الناس بسرعة، بل تواجهه أصوات الاستعمار في الحوزات بالضجيج والغوغاء»[11].

فالإمام الخميني يشرح الأسباب التاريخية التي ساعدت على تدهور العالم الإسلامي عموما، والحوزات العلمية خصوصا، حتى وصل الأمر إلى ما هي عليه من الأوضاع الراهنة، ومن أهم تلك الأسباب دسائس اليهود التي مارسوها ضد النهضة الإسلامية منذ بدايتها، ثم ما تلى ذلك من طوائف أخرى أخذت باسم الحروب الصليبية منذ ثلاثة قرون، ولم يكن هدفهم أساسا، إبعاد الناس عن الإسلام لتقوية النصرانية، بل كان تمهيدا لمطامعهم الاستعمارية، وعلى هذا الأساس، فعند ما شعروا طوال فترة الحروب الصليبية أن الذي يقف أمام مصالهم المادية، هو الإسلام وأحكامه وإيمان الناس به، قاموا بالدعاية ضد الإسلام بمختلف الوسائل، وقد تعاونوا في ذلك مع رجال الدين الذين أوجدوهم في الحوزات العلمية، بالإضافة إلى العملاء الذين يعملون في الجامعات والمؤسسات الإعلامية الحكومية، والمستشرقين[12].

بالإضافة إلى ذلك، يشيد الخميني بمقاومة الاستعمار والأنظمة الفاسدة المتعاونة معهم من خلال فضح خططهم ومؤآمراتهم ومقاطعتهم الاقتصادية، وبالتالي القيام بالثورة ضد حكّام  الجور[13].

أما نقد سيد قطب، فيتركز على الجاهلية، وهي حاكمية البشر للبشر وهي شذوذ عن الوجود الكوني وتتصادم مع الجانب الفطري، وهي ليست نظرية مجردة، بل إنما تتمثل دائما في تجمع حركي، متمثلة في مجتمع خاضع لقيادة هذا المجتمع [14].

فالمجتمعات عند سيد قطب هي: إما مجتمعات إسلامية أو جاهلية. فالمجتمعات الإسلامية  هي التي يطبق فيها الإسلام: عقيدة، وعبادة، وشريعة ونظاما وخلقا وسلوكا، أما المجتمعات الجاهلية فهي التي لا يطبق فيها الإسلام ولا تحكم عقيدته وتصوراته، وقيمه وموازينه، ونظامه وشرائعه وخلقه وسلوكه[15].

وتدخل المجتمعات الجاهلية عند سيد قطب في كل من المجتمعات الشيوعية، واليهودية والنصرانية، والمجتمعات المسلمة، ويعلل سيد قطب كون المجتمعات المسلمة تدخل ضمن إطار المجتمعات الجاهلية؛ لكونها لا تدين  بالعبودية لله وحده في نظام حياتها، فهي وإن لم تعتقد بألوهية أحد إلا الله، لكنها تعطي أخص خصائص الألوهية لغير الله فتدين بحاكمية غير الله، وبناء على هذا، فهي تتلقى من هذه الحاكميّة نظامها، وشرائعها، وقيمها، وموازينها وعاداتها وتقاليدها وكل مقومات حياتها[16].

هذا، وأكد  سيد قطب- كالخميني- أن أعداء هذا الدين وأعداء الجماعة المسلمة من اليهود والنصارى والوثنيين على مدار التاريخ،  قد ناصبوا الإسلام العداء وحاربوه حربا لا هوادة فيها، منذ أن اصطدم الإسلام بالدولة الرومانية على عهد أبى بكر وعمر رضي الله عنهما، حتى كانت الحروب الصليبية، ثم كانت المسألة الشرقية التي تكتلت فيها الدول الصليبية في أرجاء الأرض للإجهاز على الخلافة،  وبالتالي كان الاستعمار الذي يخفي الصليبية بين أضلاعه،  قد بدت في فلتات لسانه، إلى أن أصبح التبشير الذي مهد للاستعمار وسانده، ولاتزال حملاته المشبوهة، والتي يشترك فيها اليهود والنصارى والكفار والوثنيون، على كل طلائع البعث الإسلامي في أي مكان في الأرض، [17].

من جهة أخرى، انتقد الخميني وسيد قطب الحكم الوراثي الذي ابتدعه معاوية بن أبي سفيان في الإسلام، حيث اعتبر الخميني أنه ليس من نمط الحكم في الإسلام؛ لأنه أبطل في صدر الإسلام، وذلك ضمن الرسائل التي بعثها الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى كل من إيران، وبلاد الروم الشرقية، ومصر، واليمن، والتي دعا إليها كلا:من إمبراطور الروم الشرقية هراكليوس، وملك إيران خسرو الثاني، التخلي عن نمط الحكومة الملكية، كما استشهده أيضا بثورة سيد الشهداء الحسين بن علي ضد يزيد بن معاوية  على نفي الحكم الوراثي  وأنه ليس من الإسلام[18].

وهكذا، اعتبر سيد قطب أن الحكم الوراثي ليس من النظام الإسلاميّ، بل هو من وحي الجاهلية الذي أطفأ إشراقه الروح الإسلامية، فهو من النظام الوراثي الذي ابتدع في الإسلام[19].

ومن هنا، أكد سيد قطب مبدأ الاختيار، حتى وإن أختير المفضول، فهو يقرر انطلاقا من مبدأ الاختيار، تقديم عثمان بن عفان، على علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، رغم أنه يرى أن عليا قد غُبِنَ في تقديم عثمان عليه، يقول سيد قطب:«وقد يكون علي قد غبن في تأخيره وخاصة بعد عمر، ولكن هذا التأخير كان له فضله في التقرير العملي لنظرية الإسلام في الحكم، حتى لا تقوم عليها شبهة من حق الوراثة، الذي هو أبعد شيء عن روح الإسلام ومبائه»[20].

 

د. بدر الدين شيخ رشيد  إبراهيم

........................

[1] - علي محسن، مفهوم الحكومة الدينية في رأي الإمام الخميني، ( تاريخ النشر، 15-2-2001م)، أنظر الرابط:

http://www.islamtimes.org/vdcawonm.49ny61kzk4.txt

[2] - المصدر السابق، أنظر الرابط:

http://www.islamtimes.org/vdcawonm.49ny61kzk4.txt

[3] - محمد بن عبد الكريم الشهرستاني،  الملل  والنحل، تحقيق، محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط1404، ج1/ص149.

[4] - أبو الصلاح الحلبي، الكافي للحلبي، تحقيق، رضا أستادي، مكتبة الإمام أمير المؤمين علي بن أبي طالب، أصفهان، إيران،(بدون تاريخ النشر)، ص424.

[5] - سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق، القاهرة ، مصر، ط1/1981م، ص15.

[6] - المصدر السابق،ص14.

[7] - المصدر السابق، ص17-20.

[8] - جعفر  السبحاني،  بحوث في الملل والنحل، مؤسسة النشر الإسلامي، قم،  إيران، ، ط4/1417ھ، ج1/ص78.

[9] - عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون،  المقدمة، دار احياء التراث العربي بيروت، لبنان،  ط3/1993م، ص252

[10] - آية الله الخميني، الحكومة الإسلامية، (PDF)،  )بدون تاريخ  الطبع والناشر)،ص2.

[11] - المصدر السابق، ص3-4.

[12] - المصدر السابق،ص1-2.

[13] - توفيق محمد الشاوي،  فقه الحكومة بين السنة والشيعة،  بمراجعة أ. محمود نفسي حمدي، منشورات العصر الحديث، كوبون هيك، ديناميك، ط1/ 1995م، ص137-143.

[14] - سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق، القاهرة، مصر، ط1/1881م،ص54.

[15] - المصدر السابق،ص116.

[16] - المصدر السابق،ص98-101.

[17] - سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهرة، مصر،  ط2/1997م،  ج2/ص292.

[18] - آية الله الخميني، الحكومة الإسلامية،(PDF) ) بدون تاريخ  الطبع والناشر)، ص5-6.

[19] - سيد قطب، العدالة الإجتماعية في الإسلام، دار الشروق، القاهرة، مصر، ط13/1993م، ص154-155.

[20] - المصدر السابق،ص154.

 

العدل والعدالة وسياسة الملك..

التفاصيل
كتب بواسطة: احمد بابانا العلوي

احمد بابانا العلويصدر للاستاذ نبيل فازيو عن مؤسسة مومنون كتاب بعنوان "العدالة والعدل مساهمة في تفكيك برادايم الملك في الفكر السياسي الاسلامي الكلاسيكي"(2019)

الكتاب يتناول (من منظور معياري) كيف تمثل الفقهاء مفهوم العدل ونظروا الى قضية العدالة باعتبارها اس العلاقة الجدلية في الاجتماع السياسي الاسلامي ورهاناته..

وقد سبق للاستاذ نبيل ان تناول في كتابه"دولة الفقهاء" (2015) مسالة العدل والسلطة والعدالة..

في كتابه الجديد يبحث بصورة معمقة علاقة العدل والعدالة بالملك من خلال "برادايم الملك" على ضوء كتب الاحكام السلطانية والفقه السياسي والاداب والنصائح.. مع التركيز على "الماوردي /ت/450هجرية" باعتباره امام مدرسة الفقه السياسي في العصر الوسيط.. لقد اهتمت بالماوردي دراسات قليلة ظلت نظرية وعامة ولم تتعمق في فكره رغم ان كتابه الاحكام السلطانية يعتبر مرجعا لدارسي تاريخ الافكار و المؤسسات السياسية في الاسلام..

والعدل اسم جامع معناه الانصاف ورفع الجور وبه صلاح الحاكم والمحكوم وصلاح العالم.. بجلب المصالح ودرء المفاسد وهو مناط السياسة الشرعية حينما تمارس السلطة من اجل احقاق الحق وابطال الباطل..

ويشكل الاهتمام بمفهوم العدل جوهر المشكلة السياسية.. وقد ندر البحث والتنظير في موضوع العدالة في الفكر العربي المعاصر لافتقاره الى نظرية صلبة.. وعجزه عن الحسم في كثير من الاشكالات ومن ابرزها اشكالية العدل..

يقول الاستاذ نبيل بان غرضه من تاليف الكتاب اقتراح استراجية لتفكيك مسالة العدل في التراث العربي الاسلامي.. ومساءلة فكرة العدل من خلال " برادايم الملك" ويقصد به الاطار النظري والتفسيري الذي يحكم رؤية الفكر السياسي والاخلاقي.. الى العدل على وجه التحديد.. بمستوياته المختلفة.. حيث ظل خاضعا لنموذج ذهني افرزه واقع الملك الذي حكم العقل الاسلامي..

ان التفكير في النموذج من خلال سؤال العدل يفرض ان نربط بين مفهومي العدل والملك..

ولمفهوم الملك وقعه على الثقافة السياسية باعتباره مؤشرا على نهاية عصر الخلافة والانتقال الى حكم الملك العضوض..

ان جل ما كتب حول مفهوم العدل تمحور حول مسالة الامامة وحرية الانسان عند المتكلمين وانسجام قوى النفس ونظام الكون عند الفلاسفة..

فالعدل من حيث هو قيمة متعالية يتجاوز نسبية الاجتماع السياسي..

لقد طلت رؤية فقهاء السياسة متارجحة بين الواقعية التاريخية والمعيارية الشرعية..

وهكذا تقاطعت في ذهن "الماوردي" نموذج الخلافة وتبدد رمزيتها امام تصاعد نموذج الملك وقد توجس من تضخم السلطة وانقلابها الى طغيان..

من هنا جاء تمسك فقهاء السياسة بمفهوم العدل في مواجهة طغيان السلطان..

وكان عليهم ان يفكروا في مشروعية السلطة على ضوء اكراه الشرع في معياريته واكراه الواقع في ضروراته.. ومن ثم الاقرار بقوة الواقع.. وتجدر الاشارة الى ضرورة التمييز بين مفهوم الشرعية الذي يدور حول فكرة الطاعة السياسية ومفهوم المشروعية بمعنى الخضوع للقوانين السائدة او المطابقة للقانون.. قد تكون السلطة مشروعة ولكنها فاقدة للشرعية اذا فقدت ثقة الجماعة او الرضا العام ( المعتقدات والقيم الجماعية كبعدين للشرعية) وعندما تنهار شرعية النظام يصبح غير شرعي واكثر تسلطية واستبدادا..

الرؤية الاسلامية لم تفصل بين الشرعية السياسية والمشروعية القانونية.. فالشرعي هو ما طابق احكام ومبادئ الشريعة ومفهوم السياسة الشرعية المركب يؤكد ان الشرعية الاسلامية تعد مناط الشرعية السياسية وبالتالي فان وصف السياسة بالشرعية يجعلها وثيقة الصلة بروح الشريعة و مقاصدها لاجل تحقيق العدل فالسلطة لا تصبح شرعية الا اذا التزمت بمعايير الشريعة و مقاصدها في مناهجها وغايتها..

والعدالة بشروطها. الجامعة. هي قوام الخلافة و مصدر شرعيتها لان تحقيق العدل غاية الشريعة الاسمى..

يقول "ابن القيم الجوزية(691/751/هجرية) بان الشريعة عدل كلها.. وكل مسالة خرجت من العدل الى الجور ومن المصلحة الى المفسدة فليست من الشريعة وان دخلت فيها بالتاويل..

ان النظر الى متن فقهاء السياسة باعتباره نظام وتدبير لمعنى الاجتماع السياسي جعل المؤلف يحرص على مقارنة مقالات الفقهاء السياسية بصنوف الخطابات المنافسة واعتبر رؤيتهم تسعى الى بلورة فهما معقولا للواقع ومتغيراته.. الامر الذي يسمح بتفكيك نصوصهم لاجل الوصول الى مرتكزات الوعي السياسي الاسلامي في العصر الوسيط المتجذر في نموذج الملك..

يضم الكتاب فصولا تتناول جوانب اشكالية للعدل خاصة ماتعلق بالاداب السلطانية والفلسفة السياسية وعلم الكلام اضافة الى فقه السياسة الشرعية..

وغرض المؤلف من وراء ذلك ابراز تصور هذه المستويات الفكرية لفكرة العدل..

ومن المسلم به ان للنص عالمه وليس من اليسير فصله عن تاريخ تاويله وفهمه..

وكل نص له القدرة على احتواء مفاهيم عابرة للحقب التاريخية.. وبالتالي من الصعب عزل نصوص الفكر السياسي الاسلامي عن الثقافة التي انتجتها..

ومن الواضح ان "برادايم الملك" الذي وظفه المؤلف في قراءة كتابات فقهاء السياسة تظهر اهميته في قدرته التفسيرية التي تتيح لنا النظر الى السياسة وفهم تشكلاتها وابعادها.. وذلك  من خلال دراسة مصطلحات السياسة الشرعية على الصعيد الدلالي والمنهجي والفقهي لكي نفهم كيف تمت صياغة "نظرية الخلافة" من طرف فقهاء السياسة وفلاسفة الحكم..

ان معنى مفهوم الخلافة والامامة واحد عند فقهاء السياسة الشرعية.. فالماوردي يعرف الخلافة او الامامة بانها "خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا"و يعرفها ابن تيمية بانها النيابة عن النبي في سياسة الدنيا والدين.. ويرى ان الامامة من او جب واجبات الدين بل لا قيام للدين والدنيا الا بها.. لان الجماعة لا بد لها من امام يقيم الاحكام ويصون المصالح وقيم "دولة الصلاح والاصلاح" ويجب ان تتم بيعة الامام بيعة حرة خالية من شوائب الاكراه..

ومن شروط الامامة عند ابن تيمية "العدالة" وايضا المشورة والمبايعة.. اما طاعة الامام التي اختلف فيها فان ابن تيمية يقر بان الامام يطاع في عدل ولا يطاع في معصية..

ويقسم ابن تيمية الحكام الى قسمين: حكام هم خلفاء نبوة  استوفوا شروط الخلافة بالمشورة الصحيحة والمبايعة و القيام بالعدل والحق اما اذا فقدوا شرطا من هذه الشروط فان حكمهم يتحول الى "ملك" (ملك عضوض) يقوم على التغلب..

ويتفق الفقهاء على ان طاعة الملوك المستخلفين (طاعة المتغلب) تكون في غير معصية تجنبا للفتنة..

اما ابن خلدون فان مفهوم الخلافة والملك عنده ينطبق على مفهوم الدولة العامة كما تحدث عنها في مباحث المقدمة.. حيث تناول شكل الحكم ونوع السياسة التي يعتمدها الحاكم في تدبير شؤون الدولة والمبادئ التي يستند اليها في ممارسة الحكم..

وقد تطرق الى موضوع الحكم او الملك انطلاقا من رؤيته للاسس التي تقوم عليها الدول وعوامل تطورها واضمحلالها.. وبحث عن الوازع الذي يحمل الناس على اقامة ملك او دولة.. ووجد انه يجب ان يرجع في ذلك الى القوانين السياسية التي تنقاد اليها المجتمعات وتحكم الدول و يصنف هذه السياسات الى سياسات "دينية او عقلية او مدنية"ونتيجة لذلك قسم الملك الى :

- الملك الطبيعي وهو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة

- الملك السياسي هوحمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح ودفع المضار.

- واما الخلافة فيعرفها ابن خلدون بانها هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الاخروية والدنيوية الراجعة اليها اذ ان احوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع الى اعتبا رها بمصالح الاخرة فهي في الحقبقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا.

وهكذا نستنتج مما سبق ان المشكلة الاساسية التي شغلت بال مفكري الاسلام وفقهاء السياسة والحكم وملكت عليهم تفكيرهم ووجهت ابحاثهم.. تمحورت حول الدولة ونظام الحكم وفن الاداب السلطانية في تدبير الحكم.. سواء بمقتضى الشر ع او بمقتضى العقل او بالتغلب والقهر..

من هذا المنطلق تم حصر انواع الحكم في نوعين رئيسين هما "الخلافة" و"الملك"

لم يهتم العلماء بالاسباب التي ادت الى انقلاب الخلافة الى "ملك عضوض"بل عملوا على الدفاع عن سلطة الخليفة (الملك) وهيبة الخلافة وقاموا باضفاء الشرعية على "حكم الملك" حرصا على استمرا رية الخلافة السنية ولو في قالب نظام "ملك عضوض.. "

وقد برر الماوردي موقفه في خدمة الخلافة باحياء الفكرة وبعث النشاط في المؤسسة ووجوب الخلافة عقلا وشرعا وضرورتها الحيوية للدين والدنيا..

ونهج ابن تيمية موقفا مماثلا فكان همه تحقيق اقامة دولة اسلامية وتقوية دعائم النظام فان لم يمكن اقامة العدل الذي يحمي الديار ويحسن التدبير.. ووجد الامير القوي الحسن الراي والتدبير وان لم يكن عدلا في كل احواله فرضت طاعته وهو بذلك ينهج منهج اهل السنة والجماعة..

و جملة ما يقال ان الشريعة دون قوة تدعمها تصبح مثالية غير قابلة للتحقق في الواقع وان السلطة بدون شريعة تصير طغيانا محققا.. . فالشريعة توفر المنهج وتضمن القصد فتتحول القوة الى سلطة تكتمل فيه القدرة والبصيرة..

فشرعية السلطة في مقاصد الشريعة ومقاصد الشريعة في تحقيق العدل..

واذا كان العدل قوام الدول واساس الحكم والملك فعلى ابناء الامة جميعا ان يتعاونوا في امانة الحكم وامانة الاصلاح.. ولهذا كانت امانة الحكم في الامم الحية مقرونة بامانة مثلها وهي امانة الدعوة والارشاد..

(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

 (104) سورةآل عمران

- وشر البلاء ان تمتحن الامة في فساد نظامها وقواعد حكمها بسبب بطلان الدعوة والتغاضي عن المنكرات..

 

احمد بابانا العلوي

 

إستمرار العصيان المدني وغروب شمس الأحزاب الدينية في العراق

التفاصيل
كتب بواسطة: د. سامان سوراني

سامان سورانيیقال بأن الأزمات والكوارث ليس مصدرها الأقدار فقط، فهي تتجسد في الأفكار بشكل خاص والعقليات والمرجعيات والنماذج والمقولات أو التصنيفات والطقوس التي تهيمن علی المشاهد الثقافية وتتحكم في الخطابات فتنتج عوائق ومآزق وتلغم المساعي الوجودية والمشاريع المدنية أو الحضارية.

منذ سقوط الطاغي صدام عام 2003 ووصول أحزاب دینیة لسدة الحکم في العراق، بات شغلهم الشاغل نشر الجهل والتخلف بين الناس لتنجح خطتهم في نشر ثقافة الفساد في جسد المجتمع العراقي لتسیر هذه الثقافة أخیراً في شریانە سریان النار في الهشیم وتغذية الطائفية والمذهبیة المقيتة وإشعال الصراعات والحروب الأهلية بهدف تقوية شبکاتهم المافیوية، التي تسير في فلك الأجندة الأقلیمية وترعی مصالحها العقائدية.

وبعد أن أصبح الفساد السياسي والأخلاقي والإداري والمالي في العراق مؤسسة ذات نفوذ وسطوة تخلت تلك الأحزاب عن شعاراتها الدينية ودعوتها للعدالة والمساواة وتحقيق الأمن والأمان والاستقرار  وبناء العراق الجديد على أساس المواطنة والشراكة الحقيقية وارتكبت كل ما يُعادي قيم منظومتها الدينية.

هكذا شاركت تلك العقلية الدينية التراجعیة في تضخيم حجم تفاقم عدم الثقة بالحياة الديمقراطية والدستورية وإعادة العراق الی الوراء ليكون علی مدار السنوات الفائتة بحسب مؤشر منظمة الشفافية الدولية من بين أكثر دول العالم فساداً.

إن فشل تلك الأحزاب الدينية في إمتحان السلطة والتماهي والبقاء في دوامة الفساد وهدر أموال الدولة وعدم القيام بمکافحة الفقر والبطالة ومعاقبة المجرمين وإصلاح المدن المهدمة وتطوير البلاد ومنع إنتشار المخدرات أدی الی زیادة الإحتقان الطائفي والحقد والكراهية بين أبناء المجتمع العراقي، لذا يطالب الشعب المنتفض والمحتج في العديد من المحافظات العراقية ذات الأغلبية الشيعية ضد الائتلافات والأحزاب السياسية رحیلهم بعدما تركوا إرثاً من الفشل والإحباط، لأنهم لم يستطيعوا خلال 16 عام بناء اي مؤسسة حقيقية في العراق ويصححوا أخطائهم ويراجعوا أفعالهم ولا نظن بأنهم قادرين علی تغيير سلوكهم في المستقبل.

يعتبر العصيان المدني السلمي العام، الذي يشمل كل شرائح المجتمع بعد أن مزق أسطورة الطائفية کمبدأ منظم للسلطة السياسية، وسيلة ليقول الشعب كلمته ويرغم السلطة على تنفيذ مطالب شرعية، بعد أن تباطأت الحکومات المتتالية في رسم سياسات لمستقبل العراق وسنحت للميليشيات المسلحة، تستنزف ميزانية الدولة وتسلط علی رقاب الناس وأموالهم والتي يصفها المحتجون بالفاسدة والأسيرة للمصالح الأجنبية.

الی الآن نری بأن المتظاهرين يرفضون إصلاحات الحكومة ويصرّون علی إسقاط الحکومة وتغيير العملية السياسية، بمعنی أنهم يريدون إلغاء النظام من الأساس دون أن يکون لدیهم  خريطة طريق يمكن أن تتحقق من خلالها مثل هذه الآلية.

ومن المتوقع أن تستمر الاحتجاجات الشعبية، التي تقودها جيل جديد منفصل عن النخبة السياسية الحاکمة ولا يعرف النظام الشمولي حتی تغیب شمس الأحزاب الدينية وسلطة المیلیشیات في العراق، أما قرار توقفها فهو بيد الشعب.

وختاماً: "لقد ولی زمن النظريات المركزية والشمولية وزمن القائد والحاکم الذي يدّعي معرفة كل شيء، فعالمنا اليوم إنخرط في أفق فكري جديد أساسه البعد المتعدد، بتعدد القوی والفاعليات وتعدد الإختصاصات والمجالات وتعدد الرهانات والخيارات والحلول. هكذا تجاوز الجيل الجديد المنتفض في العراق مجتمع النخبة والجمهور نحو المجتمع التداولي، بعد أن أستطاع أن يحرق عباءة الطائفية ويخرج من التاريخ بکهوفه وسراديبه من أجل صناعة الحاضر، الذي يهيء لمستقبل يعد بالأحسن ولايثير الخوف أو الفزع من المجهول."

 

الدكتور سامان سوراني

 

موسكو بعيون العراقيين في ايامهم الاولى

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ضياء نافع

ضياء نافعهناك مثل روسي يقول – العين ترى الشئ الذي تريد ان تراه، وهو مثل دقيق فعلا وينطبق على العراقيين في الايام (او حتى الاسابيع والشهور) الاولى من وصولهم الى روسيا، ولازلت أتذكر حادثتين طريفتين حدثت معي في اليوم الاول من وصولي الى موسكو العام 1959. الحادثة الاولى في المطار، حيث كان هناك موظف سوفيتي يستقبلنا مع طالبين عراقيين وصلا قبلنا باسبوعين، فطلب منّا الطالب الاول (واسمه أحمد) ان نناديه (احمدوف)، وقال لنا الطالب الثاني (واسمه تحسين) ان نناديه (تحسينوف)، واوضحا سبب هذا الطلب، ان قواعد اللغة الروسية تقتضي ذلك، وان الروس حولهم  ينادونهما  هكذا الان، وانهما تعوّدا على ذلك، وكنّا ننظر اليهما متعجبين، ولا نعرف ماذا نقول لهما. أما الحادثة الثانية، فقد جرت في القسم الداخلي، حيث وصلنا، وبدأ مسؤول القسم منحنا ارقام الغرف التي سنسكن فيها . كنّا اول وجبة تصل الى هذا القسم، وتبين ان الغرف التي منحونا اياها تقع في الطابق الخامس، فطلبنا تبديلها، كي نسكن في الطابق الثاني كي لا نصعد وننزل كل يوم خمسة طوابق، خصوصا وان كل القسم الداخلي كان فارغا . لم يوافق المسؤول على ذلك، وقال، انه لن يغيّر الغرف . انزعجنا نحن من هذا الموقف، فانبرى  أحد العراقيين  بيننا وقال لنا، انه واثق، ان اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي قد بحثت هذا الموضوع قبل وصولنا، وان هذا الموظف ينفّذ قرارات اللجنة المركزية للحزب ليس الا، ولهذا فانه يرفض تلبية طلبنا، اذ ان هذا يعني عدم تنفيذ قرارات  اللجنة المركزية للحزب . تعجبنا جميعا من تعليقه هذا، وسألناه ان يوضح لنا هذا الذي يقوله لنا، فقال، من المؤكد، ان اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي تعرف، ان العراقيين لا يمارسون الرياضة البدنية الضرورية للانسان يوميّا، ولهذا قررت اللجنة المركزية تقديم غرف الطابق الخامس للطلبة العراقيين الذين يصلون قبل الآخرين تقديرا ومكافأة  لهم، كي يمارسوا الرياضة البدنية تلقائيا وهم يصعدون الى الطابق الخامس وينزلون منه كل يوم ولعدة مرات . استمعنا الى زميلنا هذا بغرابة، ولكننا لم نستطع ان نناقشه طبعا، اذ كان يتكلم بثقة مطلقة، لدرجة، ان أحد الطلبة قال، يبدو انه يعرف ذلك من مصادر عليا، وهكذا اضطررنا ان نوافق – وعلى مضض طبعا – للسكن في الطابق الخامس، وبدأنا بحمل حقائبنا الثقيلة (كما تعوّدنا السفر على الطريقة العراقية!) والصعود – وبصعوبة - الى الطابق الخامس .

وهناك حادثة طريفة جدا وقعت امامي، وهي وصول أحد الرفاق المتحمسين جدا الى موسكو، وقال لنا، ان من جملة الاشياء المدهشة، التي لاحظها منذ وصوله ولحد الان عدم وجود الذباب في موسكو، واضاف قائلا، ان هذا يعني، ان السلطة الثورية البلشفية هنا قد قررت (ونفّذت فعلا) تخليص الانسان  نهائيا من الذباب و شروره على حياة الانسان.  ضحكنا نحن جميعا، اذ مضى علينا عدة سنوات هناك، ولكن احد العراقيين المرحين انسحب رأسا، وعاد بعد دقائق وبيده قنينه زجاجية صغيرة مليئة بالذباب وهو يضحك ويعطيها له ويقول – (اصطدت مجموعة من الذباب لاجلك خصيصا)...

وهناك حوادث (من الجانب الآخر) طبعا، اي من هؤلاء الذين كانوا  ضد الاتحاد السوفيتي على طول الخط (ان صح التعبير)، وهي حوادث تدخل ايضا  ضمن هذه الآراء الجاهزة والطريفة والبعيدة طبعا عن النظرة الموضوعية والمنطقية ايضا، وأذكر حديثا رواه لي أحد هؤلاء عندما التقيته في باريس مرة في نهاية ستينيات القرن الماضي (وهو مدير عام زمن عارف الثاني)، وقال لي انه زار موسكو ضمن وفد رسمي عراقي، وذهبوا به لزيارة مرقد لينين في الساحة الحمراء، فشاهد (بامّ عينيه !) كيف كان الناس يقبّلون الابواب وحتى العتبة عند الدخول لزيارة مرقد لينين، وانه قال لهم، لماذا تقومون بهذه الطقوس الدينية المقدسة وهو انسان مثل كل البشر، فأجابوه انهم يعبدونه، فقال لهم، ولكن الجثمان سيتلاشى بمرور الزمن، فقالوا له، انهم عندها سيجلبون جثمانا جديدا لهذا الغرض . وقد سألت هذا الشخص وانا استمع اليه مندهشا، باي لغة تحدثت معهم، اذ انك لا تعرف اللغة الروسية، فقال، انه تحدث معهم باللغة الانكليزية، التي يجيدها كل الروس  .

هذه الامثلة تبدو – للوهلة الاولى – طريفة ليس الا، ولكن تحليلها بعمق وموضوعية تبين اسلوب التفكير لدينا وطريقة انعكاسه على مسيرة حياتنا الفكرية والعملية ايضا . كم من الاخطاء تم ارتكابها نتيجة هذا التفكير السطحي الساذج، وما احوجنا الان ان نتأمل – وبعمق - كل ذلك ...

 

أ. د. ضياء نافع

 

من الثورة الى الفوضى

التفاصيل
كتب بواسطة: د. سليم الحسني

سليم الحسنيفي ستينات القرن الماضي، ظهرت موجة ثورات في أكثر الدول استقراراً وتقدماً، وقد بلغت ذروتها عام ١٩٦٨، حتى أطلق على ذلك العام بأنه عام ثورات الشباب، فقد غطت ثوراتهم الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها من دول أوروبا، كما وصلت الموجة الى اليابان.

كانت الثورات شبابية صرفة، وقد اختلفت دوافعها من دولة لأخرى، لكن تزامنها كان أمراً غريباً، بحيث اختلفت التفسيرات والأسباب وراء اندلاعها. لكن المختصون وبعد دراسات مطولة توصلوا الى أن جيل الشباب له نظرته الخاصة للمجتمع والحكم والسياسة تختلف عن الفئات الأكبر منها عمراً.

كانت التظاهرات بشكل عام ملتزمة بالسلمية، وهذا ما جعلها تستمر لفترة طويلة، وأن تتحول الى حدث مؤثر، فقد تعاملت معها الحكومات على أنها ممارسات هادفة توجه نقدها لحالات الخلل في مجتمعاتها. وقد أسفر الاتجاه الملتزم الى فرض ارادتها وبالتالي إجراء إصلاحات مهمة في تلك الدول.

نبهّت تلك التظاهرات بعض الدوائر الدولية ذات الصفة المخابراتية، الى أن التظاهرات لو بقيت على سلميتها، فانها ستتحول الى عنصر ضغط مؤثر على الحكومة، وسيجبرها على الاستجابة. وانها ـ في المقابل ـ يمكن أن تُستخدم كسلاح تخريبي فيما لو اندلعت في دولة مستهدفة، وذلك عن طريق تزريق العنف في جسدها، وبذلك ستقع المواجهة بين التظاهرات وبين السلطة، وتتحول من ثورة الى فوضى.

فرنسا كانت أكثر الدول التي أثرت تظاهرات الشباب على سياساتها، حيث اضطر رئيس الجمهورية شارل ديغول الى مغادرة فرنسا، ولم يعد حتى هدأت الأمور بعد عدة اشهر، حيث أعطى كامل الصلاحيات لرئيس الحكومة جورج بومبيدو، لإدارة الأزمة والتي انتهت بالاستجابة لمطاليب الشباب. وهذا ما جعل المفكرين الفرنسيين أكثر من غيرهم اهتماماً بدراسة تلك الظاهرة وتحليلها وتفكيك أجزائها. ولعل هذا ما يفسر القدرة التي تمتع بها الصهيوني الفرنسي (برنارد ليفي) ليكون حاضراً في أجواء الربيع العربي وتأثيره على مساراتها.

 كما ان الخبرة التي تمتع بها برنارد ليفي، كانت موجودة أيضاً عند دوائر التخطيط الغربي وخصوصاً الولايات المتحدة المعروفة باجهزتها المخابراتية العميقة. وقد تم تجربة الجانب المسلح في التظاهرات بشكله الواسع في ليبيا وسوريا.

في الحالة العراقية، اندلعت تظاهرات تشرين بمطالب مشروعة ومن الفئة الشبابية المستقلة عن تراكمات الأجيال السابقة، وكانت هذه الفئة تطالب بحقوقها في العيش بثروات وطنها، وهو مطلب يجلس في المستوى الحتمي للمجتمع. ولم تظهر على بدايتها مظاهر العنف، ولم تُسجّل على جموع الشباب دعوات الانفلات كمظهر عام. وكانت بذلك بداية ناجحة موفقة تشير الى أنها ستتحول الى قوة ضغط كبيرة تجبر الحكومة على الاستجابة.

لم تحسن الحكومة التعامل مع الشباب، واستخدمت القوة ضدها، وتقع المسؤولية كاملة على رئيس الحكومة، فمن خلال التمادي في العنف، فسح المجال أمام إمكانية تدخل جهات مغرضة لتحريف التظاهرات وزج بعض قطاعاتها في العمل العنيف.

ولأن التظاهرات في أي دولة، تكون مرصودة من قبل اعدائها، وهي فرصة مناسبة لكي يندسوا في صفوفها وينفذوا مشاريعهم المضادة، فان من الطبيعي أن تشهد تظاهرات الشباب العراقي مثل هذا التغلغل، وهذا ما حدث من خلال دخول عناصر حزب البعث الى صفوفها قادمين من الأردن والامارات وأوروبا. كما نشطت العناصر المرتبطة بامريكا والسعودية من أجل فتح خيارات العنف المسلح وزج التظاهرات فيها. فما يريده محور (أمريكا والسعودية وإسرائيل) نشر الموت في المدن الشيعية، وهذه الدول تعرف أن القتل سيكون فتاكاً فيما لو حدث بين الشيعة أنفسهم.

النقطة الأهم في تظاهرات شباب العراق، هي كيفية احتفاظهم بالوعي المطلبي، بحيث يجعلون تظاهراتهم تتحول الى ثورة، وتتحصن من التحول الى الفوضى.

صحيح ان هذا التحصين مسألة صعبة، خصوصاً وأن أجهزة أمريكا والسعودية وإسرائيل لها خبراتها في التصعيد، لكنه يبقى مسألة ضرورية مطلوبة، وهذه مسؤولية الشباب المخلص الذي يقف في التظاهرة فيرصد المندس والمغرض، ليمسك يده قبل أن يقذف شعلة النار على الممتلكات العامة، وليصرخ بوجه من يردد شعاراً استفزازياً يريده البعث أو أعداء العراق لتحويل المسار من الثورة الى الفوضى.

إن الحفاظ على وجه الثورة السلمي يمثل الطريق المضمون نحو تحقيق المطالب، وبخلاف ذلك تكون الفوضى. وعند ذاك يكون الشاب أول الخاسرين.

 

سليم الحسني

 

الصورة فوتوشوب!

التفاصيل
كتب بواسطة: د. نيرمين ماجد البورنو

نيرمين ماجد البورنوأحيانا يصور لنا البعض أنهم أجمل أشخاص مروا في حياتنا بأجمل مبادئ وشخصية وتعامل وأخلاق، ويكون حالك حال أفلاطون ومدينته الفاضلة ثم تكتشف أن الصورة "فوتوشوب"، كذلك هم البشر اذا اقتربت لعدَسة الكامِيرا فلَن تظهر صورتهم كاملة فِي الصورَة، ولكن إذا ابتعدت عن العدسة ستري حقيقتهم وأعينهم كاملة، وفي بعض الأحيان نتصور ولا نرغب في رؤيتهم على حقيقتهم، وهناك من يدعون المثالية في صورهم وهم يفتقدون عموما للمنطق، وهناك من فشلوا في إثبات شخصياتهم وسلوكياتهم الواقعية فلجأوا الى العالم الافتراضي لإثباتها وذلك يرجع لأسباب نفسية أو عيب وأسباب عديدة أخرى، وهناك من ابتليت بهم المثالية المزيفة يسرقون ويدعون القيم ويجيدون فن التمثيل ويعتقدون أنهم أذكي الناس ولكن في الغالب تكون آفاقهم ضيقة ونظرتهم عميقة للحياة وهم يفتقرون إلى الإنسانية، فحديثهم شيء وحقيقتهم شيء أخر ويتسترون بستار رداء الدين وتارة تحت رداء الأخلاق حتى وصل الأمر لتشوية الناس المثالية الحقيقية فصار الشخص المثالي في نظر البعض منافق كذاب وصولي.

والأدهى من ذلك عندما يعتقد الإنسان المزيف انه لا يمكن للأخرين من اكتشافه على حقيقته ومازال يمارس أخلاقه المزيفة ونسى أن قناعه قد يسقط وأن جوهره الثمين قد تحول الى رماد بل أحقر من ذلك، والكثير من أصحاب الأقنعة المزيفة، ما هم إلا مرضى مزدوجي الشخصية حيث ان شخصيتهم لا ثبات لها فتارة تراه انسان كامل وتارة تراه انسان رخيص بلا قيم، لذا يجب الحذر عندما نتعامل مع تلك الوجوه التي لا طابع لها ولا لون ولا ضمير، تتلون وتتغير كلما تغير هندامها، ولكن الغريب بالموضوع لماذا التخفي بتلك الأقنعة؟ وما هي الدوافع التي جعلتهم يلبسون الأقنعة الملونة والمراوغة ؟وهل أصبح الناس يخشون الصدق؟ وما الذي تغير الزمن أم الإنسان؟ وهل أصبحت الاقنعة تقليعة قد تؤول الى الانتهاء كفقاعة الصابون؟ أم اضحت وباء ينتشر بلا قيود تردعه ولا مضادات انسانية تخمده؟ وهل من السهل على الناس أن يظهروا في كل موقف بشكل مختلف، وأن يتلونوا تلوّن الحرباء بحسب ما تفتضيه المواقف؟

أصبحت ظاهرة الأقنعة المزيفة ظاهرة ملموسة في عالم التكنولوجيا التي تخفي فيها البشر خلف أقنعة زائفة، وأكاد أجزم بأننا أصبحنا نعيش عصر الأقنعة بامتياز، لذا لا يغرك المظهر والهندام فلا تكن ضحية لإنسان مزدوج الشخصية، لان الاقنعة تتساقط كل يوم وتتساقط عندما تنتهي المصالح ولكنهم لا يعلمون ان الدنيا دوارة فالوجوه تتقابل من جديد ربما في ظروف مختلفة، عندها فقط لن يكون هناك وقت لارتداء أقنعة جديدة، فتبدو الأقنعة بالسلم الذي يصعد به الانسان صوبه لتحقيق أهدافه ولكنه يدوس على انسانيته وفي بعض الاحيان يدوس على قيمه ومبادئه كما يدوس على درجات السلم لكي يصعد ويصل لغايته، ويظهر ذلك جلياً في النصب الإلكتروني وأخذ أموال الناس دون وجه حق والتلاعب بمشاعر الناس ولبس الأقنعة العاطفية والنفسية والاجتماعية، والبعض من الأشخاص يتلونون ويبرعون في المثالية والصدق والوجه المشرق، إلا أنهم في الحقيقة هم كاذبون من الدرجة الأولى ومحتالون في تصرفاتهم، والعجيب بالأمر عندما تشاهد أفلام ومشاهير الأوسكار يمثلون أدوراهم لساعات طوال بينما هؤلاء لديهم القدرة على التمثيل بأدوار شيطانية وتلفزيونية أو مسرحية لمدة طويلة قد تتراوح سنين !

تجمعنا الحياة بأناس ووجوه كثيرة طيبة نتعلق بهم ونثق بصداقتهم وقد يداهمنا النكد والهم ونعود لهم ونخبرهم بما يجول في صدورنا ايمانا منا بنقاء قلوبهم وصفائها المتجلي في ملامح وجوههم وأنهم يظهرون رائعون ومتكاملين في الاخلاق، وبمجرد أن نفترق عنهم قليلا يسقط قناع الصداقة والأخوة الكاذبة ليظهر الوجه الحقيقي ولكنه أي وجه ؟ وعندما نقترب منهم يبدلون أقنعتهم فنكتشفهم، تتعدد أقنعتهم وتتباين ألوانها بعدد يفوق ألوان الطيف السبعة المشهورة، لحظتها نبكي على غبائنا وعلى الثقة العمياء الممنوحة من قلوبنا بصدقٍ وإخلاص وتفاني و حب، يأتي الخريف فتتساقط الأوراق المزيفة عن الأشجار، ثم تعود لنا الأوراق مرة أخرى وبشكلٍ آخر، فكل شيء وله وقته نتحقق به من الصديق ومن العدو، وعندما تتساقط الأقنعة الزائفة وتتعرى الوجوه الكاذبة تصعقنا الحقيقة وتُصدم المشاعر الجميلة وتترك في قلوبنا جرحا تنزف من شدة الألم، لكن المواقف والأحداث التي يمر بها المرء تكشف له المعادن وتعري النفوس وتكشف الزيف، ويكتشف حينها من هو الصديق ومن هو المنافق، فشكرا لك أيتها المواقف والصور فبقدر ما آلمتنا وأدميت قلوبنا بقدر ما أرحتنا وكشفت وجوه تسترت وراء اقنعة مظلمة مطاطية بقناع الإنسانية، نحتاج أحياناً لتلك (القشة الأخيرة) كي تقصم ظهر تلك العلاقات التي أنهكتنا نفسياً وعاطفياً ومادياً وصحياً وأثقلت أعمارنا بالكثير، فليس هناك أناس يتغيرون بل هناك أقنعه تســقط، فلا يخدعنك البريق فالناس كالمعادن منهم الغالي ومنهم الرخيص وفيهم من يبهرك بلمعانه ولكنه في الحقيقة لا يساوي شيء، وقّفوا عن الحب من النظرة الأولى، وآمِنوا بالحب من الموقف الأول“ وحدها المواقف تبني حُباً لا يُهزَم " فليس كل ما يلمع من بعيد ذهبًا.

 

د. نيرمين ماجد البورنو

 

سلام عادل.. صورة غير نمطية للقيادة الشيوعية

التفاصيل
كتب بواسطة: محمد السعدي

محمد السعدييعتبر كتاب الدكتور عبد الحسين شعبان الموسوم "سلام عادل الدال والمدلول وما يمكث وما يزول" وثيقة مهمة وتاريخية ومرجعية للحركة الشيوعية ومادة حيوية للبحث والدراسة، وقد نال اهتماماً كبيراً ومساحة واسعة من النقد والتعليق وفتح حواراً فعالاً وحيوياً حوله، خصوصاً إزاء إشكالات تاريخية، بل وحتى راهنة. وانعقدت حوله ندوات وحلقات نقاشية، فضلاً عن تغطية يستحقها في الصحف والمواقع الأليكترونية، سواءً في العراق أو في خارجه، وسيبقى لحين آخر مثار نقاش وجدال، ولاسيّما الوثيقتين التاريخيتين اللتان أوردهما: الأولى الخاصة بالكونفرنس الثاني للحزب 1956 والثانية حول ردود سلام عادل على ضيق الأفق القومي الذي أصاب عدداً من القيادات الشيوعية الكردية، وهو ما يستحق التوقف عنده، وخصوصاً تأثيراته اللاحقة (1957).

توقيع كتاب

وكتبتُ مقالةً نُشرت بعدّة مواقع عراقية وعربية بعد قراءتي لسرديته عن سلام عادل في صحيفة الزمان التي نُشرت على حلقات، وحين صدر الكتاب وقامت مؤسسة بيدر في مالمو باستضافة الباحث للتوقيع على الكتاب في ندوة مهمة، عدتُ إليه مجدداً، خصوصاً بعد الملاحظات المهمة التي أبداها الكاتب حول مقالتي السابقة، وها أنا أفعل ذلك للتدقيق وحرصاً مني على الحقيقة وتأكيداً لها، لأن أعداء سلام عادل حاولوا الإساءة إليه بأشكال مختلفة منهم ما نشره (محمد أبو عزة) الكاتب والروائي الفلسطيني وسكرتير تحرير مجلة (دنيا العرب)، والذي كان ضمن جحافل قوات الحرس القومي وذلك بعد انقلاب 8 شباط 1963 حيث روى قصة اعتقال سلام عادل في الأمن العام وكيف بصق بوجه أحد القياديين البعثيين، وهي رواية دحضها الباحث شعبان، وشكّك ما ورد فيها وفي صحتها، واقتضت الأمانة قول ذلك وتأكيده. كما خطّأ كتاب شعبان ما ذهب إليه آرا خاجادور حول إطلاق علي صالح السعدي رصاصة الرحمة على سلام عادل وذلك من خلال الوقائع التاريخية التي أوردها بما فيها كون السعدي كان على رأس وفد كان في القاهرة والجزائر وتاريخ عودته كان بعد استشهاد سلام عادل (بالرجوع إلى كتاب أمين هويدي). وفي الوقت نفسه فنّد رواية هاني الفكيكي حول الحوار بين الضحية والجلاد وإبداء استعداد سلام عادل لإصدار بيان مشترك مع قيادة البعث إذا ما تم إطلاق سراح المعتقلين ووقف التعذيب، وهي رواية مدسوسة وخبيثة ومشوّهة، وكان الباحث قد أوضح حقيقة ما جرى ورباطة جأش سلام عادل ومبدأيته حين طالب الانقلابيين بالكف عن ذلك وإعلان عدائهم للامبريالية، وكان ذلك تحدياً كبيراً في المواجهة البطولية بين سلام عادل وحازم جواد الذي كان قد ترأس التحقيق معه. وقد أورد المفكر شعبان فقرات عديدة من أقوال جواد التي يعترف بها بتعذيب المعتقلين بحجة أن الاتحاد السوفييتي يعذّب أعداءه.. تميّزت قيادة سلام عادل بمواصفات فريدة في حينها، لاسيّما عملها الجاد والمسؤول لاستعادة وحدة الشيوعيين وإنهاء الانقسامات والاعتراف بالأخطاء والثغرات والسعي لمعالجتها بروح الحرص والأفق المنفتح بعيداً عن التعصّب. فبعد أن تسلم سلام عادل قيادة الحزب في حزيران العام 1955 وذلك بعد عزل حميد عثمان وهروبه إلى كردستان وانضمامه إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني، أخذ الشهيد سلام عادل على عاتقه مهمة صعبة وخطيرة، حيث قام بجمع وتوحيد ولم شمل رفاق الحزب وتوحيد تنظيماته بعد تعرّضها إلى تصدعات كبيرة لسنوات مضت بسبب الصراعات الداخلية وملاحقات الشرطة السرية لتنظيمات الحزب وكشف الأسرار بين الأطراف المتصارعة.  ويذكر هنا العديد من الشيوعيين وفي مقدمتهم باقر ابراهيم وحسين سلطان قول سلام عادل إن (فصل أي رفيق من الحزب بمثابة قلع شعرة من عيوني)، وعلى هذا الأساس تحرك وعمل من أجل وحدة الشيوعيين على مبادئ الحوار الفكري والرأي المختلف والحرص المتبادل انطلاقاً من قناعاته الثابتة بأهمية دور الحزب الوطني والعربي، وهو النهج الذي حظي بتأييد شامل من الشيوعيين، خصوصاً المرونة التي أبداها مع المبدأية والصبر وطول النفس لتحقيق الهدف. لقد كان هذا التوجه التوحيدي من أهم المفاصل الحزبية والمنعطفات التاريخية التي واجهتها قيادة سلام عادل فما كان يمكن تحقيق المنجزات وصولاً لثورة تموز دون تصفية التكتلات والانشقاقات والمجموعات المتباعدة والمتصارعة، وبروح مبدأية متسامحة فقررت العمل من أجل الوحدة مهما كان الثمن، وهو ما يذكره الدكتور شعبان فبالرغم من التقاطعات الفكرية سعى للتواصل مع (راية الشغيلة)، والتي كان من قادتها عزيز محمد السكرتير السابق للحزب، والشهداء جمال الحيدري ونافع يونس، على الرغم من أن جريدة القاعدة التي يصدرها الحزب وصفتها في حينها بأنها زمرة بلاطية (نسبة إلى البلاط الملكي)، وإنها انحطت في المستنقع والقاذورات اليمينية، متهمة إياها بالانتهازية، ويقول شعبان إن مثل هذه الاتهامات غالباً ما تصدر في المنعطفات التي تشهد انقسامات وصراعات داخل الحزب، لكنه سرعان ما يطويها الزمن بفعل بعض التسويات والاتفاقات والانعطافات .

حل المنظمة

أما ’’ منظمة وحدة الشيوعيين ” فكانت برئاسة عزيز شريف وعبد الرحيم شريف وقد أسهم عامر عبدالله بحكم صلته الوطيدة بهما في إقناعهما بحل المنظمة والالتحاق بالحزب مجدداً وذلك في إطار المنهج الذي اتبعه سلام عادل، كما انضمت كتلة داود الصائغ (رابطة الشيوعيين) لاحقاً إلى صفوف الحزب وتنظيماته. ويمكنني الإشادة بدينامكية وقدرة سلام عادل في استيعاب الصراعات الحزبية والآراء المختلفة واحتوائها لمصلحة الحزب والوطن، وعلى الرغم من أن الصراعات الداخلية بعد الثورة أنهكت سلام عادل، دون أن ننسى الصراعات مع الحكم وأطرافه والقوى السياسية الأخرى إلا أنه حاول احتواء كتلة المبدأ وداود الصائغ بعد أن حصل الأخير على إجازة باسم الحزب الشيوعي العراقي في حين رفض عبد الكريم قاسم منح الحزب مثل هذه الإجازة حتى بعد تبديل اسمه إلى " حزب اتحاد الشعب"، وكان سلام عادل قد أرسل عدداً من الصحافيين والكتاب للعمل كمحررين في جريدة المبدأ والسعي لتغيير اتجاهها بما يتوافق مع نهج الحزب ومواقفه.

ويتابع د. شعبان بدقة كبيرة تفاصيل تنشر بعضها لأول مرّة عن استشهاد سلام عادل بعد تعذيبه في قصر النهاية، وهو لا تفي بما هو مكتوب ومنشور، بل يذهب أحياناً إلى الجلادين أنفسهم ليستفسر عن هذا الموقف أو ذاك، مثلما يواصل الحديث مع بعض الضحايا وشهود العيان، ليبرز حقيقة شجاعة سلام عادل، بل يجبر حتى من قام بالارتكاب للاعتراف بذلك، في إطار عمل مضني ومجتهد. ويتابع ذلك ابتداءً من إصدار بيان المقاومة ضد انقلاب 8 شباط ولغاية اعتقاله ونقله إلى مركز المأمون ومنه إلى قصر النهاية، (19 شباط وحتى استشهاده مساء 23 شباط 1963).وامتازت قيادة سلام عادل، ولاسيّما قبل الثورة بالمبادرات فمن توحيد الحزب إلى قيادة الشارع في انتفاضة العام 1956 تضامناً مع الشقيقة مصر ضد العدوان إلى توحيد الحركة الوطنية بقيام " جبهة الاتحاد الوطني" في عام 1957 ومنها إلى العمل مع الضباط الأحرار تمهيداً للثورة، كما انتهجت سياسة عربية متميزة تم التعبير عنها في الوثيقتين التاريخيتين، وكذلك منهجاً أممياً في حل القضية الكردية عبر حق تقرير المصير والاستقلال الذاتي، وفي الوقت نفسه نقد للاتجاهات التصفوية البرجوازية الذيلية التي ظهرت لدى فريق من الشيوعيين الأكراد، وهو نقد استشرافي جريء ومبدئي، وليس كما تم اتباعه لاحقاً مع مجاملات وتنازلات للتيار القومي السائد، والذي ألحق ضرراً بالحزب وهوّيته، خصوصاً بانقسام الشيوعيين على أساس قومي. ويفرد الكاتب صفحات من كتابه الذي يستحق القراءة ليبرز مواقف مهمة في حياة سلام عادل من سلطة قاسم الدكتاتورية والقضية الكردية والتباين عن رؤية السوفييت، إضافة إلى الصراع الداخلي في هرم قيادة الحزب والتدهور السريع في ضياع منجزات الثورة ونتائجها . وقد تحدّث المؤلف عن ذلك بانسيابية وحيوية على منصة مؤسسة بيدر في مدينة مالمو/ السويدية. وعلى الرغم من الأخطاء والالتباسات كما يقول شعبان في قضايا عديدة ومنها أعمال العنف في الموصل وكركوك، وكذلك الموقف من سلطة قاسم والتذبذب والتردّد، إلّا أن قيادة سلام عادل ختمت حياتها بالاستشهاد البطولي، حيث استشهد تحت التعذيب نحو 25 قائداً شيوعياً، في مقدمتهم سلام عادل وجمال الحيدري ومحمد صالح العبلّي ومحمد حسين أبو العيس ونافع يونس وحمزة سلمان الجبوري ومهدي حميد وعبد الرحيم شريف وحسن عوينة وعبد الجبار وهبي وتوفيق منير، إضافة إلى عدد من العسكريين القياديين بينهم ماجد محمد أمين وفاضل عباس المهداوي ووصفي طاهر وطه الشيخ أحمد وجلال الأوقاتي وخزعل السعدي وآخرين.

 

محمد السعدي

مدير مركز بيدر للثقافة والإعلام

....................................

- كتاب سلام عادل - الدال والمدلول، صدر عن دار ميزوبوتاميا، بغداد، 2019 ويحتوي على 323 صفحة من الجم المتوسط.

 

حكايات أسطورية من شبه جزيرة القرم

التفاصيل
كتب بواسطة: د. عبد الحسين الطائي

عبد الحسين صالح الطائيأبدع الدكتور حسن البياتي بترجمة كتاب (أساطير القرم)، الصادر عن دار القرم للطباعة والنشر سنة 1961، من اللغة الروسية إلى اللغة العربية. وقد تبنت دار ضفاف للطباعة والنشر والتوزيع، الشارقة – بغداد، طباعة الترجمة بعنوان: حكايات أسطورية من شبه جزيرة القرم، بعد تصميم الغلاف بحلية جميلة في شهر سبتمبر 2019.

اهتم علم الأساطير في عرض الأحداث الفلكلورية التي تخص بعض الثقافات لتفسير بعض المظاهر التي تتعلق بالطبيعة والإنسان، عَرف كتاب الموسوعة الفلسفية الأساطير بأنها، مجموعة حكايات تولدت في المراحل الأولى للتاريخ، ولم تكن صورها الخيالية إلا محاولات لتعميم وشرح الظواهر المختلفة للطبيعة والمجتمع. وتتشكل أغلب الأساطير من وحي الخيال، وكلها تتغلب على قوى الطبيعة وتجعلها ثانوية، وتعطي تفسيراً لكثير من ظواهر الطبيعة، ولأشخاص يمتلكون قوى خارقة، وهي من الأساليب الأدبية التي لا تخلو من الحكمة، والدروس الحياتية، وفيها متعة كبيرة للمتلقي.

تضمن الكتاب ترجمة أربعٍ وثلاثين حكاية اسطورية من شبه جزيرة القرم، التي تمتاز بموقعها الجميل في شمال البحر الأسود، وبطبيعتها المشمسة الخلابة ومناظرها الرائعة، ومكانتها التاريخية. الحكايات كلها مجهولة المؤلف، عدا واحدة للأديب الروسي مكسيم غوركي، حكايات نابعة من الموروث الشعبي، تم سردها شفاهاً وتناقلتها الأجيال، اتسمت معظم الحكايات بطابع التشويق، والإسلوب البسيط الذي يحافظ على القيم الجمالية، ولا تخلو بعض الحكايات من المبالغة المستحبة لدور أبطالها، ومدى تفاعلهم مع القوى الخارقة، بعض الحكايات أبطالها من السحرة والساحرات، وأحداثها مستمدة من ظواهر ومشاهد مادية ملموسة كالجبال والصخور والبحار، وبعضها من صنع البشر كالمدن والقرى والقلاع وغيرها.

تشيرأغلب الحكايات إلى البطولة المميزة للشعب، الذي يؤدي دوره النضالي البطولي ضد الغزاة والمحتلين، بإخلاص متفانٍ يجسد حقيقة حب الوطن، والتصدي لقوى الشر. استوقفتني الملحمة الجميلة لحكاية (المهد المخبأ في جبل باصمان)، التي بينت مدى تعلق الشعب الجبلي بإرثهم المقدس، المهد الذهبي، شعبٌ ينبض في مهجته حب الوطن، رفع راية المهد الذهبي كهوية وطنية، بقولهم: (إن أبناء شعبنا لا يخافون أحداً، وأحرى بهم أن يسقطوا جميعاً عن بكرة أبيهم في ساحة المعركة من أن يبيعوا كرامتهم)، ملحمة صمود للشعب الجبلي ضد الغزاة الساحليين، صورة تتكرر في أكثر المراحل الزمنية، عند الشعوب التي تعتز بأرضها وهويتها، ترفع الرايات الوطنية كرمز للهوية وتعبيراً عن مدى التعلق بحب الوطن، وهذا ما نشاهده اليوم في أكثر البلدان التي تنتفض ضد السلطات الجائرة، بأنها تتمسك برفع الراية الوطنية الرمز المُعبر عن وحدة الشعب ضد الظلم والطغيان.

وتجلت وحدة الشعب ضد الجشع الآدمي في حكاية (الحصن الطويل)، التي بينت عمق الطاقة العظيمة الكامنة في كيان الشعب ضد جشع التاجر (رمز السلطة الجائرة)، حكاية تروي مدى قوة الشعب في استرجاع حقوقه المنهوبة، ومدى خوف السلطة من نقمة الشعب، ودور السائح الروسي في التعاضد مع السكان في التصدي للتاجر اللئيم. وهناك اسطورة (الجبل ذو الهدهدين – اوبوك)، التي عكست حالة، تعيشها الكثير من المجتمعات، لطبيعة الصراع بين مواطن الخير ونقيضه، امرأتان جاءتا من بلاد سكانها بخلاء وحسودون، ورمت بهما الأقدار في قرية أهلها بسطاء، بعدما غرقت سفينتهم قرب ساحل الجزيرة، تم الترحيب بهما بكل سخاء، ولكنهما تجبرتا وشكلتا حاشية تنشر الرعب بين سكان القرية، وتستحوذ على كل مقدرات الناس الكرماء، إلى أن أطل على القرية حكيم قادم من بلاد المشرق، تصدى للمرأتين، وأنقذ سكان القرية ومكنهم من الوقوف بوجه الشر، وبشكل اسطوري خارق أوعز الحكيم باختفاء المرأتين، وتحويلهما إلى طيرين (هدهدين)، وسرعان ما ارتفعت من قاع البحر صخرتان كبيرتان تشبهان السفن، في المكان الذي غرقت فيه السفينة، هاتان الصخرتان – السفينتان تذكران الناس بالأحداث المؤلمة التي واجهها سكان تلك القرية.

وحكاية (نافورة الدموع)، تتحدث عن سلطة الحكام المتعطشين للدماء، وكيف يحافظون على عروشهم بكل الأساليب الوحشية، الخان هو الذي استعاض بالسلطة والمجد عن كل شيء: عن الحب، والبشاشة، وحتى الثروة، وقد شاع بين الناس بأن الخان لا قلب له. وتدور الأيام، وفي ذات يوم جاءوا له بجارية سبية جميلة، أحس وهو في خريف العمر بأن قلبه بدأ ينبض بالحياة، وعمل المستحيل بأن يجعلها تميل إليه، ولكنه لم يستطع. لم تعش طويلاً تلك الصبية، عندها أدرك الخان كيف يعاني القلب البشري عندما تلمّ المصيبة بحامله، فأصبحت حياته شاقة، فاستدعى فناناً ايرانياً ماهراً، وطلب منه أن يصنع له من الحجر عملاً يحمل الحزن على مر العصور، طلب منه أن ينحت الحجر بحيث يبكي مثلما يبكي فؤاده. فحفر الفنان على لوحٍ من الرخام بتلة زهرة واحدة، ثم أخرى... وفي وسط الزهرة نقش عيناً بشرية، تسقط منها على صدر الحجر دمعة رجالية ثقيلة دون أن تتوقف على مدى السنين والأزمان. لوحة جميلة تحمل الحب والشجن، نافورة تبكي، تبكي في الليل والنهار تجسد المشاعر الإنسانية بكل صورها، تحمل البهجة والكآبة، الحب والكراهية، تمثل حياة وموت الفتاة الجارية، ومعاناة الخان صاحب القلب الحجري الذي أحب تلك الفتاة.

تجلى حضور العنصر النسائي بشكلٍ بارز في أغلب الحكايات الإسطورية، ففي حكاية (كيكييا – بطلة خيرسونيس)، تجسد كيكييا ملحمة بطولية بعد أن وضعت مصالح شعبها ووطنها فوق كل شيء، فهي التي قررت بأن تدمر الأعداء، بمن فيهم زوجها، الذي اتضحت خيانته لشعبها. وبذلك سمح رؤساء المدينة لبطلتهم (كيكييا)، بأن تختار وهي على قيد الحياة، مكاناً لدفن جنازتها داخل المدينة، وميزوه بتمثال نصفي - على هيأة صدر امرأة – من النحاس الموشى بالذهب، المنقوش بعبارة ناطقة بمأثرتها البطولية الجريئة.  أما حكاية (أوكسانا)، فهي تمثل صلابة الفتاة الفاتنة التي وقعت أسيرة مربوطة اليدين، لدى قطيع من قبائل القرم الرحل الذين انقضوا على قريتها الآمنة، وتم بيعها وتوصيلها إلى مدينة غريبة، لم يتمكن أحد من لمسها، ولم يذهبوا بها إلى الخان، حيث كانوا ينتظرون أن تضعف عزيمتها، كانت ثمة قوة داخلية هائلة تسندها، ولم تفقد الأمل بأن ينقذها حبيبها، الذي تمكن من الوصول إليها متنكراً، فأنقذها بمعجزة بطولية كبيرة، بعدها تمكنا من الهرب بعيداً عن حاشية الخان. وبالمقابل يحدثنا التاريخ عن مصير الكثير من الفتيات الجميلات اللاتي ينتهي بهن الأمر حريماً في قصور خانات التتر أو سلاطين الأتراك، على أيدي قراصنة تجارة الرقيق، لا سيما خلال فترة الحروب التي كانت تدور بين جيوش الدولة العثمانية وروسيا القيصرية.

في الحقيقة، الأساطير لها نكهة جميلة، ولا يمكن تغطيتها بالكامل في هذه المقالة القصيرة، ولابد من الإشارة بأن المترجم قد أضاف ثروة إبداعية للمكتبة العربية، ومقدمتهُ التوضيحية متكاملة غطت الأبعاد الأساسية لمجموعة الأساطير، فهو من المتشبعين بجمال طبيعة جزيرة القرم التي زارها لأكثر من عشر مرات، ولهذا نجده متألقاً في ترجمته التي حافظ بها على الاسلوب المتبع في النص الأصلي للأساطير، وقد أغنى الترجمة بهوامش توضيحية كثيرة مفيدة جداً للمتلقي، استوحاها من بعض المصادر، أهمها الطبعة الروسية. وتمكن البياتي من إضافة لمسة جمالية في اسطورة (الخالدون الثلاثة عشر)، حينما نظم شعراً لإغنية بكائية وردت باللغة الأوكرايينية على لسان إحدى السبايا، بعد تحويلها إلى اللغة الروسية.

 

د. عبدالحسين الطائي

أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

 

 

أضواء مقاربة من رواية (هتلية) الكاتب شوقي كريم حسن

التفاصيل
كتب بواسطة: جمعة عبد الله

جمعة عبد اللهبراعة المتن الروائي يغوص الى اعماق المجتمع. ويستلهم مفرداته البارزة والطافحة على المكشوف. ويسترشف المنصات الاسطورة في الحضارات العراقية القديمة، في المخاطبة والحوار والدعوة والطرح، برؤية الواقع ومعايشته الفعلية والحقيقية الجارية قديماً وحديثاً. وكذلك يستبطن ويستقرى جملة تداعيات بخصوص الترث الديني والشعبي ويحاجج موروثاتهما، وتأثيراتهما السايكولوجية على دواخل النفسية للانسان، ويعرج على الحالة الاجتماعية في القهر والمعاناة بكل بمفرداتها السقيمة، هذا التشكيل الروائي المركب في البنية والبناء النص الروائي، في صياغته ودلالته التعبيرية الدالة بعمق الايحاء والرمز الدال. من خلال توظيف تقنيات السرد الحديثة المتنوعة، في تنوع اساليب الاستنطاق والبوح والحوار والمحاورة، بما هو مكنون في الذات والسايكولوجية النفس والواقع. قد برع المبدع الكبير (شوقي كريم حسن) في تقنية التداعي الحر، في منولوجيتها ومخاطبتها للاخر. في دياليكتيك الدرامي المتفاعل بين الحوار والمحاورة والمخاطبة، ليكشف ركام المعاناة والحزن الذي يغلي ويفور في الضلوع وفي الشارع. كما يتناول بجرأة الطرح والمناقشة مسائل الدين في رمزية كهنة المعابد، ورمزية الجنس، في تخفيف الازمة الروحية والنفسية. ويتناول بشكل جوهري، مسائل حيوية وجوهرية، في ازمنة المحنة العراقية عبر عقود من الانظمة الشمولية الطاغية، في منظومتها الفاعلة على الحياة والواقع. وكذلك مسألة السلطة والدين وعلاقاتهما، وكيفية نتاج دولة هتلية. التي تعتمد على العسف والحرمان والكبت والاضطهاد، سوى كانت السلطة مدنية فاشية. او سلطة دينية فاشية. طالما يوحدها القهر الاجتماعي وتسخير الانسان لشرنقتهما، ليصبح عبداً مطيعاً، او خروفاً مطيعاً، يساق حسب الاهوى، لذبح، للحرب. للموت. للسجن، للقمع والارهاب، للتسلط الذي ينبش انيابه في الجسد وعقل الضحية. ان تكون الحياة قرابين تقدم دون حساب، في الانتهاك والاستلاب. مما يجعل أنين الليل يطول في آهاته. سوى من ارباب السلطة الالهية بكهنة المعابد. او من القائد الاعظم، او من السلطة الابوية في العسف والكبت اليومي. فأينما يدير الانسان الضحية وجهه، يجد الصولجان والسوط أمامه، ينهش جسمه وعقله. لتكون الحياة معتمة بالسواد، ليس فيها خيط من لون آخر. طالما الدولة الهتلية بجميع مسمياتها واصنافها. تمنع السؤال وتعتبره خرقاً وتجاوزاً لا يغتفر. هذه منصات المتن الروائي الذي برع بالتصوير الكامل لمادته الخام، التي هي من مكونات الواقع والحياة ومفرداتها، وحتى من مكونات حياة المبدع الكبير (شوقي كريم حسن) حياته وسيرته وتجربته في المعايشة الحياتية، بمراحل المتعددة والمتناقلة في ازمنة الاضطهاد والعسف. اي استطيع ان اسمي مادته الخامية للمتن الروائي، هي عين الواقعية السحرية بآفاقها الواسعة في تعاطي تجليات الواقع بتناقضاته الشاسعة، في تجلي واكتشاف مفردات في البيئة الاجتماعية الفقيرة، المنسية من الله والارض. يصبح الكدح الحياتي مجازفة في رمق العيش المر. لذلك اشتغل السرد الروائي على المنولوج الداخلي والخارجي. ليعطينا بانوراما صراع الانسان الكادح مع الحياة تحت صولجان الدولة الهتلية. يستلهم الحكايات الشعبية وحكايات الاسطورة. ليكشف الوجع العراقي النازف في المحنة والمعاناة، بعناوينها المختلفة. اي ليدلل ان رحلة الانسان العمرية، هي خوص صراع متعدد الاطراف كالاخطبوط. في حياة تئن في وجعها، او هي عبارة عن مواكب توابيت متزاحمة. كأن العراقي منذ ولادته رضع حليب الحزن والمعاناة. لذلك ان جوهر رؤية النص الروائي، هي كشف افرازات الواقع وهمومه واشجانه الداخلية والخارجية، المتراكمة في الذات الخاصة والعامة، او في خزين الذاكرة. لكن مع هذه المعاناة الثقيلة، تجعله ان يخوص صراع متعدد الجوانب، من اجل ان يجد له مكاناً تحت الشمس، لا مكاناً في الظلام. هذه التقنيات التعبيرية، التي هي نتاج الابتكار والخلق في البناء الروائي، المحكم في البنائية الهندسية المرتبة والمنسقة، من خلال تداعي الرؤى وفصول الرؤيا، التي قسمت في براعة احترافية متمكنة في السرد الروائي، بما يحمل من ابداع ورؤية وموقف في الطرح. وكذلك تناوله بشجاعة بارعة في طرح المحظورات في (الدين والجنس) ووجه سهامه في اصابة الهدف بالصميم. حين يوجه انتقاده الشديد واللاذع الى هرم السلطة في دولة الهتلية. التي تجعل الاعمار بالحياة ضائعة، بين موت مؤجل، ومرارة الحياة التي لا تطاق ولا تتحمل. يطالعنا في اسلوب مدهش في عورات المحتمع في الدين والسياسة. التي تحصر الانسان في زاوية ضيقة ومحصورة، بأن تكون الحياة تعوي وتئن في الاستباحة والاستلاب قديماً وحديثاً، في كهنة المعابد القدماء والجدد، الذين يسيرون على خطى القياس والمنوال نفسه، نسخة طبق الاصل. ولكن بزي مختلف. وجوهر الحبكة الروائية، تدلل ان تراكم القهر والمعاناة، يولد الانفجار الكبير. وهذا مانجد وقائعه في هذه الايام العصيبة. بأن العسف والظلم والحيف. لا يطول مهما كان لابد ان تأتي ساعة المخاض الكبير لتتفجر شظاياها، في الانفجار الكبير الذي يقلب معادلة الدولة الهتلية. لذلك احاول استرشاف الاضواء المقاربة بين الامس واليوم. مهما اختلفت عناوين الدولة الهتلية. او في براعة ما اشبه اليوم بالبارحة.

 ×× لذلك نحن بصدد بانوراما الوجع والمعاناة الحزن العراقي، في دولة يتحكم فيها الظلم وكبت والاستبداد، ويغوص في عمق هذا الثالوث المحكم بالشمولية. الذي ينتج دولة خرافية عميقة في القتل والارهاب وتجرع مرارة الموت في اصنافه المجانية، ولكن حرمات ان تذهب الارواح هدراً وعسفاً، واكثر احتقاراً ان يساوم بالمال ليستلم الجثة التي قتلت غدراً وظلماً. ياخسارة تروح يازين الرجال بهذا الاحتقار (من لايدفع هذا المبلغ عليه ان لا يفكر بأستلام جثته، وما لبث ان دخل ليجر بقايا روحي الى حيث التابوت الذي كان ينتظر الفجيعة. اغمضت عيني، واجهشت باكياً، لا لشيء، سوى لأني رحت اتأمل ما نسميه وطناً وهو يساوم موتاه من اجل حفنة من الحقارات والكراهيات والموت المجاني !!) ص15، هذه دولة كهنة المعابد، الذين غيروا جلودهم من القديم الى الجديد، كالحرباء حين تغير جلدها، من اجل الاستمرار في نفس النهج في تعاطي (الهتلية) بوصايا من رب الارباب. الذين جعلوا الحياة تعيش في قاع الحضيض. تعيش في ركام انقاض من تبقى من النفايات. حياة موشومة بوشم السواد، في حياة تعج بكلاب كهنة المعابد. ليجعلوا الانسان يعيش في غربة واغتراب داخلي، ليؤدي دور الضحية الخاسرة، في يافطات الخراب والذل والمهانة. الرفض والسؤال جريمة لا تغتفر، في شريعة البسملة والحوقلة أو في شعارات القديمة التي بال عليها الزمن، لكنها ولدت بثوب جديد. وهم في الحقيقة شياطين مأزومين في قهر الانسان، وعدم سماع الصرخات والانين واستغاثة الضحايا. فلا مكان للفرج، وانما الحياة مشرعة ابوابها للحزن والنحيب والمعاناة، بشكلها الواقعي واللاواقعي، أو بالاحرى سريالية كهنة المعابد. التي تجهض الاحلام في مهدها، وتطلق العنان للكوابيس، هذه مشيئة رب الارباب كهنة المعابد، وتوابعهم من اصحاب المقام والجاه من الكهنة (الواويه او السحالي الداعرة)، ان تنام الحياة على الخوف والقلق والمصير الاسود (نحاول الولوج الى فضاء مآلاتنا التي لا نعرف لها مسافات تحدد وجودنا، ثمة دائماً ما ياخذنا الى امكنة مدجنة واخرى أشرس من انفسنا تزأر، فنروح نعاتب ذواتنا التي لا تعرف كيف تأخذ الآمال الى صدورها، تطشرنا الآهات، ونحن نرقب العيون التي لم تألف النظر اليها من قبل، فنسيح عبر اتجاهات غرابتنا التي ماعادت تستقر عند شيء، حين تنسكب عند خطانا المرتبكة) ص73. هذا الفراغ الحياتي، الذي محاط بالانكسارات والاحباطات. كأن الحياة تمشي على توابيت مملوءة بالجثث. كأن الزمن مليء بالرعب والرايات والشعارات السوداء المزيفة، في تواريخها المليئة بالزيف والخرافة، في تاريخ مليء بالروائح الكريهة والفاسدة. مليئة بالنتانات العفنة. في تواريخ كتب بالزيف وحبر النخاسة الداعرة. لكنها تخلق ارباب للقدسية والتقديس. ولكن يبقى هواجس السؤال لا غير يدور في الخوالج الداخلية للوجدان، من أين جاءت هذه النتانات العفنة ؟.، ولكن منْ يتجرأ على طرح السؤال (سؤال واحد..واحد لا غير.. لكن الاجابات عصية.. مامر بخاطري يوماً أن ايامنا ستصاب بشيخوخة القهر.. كيف يمكن لقوة مستحيلة الاختراق أن تتحول برمشة عين الى ذرات من رماد وسموم.. لماذا لا تستقر الافكار عند شيء محدد.. عمري كله كان الخوف يصطاد أحلامي لكني اشعر اليوم بأنكسار الاحلام.. وذهاب كل شيء الى فناء الايام لا اصدق.. ابدا لا يمكن تصديق ما حدث ؟) ص138. ولكن هذه رغبة الامبراطور المجنون في بناء امبراطوريته الجائرة بوصايا كهنة المعابد في راياتهم السوداء داخل نيران الهشيم. هكذا وبكل بساطة نستفيق على ضياعنا ومأساتنا، على جنون الحياة ولعبتها القذرة، لتجعل الروح مترنحة باليأس والتشنج والوجع، كل شيء في الحياة يبكي ويتكسر وينوح، ونستوحش الضياع. هكذا تساوت ازمنة القمع والظلم والحرمان، سواء من كهنة المعابد السابقين، أم من كهنة المعابد الجدد. والواقع في عدسة الجور والضياع والمتاهات التيه، في عدسة الترصد والمراقبة والتصيد. اصبحت حياة انسان صيدة تباع وتشترى، الكل مغلوب على امره، الكل يؤدون فروض القدسية للكبير. الجلاد والمهرج والشحاذ والضحية، الكل غارق في لجة الذل والمهانة. الكل حطب ووقود للحروب العبثية بأسم المقدس الاكبر، رب الارباب لكهنة المعابد. الذين خلقوا له اسطورة من حروف المجد، وشطبوا الاساطير الاخرى، فمنه يبدأ التاريخ وينتهي، او ربما به خلقت الارض وتنتهي به (كيف يمكن ايقاف نزيف المحنة التي اراها تلاحق امكنتي وهي تحمل سكاكين الغموض / حاولت فك اشتباك المعنى / لكنها ما فاهت بكلمة واحدة / الدم يتصاعد / والاثام تتصاعد / الارض التي تمسك حظوظ الاساطير ما عادت تكترث لشي / تحولت الامال الى رماد / والمعابد الى مباغي / والمناسك الى رغبات بالقيء والاستهانة/ الضياع وحده الحقيقة الراسخة) ص166. فما عاد لديك خيار في الحياة. سوى ان تختار بحريتك طريقة موتك المفضلة، هذه المساعدة تقدم بالمجان على حب الله (- كل ما نفكر به لمساعدتك.. هو أن تختار طريقة ارسالك الى جهنم.. هناك ستجد كل شيء.. كل ما لم تجده في دنياك الفاسدة، يمكن ان تجده هناك.. أبن.. فكر بطريقة الموت التي تريد.. لا بأس نحن ننتظر.. ولكن انتظارنا لن يطول كثيراً... عليك ان تبتكر لنفسك طريقة موت.. عقلك يعرف طرق موت كثيرة.. ولكني شخصياً اعلن رغبتي بمساعدتك !!) ص189. هذه تراجيدية الكوميدية السوداء قديماً وحديثاً. في لعبة الحياة العابثة، ظلام يشبه ظلام، بأن رائحة الموت تفوح في كل مكان. الحياة اصبحت خاسرة (- قال انتهى كل شيء !!

قال - كان عليك ان لا تستسلم لهم !!

قال - لا فائدة أينما تولوا فثمة كاهن يطالبك بالموت !!

قال - حرام ان اجد نفسي محاطاً بكلاب تنتظر تحولي الى فطيسة نتنة !!) ص209

اعتادت كلاب كهنة المعابد على نهش لحم الضحايا. من اجل خلق الرعب الحياتي ليكون شريعة الحياة وناموسها، ان يجعلوا الانساان ان يخاف من خياله. ان يجد نفسه في غفلة من الزمن مقتولاً، او ربما مرمياً في حاويات القمامة. لذا فان الحياة تظل تنزف بجراحها النازفة. ان يسقط الانسان في اعماقه. ولكن هل الرب يقبل بسرقة كهة المعابد للحياة ؟ هل يقبل بسارق يمتطي صهوة الكهنة، في مخادعة الرب. مثل هكذا رب لا يستحق التقديس. اذا لم ينتصر للمظلومين والخائبين. لا يستحق مثل هكذا رب يسرقون حتى في بيته ومعابده. ويذوقون عسل التمر المعتق، على انين الضحايا. لا يمكن ان تكون الحياة بيد الهكنة في صنعها كما يشاؤون ويرغبون، لا يمكن للضحايا ان ينتقلوا من خندق الى خندق في انتظار الموت أو الجحيم المنتظر. لايمكن ان يمنع السؤال والكلام بالمحظور (- الرجل الذي لا يجيد الاسئلة رجل لا يجب ان يعيش.. رجولة دون سؤال حلم عاطل... ما تعودتك تتمرغل بالخجل.. أو تتراجع عن سؤال..الاجابات تقيك استباحة الاسئلة وتغسل واياك في ينابيع خرافاتك المحشوة في بيوت الدعارة.. والمشانق.. وعاهرات الدروب التي تشبه جلود الافاعي ؟!!) ص21.

ان تراكم المعاناة والوجع يولد الانفجار وتباشير الامل، هكذا تهمس (عشتار) ربة الحب والحياة في الاذهان. بأن تعزف على موسيقى الرفض، وان تسير منتصب القامةفي عزفها، تمزق الخوف الداخلي لتتحرر الى الحياة العريضة، لكي تجعل الانفجار بقوة الالم والمعاناة والكبت الداخلي. عندها ستجد مروج الحياة بالانتظار. ليس ثمة حنجرة ‘لا ان تعزف بشهقات النواح، ان تعزف في ابواب الكهنة، ولا تكترث لكلابهم المسعورة. لكي تكبر ابتسامة الامل والاغاني الانفجار (الاحلام تنصب متاريس الاسئلة، والارواح تغافل نومها لتطلق دخان ضجرها باتجاه الشوارع) ص290

بهذه الانفجار المرتقب، انفجار الضحايا والمسحوقين والمحرومين.

 

 جمعة عبدالله

 

أسواق النار في بابل

التفاصيل
كتب بواسطة: د. عدنان الظاهر

عدنان الظاهرهل حقاً في بابلَ أسواق ٌ من نار؟ نعم ولكنْ، إنقلبت بابلُ بأهلها ودمّرها زلزالٌ مرعب بعد أن غزتها جيوش ممالكَ مجاورة فأحرقت ما أحرقت وقتلت من قتلت وسبت باقي الأحياء وخاصة النساء والأطفال كما كانت تقتضي تقاليد وجنون ذاك الزمان. إذا إنقلب كل شئ في بابل فما الذي يمنع إنقلاب الأسماء وشكل وترتيب الحروف في الكلمات؟ الجزء يتبع الكل وكان التدمير والخراب عاماً شاملاً كلياً كما هو معروف. فلا عجبَ إنْ إنقلب الفعل (رنا ـــ يرنو) إلى كلمة (نار) والنار شقيقة الفعل رنا بل وتؤمه السيامي لأنَّ فيهما عين الحروف الثلاثة [ نون أليف راء]. الآن يفهم القارئ الكريم ولا سيما القارئ الحلاوي والقارئة الحليّة إياها أصل ومغزى (أسواق النار في بابل)... أسواق النار !! قف ْ، نقطة إعتراض نظامية : من ترى يجازف بحياته فيدخل سوقاً من نار ٍ وما تخلّف النارُ إلا الرماد؟ أدخلْ... قالت له حبيبته، أدخلها... يا نارُ كوني على هذا العاشق العابد الولهان برداً وسلاماً. دخلتُ، وكيف لا أدخل وقد أمرتني آلهتي أنْ لا أتردد وأن لا أخشى ناراً ولا حطباً ولا أسلحة دمار ٍ شامل ٍ؟ أضافت إنه مجمع أسواق عصرية تجد فيه الإبرة والكومبيوتر والتلفزيون والثلاجة وباقات الورود الطبيعية فضلاً عن جناح الأثاث المنزلي والتحافيات وكل ما قد يخطر على بال المتسوّق. كومبيوتر تلفزيون ثلاجة؟! كيف تعمل في الحلة هذه الأجهزة بدون كهرباء؟ قالت لا تهنْ ولا تحزن يا هذا، في بيوت أهل الحلة مولدات خاصة تبدأ العمل لحظة أنْ ينقطع عنها كهرباء الدولة المحصّنة بسور سليمان !! كم ساعةً في اليوم يا ربة َ الحلة  وبابل َ تقطع دولتكم عنكم الكهرباء؟ ساعتان لنا، للشعب،  وأربع ساعات للحكومة أي وللذكر  مثلُ حظ الأنثيين... فالشعب لغوياً مذكر والحكومة أنثى أو خنثى وهذا هو الأصح (ساعتان مقابل أربع ساعات أي ساعة للشعب وساعتان للحكومة أي 1 × 2). ما شاء الله ما شاء الله !  تلكم هي القسمة الضيزى ... ما زال القانون القديم ساري المفعول حتى في زمان دمقراطية الكركري والمصقول والحامض حلو. عدتً إلى ربة بابلَ أسائلها عن أمور كثيرة لا أفهمها خاصة ً وقد غادرتُ الحلة َ منذ قرون سبقت طوفانَ نوح. سألتها : لمن تعود ملكية هذا المجمع الهائل الجديد ومن يقوم على خدمته وتمشية أمور زبائنه؟ قالت لا أحدَ يدري، بل ولا من أحد يتجرأ على وضع  مثل هذا السؤال، بل وليس لهذا السؤال من معنى. كل أمورنا في بلاد عراقستان أو سورستان تجري غامضةً في أغلب جوانبها ومن يسأل لا يجد جواباً على سؤاله. هكذا غدت حياتنا ولقد تعوَّدنا عليها أو الأصح قد روّضنا أنفسنا على تقبل الموجود والمفروض والمقسوم وعلى الدنيا العفاءُ.

قبل أن ننهي جولتنا المتعبة في شتى أجنحة أسواق نار بابلَ قلت فلأسأل الربّة [تعمل نصف وقتها مديرة ً للأسواق مجاناً تشجيعاً لإقتصاد السوق الحر] هل في سوقكم جناح خاص للدراجات الهوائية؟ فتحت عينيها الجميلتين الكحيلتين ربة ُ بابلَ التي إنقلبت فجأة رأسمالية الهوى والقناعة ثم قالت: سؤالك يا غريبُ هذا وجيه. ليس لدينا بعدُ جناح خاص للدراجات الهوائية. سنفتتح من أجلك هذا الجناح حفاظاً على البيئة من التلوث ولا سيما الورود التي أنت قبل غيرك تعرف كم أحبها وطالما عملتُ مع حمورابي وزيرة ً  للبيئة وصحة الحيوان. سنحذو حذو الصين وسننافسها في كثرة ما لدينا من دراجات هوائية تجوب شوارعنا وطرقنا.

رأيتُ أنَّ من اللائق أن ْ أقدم َ للملاك الذي أتى بي إلى هذا المجمع ـ أسواق النار ـ هدية ً باقة َ ورد ٍ غالية الثمن من المتوفر في بعض أجنحة هذه الأسواق. لم أسألها ليقيني أنها تعشق الورود الجميلة وتهوى أنْ أسميها : يا أغلى وأجمل وردة في الوجود وإنها حقا ً كذلك. إنحنيت أمامها وعرضتُ لها ما حملتُ بيديَ اليمنى لها من باقة ورود مختلفة الألوان والأشذاء فلم أجدها كما كنتُ أتوقع أمامي. غابت ربّة ُ بابلَ ووزيرة البيئة فيها. فتشت عنها في أجنحة المُجمّع، مُجمّع النار، فعثرت عليها في الجناح الخاص بالألبسة النسائية المستوردة خصيصاً من أرقى دور الأزياء الإيطالية. مددتُ لها يدي التي تحمل باقة الورود فصدت عنها وأشاحت بوجهها القمري الملائكي عني وراحت تدقق في بعض بدلات العرائس وتقارن بعضها مع مقاسات طول قامتها وسعة كتفيها وقطر خصرها فوقفتُ ذاهلاً حائراً صعقتني المفاجأة. هل أتت بي من أجل هذا الغرض ولا من شيء ٍ آخرَ عداه؟ أن تختارَ لها بدلة عرس بيضاء اللون من الحرير وإكليل ماس وزمرّد أخضر؟ ما علاقتي بعرسها خاصة ً وإني غير مسبوق بهذا الأمر ولم يجر ِ بيننا الحديث عنه لا الآن ولا في سالف الزمان؟ إرتدت البدلة البيضاء وراحت تستعرضها أمام مرآة كبيرة تمتد من السقف حتى الأرض. سألتني، وأنا ما زالتُ ذاهلاً كمن  فقد نصف وعيه، ما رأيك بهذه البدلة يا خطيب؟ يا خطيب؟ تلفتُ حولي عسى أنْ أجدَ مَن خاطبت سوايَ فإني لست الخاطب بل ولا أصلح أنْ أكون خاطباً ولا عريساً. لم أجد في كابينة تجريب مقاسات الملابس سوانا فسألتها وجلاً مستحياً من نفسي لا منها : هل وجهت مليكتي السؤالَ لي أم لسواي؟ قالت مستنكرة ً وهل رأيتَ أحداً سوانا في هذا المكان الضيق الذي لا يتسع إلا لإثنين؟ قلتُ مرتجفَ النبرات بل لا أرى إلاك يا سيدتي النبية. لا أرى نفسي ولا أريد أنْ أراها وأنا لم أزل هناك حيث كنتُ لأكثر من ثلاثين سنةً. قالت حسناً، إنسَ نفسك، كيف ترى هذه البدلة وهذا الإكليل، هل يناسبانني أم ترى لك رأي ٌ آخر؟ لا من رأي آخرَ  لي سيدتي وحبيبة قلبي وعمري، لا من رأي ٍ لي، رأيكِ هو رأيي. ضيّقت عينيها الساحرتين المعبأتين بكل سحر بابلَ ثم قالت : هل أصلح زوجة ً  لك؟ وقعتُ على الأرض من شدة هول المفاجأة وصدمة السؤال وغرابته. رشت قليلاً من الماء على وجهي فأفقتُ متثاقلاً واهناً مغلوباً على أمري. أعادت السؤال إياه نفسه ولكن بنبرة رقيقة فيها الكثير من الإغراء الأنثوي فلم تحظَ مني بجواب. لا أجرؤ على القول نعم  ولا أجرؤ على القول لا  وتلك مصيبة المصائب : الوقوف محايدا ً بين الجنة والنار. تذكرتُ أنَّ إسم هذا المجمع هو أسواق النار في بابل. فإختيار النار أولى بي وأجدى. سأقول لها (لا).. سيدتي وحبيبتي وربتي لا تصلحين !! بل أنا الذي لا يصلح لك زوجاً. فات زمن الزواج ومرَّ أكثر من قطار على سكك حديدي وعبرنا أكثر من جسرِ  حديدٍ  وإسمنت وخشبٍ وضاقت بي مضائق الدنيا وإحترقت السفن. رمت البدلة على الأرض وقالت سوف لن أتقبل بعد اليوم منك ورودك. خذها وقدمها لغيري من صديقاتك الأجنبيات. كف َّ عن مراسلتي وتوقف ْ عن تسميتي بالحبيبة والنبية والربّة. في بابلَ غيري الكثيرات من الربّات وأشباه الربات. عد ْ لصاحبتك عشتار آلهة الجنس والجسد والخصب والتناسل. إنها تصلح لكل الرجال حتى لو كانوا من أمثالك. عدْ إليها فأنت لا تليق إلا بها وهي لا تليق إلا بأمثالك. لم ترتدِ عشتارُ يوماً بدلة عرس ولا إكليل ماس ٍ وزمرّد أخضر. كل لياليها أعراس جنس رخيص وكل حياتها فوضى فما حاجتها للزواج أو الأكاليل؟ يا حبي، قلتُ خائفاً مرتعداُ، لكني قدمتُ  لك أغلى ورود بابل وآشور فرفضتيها مستنكفة ً قبولها من رجل يعشقك حد َّ الذوبان الصوفي الحلولي فيك ِ. رجل ٌ لا يسميك إلا ربتي ونبيتي وحبيبتي وكل أجدادي وتأريخي وحياتي. رجلً تغاضى حتى عن ماضيك حيث كنتِ شبيهة ً أو بدلاً من عشتار آلهة الجنس والتناسل وأنت تعرفين مَن هي عشتار تلك. حلّت فيك وحللتِ فيها حتى إنفصمتما ساعةَ وصولي بابلَ ممتطياً صهوةَ جواد أدهم ملبياً دعوة عشتار. أفلم ْ تكوني أنتِ بلحمك ودمك وصيفة ً لعشتار هذه؟ أفلمْ تخدمي في بلاط الملك الجبار حمورابي كواحدة من سبايا بني إسرائيل في بابل؟ أفلم ْ ترقصي وتغني مع غيرك من الراقصات والمغنيات في حفلات الملك الليلية الحمراء والخضراء وبقية الوان المجون والطرب؟ نسيتُ ماضيك سيدتي وغفرت لكِ إذ أحببتك حباً سماوياً ساميا ً لا نظيرَ له ورفعتك في عيني وإحساسي إلى مقام النبيات والربّات. تدخل إلهُ بابلَ الأكبرُ السيد مردوخ فأسرَّ لي قائلاً : إنك يا غريبُ على حق بشأن هذه السيدة. أنا أشهد لك أني رأيتها مع غيرها من سيدات مجتمع بابل تغني وترقص وتعزف في الكثير من حفلات مجون صدام حسين وولده عَدي. ولا أرى من فرق ـ أضاف َـ بين الترفيه عن صدام والترفيه عن الملك حمورابي ولا بين مَن ترفه ُعن هذا وذاك !! الترفيه ترف ٌ والترف واحد لا متعدد الوجوه. تعكّرت الأجواء وتلبّدت السماءُ بالغيوم السود ثم تساقط المطر مدراراً فأطفأ  نيرانَ مجمّع أسواق بابل. إختفيتُ هرباً من خوفي وعاري وسط الدخان الكثيف الأسود الذي ملأ المكان ولا أدري بعد ذلك مصير مَن أحببتُ حتى الوله والجنون. {حياتها أكثر أهمية ً من حياتي}.

هل من عودة ثانية لبابل وأسواق النار فيها ولعشتارها البديل التي رفضت ورودي ثم أشعلت النار فيَّ وفي السوق الذي قادتني إليه؟

أرسلتْ لي رسالة بالبريد الألكتروني تقول فيها : لا يا صديقي، لم أرفضْ ورودك أبداً وكيف أرفضها من رجل عظيم ٍ مثلك؟ وهكذا هي قاسية متجبرة في صحوها لكنها رقيقة جداً في منامها وعالم أحلامها فهل أتبعها وأصدقها في صحوها أم في حلمها؟ مرة ً أخرى أجد نفسي حائراً بين خطي النار والجنة : عالم اليقظة وعالم المنام. اليقظة أقسى عليَّ من النوم!! صرتُ أحلم. أحلم أنها قالت لي : لماذا تسأل عن إسم رئيس جامعة بابل، هل تنوي العودة؟ لا أصدّق !! تعالَ وسو ِ معاملة تقاعدك. تعالَ لأراك. تعالَ كي نلتقطَ الصور في بعض متنزهات بابل ونتمشى في شوارعها. تعالَ كي ترى جنة العبير وبستان الخلود الملحقتين بحدائق قصري الملكي. تعالَ كي أُريك كيف يرقص  نخيل بابل بهجة ً بعُرس مقدمك وكيف تهتز أمواج نهر الفرات طرباً لحضورك. تعالَ كي تراني كما أنا بشعري الكستنائي الناعم الحريري الذي أخذ الشيب يتكاثر فيه لتفكيري فيك وكيف أداري هذا الشيب ببعض الحناء. هل تعرف أو تتذكر الحناء؟ أنا معجبة بك !

أجلْ يا حبيبة أعرف الحناء. كان في قديم الزمان رجل كبير السن أعمى يدور في درابين الحلة صارخاً بأعلى صوته : حنّة عَجم والقول عالتجروبة... أي تجربة هذه الحناء هي المحك المعوّل عليه. لعل أبناء جيلي ومَن قبلنا وبعدنا يتذكرون هذا الرجل المسكين الذي يكسب قوتَ يومه وهو ضرير. لا تموت بابلُ ما دام فيها أمثال هذا الرجل الكادح الأعمى الشريف. إنها بحاجة لأمثاله عميانَ ومبصرين وليست بحاجة إلى آلهة وأرباب وملوك.

 

عدنان الظاهر

27.07.2008

 

اليات التغيير والتجديد المؤسسي في النظام السياسي الفلسطيني

التفاصيل
كتب بواسطة: د. باسم عثمان

باسم عثمانثمة حاجة ماسة إلى نسق سياسي جديد تحدد مساره قيادة سياسية جديدة تمثّل جميع الفلسطينيين ولا يقتصر تركيزها السياسي والتمثيلي على جغرافية الضفة الغربية وقطاع غزة، وسيتطلب ذلك الابتعاد عن إطار أوسلو والتزاماته وسياسة "الامرالواقع" الحمساوية، وإعادة التفكير بالرؤية السياسية والاستراتيجية الفلسطينيتين، وكذلك بدور المؤسسات الوطنية والمدنية، ليتسنى للفلسطينيين جميعا، أن يتحوّلوا إلى لاعبين سياسيين مُنظمين وأكفاء يتصدرون المقاومة الوطنية والمجتمعية ضد المشروع الكولونيالي الاستيطاني الإسرائيلي.

ان الإنكار المتعمد للرسمية الفلسطينية لأثار أوسلو ونتائجه التدميرية (فلسطينيا)، فاقم المشكلات الناجمة عنه، لأنه من الأساس تمت صياغته على هامش وكواليس الرؤية والاجماع التوافقي الفلسطيني،ولم تجر الرسمية الفلسطينية اية مراجعة نقدية له، فضلاً عن أن ذلك أفضى إلى تكلّس العقل السياسي الفلسطيني السائد، الذي كفّ عن البحث عن خيارات بديلة، ناهيك عن إشاعته البلبلة في إدراكات الفلسطينيين الجمعية، بما فيها إدراكاتهم لمصيرهم المشترك ولعلاقتهم بقيادتهم التمثيلية.

 ورغم الإقرار الشعبي الفلسطيني ومثقفيه بضعف منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها الوطنية والتمثيلية، الا انهم لا زالوا يعتبرونها كيانا حيويا ووطنيا (شرعيا وتمثيليا)، وهي المفتاح الرئيسي لإحياء المشروع الوطني الفلسطيني وتجديد مؤسساته، بالترابط مع كل ما هو نقابي واجتماعي ومدني داخل المجتمع الفلسطيني،حيث ان السلطة الفلسطينية – رغم ادارتها للجزئية الجغرافية - أخذت بالضمور والانحسار السياسي والوطني وهي تبذل جهدها اليوم لتقديم الخدمات الادارية العامة والمحافظة على سيولتها النقدية وامتيازاتها الشخصية،ولكنها فشلت فشلا ذريعا في رعاية جيل جديد من المواهب والكفاءات الشبابية تنمويا ووطنيا، وثمة دلائل واضحة كل الوضوح على هجرة الأدمغة والكفاءات والشباب الفلسطيني من ميدان المواجهة (الوطنية والاقتصادية).

هكذا نموذج للقيادة الفلسطينية الحالية والتقليدي هو شكلٌ من أشكال السلطة المركزية "الأبوية"، حيث يدور في فلك هيكل السلطة في السياسة الفلسطينية الداخلية شخصٍ أو فصيل سياسي واحد تساعده وتسانده شبكة من "المحسوبيات" والمنتفعين، هذا التمركز السلطوي في يد فاعل سياسي مركزي واحد أدى إلى فشل وتجميد كل المؤسسات الفلسطينية الحالية في عملها الديمقراطي بالنيابة عن الشعب الفلسطيني، وأدى إلى تهميش الفاعلين السياسيين الفلسطينيين الآخرين وإقصائهم عمدًا، ما تسببَّ في احداث هوة واسعة بين القيادة الفلسطينية والنخبة التي تدعمها من جهة، وبين سائر مكونات الشعب الفلسطيني من جهة أخرى.

اليات التجديد المؤسسي:

لمعالجة قضية تمركز السلطة الإدارية والسياسية بيد شخص او فصيل واحد ينبغي تطبيق اللامركزية في النظام السياسي الفلسطيني، وان ينصب التركيز والاهتمام على المجتمعات المحلية الفلسطينية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة والشتات،في سياق الدعوة المطلبية الوطنية الملحة لفصل منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها الوطنية والتشريعية عن السلطة الفلسطينية ومؤسساتها الإدارية والخدماتية، حيث الأولى ذات طابع وطني تمثيلي عام لكل الشعب الفلسطيني داخل الوطن المحتل والشتات،في حين الثانية ذات طابع اداري خدماتي لجزء من الشعب الفلسطيني المتواجد في الضفة والقطاع.

في ذات الأولوية الوطنية،فإن التمكين من القدرة على مساءلة ومحاسبة الحكومات الفلسطينية واداراتها هي متطلب وطني ايضا لأي نظام وطني وسياسي فاعل، خصوصا في سمة حالتنا الفلسطينية الراهنة كحركة تحرر وطني، وهو ما يتطلب بالضرورة من مساءلةٍ عامودية تنطلق من المحليات المجتمعية والمدنية الجغرافية للتشتت الفلسطيني عبر آليات من قبيل هيئات تشريعية محلية فاعلة وبانتخابات حرة ونزيهة ومنتظمة لمجموع هيئات ومؤسسات السلطة ومنظمة التحرير،وهذه المساءلة العامودية لا بد لها ان تترافق مع نُظمٍ وادوات أفقية داخلية ايضا للمساءلة والنقد، لضمان أن المؤسسات الفلسطينية تعمل بشفافية تامة بلا فساد أو تعسف في استخدام سلطتها الادارية والسياسية.

الفصل بين السلطات:

إن نموذج النظام السياسي الفلسطيني الحالي في أمس الحاجة إلى إصلاح وتجديد من خلال الفصل بين السلطات الوطنية التمثيلية عن الإدارية الخدماتية (السلطة ومنظمة التحرير)،لأنه لا يجوز بالمطلق ان يتولى الرئيس عباس (رئاسةَ منظمة التحرير الفلسطينية ورئاسةَ السلطة الفلسطينية ورئاسةَ حزبه السياسي، ويُمسِك أيضًا بزمام السلطة التشريعية في غياب المجلس التشريعي الفلسطيني،ويتخذ بمفرده القرارات السياسية بشأن حاضر الفلسطينيين ومستقبلهم)، وما لهذا النموذج من آثارٌ كارثيةٌ على القضية الفلسطينية وحضورها الوطني والإقليمي والدولي. ولإنهاء سيطرة السلطة الفلسطينية (الإدارية) على منظمة التحرير (التمثيلية السياسية) يجب فصلهما عن بعض كليا (مؤسسات ورئاسة) ومن المقترحات المطروحة أن يتولى الرئيس الفلسطيني رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية بينما تكون السلطة الفلسطينية بقيادة رئيس الحكومة ومسؤولةً أمام هيئةٍ تشريعية، ولا بد أيضًا، من تغيير دور ومهام السلطة الفلسطينية من سلطة تشريعية إلى هيئة تكنوقراط تنفيذية مهنية مهمتها توفير الخدمات الأساسية للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة وتدير شؤونه اليومية.

في الوقت الذي ندرك فيه تماما،ان التغيير والتجديد سيصطدم بعقبات كثيرة،وجود الاحتلال وسياساته القمعية والاستيطانية –التهويدية، الانقسام السياسي والجغرافي والاداري بين (الضفة وغزة)، فساد النخبة الفلسطينية النيوليبرالية الجديدة القابضة على الحكم هي وشبكة المحاسيب والمنتفعين والمعارضين اصلا لمجموع الاصلاحات المطروحة والتي من شأنها أن تنزع مَنهم امتيازاتهم السياسية والاقتصادية،اضف الى ذلك،المعارضة الخارجية لأي تغيير وتجديد على مستوى الهرم القيادي الفلسطيني والتزاماته التي تخدم سياساتهم واجنداتهم، وفتور الفلسطينيين السياسي وفقدانهم الثقة في أهمية المشاركة في اية عملية سياسية حاضرة ومستقبلية نتيجة خيبة أملهم في القيادات الفلسطينية السابقة وما ستنتجه اية عملية تجديد وتغيير في النظام السياسي الفلسطيني القادم،وهنا أهمية العمل على التحفيز وتجديد الثقة بالعودة مجددا الى التفعيل السياسي وانخراطهم في مجموع العملية الوطنية، والتحدي الأخير يكمن في الصعوبات التقنية التي يفرضها تشتت الشعب الفلسطيني جغرافيًا ومكانيا، وفي هذا الصدد، قد توفر الأدوات التكنولوجية والرقمية المبتكرة وسيلةً ممكنةً للتغلب على حواجز الجغرافيا والتشتت المكاني،وتوفير مساحة أوسع لكل الشعب الفلسطيني داخل الوطن والشتات بإسهاماته من خلال حقه المشروع بانتخاب ممثليه وقيادته، وهكذا نفسح الطريق مجددا امام جيل الشباب ليُحدِثَ طفرة نوعية في العملية الوطنية فيما ظل لفترة طويلة جدًا مبعد قسريا عن أداء فاعليته الوطنية واقصاءه عن المشاركة في مؤسسات السلطةً السياسية المركَّزة في يد شخصيات محدودة في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، حيث ثمة كادر شبابي ومهني فلسطيني ذو قدرة وكفاءة عالية وتوجهات ورؤى سياسية وطنية جذرية، ولكنهم مشتتون بحكم الجغرافيا والإرادة السياسية السلطوية، المطلوب اذا، نظامٌ سياسي مؤسسي يضم قيادات سياسية وطنية وكفاءات شبابية مهنية ذات وجهة استراتيجية وطنية واجتماعية واضحة وتتبنى اللامركزية في عملها.

ان تشتت الشعب الفلسطيني جغرافيًا وتنوع برامجه الوطنية والاجتماعية المحلية، كفيل بتحقيق هذا التمثيل الديمقراطي من خلال التوافق المحلي في الآراء أو الانتخابات واعتماد النموذج الأمثل للفلسطينيين وهو الديمقراطية الشعبية أو الشعبوية التي تمثلها منظمات المجتمع المدني،ما يعزز قدرة الفلسطينيين على التعبئة السياسية والوطنية على كل المساحة الجغرافية لتواجده وتكوين روابط وطنية واجتماعية تجمعهم، لما يمثل هذا النموذج الساحة الحقيقية لأبداء الرأي والتفاعل المجتمعي الفلسطيني، على نقيض النماذج الوطنية الراهنة والقائمة على نهج الأحزاب السياسية التقليدية ونهج السلطة الفلسطينية والتي هي عرضة لقمع الاحتلال الاسرائيلي والانقسام والشخصنة والفساد السياسي.

أن تغيير الوضع الحالي يحتاج إلى بناء قوة ضاغطة، والعمل بكافة الأشكال لخلق تغيير وطني ديمقراطي اجتماعي،والتركيز على أهمية الحراكات الشعبية والمبادرات التي شهدتها الساحة الفلسطينية خلال السنوات الماضية، رغم أنها كانت تركز على قضية مطلبية واحدة، وسرعان ما ينتهي هذا الحراك حال تحقيقها، ما يستوجب البحث في ضرورة ربطها بتصور شامل وحراك عام،والتركيز ايضا على اهمية بناء تحالفات بين التجمعات الجغرافية الفلسطينية ضمن الأطر المهنية والنقابية والمدنية، إضافة إلى استمرار العمل ضمن أشكال النضال المختلفة، مثل حركة المقاطعة والمقاومة الشعبية والجيوش الإلكترونية، والتوجه إلى المحاكم الدولية لمحاسبة "إسرائيل" على جرائمها بحق الفلسطينيين العزل، ورفع ملف القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني الى المحافل الدولية ليتحمل المجتمع الدولي مسؤولياته القانونية والاممية تجاه الشعب الفلسطيني

الية الانتخابات:

الحقيقة الأولى: ان السلطة الفلسطينية ليست كيان سيادي سياسي، طالما هي تحت الاحتلال، وهي ليست ممثلة لعموم الفلسطينيين (إداريا وسياسيا ووطنيا) ولطالما تقتصر في ادارتها ورعايتها على الفلسطينيين المتواجدين في الضفة والقطاع والقدس، وهذه الإدارة لشؤون الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني تعكس نفسها بصورة او بأخرى على صمود شعبنا وادواته الوطنية والاجتماعية لإنجاز مشروعه الوطني، لذلك، فهي ادارة مهمة بالمفهوم الوطني وتعكس معطى سياسي في معركتنا الوطنية السياسية، لهذا فان بنية السلطة وتركيبتها وان كانت ليست سياسية فهي تؤدي لنتائج سياسية .

الحقيقة الثانية: ان الانقسام في الحالة الفلسطينية مركب: هو انقسام اداري سلطوي من جانب، وانقسام سياسي وطني من جانب اخر، الأول : سبيله الوحيد للخلاص منه :هو اجراء الانتخابات الادارية في الضفة والقطاع والقدس، والثاني : سبيله الوحيد للخلاص منه : هو بأطلاق باكورة الحوار الوطني الفلسطيني العام لإنتاج الرؤية الاستراتيجية الوطنية التوافقية استجابة لمتطلبات الصمود والمواجهة.

 إن تنفيذ أي من هذه الاستحقاقات الوطنية يتطلب القيام بالخطوات الآتية:

- ان يدعو الرئيس الفلسطيني هيئة تفعيل وتطوير مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية والمكونة من الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية وأعضاء اللجنة التنفيذية ورؤساء المجالس التشريعية الفلسطينية وشخصيات وطنية واجتماعية ومدنية الى دورة اجتماعات فورية، لتفعيل المؤسسات وبلورة رؤية وطنية توافقية للأجماع الوطني واستراتيجيته المقاومة.

- الاتفاق على اعتماد النظام الانتخابي النسبي الكامل لإتاحة الفرصة لمشاركة كافة الفصائل وأطياف القوى السياسية والاجتماعية الفلسطينية وضمان تمثيلها في التشريعات الفلسطينية وفقا لحجمها النسبي في المجتمع الفلسطيني، أو: اعتماد نظام انتخابي على مستوى الدوائر، والذي قد يتيح مشاركة قوائم المستقلين لضمان وصول شخصيات محلية مستقلة قد لا تكون لها فرصة لإقامة قوائم على مستوى الوطن، أو: اعتماد نظاماً انتخابياً نسبياً مختلطاً، بحيث يتم انتخاب نصف مقاعد المجلس التشريعي "برلمان الحكومة" عبر قوائم على مستوى الوطن، والنصف الثاني عبر قوائم على مستوى الدوائر.

- تكليف لجنة الانتخابات المركزية بالتحضير للانتخابات ووضع الخطط الكفيلة بمنح المصداقية للعملية الانتخابية وتعزيز نزاهتها وشفافيتها من خلال وجود هيئات رقابة دولية تحظى بثقة الاطراف الفلسطينية، سواء أكانت من الهيئات التابعة للأمم المتحدة أو منظمات إقليمية ودولية.

ما احوجنا إلى بلورة استراتيجية وطنية متماسكة وعلى أعلى المستويات للبحث في كيفية مشاركة الجميع وبدون استثناء في هذه الانتخابات،وتوفير ضمانات فعلية لإنجازهذا الاستحقاق الوطني بشقيه الإداري والسياسي، وميدان الاتفاق على هذا من خلال حوار وطني عام وشامل،الإطار الوحيد الذي يمكن من خلاله أن نصل إلى تفاهمات تمكننا من اجراء الانتخابات بمسؤولية وطنية عالية، وغير ذلك، ستقودنا الانتخابات بدون تفاهماتها وأدوات نجاحها الى كارثة وطنية يصعب التنبؤ بنتائجها.

ان نجاح انجازهذا الاستحقاق الوطني منوط في الإرادة السياسية الفلسطينية الخالصة، ولا يحتاج الى مكياج الاجندات الخارجية والتكتيكات الاستعراضية الفصائلية.

 

د. باسم عثمان

كاتب وباحث سياسي

 

 

مسؤولية الفيلسوف بين المدائن المتصارعة والعوالم المشتركة

التفاصيل
كتب بواسطة: د. زهير الخويلدي

زهير الخويلديمقدمة1[1]:

"ذاكرة الرهيب ضرورية للغاية

La mémoire du terrible nous est absolument indispensable "2[2[

لم يكن بول ريكور أول من حذر من إخفاق مشروع الأنوار في الحضارة الغربية ومجيء العدمية وبلوغ الإنسان زمن الخواتيم فقد تحسس ذلك بصورة جنيالوجية فيلسوف المطرقة فريدريك نيتشه وسانده مارتن هيدجر ضمن رؤيته الأنطولوجية الأساسية وتفطن إلى المنحدر الخطر عالم الاجتماع ماكس فيبر وأدرك اقتراب النهاية كل من المؤرخين أرنولد توينبي وأوسفالد شبلنغر واتضحت الأزمة في العلوم الأوروبية مع أدموند هوسرل وانتبه يورغن هابرماس إلى مأزق الحداثة التقنية وسقوط العقلانية في مستنقع الآداتية.

بيد أن الطرافة التي ميزت بول ريكور هو كشفه عن حالة الإنهاك التي بلغها مشروع الأنوار وعن الأزمة التي يعاني منها الوعي التاريخي وتأخره عن الزمن التاريخي والتعارض بين فضاء التجربة وأفق التوقع واستشكاله الأزمة التي أصابت الحضارة الكونية من جهة القيم والمبادئ التوجيهية التي تحكم المؤسسات وطرقه أبواب الديمقراطية عبر الإنسية التعاونية وتطعيمها بالسياسة التي تراهن على الحريات الفردية.

من هذا المنطلق تبدو مسؤولية الفيلسوف كبيرة في المدينة حول مهام الانتقال من الانحلال إلى إعادة البناء ومن الفوات والتأخر إلى اللحاق والتدارك وحول الأدوار التي يجب أن يقوم بها في الوساطة بين الأقطاب المتعارضة وفي رأب الصدع بين الذات والعالم وتخطي وضع الهشاشة وفشل العدالة ومفارقات السياسي.

مصادر الهشاشة حسب بول ريكور تنبع من النقائض التي تشق الواقعة الإنسانية بين الإرادي واللاّإرادي والمنزلة الوسطى التي يحتلها الكائن البشري وتجعله يتأرجح بين الكينونة والعدم وبين اللانهائي والنهائي وتظهر ذلك في التباعد بين المنطقي والمؤثري وبين المتعالي والعملي وحالة اللاّتنساب بين الذات وذاتها بسبب التناقضات بين الحرية والطبيعة وبين القرار والمشروع وبين الباعث والقصد وبين الطبع والأفق.

يتراوح الوجود البشري من وجهة نظر ريكور بين الهزل والجد وبين الكوميدي والتراجيدي ويستنجد بالطابع الملحمي لكي يتغلب في لعبته مع حركة التاريخ ويتحدى سلطة القدر المحتوم ويعلن انتصاره في معركة الحرية على العراقيل والضرورة والإرادة على التناهي واللاّعصمة ويجعل الإقرار شهادة للكائن البشري باللاّتناسب من جهة وقابلية الاقتدار من جهة أخرى ببناء الجسور وإبرام مصالحة بين الأضداد.

مفارقات السياسي التي أثارها ريكور تتوزع إلى ثلاث دوائر: تتعلق الأولى بالشكل العقلاني للدولة المدنية والقوة الفيزيائية المرافقة للقوانين والقرارات، الدائرة الثانية تقسم السلطة بشكل مغاير ضد نفسها وتعطب العلاقة بين البعد العمودي والتراتبي للهيمنة أولا والبعد الأفقي والتوافقي للرغبة في الحياة المشتركة ثانيا، أما الدائرة الثالثة فتتعلق بالنقد المعاصر لفكرة العدالة الواحدة واللاّمنقسمة والقول بوجود دوائر للعدالة تحتاج إلى تبرير من جهة وتوزيع منصف من جهة مقابلة بالنظر لأن الدولة الممسكة بالسلطة تظهر في ذات الوقت كدائرة مثل بقية الدوائر والهيئة العامة التي تحول دون اختراق الدائرة الأولى للدوائر الأخرى.

فشل العدالة الذي كشف عنه بول ريكور ناتج عن تعارض بين فكرة العادل من حيث هو مبدأ عال للحقل الإيتيقي والمعاناة التي تسللت من الخارج في الحكم الصادر من حقل العدالة الجزائية إلى الجاني المدان ويظهر إخفاق مؤسسة العدالة في مستوى التبرير العقلاني للعذاب الذي يعاني منه المتهم لحظة الإدانة.

أما عن المسؤولية فهي تشهد الكثير من المراوغات ومحاطة بالغموض والشبهات ويتم النصل منها في السر والعلن وتكثر التبريرات وتتزايد التسويغات ويقدم الفاعلون العديد من الأعذار وجملة من التعلات والخاسر الأكبر هو العزوف عن الفعل والإخلال بالوعود والتقاعس عن الواجب والتقصير في الالتزام.

هنا ، فيما تتمثل مسؤولية الفيلسوف تجاه هذا الخطر؟ هل هي مسؤولية فردية أم مشتركة؟ وماهي أنواع المدائن الحضرية؟ ولماذا حدث النزاع بينها؟ ما طبيعة الأزمة التي يعيشها الإنسان المعاصر ؟ هل هي أزمة تاريخية ناتجة عن الصراع بين الموروثات؟ وما المقصود بالمدائن المتصارعة؟ وكيف يتم الانتقال من المدينة إلى العالم؟ ومتى يتم بناء العوالم المشتركة بصورة تأسيسية؟ وماذا يتطلب الأمر من ناحية شغل الفيلسوف؟ وهل يمكن لإيتيقا المسؤولية التي تنبع من المصالحة مع الذات أن تكون بديلا عن إيتيقا الاقتناع التي تتشكل من خلال الفعل التواصلي في الفضاء العمومي؟ هل مسؤولية الفيلسوف تتعين من حيث هو مواطن حر أم تتنزل ضمن المؤسسات الرسمية التي يتحرك ضمنها ؟ ألا يُطالب بالمسؤولية الأخلاقية والوجودية إلى جانب المسؤولية السياسية والمسؤولية القانونية؟ والى أي مقام جديد يتطلع؟ هل يقتصر دور الفيلسوف على ممارسة الحكم وتحمل المسؤولية؟ هل هو الحكم المعرفي ام الحكم السياسي؟

حري بالفكر الحاذق أن يقسم بحثه عند معالجة هذه الإشكاليات إلى جملة اللحظات المنطقية التالية وأن يقوم باستدعاء الأنثربولوجيا الفلسفية التي تجمع بين المجتمع والاقتصاد ضمن جدلية الإيتيقا والسياسة:

اللحظة الأولى: مظاهر أزمة الوعي التاريخي بين التخصيص والتعميم

اللحظة الثانية: المدائن المتصارعة وإخفاق العدالة والشر السياسي

اللحظة الثالثة: العوالم المشتركة : السياسي من حيث هو استكمال المقصد الإيتيقي

اللحظة الرابعة: مسؤولية المجتمع الدولي والمقام الجديد للفيلسوف

ما يراهن عليه في الشخصية المفهومية هو تجنيب الحشود الالتجاء إلى العنف والنزاع واللاّتسامح والانزواء والاقتصار على التنظير والانتظار وانحيازه إلى قضايا المجتمع والتدخل في الفضاء العمومي والانتصار إلى المعية الوجودية بين المواطنين الأحرار على أرضية إيتيقية تشيدها إرادة الحياة المشتركة.

ما معنى قول يسبرس وأرندت "الفلسفة ليست بريئة"؟ هل هي مورطة بالضرورة وغير قادرة على إنتاج خطاب موضوعي؟ ما المقصود بفلسفة المدينة ومدينة الفلسفة؟ ولماذا نحتاج إلى التفلسف من اجل التمدن ونعتمد على التفلسف من اجل التمدن؟ ومتى كان التفلسف يساعد على فض النزاعات في المدائن وبناء المشترك؟ وأين يسكن الفيلسوف مدينته بالمعنى الأصيل للكلمة؟ وماذا عليه ينجز في المدينة لكي يصير فيلسوفا من جهة ومتمدنا من جهة أخرى؟ هل ينتصر للفلسفة إذا تصدت لها المدينة ام يحتمي بالمدينة بحثا عن ملاذ لا توفره الفلسفة؟ لماذا ينزوي الفيلسوف بصناعته بعيدا عن الأنظار ويخدم للسلطة؟ وهل يتحمل الفيلسوف مسؤولية كل ما يحدث في العالم ومطالب بتشييد المدينة؟ أليس من المطلوب أن يفكر الفيلسوف دون سلسلة مقيدة وخارج الصندوق ويسير في دروب جديدة ويساهم في صناعة العالم الإنساني؟ كيف يا ترى دور الفيلسوف في صناعة الأمل والتوقي بالثقافة والأدب والتاريخ من التطرف العنيف؟

ماهي خصائص الأزمة التي يعاني منها الإنسان في حياته العادية؟ وكيف تأثرت الحداثة بهذه الأزمة؟

1- مظاهر أزمة الوعي التاريخي بين التخصيص والتعميم:

"الأزمة ليست حادثًا طارئًا، ناهيك عن مرض حديث: إنها مكون من الوعي"3[3]

لقد عرفت البشرية منذ التشكل الأول العديد من الأزمات وأوجدت الوسائل اللازمة لحلها تصديقا لقول ماركس بأن الإنسانية لا تطرح مشاكل لا تكون قادرة على حلها وبالنظر إلى العقل يجد لكل سؤال جوابا ولكل مرض دواء ولكل آفة علاجا ولكن الأزمة الحديثة التي طوقت الوضع البشري طالت واستحكمت ولم يجد الإنسان المعاصر لها مخرجا وتسببت في ظهور العدمية واللاأدرية والانحطاط والحيرة القيمية والفراغ الأكسيولوجي ودفعت بالناس إلى التحرك في الممكن وقبول بالواقعية والبحث عن بدائل مؤقتة.

بعبارة أخرى نحن لا نعيش أزمة لأول مرة في التاريخ، فالوجود البشري شهد ظهور الكثير من الأزمات ولكن ما نعيشه في الزمن الحاضر هي أزمة شاملة لا نظير لها في السابق لأنها تظهر أزمة دائمة ونهائية.

كما أنها طرحت في الميزان قيمة التقدم التاريخي الذي سار إليه البشر وأعادت التساؤل عن معنى الحداثة وتماسك الذات في مواجهة التحديات والعناصر التي تكونها وصلابة المؤسسات في ظل عنف التحولات. لقد تفطن بول ريكور إلى تعدد أسباب الأزمة في العالم وتوزعها بين وراثة العنف التأسيسي وهشاشة ثبت الهوية ومخاطر اللقاء بالآخر ونشر اللاّتسامح بين المجمتعات وإفساد المال للأخلاق والسياسة والاقتصاد.

اللافت للنظر أن الأزمة عامة ومعولمة من جهة وتشمل جميع القطاعات بشكل خصوصي من جهة مقابلة ويضع لها بول ريكور ثلاث أسباب:

1- إن مصطلح الأزمة مزروع في الجسد البشري بطرق متنوعة ومبهمة بما أنه يشمل القيم والوعي والحضارة ويمس المؤسسات والجمعيات والوزارات والأحزاب والمرافق العمومية والخاصة.

2- مرت الأزمة بسرعة من الطابع الجهوي والقطاعي والخصوصي إلى الطابع العام والشمولي والكلي واخترقت بصورة تامة الظاهرة الاجتماعية وبرز ذلك في مستوى تمثل المجتمع لنفسه.

3- أزمة الحداثة لم تعد تشير إلى ظاهرة من بين ظواهر أخرى وإنما صارت ترمز إلى حقبة كاملة ومساءلة جذرية للحاضر واستشكال للراهن بسبب الصراعات التي تخترقه والتي يتعذر حلها[4].

 لقد ترتب عن اشتداد الأزمة تزايد المشاحنات الإيديولوجية وبروز تمثلات عقيمة للمجتمع وغياب التقدير للأفكار القيمية وتزايد الاهتمام بالقيم المعولمة التي تدور في فلك المنفعة والإجراء والربح ومتعة الاستهلاك وتكاثر المشاكل في المجالات التي كانت مستقرة وتفاقم النزاع في الحقول التي كانت هادئة.

يتوقف بول ريكور عند الدلالة الطبية للأزمة ويرى أنها تشير إلى لحظة المرض الذي يختص بتغير في السير العادي للمريض ويرتبط بالمعاناة أو العذاب في وجود شيء كعلامة رئيسية على سياق باثولوجي وتستوجب إحداث قطيعة في الإيقاع الزمني للمرض من خلال التشخيص المبكر والتدخل العلاجي ومحاولة إيقاف المضاعفات وتنمية القدرات الدفاعية التي يختزنها الجسم وتقوية المناعة عبر العقاقير5[5].

القطاع النموذجي الثاني الذي يحلل فيه ريكور مصطلح الأزمة هو حقل التطور النفسي الفزيولوجي الذي يشير الى حالة من البؤس العميق التي يعيشها الكائن وتكون في ذات الوقت في المستوى الجسدي والنفسي وتؤشر على مرور من حقبة عمرية معينة إلى مستوى زمني آخر وتظهر بوضوح في اللاتوازن الذاتي.

النموذج القطاع النموذجي الثالث هو الإطار الكوسموبوليتي الذي كان عمونيل كانط قد اشتغل عليها في كتاباته عن فلسفة التاريخ والتي أقر فيها بإمكانية ملاحظة التطور التام على الصعيد النوعي وحجبها عن الصعيد الفردي بسبب لاإجتماعية الاجتماعي في الحالة الأولى ووجود استعدادات طبيعية لاستعمال العقل تظهر بشكل متأخر في الأجيال المتعاقبة التي تطور قابليتها للتحول إلى المجتمع المدني ودولة القانون6[6].

أما النموذج القطاعي الرابع الذي يشهد بشكل منتظم ميلاد أزمات هو تاريخ العلوم وكشف فيه توماس كوهن في "بنية الثورات العلمية" عن النموذج الإبستيمولوجي للأزمة والطابع المنكسر للإبداع العلمي وبيّن فيه أن التقدم يتم عن طريق سلسلة من الثورات والقطائع التي تحدث من خلال تغيير في النماذج وذلك بعد وقوع تشويهات في النظرية وتعقيدات في المعرفة واختلال في التوازن وبروز أزمات عابرة7[7].

في نهاية المطاف يصل ريكور إلى تحليل المفهوم الاقتصادي للأزمة ويعتبره مفهوما مشتركا ومهيمنا ويعد النموذج الوحيد الذي يمكن أن يؤثر على النماذج الأخرى وينتشر في جل مجالات الحياة الإنسانية وذلك بالنظر إلى تأثير البنية التحتية المادية على البنية الفوقية الثقافية ومسه بقوة الحضارة الكونية وسلم القيم والمبادئ وشبكة المعايير الرمزية وتسببه المباشر في ظهور أزمات في مختلف الميادين الأخرى8[8].

يترتب عن اندلاع الأزمة في المجال الاقتصادي تشكل أزمة بالمعنى المنظومي النسقي واتخاذها الطابع المتنوع التتابعي وانتشارها السريع في المجتمعات المتقدمة والمتأخرة عن نمو أنماط الإنتاج الرأسمالية واكتساحها لكتل بشرية عريضة عوضت حالة الرخاء والرفاه والاستقرار بحالة الكساد والشقاء والعوز.

لقد تولد عن الأزمات القطاعية في المجال الطبي والنفسي الفزيولوجي والكوسموبوليتي والابستيمولوجي والاقتصادي تناقضات اجتماعية وعدة فوارق وعذابات واختلال في القيم وشرر سياسي وحروب متناسلة.

من هذا المنطلق تميزت الأزمة في العالم المعاصر بثلاثة خصائص أساسية حسب بول ريكور: التمكين9[9] والدورية 10[10] والعولمة11[11] ويؤدي ذلك إلى حصول تحولات كبيرة وتغييرات جذرية في مستويات الحياة للنوع. لكن ماهي المعايير التي يعتمد عليها ريكور أثناء تحليله لظاهرة الأزمة المعممة généralisée؟

اعتمد ريكور على عدد من المعايير أثناء دراسته للأزمة التي يعاني منها المجتمع الحديث ويراها تدور كلها حول المعيار الطبي والمعيار البيداغوجي والمعيار السياسي والمعيار الابستيمولوجي والاقتصادي. وكأن الحل في هذه الميادين يكون بالتخلص من المرض بالعلاج الكافي والدواء الشافي والخروج من الفشل المدرسي بالتربية المتكاملة والتعليم الجيد ومقاومة الشر والظلم بالحوكمة الرشيدة والسياسة العادلة والتغلب على الجهل الواعي والغباء المبرمج والخلط المتعسف بالنقد وتحصيل التنمية ضد الفقر12[12].

فكيف أدى التفاوت في امتلاك الثورة وفي درجة إنتاجها إلى ظهور فوراق اجتماعية ونزاع بين المدن؟

اللحظة الثانية: المدائن المتصارعة بين إخفاق العدالة والشر السياسي

" الآخر هو أقصر طريق بين الذات والذات عينها"13[13]

لقد تفطن ريكور إلى أن أزمة المدينة villeتعكس إلى حد كبير الأزمة الطارئة على السياسي والتي تعود هي بدورها إلى أزمة في المشاركة14[14] السياسية وقلة التدخل في الفضاء العمومي وعدم المحاسبة.

تعني المدينة Cité عند ريكور الجماعة السياسية بمختلف المؤسسات التي شيدتها وأعطتها شكل الدولة وتختلف عن المدينةville التي تشير إلى منطقة حضرية تكون في ذات الوقت وسطا فيزيائيا وبشريا يتركز داخله السكان وينتظمون وفق مساحة لها موقعها وبيئتها وفقا لاحتياجاتهم وأنشطتهم الاقتصادية.

المدينة في خطر هذا مؤكد والمهدد فيها هو الجانب الحضري والمدني والعمراني بسبب هبوب رياح العدمية والتوحش واشتداد عود الهمجية واتساع رقعة كثبان الرمال المتحركة القادمة من الصحراء والتي تهدد ما تبقى من مناطق خضراء وواحات ديمقراطية آمنة التي تنتشر فيها المحبة والتصافي والتعاون. ترصد أرندت تنامي ظاهرة فقدان العالم للتمدن وترى أن الواحات التي تستطيع توفير الحياة تم إبادتها عندما كنا نبحث عن ملاذ، يمكن أن يبدو في بعض الأحيان أن كل شيء يتآمر لتصبح الصحراء في كل مكان. لكن ليس هذا سوى خيال، في النهاية العالم دائما نتاج الإنسان، نتيجة حب الإنسان للعالم15[15].

بيد أن اللافت هو عدم الاكتفاء بالتحارب بين قوى الهدم وقوى البناء داخل المدينة بل نشوب نزاع بين المدائن في حد ذاتها وذلك ليس بسبب المشاريع التحديثية فيها والبرامج التنموية والمخططات السياسية ولكن بمفعول إخفاق العدالة16[16] ونتيجة اتساع الهوة بين المركز والأطراف والتناقض بين سكان المدن وسكان الأرياف وبعد استفحال التعصب والازدراء وتفشي التمركز على الذات والنزعة الفرادنية التملكية. من المفروض أن تحوز كل مدينة على مشتغلين بالفلسفة وتتوفر على منتجين للمعرفة وطلاب للحقيقة ومحبين للحكمة وعاشقين للمفاهيم ومناضلين من أجل المواطنة ومشاركين في الفضاء العمومي وبالتالي تبدو مسؤولياتهم مضاعفة في التصدي للانحراف ومقاومة التشويه وفي الانتصار للقيم الكونية والتربية السياسية للجماهير ويطلب منهم أن ينحازوا إلى قضايا الناس الجدية ويتحولوا إلى ناطقين بلسان الضمير.

والحق أنه توجد أنماط مختلفة من المدائن بحسب اختلاف النشاط البشري داخلها والمشروع الإنساني الذي يتم الانخراط فيه من طرف الكائنات البشرية المنتمية إليها وبحسب تأرجح العلاقات بين التنابذ والتعاون.

في هذا الإطار يستأنس بول ريكور بالتحليلات العميقة للوك بلتانسكي ولورنت تيفينو في كتابهما التسويغ : اقتصاديات العظمة17[17] ويحاول تحديد مكانة الفيلسوف ضمن النسق الوظيفي للمدائن المتصارعة ويرى أنه توجد مدينة للتسوق cité marchande حيث ندرة الخيارات تجعل الأشخاص يتنافسون على الحصول عليها ويخضعون ويتوحدون وهناك أيضا المدينة الصناعية cité industrielle التي تهيمن فيها القواعد الوظيفية الخاضعة للمبادئ العليا للمنفعة ومدينة الرأي cité de l'opinion التي تتحدد فيها الشهرة برأي الآخرين بدل الارتباط بالعظمة الحقيقية ويعيش فيها المشهورون من الرياضيين ونجوم الفن والمحترفون والمدينة الملهمة cité inspiré التي تتحدد فيها عظمة الأشخاص بالفضل وليس بالمال والمنفعة والمجد ، والمدينة المحلية cité domestique التي تشير إلى الموطن الأصلي ومسقط الرأس حيث تسود قيم الولاء والوفاء والإجلال والإكبار والرضوخ والانحناء للتقاليد تحت اسم قبول الإقامة المنزلية maisonnée والمدينة المتحضرة cité civique التي يتنازل فيها المواطنون عن مصلحتهم الشخصية لإرادة الجميع التي يعبر عنها القانون الوضعي ضمن الانتماء للمجموعة الوطنية، ومدينة المهمشين cité des marginaux والتي تضم الفنانين الهواة والتأمليين contemplatifs والمفكرين والفلاسفة ومعظم الحالمين من الشعراء والأدباء والنقاد واللاسلطويين والمحبطين والمنبوذين18[18].

هذا التعداد الفلسفي للمدائن يذكرنا بما قام به أفلاطون عند الإغريق وأبي نصر الفارابي عندنا في التفريق بين المدينة الفاضلة ومضاداتها من المدائن الضالة والجاهلة التي يفقد أهلها كل الأشياء المشتركة19[19].

 فكيف يتخطى الفيلسوف المنتمي إلى مدينة المهمشين وضع الهشاشة لكي يقتدر على تحمل المسؤولية؟

يبدو أن وجود المدائن في حد ذاته معرض للهشاشة ومداهم من طرف الشر السياسي وأشكال التراجيديا التي تظهر على مسرح التاريخ ويتطلب اتخاذ تدابير تتعلق باتخاذ القرار وممارسة الحكم والاقتدار على تبني جملة من الإجراءات والسماح للمواطنين بالمشاركة في تنظيم أنفسهم والمساهمة في إدارة الشأن العام وافتكاكهم لحقوقهم والتعبير عن أفكارهم الفلسفية الصامتة والوعي بالتصورات الإبداعية العفوية. كما تتعلق الهشاشة بالممارسة العمومية للفعل السياسي أكثر من تراجيدية الفعل الناتجة عن بروز صراع بين الكائنات البشرية المتناهية وعظمة التحديات التي تواجها على مسرح التاريخ والتحولات الهائلة.

علاوة على ذلك تشهد بعض المدائن تفكك الروابط الاجتماعية وعدم استقرار في شبكة التواصل بينها وغياب الاعتراف[20] بين الأفراد والمجموعات وتجاهل البعض للبعض بالنظر إلى الاختلاف في الانتماء اللغوي والديني والاجتماعي وصراع الأجيال والاحتدام بين الطبقات واندلاع حرب الجميع ضد الجميع.

 في الواقع يساهم تصاعد العنف داخل المدائن ونشوب الحروب الأهلية في الداخل وتعرضها للعدوان العسكري من الخارج والمشاركة في الحرب الشاملة في ظهور أزمات دورية في الحياة العامة ضمنها.

زد على ذلك انتشار التصور البراغماتي للحكم الذي يؤثر التبرير على العدالة والهشاشة على المسؤولية ويصعب عليه إرجاع المجتمع السياسي للمجتمع المدني وما يحمله معه من مصادر القسوة وتحميله للسلطة من مسؤوليات بخصوص منابع النزاع وجذور السياسي ويرى بول ريكور أنها متقدمة على التقاء خطان من القوة هما عنف السادة ومالكي الأراضي ومستولين على الموروث والمهيمنين على الأقليات الاثنية والثقافية والدينية وشرعنتهم للعنف ومأسسته تحت ضغط العقلانية القانونية ضمن التوازن الذي تقيمه دولة الحق عندما تقوم السلطة السياسية بتعريفه من حيث هو قوة تحتكر العنف المشروع وبوصفها شكل قانوني تخضع هي نفسها لقواعده المؤسساتية. لذلك تظل الدولة القانونية في حالة من التأرجح بين القطبين المتكونين من العنف البدئي المؤسس والعنف المشروع الردعي بقوة البوليس والجيش والأمن21[21]. هنا ترى حنة أرندت أن" إدارة الحرب مكنت مرة أخرى كما في القدم من إهلاك القسم الأعظم ليس فقط من الشعوب التي أصابتها بل حولت العالم الذي تسكنه هذه الشعوب إلى صحراء"22[22].

 في هذا الإطار إذا كانت السياسة هي مواصلة الحرب بوسائل غير عنيفة وإذا كانت الحرب هي مواصلة السياسة بوسائل عنيفة فإن الحرية رهينة أسوار المدينة وتتحقق في الأغورا بالمطالبة بوقف الحرب23[23].

المصدر الثاني من الهشاشة يتمثل في التقاطع في مستوى السلطة بين العلاقة العمودية للهيمنة والخضوع التي تتحكم في الحاكم والمحكومين والعلاقة الأفقية التي ترسمها إرادة الحياة المشتركة للجماعة والتي يجعل الرابط السياسي الجامع للمواطنين هشا بالمقارنة مع الرابط الاجتماعي الممتنع عن الخرق24[24].

المصدر الثالث للهشاشة يعود إلى طبيعة الدولة الديمقراطية المعاصرة التي تستمد سيادتها من ابرام اتفاق افتراضي يترجم صيغة تمثيلية تشاركية، ولكن تبقى هذه السيادة منقوصة وتحت رحمة رضا المتعاقدين وتزعم أنها تؤسس ذاتها بذاتها وتخضع العالم السياسي إلى قانون جاذبية خاصة بالمجتمع الذي تحكمه25[25]. يمكن إضافة حالة المعاناة والعذاب التي يعاني منها المذنب والذي يظل يبحث عن إعادة الاعتبار ويهدد بالانتقام كرد فعل عن تأخر الصفح وفي المقابل تنتاب الضحية الذي تعرض للتعدي والإجرام مشاعر بالاهانة ويظل في حاجة إلى إنصاف ورد الاعتبار حتى يظل يحترم العدالة26[26].

يترتب عن هشاشة السياسي ضعف في مستوى الكلام السياسي وفقدانه إلى البرهنة المنطقية واشتغاله عن طريق المغالطة والحجاج والسفسطة والمجادلة ورغبته في الإرغام واستمالة الناس باللعب على العاطفة واصطدام الفعل السياسي بالتراجيدي الذي يظهر على مسرح التاريخ كقدر محتوم لا يمكن تغييره27[27]. أمام هذه الهشاشة المتعددة التي يعاني منها الفضاء السياسي يبدو تحمل المسؤولية الفردية والجماعية من أجل مواجهتها من الأمور الصعبة والتحديات الجسيمة التي تتجاوز اقتدار المواطنين والحكام على السواء.

لذلك تبدو مسؤولية المثقفين جسيمة في معالجة الهشاشة اللغوية للخطاب السياسي وتوضيح المصطلحات الغامضة وتقويم الخطابات المرتجلة وحملها إلى مستوى المفاهيم الدقيقة واستخلاص رهاناتها الأساسية وبيان الروابط الحاسمة بين الاختيارات السياسية للدولة والاختيارات التابعة للمجتمع المدني والصراع الناشب ضمن دوائر العدالة والتنافس بين المدائن والعوالم التي نسكنها على الأدوار والوظائف28[28]. لكن كيف يتم الانتقال من المستوى العنيف للمدائن المتصارعة إلى الأرضية التواصلية للعوالم المشتركة؟

اللحظة الثالثة: العوالم المشتركة بين حذر السياسي واستكمال المقصد الإيتيقي

" أن تكون موجودا في العالم يعني في العمق أن تكون منفتحا على الوجود ولكي تجد نفسك في ضياء الوجود" – مارتن هيدجر ، الوجود والزمان،

السؤال الذي يطرح هنا هو: ماهي الأشياء التي يعول عليها في المدائن المتنازعة لبناء عوالم مشتركة؟

المدينة هي تعدد محدود من النماذج القادرة على تأسيس اتفاق في حالات التقاضي وأنظمة فعل مبررة يسمح الانتماء إليها بانضواء الفاعلين إلى حقول من الأنشطة المتساوقة والتبادلات الضرورية29[29].

هناك مدائن مكتظة ومزدحمة ومليئة بالأنشطة والمشاكل والمخاطر ويصعب فيها العيش وهناك مدائن مهجورة ومتروكة وفارغة من كل حركة وتحولت إلى مقابر للحياة وهناك مدائن منظمة ومشيدة بطريقة عصرية ومتحضرة ومليئة بالحركة والإنتاج والوفرة والرخاء والناس فيها مقبلون على التمتع بالحياة. كما لا يجوز التكلم عن ضرورة الانتقال من المدائن المتصارعة إلى العوالم المشتركة إلا بعد استبدل التحليل الذي تؤمنه طيبولوجيا المواقع30[30] إلى الفهم الذي توفره فلسفة هرمينوطيقية سردية في مقصدها الإيتيقي. الأولى تقتصر على الكشف عن مواضع الصراع وأشكال الخلاف بين المدائن وصعوبة تجسير الهوة وتذليل الصعوبات التي تولد اللاّتفاهم بينما الثانية تبحث عن أسس الاتفاق وشروط إمكان التفاهم وتبني جسور التواصل وتصوغ نظرية التفاوض والتوافق وتتغلب على مواطن الهشاشة والضعف في المدائن.

الخروج من المدائن المغلقة المتزاحمة إلى العوالم المشتركة المفتوحة يقتضي استبدال نظرية في الصراع والتنازع غير المبرر بنظرية في التفاهم والاتفاق المفيد والتوقف عن الهدم والتحطيم وقبول لعبة الوجود معا والرضا بقواعد حسن الجوار وحسن الضيافة وإرادة الحياة المشتركة والانطلاق في البناء والتعمير.

إن القوانين هي المكون الأساسي للمدائن التي يتم احترامها من طرف المواطنين ولا معنى للقوانين خارج البوليس والخاصية المكونة للعالم هي العلائقية والارتباط والمعية التي تجمع بين الأفراد والجماعات31[31].

إذا كان النزاع على الحدود والبحث عن مشروعية داخلية من خلال التشبث بمؤسسات العظمة وفق مبادئ مثالية عليا هو الذي يتسبب في اندلاع الصراع بين المدائن فإن تحمل تراجيديا التاريخ يبدأ بعمل المكاشفة النقدية والاعتراف بالخطأ في حق الغير وطلب الصفح والاهتمام بالتبرير داخل العالم وفق قيمه ومبادئه.

إن التلاقي بين المدائن داخل العالم المشترك أمر ممكن وفق استراتيجية تواصلية مبنية على تقاسم المصير ضمن نظرة ايكولوجية تحترس من ما يتهدد مستقبل الحياة على الكوكب من مخاطر وتنذر بحلول الكارثة.

في هذا الإطار يتسلح الفاعل السياسي بالحذر والحيطة والتعقل والمداولة وجودة الروية في مستوى اختيار الوسائل الأنسب والأقل ضررا على الطبيعة والبيئة والمحيط والتي ترفق بالأغيار وتصون الحياة من كل تهديدات ومخاطر وتتبع منهجية متدرجة وسياسة مرحلية قصد بلوغ الأهداف المرتقبة والغايات المحتسبة.

يمكن للحاكم العادل أن يقوم بالتخطيط التعقلي للسوق الاجتماعي على المستوى الاقتصادي وان يتصرف في الحياة السياسية بشكل ديمقراطي بحيث يشجع على التعددية الحزبية ويصون التنوع والاختلاف ويقوي متانة الروابط الاجتماعية ويشيد إنسية تشاركية واعية بين الفاعلين المدنيين في الصعيد الثقافي والروحي.

من هنا يقترح ريكور التفكير في العلاقة بين الاقتصاد والسياسة ضمن ثلاثة حدود هي الأخلاق والإيتيقا والسياسة بدل الاكتفاء بالثنائيات القديمة: سواء أخلاق وسياسة أو إيتيقا وسياسة ويبرر ذلك بأن التمييز بين الأخلاق والإيتيقا لا يستمد مسوغاته من المستوى الشخصي وإنما من المستوى المؤسساتي السياسي32[32].

ينادي ريكور بأن يكون السياسي الوسط الذي يجد فيه المقصد الإيتيقي إكماله لأغراضه وانجازه لمهامه ويحدد السياسة بأنها تدفع الفرد لكي يحصل على السلطات التي يقدر عليها ويقتدر بها ضمن إطار الرغبة في الحياة الجيدة التي تحدد البعد الإيتيقي للفعل بينما يعتبر العدالة الفضيلة الأولى للمؤسسات التي تمارس فيها هذه القدرات وتتحقق ضمنها هذه الرغبات وذلك عندما يؤشر على المرور من الإيتيقي إلى الإلزام الأخلاقي وذلك من خلال التقيد بالجهاز المعياري والضوابط السلوكية للنسق الصوري للقيم التوجيهية ويبحث زيادة إلى ذلك وفق تمشي نقدي عن ضرورة ممارسة السلطة ضمن القواعد الإجرائية للعدالة.

إذا كان الأخلاقي يتحرك ضمن مدار الإلزام وإذا كان الإيتيقي يبحث عن الجيد وإذا كان الاقتصادي يوفر النافع فإن السياسي يفتش عن تسويغ قانوني لممارسة سيادية للسلطة بغية تطبيق القوانين والتدابير33[33].

على هذا الأساس ينبغي أن يكون الفاعل السياسي مسؤولا بالمعنى القانوني والأخلاقي على ما يحدث من جرائم وتعديات ويتحمل تبعات قراراته واختياراته والإجراءات التي اتخذها عند محاولته عقلنة المجتمع.

ينتبه ريكور إلى أن مفهوم المسؤولية تم استيعابه ضمن مفهوم العزو وتحمل تبعية الأفعال وضرورة جبر الإضرار والتعويض للضحايا وأنه آن الأوان لكي يقع التفكير فيه ضمن شروط إمكان جديدة ومختلفة34[34]

هكذا ترتبط مسؤولية السياسي باقتداره وعزويته ونسبة أفعاله اليه وحيازته على القدرة على اتخاذ القرار والحكمة العملية والحذر السياسي والاختيار التفضيلي والمداولة الحصيفة والتصميم على الانجاز والإتمام.

لكن المدينة الشمولية لا تمنح الفيلسوف فرصة للكلام ولا توفر له فرصا للفعل والمبادرة والتأثير واللقاء بالناس وتسطر له مجالات تحركه وترسم له حدود نفوذه وتحاصره وتصده إن قاوم وتمرد وثار عليها ولا مطمح له إلا السفر والاختلاء والهجرة من أجل بلوغ مدينة الحرية المفقودة والتشبث بالحلم اليوطوبي في الثورة والبحث عن سبل الخلاص واتخاذ مسافة نقدية من الواقع السائد والمرابطة في الأقاصي وملازمة الصمت الحكيم والاشتغال على إعداد البديل الحضاري وطي صفحات الجهل والخرافة والهمجية والظلم.

لكن هل تكفي إحالة السياسة على المقصد الإيتيقي لكي تصلح ما أفسده الاقتصاد الرأسمالي من هشاشة؟

اللحظة الرابعة: مسؤولية المجتمع الدولي والمقام الجديد للفيلسوف:

" أي مسؤولية اليوم في العالم الذي نعيش فيه؟"35[35]

تحميل الفيلسوف مسؤولية مآل الأحداث في عصره هو أقرب إلى الهزل منه إلى الجد ويقتضي التلاعب بالمسؤولية أكثر من التطرق إلى البحث في تاريخها عن تسويغ نظرا لحالة الإلقاء به في مدينة المهمشين واستحالة نسبة أفعاله وأقواله وأفكاره إليه من حيث وجوده في وضعية هشة ومحاصرته بالسلطة المقيدة.

بيد أن مهمة الفيلسوف لا تكمن في ممارسة الوعظ الأخلاقي والإرشاد التربوي ولا تقتصر على تقديم النصيحة بالمعنى الاجتماعي والاستشارة بالمعنى السياسي وتوفير المشروعية بالمعنى القانوني للحاكمين وإنما تتعدى كل ذلك إلى تعليم المواطن القيم المدنية والأنسنة الثقافية والتسامح الديني ويمكنه أن يصبح مهندسا معماريا للمدينة من حيث المساهمة في العقلنة والتنظيم والتحفيز والبناء المدني والتنضيد التقني.

من ناحية ثانية يظل الفيلسوف مطالب بالتفكير في أفق ثالث يوجد في خضم المواجهة بين المجتمع المدني والمجتمع الثالث ويلتصق بالفضاء العمومي ويسهل إبداع مؤسسات سياسية ضمن إطار مابعد وطني وفق رؤية اندماجية وحدوية مع الأقطار المجاورة على أساس الانتماء إلى المحيط الجيوسياسي وتقاسم فكرة الإنسانية التقدمية ويسهر على تغذية الخيال السياسي للمواطنين بجملة من التصرفات الإيتيقية والجمالية.

هذا المطلب لن يتحقق إلا من خلال إجراء تحويل في مفهوم السيادة وفق ديناميكية جديدة عابرة للحدود ومربكة للهوية الوطنية وللذهنية التقليدية التي تنتمي إلى سلوك سياسي حزبي ظل رهين مقولات تقليدية .

ان الخروج من منطقة الهشاشة ومجال النزاع والتراجيدي يشترط التزام الفيلسوف بنظام معياري وقيمي يضم مجموعة من النماذج الإدماجية التي تدفعه إلى تحمل المسؤوليات حول الانفتاح على المجتمع الدولي وتبادل الذاكرات بغية تصحيح السرديات وبلورة الضيافة بين الثقافات عبر توسط الصفح والرجاء والأمل.

يتم بناء العالم حسب أرندت بواسطة الفانين من أجل خلودهم المحتمل ولكنه يظل دائما مهددا من قبل الظروف المميتة التي تحيل الذين شيدوه والذين يولدون لكي يحيوا فيه إلى التقاعد والفناء36[36]. لذلك يبقى"العالم هو دائما صحراء في حاجة إلى أولئك الذين يبدؤون ليكون قادرا من جديد على الابتداء"37[37]

لا يتكون العالم المشترك من الذوات والمواضيع ولا يتوقف على الأبعاد الرمزية والأشياء المادية بل ثمرة فعل الجماعة ونتيجة تضافر الإرادات وتعاون الملكات وتقاطع الدوائر ويوجد في العتبات وعند بين بين.

العالم ليس مجال للتأويل والسرد فحسب وإنما هو كذلك مجال للتغيير وإعادة التشكيل وبالتالي لا يقتصر على تدبير الذوات ولا على التأثير في المواضيع بل يضم الحقول المشتركة لتخصيب المعنى والقيمة والأرضية العامة التي تتحرك ضمنها الإرادات لكي تقتدر على الفعل والتذكر والكلام والقص والوعد.

لا مفر أمام الفيلسوف من توقي مخاطر اللقاء بالغير والتخلص من ميراث العنف التأسيسي الذي تلوث به الضمير الإنساني وتسبب في أزمة في الوعي التاريخي سوى إعادة بناء مشروع الأنوار من خلال تبادل تجارب الذاكرة بين المدائن واعتماد نماذج الصفح واللاّعنف والتسامح والعدالة من منظور المحبة والهبة. " فالمسؤولية ليست فقط مسؤولية عدد من المثقفين : الأكثر أهمية هي المسؤولية عند كل مواطن"38[38].

الأمر يتعلق بتحمل الفيلسوف مسؤولية التغيير الجذري في مقامethos الأفراد والمجموعات والدول والذهاب إلى ابعد من ثنائية الأنا والغير ضمن أفق مابعد مقولي يحوز على كثافة روحية وطاقة عالية.

بعد البناء السردي للهوية الخاصة يجدر انتزاع الاعتراف المتبادل من خلال تثمين البعد السردي للعوالم المشتركة عن طريق حركات الترجمة من حيث هي أفعال مثاقفة وتبادل الذكريات وممارسة الغفران. بهذا المعنى يولد المقام الجديد من الفهم المطبق على التعقيد في بعضه البعض للقصص الجديدة التي تهيكل وتشكل هذا التقاطع بين الذكريات. لا يتخلى المقام الجديد عن الإحداثيات التاريخية الهامة وما رافقها من عنف تأسيسي وإنما يبذل جهدا تأويليا من أجل الانخراط في قراءات متعددة للتاريخ والذاكرة39[39].

بعد ذلك يجدر المعالجة من مرض التقاليد وجراحات الذاكرة الجمعية والاهانات التي خدشت الكرامة البشرية والشفاء من الإفراط في الإيديولوجيا والتفريط في اليوتوبيا ونفي عنف الحدث التأسيسي وإطلاق العنان للفاعلية النقدية للحاضر وتحطيم الأوهام المتعلقة بالوضع وتفكيك الاغتراب واستشراف المستقبل.

غني عن البيان أن استكمال المشروع الأنواري بالنسبة للحضارة الكونية لن يتحقق إلا بتغلب الذاكرة على النسيان ونبذ التمركز العرقي للثقافة الغربية التي تزعم الانطلاق البدئي من الإغريق والرومان واللاّتينين وإحراز التحديث من خلال الانتصار في المعركة مع الكهونت وتكريس النموذج العلموي التقنوي كمعاير للتمدن وإقصاء البعد الرمزي والروحاني والاعتراف بمساهمة كل الثقافات الشرقية والإفريقية والآسيوية وخاصة العلوم والفنون والآداب العربية والإسلامية في قيام حداثات متعددة للعالم المشترك40[40]. اللافت أن مسؤولية الفيلسوف في العالم المشترك ضمن الجماعة التاريخية الناطقة بلغة الضاد تتمحور حول استئناف المشروع الأنواري ضمن مقاربة تأصيلية حداثية تسعى إلى إعادة تملك التراث ضمن رؤية تأويلية ايتيقية تراوح بين النقد والتواصل وتعتمد المضيافية والمسلكية العبرمنهاجية والعقلانية المركبة.

من المفروض أن يتم التذكر السردي للتجارب الحضارية المشتركة الحاصل فيها تثاقف وترجمة واستفادة بين الشعوب وحوار بين المذاهب وتلاقي بين الأديان في الأندلس وصقلية والشام وبيت المقدس حيث يجب أن نمارس النسيان العلاجي للاضطهاد الديني والتمييز الهووي ونتحمل مسؤولية الغفران41[41].

كما يمثل باراديغم الاعتراف المتبادل بين الذوات والمجموعات والدول أكثر أرضية إيتيقية ضرورية لارساء عدالة اجتماعية خالية من الظلم والازدراء وتستطيع التنازل وتكف عن التعديات وتجبر الأضرار.

في هذا الصدد تصرح أرندت عن الحكم والمسؤولية "أنت طبيعي، شخص عادي ، لا مجرم ولا مؤدلج، ولا وحش مريض، في يوم ما تنهار كل المعايير التي اعتدت عليها. منذ ذلك الحين فصاعدا تواجه خطر التواطؤ مع الأشياء السيئة. كيف تتجنب ذلك كيف تميز الخير عن الشر؟ كيف تقول لا؟ - في محاولة تقييم الوضع- لذلك عليك التفكير والتفكير بنفسك، هذا الفعل ليس مقصورا على النخبة: إصدار حكم وتحمل المسؤولية ، يمكن للجميع أي كان يمكن أن يفعل ذلك ، لا تزال في حاجة إلى الإرادة..."42[42]

لكن كيف يستدعي اقتصاد العطاء شعرية الحياة الأخلاقية لكي تمنح الفعل السياسي ديناميكية وإبداعية؟

خاتمة:

"هل يمكننا أن نحيا دون أن يكون للتاريخ معنى؟"43[43]

الثورة في الخطاب الفلسفي تعني تشييد خطاب فلسفي في الثورة وبدل البحث عن موقع للفلسفة في مدينة الثقافة والنضال الثقافي في سبيل مكان للمدينة الفلسفية والاكتفاء باللاّمكان واللاتحدد والانحياز إلى المدنية وتثوير الذهنية النخبوية وتطهيرها من التعالي والنرجسية والتمركز على الذات وزرع التواضع والإيثار.

لقد ظلت المدينة عندنا أسيرة مفهوم أم القرى وغير بعيدة عن المخزون الرمزي للبادية بالرغم من التخلص من لفظ المدائن الكسروي واستنبات مفهوم الحاضرة والتصالح مع مفاهيم البيت والمنزل والساحة والأسوار والأبواب والأسواق والمخازن ولم يقبل الفارابي الاقامة بمدينة الحرية واعتبرها جالبة للفوضى والتخاصم وفضل عليها مدينة السعادة ولقد بقيت الثورة مجرد خروج مسلح على الحاكم ولم تتحول في لسان العرب إلى مشروع تحرري ومقام انعتاقي وطريق نحو الحرية وتدريب على الكرامة.

كما ارتبطت الثورة بالانقلابات العسكرية وقيام الأنظمة الشمولية ورفضتها الأحكام الفقهية في مختلف المذاهب وتم اعتبارها فتنة وردة وإضعاف للملة باسم المصلحة ولم يقع اعتبارها هي المصلحة العامة.

صرحت أرندت ما يلي:" أصبحت الثورات أمرًا مألوفًا ، بعد تصفية الإمبريالية ، ونهض الكثير من الناس ليأخذوا من بين قوى الأرض حقهم في المكان المنفصل والمتكافئ الذي تسنه قوانين الطبيعة والإله"44[44]، ولعل العلامة البارزة التي تسم الوضعية الراهنة بالنسبة إلينا هي سلسلة الثورات التي توالت في عالمنا.

لم يعد ممكنا السيطرة على المجال الحيوي من خلال اختلاق حروب أهلية داخلية بين الأشقاء المتجاورين ولا عن طريق شن حروب شاملة مدمرة تحت مسمى التدخل العسكري من أجل حقوق الإنسان ونشر ثقافة الديمقراطية وإنما مرت المبادرة الشعبية من الحرب إلى الثورة ومن المطالبة بالخبز والأمن والحماية إلى المطالبة بالاعتراف والعدالة وانخرطت الجماهير في النضال من أجل الحرية والانتصار للكرامة البشرية.

لقد شهدنا عدد من الثورات الناجحة ليس فقط بمجرد تمكن مكونات إراداتها الشعبية من مغادرة المدائن المتصارعة والتخلص من النظم الشمولية وإنما بفضل ما اقتدرت عليه من تشييد واحات العوالم المشتركة.

لقد تحولت الثورات من حيث هي الأحداث الأكثر دلالة في تشكيل العالم الراهن الى القوة الأكثر فاعلية في تغيير وجهة التاريخ وصناعة مستقبل الشعوب لما تمتلكه من قدرات تأسيسية للجمهوريات45[45].

بطبيعة الحال تتطلب كتابة سردية الثورة وفق المنوال الفلسفي الملائم استنطاق اللاوعي الجمعي للجمهور وإدراك المخيال السياسي للفاعلين الاجتماعيين وترجمة الشعارات المرفوعة وتطلعات الشبيبة وأمنياتها وتحويل انتظاراتها وتوقعاتها لبرنامج سياسي للقوي الثورية ومخطط استراتيجي قابل للتبلور والانجاز.

تكمن مهمة الفيلسوف في التحول إلى مهندس معماري يتقن فنون التخطيط والتصميم والتعمير والإسكان وينفتح على الوظائف العلاجية للأزمات والأدوار الجراحية للزوائد ويقوم بتنظيم علاقتها بالعالم46[46].

لا يجب تنظيف المدينة من الشخصيات المعارضة ومن الأفكار الثورية من أجل تدعيم السيستام وتركيز النظام ولا ينبغي الخجل من حركات التفكيك والخلخلة التي تحطم كل ما قائم وتجهز على القديم طالما أنها تمثل شرط إمكان بناء قويم ومناسبة ضرورية للتأسيس المختلف للمدينة الثورية والسيستام غير الشمولي.

لقد أخرجت الثورة الفيلسوف من دائرة الاتهام وجعلت من براءة الفلسفة والغفران والصفح مقاما جديدا بالنسبة إلينا وأوجد الربيع عالما مشتركا يضم الجميع من أبناء الوطن ويلوح بالتصافي والسلم في العقول.

لا مقام للفيلسوف دون مدينة ولا تعمر مدينة تجبر فيلسوفها على مغادرتها ولا يكون التفلسف الحق سوى تمدينا حقيقيا ولا يصل الناس إلى رتبة المدنية إلا بالعقل الفلسفي وإذا غاب تعطل منحى الإقامة في العالم.

 لقد ذكرت أرندت أن كلمة الثورة مهما كان القاموس السياسي الذي يستعملها تحوز على معنى عام بغض النظر عن مكانها وزمنها والقائمين بها والظاهرة السياسية التي عبرت عنها والذاكرة التي تريد احتكارها. غير أن العلاقة الملتبسة بين الثورات والحروب هي التي تستحق الدراسة والتحليل وإبراز مواطن التباين بينها والانتباه إلى المعنى السياسي النبيل الذي يرتبط بالثورات والإقرار باستهدافها للتشييد والتعمير47[47].

إذا كان الأيتوس القديم أصبح غير جدير بالسكنى ولا يصلح للعناية بالذات وتدبير المصالح العامة ويثير الاشمئزاز ويبعث على الغثيان والتمرد والعصيان فإن المطلوب من الفيلسوف هدمه وإقامة أيتوس مغاير. إن الانتقال من لحظة المدينة الشمولية إلى لحظة العالم الديمقراطي يقتضي مد جسور التواصل بين الفرقاء والإجماع على المشترك الثوري وترك الخلاف والتباغض والتكاتف على تأمين مصالح الناس والارتقاء بهم نحو مرتبة المشاركة الفعالة في الشأن العام والانخراط في العمل البناء والإنتاج المولد للتنمية والثروة.

من الطبيعي أن يتبوأ الفيلسوف مكانة هامة في المدينة وأن يكون ضمن القيادة الثورية ولا يقتصر دوره على التغريد خارج السرب والبقاء في حالة استنفار دائم ولا يتورط في مواقف مرتجلة ويقول الحقيقة في وجه السلطة ويشهد على العصر ويتمسك بالحلم وينقد الواقع ويعد الفلسفة سلاحا ثوريا وأن" الثورات تطرح مسألة الحرية السياسية على النمط الأكثر واقعية والأكثر جذرية، حرية المشاركة في الشؤون العامة، حرية الفعل- لما تخفق الثورات تصير كل الحريات السياسية والمدنية الأخرى مهددة"48[48].

مقتضى القول أن إيتيقا المسؤولية التي يلتزم بها الفيلسوف في تعامله مع الظاهرة المدينة تجمع بين تقدير الذات وتقدير الغير وتحرص على زرع الأمل والعلاج بالغفران وجدلية الحب والعدالة وتسعى إلى إنقاذ العالم من الانحلال إلى إعادة البناء ومن الذوبان إلى إعادة الأعمار وتعيد كتابة التاريخ وفق رؤية تعددية تضرب الاحتكار والتمركز وتنفتح على المسكوت عنه والضمني والمبعد والمهمش والمقصي والمختلف. ولا يحوز التاريخ على معنى وتعود للفلسفة قيمتها في الحياة اليومية إلا إذا تخلص من الحلول النهائية وإذا تمكن العقل العملي من التعافي من أمراض الوعي التاريخي وتدارك آفات ونقائص النسيان المتعمد واقتدر على التغلب على الذاكرة الجريحة وأمراضها وجعل فضاء التجربة يتحرك ضمن أفق الانتظار وتحمل واجب قضاء الدين والوفاء بالوعد وجدارة الرد على السؤال الكانطي: ما الذي يجوز لي آمل؟49[49]. في هذا المنحى"إن جوهر الاحترام هو ما أحترمه في الآخر، وما أنتظره منه هو تكريس احترامي من قبله، هذا ما يسمكن أن نسميه وجودنا-قيمتنا، قيمتنا الموجودة، بهذا المعنى يقول كانط: الكائنات العاقلة تسمى أشخاصا لأن طبيعتهم تعني أنهم غايات بذاته" وأيضا الطبيعة العاقلة توجد كغاية بذاتها."50[50]، فمتى يكف الناس عن التزاحم باسم التمدن على الكوكب ويعتصموا بالتراحم ليجعلوه عالما فسيحا؟ وأليس الأمل الذي ينشده الفيلسوف من المدينة هو الحرية في أن أصبح مواطنا حرا دون الحاجة إلى دفع ثمن الاستيعاب؟ وما المطلوب من الفيلسوف على المستوى الثوري والإيتيقي أن ينجزه لكي تتشكل المصالحة بين فضيلة العدالة ونعمة الحرية ويتم التحوط بالآفات المهددة للعمران ويقع التغلب على المخاطر المحدقة بالحياة المشتركة داخل المدينة الجامعة؟ وألا تكون المدينة الجامعة هي الأكثر دلالة عن المدينة المدنية؟

 

د. زهير الخويلدي – كاتب فلسفي

.....................................

الهوامش والإحالات:

[1] مداخلة في ملتقى الفلاسفة ومدائنهم ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس أيام 24-25-26 أكتوبر 2019.

 [2] Ricœur Paul, Ethique et responsabilité , textes réunis par J.-Ch. Aeschlimann Neuchatel, la Baconniere, coll : langages, 1994, p20.

[3] Ricœur Paul, Politique, économie et société, écrits et conférences4, éditions seuil, Paris, 2019, p300.

[4] Ricœur Paul, Politique, économie et société, écrits et conférences4, op.cit, p166.

[5] Ricœur Paul, Politique, économie et société, écrits et conférences4, op.cit, p167.

[6] Ricœur Paul, Politique, économie et société, écrits et conférences4, op.cit, p169.

[7] Ricœur Paul, Politique, économie et société, écrits et conférences4, op.cit, p173.

[8] Ricœur Paul, Politique, économie et société, écrits et conférences4, op.cit, p174.

[9] autonomisation

[10] périodicité

[11] mondialisation

[12] Ricœur Paul, Politique, économie et société, écrits et conférences4, op.cit, p184.

[13] Ricœur Paul, Soi-même comme un Autre, édition du seuil, Paris, 1990.

[14] Jérôme Porée, Paul Ricœur, le philosophe, l’architecte et la cité, in Revue juridique de l’ouest, Université de Rennes 1, Année 2008, n°3, pp301-320.

[15] Voir Arendt Hannah , qu’est-ce que la politique ?, les déserts et les oasis, texte établi par Jerome Kohn, édition française et préface de Carole Widmaier, édition du seuil, Paris , 2014.pp291-294.

[16] Ricœur Paul, le juste, la justice et son échec, Cahier n°81, éditions de l’Herne, Paris, 2005.p07.

[17] Luc Boltanski et Laurent Thévenot, De la justification : les économies de la grandeur, édition Gallimard, 1991,

[18] Ricœur Paul, Politique, économie et société, écrits et conférences4, op.cit, p122.

[19] أبو نصر الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، تقديم وتعليق ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت، طبعة2، 1986، ص131.

[20] Ricœur Paul, Anthropologie philosophique, écrits et conférences 3, édition du seuil, Paris, 2013.pp445-451

[21] Ricœur Paul, Politique, économie et société, écrits et conférences4, op.cit, p124.

[22] Arendt Hannah, qu’est-ce que la politique ?,op cit p237

[23] Arendt Hannah, qu’est-ce que la politique ?,op cit p256.

[24] Ricœur Paul, Politique, économie et société, écrits et conférences4, op.cit, p125.

[25] Ricœur Paul, Politique, économie et société, écrits et conférences4, op.cit, p126.

[26] Ricœur Paul, le juste, la justice et son échec, op, cit, pp30-31

[27] Ricœur Paul, Politique, économie et société, écrits et conférences4, op.cit, p127.

[28] Ricœur Paul, Politique, économie et société, écrits et conférences4, op.cit, p127.

[29] Ricœur Paul, Politique, économie et société, écrits et conférences4, op.cit, p122.

[30] Ricœur Paul, Politique, économie et société, écrits et conférences4, op.cit, p123.typologie des situations.

[31] Arendt Hannah , qu’est-ce que la politique ?, op.cit.p267.

[32] Ricœur Paul, Politique, économie et société, écrits et conférences4, op.cit, p95.

[33] Ricœur Paul, Politique, économie et société, écrits et conférences4, op.cit, p96.

[34] Ricœur Paul, le concept de responsabilité : essai d’analyse sémantique, revue Esprit, n 206 , 11, 1994, pp28-48.

[35] Ricœur Paul, Politique, économie et société, écrits et conférences4, op.cit, p115.

[36] Arendt Hannah , qu’est-ce que la politique ?, op- cit, p293.

[37] Arendt Hannah , qu’est-ce que la politique ?, op-cit, p294

 [38] Ricœur Paul, Politique, économie et société, écrits et conférences4, op.cit, p127.

[39] Ricœur Paul, Politique, économie et société, écrits et conférences4, op.cit, p277.

[40] Ricœur Paul, Politique, économie et société, écrits et conférences4, op.cit, p305.

[41] Ricœur Paul, Politique, économie et société, écrits et conférences4, op.cit, p307.

[42] Voir Hannah Arendt, Responsabilité et jugement, traduit par Jean-luc Fidel, éditions Payot&Rivages, Paris, 2009.p205

[43] Ricœur Paul, Politique, économie et société, écrits et conférences4, op.cit, p308.

[44] Hannah Arendt, la liberté d’être libre ,traduction de Françoise Bouillot, Payot, Paris, 2019.p17.

[45] Hannah Arendt, la liberté d’être libre , op.cit, pp22-23.

 [46] د زهير الخويلدي، تنظيم المدينة من خلال السياسة الاجتماعية عند أرسطو، مجلة النور، نشر بتاريخ 15، 06، 2019.

[47] Hannah Arendt, la liberté d’être libre , op.cit, p30.

[48] Hannah Arendt, la liberté d’être libre , op.cit,pp83-84 .

[49] Ricœur Paul, Politique, économie et société, écrits et conférences4, op.cit, p309.

[50] بول ريكور، فلسفة الإرادة ، الإنسان الخطاء، ترجمة عدنان نجيب الدين، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، طبعة أولى، 2003، ص185.

 

وصيّة أبي تمّام لتلميذه البحتري.. قراءة نقديّة تحليلية، استطرادية

التفاصيل
كتب بواسطة: كريم مرزة الاسدي

كريم مرزة الاسديالشعر لسان، واللسان عنوان؛ لِما في النفوس من كتمان، سلاح ذو حدين، إمّا أنْ يرتفع به الشأن، أو يزري بصاحبه للذل والهوان، وكم رأس حصيد هذا اللسان، إذا ما سلـّط الله عليه السلطان أو الأعوان عندما يخلع الإنسان من ضميره الوجدان، والشعر طبعٌ وصنعٌ، وإذا غلب الطبع قد تزل به قدم في وقت لا ينفع به الندم، وربّما يأتي ركيكاً فيُهمل، أو أحمقاً فيقتل، يرتفع على كتفه اسم، ويغيب من أفقه نجم، تعقد لأجله المناظرات والنقائض والمعارضات في مجالس الخلفاء والملوك، وتقام له الأسواق كعكاظ والمربد و ذي المجاز و مَجنَّة وهجر، يحضرها الفحول للاستماع إلى الناشئة الصاعدين، والتحكيم بين المتسابقين في دواوين شعبية، تحتضنها القبائل العربية،فكان للشعر دور لايشق له غبار، إلا من قبل الكبار، ومن هنا يجب علينا التأمل والتمعن وأنْ نرى لِما روى أبو عبادة الوليد بن عبيد الطائي البحتري (ت 284 هـ/ 897 م)عن وصية أستاذه أبي تمام حبيب بن أوس الطائي (ت 228 هـ / 843م) قائلاً:

" كُنتُ في حَداثَتي أرُومُ الشِّعْرَ، وكنتُ أَرْجِعُ فيهِ إلَى طَبْعٍ، ولَمْ أَكُنْ أَقِفُ علَى تَسْهيلِ مَأْخَذِهِ، ووجُوهِ اقْتِضابِه، حتى قصدتُّ أبا تَمَّامٍ، وانقطعتُ فيه إليه، واتَّكلْتُ في تَعريفِه عليه؛ فكانَ أوَّل ما قال لي: يا أبا عُبادة؛ تخيَّر الأوقاتَ وأنت قليلُ الهُمومِ، صِفْرٌ من الغُمومِ. واعْلَمْ أنَّ العادةَ جَرَتْ في الأوقاتِ أن يقصدَ الإنسانُ لتأليفِ شَيْءٍ أو حِفْظِه في وَقْتِ السَّحَرِ؛ وذلكَ أنَّ النَّفْسَ قَدْ أَخَذَتْ حَظَّهَا مِنَ الرَّاحةِ، وقِسْطَهَا مِنَ النَّوْمِ. وإنْ أردتَّ التَّشْبيبَ؛ فاجْعَلِ اللَّفْظَ رَشيقًا، والمعنَى رَقيقًا، وأَكْثِرْ فيه مِن بَيانِ الصَّبابةِ، وتوجُّعِ الكآبَةِ، وقَلَقِ الأَشْوَاقِ، ولَوْعَةِ الفِراقِ . فإذا أَخَذْتَ في مَديحِ سيِّدٍ ذي أيادٍ؛ فأشْهِرْ مَناقِبَهُ، وأظْهِرْ مناسِبَه، وأَبِنْ مَعالِمَهُ، وشرِّفْ مقامَهُ. ونَضِّدِ المعانيَ، واحْذَرِ المجهولَ مِنْها. وإيَّاكَ أن تَشينَ شِعْرَكَ بالألفاظِ الرَّدِيئةِ، ولْتَكُنْ كأنَّكَ خيَّاطٌ يقطعُ الثِّيابَ علَى مَقاديرِ الأجسادِ. وإذا عارَضَكَ الضَّجَرُ؛ فأَرِحْ نَفْسَكَ، ولا تعملْ شِعْرَكَ إلاَّ وأنتَ فارغُ القَلْبِ، واجْعَلْ شَهْوَتَكَ لقولِ الشِّعْرِ الذَّريعةَ إلَى حُسْنِ نَظْمِهِ؛ فإنَّ الشَّهْوَةَ نِعْمَ المُعِينُ. وجُمْلَةُ الحالِ أَن تعتبرَ شِعْرَكَ بِما سَلَفَ مِن شِعْرِ الماضينَ، فما اسْتَحْسَنَ العُلَماءُ فاقْصِدْهُ، وما تَرَكُوهُ فاجْتَنِبْهُ؛ ترشد إن شاءَ اللهُ . قالَ: فأعملتُ نَفْسي فيما قالَ؛ فوقفتُ علَى السياسةِ ". (1)

مما نستشفّ ُ من الوصية الطائية اللؤلؤية أنّ البحتري من المطبوعين يعتمد على موهبته الخالصة في نظم الشعر ابتداءً، وأستاذه أبو تمّام يميل إلى الصنعة والتأمل والزخرفة وتحكيم العقل تجربة ً، فأوصاه بها لكي لا ينحدر الشاعر للهاوية دون قيدٍ يقيه، أو سدٍّ يحميه، وأقرّ الموصى له بعمله بها حتى وقف على السياسة، والسياسة تقتضي اختيار الوقت المناسب للإبداع بحيث يكون الشاعر متهيّئاً نفسياً وفكرياً وخلقياً لصبِّ خوالج وجدانه العاطفية، وخالياً من انفعالاته النفسية الشخصية؛ إذ هو" قليلُ الهُمومِ، صِفْرٌ من الغُموم "، وبالتالي لا تطغي سوداويته على الوجه الأبيض المنير للشعر السليم، ثم يتطرق الأستاذ الشاعر الناقد إلى ضوابط غرضين من الأغراض الشعرية، وهما الغزل والمدح ، وتغاضى أبو تمام عن الهجاء والرثاء، ففي الهجاء منافرة لا مقاربة، والرثاء فراق لا يأمل اللقاء، والشاعر يكون أقرب إلى الصدق فيهما من الكذب، والشعر يغني كذبُهُ عن صدقه، كما يقول البحتري نفسه!!

يجرّني السيد البحتري البرجوازي الارستقراطي الانتهازي إلى كذب الشعراء في مديحهم والحديث شجون!!

يقول عبدان بن عصمان العاطفي السلـّمي في هذا المعنى:

وقالوا في الهجاء عليك إثم *** وليس الإثم إلا في المديح

لأني إن مدحت مدحت زوراً**وأهجو حين أهجو بالصحيح (2)

ومن غرائب شعر ابن زيدون ( ت 463 هـ) قوله في هذه القصيدة الفريدة التي يهجو بها أبا الحزم بن جهور مؤسس الدولة الجهورية، والشاعر من أركانها، وباني ملكها، ولكن عندما خلعه الأمير من كرسي الوزراة الأولى، و أودعه السجن، قال فيها:

قل للوزير، وقد قطعت بمدحه *** زمني فكان السجن منه ثوابي

لا تخش في حقي بما أمضيـتـه ****من ذاك في، ولا توق عتابي

لم تخط في أمري الصواب موفقاً **** هـــــذاجزاء الشاعر الكذاّبِ

و ابن الرومي ( ت 283 هـ ) قد تجرأ في لحظات سخط على هجاء السيد البحتري بقصيدة بائية مطولة ( 86 بيتاً )، منها:

البُحْتُريُّ ذَنُوبُ الوجهِ نعرفُـــــــهُ **** وما رأينا ذَنُوبَ الوجه ذا أدبِ

أَنَّى يقولُ من الأقوال أَثْقَبَهَـــــــا**** من راح يحملُ وجهاً سابغَ الذَنَبِ

أوْلى بِمَنْ عظمتْ في الناس لحيتُهُ * من نِحلة الشعر أن يُدْعَى أبا العجبِ

وحسبُه من حِباءِ القوم أن يهبــــــوا *****له قفــــاهُ إذا ما مَرَّ بالعُصَبِ

ما كنت أحسِبُ مكسوَّاً كَلحيتــــــه ***** يُعفَى من القَفْدِ أو يُدْعى بلا لقبِ

الله الله يا ابن الرومي، كم أنت مسكين في حياتك البائسة:

 هذا الكلام لا يصل إلى باب بيتكم، و لا إلى باب جيرانكم الأحدب، ولما سمع البحتري هذه الملحمة الهجائية الرومية بحقه، كل ما فعله بعث إلى ابن الرومي تخت طعام وملابس، وبه كيس دراهم، ووضع بداخل التخت ورقة، تحمل بيتين من الشعر، تقول:

شاعرٌ لا أهابهُ *** نبحتني كلابهُ

إنّ من لا أحبّهُ ****لعزيزٌ جوابهُ

هذا هجاء مقذع بما فيه من ألم نفسي، وعقاب للذات الشاعرة، وقد سبق ابن الرومي ابن الزيدون بهذا المعنى، إذ يقول:

إذا ما مدحتُ المرءَ يوماً ولم يثبْ *** مديحي، وحقّ الشعر في الحكمِ واجبُ

كفاني هجائيهِ قيـــــــامي بمدحهِ ****خطيباً، وقول النـــــــاس لي أنت كاذبُ

وابن الرومي مثله مثلي، قد يكرر نفسه أحياناً لتأكيد المعنى، إذا ارتأى مرّ عابراً، وهذه ما تسمى بظاهرة التعويض في الأدب، مهما يكن قال في مكان آخر:

كلُّ امرئٍ مَدَحَ امرَأً لِنَوَالِهِ*****فأطال فيه فقد أراد هجاءَهُ

 نعود للبحتري، والعود أحكم !! أمّا الفخر فالبحتري قليل الفخر، وهذا أمر يخصّه شخصياً - ربّما لأنه جليس المتوكل، وما أراد أن يؤلب على نفسه، أحقاد الخلفاء ومن حولهم، وهذا عقل وحكمة - و إنْ كان الرجل يزهو بنفسه مترنحاً متمايلاً عند الإلقاء، ولله في خلقه شؤون، والحديث شجون وشجون!!

 يبقى لدينا - من الوصية - المدح للسادة النجباء، والزعماء والخلفاء، فالرجل يترك للرجل اختيار الألفاظ، فلكلّ مقام مقال، ولكلِّ جسدٍ مقدار، ولكن لابدّ من إشهار المناقب والفضائل والمعالم بإنتقاء الألفاظ الحسنة، وتنضيد المعاني الخيرة دون غلو ٍمحرج، ولا لبس ٍمزعج باجتناب تأويل المعنى المجهول الذي تمتطيه الظنون لتقلب المدح ذمّاً، والخير شرّاً، ومن أراد أنْ يستأنس برأيٍ آخر في توجهاته عن الوصية عليك بمقالة الدكتور عبد الكريم محمد حسين (3)

 ومن هنا نفهم تمام الفهم أن جذور تبعية الثقافة للسياسة، والقلم للسيف في بلاد العرب منذ العصر الجاهلي حتى يومنا الحالي، فلا عجب أن نرى أبا تمام ينصب السيف على صدر مطلع قصيدته الرائعة إبان فتح عمورية المعتصم...!!، رغم تفهمي للبيت الذي ورد في المكان المناسب، والزمان الملائم، ولكن يبقى السيف سيفاً، وتبقى الكتب!!:

الـسَيفُ أَصـدَقُ أَنـباءً مِنَ الكُتُبِ *** فـي حَـدِّهِ الـحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ

ومثله ذهب المتنبي في رفع شأن مجد السيف الخامد على حساب مجد القلم الخالد:

حتى رجعتُ وأقلامي قوائلُ لي *** المجد للسيفِ ليس المجدُ للقلم ِ

ولا أخالك تحسب إن السيف في كلا البيتين موجهاً للداخل، كما هو الحال في أيامنا البائسة، وإنما للدفاع عن الأوطان ، وحفظ كرامة الإنسان، لردّ الضيم بالضيم، وهكذا كان ردّ وا معتصماه في عصر الأقوياء...!!

 ومهما يكن من أمر، فكرة الخوف من سلطة السيف والتهيب منه مختمرة في عقول سلاطين القلم ...!! وإنّ أبا تمّام بقى تابعا لسيف معتصمه، بل أوصى تلميذه الانتهازي المسكين البحتري - وما هو بمسكين ...!!- أن يسلك الدرب نفسه، وليترك معاصره البائس ابن الرومي إلى جهنم وبئس المصير ...!! لذلك لا تتعجب من البحتري أن يجيب ابن الرومي بالبيتين السابقين (شاعرٌ لا أهابه ...)، والتخت وكيس الدراهم الصدقة!!

والمتنبي (ت 354 هـ) ظلَّ تابعاً في مسيرته لسيوف سيف دولته وكافور أخشيده وعضد دولته ... وإلا ما هو تعليلك لقوله في مطلع قصيدة، تُعد من أروع قصائده:

واحَرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِـمُ ***وَمَن بِجِسمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ

مالي أُكَتِّمُ حُبّاً قَد بَرى جَسَدي** وَتَدَّعي حُبَّ سَيفِ الدَولَةِ الأُمَمُ

 إِن كانَ يَجمَعُنا حُــــبٌّ لِغُرَّتِــــهِ ****فَلَيتَ أَنّا بِقَدرِ الحُبِّ نَقتَسِمُ

هذ ه الأبيات قد تبعث على التخيل، أنّها مؤلمة للكرامة الإنسانية، لأنّها جاءت من مأمورٍ لأمير، وليس من صديقٍ قادرٍ مقتدر لصديقٍ يقف معه على قدر الاستواء والمنصب، والأمر والنهي ، ولكن هذا - أيضاً - يجب أنْ لا ينسينا أنَّ المتنبي نفسه انتفض على المتنبي قوله، فقلب الطاولة على الأمير وجلسائه بعد عدّة أبيات:

يا أَعدَلَ الناسِ إِلّا في مُعامَلَتي **فيكَ الخِصامُ وَأَنتَ الخَصمُ وَالحَكَمُ

 أُعيذُها نَظَراتٍ مِنكَ صادِقَــةً ***أَن تَحسَبَ الشَحمَ فيمَن شَحمُهُ وَرَمُ

 وَما اِنتِفاعُ أَخي الدُنيا بِناظِرِهِ ****إِذا اِستَوَت عِنــدَهُ الأَنوارُ وَالظُلَمُ

 سيعلُم الجمعُ ممن ضمَّ مجلسُنا ****بأنني خيـــرُ مــن تسعى به قَدَمُ

 أَنا الَّذي نَظَرَ الأَعمى إِلى أَدَبــــي**** وَأَسمَعَت كَلِماتي مَن بِهِ صَمَمُ

 الخَيلُ وَاللَيلُ وَالبَيداءُ تَعرِفُني*** وَالسَيفُ وَالرُمحُ وَالقِرطاسُ وَالقَلَمُ

كرامة ما بعدها كرامة، ثأر المتنبي العظيم لنفسه، والقصيدة - كما أرى - ولدت هكذا دون تصنعٍ أوتكلف، وإنّما خلجات نفس إنسانية كبيرة، تمتزج فيها تيارات الطبع والتطبع، والثقافة المكتسبة، وتجارب حياة عصرها بكل مثالبها ومحاسنها، ولا أقول بما يُقال: إن سيف الدولة سخط على المتنبي من هذا الشموخ المرتفع بعد مطلعٍ مرتجف، فرأى فيه اضطراباً نفسياً، أو سلوكاً غير سوي من المتنبي، والمتنبي قد عوّده - لكلّ امرئٍ من دهره ما تعوّدا - أن يفخر بنفسه، ويشمخ في كلّ قصائده التي مدحه فيها، أو قد تأثر هذا (السيف) بما ألّبه عليه مَن في المجلس، فرماه بدواة، وشقّ فمه، فارتجل المتنبي هذا البيت:

 إِن كانَ سَرَّكُمُ ما قالَ حاسِــدُنا ****فَمــا لِجُــــرحٍ إِذا أَرضــــاكُمُ أَلَــمُ

كلّا هذه الرواية - على أغلب ظنّي - موضوعة، ولا أساس لها من الصحة، لا الأمير يفعلها، ولا المتنبي يقبلها، بدليل عندما توفيت خولة أخت سيف الدولة (352 هـ)، نظم في حقّها قصيدة رائعة، وأرسلها إليه من الكوفة - وكان قد رجع من مصر - من أبياتها الشهيرة:

 يا أُخْتَ خَيرِ أخٍ يا بِنْتَ خَيرِ أبِ ** كِنَايَةً بهِمَا عَنْ أشرَفِ النّسَبِ

أُجِلُّ قَدْرَكِ أنْ تُسْمَـيْ مُؤبَّنَــةً ***وَمَنْ يَصِفْكِ فَقد سَمّاكِ للعَــرَبِ

غدَرْتَ يا مَوْتُ كم أفنَيتَ من عدَدٍ * بمَنْ أصَبْتَ وكم أسكَتَّ من لجَبِ

وكم صَحِبْتَ أخَاهَا في مُنَازَلَــــةٍ ***وكم سألـتَ فلَمْ يَبخَلْ وَلم تَخِبِ

طَوَى الجَزِيرَةَ حتى جاءَني خَـبَرٌ ****فَزِعْتُ فيهِ بآمالي إلى الكَذِبِ

حتى إذا لم يَدَعْ لي صِدْقُهُ أمَلاً **شَرِقْتُ بالدّمعِ حتى كادَ يشـرَقُ بي

لو كانت ضربة الدواة، لما ولدت هذه القصيدة المعاناة، ولله في خلقه شؤون وشؤون، والحديث شجون وشجون وشجون ... لعلكم تتذكرون...!!

 

كريم مرزة الأسدي

.....................

 (1) (في محاسن الشعر وآدابه ونقده ): ابن رشيقٍ القيرواني، تحقيق . محمد محيي الدين عبدالحميد، ط 4، 1972م ج2، ص 114 - 115 - دار الجيل . وراجع: ج1 ص 152 زهر الأداب.

 (2) (محاضرات الأدباء): الراغب الأصفهان - 1 / 175 - موقع الوراق - يذكر البيتين، وقبلهما (عبدان) فقط دون ذكر اسم أبيه ولقبه.

 (3) راجع للتفصيل مقال " وصية أبي تمام للبحتري" الإسناد والتوثيق، الدكتور عبدالكريم محمد حسين، المجلد 19، العدد (3، 4)، 2003، ص: 21 - مجلة جامعة دمشق.

 

سياسات ترامب وإنفصام أمريكا

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمد مسلم الحسيني

محمد مسلم الحسينيينفصم العقد حينما يتقطع وينحل وتنفصم شخصيّة الإنسان حينما يتشوش عقله ويفقد توازنه وتواصله بواقعه حيث يدخل حالة الوهم، وتنفصم المجتمعات حينما تنقسم على نفسها وتسقط في ضالة الإستقطاب والتمحور على أطراف الخير أوالشر والصح أوالخطأ. يحصل الإنفصام بشكل عام تحت تأثير حوافز ومسببات داخليه وخارجيه تتباين في شدتها وميكانيكية تأثيراتها. أهم أسباب إنفصام المجتمع وتحلله وتمحوره وإضطرابه هو إنحراف قادته وأولياء الأمر فيه.

منذ تولى الرئيس الأمريكي " دونالد ترامب" زمام الحكم والمسؤوليه في الساحة السياسيه الأمريكيّه، بل ومنذ حملته الإنتخابيه التي سبقت ذلك، أظهر هذا الرجل، ومن خلال خطاباته المثيره للجدل وشعارات المغالاة والتعصب التي أطلقها، طبيعة سياساته وإراداته وأفكاره التي بنيت على أسس العنجهيه السياسيه والعنصريه والأنانيه المرضيّه وجنون العظمه وقلب الحقائق ونقض المواثيق والأعراف. هذه السيره ورغم إستقطابها للكثير من الشرائح الأمريكيّه غير أنها حفزت حالة الرفض والإستنكار والتذمر عند الغالبيه. المبالغه في جوهر التصرف الذي إنتهجه "ترامب" شجع على خلق حاله من الإستقطاب والتمحور في آراء الأمريكيين مما خلق هوّه تتسع يوما بعد يوم بين أنصار الحزبين الرئيسيين في أمريكا وهما الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري. هذا التمحور إتسم ببث حالة عدم الثقه بين الحزبين ونشر بذور الكراهيه والحقد!

خلال دراسه بحثيّه قام بها حديثا المركز غير الحزبي للإستطلاع الإنتخابي الأمريكي المسمّى بمركز " بيو" للدراسات والأبحاث، أظهرت نتائجه المستقاة من آراء (9895) ناخب أمريكي بأن أكثر من نصف الجمهوريين يعتقدون بأن الديمقراطيين عديمو الأخلاق وأقل من نصف الديمقراطيين بقليل يعتقدون بأن الجمهوريين عديمو الأخلاق! بينما يعتقد أكثر من 60 بالمئه من الجمهوريين بأن الديمقراطيين غير وطنيين، في حين يرى ثلاثة أرباع الديمقراطيين بأن الجمهوريين متعصبون ومنغلقون على أنفسهم. كما بينت هذه الدراسه بأن غالبية الأمريكيين يشعرون بأن الفوارق بين الحزبين صارت واسعه وكبيره الى الحد الذي جعل أكثر من 80 بالمئه من الأمريكيين يشعرون بأن الأمر أصبح مدعاة للقلق وأن الخلافات صارت شعارت تفرقه ناريه قد تخرج عن نطاق السيطره بين الحزبين! هذا القلق لا يدعو لتخفيف التوتر بين الطرفين بل أن كل طرف ينظر بعين الغضب والإشمئزاز لسلبيات الطرف الآخر وإن كان الديمقراطيون أقل تعصبّا في هذه النظره من الجمهوريين.

قبل مجيء "ترامب" للحكم لم يكن التمحور بهذه الصوره ولم يكن الإشمئزاز والتذمر بين الحزبين قد وصل الى حالة الكره العميق والإتهام بخرق الوطنيه، إنما يلتزم كل حزب بآرائه ورؤاه دون أن يطعن برؤى وسيرة الحزب الآخرأويتهمه بالضلالة والخيانه. الديمقراطيون إعتمدوا على ركيزة التنوع العرقي وعدم الإكتراث بالتقاليد الدينيه والأعراف الجنسيه التقليديه وإنتهجوا سياسة التساهل مع المهاجرين وحازوا على إستقطاب الناخبين من سكان المناطق الحضريه والساحليه في أمريكا. بينما كان توجه الجمهوريين على عكس ذلك، فهم من العرق الريفي الأبيض المحافظ الذي يخشى هجرة الأجانب ويخاف النخب الحضريه. وهكذا ورغم إختلافات الرؤى بين الحزبين فأن ثلثي الأمريكيين لا يرون وجود لفوارق حقيقيه واسعه بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري في العقود السابقه على عكس حال هذا اليوم.

أهم الأسباب التي حركت روح الإنفصام في المجتمع الأمريكي هي سياسات ترامب المتطرفه والغريبه في شؤون عديده وأهمها: النهج الدكتاتوري المتمثل بسياسات التمسك بالسلطه وخرق الدستور والقوانين والأعراف ومحاولة سحق الرأي الآخر. أشارت أفعال "ترامب" ومنذ تسلمه الحكم، الى تحوّل خطير في السياسه الأمريكيه المعتمده وذلك حينما عادى وتجاهل أسس الدوله العميقه المتمثله بالسلطه القضائيه ومراكز الأمن كالـ ( أف بي آي) و (سي آي أيه) وقادة الجيش والإعلام وغيرها.  تخليه عن الحلفاء والأصدقاء الكلاسيكيين من الأوربيين وغيرهم وتقربه ممن كانوا يعتبرون أعداءا تأريخيين لأمريكا أمثال روسيا ورئيسها "فلاديمير بوتين"  وكوريا الشماليه ورئيسها "كم جونغ أون". سياساته في البحث عن مصادر التسقيط لغرمائه السياسيين الأساسيين وخصوصا تلك التي بحث ويبحث عنها في دول خارجيّه كروسيا وأوكرانيا والتي تعتبر سابقه ليس لها مثيل من قبل!. ميوله العنصريه وتصريحاته بين الحين والحين بهذا الشأن وأفعاله اللاإنسانيه ضد المهاجرين. محاولاته المحمومه في إلغاء قوانين شرعت من قبل في الرعايه الصحيّه وسبل معالجة متطلبات المناخ. سياساته المخالفه لتطلعات العالم في التجاره الحره من جهة وإخلاله بالمعاهدات العالميه والمواثيق الدوليه من جهة أخرى. كل هذه الأمور وغيرها لم تغضب الشريحه الكبرى من المجتمع الأمريكي وحده فحسب إنما أغضبت الحلفاء والأصدقاء في الخارج قبل الأعداء والمنافسين. رغم كل هذه السياسات غير المألوفه والأخطاء الستراتيجيه والفضائح التي إرتكبها ويرتكبها دونالد ترامب، بقيت قاعدته الصلبه في المجتمع الأمريكي والمتمثله بالبيض المحافظين والمسيحيين الأنجيليين متماسكه ومخلصه له! وهذا ما حفز حالة الإستقطاب والتمحور والإنفصام في كيان الهرم الأمريكي.

في بدايات أيام حكم "ترامب" حذر السناتور الجمهوري الأمريكي الراحل "جون ماكين" من خلال وصيّته التي كتبها للأمريكيين قبل وفاته، قال فيها بأنّ : " على الأمريكيين ألآ يتخندقوا خلف الأسوار ولا يستسلموا للقبليه السياسيّه"، حيث كان القصد مفهوما من وصيّته التي يعني فيها مخاطر الإنزلاق صوب الإنقسام بسبب السياسات المتطرفه التي إنتهجها "ترامب" منذ بداية عهده. وهكذا فقد حصل ما كان يخشاه، حيث إتجه الجمهوريون صوب اليمين المتطرف وأغمضوا أعينهم وسدوّا آذانهم عن مقالب "ترامب" وخطاياه وبقوا يناصروه ظالما ومظلوما. هذا الموقف العنيد من الجمهوريين  دفع بعض الديمقراطيين،  وكردة فعل معاكسه، صوب أقصى اليسار!. هذا الإستقطاب والتمحور الواضح  بين الحزبين بدأ يقوّض مبدأ ومنهج الحزبين المتبع عبر مسيرة التأريخ الأمريكي وقوّض أسس وحدة الشعب المألوفه وخلق إنشقاقا مجتمعيّا يتزايد حجمه مع الزمن!

أهم علامات الإنفصام في المجتمع الأمريكي المتماسك هو إنقسام الرأي بصلاحيّة "دونالد ترامب" في حكم البلاد، حيث لم يستطع بعد فوزه بزمام الحكم أن يوحد شعبه خلفه فبقى رئيسا لمناصريه دون الآخرين! فوزه في إنتخابات عام 2016م كان مفاجأة للجميع حيث أن السواد الأعظم من إستقراءات الرأي كانت تشير الى فوز غريمته بالإنتخابات "هيليري كلنتون"! . حينما تبينت تفاصيل التدخل الروسي في روح الإنتخابات، بدت خيبة الأمل عند الديمقراطيين واضحة جليّه حيث يرون بأن السلطه قد سحبت من تحت أقدامهم وأن الرئيس "ترامب" يعد رئيسا غير شرعيّا!. الملاحقات القضائيه التي أجراها  المحقق الخاص "روبرت مولر" وما تمخض عنها، إضافة الى قضايا التحقيق الأخرى التي لاحقت وتلاحق "ترامب" في شؤون مخالفات دستوريه وقانونيه وسياسيه وأخلاقيه مستمره وخصوصا فضيحته الأخيره مع أوكرانيا في البحث عن خطايا لغريمه الديمقراطي الأبرز في إنتخابات عام 2020م "جون بايدن"، خلقت جوا متشنجا بين أنصار هذا الرئيس ومناهضيه وصلت حد التصادم. الدفاع المستميت لأنصار "ترامب" عنه والرفض القاطع لمناهضيه له بسبب تخطيه للحدود الحمراء في السياسه الأمريكيّه وتقاليدها، خلق جوا متشنجا بين الطرفين حد التحدي مما يوحي بأخطار لا يعرف مداها !

التطرف في أفكار المجتمع يصنعه في الغالب أو على الأقل يحفزه قادة ذلك المجتمع وأولياء أمره، وذلك بالضرب على أوتار حساسه تمس المشاعر والأحاسيس سواء كانت عنصريه الطابع أو عرقيه أو دينيه أو طائفيه أو إقتصاديه أوغيرها. إنقسام المجتمعات وتفككها ظاهره ليست جديده في التأريخ حيث لعب الساسه في داخل المجتمع كما لعبت جهات خارجيه سواء كانت قوى أو حركات أو دول أدوارا هامه في صنع حالة التفكك والإنقسام في المجتمعات.  لعبت أمريكا  دورا كبيرا في تمزيق الشعوب وتفكيكها من خلال تغذية وتحفيز وإثارة النعرات والتباينات الإجتماعيه والسياسيه في كثير من دول العالم خدمة لمصالحها وإراداتها السياسيّه والإقتصاديّه. أمريكا هي من تعاني اليوم من هاجس الإنقسام والإنفصام بسبب قائد متعصب متطرف ساعدته تدخلات أطراف خارجيه للوصول الى سدة الحكم، فهل يدور التأريخ حول نفسه! أم أن السحر قد ينقلب على الساحر؟ وهل مدنيّة أمريكا وعظمتها في طريق الإنهيار أم أن حكماء السيّاسه الأمريكيّه سيتصدون ويصححون المسار في نهاية المطاف!؟ هذا ما سنشهده في قابل الأيام ......!

 

د. محمد مسلم الحسيني - بروكسل

 

الرومانس في الديوان الشعري: أناشيد زورق للشاعر جميل حسين الساعدي

التفاصيل
كتب بواسطة: جمعة عبد الله

جمعة عبد اللهموهبة شعرية فرضت نفسها على الواقع الثقافي والادبي، في موهبته الشعرية المبكرة جداً. وهو يافع يخوض تجربة غمار الشعر في موهبته الابداعية  الاصيلة. التي تحمل في طياتها جمال الاصالة والشفافية  الشعرية. ومنذ ذلك الوقت، وهو يبحر في  غمار الشعر في تجربته وخبرته الطويلة. التي تجاوزت  خمسة عقود من الزمن .. وقد اصدر من خلالها اربعة دواوين شعرية. والكثير من القصائد، التي لم توثق في دواوين شعرية اخرى. وهذه الدواوين الاربعة هي:

1 - الديوان الاول (اللواهب) عام 1975

2 - الديوان الثاني (رسائل من وراء الحدود) عام 1980

3 - الديوان الثالث (أناشيد زورق) عام 2005

4 - الديوان الرابع (طقوس) عام 2006

كما اصدر رواية باللغة الالمانية. رواية (تركة لاعب الكريات الزجاجية)

ونتناول في هذه المقالة. التي هي بمثابة استكشافات في عمق الرومانسية العذبة والشفافة واستبطان جماليتها، من خلال ديوانه الثالث المعنون (أناشيد زورق). في عوالمه الرومانسية. بالمشاعر الملتهبة والجياشة. والديوان الشعري، يأتي ضمن انجازه الشعري الطويل في تجربته المتألقة، التي تتميز بأسلوب متفرد وجاد، وتملك لونا خاصا في تناول العالم الحالم بالرومانسي المحبب والجميل في مشاعره الجياشة، في احاسيسه المرهفة والملتهبة من اعماق الوجدان. ويتميز شعره الرومانتيكي في صياغة جمالية الاحساس بالمشاعر التي تبحر في بحر العشق والهوى والهيام , يطوف فيها في كل المحطات والمرافئ , وفي تقلباتها العاصفة  . في  جراحها ومعاناتها، لكنها لاتدلف الى مناقب النوح والبكاء. رغم المحنة والعذاب في الحب والعشق، الذي يتلاعب بمشاعر القلب والوجدان. ان قصائده الشعرية، تمتلك آفاقا واسعة وخصبة في عشبة الخيال الرومانسي الخلاق والمتوهج . وهي ليست محض خيال صرف. وانما تملك تجربة حياتية  صادقة، ومعايشة فعلية. تملك ارضية واقعية في التناول في خوض تجربة  الحب والعشق. في الهوى والهيام، في طينة الحب الجياش الصادق الذي يفور في الضلوع، أن قصائده ليس للاستهلاك الرومانسي العابر والمستهلك . بل أنها منفلتة من اعماق الوجدان ونبضات  القلب في خفقانه  . في العشق الذي يجري نبضاته في العروق والشرايين. يقدمها في هالة الشعور الرومانتيكي. في اطار شعري حديث في الصياغة  الفنية المتمكنة من تقنياتها  المتطورة . التي تشد القارئ اليها، وتجعله يبحر في الرؤى الرومانتيكية بكل الشوق والاشتياق في حواسه المرهفة   . ويتعاطف وجدانياً مع الشاعر. الذي ترجم مشاعره الصادقة والحساسة في رؤى الشعر. التي تعطي قيمة للحب والعشق، تعطي قيمة للمرأة الحبيبة، حتى في خصامها وخلافها وانفصالها عن رابطة الحب والعشق. فهو يمتلك مشاعر جياشة في الحب العذري، ولا ينزلق مطلقا الى الشبق الايروسي الملتهب. وانما يعطي قيمة معنوية لهالة الحب، في الحنين والاشتياق في العطش والظمأ الروحي. رغم معاناة  وشقاء قسوة الحياة، التي تجني على الحب الصادق الملتهب في مشاعره الجياشة. لنسافر في رحلة الديوان الشعري (أناشيد زورق) في بعض قصائده المختارة، التي تعطي الخطوط العامة لعالمه الرومانسي العذب .

1 ـ حين يهدر الحب فرصة التسامح والتصالح:

ويقود آفاقه الى مجاهيل مسدودة. ليس لها إشراقة حياة  وبسمة أمل، من الشوق والهوى، وانما تجعل سماء الحب، ملبدة بالغيوم بالرعود والبروق . حيث التشاجروالخصام والمناطحة في الفراق ، في العواصف الهائجة، التي تفضي الى هجرة الحب وسد ابوابه. لكنها في نفس الوقت تفتح باب الجراح بالفراق والهجر. ولا تختار طريق الندامة، ولاترجع الى مسالك الحب الصافية، الحب ليس هو  التلاعب بالعواطف ,  التي تقود الى أطفاء شعلة وشمعة الحب ، فهذا الطريق والاختيار مرفوض , لا يحمل سوى الندم .

إني أنتظرت بأن تعودي نادمة                    لكن رجعتِ كما السماء القاتمة

مزروعة بالرعدِ والامطار تنْ...               تفضين في وجهي زوابع ناقمه

ان تعصفي مثل الرياح وتعبثي                   بعواطفي أو تعودي غائمه

هذا الخيار رفضته ورفضت أن                   أحيا بغير مشاعري المتناغمه

..........

لا لنْ يغامر من جديدٍ زورقي                     حيث العواصف والسماء الغائمه

إني عرفت البحر في هيجانه                       واخاف من امواجه المتلاطمة

لا تذكري الماضي فقد ودعته                      لا توقظي في الجراح النائمه

2 ــ حكاية الحب

 مغامرة الابحار في سفينة الحب، تتطلب السفر الدائم للعاشق المغامر، ان يجد عشبة الحب المشتهاة. حتى تكون بلسماً لهمومه النازفة، فهي البلسم الشافي، ليجد روضته الزاهية، ليسكر من نبيذ وخمرة  الحب والعشق الى حد الثمالة. ولكن يتطلب ذلك الوفاق والانسجام والوفاء. لا ان يتخذ من الحب ساحة لتصفية الحسابات، فالحب النقي والصادق، هو اكبر من كل تصفية  للحسابات. واذا تحول الى هذا الطريق، فإنّ ذلك سيتسبب في افساد درب الحب  ,فإنّ صب الزيت سيحرق الهيام والهوى، ليتحول الى رماد وفحم. ان ازهار العشق تتطلب المياه النقية الجارية من اعماق القلب. تتطلب الهواء النقي،لا الهواء المشبع  بالحماقات في تذكر الماضي وجراحاته النائمة

لا تفســــــدي بحسابٍ صفْــوَأوقـــاتي                             فالحبُّ أكبرُ من كلِّ الحســــــاباتِ

دعي المشــــاعرَ تجري من منابعها                               طوعاً فلا تحبسيهـــا بانتقـــــاداتِ       

لا تنبشي في الذي قدْ فاتَ مِنْ عُمُري                           ولا تعيدي على سمعــي حكاياتـــي

والذكريات دعيها فــــــــــي مخابئها                            مدفونـــــةَ معَ أحزانـــي وآهــــاتي

طويتُ صفحـــةَ أسفاري فلا تسلـــي                            كمْ كُنتُ أعرفُ قبلاً مِنْ محطّـــاتِ

لا تسكبـي الزيتَ في نارٍ قد انطفأتْ                            إلّا قليلاً فــذا إحـــدى الحماقــــــاتِ

إنّي أعيشُ ليومي ... حاضري عُمُري                            فلستُ أهتــمُّ بالماضيولا الآتــــي 

3ــ الحب من أول نظرة   

الحب المتلألأ  في سحر العيون، المتعطشة للهوى والهيام. تبرق في بريقها الجذاب. لكي تلهب عواطف القلب والوجدان. ليهيم في بريق العيون ونورها المشع. لترسم جنينة في روضة  الهوى والاشتياق، لترسم بريشتها الاحلام الوردية. لتفتح الطريق لرحلة العشق، ليسكر بطعم حلاوة الحب. لتذوب العواطف، في المشاعر الجياشة، لتذوب في سحر العيون البراقة في الهوى والهيام. ليجد مرفئه الحاني والموعود.

ذبتُ في حُبكِ من أول نظره                     وفؤادي لم يعد يملك أمرهْ

مذ أن أبصرت عينيكِ  وبي                     لهفة تلهبُ أعماقي كجمرهْ

ذهب الشوق بصبري كله                      آه لو أملكُ من أيوب صبرهْ

سكن الحب عروقي كلها              صار يجري في دمي في كل قطرهْ

أن في عينيك سحراً نافذاً                     أتقنَ الساحر في عينيكِ دورهْ

كل شيءٍ صار شيئاً اخراً                    في عيوني اصبح العالمُ غيرهْ

4 ـ أغنيات الحب

الحب الذي يلهب اعماق الروح. ويتمرغ في انغامه واناشيده العذبة، التي تعزف بلحن العشق والغرام، يتلألأ في سحر العيون الناظرة. التي تسرح وتمرح في آفاق الهوى، لتطفيء شعلته المتوهجة في خلجات الفؤاد، تعجز الكلمات عن الوصف والتصوير. في بريق اغاني العشق التي تموج وترقص على لحن الشوق والاشتياق. فالحب اسمى من كل الاشياء، وفوق كل الاشياء. وتذوب فيه كل الاشياء. فهو المبتغى والمنشود، وتطير به الروح رقصاً وطربأً واغاني يتسامر بها العشاق

أصبحت أجمل أغنياتي كلها                   توحي بها عيناكِ والبسماتُ

غنيتها فترددت ملء الفضا                   والى المجرة طارت النغماتُ

لا تسأليني كم احبكِ ليس لي                     كيلٌ أكيلُ  به ولا أدوات

فلتعذري لغتي اذا هي  قصرت           هل تحصرُ الحب الكبير لغاتُ

أني أحبك ِ فوق كل معدل                          حباً به تتحدث النجماتُ

تشدو به الاطيارُ  فوق غصونها              وتحدّثُ الركبانُ والفلواتُ

نشرت على الدنيا حكاية حبنا                 فلها جميع الكائناتِ رواةُ

الليلُ كم ضحكت شواطئه لنا                وتراقصت لغنائنا الموجاتُ

5 ــ المخادعة في الحب

لاشك ان الظنون والشك والمخاتلة في الحب، والتردد والتذبذب والمخادعة، والضحك على عواطف القلب. تجعل الحب يموج في المراوغة والخداع، تجعله في حالة من فوضى العواطف،  في هيجانها المتضارب والمتنافر والمخادع. فتتحول رؤى العشق والهيام الى مكيدة ومهزلة. لا تجلب سوى الاسى والحزن والآهات. يصبح  الحب ضربا من اللعب على الكلمات، ويتحوّل إلى عواطف كاذبة، سرعان ما تتبخر فتنطفيء نار الحب. فما اقسى الحب اذا اختار هذا الطريق.

  إن قلتها وتحركتْ شفتاكِ                     أهواكَ) لست بقائل (أهواكِ)

لا لست ناطقها فما الجدوى إذا                     مرّت بأذني كاذبٍ أفّــاكِ

 عيشي لوحدكِ واشربي نخب الهوى                  كذباً فأني كاره لقياكِ

ما عاد قلبي للخداع مصدقاً                       فلتتركيه فقد صحا وسلاكِ

في الامس كنت أراكِ قلباً حانياً                 فأقولُ كالمسحور ما أحلاكِ

فأذا ضحكتِ فكل شيءٍ ضاحك                  وأذا بكيتِ فكل شيءٍ باكِ

واليوم إذ ألقاك ِ يعصرني الاسى               فأصيح كالملدوغِ ما أقساكِ

أنا قد بعثتكِ من رمادِ جذوةً                    وأحلتُ  شيطاناً لوجهِ ملاكِ

وفمي الذي سواكِ لحناً ساحراً                   في كلَّ مقهى عامرٍ غناكِ

***

جمعة عبدالله

 

ما مغزی جوائز (المثقف) السـنوية؟

التفاصيل
كتب بواسطة: عبد الغني عطية

صحيفة المثقفمما لاشك فيه ان موجة الطغيان المادي و الثراء الفاحش في بلد کالعراق و أكثر البلدان العربية الاخری رافقه فوضی سياسي مما أدی الی خروج زمام الامور من تحت السيطرة، من فك الرابط الاجتماعي الی فساد اداري و اقتصادي و تدني المستوی الثقافي ومن ثم تدهور المناخ والصحة  وهكذا دواليك.. ومن بين تلك الرکائز الضائعة: الجانب المعرفي و الثقافي لأكثرية الناس، وهذا ما يؤدي الی قتل بطيء لروح الحياة عند الناس، لأن التغير المادي عند فئة محددة من الناس سيصيب الاغلبية بنفس الداء، مع انهم لا يستطيعون الوصول الی مستوی هذه الفئة السلطوية الباغية الفاسدة الا انهم يبذلون کل جهودهم في هذا المنوال، عندئذ يحدث الطامة الکبری و يختلط الحلال بالحرام، العدل بالظلم، والانسانية بالوحشية.. الا فئة قليلة من الناس يحافظون علی أنفسهم و لا يتغيرون بتغير الظروف.

عن طريق هذه المقدمة أريد الدخول الی لب موضوع مهم للغاية في حين لم أری أحدا يتحدث عنه، الا وهو قراءة لعملية تکريم بعض المشارکين من الكتاب في موقع (المثقف) في نهاية السنة الماضية، تکريما و تتويجا بجوائز معنوية بعد دراسة معمقة لمشارکاتهم و ابداعاتهم  الثقافية في هذا الموقع، بل استطيع ان اسميه بـ : هذه "المؤسسة الثقافية الفکرية" بدلا من حصره في موقع "المثقف"، لأنه لا يقتصر علی نشر المساهمات في حقل اعلامي فقط علي الموقع، بل له‌ تطلعات أكثر من ذلك بكثير، منها نشاطات خارج الموقع، تنظيرات مختلفة في مجالات شتی، الطباعة الورقية لکتب و مطبوعات اخری، شمولية  التعاطي مع المستجدات علی نطاق واسع من العالم العربي و العالمي، والاهم من ذلك احتفاظه بحياديته و عدم انحيازه الی أي من الاحزاب السياسية والجماعات الطائفية والذين صاروا بلوی علی الناس، فلو ألقينا نظرة علی هذه الخطوة لنری فيها البعد الشمولي والتطلع الواسع والتعامل اللازم مع التطورات، وكل هذا يمکن ان يکون برهانا ساطعا علی انجحية جهد النمط التفكيري الايجابي والتعاطي مع الواقع بطريقة لم تسبق لها المثيل، و التواصل النوعي للنخبة بالمشارکات من الاخذ والرد في جميع انحاء العالم دليل علی صحة هذا القول.

لكن هنالك دلالات أخری لهذه التسمية و عملية اختيار و تتويج الفائزين بجائزة المثقف السنوي، نلخصها في النقاط التالية:

* فهي اعطاء و استرجاع لدور الکلمة في حياة الناس و اقرار بفاعلية التغير عن طريقها.

* صحيح انها جائزة معنوية لكن لها وقع أكبر علی النفوس والواقع من الجوائز المادية، والتي صارت هذه الايام في أيادي غير نظيفة، وهي كارثة ان لم ترافقها الفهم والفکر والمعرفة.

* تظهر درجة و مدی الرقي والنبوغ عند المشرفين والاداريين في (المثقف) بحيث لم يتخلفوا عن التقدم الحضاري والاسلوب العصري للدول المتقدمة في ابداء التقدير والاعتزاز للمبدعين مابينهم.

* مع انه لا يکلف شيئا لکنه يحتاج الی عمل دؤب و فهم و تقيم  لنتاجات سنة کاملة من الابداع في المجالات الشتی.

* تشجيع الناس واسترعاء انتباههم الی ميادين العمل الجدي و تركيز الاهتمامات الی جانب منسي بالغ الاهمية، الا و هي روح الانسان و قطف ثمرة طرق تفكيرهم الصحيحة، اذ ان الواقع ليس الا اشعاع لهذا العالم الباطني الذي يبنی عليه الشخصية الحقيقية للأنسان.

* تحفيز و تسهيل و تتويج للتنظيرات والدراسات والقراءات الجديدة المعاصرة الخلاقة.

* کما انها ابراز لدور مؤسسة (المثقف) نفسها، و بناء نوع من الثقة بالنفس و عند الاخرين بها كذلك، كما تصلح ان تکون مرجعا ومرکزا أوسع في المستقبل وتؤثر علی واقع مجتمعاتنا من أكثر الاوجه، ويكون لها دور فعال في فصل الخلافات و وضع النقاط علی الاحرف کـ (لب ثقافي عالمي فعال).

 

عبد الغني عطية

.........................

للاطلاع

جوائز وشهادات

 

جائزة الإبداع

 

الخير والشر وعلاقتهما بالعدالة الالهية

التفاصيل
كتب بواسطة: حاتم حميد محسن

حاتم حميد محسنكان ابيقور اول من وضع الصياغة الاولى لمشكلة الشر او المشكلة المنطقية للتعامل مع الايمان بالله حيث كتب:"الله اما يرغب في ازالة الشر وهو غير قادر على ذلك، او هو قادر ولايرغب، او هو لايرغب ولا هو قادر، او هو يرغب وقادر. اذا كان الله يرغب وغير قادر على ازالة الشر فهو ضعيف وهذا ما لا يتفق مع شخصية الاله، واذا كان قادرا ولايرغب فهو حسود وهذا ايضا لاينسجم مع الله، اما اذا كان لايرغب وغير قادر فهو سيكون ضعيفا وحسودا في آن واحد، ولذلك فهو ليس اله. وفي حالة كونه يرغب وقادر فهذا وحده ملائما لله. فمن اي مصدر اذاً يأتي الشر؟ او لماذا لايزيله الله.

في القرون الاخيرة صاغ ليبنز (1646-1716) مصطلح العدالة الالهية (theodicy) (1) ليشير الى المحاولات المنهجية في الدفاع عن الايمان بالله في وجه الشر والمعاناة، كالحجج التي عرضها القس اوغستين. وفي السنوات العشرين الاخيرة، قام الملاحدة الجدد امثال ريتشارد دكنز بإعادة الحديث عن العدالة الالهية لتكون في موقع الصدارة، منتقدين اله الانجيل والآلهة الاخرى.

التعتيم على الشر

كانت هناك ردة فعل ضد ذلك النوع من النقاش الفلسفي الذي يجادل متأرجحاً، منتقدا ومدافعا عن مفاهيم معينة لـ لله في العلاقة مع مشكلة الشر. ردة الفعل هذه تأتي من فلاسفة هم انفسهم متدينون. تيرانس تلي (Terrance Tilley) مثلا، في كتابه (شرور الثيودسي) يكتب: "ان الممارسة العادية للعدالة الالهية الاكاديمية همشت واستبدلت وبالنهاية أسكتت اولئك المعبّرين عن الأسف، والداعين الى الله، المواسين للاحزان، والساعين عمليا الى فهم ومواجهة الأحداث والافعال والممارسات الشريرة. يمكن القول ان الثيودسي كممارسة خطابية انما تخفي الشرور الحقيقية بينما تستمر تلك الشرور في الإضرار بالناس" (تيلي، شرور الثيودسي).

لننظر في مسألتين مترابطتين بقوة في ادّعاء الكاتب أعلاه 1- ان الثيودسي تخفي طبيعة الشر الحاصل حقا في العالم. نضيف هنا ان الافكار المضادة للثيودسي هي ايضا مذنبة في هذا الشأن. 2- وفقا لما تتضمنه النقطة الاولى، فان النقاشات الفلسفية حول مشكلة الشر وعلاقتها بالاله هي شائكة لأنها تتجاهل الطرق الاخرى في التعامل مع الشر، وفهمها و مواجهتها. وبما ان هذه الطرق الاخرى ذات قيمة اخلاقية فهذه ستكون مشكلة اخلاقية.

النقطة الاولى هنا تتعامل مع الشر باعتباره متحولا من شيء ما يمارسه المرء الى ظاهرة الشخص الثالث(ادراك الناس الآخرين له). الحقائق الفيزيقية او السايكولوجية السيئة للناس الواقعيين تبتعد عنا عندما تصبح اشياءً او ملاحظات وتحليلات عقلانية."البُعد الفينوميلوجي" بين غرف التعذيب او معسكر Auschwitz النازي من جهة، وجماعات الفلسفة من جهة اخرى، تحتاج الى اعتراف اكبر اذا اردنا ان نكون صادقين في القضية. الاعتراف بهذا يستلزم القبول بان النقاش الاكاديمي يسهل عليه دائما تشجيع بعض عيوب الفهم الخطيرة. اذا كانت طبيعة النقاش حول مشكلة الشر تخفي طبيعة الشر ذاته، عندئذ فان الموقف يصبح اكثر سوءاً.هذا يعيدنا الى النقطة الثانية لدى تيلي بان النقاش بين الثيدوسيين ومعارضيهم يمكن ان يتجاهل انواع اخرى للخطاب، مثل القبول بالشر و مواجهته . كل من المناصرين والمعارضين للعدالة الالهية يمكن ان يكونوا مذنبين في هذا مع ان تيلي يركز على عيوب الفريق الأول. مثال حول هذا ذكره ريتشارد دكنز Richard Dawkins في "خداع الرب". فيما يتعلق بالمواجهة مع الفيلسوف المسيحي ريتشارد سونبرن Richard Swinburne، يذكر دكنز: "حينما كان في حوار تلفزيوني مع سونبرن وآخر من كلية اكسفورد البروفسور بيتر اتكنس. حاول سونبرن تبرير قضية الهيليكوست على اساس انها منحت اليهود فرصة رائعة ليكونوا شجعانا ومتسامين. أجاب بيتر اتكنس بصوت غاضب "ربما ينتظرك عقابا طويلا".(خداع الرب ص 64).

في ردة الفعل على ملاحظات سونبرن كانت المشكلة ليست في ان الفكرة غير منطقية (وهي كذلك)، بل في المعارضة الاخلاقية لسوء الفهم العميق والصمت والانفصال عن الموقف الانساني، الاندفاع للدفاع عن مفهوم معين لـ الله مع ترك الانسانية تغرق في حالة من الاحباط واليأس. سونبرن ربما يُتّهم من خلال ايمانه الوثني بتحويل المفاهيم الى شيء مقدس، وإقامة اماكن عالية للقرابين مع كل ما يقاسيه الانسان لأجل ذلك الهدف.

ان ما اظهره سونبرن حول هذه المسألة التي تحدّث عنها تيلي هو مدعاة للتساؤل. تفضيل الدفاع عن مفهوم الله على المشاركة العاطفية مع ضحايا الشر هو خيار مشكوك به اخلاقيا عند محاولة الدفاع عن الخير.

هذا الاتجاه من تفكير تيلي يمكن تطبيقه ايضا على معارضي الثيدوسية . معارضو الثيدوسية يرون انه من غير العقلاني الايمان بآله متسامح قدير في ضوء وجود الشر. هم احيانا يعرضون هذا كسبب لعدم احترام القوة التي تقدمها الصلاة والصيام والطقوس الدينية. بالنسبة للعديد من معارضي الثيدوسية، هذه المجموعة من الاوهام، مع انها تعطي الأمل، لكنها سوف لن تغير الجدال . هم يقولون ان اتّباع الحجج بشكل محكم سوف يتطلب منّا الرؤية في ضوء فجر باهت، وعالم بدون اله، عالم بلا قلب، بلا روح يجب علينا ان نكون فيه واثقين ذاتيا وفيه جميعنا نكون افضل. هذه الرؤية تفترض ان غير المؤمن هو صائب في جداله. لكنها ايضا تفترض انه بسبب انه على صواب، فان الحجج المنطقية لها وزن اكبر في المواجهة الشخصية مع الشر قياسا بالتجارب الايجابية التي يمتلكها المتدين من خلال انشغالاته الدينية. هو يجب ان يترك انشغالاته الدينية والتزاماته الحياتية بعيدا لأجل الحجة. بالنسبة للعديد من المؤمنين الدينيين مهمة تخفيف عبء المقاومة ضد اليأس والاحباط هي مكملة لإيمانهم، انها ليست شيء يمكن اشتقاقه من مجموعة من العقائد وانما هو نظام حياة كامل تكمن قوته التحفيزية في استقامته. ان منطق اي حجة معينة حول مشاكل الشر يجب ان يُنظر اليها طبقا لمشاعر ومحتوى الفرد ذاته (وجهة نظر الشخص الاول) كجزء من نطاق كامل من الاعتبارات حول كيفية عيش الحياة. هذه الاعتبارات تتضمن مختلف الطرق من التعامل مع الشر والتي نجدها اكثر فاعلية.

جعل المنطق اخلاقيا

سنشير هنا الى نواقص فلسفة النقاشات الدينية. في أحسن الاحوال، النقاش بين انصار ومعارضي الثيدوسية هو مشروع منطقي واخلاقي في آن واحد. ان الايمان او عدم الايمان في آله خيّر ومتسامح وبالانسجام مع وجود الشر هو سؤال عظيم الأهمية لحياة معظم الناس، وان النقاش هو محاولة لمتابعة ذلك السؤال الحيوي. للقيام بهذا بصدق، فان السعي نحو ايمان عقلاني مهما كانت خلفية المرء او ميوله ومهما اصطدمت استنتاجاته مع العقائد القائمة، هو سعي اخلاقي. لذا لابد من استمرار هذا النقاش . انه يجب ان يبقى جزءا من الاستطلاع المستمر داخل وخارج الاكاديميا. من الواضح ان النقاش يمكن ان يقود بعض الناس للايمان بالله وآخرين ليفقدوا ايمانهم. هذه الحجج هي جزء من نسيج مشاورات ورؤى العديد من الناس، ولكن الكيفية التي تنسجم بها الحجج مجتمعة مع الرؤى الشخصية هو سؤال معقد. انه عادة من المعقول ان يُشتق ليس كثيرا من اوامر مفروضة من فلاسفة والتي قد تكون منطقية ولكن من ضرورات الحياة. في بحثنا عن المعنى او البقاء السايكولوجي او الانجاز الشخصي، نحن عادة نهتم بما نعتقد انه من المعقول الايمان او العمل به .من الصعب تبرير الادّعاء في اي دور يجب ان يلعبه الجدال في حياة اشخاص آخرين، بدون الدخول في حوار معهم، وبدون محاولة حقيقية لتقدير موقفهم في الحياة. المفكرون من اي جانب من النقاش الذين يفشلون للقيام بهذا انما تنقصهم المهارة والموهبة، بهذا المعنى تكون الثيودسي سيئة. النقاشات حول مشاكل الشر تكون في احسن حال عندما يضع المشاركون جانبا الرغبة في تحويل شخص ما لوجهة نظرهم في الجدال، وبدلا من ذلك يكونون منفتحين للتبادل الذي يهدف للتعامل عمليا مع الشر بينما في نفس الوقت يفكرون في طبيعته.

لا يجب تجاهل ارتباط التجربة الانسانية ضمن ووراء السؤال عن الايمان بالله . جدالات العدالة الالهية تجد مكانها ضمن سياق الحياة المعاشة وضمن حياة الاخرين.هذا يعني الاحتجاج على عقلانية ديكارت المنفصلة والسماح بان هناك قضايا حقيقية تهم خيارات واقعية حول كيف نعيش الحياة مع وجود خلافات حول السمة المنطقية للحجج الفلسفية. المؤمنون وغير المؤمنين سيقومون بالافضل لو سلكوا هذا الاتجاه.

الملاحدة الجدد كان موقفهم على الشكل التالي: اذا كان الايمان بالله يشكل مأزقا اخلاقيا (حماية من المخاطرة) عندئذ فان اقناع الناس لعدم القيام بهذا سيبدو خيرا اخلاقيا، والايمان بالله يكون حماية من المخاطرة، لذلك فان الجدال ضد العدالة الالهية هو واجب اخلاقي. نحن يجب ان نكون واضحين ان الثيودوسيين يؤمنون انهم لديهم تبرير مشابه في الدفاع عن الله والجدال لإثبات وجوده. اذا كانوا يستطيعون اقناع الناس في الايمان بالله عندئذ بالنسبة لهم هذا خير اخلاقي وحياة اولئك الذين تحوّلوا ستكون أحسن بكثير. لكن هذا موضوع شائك لأن ما هو "خير" الذي تُقيّم به الحياة اخلاقيا هو موضوع عرضة للخلاف. عناصر التقييم الاخلاقي مثل اهمية الجماعة، تكافؤ الفرص، التسامح، الحرية الفردية، هي ذاتها في قلب الخلاف. في كل الاوقات، المقدس و "المقدس العلماني"يتصادمان ولا حل واضح.

الرعاية المشتركة

ان الرغبة في الفهم والعمل المشترك لاتحتاج لتتحطم بسبب الخلاف، كما لاحظ الفيلسوف بول هيج Paul Hedges في كتابه (الدين والالحاد في حوار، 2016): الناس اكثر قدرة للوصول الى فهم مشترك حول التجارب التي يشتركون بها. الناس من جميع القناعات الدينية ومن غيرهم يتقاسمون تجارب الأسى والمأساة واحتمال الموت. هم ايضا يتقاسمون السؤال العملي والايديولوجي الذي يبرز في العلاقة مع الشر والمعاناة: كيف يمكن ان نعيش حياتنا ونستمر نعيشها في اسوأ الظروف؟ التبادل المشترك بين العقائد حول هذا السؤال يحدث في كل الاوقات. عندما ضرب تسونامي عام 2004 حياة البوذيين والمسلمين والهندوس والمسيحيين في اجزاء من جنوب شرق اسيا، العديد من الناس وجدوا الكثير من الصداقات الحميمة ضمن مختلف التعدديات الثقافية بما خلق اكبر نسبة من المجتمعات الانسانية. هم يقدمون للبشرية فرص ثرية للتغلب على سوء الحياة لأنهم بعملهم هذا يقدمون فرصا متميزة ونادرة لتبادل الرؤى والقيم واساليب الحياة . سواء أكانت في المدن او في التواصل الاجتماعي او في القرية العالمية، ستكون الرؤى الالحادية والدينية اكثر غنى في رؤية ذاتها كاجزاء متكاملة في الوطن المتعدد ثقافيا.

 

حاتم حميد محسن

.....................

الهوامش

(1) في عام 1710 استخدم الفيلسوف والرياضي الالماني ليبنز مصطلح ثيودوسي في محاولة لتبرير وجود الله في ضوء عدم الكمال الظاهر في العالم.ثيدوسي تعني الدفاع عن الله، هي جواب لسؤال لماذا آله خيّر يسمح بظهور الشر، وبهذا تُحل قضية الشر. وفقا للثيدوسيين يكون وجود آله قدير وعارف ومتسامح منسجما مع وجود الشر والمعاناة في العالم.هناك العديد من الاتجاهات والنظريات الثيودوسية المتعلقة بتفسير الشر، منها مثلا تفسير اوغستين وعمانوئيل كانط وتوما الاكويني والثيولوجي اليوناني ايريناوس Irenaeus.وبالنسبة للاخير الذي ولد في القرن الثاني الميلادي عرض افكارا توضح ان وجود الشر ضروري لتطور الانسان. هو يرى ان خلق الانسان مركب من جزئين: الناس خُلقوا اولا في صورة الله (ايميج) ومن ثم في الشبه مع الله. صورة الله تنطوي على امكانية تحقيق الكمال الاخلاقي، بينما الشبه مع الله هو تحقيق ذلك الكمال. لكي نحقق الكمال الاخلاقي يرى ارينوس يجب على الانسان ان يمتلك الرغبة الحرة. ولكي ينجز الرغبة الحرة، لابد ان يمارس المعاناة وان الله يجب ان يكون على مسافة معرفية من الانسانية epistemic distance. ولهذا، فان الشر يوجد لكي يسمح للانسان ليتطور كفرد اخلاقي.

 

نجاح موسي.. عاشقة الفلسفة الخلقية

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. محمود محمد علي

محمود محمد علييقال أن الباحث في المجتمعات العربية عندما يتحدث عن المرأة فإنه يسير علي أرض مليئة بالألغام .. ونحن هنا في صحيفة المثقف الزاهرة نغرف غرفا، لنتحدث عن امرأة عزيزة علي القلب والروح؛ ألا وهي الدّكتورة "نجاح موسي علي"  - الأستاذ المساعد بقسم الفلسفة - بكلية الآداب – جامعة سوهاج بجمهورية مصر العربية ، والذي خطفها الموت خطفا بعد صراع طويل مع المرض، لتصعد روحها إلي باريها وذلك في يوم الجمعة الموافق 20 سبتمبر 2019 عن عمر يناهز 64 عاما، تاركة سمعة وسيرة عطرة ستخلّدها في قلوب من عرفوها.. صمتّ وحدي عندما اتصل بي صديقي الدكتور علي قاسم (الأستاذ المساعدة بقسم الفلسفة بسوهاج)  ليبلغني بذلك الخبر الفاجع.. تعطّلت قواي، عادت بي الذّاكرة إلى مواقف كثيرة لا تنسى.

تذكّرت مقولة للإمام عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول فيها: "أكره الحق، وأهرب من رحمة الله، وأصلي دون وضوء! فسئل: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال: أكره الموت وهو حق، وأهرب من المطر وهو رحمة من الله، وأصلي على الرّسول دون وضوء.

ووالله إنّ الموت مكروه مع أنّه حقّ على الأحياء كلهم، خصوصا إذا ما اختطف إنسانة وأستاذة شرفت بالتدريس علي يديها، كانت أستاذة لا مثيل لها في القيم الأخلاقية ؛ فقد كانت تنضح حبّا إنسانيّا قلّ مثيله. رحلت عنا.. وهي لم تحمل ضغينة لأحد.. رحلت لتترك غصّة في قلوب من عرفوها كلهم، فوالله إنّ العين لتدمع وإن القلب ليحزن، "وإنّا لفراقك  يا دكتورة نجاح لمحزونون".

ولعلى بهذا المقال أوفيها شيئا من حقها وفضلها في حق التتلمذ على يديها سنين طوال، وإن لم أستطع ملازمتها طويلا، لكنى استلهمت بعضا من روحها الجميلة وحنوها مع صلابته وقوتها، فهو نموذج نادر لتلك المرأة الصعيدى التي جمعت الصلابة فى الحق والصدع به، مع الرحمة بالخلق والعطف عليهم والمودة لهم.

وتعد الدكتورة نجاح موسي علي نموذج حقيقي لنضال المرأة المصرية فى سعيها للتميز والنجاح؛ حيث أبحرت بين أصعب القضايا الفلسفية الحديثة والمعاصرة في لغاتها الأصلية، وظلت تثق بنفسها وصريحة إلي حد التطرف في المصارحة والبعد عن المداهنة ولا تقول لنا إلا الحق، وهي من جيل جاء فى زمنٍ كان يقتصر فيه دور المرأة على المنزل فقط، ولا شك أن إسهاماتها ستظل علامة مضيئة للمرأة المعاصرة، وهي ظاهرة لا تتكرر كثيرا بين النساء  الصعيديات بمصر المحروسة.

وقد حصلت الدكتورة نجاح موسي علي ليسانس آداب قسم الفلسفة بتقدير "جيد جًدا" من كلية الآداب جامعة المنيا عام 1977م، ودرجة الماجستير في الآداب بتقدير "ممتاز" من جامعة أسيوط 1984م، ودرجة الدكتوراه في الفلسفة مع مرتبة الشرف الأولي من جامعة الزقازيق سنة 1989م؛ وعلي إثر ذلك تم تعيينها مدرسا للفلسفة الحديثة والمعاصرة عام 1989 ومن قبل كانت معيدة خلال عام 1977، ثم مدرسا مساعدا عام 1984، وشاءت عناية الله أن ترقي درجة أستاذ مساعد لتكون أول امرأة تشرف علي قسم الفلسفة بكلية الآداب بسوهاج.

وللدكتورة نجاح موسي العديد من الكتب والأبحاث المنشورة منها بحث بعنوان "الحب العقلي لله وعلاقته بالسعادة عند سبينوزا، والاتجاه النسبي في الأخلاق في إحدى الفلسفات المعاصرة - "وليم جيمس نموذجا"، وبحث بعنوان "مشكلة وجود الشر في العالم عند ليبنتز"، وبحث بعنون "تصور هوبز للإلزام الأخلاقي، والمنفعة الحدسية عند سدجويك"، وكتاب من أعلام الفلسفة الحديثة، وكتاب بعنوان دراسات في فلسفة الأخلاق، وكتاب المنفعة الفردية عند توماس هوبز، علاوة علي ترجمتها لكتا مقالات في الأخلاق البيولوجية؛ كما أشرفت علي العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه . علاو ة علي أنها حضرت الكثير من الندوات والمؤتمرات خلال الأعوام من 2001 وحتي أعوام 2009.

كانت الدكتورة نجاح موسي من جيل الأستاذة الذين يؤمنون بأن الأخلاق تمثل الأخلاق الجانب المعنوي والروحي في الحضارة الإسلامية وجزءً أصيلا من بنيتها الثقافية، كما أن للأخلاق دورا حاسما في التطور الفكري والتقدم الحضاري، فهي تلمس كل مظاهر الحياة الإنسانية، وتقرر مواقفنا إزاء الظواهر والمعطيات الخارجية. وبالتالي، يتميز الحديث عن الأخلاق بكونه يتصل بوجودنا الإنساني مع الحياة بتفاعلنا مع ما تطرحه من تحولات ومسارات.

وفي ذات الوقت كانت تؤمن الدكتورة نجاح موسي بأن الفلسفة هي في أصلها نظرية أقرب ما توصف بأنها عمليه، وهذا قد لا ينطبق على الأخلاق من حيث أنها سلوك والسلوك أمر لا يفسر لمجرد النظر بل أقرب ما يكون بالعمل وكثيرا ما كنت أسمعها تبين أن الفلسفة نظر استدلالي، بحيث لا نحتاج إلا لاستخدام العقل والنظر للوصول إلى الحقائق سواء بالكونيات أو الغيبيات أو السلوكيات.

ومع بداية بزوغ البحث الفلسفي في بلاد اليونان تؤكد الدكتورة نجاح موسي أن الفلسفة بمعناها العام انشطرت إلى قسمين أساسيين: قسم نظري وآخر عملي. وإذا كان ثمة خلاف في عديد مباحث القسم النظري، فلا يوجد مثل ذلك الخلاف فيما يرتبط بالقسم العملي، فقد تلقّى الباحثون منذ القدم هذا القسم في أبحاث ثلاثة: سياسة وأخلاق وتدبير المنزل. فالأخلاق تمثل ضلعًا من ثلاثي أضلاع الحكمة العملية التي تهتم بتكاليف الإنسان ووظائفه.

علاوة على ذلك، فإن البحث الأخلاقي في نظر الدكتورة نجاح موسي له جانبان؛ يرتبط أحدهما بالنظر والأسس والتصورات العامة عن الأخلاق، فيما يتعلق الجانب الآخر بالعمل وبيان أنماط السلوك الفردي والجمعي، ووفق هذا التقسيم فإن الجانب الأول يتكفّل وضع النظريات والمبادئ العامة التي يستند إليها السلوك البشري، وكذا عرض ونقد مختلف وجهات النظر والمقولات التي يمكن أن تطرح في هذا الشأن. فيما يتكفّل الجانب الثاني البحث في التطبيقات العملية للسلوك الأخلاقي بوجوده المحدّد الخارجي.

وحول التفرقة بين بين حقلي علم الأخلاق وفلسفة الأخلاق، فمن جهة أولى تعتمد فلسفة الأخلاق في  نظر الدكتورة نجاح موسي علي العقل كأداة في البحث والتحليل والاستدلال، فيما يمكن لعلم الأخلاق أن يعتمد أدوات ومصادر متعددة كالعقل والنص الديني وتواضعات الناس واتفاقاتهم وسائر نتائج البحوث الإنسانية. ومن جهة أخرى فإن فلسفة الأخلاق لا تتكفّل البحث في تفاصيل المسائل الأخلاقية، خلافًا لعلم الأخلاق فإنه يقدم الفتاوى الأخلاقية وما ينبغي وما لا ينبغي فعله من تفاصيل المواقف العملية السلوكية ؛ كما أن فلسفة الأخلاق ليست أخلاقًا في نظر الدكتور نجاح موسي، بمعنى أنها لا تمثل مجموعة قواعد سلوك خاصة، وإنما هي إطار نظري واقع خلف الأخلاق (ميتا أخلاق)، فهي نظرية عقلية عن الخير الشر والقيم والسلوك الأخلاقي؛ تفكك قواعد الأخلاق وتحلل بناها، وتقدم رؤية متكاملة عن الأخلاق.

وكانت تعول الدكتور نجاح موسي علي أن أفعال العقل كثيرا ما تكون أفعال خُلقية، حيث تري أنه طالما أن جميع أفعال الإنسان بما فيها أفعال العقل أفعال خلقية، فيلزم أن يكون العقل جزء من الأخلاق، بحيث يصبح العقل تابع للأخلاق. أي أن قابلية الأفعال النظرية والفكرية للتقويم الخُلقي هي ما يجعل العقل تابعاً لمجال الأخلاق. بل أكثر من هذا، حيث أن التصرفات التي تعد تصرفات لا أخلاقية هي لا توصف على أنها تصرفات لاعقلانية بل توصف بأنها لا إنسانية، حين نقول بأنه تصرف لا أخلاقي فإنه يعتبر تصرف لا إنساني. أما حين نقول أنه تصرف لاعقلاني لا يلزم عنه أنه تصرف لا إنساني.

وحول الأخلاق في الفلسفة العملية (البرجماتية) كانت الدكتورة نجاح موسي تبين لنا أن المذهب النفعي تفرع في النصف الأول من هذا القرن فروعًا شتى وانتصر له طائفة من الفلاسفة الأمريكيين بوجه خاص وأصبح من الجائز في منطق هؤلاء النفعيين أن يوضع لحل المشكلة الواحدة مجموعة من المذاهب قد تصدق كلها أو يصدق الكثير منها في وقت واحد، متى أفضت هذه الفروض إلى تحقيق منفعة بغير اعتراف للحق لذاته أو الباطل لذاته، ويتضح المذهب بصورة أوضح عند أحد كبار فلاسفته وهو "وليم جيمس" الذي يرى أن الخير يقوم في إشباع مطالب الإنسان وتحقيق رغباته، جاء بعده "جون ديوي" الذي اعتبر الأفكار والمثل العليا والمبادئ مجرد وسائل وذرائع يستعين بها الإنسان فيتوجه سلوكه إلى حيث تتحقق مطالبه وغاياته.

وعن نقد البعد الأخلاقي عند البرجماتية كثيراً ما نجد الدكتورة نجاح موسي تعول في ذلك علي ما قاله أستاذها الدكتور الطويل في تقييم هذه الفلسفة والذي يقول :"ويكفي أن نعتبر البرجماتية الحق أو الخير كالسلعة المطروحة في الأسواق، قيمتها لا تقوم في ذاتها بل في الثمن الذي يدفع فيها فعلًا فالحق فيما يقول جيمس كورقة نقد تظل صالحة للتعامل حتى يثبت زيفها، ولم يجد أصحاب البرجماتية غضاضة في النظر إلى الحق أو الخير، كما ينظرون إلى السلعة التي تطرح في الأسواق، هذه هي العقلية الأمريكية في الفلسفة وفي الأخلاق وفي السياسة وفي كل مجال"، بيد أن الدكتورة نجاح موسي تضيف إلى ذلك أن هذه الفلسفة كانت ملهمة للنظام الرأسمالي القائم على مبدأ المنافسة الحر، ثم ظهرت مساوئه عند التطبيق واستفحلت أخطاره التي تتضح في اللا أخلاقية بالرغم من التقيد ببعض الفضائل كالأمانة والانضباط والدقة ومراعاة المواعيد، ثم الارتباط الوثيق بالحرب، وأخيرا الانحرافات السلوكية وأظهرها الإجرام، إذ أن فتح الباب على مصراعيه للمنافسة والصراعات من شأنه تمجيد العنف.

وأخيرا تصل الدكتورة نجاح موسي إلي نتيجة هامة ومهمة وهي أن الأخلاق الحقة هي التي تبقى لجوهرها وتصلح لكل زمان ومكان. إنها تتطور وتسمو بالفرد إلى الأفق، نحو نظام متكامل منسجم، وإلا فالباقي هو قيم الانحطاط والارتداد. لذلك نجد في الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية تشديدا على الأخلاق، ليس كمحدد لطريقة تصرف الإنسان وسلوكه مع كل مظاهر الحياة فقط، بل أيضا كعلم يهدي إلى التي هي أقوم.

وفي النهاية لا أملك ألا أقول: أستاذتي الدكتورة نجاح لكِ منا كل الثناء والتقدير، بعدد قطرات المطر، وألوان الزهر، وشذى العطر، على جهودك الثمينة والقيمة .. فمنك تعلمنا أنّ للنجاح قيمة ومعنى .. ومنك تعلمنا كيف يكون التفاني والإخلاص في العمل، ومعك آمنا أنّ لا مستحيل في سبيل الإبداع والرقي.. ومنك تعلمنا أنّ للنجاح أسرار .. ومنك تعلمنا أنّ المستحيل يتحقق بثانويتنا.. ومنك تعلمنا أنّ الأفكار الملهمة تحتاج إلى من يغرسها بعقول طالباتنا .... فلك الشكر على جهودك القيمة لكونك كنت ملاكاً يمشى على الأرض فى زمن يتكالب فيه الناس على الحطام.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

الثّورة لا تصنعها العواطف الجيّاشة والحماس العنيد

التفاصيل
كتب بواسطة: مادونا عسكر

مادونا عسكركلّنا فاسدون ونستحقّ المحاسبة والمحاكمة من قمّة الهرم إلى أسفله، من الطّفل الّذي لم يولد بعد، لكنّه يحمل جينات الفساد، إلى الشّاب المفعم بالحياة المنطلق نحو الحرّيّة دون وعي، إلى الشّيخ المضمّخ بذاكرة الحروب  والانقسامات وتخلّف عن غرز الوعي والاختبار، إلى رجل الدّين السّاكت عن الحقيقة الّذي يجنّد النّاس لتحقيق مآربه وتنفيث حقده، إلى المعلّم الّذي لا يؤدّي واجبه كمعلّم ومربٍّ ويستهتر بجيل كامل ثمّ يطالب بحقوقه، إلى الموظّف الإداري الّذي يقبل الرّشوة ويحتقر المواطن وينتهك كرامته من أجل عمليّة إداريّة بسيطة، إلى العامل البسيط والآخر المتخصّص، إلى الشّرطيّ المرتشي، إلى الّذين يدّعون الثّقافة وينشرون الغباء والتّفاهة والسّطحيّة، إلى الإعلام مقتنص الفرص الّذي يصحو فجأة على حرّيّة التّعبير بقدر ما يناسبه الواقع، إلى النّاخب المرتشي بحجة الجوع والفقر، إلى النّاخب الطّامح بالحصول على جنسيّة، إلى عبّاد الزّعماء المنجرّين كالغنم في قضيّة واهمة، إلى مدّعي كسر الحواجز الطّائفيّة المتربّصة بدمهم، إلى الغارقين حدّ الموت بالجهل والجلوس في المقاهي ينظّرون ويتبجّحون كلّما التقطوا جملة من هنا وهناك، إلى مدّعي الإيمان الّذين يكذبون على أنفسهم، إلى المتملّقين الّذين يحدّثوننا عن حرّيّة الرّأي والتّعبير، إلى المتحايلين على القانون وهم ذاتهم يطالبون بالقوانين، إلى المسؤولين المسعورين الّذين لم يهبطوا من الفضاء، بل أولئك الخارجون من النّاس إلى النّاس، إلى شعب صحا فجأة على المطالبة بالحقّ والحرّيّة والتّغيير وأرادها في الشّارع.

الشّارع وسيلة، وعندما يصبح غاية حوّل المجتمع بأكمله إلى فوضى مدمّرة يستفيد منها كلّ فاسد. الشّارع العنيد الّذي بنفسه أوقد المهرجانات الانتخابيّة وناضل من أجل أن يبقي زعيمه لأنّه يحقّق له مصالحه. الشّارع الّذي هو حقّ للجميع بحكم "حرّيّة التّعبير"، ويسمح لأيّ كان أن يستغل الظّروف ويحقّق شرّه، ويستعيد أمجاد الحربّ ويقف عند تقاطع الطّرقات ليمارس بشاعة قديمة دفينة في نفسه. الشّارع وسيلة لا أكثر، وعندما يصبح مترعاً بالنّاس بحجّة استرداد الوطن يمسي مغارة يأوي إليها اللّصوص. وغالب الظّنّ أنّ اللّصوص بيننا في ساحات الفوضى.

ثمّة خيط رفيع بين المطالبة بالحقّ ومصادرة حقّ الآخر، وخيط رفيع بين المطالبة بالحقّ والاتّجاه نحو الفوضى، بين أن تتظاهر وتحتجّ وتصادر الرّأي الآخر وتنتهك كرامته، بين الصّراخ والتّعبير عن الذّات. لا يمكن لشعب غارق في الجهل السّياسي أن يستفيق فجأة على الوعي به.  ولا تستفيق الحكمة في مدّة زمنيّة قصيرة. فالحكمة مسيرة وعي طويلة يبنيها كلّ أفراد المجتمع. 

الحقيقة في التّفاصيل الّتي لا نراها أو لا نريد أن نراها، في الطّيش المستشري وعدم الدّقة وملاحظة ما يتسرّب خلسةً. الصّورة جميلة ومبهرة  لكنّها لا تدلّ على التّحضّر؛ لأنّ التّحضّر يكمن  في الوعي والشّعوب لا ترتقي إلّا بالوعي وبمقوّمات الجمال. والوعي هو غير النّهوض من النّوم؛ إنّه البناء المتمدّد بأساساته الصّلبة في عمق الأرض والمرتفع المحلّق بقوّة العقل وضبط النّفس. التّسامح المفرط جميل، لكنّه تسامح يترادف ومبدأ غضّ النّظر إلى حين.

 أن تكون مثقّفاً لا يعني أنّك تختزن المعلومات وتعيد إنتاجها وتعبّر عنها في الإعلام. أن تكون مثقّفاً يعني أن تعي ما تقول أوّلاً، وتحدّد مقدّمات لنتائج وتسعى لتحقيق الأهداف بالفعل لا بالقول والصّراخ في الشّوارع. أن تخطّط بصمت، وتركّز على ما يدور حولك وتتعمّق في التّحليل لا أن تجترّ ما يقوله فلان وعلّان. 

أن تكون مواطناً حقيقيّاً يعني ألّا تدوس على أخيك المواطن وتنتهك كرامته لأنّك "ثائر". أن تدرك أنّ الوطن ليس مجموعة شعارات وهتافات، وإنّما عمل دؤوب وجدّ واجتهاد وبناء للفكر، لتحارب بالفكر لا بالغريزة. أن تفهم أنّ الوطن ليس مقهىً تثرثر فيه تحت غطاء النّدوات والاجتماعات المعزّزة للوعي. لماذا لم تُقَم هذه النّدوات في الجامعات والمدارس لدرء خطر الجهل والنّفاق والظّلاميّة؟ لماذا لم يُبنَ الوعي لعقود طويلة لبناء مجتمع أفضل لا يوصل أشباه مسؤولين؟ أين كان الواعون المثقّفون الوطنيّون؟ ونتساءل: ما الّذي أيقظ هذا الشّارع؟ ومن يحقّ له أن يتظاهر ويحتجّ ويعترض؟ وما هي نسبة المطالبين الصّادقين؟

كلّنا فاسدون؛ أمام الضّمير الحيّ الّذي يتهجّى الوضوح والحقيقة. أمام العقل المدمّر الّتي تظهره الحقيقة الكامنة في التّفاصيل. أمام الكبت المتفجّر والتّخوين الّذي يهدّد العقلاء. أمام الوقت الضّائع هباءً الّذي سينتج جيلاً عقيماً، لأنّ الثّورة أوّلاً وأخيراً ثورة العقل والفكر، والتّغيير تقوم به النّخبة لا العوام. وعلى مرّ التّاريخ نشهد للتّغيير على أيدي الأفراد العاقلة النّقيّة الّتي حدّدت أهدافها وحقّقتها بجهد وجدّ.

كلّنا فاسدون ونستحقّ المحاكمة؛ فمن يجرؤ على محاسبة نفسه والوقوف أمام ضميره وأمام نفسه ويتبيّن أنّ الوضع الرّاهن يحتاج للعقل، وللعقل فقط، لا للعواطف الجيّاشة والحماس العنيد والصّراخ الّذي يصمّ الآذان ولا يسمح للعقل أن يتصرّف؟

من أراد التّغيير فليبدأ بنفسه أوّلاً.

 

مادونا عسكر/ لبنان

 

الأبعاد الحقيقية لفتاوي ابن الصلاح وابن تيمية بتحريم المنطق والاشتغال به

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. محمود محمد علي

محمود محمد عليما زلت علي يقين بأن الجهد الذي قام به الغزالي في سبيل مزج المنطق بالفقه، وبقطع النظر عن قيمته الموضوعية، وبقطع النظر عن مدي تناسق دعوته هذه مع موقفه العام من الفلسفة اليونانية الذي رفض فيه إلهياتها، وجانب من طبيعياتها . في حين أن المنطق مقدمة لهما فهو مشترك معهما في الروح العامة التي تناقض في عمومها الروح الإسلامية في انبنائها علي الإلحاد وميلها إلي التجديد، وبقطع النظر عن ذلك كله، فقد كان له من النجاح في إدخال المنطق إلي حظيرة العلوم الإسلامية ما جعل تاريخ هذا العلم في الثقافة الإسلامية ينقسم إلي عهدين: عهد الرفض الذي بدأ به واستمر بعده، فمنذ أواخر القرن الخامس الهجري اتجه الكثير من مفكري الإسلام علي اختلاف تخصصاتهم إلي دراسة المنطق اليوناني، وخلطوه بأصولهم وتكلموا فيه بما يطول ذكره .

غير أن هذه الغزالية إلي المنطق، وإن حظيت بالقبول الذي يكاد يكون تاماً عند بعض الفئات من المفكرين، المتكلمين، فإنها عند فئات أخري كانت أقل حظا كما يتجلي في موقف الفقهاء .

وسوف أعرض هنا لموقف كل ابن الصلاح وابن تيمية، ليتضح لنا مدي توافق أو اختلاف هذين، وأيها كان مؤيداً، وأيهما كان معارضاً لتوجه الغزالي .

ففي المشرق العربي، نجد دعوة الغزالي قد أحدثت شقاقاً في مواقف الفقهاء بخصوص المنطق، ففريق بقي علي موقف الرفض للمنطق، ولكنه رفض أكثر حدة وأشد شوكه وأصوي تركيزاً من الرفض الذي وقفه الإمام الشافعي من قبل، وكأنما هو رد فعل جاء في قوة الفعل الذي قام به الغزالي .

وقد ابتدأ بجملة نقدية شديدة ضد الغزالي نفسه في مجموع تفكيره، وعلي الأخص من جهة المنطق والتصوف، ثم انجلي فيما يخص المنطق علي مظهرين أثنين:

المظهر الأول:  اتجه فيه الرفض إلي نقد خارجي ظهر في شكل فتاوي بتحريم المنطق والاشتغال به وإدخال في أي علم من العلوم الإسلامية، وذلك باعتبار أنه يناقض الشريعة وأصولها، ويؤدي إلي الخطأ فيها، وقد بلغ هذا التجاه ذروته عند " تقي لدين عثمان بن عبد الرحمن بن الصلاح الشهرزوري (677هـ - 643هـ)، حينما أصدر فتواه الشهيرة بتحريم المنطق والاشتغال به وبالفلسفة تعلماً وتعليماً.

فتساءل: هل أباحه واستباحه الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون والسلف الصالحون؟ وهل يجوز استخدام الاصطلاحات المنطقية أم لا في إثبات الأحكام الشرعية، وهل الأحكام الشرعية مفتقرة إلي ذلك في إثباتها أم لا ؟..

وما الواجب علي من تلبس بتعليمه وتعلمه متظاهراً به ؟ وما الذي يجب علي سلطان الوقت في أمره ؟ وإذا وجد في بعض البلاد شخص من أهل الفلسفة معروف بتعلمها وأقرانها والتصنيف فيها – فهل يجب علي سلطان البلد عزله وكفاية الناس شره؟ .

وقد اجاب ابن الصلاح علي هذا بأن:" المنطق مدخل الفلسفة – والفلسفة شر ومدخل الشر شر وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشرع ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدون والسلف الصالح وسائر ما يقتدي به .

ثم يجيب ابن الصلاح عن النقطة الثانية من السؤال، وهي استخدام الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الفقهية فيقول:" إنها من المنكرات المستشعه والرقاعات المستحدثة، وليس بالأحكام الشرعية افتقار إلي المنطق أصلاً وما يزعمه المنطقي بالمنطق من أمر الحد والبرهان ففقائع قد أغني عنها الله كل صحيح الذهن، ولا سيما من خدم نظريات العلوم الشرعية . ولقد تمت الشريعة وعلومها، وخاض في بحر الحقائق والرقائق علماؤها، حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة ومن زعم أنه يشتغل مع نفسه المنطق والفلسفة لفائدة يزعمها فقد خدعه الشطان.

وكان من نتيجة هذه الفتوي تحريم النظر في كتب أصول الفقه التي مزجت فيها الأصول بالمنطق مثل:" البرهان " للجويني، و" المستصفي" للغزالي، وغيرهما من الكتب الأصولية الهامة .

وهناك فتوي لابن الصلاح تثبت هذا تمام الإثبات، فقد سئل عن كتاب من كتب الأصول ليس فيه شئ من علم الكلام ولا من المنطق، ولا ما يتعلق بغير أصول الفقه: هل يحرم الاشتغال به أو يكره ؟ وفي الواقع أن المقصود بهذا السؤال هو الجانب السلبي من المسألة، أي عدم إباحة دراسة كتب الأصول الممزوجة بالمنطق . أجاب ابن الصلاح بأن كتب الأصول إذا خلت من منطق أو فلسفة فمن المعلوم دراستها .

ويستطرد ابن الصلاح فيضن فتواه بأن علي ولي الأمر أن يخرج معلمي المنطق الأرسطي من المدارس، وأن يعرضهم علي السيف حتي يستتبوا.

تلك هي عناصر فتوي ابن الصلاح، كان لها من الأثر البالغ في العالم الإسلامي ؛ حيث يأخذ بها كل من خاصموا المنطق والفلسفة بعد ذلك . ومن هؤلاء مثلاً " طاش كبري زاده" ( ت: 962هـ) الذي يقول:" وإياك أن تظن من كلامنا هذا أو تعتقد أن كل ما أطلق عليه اسم العلم، حتي الحكمة المموهة التي اخترعها الفارابي وابن سينا ونقحها نصير الدين الطوسي ممدوحاً، هيهات هيهات .. إن ما خالف الشرع فهو مذموم، ولا سيما طائفة سموا أنفسهم حكماء الإسلام، عكفوا علي دراسة ترهات أهل الضلال وسموها الحكمة، وربما استهجنوا من عدي عنها وهم أعداء الله وأعداء أنبيائه ورسله والمحرفون كلام الشريعة عن مواضيعه .

ومن آثار فتوي ابن الصلاح ما أصاب أحد كبار الأشاعرة وهو " الإمام سيف الدين الآمدي" من جزاء اتهامه بالفلسفة والمنطق، فقد كان واسع الاطلاع في العلوم الدينية والعلوم القديمة علي السواء، وقد نزل في القاهرة وتولي تدريس العلوم الشرعية فيها، ولكن شهرته بالاشتغال بالفلسفة والمنطق قد آذته كثيراً رغم أنه كان لا يدخل شيئاً من العلوم الفلسفية في دراسته، حين اتهم بأنه فاسد العقيدة يقول بالتعطيل، ويذهب مذهب الفلاسفة، وقد كتب بهذا محضر وقع عليه الكثيرون وأعلنوا استباحه دمه، ولكنه فر إلي الشام وقام بالتدريس في مدرسته بدمشق فأتهم به في القاهرة، وعزل من منصبه.

ولقد حرم المنطق علي المسلمين بعد فتوي ابن الصلاح، ولكن اشتغال الغزالي به خفف من أحكام خصومه علي المشتغلين به، فمن ذلك " عبد الوهاب السبكي" (ت: 771هـ)، الذي لم يحل المنطق كلية، بل أتي برأي بين التحليل والتحريم ؛ حيث يقول:" والذي نقوله نحن أنه حرام علي أنه لم ترسخ قواعد الشريعة في قلبه ويمتلئ جوفه من عظمه هذا النبي الكريم وشريعته ويحفظ الكتاب العزير، وشيئا كثيراً جداً من حديث النبي صلي الله عليه وسلم علي طريقة المحدثين، ويعرف من فروع الفقه ما فيه يسمي فقيها مفتياً مشاراً إليه من أهل مذهبه إذا وقعت حادثة فقهية، أن ينظر في الفلسفة، وأما من وصل إلي هذا المقام، فله النظر فيها للرد علي أهلها ولكن بشرطين: أحدهما: أن يثق من نفسه بأنه وصل إلي درجة لا تزعزعها رياح الأباطيل وشبه الأضاليل وأهواء الملاحدة . والثاني: أن لا يمزج كلامهم بكلام علماء الإسلام، فلقد حصل ضرر عظيم علي المسلمين بمزج كلام الحكماء بكلام المتكلمين وأدي الحال إلي طعن المشبهة وغيرهم من رعاع الخلق في أصحابنا وما كان ذلك في زماننا وقبله بيسير منذ نشأ "نصير الدين الطوسي" ومن تبعه لأحياهم الله . فإن قلت: فقد خاض حجة الإسلام الغزالي والإمام فخر الدين الرازي في علوم الفلسفة ودونوهما وخلطوها بكلام المتكلمين فهل لا تنكر عليهما ؟ قلت إن هذين إمامان جليلان ولم يخض واحد منهما ف هذه العلوم، حتي صار قدوة في الدين وضربت الأمثال باسمهما في معرفة علم الكلام علي طريقة أهل السنة والجماعة .. فمن وصل إلي مقامهما لا يلام عليه النظر في الكتب الفلسفية، بل هو مثاب مأجور .

وقد تواصل هذا الاتجاه النقدي حتي وصل إلي " جلال الدين السيوطي" فألف كتابه " صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام" . ويقول في مقدمته:" وقد رأيت أن أصنف كتاباً مبسوطاً في تحريم المنطق علي طريقة الاجتهاد والاستدلال جامعاً مانعاً وبالحق صادعاً" .

ومما يكن من سداد هذه النظرة أو عدم سدادها فيظهر أن سببها كان نفسياً إلي حد كبير، فإن هؤلاء قد تكون لهم حس مرهف بمنهج الفكر الإسلامي القائم علي النظر إلي الواقع والانطلاق منه وذلك بما لهم من كثرة الممارسة للعلوم الشرعية، فلما رأوا هذا المنطق ميالاً إلي التجريد تناقض مع ذلك الحس عندهم ولما رأوه علي شئ من العلاقة بميتافيزيقيا اليونان قام ذلك لديهم مقام الدلالة علي مخالفته للشرع، فأصدروا تلك الفتاوي بتحريمه .

المظهر الثاني: فقد اتجه فيه الرفض إلي نقد داخلي تناول المنطق ذاته، وحلل مسائله وأوضح ما تنطوي عليه من الخطأ والقصور والمغالطات .

وقد بلغ هذا الاتجاه مداه عند الإمام " تقي الدين ابن تيمية " الذي درس المنطق دراسة مستفيضة، وتفطن إلي مواطن الضعف فيه، فألف كتاباً في نقده سماه " نصيحة أهل الإيمان في الرد علي منطق اليونان"  أو " الرد علي المنطقيين " وكتاباً آخر سماه " نقض المنطق "، وفي هذين الكتابين يبين ابن تيمية نقده للمنطق الأرسطي بقوله:" اعلم أنهم بنوا المنطق علي الكلام في الحد ونوعه، وقالوا لأن العلم: إما تصور وإما تصديق . فالطريق الذي ينال به التصور هو الحد، والطريق الذي ينال به التصديق هو القياس، فنقول الكلام في هذا يقع في أربع مقامات: مقامان سالبين، ومقامان موجبين . فالأولان في قولهم: أن التصور لا ينال إلا بالحد . والثاني: أن التصديق لا ينال إلا بالقياس والآخران في أ، الحد يفيد العلم بالتصورات، وان القياس أو البرهان الموصوف يفيد العلم بالتصديقات .

فالمقامان السالبان ينفيان الطرق التي يسلكها غير المناطقة في التوصل إلي التصور والتصديق . ويري ابن تيمية أن: كل هذه الدعاوي كذب في النفي والإثبات فلا ما نفوه من طرق غيرهم كلها باطل ولا ما أثبتوه من طرفهم كلها حق علي الوجه الذي أدعوا فيه .

ثم يبدأ ابن تيمية بنقد كل مقام من هذه المقامات الأربع، ولكن ابن تيمية لا يلتزم ترتيباً معينا في نقد كل من المقام السالب والمقام الموجب للحد والقياس – فمثلاً في نقده للمقام السالب للحد لا يورد شيئا من آرائه الخاصة عن الحد كما يفهمه المسلمون، بل يجعل هذا المقام نقداً حرفياً للحد الأرسطي . وفي المقام الموجب للحد يورد ابن تيمية آرائه عن الحد . ولكنه في المقام السالب للقياس يورد أغلب آرائه عن صور الاستدلال القرآني – ويفرد معظم المقام الموجب في نقد القياس وغيره من صور الاستدلال الأرسطي .

وإلي جانب هذا الفريق الرافض للمنطق وجد فريق آخر من الفقهاء، كان أكثر موضوعية وتعمقاً ؛ حيث رأوا في دعوة الغزالي وجاهة، وميزوا في المنطق بين وجهه المنهجي الصرف، وبين وجهه الميتافيزيقي ؛ فاعتبروه من الوجه الأول ليس فيه ما يخالف الشرع، فاتجهوا إليه بالدراسة، وأفردوه بالتأليف، وأدخلوا في بحوثهم الأصولية والفقهية، وجعلوا مقدمات لكتبهم فيها .

ففي الشام وبخاصة " دمشق "، ظهر الإمام " سراج الدين الأرموي "، الفقيه الشافعي، فألف في أصول الفقه  " التحصيل من المحصول "، وألف في الفقه " شرح الوجيز للغزالي "، وألف في المنطق " بيان الحق " و " مطالع الأنوار " و" المنهاج".

وفي مصر ظهر القاضي الشافعي " أفضل الدين محمد بن ناماورا الخونجي (570هـ - 646هـ)، فألف في المنطق " كشف الأسرار عن غوامض الأفكار" و" الموجز" و" الجمل"، كما ظهر بمصر أيضاً " أبوعمرو جمال الدين عثمان ابن عمرو ابن الحاجب (570هـ - 649هـ) الفقيه المالكي، فألف في الفقه " جامع الأمهات " وفي أصول الفقه " منتهي السول في علمي الأصول والجدل "، وقد قدم لهذا الأخير بمقدمة في المنطق بسط فيها مسائل كلا من قسمي التصور والتصديق .

وظهر بعد ذلك بمصر أيضاً " أبو عبد الله محمد ابن سليمان الكافيجي " (788هـ - 879هـ) الذي انتهت إليه رئاسة الحنفية بمصر، فعمل علي تخريج مسائل الفقه علي قواعد المنطق مما كان سبباً في نزاعات مع أصحاب النزعة الرافضة للمنطق، كما يروي ذلك تلميذه " جلال الدين السيوطي"، إذ يقول:" وقد علم الناس ما كان يقع بين شيخنا المذكور في الخطبة ( يعني الكافيجي)، وبين فقهاء الحنفية من كثرة التنازع والاختلاف في الفتاوي والفقهية – ونسبتهم إياه إلي أنها غير جارية علي قوانين الفقه، وما ذلك إلا لكونه، كان يخرجها علي قواعد الاستدلال المنطقي" .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

(كذلك).. قصص عن حياةٍ كالموت، بل إنها كذلك!

التفاصيل
كتب بواسطة: أسماء محمد مصطفى

1213 برهان المفتيتحت عنوان مجموعته القصصية (كذلك)، الصادرة حديثاً عن دار(نصوص)، يعلن القاص برهان المفتي أنها "قصص قصيرة تحاول الهروب" ..

من ماذا تهرب والى أين؟ وبما أنّ الكلمة هي الإنسان، فعن أي إنسان يحاول الهروب تتحدث قصص المفتي الفنطازية حد الواقعية المبكية بمرارة؟

إنه الإنسان الذي يهوي الى حفرة النهاية، كما في قصة (مدينة الزجاج) التي تتعثر فيها الخطوات ويسقط أصحابها، بناءً على مشيئة (المميز) الذي يبث الرعب في نفوس سكان المدينة، بعد أن يهددهم بضرب أرضهم الزجاجية بقوة إذا لم يسمعوه، وهذا أضطرهم الى الصمت حتى سقطوا في حفرة النهاية .

إنه الإنسان ذو القدم الكبيرة التي تأخذ بانتعال الكلاب بناءً على أوامر كبير القوم، حتى صار كلبا بقدمين ضخمتين، كما في قصة (ربما تعرفونهم)، وعنوان القصة يوجه القارئ الى مايقصده القاص .

إنه الإنسان الذي يخدع من حواليه كي يصور لهم السماء مضيئة بهلال ونجوم هي في حقيقة الامر كرات زجاجية يسرقها من الأطفال، لتنتهي قصة (خدعة) بمفارقة متمثلة بخوف الناس من الظلام، الامر الذي يدفعهم ليطلبوا من المخادع نجوماً، كي يعلقوها في لياليهم السود، في تلك المدينة التي تشتهر بوجود عصابات سرقة الكرات الزجاجية وبكاء الأطفال !

إنه الإنسان الحي الميت، كما في قصة (موت فجائي)، الذي يزرع طبول الحرب كما في قصة (الطبل) ـ والقاص هنا يستخدم مفردة (زرع) بدلا عن (صنع) متعمدا، مثلما تعمد إقران المدفع بالتربية وليس بالصنع او الاستخدام (انتشرت تربية المدافع في مدينتنا) في قصة (المدفع) الذي يطلق بارودا مصنوعا من عظام قتلى الحرب .

إنه الإنسان الذي يعجز عن الإمساك بزمنه كما في قصة (ضياع)، الذي لاظل له ولاذكرى ولاهوية كما في قصة (الدفان)، الذي يخضع لآخر يعد الاول في سلب الناس حرياتهم وخياراتهم بعد دهر كان فيه الزمن والمكان مفتوحين، حيث لافاصل بين الناس ولابين السماء والأرض، ولاسيادة في الأرض كما في قصة (البدايات) ..

هكذا هي قصص المفتي الـ (27) تدور حول أحجار انتظار وتدوير موت وخداع وجشع وضياع ووهم وسلب إرادات وحريات من اجل إخضاع الكل لفرد واحد، بل تبلغ ذروة الخداع حين تُصنع من دموع الأمهات غيوما تصدر رعوداً هي أصوات أبناء ذهبوا الى الحرب بلارجعة، كما في قصة (النداء) .

لاتحتوي المجموعة قصة تحمل عنوانها (كذلك) ما يعني أن هذا العنوان دلالي يؤشر مايريد القاص إيصاله لنا، وهو ماقمت بإيجازه في سؤال وجواب في نهاية هذه القراءة كما سترون .

في المجموعة يخبرنا الراوي بكل شيء، لايترك النهايات مفتوحة كي نتخيلها او يتخيلها كلَ وجع فينا كما يشاء .. الوجع في قصص المفتي هو إنسان تتقاذف الحياة قطعه التي تتناثر كشظايا حلم هو كابوس حلو أكثر مما هو حلم او طموح !

أليس هذا هو إنساننا المكبل، السائر بعينين مغمضتين، الحبيس في قبضة القدر، الغارق في الصمت والقهر والخذلان ؟!

نعم إنه كذلك، حتى يقرر إنهاء العبودية بصرخة مدوية تعلن عن فجر إنساني جديد .

 

أسماء محمد مصطفى

 

اتفاق سوتشي

التفاصيل
كتب بواسطة: د. عبد الحسين شعبان

عبد الحسين شعبانأسفرت مباحثات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره التركي رجب طيب إردوغان في سوتشي عن اتفاق من 10 نقاط أهمها تسيير دوريات مشتركة على تخوم " المنطقة الآمنة" للحدود السورية التركية كما نصّ الاتفاق على بدء تسيير دوريات للشرطة العسكرية الروسية والقوات السورية النظامية على الجانب السوري من الحدود، على أن تكون مهمتها الأساسية سحب القوات الكردية والأسلحة من المنطقة المحاذية للعمليات التركية " نبع السلام"، لتبدأ بعدها موسكو وانقرة المحافظة على الوضع في المنطقة الحدودية .

وبموجب الاتفاق يلتزم الجانبان "وحدة سوريا وسيادتها" مع "تلبية متطلبات الأمن الوطني التركي"، وذلك بالتأكيد على "اتفاق أضنة" وأن تكون موسكو الضامن الأساسي لتطبيقه، مع التأكيد على أن الهدف الأساسي يتمثّل في "إخلاء سوريا من الوجود العسكري الأجنبي". واستمرت المباحثات التي كان مقرراً لها نحو ساعتين ، لستة ساعات، الأمر الذي يعكس صعوبة التوصل إلى اتفاق، فضلاً عن الملفات المعقدة والصعبة التي تم بحثها، وهي تتلخص في 3 ملفات أساسية:

أولها- الموقف من إنشاء المنطقة الآمنة.

وثانيها- مساعي موسكو لفتح قناة حوار مباشرة بين أنقرة ودمشق.

وثالثها – الموقف من إبقاء الولايات المتحدة جزءًا من قواتها في مناطق شرق الفرات السورية لحماية المنشآت النفطية.

ووصف الرئيسان بوتين وإردوغان الاتفاق في مؤتمر صحفي مشترك عقب توقيعهما بأنه "اتفاق مصيري" ومهم للغاية، وذلك بعد أن تم تلاوته بالروسية والتركية من قبل وزيري خارجية البلدين. وقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، إن موسكو سوف تحتاج إلى معدات قتالية وتقنيات عسكرية لتنفيذ الاتفاق، وذلك في إشارة إلى احتمال إقلاع موسكو عن توجهها السابق القاضي بتقليص وجودها العسكري في سوريا، أما وزير الدفاع الروسي شويغو فقال أن أمام الولايات المتحدة ساعات محدودة للوفاء بالتزاماتها للانسحاب من سوريا.

وتحاول موسكو "إملاء الفراغ" بعد انسحاب واشنطن، في رسائل مزدوجة، أولها – التحذير من الفراغ الذي قد يستغله الإرهابيون، وثانيها- توفير شروط مطلوبة للأمن والسلام على الحدود ومنع الإرهابيين الاستفادة من التطورات الجديدة.

وثالثها – تطمينية للأكراد بالتأكيد على أهمية تعزيز الحوار بين دمشق وبينهم لأنهم جزء من الدولة السورية والنسيج الوطني السوري ويجب أن تراعى حقوقهم ومصالحهم، ورابعها- بخصوص استمرار عمل " اللجنة الدستورية" التي يفترض أن تعقد اجتماعاتها في جنيف.

أما إردوغان فكانت رسائله هي أن بلاده  ملتزمة بمبدأ وحدة وسلامة الأراضي السورية، وذلك بتأكيده "وليس لدينا أي أطماع في أراضي الغير" وإن الهدف هو "دحر الإرهابيين" و"إعادة اللاجئين السوريين" وأنه خطط لإعادة نحو مليون لاجئ سوري إلى "المنطقة الآمنة".

وتزامن إعلان "اتفاق سوتشي" اقتراح وزيرة الدفاع الألمانية أنغريت كرامب كارنباور لإنشاء منطقة آمنة في سوريا برعاية دولية لحماية المدنيين وضمان استمرار التصدي لتنظيم "داعش" الإرهابي، وقالت أنها اتفقت مع المستشارة أنجيلا ميركل على عرض الاتفاق على دول حلف شمالي الأطلسي خلال اجتماعه في بروكسل.

ويتضمن الاقتراح الألماني مشاركة فرنسا وبريطانيا، إضافة إلى تركيا وروسيا في " قوة دولية" للانتشار في شمالي سوريا، وهو الأمر الذي اعتبر إرباكاً لحلفاء حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي الحاكم الذي تنتمي إليه وزيرة الدفاع، وبدا وزير الخارجية الألماني  هايكو ماس متفاجئاً لأنه اعتبر عملية نبع السلام التركية "غزواً" وإنها تتعارض مع قواعد القانون الدولي.

وحتى الآن  فمن الصعب التكهن بما ستؤول إليه العلاقات السورية – التركية وما إذا كان الحوار المباشر الذي يقترحه الروس سيفضي إلى النتائج المطلوبة، خصوصاً وإن العديد من القضايا العقدية ما تزال قائمة منها ما يتعلق بالمنطقة الآمنة ومنها ما يتعلق بمصير الأكراد وحقوقهم القومية السياسية والدستورية والموقف من حزب العمل الكردستاني PKK ومسألة الإشراف على المناطق النفطية بشمال سوريا، وكل ذلك يتطلب التزامات من الأطراف الأساسية، سواء أكانت روسيا أم تركيا أم الولايات المتحدة أم الاتحاد الأوروبي أم الكرد أم دمشق ، إضافة إلى الأمم المتحدة وقراراتها وكانت اتهامات سورية حكومية قد وجهت إلى إردوغان شخصياً بسرقة  المعامل والنفط والقمح وأنه اليوم يريد سرقة الأرض.

وقد رافق قمة بوتين – إردوغان إشارات اقتصادية مهمة، حيث تم الاتفاق على استخدام "الروبل" الروسي و"الليرة" التركية في التعامل الاقتصادي بين البلدين بدلاً من العملات الأجنبية، وخصوصاً الدولار، وتم بحث آلية مالية لتشبيك النظام المصرفي في البلدين ، كما اتفق البلدان على بناء محطة الطاقة النووية بمساعدة روسية واستمرار التعاون بشأن مشروع السيل التركي للغاز، وفي المجال العسكري استمرار التعاون بخصوص "صواريخ إس 400"، ويبقى الموضوع الأساسي هو الإرهاب والمقصود تركياً "حزب العمال الكردستاني" وسورياً وروسياً جميع المجاميع الإرهابية ، بما فيها داعش وجبهة النصرة " جبهة تحرير الشام" وأخواتها، وهو أمر مختلف عليه فيما يتعلق بإدلب ووجود الجماعات الإرهابية والمسلحة.

 

عبد الحسين شعبان - باحث ومفكر عربي

 

اخطار محدقة بالعراق يجب أن تثير الغضب

التفاصيل
كتب بواسطة: د. كاظم الموسوي

كاظم الموسويتنتشر اخبار تحمل اخطارا جدية على الشعب والوطن العراقي دون أن تثير غضبا أو تمر هكذا بدون احترام لسيادة البلاد واستقلاله. وكأن هناك صمتا مريبا من كل الجهات والأطراف الحاكمة في العراق ومن القوى السياسية ايضا ومن الأطراف التي تمارس تلك الأخبار مستبيحة العراق دون أي اعتبار للقانون الدولي أو السلوك الإنساني أو العلاقات أو الاحترام المتبادل.

من هذه الأخبار، خبر يتعلق بتهريب مسلحي الدواعش المسجونين في الشمال السوري، مع ارسال قيادات منهم الى العراق، وخبر نقل الجنود الامريكان من سوريا إلى العراق، وخبر تصريح وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو عن ستراتيجية حماية أمن الكيان واعطائه الضوء الأخضر للهجوم على اي بلاد او قوة تعتبرها ضد امنها، في صحيفة إسرائيلية.

كعادته تناقض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخرا باعلانه أن قواته قضت على تنظيم داعش الإرهابي، في قوله: «تم القضاء عليه مئة في المئة»، ولكنه كشف عن وجود مسلحي تنظيم داعش الأكثر خطورة، مع الذين يتواجدون في سجون قوات سوريا الديمقراطية “قسد” شرقي الفرات،  مؤكداً "إن بلاده نقلت عدداً من مسلحي التنظيم الأكثر خطورة إلى خارج سوريا، دون تحديد الوجهة". وأضاف "أن الولايات المتحدة انتصرت على تنظيم داعش، لذلك على أوروبا استعادة مواطنيها من أفراد التنظيم المحتجزين في سوريا". فكيف انتصرت ومازال التنظيم في السجن المهدد بتركه مفتوحا وممرات للهرب منه، هذا فضلا عن المرسلين أو الموضوعين في اليد، والمنقولين من مكان إلى آخر.

كانت صحيفة "واشنطن بوست"، قد ذكرت أن القوات الأمريكية تسلمت من الفصائل الكردية عشرات من أبرز المعتقلين "الدواعش"، بمن فيهم بريطانيان اثنان، لمنعهم من الهروب من السجون الواقعة شمالي سوريا. ونقلت الصحيفة عن مصادرها، إن "العسكريين الأمريكيين تسلموا نحو 40 معتقلا يعتقد أنهم من القيادات البارزة في داعش، وبينهم البريطانيان ألكسندر كوتي والشافعي الشيخ، وهما عضوان من مجموعة كانت تضم أربعة مسلحين أطلق عليها بيتلز نسبة إلى الفريق الغنائي البريطاني الشهير، بسبب لكنتهم البريطانية". وسبق أن احتجز الرجلان وتقرر تسليمهما للمحاكمة في الولايات المتحدة بتهمة تورطهما في عمليات قتل وتعذيب عشرات الرهائن الغربيين، بينهم أمريكيون، أمام عدسة الكاميرا.

منذ إحتلال العراق عام 2003  والمشروع الصهيو امريكي هو الهيمنة على المنطقة وتنفيذ اهداف الإمبريالية الأمريكية المعروفة. ومنذ إعادة القوات الأمريكية إلى العراق تحت مسميات مختلفة، منها التدريب، دون حساب الموقف الرسمي أو الشعبي العراقي. فحسب مصادر إعلامية، ليست بعيدة عن أصحاب الأخبار، تحاول الولايات المتحدة الأمريكية إعادة نشر قواتها العسكرية في العراق، "للسيطرة على الشريط الحدودي بين العراق وسوريا، لمنع تسلل المسلحين وفصائل الحشد الشعبي، ونقل الأسلحة الإيرانية إلى سوريا عبر الأراضي العراقية"(!). فمنذ اول إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 19  كانون الأول/ ديسمبر 2018، سحب قوات بلاده بشكل مفاجئ من سوريا، "وصلت وحدات من الجيش الأمريكي إلى الأراضي العراقية بعلم الحكومة العراقية، ليتجاوز عدد القوات الموجود بالبلاد 30 ألف جندي".(!) ويقول مصدر مطلع على شؤون الجيش الأمريكي في العراق لـ «عربي بوست»، إن «الآليات العسكرية للقوات الأمريكية وصلت إلى قاعدة عين الأسد بمحافظة الأنبار غربي العراق، الواقعة بالقرب من الحدود السورية». وأضاف: «لقد تم نقلها عبر شركات تسمى الكمبول، من الكويت إلى الأنبار، عبر البصرة». وقال إن الشركات التي تعمل مع الجيش الأمريكي نقلت مدرعات وسيارات عسكرية ومدافع وأسلحة ثقيلة أخرى. و"لفت إلى أن عملية النقل تمت بعلم وموافقة الحكومة العراقية". وإعاد ترامب إعلانه مؤخرا وصرح وزير البنتاغون مارك اسبر إنه من المتوقع ذهاب ألف جندي سحبوا من سوريا إلى غرب العراق. وذكر الوزير الأمريكي بحسب وكالة "سبوتنك" (2019/10/20), أن القوات في غرب العراق ستركز على المساعدة في الدفاع عن العراق، وقتال تنظيم "داعش"، مؤكداً أن وقف إطلاق النار في شمال شرق سوريا متماسك بشكل عام. وتابع مارك إسبر، قائلا: إنه من المتوقع انتقال كل القوات التي تنسحب من شمال سوريا، والتي يبلغ عددها نحو ألف جندي إلى غرب العراق، لمواصلة الحملة ضد مقاتلي تنظيم داعش وللمساعدة في الدفاع عن العراق. وأوضح للصحفيين وهو في طريقه للشرق الأوسط: إن الانسحاب الأمريكي ماض على قدم وساق من شمال شرق سوريا.. إننا نتحدث عن أسابيع وليس أياما، والخطة الحالية هي إعادة تمركز تلك القوات في غرب العراق، قائلاً: "إن عددها يبلغ نحو ألف فرد". وكانت اخبار اليوم التالي تؤكد انتقال القوات ومعداتها إلى العراق.  (اعلن مصدر رسمي عراقي عدم قبول العراق بتواجد القوات الامريكية الجديدة، وهناك اخبار عن وصول قوات أخرى من منطقة الخليج إلى غرب العراق).

في اللقاء الذي اجرته صحيفة "جيروزاليم بوست"، الإسرائيلية مع وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو استعرضت واياه السياسة الامريكية في "الشرق الأوسط"، فأكد الوزير التزام بلاده وإدارة البيت الأبيض بأمن الكيان إلاسرائيلي. وقال الوزير الأمريكي في مستهل المقابلة: "لقد كان موقف إدارتنا واضحا للغاية بشأن هذه القضية. يحق لإسرائيل التحرك من أجل الحفاظ على أمن مواطنيها. هذا هو ما تقوم به الدولة القومية - إنه ليس حقها فحسب بل هو واجبها". (وهذا ضوء أخضر بلا رتوش أو مواربة!. وسبق منحه وتم قصف مواقع عسكرية والحشد الشعبي في العراق).

وحاول بومبيو في الوقت ذاته تبديد المخاوف من أن رحيل القوات الامريكية من شمال سوريا، سيسمح لإيران بنقل الأسلحة إلى سوريا ولبنان بسهولة أكبر. ورفض بومبيو الادعاء بأن الولايات المتحدة منحت فعليا إيران السيطرة على المعابر الحدودية العراقية السورية. وأكد بومبيو: "الرئيس ترامب ملتزم بمواصلة السياسة الأمريكية الرامية إلى محاربة داعش. نحن نعلم أن هذا مجال حاولت إيران من خلاله نقل الأسلحة إلى سوريا ولبنان، وأنها تهدد إسرائيل، وسنبذل كل ما في وسعنا للحد من هذه المحاولات والرد عليها".

ماذا بعد؟!، هل هناك أوضح من هذه الأخطار القادمة الى العراق أو التي وصلته؟!، ومتى التصدي لها ولماذا هذا الصمت عليها؟!. أنها أخطار جدية ولها تداعياتها ولابد من الحيطة والمواجهة قبل أن يقع الفاس بالرأس..

 

كاظم الموسوي

 

"الدولة العميقة" مذعورة من التحرك الشعبي في العراق ولبنان

التفاصيل
كتب بواسطة: عادل حبة

تركزت كل شعارات الحراك الشعبي في العراق ولبنان على تصفية مظاهر الطائفية السياسية ومحاصصاتها المدمرة وانتشار السلاح خارج مؤسسات الدولة وانتقالها إلى الميليشيات الطائفية وغير الطائفية، إضافة إلى مطاليب تتعلق بالعدالة في التوزيع والنهب المنفلت والفساد العارم وغيرها من المطاليب الاصلاحية في الانتخابات وقوانينها. ولكن فات على هذا الحراك إلقاء الضوء على الظاهرة الجديدة التي تسللت إلى المشهد السياسي في البلدين وحتى في بلدان أخرى، ألا وهي ظاهرة "الدولة العميقة" التي لا تخضع ولا تدار من قبل القوانين السارية في البلدين، وهي التي "تشرع" الفساد والنهب وتشيع القمع والارهاب بعيداً عن أية رقابة أو مسائلة. هذه الدولة العميقة تدار من جهات اقليمية وخارجية ، وما على بيادقها في العراق ولبنان ودول أخرى إلاّ تحقيق مآرب أجندة هذه الجهات في بلداننا. ولعل أصدق تعبير وأكثر دليل على ظاهرة  الدولة العميقة هو ما صرح به علي خامنئي "مدير الدولة العميقة في ايران"، أخيراً في خطاب له أعطى الضوء الأخضر لـ "بيادقه" في العراق وايران بالتحرك لسفك دماء الشبيبة المطالبة بالاصلاح وانهاء حراكهم.

في خطابه ، اصدر خامنئي توجيهاته قائلاً : "أوصي الحريصين على العراق ولبنان أن يعالجوا أعمال الشغب وانعدام الأمن الذي تسببه في بلادهم أمريكا والكيان الصهيوني وبعض الدول الغربية بأموال بعض الدول الرجعية"!!!. ولا ندري ما هي صلاحيات المسؤول الأول في السلطة الايرانية عن إصدار مثل هذه التوجيهات لمواطني دول أخرى؟؟؟ وما أن صدرت هذه التعليمات حتى شن بلطجية أدوات الدولة العميقة في بيروت والعراق للقيام "بغزواتهم" ضد شبيبة الحراك الشعبي في البلدين وأحرقت خيمهم وقتلت قناصيهم العشرات من العراقيين المنتفضين. إن ممارسة هذه الدولة العميقة سبق وأن مارستها طغمة الدولة العميقة في ايران منذ الأيام الأولى التي اعقبت سقوط النظام الشاهنشاهي في ايران عام 1979. وقتها قامت أدوات الدولة العميقة من البلطجية باشهار اسلحتهم المتنوعة وهراواتهم وبدراجاتهم البخارية وتحت حراسة قوى الأمن الايرانية بالهجوم على مقرات جميع الأحزاب السياسية الايرانية التي شاركت في الثورة ، ناهيك عن الهجوم على المظاهرات التي كانت تنظمها هذه الأحزاب لطرح مطاليبها. ولكن منذ ذلك التاريخ وحتى الآن لم يهدأ الشارع الايراني من الحراك المشروع ولم تترد الدولة العميقة غير الخاضعة لأية مجوزات قانونية في استباحة هذا الحراك المشروع الذي يكفله الدستور الايراني وقمع أية مسعى شعبي، وحتى لقوى من داخل المؤسسة الحاكمة" للاصلاح وارساء دعائم دولة القانون.

ومن أجل تحقيق هذا الهدف، قامت أدوات الدولة العميقة تدريجياً وضمن خطة مبرمجة بتأسيس وأرساء دعائم قواتها المسلحة الضاربة والقمعية وراحت في الأيام الأولى للثورة بالسطو على مخازن الأسلحة وبعض المرافق الاقتصادية، لتتجه لاحقاً صوب تشكيل فصائل مسلحة بأسم حزب الله، مستغلة الدين والمذهب، لتتحول إلى وحدات مسلحة تارة باسم "الحرس الثوري" وتارة باسم "التعبئة"(البسيج) مستغلين ظروف الحرب التي أعلنها صدام حسين ضد الشعب الايراني. وما أن انتهت الحرب حتى خرجت عن مهمة صد العدوان الخارجي وتحولت هذه المؤسسات إلى قوى قمعية ومالية ضخمة بيد الدولة العميقة تتحكم برقاب الناس وشؤونهم ووزعت أدواتها على كل مرافق الدولة المدنية والعسكرية، وخاصة في اقتصاد البلاد عامة من الصناعة النفطية والى الطرق وغيرها من المؤسسات والصناعات الستراتيجية في ايران، مستفيدة من الاقتصاد الريعي الذي شق طريقه بقوة في المجتمع بعد الثورة الايرانية. وقامت الدولة العميقة بتهميش الجيش الرسمي والشرطة الايرانية لتتحول جميع مقدرات البلاد الأمنية وحتى القضائية والمحاكم بيد "الحرس الثوري والبسيج". ولم يعد للمؤسسة المنتخبة من قبل الشعب، كرئيس الجمهورية حسن روحاني ولا مجلس الشورى الايراني أية قيمة وتأثير في إدارة الدولة.

وقد استهوت هذه الممارسة الايرانية التيارات الدينية المتطرفة التي أخذت تتسلم الدعم والعون من أقرانهم في أيران. وعلى هذا المنوال تشكل حزب الله في لبنان وفي دول أخرى. وقد استغل حزب الله الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة ضد الشعب اللبناني ليعلن نفسه المدافع "الوحيد" عن هذا الشعب، وراح في البداية يشن الحرب ضد كل تيار لبناني يعلن مقاومته للاعتداءات الاسرائيلية ( الحزب الشيوعي اللبناني وحركة أمل وبعض الفصائل الفلسطينية) كي يستحوذ هو ويحتكر هو ولا غيره "شرف" المساهمة في التصدي للعدوان الاسرائيلي بهدف تحقيق نفس الممارسة الايرانية وتشكيل الدولة العميقة التي سرعان ما رفعت صور الخميني وخامنئي في أنحاء لبنان وراحت تسيطر على منشئآت اقتصادية وخدمية وتحول حزب الله إلى جانب قوته العسكرية، إلى قوة اقتصادية في لبنان ، بل ولديه منشئات اقتصادية خارج لبنان. 

ولا يختلف الأمر كثيراً عندنا في العراق. فمنذ اللحظات الأولى لإنهيار الطاغية صدام حسين، طلت على العراقيين بدعة " الحواسم"، هذه الفئات الدينية المتعصبة التي لم تبق على مؤسسة عسكرية أو اقتصادية ونهبها لتتحول بعد ذلك إلى ميليشيات مسلحة بشتى أنواع الأسلحة التي خاضت منذ الأيام الأولى لإنهيار النظام المواجهة المسلحة تارة بدعوى مواجهة الاحتلال الأمريكي أو الصراع على الغنائم مع أقرانها من الميليشيات أو الصدام مع القوات الأمنية العراقية التي شرع بتشكيلها بعد انهيار النظام السابق. وبين ليلة وضحاها توفرت لهذه الميليشيات قدرات عسكرية ومالية جراء النهب والسطو على أملاك المواطنين والعون القادم من خارج الحدود ودول الاقليم (ايران والسعودية وقطر وتركيا وحتى سوريا). وقد توفرت لبعض هذه الميليشيات امكانيات كبيرة عندما استقرت في ايران، حيث توفر العون المالي إضافة إلى البشرية من خلال تشكيل فصائل مسلحة باشراف ايراني من "التوابين"؛ أي الأسرى البعثيين وغيرالبعثيين العراقيين الذين وقعوا في الأسر الذين أعلنوا "توبتهم"وانخرطوا في تشكيلات متنوعة مثل "فيلق بدر" وغيرها. فإذا كانت ذريعة تشكيل هذه الميليشيات هي مواجهة الاحتلال الأمريكي، إلا ّ أن نشاطها استمر وبدعم ايراني مكشوف حتى خروج القوات الأمريكية إثر التوقيع على الاتفاقية الأمنية العراقية الأمريكية في حكومة المالكي. واستمرت هذه الميليشيات بنشاطها المتنوع  بعد الاتفاقية غي الاغتيالات السياسية والسطو لتنتهز الفرصة بعد هجوم داعش على العراق لتتحول إلى ما سمي "بالحشد الشعبي الرسمي" الذي أقر مجلس النواب قانونه وكان ذلك أحد أخطاء مجلس النواب الكثيرة. ومن أجل إضفاء صفة "العصمة" على هذا التشكيل، شرع بإضفاء القدسية عليه ليصبح الحشد الشعبي "المقدس" الذي لا يمكن عندئذ توجيه أي نقد أومسائلة له من قبل الشعب. وبالرغم من تحريم النشاط السياسي للقوات المسلحة على اختلاف صنوفها ومن ضمنهم الحشد الشعبي الذي اعتبر جزءاً من القوات المسلحة العراقية حسب القانون الذي شرعه مجلس النواب، إلاّ أن قادة الحشد شاركوا بنشاط في انتخابات مجلس النواب باسمائهم متجاهلين الدستور العراقي الذي ينص على منع العسكريين من النشاط السياسي. واستغل قادة الحشد هذا الموقع لينتقل بعضهم إلى مواقع حساسة في الجيش والقوة الجوية والشرطة الاتحادية ومكافحة الارهاب لتعزيز مواقعه وتأثيره في القوات المسلحة العراقية، ولا يخلو ذلك من مطلب ايراني وضغوط بعض الكتل السياسية الطائفية والنخب المسيطرة على الحشد. وفي الحقيقة والواقع فإن الحشد تشكيل مستقل غير خاضع بتسليحه وكل نشاطه للقائد العام للقوات المسلحة والحكومة ياستثناء الرواتب التي تدفعها وزارة المالية لمنتسبي هذا التشكيل. فالتشكيل حر في علاقاته مع الدول الخارجية واستلام المعدات والذخيرة منها وليس من وزارة الدفاع العراقية. وفي انتفاضة اكتوبر الشعبية أفصح الحشد عن حقيقته عندما فتح النار على المتظاهرين السلميين العزل وأودى بحياة المئات منهم  دون أي قرار من قبل القيادة العامة للقوات المسلحة. وهكذا تشكلت لدينا أيضاً "الدولة العميقة" بكامل قوامها لا من أجل خلق الاستقرار وإدارة عجلة التنمية وبناء الدولة الديمقراطية الحديثة، بل من أجل إرساء دعائم دولة الاستبداد الديني. فهل يعي العراقيون الذين ذاقوا الأمريم من الاستبداد البعثي وغيره من أنواع الاستبداد المقبت، هذا الخطر الداهم؟

 

عادل حبه

 

الهوية والفعل الحضاري لماجد الغرباوي.. إصدار جديد عن مؤسسة المثقف

التفاصيل
كتب بواسطة: صحيفة المثقف

81 majedalgharbawi250صدر في سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة في دمشق – سوريا، كتاب جديد لماجد الغرباوي، بعنوان:

متاهات الحقيقة (1): الهوية والفعل الحضاري

يقع الكتاب في 416 صفحة من الحجم الكبير، وقد زينت لوحة الفنان التشكيلي الكبير ا. د. مصدق الحبيب غلاف الكتاب الجميل.

وقد تناول الكتاب مجموعة قضايا قاربها الكاتب ضمن الحوار المفتوح، منها: قلق المستقبل، الحركات الإسلامية والحكم، العرب والعنف، الموقف من الغاوين، شرعية الفتوحات، واقع القصص القرآني، رمزية الجنة والنار، الموقف من العلمانية، التخندق الخرافي، فرص الإصلاح الفكري، التنوير والاستلاب، التسامح وسلطة الحقيقة، المقدّس ورسوخ الفكرة، الاشتراكية العلمية، شرعية الدولة الدينية، جدل التراث والمعاصرة، رهانات العقلانية، قيمة الفكر التنويري، مفهوم النقد الثقافي، المثقف المستنير، مستقبل الثقافة، نسبية مفهوم التسامح، الدين والتوظيف السياسي، النظرة الدونية للمرأة، اشتغالات النص القرآني، قريش والسلطة.

81 majedalgharbawi600

كتب على الغلاف

من هنا جاءت الأجوبة في هذه الموسوعة الحوارية (متاهات الحقيقة)، تقارع حصون الكهنوت وتحطّم أسيجة تراثية تستغرق الذاكرة، وتطرح أسئلة واستفهامات استفزازية جريئة.. بحثا عن أسباب التخلف، وشروط النهوض، ودور الدين والإنسان في الحياة. فتوغّلت عميقا في بنية الوعي ومقولات العقل الجمعي، واستدعت المهمّش والمستبعد من النصوص والروايات، وكثّفت النقد والمساءلة، وتفكيك المألوف، ورصد المتداول، واستنطقت دلالات الخطاب الديني، بعد تجاوز مسَلَّماته ويقينياته، وسعت إلى تقديم رؤية مغايرة لدور الإنسان في الحياة، في ضوء فهم مختلف للدين، وهدف الخلق. فهناك تواطؤ على هدر الحقيقة لصالح أهداف أيديولوجيات – طائفية. ومذهبية - سياسية.

 

مؤسسة المثقف – قسم الكتاب

1 -11 – 2019م

 

النزعة الروحانية واللونية في اعمال ابراهيم العبدلي

التفاصيل
كتب بواسطة: د. كاظم شمهود

94 ابراهيم العبدلي 1عندما نقف في امان الى جانب اعمال الاستاذ ابراهيم العبدلي ونتأملها بما تحفل به من خيالات واسعة ومواضيع متنوعة عن البيئة والتراث العراقي الشعبي، يمكن لنا ان نصنع من بعض مختاراتها كتابا من اكثر الكتب تأثيرا واكثرها قربا الى مشاعر الناس، ونلمس فيها ما يبرز من المجد الذي يكلل جهدا روحيا عظيما من الانتصار الذي حققه صبر هذا الفنان .

ويعمل الاستاذ العبدلي ضمن تجربة ومعرفة موضوعية للحرفة في اسلوبه الواقعي والتأملي في موضوعاته وتقنياته، وهي اشارة الى التعامل العقلاني في تنفيذ اعماله . ولم يكن فوضويا في تنفيذها، انما كان جل اهتمامه بان يجعل لوحاته حصيلة فذة للتركيز على اللون والفكرة او الموضوع.. وقد هيمن على اعمال ابراهيم العقل الواعي والقصد والحس المرهف. وكان يخطط لتكويناته الخاصة بعناية فائقة.

94 ابراهيم العبدلي 2

ونجد في اعماله الخط غائبا، الذي اعتمدت عليه المدرسة الوحشية وكذلك مدرسة الواسطي البغدادية، وانما اللون يلعب وجودا حيا من التعاطف والتآخي مع محيطه حيث تسير الالوان بحرية مع فرشاة انطباعية راقية مولدة بحركتها ايقاعات تتفاعل مع بعضها بتناغم جميل .

واستخدم ابراهيم في تقنياتة اصباغ ومواد مختلفة من الزيت والكريلك وغيره وكذلك المائيات على الورق وبطريقة عفوية حرة تذكرنا باعمال بعض الفنانين الانطباعيين مثل سيزان .

94 ابراهيم العبدلي 3نجد في اعمال ابراهيم روحانية وخيال وتأمل، وهو يعود بنا الى الجذور الشرقية والفن الاسلامي بروحه والوانه الساطعة والحارة وكذلك المدرسة الانطباعية حيث الاختزال والرقة في البناء الانشائي وغياب الخط الذي يعوض عنه بالتضادات اللونية التي تبرز الاشكال والالوان والقيم الجمالية ...

اما المواضيع فهي مستقاة من البيئة العراقية وخاصة البغداية .. من شناشيل وعربات الربل والحصان العربي والطير والمناظر الطبيعية والمرأة البغدادية برقتها وجمالها وعفتها التي تبهر الناظر اليها ..

وبالتالي نصبح امام اعمال لها مظهرين من مظاهر الادراك وهما: الادراك العقلي والادراك الحسي. وبهذه المناسبة ننقل رواية تاريخية من من بطون كتبنا العربية تقول ان هناك مطارحات حدثت بين عقليتين كبيرتين، بين الشاعر الكبير ابو نواس وبين صاحب المنطق المعتزلي ابراهيم المعروف بالنظام، وهو حوار بين المنطق الصوري والمنطق الجدلي او موقف صاحب الشكل وصاحب المضمون او بمعنى آخر اتباع الادراك الحسي واتباع الادراك العقلي . وكان الجدل يدور حول ان الفنان او الشاعر كالصوفي يبحث دائما عن المحجوب يبصر مباهج الكمال والجمال . لذلك صاح ابو نواس في وجه النظام: عرفت شيئا وغابت عنك اشياء . اي عرفت من الشكل واحد – بالادراك الحسي – ولكنك فقدت معرفة - الجوهر- معرفة اشياء كثيرة دون الادراك العقلي .....

وقد حول سيزان الادراك العقلي الى حسي عندما ابتعد عن التناقضات الحياتية باتجاهه الى الانطباعية او الى الطبيعة وهو القائل: (اعتقد انني اصبح اكثر صفاء في مواجهة الطبيعة). اي انه يتلقى المؤثرات الجمالية كالشاعر من الواقع الذي حوله

الاسلوب في اعمال ابراهيم

الملاحظ في اعمال ابراهيم وجود صفتين مجتمعتين الاولى هي الصفة الواقعية او التمثيلية حيث ينقل لنا بفرشاته الواقع المحسوس والمنظور المتمثل في البيئة العراقية الغنية بمواضيعها وتراثها العريق، ولكن نقلا تأمليا ابداعيا يلامس مشاعر المتلقي وجوهره .

فالعقل عنده لا يحد من تصوراته حيث يهيم محلقا فوق مساحة سطح اللوحة ليخلق فيها تلاحما او تشابكا بين الشكل واللون واللذان يؤديان بالتالي الى التناغم المشترك الذي يعد شيئا جوهريا في العمل الفني، ولكي يحقق ذلك التناغم عليه ان يعتمد لا على رؤيته البصرية فقط وانما على احاسيسه ومشاعره الداخلية .

والمدرسة الواقعية لها تاريخ طويل، حيث يعتبر جوستاف كوربية 1819- 1877 – مؤسس هذه المدرسة في الفن التشكيلي في اوربا . وقد فتح نظرية جديدة غير مألوفة من قبل وهي نظرية - الواقعية – حيث اكد على رسم الاشياء كما هي في الواقع دون اللجوء الى الخيال والمثالية، كما كانت عند المدرسة الكلاسيكية القديمة والحديثة . وحيث يمكن التعبير عن الافكار والتصورات الواقعية كما يشاهدها البصر وكما هي في الواقع . وكانت هذه النظرية قد اعتنقها الفكرالاشتراكي البروليتاري في روسيا في بداية الثورة واسسوا عليها المدرسة الاشتراكية في الفن ... ..

94 ابراهيم العبدلي 4

اما الصفة الاخرى التي نشاهدها في اعمال ابراهيم هو الاسلوب الانطباعي حيث الغنائية اللونية والشاعرية العذبة والطروبة ولمساة الفرشاة الساحرة والراقية ... وتعتبر الانطباعية او التأثيرية- 1874 - مذهباً فنياً جديداً أتسمت بالعلمية غير أنها تعتبر استمراراً لاساليب المطابقة السابقة ولكنها اكثر تقدمية واكثر واقعية من واقعية المصور الفرنسي كوربية . لهذا لقبت الانطباعية بالواقعية العلمية . ويعتبرها البعض الحد الفاصل بين المدرسة الكلاسيكية القديمة وبين المدارس الفنية الحديثة .. وكان مونيه زعيم هذه المدرسة يرسم البرك المائية والامواج ويكرر ذلك في اوقات مختلفة دارساً التأثيرات الضوئية على المنظر الطبيعي وكذلك الظل والضوء .. وكان يقول: (أن البحر سبب وجودي).

ومن صفات المدرسة الانطباعية هو رسم المناظر الطبيعية واللمسة العريضة والضربات الجريئة واحياناً اختفاء الخطوط التي تحدد الاشكال حيث عوضت عنها بالظل والنور . وهذا مانجده في اعمال ابراهيم الانطباعية ولكنها لها خصوصية تنتمي الى الواقع والبيئة العراقية، والطبيعة دائما هي ما هي عليه ولكن لا شئ يتبقى منها لا شئ مما نراه ولابد لفننا من ان يمنح تلك الطبيعة معنى الاسنمرار الى جانب مظهر كل تغيراتها فيساعدنا هذا على الاحساس بالطبيعة كشئ ابدي، وهذا بالتالي يقودنا الى ان كل ما وراء المظاهر المرئية تكمن هناك حقيقة باقية وان وظيفة الفنان هو كشف تلك الحقيقة .

و المعروف ان الالوان الرئيسية تتحطم عندما تمتزج مع بعضها. وهناك طرق كثيرة في مزج الالوان في تخفيفها او تعادلها او تقويتها ذكرت في كثير من الكتب القديمة والمعاصرة . وكان ولازال ابراهيم واعيا لهذا المعادلات اللونية فهو يرسم كاستاذ وصاحب تجربة وخبرة علمية منذ مطلع الستينات من القرن العشرين الى اليوم في خط تواصلي مستمر دون انقطاع او توقف .

الاستاذ ابراهيم العبدلي له باع وسيرة مشرقة طويلة وغنية في الفن العراقي، وقد كتب عنه اساتذته رواد الفن العراقي امثال فائق حسن واسماعيل الشيخلي وغيرهم وقد اثنوا عليه واشادوا بمكانته الفنية ودوره الريادي في حركة الفن العراقي المعاصر . والعبدلي هو خريج اكاديمية الفنون الجميلة في بغداد عام 1965، ثم اصبح استاذا في معهد الفنون الجميلة في بغداد ومحاضرا في اكاديمية الفنون الجميلة، ثم انتقل الى السعودية للتدريس وبعدها مدرسا في جامعة البترا في الاردن . اقام عدة معارض فنية وحصل على جوائز عديدة ... تعرفت عليه في الاردن في حوالي عام 1996 ايام الحصار الظالم على العراق وحليت عليه ظيفا في بيته في عمان فاستقبلني بحفاوة وتكريم واهداني احد كتبه الموسومة .

 

د. كاظم شمهود طاهر / 2019 – مدريد

 

 

"السينما الأردنية.. بشاير وأحلام" تجليات الفن السابع عبر ستة عقود

التفاصيل
كتب بواسطة: عدنان حسين احمد

عدنان حسين احمدصدر عن دار "الآن ناشرون وموزِّعون" بعمّان كتاب "السينما الأردنية ..بشاير وأحلام" للناقد السينمائي ناجح حسن وهو الكتاب السابع في رصيده النقدي الذي يوثِّق للسينما الأردنية التي اقترنت بدايتها بفيلم "صراع في جرش" عام 1958. يتألف الكتاب الذي يقع في 316 صفحة من القطع المتوسط من مقدمة وواحد وعشرين فصلاً إضافة إلى ثبت بسيرة الناقد الذاتية والإبداعية.

تكشف المقدمة ثقة المؤلف المُطلقة بأنّ السينما هي لغة بصرية راقية، ووسيلة تَخاطب وحوار بين الثقافات المتعددة والحضارات المتنوعة، ولا ينحصر دورها في الترفيه، وتزجية وقت الفراغ حسب، وإنما تحفِّز على إعمال الذهن، وتشجّع على التفكير. ويذهب أبعدَ من ذلك حينما يصف السينما بالأداة الفنية الأكثر عدالة وتسامحًا لأنها تقف ضد الفساد والتطرّف وتشذّب الذائقة الجمالية للمتلقين في كل مكان.

يسعى المؤلف في هذا الكتاب إلى تبيان جهود الأفراد والمؤسسات في دعم الخطاب السينمائي بصورة عامة، وتشجيع المواهب الشابة التي تجد ضالتها في الفن السابع. فثمة دعوات كثيرة تبدأ بضرورة إطلاق المهرجانات السينمائية، وإيجاد الحلول اللازمة لمشكلات الفيلم العربي في التمويل والتسويق والمشاركة في المهرجانات العالمية على أوسع مدىً ممكن.

يتمحور الفصل الأول على الطاقات الشابة التي ترنو إلى الإبداع والابتكار ويأتي في مقدمتها ناجي أبو نوّار الذي تألق في إخراج فيلم "ذيب" وظفر بجائزة أفضل مخرج في الدورة الـ 71 لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي. وقد سبق هذا الفيلم الذي يشكّل علامة فارقة في السينما الأردنية العديد من الأفلام الروائية الأخرى مثل "كابتن أبو رائد"، "الجمعة الأخيرة"، "الشراكسة"، و "المنعطف" وغيرها من الأفلام التي أنجزها مخرجون شباب يتطلعون إلى الابتكار والمغايرة والاختلاف. ولم يقتصر هذا السعي على الأفلام الروائية الطويلة، وإنما تعداها إلى الأفلام الوثائقية والقصيرة من بينها "طرفة" لماجدة الكباريتي، و "الببغاء" لدارين سلام.

يواصل المؤلف رهانه على الجيل الجديد في تطوير السينما الأردنية فيخصص الفصل الثاني برمته للمخرج الأردني المغترب عدنان الرمحي الذي أنجز فيلمين روائيين، وستة أفلام وثائقية من بينها "رحلة المشتى" 1996 الذي تابع فيه بعثة أثرية ألمانية قامت باقتطاع واجهة قصر المشتى عام 1912 ونقلتها إلى مُتحف برلين.

يرصد الباحث في الفصل الثالث أفلامًا متعددة لاثني عشر مخرجًا من بينها "حكاية شرقية" لنجدة أنزور التي تروي قصة صحفي مغترب عن واقعه تنتابه الكوابيس بسبب الإحباط الناجم عن سوداوية واقعه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. كما يركز على المخرج فيصل الزعبي الذي عاد من الاتحاد السوفييتي "السابق" وأنجز فيلمً وثائقيًا مهمًا هو "غصّة أو حي في البحر الميت" الذي تناول فيه حياة الروائي الأردني مؤنس الرزاز وعلاقة المبدع بمحيطة الاجتماعي والسياسي. وفي سياق عودة المواهب يتوقف المؤلف عند تجربة المخرج محي الدين قندور الذي عاد من أميركا عام 2008 وأنجز فيلم "الشراكسة" الذي يُعدّه النقاد مكتمل العناصر وينحاز للقيم البدوية والشركسية في آنٍ معًا.

يقترح المؤلف إعادة صندوق الأردني للدعم بوصفه أحد أذرع الهيأة الملكية الأردنية للأفلام، ويدعو إلى تهيئة صالات نموذجية تتوزع في أرجاء المملكة لأن العالم يتحدث اليوم بلغة الصورة. يُشيد الناقد ناجح حسن بجهود الأشخاص والمؤسسات التي تنظِّم الأنشطة والمهرجانات السينمائية، ويشير في هذا الصدد إلى جهود الناقد السينمائي الراحل حسان أبو غنيمة، وعدنان مدانات، وسوسن دروزة، وندى دوماني، وغادة سابا، وشادي النمري، والمخرج حازم البيطار الذين أثبتوا مقدرة عالية في إدارة وتنظيم المهرجانات السينمائية.

يتناول بعض فصول هذا الكتاب مهرجانات لأفلام روائية ووثائقية بشقيها الطويل والقصير من دون أن يهمل أفلام التحريك التي احتضنها الأردن في أحد مهرجاناته التي انتقت 35 فيلمًا وتألق بعضها مثل فيلمي "هون" و "دخان أكثر" لريم قطامي، و "مفقود" لطارق الريماوي وقد عدّ البعض هذا المهرجان  حدثًا ثقافيًا جديدًا على خريطة الإبداع المحلية. يركز الفصل السابع على مهرجان الفيلم الأردني الثاني والجوائز التي أُسندت إلى بعض الأفلام مثل "رسالة قيد التسليم" لحمزة ملحم و "خيانة جسد" لأحمد الفالح، و "لقيط" لرمضان الفيومي. أما مهرجان جرش للثقافة والفنون فقد ضمّ ستة أسماء وهم محمد عليوات، ريم قطامي، رنيم عابدين، وداد شفاقوج، مريم جمعة وهبة البوريني الذين رفدوا الأفلام الأردنية بلمسات جديدة من السرد القصصي والتوثيقي.

قدّمت السينما الأردنية خلال عام 2012 عددًا من الأفلام الطموحة التي تسعى إلى التجديد والابتكار من بينها "لما ضحكت موناليزا" لفادي حدّاد الذي يرصد العلاقة التي تجمع بين فتاة أردنية ووافد مصري. و "الساعة الأخيرة" لرؤى العزاوي الذي يروي معاناة أهالي غزة من الحصار، والقصف العشوائي.

يتناول المؤلف في ثلاثة فصول "الثورة العربية الكبرى" حيث يوثِّق المخرج عدنان الرمحي لزعماء الثورة من الأمراء الهاشميين. كما ينجز اللبناني فؤاد نعيم فيلمًا بالاسم ذاته، ويحقق إحسان رمزي فيلمًا ثالثًا عن مؤسس المملكة. وهناك ثلاثية تسجيلية ترصد وقائع الثورة العربية الكبرى من إخراج أصيل منصور ورولاند ماي. أما فيلم "ذيب" الذي توقف عنده المؤلف غير مرة فقد أنجزه المخرج ناجي أبو نوّار على وفق ذائقته الشخصية التي تميل إلى السينما البسيطة التي تخلو من التكلّف والافتعال، وتحترم عقلية المتلقي، وتنحاز إلى تاريخه ومنظومة قيمه الاجتماعية والأخلاقية. وقد أجرى المؤلف لقاءً طويلاً يسلط فيه الضوء على ثيمة الفيلم، وطريقة معالجته، والمؤثرات التي تركت بصماتها على مُخرج الفيلم.

يتوقف المؤلف عند 11 مُخرجة أردنية تناول بعضهن في فصول سابقة لكنه يعود ليفرد فصولا خاصة بفيلم "الأفعى" لجلال طعمة ويتعمق في ثيمة الفيلم وتقنيات المخرج، كما يكرّس فصلين خاصين لفيلمي المخرجة وداد شفاقوج الوثائقين وهما "17" الذي تتتبع فيه عدد من الشابات الأردنيات اللواتي يسعينَ لخوض غمار لعبة كرة القدم، و "آخر راكب" الذي تستقصي فيه أحوال اللاجئين السوريين في مخيّم الزعتري.

ثمة تركيز في أكثر من فصل على الرسوم المتحركة مثل "زيتونة" لبشرى نيروخ، و "غالية" الذي يُعرّف بمرض السرطان، ويُحذِّر منه. كما يُشيد المؤلف بتجربة المخرجة الشابة لور مدانات ويسلّط الضوء على تقنيتها ورؤيتها الإخراجية من خلال ثلاثة أفلام وهي "صدى الحلم"، "حققوا السلام" و "هزّ رؤوس".

يُحلل الناقد ناجح حسن في الفصل الأخير من الكتاب 15 فيلمًا روائيًا ووثائقيًا من بينها "لسة عايشة" لأسماء بسيسو، و "إنشاء الله استفدت" لمحمود المسّاد، و "ترانزيت" لمعتصم أبو عليم، و "صباح بارد في نوفمبر" لروبرت عبود، و "في الحُب غرابة" لأمين مطالقة المقتبس عن رواية "الليالي البيضاء" لدستويفسكي الذي يتناول فيه الوقوع في الحُب من طرف واحد، ومحاولة إسعاد حبيبته التي تعشق غيره.

وعلى الرغم من السمة الأرشيفية والحس التوثيقي لمجمل الأفلام التي تُنجز في المملكة الأردنية إلاّ أنّ فصول الكتاب تكتظ بالآراء النقدية التي تُشعِر المتلقي بأنه يقرأ دراساتٍ نقديةً معمقة تُحلل الأفلام، وتُسبر أغوارها، وتكشف ما غمُض منها، فلاغرابة أن نقول بأن هذا الكتاب يسدّ فراغًا في المكتبة السينمائية الأردنية في أقل تقدير.

 

لندن: عدنان حسين أحمد

 

رهانات المستقبل اللبناني والتحرر من الخوف

التفاصيل
كتب بواسطة: بكر السباتين

بكر السباتينالحريق في لبنان سيعقبه الفرج.. الحراك اللبناني يغير قواعد اللعبة الطائفية ويقوض أحلام زعماء الطوائف في تثبيت اتفاق الطائف، الذي يقنِّن التقاسمَ الطائفي في الدولة اللبنانية ويشرذم طاقاتها باتجاه المحاصصة في المداخيل حتى أتخمت الطوائف على حساب الشعب المغبون المتعثر في أحواله المعيشية، واندلقت كروش زعماء تلك الطوائف وترهلت التنمية المستدامة في لبنان. صحيح أن المقاومة المتمثلة بحزب الله في الجنوب اللبناني، هي خط أحمر بالنسبة لمعظم اللبنانيين، والتي في نظر مؤيديها تعتبر مع الجيش اللبناني، صمام الأمان الضامن لأمن الجنوب اللبناني وحمايته من الأطماع الصهيونية التمددية التي تحلم بضفاف الحاصباني، لكن إسقاط الطائفية أيضاً سيعزز من قوة لبنان وتماسكه وتسرِّع من عجلة التنمية المتعثرة.. فلكل عنوان تفاصيله.. واليوم يرفع لبنان عنوان التغيير والإصلاح ومحاربة الفساد بعيداً عن الطائفية البغيضة، من أجل لبنان قوي يحكمه قادة يتمتعون بالكفاءة ويحسنون التصرف في الأزمات كي تناط بهم مهمة إنقاذ لبنان.. وفتح الطريق أمامه نحو المستقبل.

لذلك يواصل اللبنانيون احتجاجاتهم في لبنان.. وتشهد البلاد شللا كاملا بعد ثلاثة عشر يوما من خروج المتظاهرين إلى الشوارع، حيث اتسمت بقطع طرقات رئيسية وتسببت بإغلاق المصارف والمدارس والجامعات، للمطالبة بإسقاط الطبقة السياسية برمتها، والسير وراء شعار لا للطائفية نحو لبنان يقوم على الكفاءات وانتخابات مدنية غير فئوية.

ومنذ 17أكتوبر، تكتظ الشوارع والساحات في بيروت ومناطق عديدة من الشمال إلى الجنوب، بالمتظاهرين في إطار حراك شعبي عابر للطوائف على خلفية مطالب معيشية ومحاربة الطغمة الفاسدة التي تتعامل مع لبنان كمزرعة يتقاسمون مخرجاتها مع زعماء الطوائف الذين ينتمون لأجندات خارجية، منها التي تقف ضد العدو الإسرائيلي وفق الأجندة الإيرانية كحزب الله وحركة أمل، والتي تتهمها الأطراف الأخرى باستحواذها على القرار اللبناني، وأخرى تستقطبها أجندة صفقة القرن والتي تحركها السعودية في لبنان مثل سعد الحريري وربما سمير جعجع قائد القوات اللبنانية، ناهيك عن وليد جنبلاط الزعيم الدرزي المشهور بتقلباته، وبعضهم ما لبثوا في ارتباط وثيق مع أحلام فرنسا الفرنكفونية مثل الكنيسة المارونية وبعض من لهم مصالح مباشرة مع فرنسا. وعليه فقد ظل لبنان رهينة لهذا التقاسم الذي وضعه المتظاهرون على محك الاختبار.

من جهتها قدمت الحكومة برنامجاً إصلاحياً طارئاً لإنقاذ البلاد ولكن لم ينفذ منه شيئاً بعد مرور أكثر من أسبوع على طرحه، وهذا ما جعل الاحتجاجات تتصاعد وترفع من سقف مطالبها المشروعة؛ لذلك قال الحريري في كلمة للشعب اللبناني، يوم الثلاثاء الماضي إنه "وصل إلى طريق مسدود"، ألحقها بعبارة توحي بأنه يقف مع مطالب الحراك الشعبي ربما لإنقاذ صورته المهترئة في عيون الشعب، قائلاً: "ولابد من صدمة لإحداث تغيير في البلاد".

صحيح أن رئيس الوزراء سعد الحريري قدم استقالة حكومته إلى الرئيس ميشال عون، يوم الثلاثاء الماضي بغية نزع فتيل الأزمة لكن الاحتجاجات ظلت مستمرة ولو بحدة أقل

ورغم ترحيب المتظاهرين باستقالة الحريري والهتافات المؤيدة للاستقالة في الميادين، إلا أنها لم تلبي كل مطالبهم والتي ارتفع سقفها إلى تغيير النظام السياسي في البلاد بعيدا عن المصالح الفاسدة والطائفية.. وأنها ضد الفساد وتطالب بحكومة فاعلة تعالج الأزمة الاقتصادية، مما أصاب البلاد بالشلل التام. أي أن النظام اللبناني برمته هو المستهدف.. ورغم ذلك ومع تراجع حدة الاحتجاجات أعيد فتح الطرق الرئيسية المغلقة يوم الأربعاء عقب استقالة الحريري، بناء على طلب الجيش، لكن بعض الطرق ظلت مغلقة.

ووفقا للدستور فقد طلب عون من الحريري الاستمرار في تسيير الأعمال لحين تشكيل حكومة جديدة، لأن مغادرته مكتب الرئاسة سيضع لبنان في أزمة حكومية عانت البلاد طويلاً للخروج منها ومن ثم تشكيل هذه الحكومة الهزيلة والمتصدعة حتى جاء الشعب ليوقظها من سباتها الطويل في جحر الطائفية والفساد بدون هواء يعيد إلى التنمية المستدامة الحياة.

مقابل كل ذلك، فإن اللبنانيين تعلموا من تجارب الربيع العربي الذي أحبطها الانتظار والتراخي حتى سقطت الشعوب العربية في أشداق السلطات المتربصة بها وأهلكتها الأجندات المتصارعة، فاستعادت الطغم الفاسدة قواها وتمددت في الدولة العميقة لكل قطر؛ وتجاوزاً لهذا المصير المحتمل؛ فقد عادت وتيرة الاحتجاجات في لبنان إلى التصعيد من جديد، حيث تداول مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي على نطاق واسع دعوة للاعتصام أمام مصرف لبنان وأمام مقرات حكومية صباح اليوم الخميس الموافق 31 أكتوبر 2019، وهو الأمر الذي قد يؤثر على قرار استئناف عمل البنوك يوم غد الجمعة.

وكانت جمعية مصارف لبنان أعلنت أن البنوك ستستأنف عملياتها العادية وتستقبل العملاء ابتداءً من يوم الجمعة، منهية إغلاقاً استمر أسبوعين.

وفي سياق متصل، شدد بيان من قيادة الجيش على الحق في الاحتجاج السلمي، ولكن "في الساحات العامة فقط"، وحث المتظاهرين على المساعدة في إعادة الحياة إلى طبيعتها.

وقبل وقت قليل من إعلان الحريري، اعتدى مهاجمون بالعصي والحجارة على موقع التجمع الرئيسي للمتظاهرين في وسط بيروت. وعمد عشرات المعتدين على تكسير وإحراق الخيم التي نصبها المحتجون في ساحة رياض الصلح في وسط بيروت وهاجموا متظاهرين كانوا لا يزالون في المكان. وهرعت قوات الجيش إلى منطقة الحدث، وطوت الصفحة بتقديم الحماية للمتظاهرين الذين ثمنوا ذلك، واتهم البعض أنصار حزب الله وحركة أمل بافتعال الحادث، وربطوا ذلك بما فهم من خطاب السيد حسن نصر الله بأنه تهديد للحراك، بينما ارتدت سهام الاتهامات -من جهة أخرى- إلى مدسوسين ينتمون لأجندات سعودية تسعى لخلط الأوراق، وضرب الحراك من خلال حث المتظاهرين على الاصطفافات الطائفية خلافاً لما تنادي بها الحناجر حيث أجمعت على إسقاطها وقطع الطريق على أجندات مثيري الفتن الطائفية لصالح مدنية "لبنان" وطن الجميع، وإنعاش الديمقراطية الحقيقية التي تقيدها المحاصصة الطائفية، والبحث عن الكفاءات اللبنانية التي سيناط بها إنقاذ البلاد الذي عصفت ببنيته الاقتصادية والسياسية هذه الانتفاضة الشعبية القائمة على مطالب مدنية صرفة، وهذا بدوره سيعيد لبنان إلى مكانته بين الدول بعيداً عن الفساد الناجم عن التقاسم الطائفي وإهدار المال العام والتسيب في توظيف القروض الممنوحة للبنان من قبل صندوق النقد الدولي الذي أدى إلى إغراق البلاد في ديون أدرجته ضمن الدول الأكبر مديونية.. حتى وصل به الحد وفق شروط الجهات المانحة لفرض ضرائب على الوتسأب، وكانت الشعرة التي قسمت ظهر البعير، إذ انفجر الشارع اللبناني إزاءها لتفتح ملفات الفساد. وتراكمت الأسئلة في العقول، وأخذت الهلوسة السياسية زعماء الطوائف إلى منطقة الارتباك التي كسر فيها حاجز الخوف..

وللعلم فإن الاحتقانات بدأت في لبنان منذ نشوب حرائق الغابات في بيروت فكشفت المستور وعرت شبكات الفساد في الدولة العميقة. ويبدو أن ما خفي منها كان أعظم لذلك تستمر الاحتجاجات غير أبهة بالتهديد ولا الوعيد أو العنتريات مجهولة المصدر.. فالشعب يمتلك الآن زمام الموقف ويستعد للتغيير بعد أن غير قواعد اللعبة الطائفية في لبنان المأزوم من أخمص القدمين حتى الرأس، فأصيب الشعب المغبون برهاب الطائفية وفزاعة الأمن والأمان التي ترفرف فوق قلاع الطوائف.. والآن تأخذه اليقظة إلى التغيير والتحرر من الخوف.. ورهانات المستقبل قائمة على ذلك.

 

بقلم بكر السباتين..

 

الغموض في الأدب الحديث بين الافتعال والأصالة

التفاصيل
كتب بواسطة: د. جودت هوشيار

جودت هوشيارينشأ الغموض في الأدب، عندما يخفق الكاتب في صياغة عمله الادبي على نحو يسمح للجمهور المتلقي باستيعابه وتذوقه. وبذلك يفقد العمل الأدبي معناه، ومبررات وجوده، ويصبح عاجزا عن التأثير في القارئ، أو النهوض بأي وظيفة من وظائف الفن . وربما ليست ثمة صدمة أكبر بالنسبة الى الكاتب، من هذه النتيجة البائسة لجهوده، خاصة إذا كان يعي جيدا دور الأدب في حياة الناس وعوالمهم الروحية .

قد يكون الغموض في العمل الأدبي ناجماً عن الكسل والإهمال عندما لا يجهد الكاتب نفسه بالتفكير من اجل التعبير عن أفكاره بجلاء، أو أن أفكاره مشوشة وغير واضحة، ولا يستطيع التعبير عنها بدقة، فتأتي كتاباته غامضة، أو أن أداة الكاتب ضعيفة الى الحد الذي لا يفي بمتطلبات التعبير عن افكاره ومشاعره من دون لبس او ابهام .

ثمة كتاب رائع للكاتب الانجليزي " سومرست موم " تحت عنوان " حصيلة حياتي " ويقول موم في هذا الكتاب: " لم أكن أطيق كتّاباً يطلبون من القارئ أن يدرك بنفسه ما يرمون هم إليه. هناك نوعان من الغموض تجدهما عند الكتّاب، أحدهما يعود إلى الإهمال، والآخر مقصود، فهناك من يكتنف الغموض كتاباته، لأنه لم يتعلم كيف يكتب بوضوح، وسبب آخر للغموض هو أن الكاتب غير متوثق من معانيه، فشعوره بما يريد الكتابة عنه ضعيف، ولا يستطيع أن يكوّن في ذهنه تعبيراً دقيقاً عنه، إما لضعف تفكيره أو لكسله، وهذا يرجع إلى أن الكاتب لا يفكر قبل الكتابة وفي هذا خطر ".

ولا شك أن أسوأ أنواع الغموض هو الغموض المصطنع الذي يلجأ اليه من يحاول عن طريقه تغطية فشله الفني الناجم عن عدم تكامل أدواته التعبيرية، وافتقاره الى ملكة الخيال، والأهم من ذلك كله، ان مثل هذا الكاتب يفتعل تجربة عقيمة وهزيلة، ويتعمد التعمية عن طريق استخدام الصياغات اللغوية الملتوية، وغير المفهومة، والاستغراق في التهويمات والشكليات اللغوية الفضفاضة، دون ان يكون لديه اية تجربة حقيقية، نمت وتطورت نتيجة التفاعل الحي بين ذات الكاتب وواقعه الاجتماعي .

وقد بلجأ الفنان الى افتعال الغموض في بداية حياته الفنية من اجل مجاراة الاتجاهات الحداثية والشكلية الرائجة . ويحدث هذا للفنان في العادة قبل ان يكتسب صوته الخاص ورؤيته الفنية والفكرية المتميزة.

غير ان الكاتب الموهوب حقاً والصادق مع نفسه وجمهوره سرعان ما يتجاوز هذه المرحلة إذا كان لديه ما يقوله للناس. غير أن هذا الانتقال لا يحدث على نحو عفوي، بل عبر عمل دؤوب ومتواصل ليحقق ما يصبو اليه من الوضوح والشفافية .

يقول الشاعر الروسي الكبير الكسندر تفاردوفسكي (1910-1971) في سيرته الذاتية : " في عام 1934 قدمت مجموعة من قصائدي الى أحد مدرسي الأدب طالبا منه ابداء رأيه فيها . قال المدرس :

" لا يجوز كتابة الشعر الآن على هذا النحو. قصائدك في غاية الوضوح ومفهومة تماما . ينبغي ان نكتب الشعر بشكل لا يستطيع أحد أن يفهمه، مهما حاول ذلك وبذل من جهد. هذا هو احد متطلبات الشعر المعاصر. ثم أراني عدة مجلات أدبية كانت تحوي نماذج للقصائد التي كانت تنشر في ذلك الحين. ولقد حاولت بعدئذ أن تكون قصائدي عصية على الفهم، ففشلت في تحقيق ذلك لمدة طويلة. واحسست حينئذ – وربما لأول مرة في حياتي – بالشك المرير في قابليتي الشعرية، واذكر انني كتبت بعد محاولات طويلة قصيدة غامضة، لا استطيع ان اتذكر الآن موضوعها او أي سطر من سطورها . "

واذا كان تفاردوفسكي قد استطاع بفضل موهبته وذائقته الجمالية الرفيعة ان يتخلص من شرك الغموض المفتعل، فكم يا ترى من دعاة الغموض عندنا لهم الجرأة الكافية ليصرحوا بأن لعبة الغموض التي مارسوها خلال السنوات التي وقع فيها الفن والادب في بلادنا فريسة للاتجاهات الشكلية، لم تكن سوى عملية تجريب ساذجة ومفتعلة، ولهذا لم تصمد امام التيار الواقعي الذي اخذ يشق طريقه وسط ركام هائل من النتاجات الشكلية، التي كانت تقليدا للصرعات الأدبية التي تظهر وتختفي في المشهد الثقافي الغربي .

ان المتلقي الذي يتمتع بإحساس جمالي، وذائقة فنية لم يتعرضا الى التشويه، لا بد أن يرفض هذا النوع من الغموض، لأنه يحول عملية الخلق الفني الى لعبة فارغة، ولأنه ضد طبيعة وقوانين الأدب، والأهم من ذلك أنه يلغي وظيفة الأدب الأساسية .

فالأدب، ليس ترفاً فكريا لنخبة من المتحذلقين، ولا لعبة شكلية كما يزعم البعض. لأن للأدب وظائف بالغة الأهمية في حياة الناس، والمجتمعات المعاصرة، لا يمكن أن ينهض بها أي شكل آخر من أشكال المعرفة الإنسانية.

الأدب سجل عظيم للحياة البشرية، وهو عالم البحث والمعرفة من خلال الكلمات والصور الفنية ويعتمد على الإيماء والرمز، وعلى التلويح دون التصريح .

الأدب في الوقت الذي يلبي حاجة الانسان الى اللذة الجمالية فانه يتيح له المجال ليزداد معرفة بنفسه وعالمه الروحي وعوالم الآخرين. وهو ليس شكلاً من أشكال المعرفة الإنسانية فحسب وباعثا على المتعة الفنية فقط، ولكنه في الوقت ذاته وسيلة لتجديد الحياة وتغييرها، أي أن له وظائف جمالية واجتماعية.

الغموض بين المبدع والمتلقي

في ضوء هذا التصور يفضل دائماَ،ان يكون الأثر الأدبي واضحا بقدر الامكان . ولكن هل الغموض يكمن دائما في الأثر الأدبي ذاته ؟ الا يمكن ان يكون ثمة غموض موهوم لا يتسم به الاثر الأدبي، ولكنه ينشأ لظروف وعوامل موضوعية او نتيجة لتفسيرات خاطئة للأعمال الأدبية ؟

كيف؟

اذا تحدثنا بلغة علم السيبرنيتيك، واستخدمنا بعض مفاهيمها لتوضيح فكرتنا، فإن بوسعنا ان نقول ان العلاقة بين الفنان والواقع تتكون من عدة حلقات متصلة وهي:

الواقع الاجتماعي – الكاتب – الأثر الأدبي – الجمهور المتلقي .

وينشأ الغموض، أو اللا تواصل على وجه الدقة، اذا انفرط عقد هذه الحلقة أو تلك لأي سبب كان، وفي أي مرحلة من مراحل الخلق الفني وتقديمه للمتلقي . وهذا يعني أن اللا تواصل قد يحدث بفعل عوامل ذاتية، أشرنا الى بعضها فيما تقدم أو بفعل عوامل موضوعية وثيقة الصلة بطبيعة ومضمون الأثر الأدبي، وبالشكل الجديد الذي يصوغ به الكاتب أو الشاعر تجربته. فالمحتوى الجديد يتطلب صياغة جديدة وشكلا جديدا، مما يستدعي بذل جهد اضافي من قبل المتلقي لاستيعابه وتذوقه.

ويمكن القول اذن ان هذا النوع من الغموض النسبي له علاقة بالمستوى الثقافي والجمالي السائد، وهو لا يكمن في الاثر الادبي، بل في ذهن المتلقي.

ان الفنان وهو يحاول إدراك الحقيقة الموضوعية، والكشف عن الملامح الأساسية في الواقع، والتعبير عنها، لا بد أن يقوده احساسه الفني – ان كان كاتبا اصيلا وصادقا الى اكتشاف العلاقات الصحيحة بين الاشياء. وهو يسبق فهم المتلقي بمسافات زمنية بفضل تمتعه بشيء من نبوءة الرائد واستشرافاته المستقبلية.

الغموض في الأدب الجديد

ان تأريخ الثقافة العالمية حافلة بأمثلة توضح بجلاء، كيف أن الأدب الجديد حقاً في مضمونه وشكله والمعبر أصدق تعبيرعن هموم زمانه، قد عانى هو الآخر من هذه المشكلة المحورية من مشاكل الأدب، مشكلة العلاقة بين المبدع والمتلقي . وسنكتفي هنا بمثال واحد فقط:

كان الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي في العشرين من عمره، عندما القى قصيدته الطويلة الشهيرة " غيمة في بنطلون " لأول مرة في خريف عام 1913 في مقهى " الكلب الضّال " في بتروغراد، اثارت القصيدة هيجانا لم يسبق له مثيل . كانت اصوات الشجب والاستنكار تتعالى في ارجاء المقهى، فطلب الكاتب الروائي ميخائيل فولكوفسكي - وكان شيخاً مهيباً بلحيته البيضاء الكثة - الكلام للتعقيب وقال : " انا عندكم هنا لأول مرة، ولم التق بكم سابقا . لقد القى الشاعر الشاب قصيدة غير تقليدية. ولولا بعض الكلمات الخادشة في نهايتها لكانت قصيدة رائعة. هذا شعر جديد وأصيل، وغير مألوف، لذا فأنه أثار غضبكم. ولكن مهلا، أنه شاعر موهوب وستتعودون على مثل هذا الشعر، وكل جديد يثير لغطا في البداية لينتهي الى الاعتراف بموهبة شعرية أصيلة."

حقاً ان الغموض لم يكن كامناً في قصيدة ماياكوفسكي، بل في اذهان فئة من المثقفين الذين افسدت الثقافة الرجعية اذواقهم الجمالية والمتمسكين بالقيم البالية. ولم يكن الأدب والفن لدى هؤلاء السادة ضرورة عميقة وملحة، بل وسيلة لهو وتسلية، ومصدراً للكسب المادي والشهرة.

ونحن نجد اليوم ان قصائد ماياكوفسكي مفهومة لدى عشرات الملايين من القراء في جميع انحاء العالم.

يخلط كثير من الباحثين ونقاد الأدب في بلادنا بين الغموض المتعمد أو التعمية والابهام من جهة وبين الإيحاء والتلميح من جهة ثانية.

ثمة اعمال ابداعية تتسم بقدر من التعقيد -مثل بعض أعمال جيمس جويس، وشعر بوريس باسترناك، وهي ليست مثيرة لاهتمام القارئ الباحث عن القراءة المسلية . بل تجذب اهتمام القارئ المثقف، الذي يمتلك ذائقة جمالية رفيعة، ويقرأ ما بين السطور.

نظرية الجبل الجليدي

احتل ارنست همنغواي مكانته الرفيعة في الأدب الحديث بفضل اسلوبه الواضح والبسيط ظاهريا، الذي سمّاه بالجبل الجليدي، فهو يقول الكثير باستعمال القليل الموجز من الكلمات ويكتفي بالتلميحات والتفاصيل الدّالة. نصوص تتألق معانيها العميقة ضمنياً. ويلعب القارئ هنا الدور الاساسي في فهم النص وتفسيره. ويفهمه كل مثقف حسب وعيه وثقافته وادراكه لمضامينه واحساسه بجمالياته. أي أن ثمة مستويات عديدة للفهم والاستيعاب.

وكان همنغواي يقول:" القصة الجيدة، هي تلك التي يحذف منها اقصى ما يمكن حذفه. واذا كان الكاتب يكتب بنصاعة، فإن بوسع القارئ فهم ما هو مخفي بسهولة.

ولقد جسّد همنغواي نظرية "الجبل الجليدي" على نحو رائع في قصته القصيرة "تلال كالفيلة البيضاء". القصة على شكل حوار بين رجل أمريكي وفتاة تُدعى جيغ، ويحاول فيه الرجل اقناع الفتاة بإجراء عملية ما دون ان يفصح عن نوع العملية، ربما كانت اجهاضاً.

لا توجد في القصة أية اشارة الى ان الفتاة حامل، ولكن القارئ يفهم أن الأمريكي لا يريد ان تنجب الفتاة طفلا، ويؤدي ذلك الى تهاوي علاقتهما، ويشعران ان افتراقهما أصبح امراً حتمياً.

استطاع همنغواي في بضع صفحات وباستخدام الحوار فقط، ان يصف التأريخ الكامل للعلاقة بين الرجل الأمريكي والفتاة. ولكن القارئ يقرأ ما هو مضمر في هذه القصة الرائعة بكل سهولة.

وصفوة القول إن الغموض من ملامح القصور الفني أو العجز الابداعي، إذا لم يؤدِّ غرضًا فنيًّا صرفًا، في حين ان الغموض الذي يستدعيه الفن هو ميزة ايجابية.

 

د. جودت هوشيار

 

 

أصوليّة الإمامة عند الأشاعرة

التفاصيل
كتب بواسطة: د. بدر الدين شيخ رشيد

إذا نظرنا إلى مسألة الإمامة عند الأشاعرة، فإننا نجد أنها كانت مسألة أصوليّة في صدرها الأول، أى عصر خلفاء الراشدين. ثم أخذت تتكيف مع تداعيات الظروف السياسية التى غيّرت مجرى الحكم من نظام إختياريّ إلى نظام ملكيّ إستبداديّ عضوض عند المسلمين.

فإذا أخذنا مثلا رؤية (Hamilton A.R. Gibb)، حول نظرية أهل السنة في الخلافة، نجد أنه يشير  إلى أن مفهوم نظرية الإمامة عند أهل السنة يرجع إلى تصور القاضى الماوردي[ت:450ھ/1058م]، حيث تعتبر نظريته المرجعيّة الحقيقية لعقيدة أهل السنة في الإمامة. فمن وجهة نظريّة الأشاعرة المبنيّة بأصولية الإمامة، تنطلق من مفهوم «الأمة» وأن الأمة هي المسؤؤلة عن حفظ الشريعة وصيانتها. ويحدد مفهوم «الأمة» أهل الإجماع(consensus’s people)  وهم الفقهاء(jurists). ومن عملهم صياغة المؤسسات التشريعيّة السياسية لكل جيل. وعلي هذا فالخلافة التى تتم عن طريق أهل الإجماع تعتبر رمزا وحفظا للشريعة[1].

وبهذا الإعتبار قرر الفقهاء أن الخلافة الشرعية إنتهت منذ وقت الخلافة الراشدة. وأن الحكم الأموي والعباسي لم يكونا يتمتعان بشرعية صحيحة. وهذه الفكرة وجدت قبولا نسبيا لدى المعتزلة والماتريدية القائلين، بأن على المجتمع السنىّ  إيجاد حاكم يمثّل الشريعة، وذلك بسبب الإنفصال الحاصل بين الحكم والشريعة.

إلا أن صعوبة إيحاد خلافة شرعية  ثمثل الشريعة والحكم معا، أضطرّ عند بعض الأشاعرة القبول بالحكم المؤقت(temporal power) كما ذهب إليها  بدر الدين ابن جماعة [ت:733ھ/1332م]. ويبدو أن أصل هذه الفكرة قد أقتيس من الإمام الإيجى[ت:756ھ/1355م]، والذى صرح بإنتهاء الحكم  الشرعي الإسلامي منذ الخلفاء الراشدين.

غير أن معضلة فكرة الحكم المؤقت عند الأشاعرة أصبح واقعا ملموسا، إلى أن أقترح بفكرة (philosophical and semi-shiites circles))، المتأثرة على النظرية الميثالية الأفلاطونية، والتى تعنى  فيلسوف الحاكم (philosopher’s-King) أى حاكم المسلم. وذلك للتدبير في شؤون الأمة تحت إرشاد  حكمة الفيلسوف(philosopher’s Wisdom). وهذه الفكرة لم تجد قبولا مرضيا عند المتكلمين(theologians).

وقد أُعْتُبِرت تلك الفكرة تواصلا نسبيا في التطور النظري بين الأدب العربي والفارسي كما أشار إليه الأستاذ ثوماس أرنولط (Thomas Arnold). هذا وقد أنجز هذا التواصل بعد تجريده من مفهوم التصوف ودمجه في الفكر السنىّ المحافظ (Orthodox Polotico- Sunnism).

فطور بعض فقهاء الأشاعرة تلك الفكرة، وذلك لمارسة قواعد مفيدة في السياسة الدينية،(Polotic-religious)، من خلاق المفهوم العقليّ الذى أصبح مألوفا عند الشرق في بلاد المسلمين، وخاصة بعد ظهور الإمام ابن خلدون المالكيّ[ت:808ھ/1405م] في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، حيث صرح أن:«الحكومة الملكيّة ليست إلا خلافة الله في الأض لتنفيد أمره بين الناس»[2].

ثم جاء بعده بقرن، القاضي جلال الدين محمد بن أسعد الصديقي الدواني الشافعي[ت:908ھ/1502م]، فأصبحت نظريّته مقبولا لدى الشرق من خلال كتاباته، وخاصة إعتناؤه في شرح العقائد العضدية للقاضي عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجى المتوفى سنة:[756ھ/1355م]

وينبغي أن نفهم بدقة أنّ هناك فرقا واسعا بين النظام الملكي العلمانيّ  والخلافة، عند كل من ابن خلدون والقاضي جلال الدين الداواني، بحيث يستحق أن يطلق  إسم الخليفة  أو الإمام فقط على الإمام العادل الذى يطبّق الشريعة. وبناء على ذلك، فالتعارض الموجود فى مفهوم بِنْية الإمامة عند الأشاعرة، يمكن أن يفسر: أن الخلافة الحقيقية أصبحت رمزا يتصل بسيادة الشريعة (Supremacy of sharī‛ah) حسب رؤية الفقهاء[3]، وعلى ذلك،  فالخلافة الشرعيّة إنقرضت بإنتهاء الخلافة الراشدة منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. أما الحكم الذى جاء بعده  فقد لقب باسم الخلافة من باب التجوز لا الحقيقة  الشرعيّة[4].

إلا أنه لا يزال إشكالٌ يكتنف حول سيادة الشريعة في مفهوم الأشاعرة؛ وذلك هل المقصود بسيادة الشريعة هو مجرد التطبيق في الشريعة كائن من كان؟ أم المقصود بها أن الإمام والشريعة في شكل الحامل والمحمول، من حيث المعرفة والتطبيق معا؟.

إذا إعتبرنا من وجهة أصوليّة الإمامة عند الأشاعرة على سيادة الشريعة، فإن الشريعة لا تقوم بذاتها، بل لا بد أن  تتحد في ذات لا تنفصل عنها، من حيث المعرفة والفهم والإستنباط. وقد سمى الله هولاء الرسخين في العلم، وأولي الأمر، وأولي العلم، وأهل الإستنباط وأهل الذكر. كما أخبر الله سبحانه وتعالى في عدة من آيات:

1- قال تعالى: ﴿هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ قيتبعون ما تشابه منه إبتغاء الفتنة وأبتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، يقولون أمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب﴾[آل عمرن:7].

2- وقال تعالى: ﴿وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لأتبعتم الشيطان إلا قليلا﴾[النساء:83].

3- وقال تعالى: ﴿يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾[النساء:59].

4- وقال تعالى: ﴿ وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فأسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾[النحل:43]

5- وقال تعالى: ﴿بل هو آيات بينات في صدر الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون﴾[العنكبوت:49].

فهذه الآيات المتقدمة تشير  إلى أن المعرفة هي معانى قائمة في صدور أهل العلم، من حيث الحفظ والفهم  والمعرفة في التأويل والإستنباط على الوجه الصحيح. وذلك لما كانت الشريعة من تلك المعاني المستنبطة من الكتاب والسنة، فحفظها وفهمها يرجع إلى أهل «العلم» لكونهم أهل الإجماع المتصفين  بالعصمة عند الأشاعرة. قال الإمام السمعاني أبو المظفر في بيان عصمة أهل الإجماع«إن أهل الإجماع معصومون من الخطأ، والعصمة واجبة لهم، كما تجب النبي صلى الله عليه وسلم»[5].

من جهة أخرى فإذا نظرنا إلى حالة الإختيار للإمام عند الأشاعرة  نجد  أصولية الإمامة، وذلك  لِمَاْ أن الشريعة متجسدة في أهل العلم وخاصة الفقهاء((jurists وأن الإمام  يُخْتَار من بينهم، وعلى هذا فالإمام يكون حاملا للشريعة من جهة إتصافه بالإجتهاد، كما يكون حاملا للشريعة أيضا من جهة كونه جزءا من مرجعية أهل الإجماع من ناحية العلم ومن جهة الإختيار. وعلى هذا لا يتم الإنفصال بين الشريعة والإمامة، أو بين الحكم والعلم في شخصيّة الإمام عند الأشاعرة .

وعلى هذا فإن مفهوم أصوليّة الإمامة عند الأشاعرة،  تنطبق على النمط الإختياريّ الممثل بإنعقاد الإمامة عن طريق أهل الإجماع. ومن هذا المنظور، إعتبرت الأشاعرة الخلافة الراشدة الخلافة الشرعية، بخلاف النظام الوارثيّ الملكيّ.

ويدل أصولية الإمامة عند الأشاعرة أن الإمام أبا منصور البغدادي[ت:429ھ/1037م] إعتبر الإمامة ضمن الأصول الإعتقادية عند أهل السنة والجماعة، والتي تجب على كل عاقل بالغ معرفتها، فقال:« قد إتفق جمهور أهل السنة والجماعة على أصول  من أركان الدين، كل ركن منها يجب على  كل عاقل بالغ معرفة حقيقته. كل ركن منها شعب، وفي شعبها مسائل إتفق أهل السنة فيها على قول واحد، وضللوا من خالفهم فيها»[6].

وقد عدّ البغداديُّ [ت:429ھ/1037م] الإمامة أصلا من أصول الدين، يجب على  العبد  معرفة حقيقتها والإعتقاد بها حيث ألّف كتابه «الفَرْق بين الفِرَق» لبيان الأصول المتفق عليها عند أهل السنة والجماعة. ويعد  هذا الكتاب سندا وثيقا في معرفة الفرق الإسلاميّة بعد كتاب،«مقالات الإسلاميين وإختلاف المصلين» للشيخ أبى الحسن الأشعرى[ت324ھ/935م][7].

وبناء على فكرة الإمام البغداديّ، يمكن إعتبار الإمامة من الأصول  في المذهب الأشعري، بخلاف من جاء بعده، والذين إعتبروا الإمامة من الفروع، حيث صاغوها حسب تداعيات الظروف السياسية التي عاشوا فيها، وخاصة بعد ضعف الخلافة العباسية، وتحول أمر الخلافة إلى الشوكة والعصبية، حيث إن الأمراء أصبحوا يتصرفون في الأمر دون الخليفة.

ثم إذا نظرت إلي عبارات من قال بفرعيّة الإمامة من الأشاعرة، لا تجد- من حيث الدليل- ما يعوّل عليه، بل تلمح- ضمنيا- أصوليّتها أكثر من فرعيتها. وذلك من ناحيتين:

(الأول): من الناحية التعليل حول فرعية الإمامة ونفي أصوليتها . فإذا نظرت إلى هذه الناحية تجد التماسك الوثيق بين العقيدة والإمامة عند متكلمي الأشاعرة، وإن لم يبلغ إلى حد القطع واليقين، حيث إن مسألة الإمامة كانت مسايرة فى جميع مراحلها بمسائل أصول الدين، رغم  أن بعض متأخري الأشاعرة لم يذكروها في مصنفاتهم«إذ تسكت المصنفات المتأخرة تماما عن أى ذكر للإمامة.. مثل جوهرة التوحيد للقاني، وعقيدة العوام للسيد أحمد المالكي، وكفاية العوام للفضالي، وصغرى الصغرى للسنوسيّ، وتحفة المريد للباجوري، وحتى رسالة التوحيد للإمام محمد عبده»[8].

فأنظر مثلا إلى تعليل الغزالى[ت:505ھ/1111م]، في شأن الإمامة حيث يقول:« ولكن إذْ جرّ الرسم باختتام المعتقدات بها، أردنا أن نسلك منهج المعتاد، فإن فطام  القلوب عن المنهج المخالف للمألوف شديد النفار»[9].

كذلك الإمام الأمدى[ت:631ھ/1233م] يقول:« لكن لما جرت العادة بذكرها فى أواخر كتب المتكلمين، والإبانة عن تحقيقها في عامة مصنفات الأصوليين، لم نر من الصواب خرق العادة  بترك ذكرها في هذا الكتاب»[10].

وأنظر إلى كلام الإمام الإيجى[756ھ/1355م] إذ يقول في شأن الإمامة « وهي عندنا من الفروع، وإنما ذكرناها فى علم الكلام تأسيا بمن قبلنا»[11].

والعلامة التفازاني الأشعريّ يقول: «لا نزاع في أن مباحث الإمامة، بعلم الفروع أليق، لرجوعها إلى أن القيام بالإمامة، ونصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة، من فروض الكفايات، وهي أمور كلية تتعلق بها مصالح دينية أو دنيوية، لا ينتظم الأمر إلا بحصولها، فيقصد الشارع تحصيله في الجملة من غير أن يقصد حصولها من كل أحد. ولا خفاء في أن ذلك من الأحكام العملية دون الإعتقادية»[12].

إلا أنه يمكن الإستدراك على نظرية الإمام التفتازاني حول فرعيّة الإمامة من جانبين:

إذا كانت المصالح الدينية والدنيوية لا تنتظم إلا بحصول الإمام فما المانع بإعتبار الإمامة من الأصول بحيث يجب على كافة الأمة البحث فيها والقيام على نصب الإمام، وهي عين ما تقول بها الإمامية من جهة لزوم معرفة الإمام، إذا إستثنينا من جهة المرجعيّة التي تنصب الإمام.

إن إعتبار الإمامة من أمور العملية دون العقيدة، لا شك أنها تولد إنفصال بين العمل وبين الإيمان. ولعل أصل هذا الإنفصال بين الإيمان والعمل يرجع إلى نظرية الإمام الأشعري حول علاقة الإيمان بالعمل، حيث إعتبر الإيمان مجرد المعرفة في القلب، كما سبق تقريره في مبحث علاقة الإيمان بالعمل عند الإمامية والأشاعرة.

(الثاني): من الناحية التاريخية في مسار الإمامة، فإذا نظرت إلى هذه الناحية تجد أصوليّها، وذلك لقرائن تحف حول إثبات وجوبيّة الإمامة، وخاصة عند مناقشتهم في اشترط النسب القرشيّ للإمام، ومن هذا القرائن:

1- إشتراطيّة صفة القرشيّة، حيث إنها تشير إلى أن الإمامة من الدين؛ لأن هذا الشرط هو الذى إحتجت به قريش على الأنصار في الإمامة، إذ كان إحتجاجهم  يدور في فلك:

نحن أول من عبد الله في الأرض.

نحن أولياء الرسول وعشيرته وأحق الناس بالأمر من بعده، و لا ينازعنا إلا ظالم.

ج -  نحن الأمراء، وأنتم -أيها الأنصار- الوزراء.

د- تأبى العرب أن تؤمر الأنصار ونبيها من غيرهم،

ھ-  لكن العرب لا ينبغي أن تولي هذا الأمر إلا من كانت النبوة فيهم.

و - من ينازعنا سلطان محمد وميراثه، ونحن أولياؤه وعشيرته[13].

فإذا نظرنا إلى إحتجاج قريش في أمر الخلافة بعد الرسول نجد أن الخلافة صنو النبوة، وأن مُلْكَ محمد صلى الله عليه وسلم، المشار إليه هو الإمامة؛ لأنه لو لم تكن الإمامة من أمور الإعتقاد لما تنازلت الأنصار عن الحكم، ولطالبت به يوما من الأيام.

2- أيضا مما يشير أصوليّة الإمامة عند الأشاعرة، ترتيب أفضلية الخلفاء الراشدين حسب ولاية حكمهم، حتى أصبحت هذه الأفضلية جزءا من الإعتقاد عند أهل السنة [14].

غير أن تقرير تلك الأفضلية في رؤية الإمام الباقلانى تعتبر ظنّية لا قطعيّة، بخلاف رؤية الإمام  أبى الحسن الأشعري، فإنه إعتبر أفضلية أبي بكر مَنْ بعده أمرا قطعيّاّ. وقال الإمام أحمد بن حجر الهيتمي المكي الشافعيّ [ت:973ھ/1565م]، صاحب كتاب «الصواعق المحرقة»، بعد نقل كلام الجمهور، من أن المفاضلة بين  الخلفاء الراشدين هي حسب ترتيب الخلاف، وأن هذا الرأي هو المشهور عن الإمام مالك، وبه جزم الكوفيون، ومنهم سفيان الثورى قال:« وخالف في ذلك القاضي أبى بكر الباقلاني، فقال: أنه ظني واختاره إمام الحرمين في الإرشاد، وبه جزم المحدث عبد الغافر[ت:529-530ھ/ 4 113م-1135م]، صاحب كتاب المفهم في شرح مسلم.

ويؤيد ظنية هذا الترتيب ما نقل إبن عبد البر في كتابه الإستيعاب عن عبد الرزاق عن معمر أنه قال: لو أن رجلا قال:عمر أفضل من أبي بكر ما عنفته. وكذلك لو قال: عليّ عندي أفضل من أبي بكر وعمر لم أعنفه، إذا ذكر فضْلَ الشيخين، وأحَبَهُماْ وأثنى عليهما بما هما أهله، فذكرتُ ذلك لوكيع فأعجبه»[15].

3- إذا نظرنا إلى إشكالية الإمامة عند الصحابة وخاصة الفتنة الكبرى، نجد أن مسألة الخلافة  كانت ثمثل قاعدة أصولية دينية. حيث أُعْتُبِرَ أنها أعظم خلاف حصل بين الأمة«إذ ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة فى كل زمان»[16].

4- ولأنه إذا قيل إنها مسألة فرعيّة «المخالفة فيها لا تستلزم تكفير المخالف أو تفسيقه إذا كان للمخالف حجة شرعية، كمخالفة المجتهد للمجتهد»[17]، فضلا عن القتال فيها.

5- إضافة إلى ذلك« فأنّ كل خلاف وقع بين المسلمين، سواء في الفقه، أو في التفسير للقرآن، أو في فهم السنة النبوية الشريفة،فمنشؤه وسببه الخلافة»[18].

فمن هذا المنظور يمكن أن نتصور أصوليّة الإمامة عند الأشاعرة.

 

د. بدر الدين شيخ رشيد  ابراهيم

.....................

[1]- Gibb, Hamiyon.A.R. STUDIES on the CIVILIZATION 0f  ISALAM.Prencton, University Press, 41William Street Prenceton, New Jersey, 08540,1982,P141-149. .

[2] - Gibb, Hamiyon.A.R1982, Studies on the civilization of the islam " .Prencton, University Press, 41William,      p.141-149                                                                   .

[3] - Ibish, Yusuf 1966. The Political Doctrine of Al-Baqillānī, Beirut Lebanon, p.85

[4] - Gibb, Hamiyon.A.R1982, Studies on the civilization of the islam " .Prencton, University Press, 41William,      p.141-149                                                                   .

[5] - السمعاني، منصور عبد الجبار قواطع الأدلة في الأصول، تحقيق، محمد حسن  إسماعيل الشافعي، دار الكتب العلمية،بيروت  ط1/1418ھ /  1997م، ج2/ص6.

[6] - البغدادى،  الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية منهم، تحقيق،  لجنة إحياء التراث العربى، دار الجيل، بيروت، لبنان، 14-7ھ/ 1987م،ص309.

- فالأركان التى إعتبرها البغداى أصول الدين هي: إثبات الحقائق والعلوم على الخصوص والعموم. العلم بحدوث العالم في أقسامه وأعراضه وأجسامه. في معرفة صانع العالم ونعوته في ذاته.في  معرفة صفاته القائمة  بذاته في معرفة أسمائه وأوصافه.  في معرفة عدله وحكمته. في معرفة رسله وأنبيائه. في معرفة معجزات الأنبياء وكرامات أوليائه. في معرفة أركان شريعة الإسلام.  في معرفة أحكام التكليف في الأمر والنهى. في معرفة أحكام العباد في المعاد.  في بيان أصول الإيمان. في بيان أحكام الخلافة والإمامة وشروط الزعامة.في معرفة أحكام العلماء والإئمة. معرفة أحكام الأعداء من الكفرة وأهل الأهواء. أنظر: البغدادى، الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية منهم، تحقيق،  لجنة إحياء التراث العربى، دار الجيل، بيروت، لبنان، 14-7ھ/ 1987م ص309-310.

[7] - السبحانى، بحوث فى الملل والنحل مؤسسة النشر الإسلامى، قم إيران، ط7/1420ھ، ج2/ص، 314-315.

[8] - مبروك، على، عن الإمامة والسياسة والخطاب التاريخى فى علم العقائد، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، القاهرة، مصر  ط 2002م ص90.

- [9] الغزالي، الإقتصاد فى الإعتقاد، تحقيق، الشيخ علاء الدين الحموي،  دار أفنان، دمشق سورية، ط1/1419ھ/1999م، ص185.

[10] - الأمدى، غاية المرام فى علم الكلام، تحقيق، حسن محمود عبد اللطيف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة مصر،(بدون رقم الطبعة والتاريخ) ص363.

[11] - الإيجى، المواقف فى علم الكلام، عالم الكتب، بيروت‘ لبنان ص395.

[12] - التفتازانى، شرح المقاصد في علم الكلام، دار المعارف النعمانية، باكستان، ط1/، 1401هـ / 1981م  ج2/ص271.

[13] -  المحامى،  أحمد حسين يعقوب، النظام السياسى فى الإسلام.  الصدر، قم إيران، ط2/1411ھ ص126 -127.

[14] - السبحانى،الإلهيات على هدى الكتاب والسنة،بقلم محمد مكى العاملى، مؤسسة الإمام الصادق، إعتماد قم،  ط4/1417 ج4/ص11.

[15] - ابن حجر الهيثمي، أبو العباس أحمد بن محمد بن علي،  الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة، تحقيق، عبد الرحمن بن عبد الله التركي، و كامل محمد الخراط،مؤسسة الرسالة بيروت،لبنان ط1/1417ھ/1997م.،ج1/ ص171.

[16] - الشهرستانى،  فى الملل  والنحل، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، لبنان  (بدون تاريخ)، ج1/ص24.

[17] - السبحانى، الإلهيات على هدى الكتاب والسنة،بقلم محمد مكى العاملى، مؤسسة الإمام الصادق إعماد، قم،  ط4/1417 ج4/ص10.

[18]  السماوي، د/ محمد التيجاني السّماوي التونسيّ،  لأكون مع الصديقين، المؤسسة الجامعية للدرايات الإسلامية،(بدون رقم الطبعة والتاريخ)، ص60.

 

جيل آخر موديل

التفاصيل
كتب بواسطة: محمد عبد الكريم يوسف

محمد عبد الكريم يوسفيشمل جيل آخر موديل الأطفال الذين ولدوا بين عامي 1995 و2010  وهذا يعني أن الجيل الذي سبقهم بدأ يحضر نفسه لدخول سوق العمل. لقد ركزت وسائل الإعلام كثيرا على جيل الألفية في السنوات القليلة الماضية  لكن حان الوقت لتوجيه الانتباه إلى الجيل الذي سيشاركنا بناء المستقبل. وعلينا نحون الجيل الأكبر سنا أن نتفهم جيل آخر موديل وكيف يفكر وكيف يمكن أن نتعاون مع هذا الجيل لتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه من فائدة في مجالات علمية متعددة . سنتطرق في هذا المقال إلى جيل آخر موديل وكيف يفكر وما هي طموحاته وآفاق تفكيره ويمكن أن نلخصها بما يلي: 

جيل يسعى  نحو الأمن والآمان:

كان شباب هذا الجيل أطفالا في فترة الركود الاقتصادي العالمي الكبير وهذا يعني أنهم لم يشاهدوا والديهم يحققون مكاسب مالية كبيرة وقد زرع والديهم فكرة النضال لتحقيق المكاسب المالية .

وينظر جيل الألفية إلى أنه أكثر مثالية وأكثر تحفيزا بالرواتب من هذا الجيل وهو شيء لا يعرفه جيل آخر موديل الذي يسعى نحو تحقيق الأمن والأمان المالي . جيل آخر موديل جيل برغماتي يسعى لإحداث الاختلاف في حياته وبالتالي ضمان الاستمتاع بحياة آمنه ماديا خارج أوقات العمل .

يعتبر أعضاء فريق جيل آخر موديل أكثر قبولا للإغراءات والوعود المتعلقة بالوظيفة والترقية الوظيفية .

جيل يميل نحو التنافس:

يقال أن جيل الألفية أكثر ميلا للعمل في الفرق  والتعاونيات والعمل الجماعي . ويمكن أن يعمل في بيئة ترى التضمين والعمل المبطن أولوية لتحقيق الأهداف والغايات أما جيل آخر موديل فيميل نحو التنافس والعمل المنفرد والبروز وإظهار المزايا الشخصية أكر من المزايا الجماعية . يدرك أيضا جيل آخر موديل الحاجة لتنمية مهاراته بشكل مستمر للحفاظ على التواصل مع المحيط ومع ما يجري حولهم وربما تعلموا من آبائهم بأن تنمية مهاراتهم الشخصية هو نواة العمل الجاد وأنهم لن يحصلوا على نجاحهم من دون تعب. يعمل جيل آخر موديل بجد ويتوقع أن يتلقى المكافأة على الأعمال التي قدمها .

جيل يرغب بالاستقلال:

يريد جيل آخر موديل  الاستقلال  المعزز بالقدرة التنافسية . ويفضلون العمل بمفردهم حتى لو كان العمل مضن ، كما يفضل هؤلاء العمل في مساحة مكتبية مستقلة  بدلا من الصالات المفتوحة في بعض الشركات . عندما يتاح المجال لأفراد جيل آخر موديل للعمل بمفردهم يبدعون ويتميزون في إدارة مشاريعهم الخاصة  حتى تتألق مهاراتهم وقدراتهم . ولا يفضلون الاعتماد على الغير في إنجاز أعمالهم الخاصة .

يتضح الاستقلال في صفات جيل آخر موديل في اختيار فروعهم في التعليم العالي ويتفوقون على نظرائهم السابقين في جيل الألفية ويحاولون الانتقال بسرعة إلى صف القوى العاملة كما يتجنبون الديون ويجربون الخيارات الكثيرة للوصول إلى الأسعار المعقولة . على أرباب الشركات أن لا يتجاهلوا موظفا ينتمي لهذا الجيل فقد تكون أوراق اعتماده هي ما يبحثون عنه بالذات خاصة وأنهم يمتلكون مهارات استثنائية .

جيل متعدد المهام:

يختلف هذا الجيل عن جيل الألفية في لكثير من الأشياء إذ أن جيل الألفية قد يتعد من التنقل بين الحواسب ومعالجات النصوص والبريد الالكتروني والانترنت . وإذا كنت تعاني من هذه المشكلة مع موظفيك فما عليك إلا انتظار أفراد جيل آخر موديل الذين يتقنون كل مهارات التواصل ويعتادون على التحديث والتطوير عبر عشرات بل مئات التطبيقات الحاسوبية على المحمول أو الهواتف الذكية . يستطيع أعضاء آخر موديل التنقل بين البرامج المختلفة والتجهيزات الحاسوبية بمرونة وسهولة منقطعة النظير . يستطيع هذا الجيل تحمل ساعات العمل الشاق الطويلة وإذا راقبتهم أثناء العمل ستجد أن أفراد هذا الجيل ينظر كل ربع ساعة إلى هاتفهم المحمول ولا تستغرب هذا السلوك لأنهم يحدثون أنفسهم لمدة ثواني معدودات  قبل العودة إلى مهامهم المحددة . قد يعمل هؤلاء الأشخاص حول مهمة مكلفين بها في الحافلة  أو المترو أو أثناء الذهاب والإياب من وإلى المنزل  وقد يعملون في نفس الموضوع أثناء مشاهدة التلفاز وقد تغير هذه التصرفات مكان العمل في السنوات القليلة القادمة. 

جيل يهتم بالمقاولات والمال ورجال الأعمال:

يميل جيل آخر موديل إلى التجارة والمقاولات والمال وينجح بالأعمال التجارية بنسبة 55 % أكثر من جيل الألفية  . يرغب هذا الجيل في بدء الأعمال التجارية في وقت مبكر وهذا ينسجم مع رغبتهم بالاستقلال والنجاح المالي وهذا يبرر دوافعهم الكبيرة للعمل بجد بهدف تحقيق أحلامهم . يمكن لأفراد هذا الجيل التكيف مع اقتصاد المعرفة من أوسع أبوابه ويمكن أن يكونوا موظفين رائعين ويستطيعون أن يؤسسوا أعمالا تجارية مستقلة في المستقبل .

جيل يرغب بالتواصل وجها لوجه:

يفضل أفراد جيل الألفية التواصل عبر البريد الإلكتروني أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة ولكن تشير الإحصائيات إلى أن 53% من أفراد جيل آخر موديل يفضلون التواصل وجها لوجه ويفضلون مناقشة قضاياهم العالقة  أو القضايا الشخصية وجاهيا أكثر من البريد الالكتروني . ويعزى ذلك إلى أن جيل الألفية نشأ معتمدا على التكنولوجيا ووسائل التواصل والبريد الالكتروني والسكايب وسنابشات للتواصل بالكلمة المكتوبة والصوت والصورة أما جيل آخر موديل فإنه يفضل المناقشة وجها لوجه في الاجتماعات الشخصية والعامة ويعتقد أن هذا هو السبيل للتطور المهني . 

جيل أفراده مواطنون رقميون  بكل ما تحمل الكلمة من معنى:

لقد وصف الآباء والأجداد جيل الألفية بأنهم مواطنون رقميون لكن جيل الألفية نشأ في الواقع في عالم كان لا يزال مليئا بخطوط الهاتف الأرضية ذات الأقراص وذات الأرقام والشاشات والساعات والمواعيد والانترنت السلكي واعتادوا على التطور والتقدم مع مرور الوقت ويرتبكون مع بعض التطبيقات الهاتفية والحاسوبية الجديدة والتي تعد من أبسط تقنيات جيل آخر موديل . من ناحية أخرى يعيش هذا الجيل الأخير في عالم يعج بالهواتف الذكية وخدمة الواي فاي المجانية لأطول فترة ممكنة  ويستخدم90 % من جيل آخر موديل البصمة الرقمية إما في اليد أو الوجه أو العينين أو قصة الشعر أو إيماءة الرأس . ويتنقل أفراد هذا الجيل بين المنصات والتقنيات والبرامج الحاسوبية والهواتف الذكية بأيسر السبل وعلاقتهم بالتكنولوجيا فطرية وغريزية أكثر من أي جيل سبقهم .

جيل يريد أن تلبى طلباته:

يتوقع أفراد جيل آخر موديل بأن مكان العمل الذي يعمل يجب أن يحقق جميع متطلباته واحتياجاته مهما كانت . وهو بهذه النزعة يتوافق مع جيل الألفية من حيث توقعاته من موقع العمل . عندما تدخل إلى مكاتب أفراد جيل الألفية تجد أنهم يضعون لمستهم الشخصية في المكاتب ومواقع العمل  إذ أن لهم سماتهم الشخصية الخاصة . 

تشير الدراسات التي تختص بعلم النفس والسلوك إلى أن أفراد هذا الجيل يمكن الاعتماد عليهم في نواحي عديدة خاصة في عصر الانفجار المعرفي والتواصل والاتصالات واقتصاد المعرفة والانتباه.

 

بقلم محمد عبد الكريم يوسف

.........................

المراجع

Gen  Z , Tom Elmore , 2019  

 

"الحافة" للقاص المغربي خالد الكبير.. سردية تمسخ الكائن

التفاصيل
كتب بواسطة: احمد الشيخاوي

احمد الشيخاوي[كما أن العاشق أكّد صحة ما أدلت به حبيبته القاصر مضيفا أنه كان يرغب بالزواج بها لكن والدتها رفضت تزويجه إياها بسبب عطالته](1).

في مجموعته القصصية "الحافة" الصادرة حديثا عن جامعة المبدعين المغاربة، يقف المتلقي عند حدود سردية مغايرة تماما، تنم عن روح جديدة في الكتابة القصصية، حين تتوسل الصور الأكثر غرابة، مغترفة من حياة الكائن الواقع في حيّز البرزخية، وكله من صنع الفاقة الملازمة وأضرب التخلف، في رحم ثورة العقل البشري، وهنا يطرح السؤال العريض، لماذا يظل المغربي متمسك بذاكرة الخرافة والشعوذة، في غمرة هذه العالمية والعولمة التي أفرزت خطابا جديدا وماديا صرفا بالأساس، في قراءة زمكانية ونصوص إنسان ما بعد مثل هذه الثورة وهذا الإزدهار..؟

ولك كامل هذا التسلّح بمنظومة أشكال الشحاذة والمكر والثعلبية والدهاء السلبي، كلون من الانحباس في عتمة الذات المشدودة إلى فخاخ الدوغمائية والأنانيات، قصد نيل الأقل والظفر بما هو بخس، وملطخ للسمعة والهوية والمنزلة، وفقا لتاريخ معين، راحت تتداخل معه حدود المفارقات والعجائبية والأضداد؟

وعموما، نلفي نصوص هذه المجموعة، مغرقة في صور جلد الذات، انتصارا لبهيمية مدسوسة، ومن أجل إثبات الذات، وإبراز مناحي القدرة على التفوق، وقهر الآخر، وإن بأساليب قذرة وغير مشروعة.

هو إغراق في صور مبطنة بالغرائبي، ومحيلة على خلل في ثقافة جيل، التبست عليه دروب الحقيقة والخيال، وعصفت به بينية الوجود، باشرئباب إلى المجازات والشطحات والتمكين للاوعي من مسرح النضال الذي يترجم دناءة وجاهلية الكائن، من جهة، ومن جهة ثانية، هواجس الانصهار في روح الواقعية واجتياز امتحانات الذات والوطن والحياة، عبر تقمص أدوار الشخصيات الأكثر خبثا ومكائد، عبر تراتيبة زمنية محددة، بل والذهاب أبعد من ذلك، الإتيان بأبجديات مختلفة ومتنوعة ومبتكرة في انتهاك حقوق الآخر، من خلال جلد الذات، بالطبع، وخلع رداء الإنسانية، بتفعيل المنوم في أدغال الذات، من بهيمية وبربرية متشربة من إستراتيجيات وتكتيكات العصر السالبة والناقصة والمشينة.

ومن هنا، الحافة، باعتبارها تيمة أليق بهذا المنجز المنذور للصور الشاذة، في عالم متكالب على حقوق الكائن، ووالغ بنتانة الإيديولوجي في نبع إنسانية هذا الكائن.

هو خلل وجودي مربك، تحاول أن تجسده هذه السردية في تملكها للحالة الإنسانية المقموعة بنظير هذه إكراهات، تملي عليها منظومة أقنعة، يمتزج فيها الواقع والخيال، ويسبح مع أفلاكها، منطق اللاهوت وفلسفة العقلاني.

نقرأ للقاص قوله: [وفي الأخير قررت مصالح الجمارك إرجاع العلبة لصاحبتها، والاعتذار لها عن عدم تنفيذ رغبتها ورغبة زوجها، وما إن حصلت الزوجة على العلبة الزجاجية قصدت حمام المطار لتشرف بعض الماء،على وجهها، كي تستفيق من هول الصدمة التي أحست بها عندما زفت لها مصالح المطار الخبر، لم تكن تعلم بزيارات زوجها المتكررة لبلده صحبة إحدى صديقاتها، ولم تفكر يوما أنه من الممكن أن يقدم على خيانتها. وبعدما انتهت واستفاقت من صدمتها، أفرغت محتوى العلبة بإحدى بالوعات الحمام، وصعدت بعدها مباشرة للطائرة وهي مبتسمة، كلها فرح في عدم تحقيق رغبة زوجها](2).

في قصة " الحافلة " التي استهل بها القاص المجموعة، نطلع على عالم النفاق واصطناع العاهة، بغية الهيمنة على الحيز الكافي الذي لا ينغص السفر.

راكب يدفع بحيلة ادعاء العرج، شهوة أربعينية، في تبوأ مقعد فارغ بالقرب منه، ولو أن مكان فتاة في بداية أنوثتها، وصغر سنها، كان سيبدّل الموقف، جملة وتفصيلا، زد على ذلك امتعاض سائقي الحافلات من مدونات التأمين، ما أضفى على الأقصوصة، نوعا من السخرية التي تعري عيوبا وأعطابا مجتمعية وبشرية .

والأغرب من ذلك، ما جرى على لسان السارد، في مناسبة تفضح التدجيل والسمسرة والمتاجرة في الدين، من خلال شخصيات "الفقيه " المتقلبة، حين ولج أحدهم مقبرة، وقد لبسه الرعب، من بضع شباب عكفوا على إدمان الحشيش، إلى أن انتهى به المطاف، في خصام ملتهب مع أحدهم منم يتكسبون بقراءة القرآن على الموتى، والمضحك أن هذا الفقيه طلب من خصمه، رخصة التلاوة على الموتى، وقد غررت به فتاة اتضح أخيرا أنها تعاني من مرض نفس وقد ألفت مثل تلك المواقف، وكيف أن القبر فارغ في الأصل، وأن أحدهم أعده لصالحه وأوصى بأن يدفن فيه، بعد موته، وتلكم مفارقة احتكار القبور التي باتت مكلفة في الكثير من مدننا، لكل أسف، مثلما تخبر بذلك قصة " حديث المقبرة".

وغير بعيد عن هذا المعنى، قصة الشخص الذي دل على طريقة تخلصه من عجزه الجنسي، تكمن في مضاجعة فتاة ميتة، وكان أن رشا حارس المقبرة ليتم له ما أراد، ليصعق في النهاية بجثة ذكر، زادت من أوجاعه وعمّقت حالته النفسية المزرية التي تلطخها أحاسيس الخيبة ومشاعر العجز الجنسي الثقيلة، كما في قصة " بركة القبور".

ويقول :

[وأشفق لحاله..وأخذ سؤال يلح في رأسه..ويطرح نفسه بقوة..ولم يستطع منه فكاكا:

- أي حظ تعس هذا الذي جعل هذا الطفل وأمثاله هكذا، ويدفع بهم إلى هذا المصير..؟

ظل يتابعه باهتمام.. وعن كثب والألم يعتصر روحه، وفجأة انطلقت الحافلة تغادر المحطة، فشيع الطفل بنظرة إعجاب وافتخار..وهو يلوح له بيده، فأجابه الطفل بابتسامة عريضة بريئة وهو يلوح له بإشارة الوداع](3).

إنها أمومة من نوع آخر، تتمزق لها هوية هذا الطفل الضائع، الذي تغتصب طفولته يوميا، على نحو مقزز،وداع على الخجل والانكسار، من مشهد ذابل، تنزف له إنسانيتنا.

وترشقنا أقصوصة " تبادل الأدوار " بمقلب يتبنى بعض النظريات العلمية الآخذة بالتفشي، فيما يرتبط بحمل الرجال، وهوز طقس يتم تدويره " حلميا " وعبر برزخية، غوصا في عالم العقم المثقل بالمعاناة والمكابدات.

كما أن أقصوصة " عروس لعريس آخر" تلعن راهن استثمار ضعف الأنثوي، بخاصة حين يصدر الانحراف والنشوز عن جهات تدعي التثقف والرقي والتحضر، وتشغر مناصب المسؤولية والأمانة في مؤسسات الدولة، قطاع الصحة هنا، بحيث سوف يغتصب ممرض فتاة صغيرة باغتها الداء ليلة عرسها.

ذلك ويتم تمرير كهذه رسائل ممعنة في دوال الشذوذ، وعق الفطرة، بكيفية هادرة ومرعبة، للتدليل على حساسية وخطورة مفرطة، باتت تعيشها مجتمعاتنا، تجنيا على الكائن، وتوليد لصور الانحراف النفسي والاجتماعي، المؤذن بالخراب والنهايات المأساوية.

تلكم مجموعة " الحافة " وقد عقّت هي بدورها أساليب القص، قديمها وحديثها، لتبصم خطابا مغايرا يحاول لملمة هوية الكائن الممسوخ، داخل أوساط تتلوى بين أوجه الاستنكار، وغض الطرف في الكثير من المناسبات.

 

احمد الشيخاوي - شاعر وناقد مغربي

..........................

هامش:

(1) مقتطف من نص "العاشق العاطل" صفحة11.

(2) مقتطف من نص "جرة الرماد" صفحة 65.

(3) مقتطف من نص"طفل المحطة" صفحة119 .

 

العراقيون بجامعة موسكو في الستينيات ومصائرهم (3)

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ضياء نافع

ضياء نافعنستمر في هذه الحلقة بالحديث عن طلبة كلية الجيولوجيا في جامعة موسكو. الاسم الذي اريد ان اتوقف عنده قليلا هو المرحوم غريب رياح . كنّا نناديه باسمه واسم ابيه دائما – غريب رياح، ربما (لغرابة!) هذين الاسمين معا، وربما لطرافة غريب نفسه ورشاقته الروحية وخفّة دمه وابتسامته الدائمة واستجابته للتعاون والتعاطف مع الجميع . لقد كان منسجما مع جميع المحيطين به من عراقيين وروس . ذهبت اليه مرّة، وقلت له، ان الكليّة دعتنا – نحن العراقيين – للمشاركة في حفلتها، ونحن لسنا مستعديّن، فقال لي رأسا، انه يعرف اغنية روسيّة يغنيّها الشباب الروس في سفراتهم ويحبونها جدا، وانه يمكن لنا – نحن العراقيين - ان نحفظها ونغنيّها بسرعة، واذا ما قدمناها امامهم في الحفلة، فستكون مشاركة ناجحة وطريفة . وافقنا جميعا على هذه الفكرة (الغريبية الرياحية!)، وامسك غريب بيده غيتارا (وهو لا يعرف بتاتا العزف عليه) وبدأ وكأنه يعزف، وبدأنا نحن حوله نتدرب على غناء تلك الاغنية الروسية حسب الكلمات التي علّمنا اياها، وهي كلمات رقيقة وبسيطة تتحدث عن انطباعات الناس وهم ينظرون الى الجنود الذين يمرّون امامهم ويدكّون الشوارع باحذيتهم العسكرية. حفظنا الاغنية – بحماس الشباب ومرحه - خلال اقل من ساعة، واتفقنا ان نكون هناك في الوقت المحدد . حضرنا طبعا، واخبرت مسؤول الحفلة، اننا سنقدّم اغنية روسيّة . فرح المسؤول الروسي واندهش من قرارنا، ووافق رأسا على هذه (المشاركة العراقية الجميلة!) دون ان يسألنا عن تلك الاغنية، وهكذا ظهرنا على خشبة المسرح وقدمّنا تلك الاغنية وغريب رياح يتوسطنا وهو يمسك بالغيتار وكأنه يعزف عليه . استقبلنا الحضور الكبير (وهم طلبة روس طبعا) بحرارة وحماس هائل ومرح وابتسامات وضحك وهم يستمعون الينا، وصفقوا لنا تصفيقا حادا جدا أدهشنا عندما انتهينا من الغناء، وما ان انسحبنا من خشبة المسرح ونحن سعداء بهذا النجاح الرائع، فاذا بالمسؤول عن الحفلة يركض نحونا وهو يصرخ قائلا، ماذا عملتم، وكيف تقدمون اغنية ممنوعة في الاتحاد السوفيتي على خشبة مسرح بجامعة موسكو!!. فوجئنا نحن طبعا بردة الفعل هذه، وقلنا له، اننا لا نعرف انها ممنوعة، ولكننا سمعناها من الشباب الروس انفسهم وهم يغنونها. حاولنا طبعا ان نخفف من ردود فعله، ونحن نعتذر ونتعثّر بالكلام معه ونتحدث عن مضمون تلك الاغنية البسيط جدا، وانسحبنا – بعدئذ - رأسا بهدوء وبسرعة من تلك الحفلة . لقد تبين لنا (بعد فترة طويلة طبعا)، ان هذه الاغنية من تأليف وتلحين وغناء الشاعر بولات أكودجافا، وهو من اوائل الشعراء السوفيت الذين بدأوا بالقاء قصائدهم مغناة امام الجمهور وهم يعزفون على الغيتار، وقد تقبّله الجمهور السوفيتي بحماس منقطع النظير، لأن أشعاره كانت بسيطة ورقيقة وذات مضامين انسانية بحتة، وخالية بتاتا من الشعارات والكلمات الطنانة والرنانة، التي كانت تسود في تلك الايام الخوالي . والشاعر أكودجافا من أب جورجي تمّ اعدامه زمن ستالين بتهمة (عدو الشعب!!) وامّ ارمنية تمّ سجنها ونفيها لنفس تلك الاسباب السياسية الواهية والرهيبة في ذلك الزمن المتجهم (انظر مقالتنا بعنوان – الشاعر بولات أكودجافا ..تعريف وقصائد). كان الشباب السوفيتي يتابع اغانيه سرّا وعن طريق اشرطة التسجيل التي يسربوها من يد الى يد، وان الدولة السوفيتية آنذاك قد منعت رسميّا نتاجاته كليا من التداول في وسائل الاعلام السوفيتية، ولكن الممنوع مرغوب كما يقول المثل، ولهذا كان الشباب يغنون تلك الاغاني بحب وحماس اثناء سفراتهم، وكان الجميع طبعا يعرفون تلك الاغاني، ولكن لا احد يجرأ ان يقدمها في الحفلات الرسمية او يتحدث عنها علانية، ولهذا السبب بالذات استقبلتنا القاعة آنذاك بذلك الحماس والتصفيق، لانهم ظنوا، اننا قررنا تأييدهم وتقديم الاغنية من على خشبة المسرح بغض النظر عن منعها من قبل السلطات السوفيتية، وذلك لكوننا أجانب، وان السلطات لا تستطيع ان تحاسبنا مثلهم . ضحكنا كثيرا – بعد انسحابنا من الحفلة بعد هذا العرض -  ونحن نقول لغريب رياح انك ورطّتنا، رغم اننا جميعا كنّا لا نعرف طبعا تلك التفصيلات عن الرقابة السوفيتية ومفاهيمها وتعليماتها الصارمة واجهزتها، والحمد لله، ان المسألة انتهت آنذاك بسلام .

عاد غريب رياح الى العراق بعد التخرّج، ولم يحاول التشبث بالبقاء للحصول على الدكتوراه كما فعل بعض الخريجين آنذاك، وسمعت انه شغل منصبا محترما في احدى المحافظات، وسمعت ايضا بوفاته مع الاسف، ولا اعرف سبب رحيله المبكر.

 الرحمة والسكينة لروحك يا صديقنا وزميلنا الرائع غريب رياح .

 

أ. د. ضياء نافع

 

الصفحة 140 من 171

  • 135
  • 136
  • 137
  • 138
  • ...
  • 140
  • 141
  • 142
  • 143
  • 144

hewar2(207)،(208)،(209)،(210)

84 mahmod mohamad ali200

اقرا ايضا

  • مجدي إبراهيم: نقائض التصوف.. الفقهاء والصوفية (4)
  • محمد العباسي: المدينة الفاضلة في القرن 21
  • ضياء نافع: تحية لروّاد الادب الروسي بالعراق في مئوية الدولة العراقية
  • علي رسول الربيعي: الشر والغرض الكوني لله (3)
  • جيوفانا ليلي: المعرفة والجمال في الإسلام الكلاسيكي.. قراءة جمالية لمقدمة ابن خلدون
  • صلاح حزام: القوائم الشخصية للمفاهيم والتعاريف
  • علي رسول الربيعي: السـؤال: الدين ودستور الدولة والعلمانية السـؤال (4)
  • هاشم عبود الموسوي: دعوة غريبة ابتدعها بعض مشاهير الأدب
  • هشام بن الشاوي: مسلسل القاهرة كابول وجبة دسمة من الفكر والمتعة والجمال الجارح!
  • صادق السامرائي: قس بن ساعدة الإيادي!!

القائمة البريدية



العدد: 5339 المصادف: الاحد 18 - 04 - 2021م


العودة لأعلى

تابعونا على:

الحقوق محفوظة صحيفة المثقف 2006 - 2021 ©

تابعونا على: