ديمقراطيات متعثّرة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عدنان ابو زيد
لا يكفي تبني المشروع الديمقراطي في طروحاته النظرية، إذا لم يجد مسلكا له على أرض الواقع، فتكون نتيجة الفشل، اما فوضى سياسية واجتماعية، وانقسام مجتمعي خطير يصل الى تقسيم البلدان، أو انقلابات عسكرية، تعيد ترتيب، خرائط النفوذ، وتتحكم بطريقة استبدادية في مستقبل البلدان.
حين تجنح الديمقراطية عن مسارها، أو يُساء استخدام أدواتها، فانّ الفرصة مواتية لوصوليين وأفراد غير مناسبين، او متزمتين، يستغلون الميكانيكيات الديمقراطية لتنفيذ مشروع القبض على مقاليد السلطة.
اختبارات كثيرة تبرهن على انّ الديمقراطية تصبح أداةَ خطرة بيد من يسيء استخدامها كما في ألمانيا في الاربعينيات من القرن الماضي، بتسلق هتلر السلطة، على سلّم ديمقراطية قائمة على دستور ليبرالي، واستغلاله الحريات المتاحة وانهيار الاقتصاد واتساع هوة الفقر والفساد، والشعور الشعبي بالخذلان من التعددية السياسية، لتدمير النظام السياسي، وقد سهّل ذلك على الحزب النازي اقناع الناس بان الديمقراطية داء، لينفرد في مقاليد الحكم.
أوصلت الديمقراطية الصربية الرئيس سلوبودان ميلوسيفتش الى الحكم، بعد تأجيج المشاعر القومية، مطلقا حربا من أجل التطهير العرقي، مكرّسا هيمنة الحزب الواحد.
في فنزويلا، كرّس الرئيس هوجو شافيز، سلطة فردية، وسعى الى تعديل الدستور لتأمين رئاسة مدى الحياة.
في زيمبابوي، سار الرئيس موجابي على سكة الديمقراطية للوصول الى الكرسي، حتى اذا بلغه صار صاحب الصوت الأوحد في بلاده، مهمّشا دور الاحزاب، ومعطلا آليات الديمقراطية.
الديمقراطية الفاشلة فرصة سانحة للعسكر في الوثوب الى السلطة، كما في تجربة تشيلي. ففي العام 1970 وصل الزعيم الاشتراكي سلفادور الليندي إلى رئاسة تشيلي في انتخابات حرة، لكن الطامحين الى الحكم من سياسيين وعسكر استولوا على السلطة في 1973، وحاصرت دبابات أوغستو بينوشيه القصر الرئاسي بالدبابات، مطالباً الليندي بالاستسلام.
في العراق، لم يكن بناء نظام ديمقراطي بعد الاجتياح الامريكي في 2003 سلسا، إذ كادت الحرب الاهلية الطائفية ثم الإرهاب، أن تفتك بالوليد الديمقراطي. وإذا كانت البلاد نجحت في وأد الخطر، فان الفساد وسوء الإدارة لا يزالان يهددان التجربة العراقية بالفشل، أو في عدم صعودها الى أمام، على أقل تقدير.
في لبنان، لم تنجح الديمقراطية اللبنانية في تقديم نموذج ناجح ومستقر، فانزلقت البلاد الى حرب أهلية، وانفتحت الأبواب أمام التدخلات الخارجية، وراهنت الاحزاب على الولاءات الاقليمية، ما جعلها بعيدة الى الان عن مربع الاستقرار السياسي.
الديمقراطية التركية، هي أقدم ديمقراطية في الشرق الأوسط، الا انها كانت حذرة من العسكر، ومن القوى الدينية المتشددة، على الدوام. وقد أدى ذلك الى انقلاب مفاجئ على رجب طيب إردوغان العام 2016، وقبل ذلك كان انقلاب 1980 الذي برّر تحركه في فوضى الاقتتال بين الجماعات القومية واليسارية.
وتبدو ديمقراطية تركيا، أكثر نضوجا من غيرها على رغم العثرات، ومن ملامح نجاحها ان إردوغان الذي مُنِع من مزاولة السياسة مدى الحياة بسبب إلقائه قصيدة يقول فيها بأن الإسلام هو مرجعيته، يشغل حاليًا منصب الرئاسة، بعد 11 سنة قضاها في منصب رئيس الوزراء.
الديمقراطية الباكستانية، متّهمة بتوفير ساحة لصراع مرير دائم بين الحكم المدني والعسكري، وبين القوى الليبرالية والدينية، لذلك ظلت الدولة على الدوام امام تهديد تحوّلها الى دولة دينية أو دكتاتورية عسكرية.
الدول الديمقراطية "الحقيقية" هي أقلية اليوم بين دول العالم، إذ أن نسبتها لا تتعدى ثلث دول العالم، لاسيما وان التجارب تفيد بان الديمقراطية ليست الخيار الأفضل دائما للشعوب التي تمزقها الحروب، وتوجهّها حساسيات مذهبية وقومية مفرطة، ويغيب الوعي عن أفرادها، ويتدنى مستوى التعليم بينهم، فضلا عن ارتفاع نسب الفقر، والمنظومة الاجتماعية القائمة على الاقطاعيات، والفوارق الطبقية، والقوى العشائرية، وغياب ثقافة التعددية وانحسار دور الطبقة الوسطى.
عدنان ابو زيد
اللغة والفكر.. وفائض المعنى
- التفاصيل
- كتب بواسطة: علي محمد اليوسف
تقديم: ماقام به فينجشتين (1889-1951) في فلسفة اللغة تعتبر أنعطافة تاريخية كبيرة مثيرة وغير مسبوقة في تاريخ الفلسفة، حتى لقّب بالفيلسوف الذي كان له تأثيرا قويا على أمتداد القرن العشرين، أجبر فينجشتين بآرائه التي لا ترى وجود فيلسوف منافس له حسب أدعائه أنه توصل الى حل معضلات الفلسفة من خلال منهج تحليل اللغة للمفاهيم، ما جعل فلاسفة حلقة اكسفورد وحلقة فيّنا يعيدوا النظر جذريا بمباحث الفلسفة وكيف يمكن أن تحل تلك المباحث بضوء تحليل أشكالية اللغة التي أثارها فنجشتين، وكانت أفكاره دعامة ومرتكز فلاسفة البنيوية الفرنسية دي سوسير وجان بياجيه ورولان بارت وميرلوبونتي وفوكو والتوسير أن يراجعوا منطلقاتهم الفلسفية بضوء جديد فلسفة اللغة، أما فلسفة جاك دريدا التفكيكية فكانت أتجاها راديكاليا في فلسفة اللغة مثلت خروجا على آراء فنجشتين عندما أدخلت التفكيكية مباحث الفلسفة الحديثة في عنق الزجاجة حيث كانت التفكيكية منهجا في اللغة زاد الارباك الفلسفي وليست منهجا في حل معضلات قضايا الفلسفة بمنهج تحليل اللغة، لا كما أراد فينجشتين تحقيقه في تحليل اللغة وسيلة تقويم على اساس من تحليل مفاهيم الفلسفة العالقة وليس الغوص في نحو اللغة بما هي تجنيس ادبي.
لم يكن فينجشتين كغيره من الفلاسفة المحدثين والمعاصرين بعيدا عن جمع المتناقضات في حياته الخاصة والفلسفية، فقد كان صوفيا غامضا وعصابيا نفسيا لا يعير أهتماما للدين بعد رفض قبوله راهبا في ديربسبب ميوله الجنسية المثلية، وكان يلازمه القلق الوجودي العصابي وشبح الجنون والانتحار،وعمل معلما في مدرسة ابتدائية وبستانيا ومهندسا معماريا، في وقت تنازل عن ميراث والده الكبير لشقيقه وشقيقته، مكتفيا بحياة مليئة بالمعاناة التي كان يسعى لها بأرادته وقناعته الحصول على نوع من التطهير الذاتي والخلاص النفسي من العصاب المرضي الذي يلازمه بلا جدوى.. تطوّع في الجيش أبان الحرب العالمية الاولى على أمل أن ينقذه الموت في المعركة من فكرة الجنون والانتحار اللتين تلازمانه كما أخبر صديقه وزميله مارتن شيرلتنيز.. وبعد أنتهاء الحرب أطلق سراحه من الأسر في أيطاليا ليموت أخيرا في سرطان البروستاتا..
فلسفة اللغة والفكر
ذهب فنجشتاين ومعه فلاسفة الوضعية المنطقية التحليلية الجدد حلقة فينا الى التسليم (أن ما لا يمكن أن يقال لا يستحق أن يؤخذ بنظر الاعتبار) (1).
لقد أراد فلاسفة اللغة وعلماء اللسانيات العودة الى أهمية الوضوح في تعبير اللغة كوسيلة ابتدائية اولى لمحاولة حل قضايا الفلسفة العالقة منذ قرون بسبب اشكالية اللغة في التعبير الغامض العصي على الفهم الاستقبالي الذي غالبا ما ينشغل بشكل التعبير اللغوي في ازاحته المضمون المتعالق والمتخّفي في تغييب اللغة وسيلة حضور الفكر ذي المعاني المدّخرة من دونها،، ومخاتلة اللغة القائمة على الدوام التي تجمع بين تضاد اللغة مع الفكر الذي تعبّر عنه رغم تعالقهما كوجهين لعملة واحدة (اللغة وعاء الفكر).. ولا صحيح أن اللغة تخون الفكر في تغييب أمكانيات الفكر مخاتلة اللغة وخيانته لها في عدم أستطاعتها التعبير عما هو كامل ومقبول بالفكر قبل اللغة.. من المهم التنبيه الى أن الثابت في فلسفة اللغة، هو اللغة والفكر هما وجهان لعملة واحدة لا انفكاك بينهما الا أن معظم مباحث فلسفة اللغة تذهب الى الفصل بينهما لمقتضيات البحث الفلسفي في تحليل اللغة.
خيانة الفكر للغة تكون قبل خيانة اللغة للفكر وما يضمره الفكر من أدّخار معرفي مسكوت عنه لا يبوح به أفصاحيا باللغة وبما تعجز اللغة التعبيرعنه بوضوح مطلوب، لذا فالافكار دائما ما تكون محمّلة بفائض من المعنى التي لا تستطيع اللغة التعبير عنه والألمام به دفعة واحدة على الدوام من خلال النص المكتوب، التي يكون الفكر أضافة نوعية متجددة متكررة بسبب ما يحمله من فائض المعنى المغيّب في تتالي التعبير اللغوي القاصر في النص التداولي على أعتباره فكرا متجددا قرائيا في تعبير اللغة عنه بأستمرار.. ومهمة اللغة أنها وسيلة توصيل المعنى المدّخر في الفكر..
من المفروغ منه أن (شكل) اللغة يستتبعه تعالقيا تواشجيا (مضمون) الفكر، ولا شكل بلا مضمون كما لا مضمون بلا شكل يعّبر عنه يحتويه، ومن هنا يكون تلازم الفكر مع اللغة تلازم الضرورة التي تدّخر فيها كل معاني التضاد القائم بينهما، بين الفكر واللغة.. أذ ليس كل تفكير تستطيع اللغة التعبير عنه كاملا لا نقص يعتريه..
فكيفما يكون مضمون الافكار تطاوعه اللغة في التعبير عنه كشكل لغوي يحدد ثباته الفكر وليس اللغة ذاتها، بمعنى اللغة لا تستطيع تحديد مضامين الافكار التي تعبّر عنها بينما يكون مضمون ومحتوى الفكر هو الذي يحدد شكل اللغة في التعبيرعنه.
أن وضوح التعبير اللغوي لا يجعل من الافكار ذات قيمة منفردة مميزة يمكن تجاوز كل ما لا تستطيع اللغة التعبير عنه أن يكون بلا قيمة ولا معنى، أذ يوجد الكثير جدا من أشكاليات معرفية وقضايا فلسفية وأمور حياتية تستحق الجدارة والاهتمام في عجز اللغة التعبير عنها بشكل واضح لكنها تمتلك لها حضورا دائميا غائبا خلف نص اللغة المعاد تكوين بناءاته التعبيرية بالتكرار التجديدي في البحث عما تغفله اللغة من معنى مفقود يلازم النص المتداول المتجدد القراءة.. كما أن عبقرية اللغة سابقة ومستمدة من عبقرية الفكر.. وأغلب ما تستطيع اللغة التعبير عنه بأمانة وصدق ووضوح يكون سهلا استهلاكيا غير جدير بالاهتمام لأن لغة التعبيرعنه تكون متطابقة مع المضمون الدلالي بما يجعل فائض المعنى المغيّب خلف قصور تعبير اللغة عن الفكر غير موجود بأستمرار وتفتقده لغة التعبير في وقت يدّخره الفكرالجوّاني على الدوام.. الفكر تعبير لغوي صامت، واللغة تعبير لغوي واضح.
وضوح الافكار يحمل معه داء السطحية المباشرة التي تفتقد محمولات فائض المعنى المدّخر خلف تداولية النص كنص لغوي.. كما يجعل وضوح النص لغويا عرضة للانحراف الساذج في التعبير عن الافكار السليمة.. ومن المشكوك به أن نعتبر تعبير اللغة صادقا وكافيا عندما يعبر بوضوح عن الافكار التي غالبا ما تكون سطحية بسيطة بالقياس لما تعجز اللغة التعبير عنه من أفكار جديرة بالقيمة والاهتمام لا تستطيع اللغة مجاراتها في صدق التعبيرعنها.. فالوضوح في المعنى اللغوي لا يشترط به التعبيرعن ألمهم الجدير بالاهتمام من القضايا والمفاهيم..
اللغة هي فن التعبير عن الفكر في زمن محدد ونص متعيّن قابل للاضافة على الدوام من خلال استمرارية تداوليته كنص، لذا تكون اللغة دائما محل أتهام وعجز وتقصير عندما تكون عاجزة الا عن تعبير فكري سطحي ضحل، ويكون ما لا قدرة لغوية التعبير عنه هو الجدير بالاهتمام في محاولة كشفه بتعبير صدق اللغة معه.. ودائما ما تكون الافكار الجديرة بالاهتمام غائبة عن التداول اللغوي الذي ينجذب نحو السهل والجاهزالمباشر في أستهلاك المعنى.. من هنا نجد قيمة الادّخار الفكري الجوّاني الصامت الذي تعجز اللغة التعبير عنه في النزعة الصوفية مثلا حيث يكون الفكرالصامت يحمل قيمة كبيرة في عجز اللغة التعبير الواضح عنه هو أبرز مثال على تلك الحقيقة التي أشرنا لها. ولا يشترط فهمنا تطابق تعبير اللغة مع دلالة محتوى الفكر يلغي من حسابنا أن القضية المعبّر عنها أصبحت سليمة وحقيقية..
ومقولة فنجشتين (أي شيء لا يستطيع الانسان التعبير عنه يجب عليه أن يبقى صامتا) مقولة تحذيرية تتحاشى هفوات اللغة المفترضة مسبقا أنها مخاتلة في التعبير وعدم أيفائها أعطاء كل مدّخرات الفكرالمعنى المعبّر عنه.. لذا يكون الأسلم صرف التركيز عن التعبير لغويا لأشياء ومفهومات ليست مكتسبة اليقينية التامة بالوضوح الفكري القاطع قبل الافصاح اللغوي عنها.. أي الهروب دوما الى أمام من أستحقاقات مواجهة الافكار الثرّة العميقة في عجز اللغة التعبير عنها كأفكار..
فضاء الفكر وفضاء اللغة
من الضروري الاقرار بأن فضاء الفكر غير المكتسب صفته التعبيرية الناجزة باللغة يكون دائما أوسع بمدياته التفكيرية وما يدّخره من معاني، من تعبير فضاء اللغة المحدود بكلمات النص والالمام به كاملا في مطابقة معنى الدال والمدلول التي تكون على الدوام علاقة متفاوتة المعنى بينهما..تفاوت لغة التعبيرعن مجاراة الفكر.
وشكل اللغة الذي يتطابق مع مضمون الفكر تطابقا كاملا يكون أستهلاكيا مستنفدا كل أضافة تداولية من فائض المعنى في أهمية تداوله المتتالي كنص لم تسطع اللغة التعبير عنه بصدق على الدوام.. فليس كل دال لغوي يكون بالحتم والضرورة معبّرا تعبيرا صادقا عن مدلوله لكي تكون جميع معارفنا جاهزة في التصديق والقبول لأن اللغة أستطاعت التعبير عنه بصدق ووضوح.. هذا ليس كافيا أن نجعل ما تستطيع اللغة التعبير عنه يكون جديرا بنا التسليم بصحته وأهميته فكثير وبما لا يحصى من تداول أفكار بلا معنى بفضل قابلية اللغة السطحية مجاراتها في التعبير عنها وهي لا تحمل من القيمة غير الاستهلاك المجاني التداولي المؤقت القابل الى حتمية زواله وأندثاره كنص ميت لا يحمل معه مدّخرات من فائض المعنى بما يبقيه حيّا ..
وبالتأكيد كثيرا ما تكون اللغة عاجزة تماما عن التعبير في حال يكون الصمت لغة تعبير أسمى من لغة التعبيرالمكشوف تداوليا في الوقاية من السقوط في تعبير لامعنى محدد واضح له، فالصمت المقترن بوعي قصدي مسّبق يكون لغة صائبة فكريا خذلته لغة التعبير التواصلية، ولغة الصمت غير المفصح عنها تكون بالحتم هي (فكر) مكتنز بمحمولات فائض المعنى لأنها فكر غير معبّر عنه باللغة ..فالصمت الهادف يكون هنا لغة حضور غائب يتوخى الوضوح التداولي الكامل في معنى تعبير اللغة عنه.. والصمت القصدي لغة غير عادية في أتخاذها موقفا صائبا من الوعي ..الصمت قد يكون عجزا لغويا لكنه حتما لن يكون تفكيرا بلا معنى..فالصمت تفكير لغوي هادف بما يرغب الافصاح عنه باللغة.
ولا يشترط أن يكون الصمت الانساني عجزا تعبيريا لغويا عندما يكون الصمت لغة تحذر من الوقوع في براثن الغموض العصّي، وأن الصمت لغة تحمل من المعاني والدلالات تأويلا ما لا تستطيع اللغة التعبير عنه، فليس كل صمت هو وقاية وحذر بمقدار أن يكون لغة أحترازية لا يمكن التعبيرعنها بدقة في لغة المعنى المطلوب أحيانا.
وبالعودة الى عبارتي فنجشتين وتعالقهما الفلسفي، الاولى أن ما لا يمكن أن يقال ليس جديرا بالأهتمام.. والثانية على المرء أن يصمت في حال أعجزه التعبير اللغوي بوضوح، أنما تؤكدان حقيقة واحدة هي أنه ليس بمقدور اللغة على الدوام التعبير عن عبقرية الافكار بأمانة وصدق، وفي أعتمادنا لغة الصمت ليس عجزا في تعبير اللغة وأنما هو أرجاء مقصود لما يدّخره الفكر من فائض المعنى التي لا تدركه اللغة في تعبير النص لاول مرة.. لغة الصمت ليست خلوّا من المعنى في عجز اللغة بل هو محمولات لحقائق حياتية تبّين لنا بوضوح تضاد التفكير العميق مع سطحية تعبير اللغة أغلب الاحيان..
ولتوكيد هذه الحقيقة نستنطق عبارة المتصوف العربي الكبير محمد بن عبد الجبار النفري قوله (كلما أتسعت الرؤيا ضاقت العبارة) وهي عبارة غاية في دقة التعبير الواضح القائم على التضاد الدائمي بين الفكر ولغة التعبير عنه. هنا نفهم التضاد هو القدرة على المعايشة التي تجمع اللغة والفكر ديالكتيكيا في تشكيل الظاهرة الجديدة أو في التعبير عن المفهوم المستحدث جدليا، وليس تناقضا في وجوب زوال أحدهما لصالح ديمومة وبقاء الآخر..فلا يوجد شكل تعبيري لغوي لا يداخله فكر قصدي هادف..
العلاقة بين الرؤيا بتعبير النفري التي هي الفكر الصامت الذي يدّخر المعنى قبل التعبير اللغوي عنه، وبين عبارة التعبير شكل (اللغة) هي علاقة تناسب عكسي وليس علاقة تناسب طردي، وهذا التضاد في التناسب العكسي ضروري وقائم بذاته لا يقبل وسطية الحلول التوفيقية الثالث المرفوع ويبقى يحكم علاقة الفكر باللغة داخل وخارج التجربة الصوفية قائما ما بقيت حقيقة اللغة أنها وعاء الفكر..وأننا نفكر من خلال اللغة وبها في كل امور الحياة ..
التحول اللغوي وفائض المعنى
كانت اللغة قديما تعتبر مجرد أداة للتعبير عن الفكر، وهذه الفكرة لم تعد تلقى حضورا في وقتنا الحاضر حسب أدعاء بعض فلاسفة التحول اللغوي الذين يرون فيه تحولا في وظيفة الفلسفة نحو الاهتمام (بتحليل مفاهيم ) واقعية وليس تعبير عن أفكار مجردة لقضايا لا يمتلك الكثير منها معنى حقيقيا غير زائف..
في مفهوم فلاسفة عديدين معاصرين منهم فينجشتين لا يخرجون عن النظرية التي ترى (اللغة هي الفكر ولا يوجد فاصل بينهما بل هما شيء واحد، ووضع حد لأفكارنا أنما هو وضع حد للغة فقط، وما يخرج عن هذا الحد لا معنى له، فالفكر هو القضية ذات المعنى) موقع اضاءات انترنيت.
عليه تكون كل فكرة لا تكتسب معناها الا بوسيلة التعبير المعبّرة عنها باللغة، وهو شيء صحيح أذا ما أعتبرنا أن حقيقة الفكر لا تكون بغير تعبير اللغة، والمسألة التي نجد فيها مجال النقد الذي هو في حقيقته الفلسفية اليوم هو نقد أفكار الفلسفة وليس القيام بتفسيرها وتوضيحها التي كانت مباحث الفلسفة مشغولة قرونا طويلة في تفسير مباحث وأشياء تقوم على أفكارفارغة بحاجة الى نقد تقويمي..
ومن الواضح أننا لا نستخدم حسب رغبة فلاسفة التحول اللغوي أن المفاهيم التي يدّعون وظيفة اللغة تحليلها هي أولا واخيرا أفكارا أكتسبت اللغة التعبيرية عنها، وألا نكون ملزمين التفريق بين الفكر والمفهوم وكيف نتعامل معهما بالنقد الفلسفي؟
أن فكرة تحجيم ووضع حد لأفكارنا لا يكون الا بوضع حد للغة فقط مسألة تقبل سلامتها أذا ما أعتبرنا أمكانية فصل الفكرة عن لغة التعبيرعنها واردا مقبولا، وهذا ما يرفضه فلاسفة اللغة والعلوم الانسانية ويعتبرونه بلا معنى يفتقد السند المنطقي التوضيحي.. وتماشيا مع هذا المعنى لا يكون لدينا أمكانية تحجيم سلطة وحدود اللغة بمعزل عن لا يطال هذا التحديد الفكر الذي هو بحسب تعبير فينجشتاين المررنا به (الفكر هو القضية ذات المعنى) في تحجيمه ووضع حد له من خلال تحجيم حدود اللغة.
أذا ما أعتبرنا الفكر هو لغة غير مكشوفة ولا تعبيرية مرئية تداولية حين يكون العقل يتمّثل موضوعاته داخل بنية العقل الموزعة بين الاحساسات والاحاسيس وما تنقله الحواس والذهن والدماغ والجهاز العصبي عندها لا تكون هناك قيمة سابقة للغة على الفكر باعتبارهما شيئا واحدا غير مفصح عنه ولا يعبّر عن شيء أو معنى طالما هو تفكير جوّاني صامت داخل المنظومة العقلية المؤلفة من الاحساسات والجهاز العصبي والدماغ... أما في حالة تعبير اللغة عن الافكار في تعالقها مع وجود الاشياء خارجيا أو حتى القضايا المجردة فكريا عن توصيف الألمام بالموجودات في العالم الخارجي عندها تفقد الافكار قيمتها لأنها صبّت في وعاء اللغة وأصبحنا نتعامل مع الافكار أنها لغة تعبير فقط..
أذن أصبح لدينا الآن حقيقة ماثلة أننا لا نستطيع تحجيم أفكارنا الا من خلال تحجيم اللغة التداولية وليس من خلال تحجيم لغة تفكير العقل جوانيا بموضوعاته، فالفكر في كل الاحوال يبقى تجريدا ذهنيا غير مفصح عنه ولا يمكننا التعامل معه الا من خلال أفصاح اللغة عنه فقط التي هي علامات صور التفكير المجردة.. وبهذا الفهم الدقيق يصبح تعبير فينجشتاين (الفكر وحده هو القضية ذات المعنى) يفتقد وسائل التحقق الفعلي منه ولا يقلل أهمية التساؤل وألادعاء أنه الوحيد الذي يحمل معنى بوسيلة اللغة أم بعدمها؟ يبدو التساؤل منطقيا قائما حينما نتعامل مع الفكر لا يمثل اللغة تارة وتارة أخرى نتعامل مع حقيقة أننا لا يمكننا الفصل ما بين الفكر واللغة.. وعندما يقول فينجشتين الفكر هو القضية ذات المعنى،، يكون تساؤلنا كيف نتأكد من صحة هذا الاستنتاج الذي يجعل الفكر هوغير اللغة، وكيف لا تكون اللغة هي صاحبة القضية التي تحمل معنى بدلا من الفكر؟ وكيف نستدل على أن الفكر يحمل قضية وهو قرين متداخل باللغة في معنى التعبيركليهما عن شيء واحد..
عليه نكون ملزمين كي يتسنى لنا الفهم الصحيح في تعالق اللغة مع الفكر أننا يمكننا الفصل بينهما من حيث كوننا لا نستطيع فهم الافكار في التعبير الخارجي الا بوساطة تصورات وتجريدات اللغة فقط.. بنفس أهمية أننا لا نستطيع التعويل على أننا نفكر جوّانيا في صمت اللغة بأفكار هي ليست علامات لغوية صورية في تحديد التفكير العقلي وهو أستحالة لا يمكن نتوقع حدوثها أبدا..فتفكير العقل لغة صورية لأفكار مجردة سواء كان التفكير بالاشياء خارجيا أوكان بها تفكيرا داخليا..
فرز محددات اللغة عن محددات الفكر في عدم أهمال أفتراض التداخل العضوي القائم بينهما يكون واردا من ناحية التحليل الفلسفي وليس في أعتبار التداخل بينهما هي وظيفة بايولوجية تساعدنا بفهم الاشياء التي يكرس حقيقتها منطق العلم في دراسة وظائف الاعضاء في الجسم البشري قبل تسليم الفلسفة بصحتها القاطعة..والفكر واللغة وجهان لعملة واحدة حقيقة صحيحة لا يمكن التلاعب بها كما أشرنا ومجمع عليها فلسفيا وعلميا في حال تكون اللغة تعبير خارجي عن الموجودات والاشياء، ويكون الفكر تعبير ذهني قصدي صامت في تفكيره بموضوعات مستمدة خارجيا أو مستمدة من خزين الذاكرة المعرفية على السواء. وفي حال يكون الفكر كمضمون لغوي يهدف الى معنى لم يأخذ حيّزه اللغوي الشكلي في التعبيركنص متداول القراءة، عندها يكون عالما قائما بذاته لا يمكننا أدراكه ألا بدراسة علمية تعمل على فهم كيف يفكر العقل؟؟ وهل الفكر لغة داخل العقل كما هو لغة خارج العقل في التعبير عن فهمنا للاشياء؟؟
بألتاكيد تكون لغة التعبير في كلتا الحالتين واحدة في الدلالة اللغوية كشكل تعبيري يقوم على التجريد، لكنها مختلفة في دلالة المعنى الفكري كمحتوى مضموني..فما تعبّر عنه اللغة من أفكار ليس بالضرورة يكون نفسه تفكير العقل بتجريد اللغة داخل تفكير العقل الصامت..
كيف لنا أن نفهم؟
أن مصطلح التحول اللغوي الذي قلب الفلسفة رأسا على عقب، الذي ترجع أصوله الى كل من جوستاف برجمان وجاتلوب فريجة اللذّين يذهبان الى ذات المنطلقات عند فينجشتاين، على أن هذا المفهوم قدّم خدمة جليلة لا يمكن تثمينها للفلسفة التحليلية عندما جرى (تعيين حدود الفكر بتعيين حدود اللغة) من دون توضيح فك هذا التعالق الاشتباكي بين اللغة من جهة والفكر من جهة أخرى.. وجرى الاستنتاج أن هذا التفريق بالحدود باللغة حصرا دون الفكر وضع حدا للمعنى واللامعنى.. (فاصبحت اللغة في مركز البحث الفلسفي المعاصر..) العبارة بين مزدوجين نقلا عن موقع ضفاف انترنيت.
وهذا يضعنا مرغمين أمام تساؤل بماذا نربط المعنى واللامعنى هل نربطه بالفكر أم باللغة أم بكليهما معا؟؟ وهذا خلاف مايراه فينجشتاين أن الفكر وحده يمثل قضية المعنى بمعزل عن اللغة حيث تكون قيمتها التعبيرية متوارية خلف حجب تسيّد الفكر على اللغة خارج العقل وأنه وحده يحمل قضية المعنى.. وهذا هو النفق المسدود الذي يحرّم تحريما قاطعا مسألة التفريق بين اللغة والفكر ولمن تكون الأسبقية في فهم العالم والتعبيرعنه؟؟ يذهب فيلسوف اللغة نعوم جومنسكي (الى أن اللغة تفرض بشكل وآخر على الانسان طريقة التفكير) من حيث أستحالة التفكير بغير تصورات اللغة الدلالية في معرفة الاشياء..
أشكالية فصل الفكر وأستبعاده عن اللغة أنما جاء من أعتبار أن اللغة أصبحت هي التعبير الوحيد عن الفكر، وبغير اللغة لا يمكن فهم وقائع الحياة لذا هي أستأثرت بالمعنى بدلا من الفكر الذي لا تستوعبه اللغة وهو يحمل فائض المعنى المطلوب على الدوام...أشكالية فصل اللغة عن الفكر معقدة جدا لما تحمله من محذورات الوقوع في أخطاء قاتلة عند تناولها فلسفيا وليس وظائفيا علميا كما هو المفروض..
يعترف فينجشتين أنه أرتكب أخطاءا فضيعة في رسالته المنطقية والتي تراجع عنها بضوء تشخيص فرانك رامزي لتلك الاخطاء، وعندما سئل جون سيرل كيف أستطاع فنجشتين التخلص من أستخدام الصورة لتوضيح المعنى؟ أجاب سيرل تم ذلك من خلال تراجع فينجشتين الى أن أستعمال العلامة اللغوية قيمتها تكون في وسيلة أستخدامها في مجرى الحياة وأهمية اشتغالها في الحيّز الاجتماعي..
وفي معنى مصطلح (لعبة اللغة) وصورة الحياة الذي أبتكره فينجشتين يقول: (اللغة ليست نوعا من الخيال أو الوهم اللامكاني و اللازماني وأنما هو ظاهرة مكانية وزمانية ) نقلا عن موقع اضاءات..مؤكد هنا الاقرار بحقيقة أن اللغة تعبير عن فكرة مدركة عقليا بزمانها ومكانها وليست تجريدا خارج هذا الادراك والا كنا نقع في اللامعنى، في لا جدوى اللغة وأستحالة أن يكون هناك معنى خارج الادراك اللغوي لعالم الاشياء والتصورات الذهنية، كما لا توجد أفكار ذات معنى في تعبير اللغة الافصاح عنها خارج عالم الواقع الخارجي المحدود أدراكيا بالزمان والمكان..ولا توجد أفكار تستطيع اللغة ممارسة التعبير عنها خارج تجريد عالم الاشياء وفهم العالم..
علي محمد اليوسف / الموصل
............
هامش 1،جنون الفلاسفة، نايجل رودنجرز وميل ثومتون، ترجمة متيم الضائع ص 173
قيس سعيد رئيساً لتونس، ماذا بعد؟
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. محمد عمر غرس الله
يعد وصول قيس سعيد (الرئيس السابع للجمهورية التونسية) - لقصر قرطاج بخطابه الذي تقدم به للإنتخابات - حدثاً ملفتاً يتطلب النظر والتحليل، فالرجل قادم من خارج المؤسسة الحزبية التقليدية وتم أختياره وفق الإنتخابات الرئاسية، وهو أستاذ جامعي في مجال القانون تعرفه قاعات الجامعات التونسية في تونس العاصمة وسوسة متخصصاً في القانون الدستوري، قدم خطاب في حملته الإنتخابية معبراً عن مسار جديد في الخط السياسي التونسي الرسمي فيما يتعلق بالسيادة الوطنية، والموقف من القضية الفلسطينية، وما يتعلق بالعلاقة مع الكيان الصهيوني الغاصب، كما قدم وبشكل ملفت لغة عربية قوية وسليمة بعيدة عن التلهيج والفرنسة، كل هذه السمات تبدو مهمة ولافت في ما نتوقعه من تأثير يحدثه هذا الرئيس القادم في زمن يبدو حيوي، وهذا سيكون له معنى عربياً بكل تأكيد، دعونا نرى
إننا بالنظر للحدث المهم في تونس لسنا في وارد الحديث عن الخوارق السياسية او ظهور السياسي السوبرمان، ولكننا أمام توقع تأثير الخط الذي بدا عليه الرئيس الجديد، والذي يمتح من مسيرته السياسية في مجال القانون وخطابه الانتخابي المميز والواضح والذي حمل الجديد (كرئيس) في التعبير بصوت سياسي جديد من طراز مختلف هو اليوم في قصر قرطاج – رئيساً - وما يمكن أن يتوقع منه في إحداث تغيير وتطوير يمس الوضع الوطني التونسي خاصة في الأعماق المهمشة، وأيضا ما يعبر عنه من الرؤية الشعبية التونسية فيما يتعلق بالقضايا الإستراتيجية أمام الوضع العربي المتردي، وتصحيح الدور التونسي الرسمي حياله.
في الحقيقة أن وصول (قيس سعيد) لقصر قرطاج في تونس يقول شيئاً مهما في الداخل والخارج، ويمكن لنا أن نتوقع تغيرات إيجابية داخلية وخارجية فهو وصل بإنتخابات نظيفة مرضي عنها شعبياً وبطريقة مشروعة وفق النظام السياسي التونسي وهو ما يعطيه مشروعية وقوة وفاعلية تحريك وإحداث تغيير إيجابي حقيقي، وفي ذلك ثمة تحديات تواجهه يمكن حصرها في:
تحديات داخلية:
أولاً: تحديات أساسية وحاسمة متعلقة بإمكانية تحريك عجلة التنمية نحو الدواخل والأعماق المهمشة وكسر الطبقية الجغرافية والمناطقية التي تعرفها تونس، تلك المناطق الفقيرة المعدومة التي تعيش في الظل سوى حول المدن الكبرى أو في الجنوب التونسي، من حيث ضعف البنية التحتية وإنعدام أماكن الشغل وفرص العمل، خاصة الأسر الفقيرة والنساء العاملات في الفلاحة والقطاعات الوسطى من الشباب المهمش في الدواخل التونسية، وهو أمام تحدي يحقيق توازنات تنموية وتساوي الإنجاز بين الجهات التونسية، وذلك بالفكاك من سطوة رجال الأعمال وتأثيرهم على الخط السياسي وإتجاهات التنمية وتوزيعها الجغرافي، الأمر الذي يساهم في تجفيف منابع إستغلال الشباب في حروب الجيل الرابع، ويوقف نزيف الهجرة إلى الخارج، ويحدث إنتعاش حيوي في الأعماق التونسية.
ثانياً: تحديات متعلقة بإحداث تطوير إيجابي في بنية المنظومة السياسية في تونس، وحلحلة المنظومة العميقة التي تجذرت وتمكنت عبر الزمن، وهي التي تشكل البيئة التي تؤثر في تونس على المدى الأعمق والأبعد، وهي مكونة من شخصيات تاريخية مخضرمة لها أتباعها في العمق ذات نزوع له تأصيله يعتمد أحياناً على الأرث البورقيبي، وله شبكته التي تنسج خيوطها وفاعليتها في مفاصل الدولة وهي الأكثر تاثيراً في الأوقات حاسمة خاصة في التنسيق مع الغرب والولايات المتحدة تحديداً، فبالمعنى الذي ظهر عليه قيس سعيد في خطابه الانتخابي وسيرته الذاتية - يبقى هذا الرئيس الجديد أمام تحدى: إما أن تحتويه هذه المنظومة عبر خطوطها العريضة فيتوافق معها ويسير في إطارها العام مع السماح له بهامش التعبير والمناورة، او يستطيع هو حلحلتها وبالتالي يتمكن من فنح الباب لتنويع هذه المنظومة من الواقع التونسي الذي عبر هو عن الكثير من تجلياتها بطريقة او أُخرى من الطيف التونسي المتنوع (تنوعات القوميون العرب والقوى الوطنية الشعبية بتنوعاتها والإتحاد التونسي للشغل) بالإستفادة من وصول شخصيات تمثل العمق التونسي بمعناه العربي والقومي للبرلمان التونسي (حركة الشعب – المثقف الصافي سعيد – سالم الابيض .. وغيرهم)، فهل ينجح بصنع معنى لهذا الطيف يكون له تأثيره العميق والمستمر سياسياً وإقتصادياً، وهل يستطيع أن يلعب دور المايستروا بجعل كل ذلك معتبراً في الخط العريض للسياسة التونسية الرسمية داخلياً وخارجياً، متسقاً مع ما كان يقوله أثناء الحملة الإنتخابية فيما يتعلق بقضايا الأُمة العربية والعروبة والتطبيع وموقفه الواضح الجلي من القضية الفسطينية بشكل يبدو جذري، وحلحلة إتجاه الدور التونسي الخفي (دور الجهاز السياسي العميق والأمني والعسكري المتحالف والمتسق مع القفاز القطري - دور حركة النهضة واذرعها) في ما يجري في ليبيا، وأيضا الأكثر إثارة وأهمية موقفه من قضية اللغة العربية التي دأب على التعبير بها فصيحاً عربياً مفوها يبدو واضحاً في مواجهة سطوة وتمكن فرانكوفونية.
ثالثاً: تحديات متعلقة بتهذيب دور الإسلامويين خاصة الشبكة المرتبطة والقريبة من الجهاز السري لحزب النهضة ونفوذ ودهقنة الغنوشي وإرتباطاته، فيما يتعلق بدورها التكاملي مع (الأردوغانية) والدور القطري وإرتباط ذلك بما يتم فعله في المنطقة العربية خاصة في ليبيا وسوريا (لا أحد يضمن أن لايتم القيام بنفس الدور في الجزائر حال إستهدافها فالذي غدر ليبيا وسوريا يمكنه فعل ذلك مع الجزائر دون أدنى شك حيث أن هؤلاء الفاعلون لا يتوبون ولا يرتدعون)، فالإسلامويين منذ عام 2011م في تونس تغلغلوا بفعل فاعلية حزب النهضة وقدرته التنظيمية وشبكته المتينة والمستندة على القدرة والمهارة الفائقة في (العمل السري) والتقية والقدرة على التخفي والبراغماتية كاسلوب تمكين وتمكن، ولذا فالرئيس (قيس سعيد) سيواجه عاجلاً ام أجلاً تلك الشبكة من خلال دوره السياسي والذي بين هو خطه فيما قاله وصرح به، وهو ما يبدو مختلفاً مع مسيرة النهضة ودورها الإقليمي، فهي كانت ولازالت فاعل ولاعب كبير في منظومة الإسلامويات في المنطقة العربية من خلال علاقتها بلندن والدوحة وإسطنبول.
رابعاً: تحديات إنتشال والمساعدة في فكاك الإسلام التونسي الشعبي المحلي المتجذر من يد وسيطرة الجماعات المنظمة، وإعادة الإعتبار لدور جامع الزيتونة بعيداً عن الجماعات الإسلاموية العابرة للحدود، تلك الجماعات التي بحكم تطور حروب الجيل الرابع تقع غالباً في حبائل اللعبة الدولية عبر تحالف المال والاعلام والفتوي واللعبة الدولية، فتونس التاريخية في مسالة الإسلام والدفاع عن الثقافة العربية الإسلامية لها السبق شعبياً في لعب دور إيجابي في محيطها في قضايا الإصلاح الفكري وتهذيب سلوك المجتمع ونفوذ الأوامر والنواهي القرأنية، الأمر الذي يعد حيوي وضروري في إنتشال هذه المقدرة التونسية من أيادي الشبكات العالمية التي تسيرها غالباً إدارة أعمال في إطار اللعبة الدولية حتى دون أن يعي الكثير من البسطاء من المنتمين للحركات الإسلاموية.
التحديات الخارجية:
أولاً: تحديات متعلقة بالدور التونسي في الفضاء العربي فتونس التاريخية لها تأثير في مسيرة الأمة العربية منذ القدم، وهي في المغرب العربي دُرة العروبة المكنونة، حيث يبرز تحدي إستعادة إيجابية هذا الدور والذي للأسف كان (رسمياً) في اللحظة العربية الحرجة – منذ عام 2011م - متسقاً بل واداة مكملة لدور القفاز القطري خاصة في ليبيا، الأمر الذي لم تعهده تونس التاريخية حيث تم (الغدر بليبيا) عبر المنظومة السياسية والأمنية والعسكرية التونسية (يمثلها الباجي وأخرون متجذرون في المطبخ السياسي التونسي – الجنرال رشيد عمار ممثلاً للجيش – والجهاز الأمني العميق) بالمشاركة في إتخام ليبيا بالأسلحة بل وفتح منفذ غير قانوني على الحدود الدولية وإدخال (أطنان الأسلحة القطرية) وفتح القواعد العسكرية والمواني لإستقبال تلك الأسلحة وتسهيل عبورها للجارة ليبيا، الأمر الذي سبب ولا يزال يسبب أضرار بالغة لازالت مستمرة على ليبيا المجتمع والدولة والنسيج الإجتماعي.
ثانياً: تحدي الموقف من الشراكة الإستراتيجية التونسية مع الولايات المتحدة، فهذه الشراكة تفسر في إطار سلوك الولايات المتحدة في المنطقة العربية، في إطار أدارة أميركا للوظيفية السياسية للأنظمة العربية في سياق هذا السلوك، فمن خلال موقف الرئيس الجديد من العلاقة بالكيان الصهيوني الغاصب (التطبيع كمصطلح ومعنى)، تتضح ملامح سياقه السياسي وما يتوقع منه، وهو ما سيكون حتماً مطروحاً في مسالة هذه الشراكة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة والدور الوظيفي المرسوم لها، سوى فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وما يتعلق بما يجري في منطقتنا العربية والذي في الكثير منه من ضمن حروب ا لجيل الرابع التي تلعب بها أيادي الغرب.
ثالثاً: تحدي تصحيح العلاقة مع سوريا، فالمرتزقة من الشباب التونسي الذين حفزتهم ونظمتهم وسفرتهم الجماعات الإسلاموية من تونس (رغم رفض تونس الشعبية العميقة لذلك) عبر جهازها السري والذي لم يكن بالتأكيد بعيداً عن أعين جهاز الأمن التونسي القوي والمعروف بفطنته وحرفيته وقدرته العالية على ضبط الأمن، فالأف الشباب من تونس تم نقلهم لقتال الليبيين والمشاركة في الحرب عليهم، وأخرون عبرها إلى سوريا بفعل فاعل يعرفه الأمن التونسي القوي جيداً، وشاركوا في قتل وتهجير وتدمير سوريا وشعبها.
رابعاً: تحدي الدور التونسي المطلوب في المغرب العربي، فتونس عنصر فاعل وقوي وله تقديره وإحترامه بين إخوته في المغرب العربي، وتحريك عجلة التكامل في المنطقة يعد عاملاً حيوياً خاصة وأن تونس تحضى بعلاقات أخوية متينة مع كل بلدان المغرب العربية، وتونس الشعبية والدولة وخدماتها ترتبط اقتصادياً بكل جدارة بليبيا والجزائر في السياحة والعلاج، وهو مايعد تكاملاً مهما نجحت تونس في إنجازه حقق لها فؤائد إقتصادية ومالية معتبرة، وهذا في المغرب العربي يحسب في طريق وحدة المنطقة وتكاملها فنحن شعب واحد واسرة واحدة وبنية تحتية واحدة.
أن المتوقع من وصول الرئيس قيس سعيد يعد تفاؤلاً مهماً بالنظر لما يمثله من خلال خطابه ومسيرته المهنية وطريقة وصوله للرئاسة وأيضاً المقدرة التونسية الواعية، وهذا المتوقع أيضاً مرتبط بأهمية تونس في أُمتها العربية فتونس شعبياً دائماً تُحدث الفرق ولها تأثير كبير في محيطها عبر نخبها وإعلامها ووعي شعبها وقطاعاتها الشعبية من طلاب ومحامين وأكاديميين معتبرين في دنيا البحث العلمي والإنتاج الفكري، وإتحاد تونسي للشغل وأيضاً من خلال الكثير من السياسيين البارزين، إنها تونس والحدث فيها لا تؤطره الحدود ولا يغلق عليه باب، فتونس نسيج عربي متين متواصل مع قضايا أمته في عمقها في دمها ولحمها، ونحن الليبيون من بين بقية العرب الأكثر إرتباطاً بتونس فهي منا ونحن منها (ليبيا وتونس أشبه حالة عربية باليمن الشمالي واليمن الجنوبي سابقاً)، فما يحدث في تونس يُخصنا ويتعلق بنا ويؤثر فينا بطريقة او أُخرى، ورئيسها هو رئيسنا نحن أيضاً حتى وإن لم نضع أوراقاً في صناديق الإنتخاب لإنتخابه.
والله من وراء القصد
د. محمد عمر غرس الله
كاتب ليبي مقيم ببريطانيا
عن رواية خان الشابندر.. تأليف محمد حياوي
- التفاصيل
- كتب بواسطة: حسين السكاف
محمد حياوي.. من رحم الخراب.. صورة آخرى للحب
"إليك الحقيقة، لقد خُلقنا في هذا العالم، لنشهد سلسلة من المسرّات الطويلة والآلام المتناسخة." إنها العبارة الأولى التي يفتتح فيها الروائي محمد حياوي روايته "خان الشابندر"، ورغم ورود المسرات قبل الآلام، إلا أن القارئ لا يتلمس المسرات إلا في الحبّ المتخيل، البعيد عن الحياة اليومية المعاشة.. الأوجاع وفوضى الآلام المتلاطمة بين ثنايا الرواية تعزز حالة هستيريا الواقع، التي تمنح الخيال شحنة أكبر بغية الهروب نحو عالم أقل قسوة، عالم الحب المقاوم لهجمات القبح والتخريب المستمرة بعنف جارف.
"إن أحببتنا، ولو لبعض الوقت، لن نتركك تغادر سالماً.. لكننا سننقذ روحكَ من الغرق والتحطّم.. الغرق في الحياة الفاسدة حيث يَلتَهِم عقلكَ روحك.. لكن مع ذلك سنحبّكَ كما لم يفعل أحد من قبل.. وسنحدّثكَ عن القِصص والحكايا.. القِصص التي لم يسمع بها أحد من قبل، أو لم يرغب أحد بسماعها.. سنفتح لكَ كنوز صدورنا الحانية، ونأخذكَ إلى بحر الخيال.." عبارة يتسيدها الخيال، وتختفي عنها صورة الواقع رغم الاعتراف بفساد الحياة وشراسة الإدراك الذي لا بد وأن يرشد العقل إلى إلتهام الروح وتحطيمها..
"علي" بطل الرواية، صحفي عاش خارج العراق لأكثر خمسة وعشرين سنة، يعود بعد سقوط الديكتاتور، ليعمل صحفياً في جريدة محلية، يصطحبه أحد أصدقائه لزيارة بيت دعارة بغرض الاشتغال على تفرير صحفي أو "بحث اجتماعي" كما جاء على لسانه، عن وضع الفتيات في تلك الدور والسبب وراء انخراطهنّ في ذلك النوع من العمل، فيدخل بيت "أم صبيح" لتبدأ قصته مع اضطرابات الشخصية العراقية التي لعبت بها الكوارث المتلاحقة لتمسخها وتحولها إلى أموات يتنفسون ويمكنهم الحركة.. هناك في بيت الدعارة وتحت أصوات الرصاص والقذائف تنشأ علاقة حب بين بطل الرواية و"هند" إحدى نساء الدار.. علاقة لا ينقصها الوعي ومعرفة مرارة الواقع عن قرب.. "ما أن استعدتُ وعيي بعدَ القُبلة الطويلة، حتّى قالت هند ضاحكة: "الآن.. امتزجت روحكَ الهائمة بروحي المحترقة.. ما الذي ورَّطَكَ معي؟.. سأنتشلكَ وأحلّق بك في سمائي وأنا أخفق بأجنحتي الجبّارة.. حتى ترى ما لم تره من قبل!""
يشعر القارئ لرواية "خان الشابندر" أن أغلب الشخصيات وهمية لا علاقة لها بالواقع، بل هي شخصيات تعيش في ذهن بطل الرواية، يستحضرها أحياناً ليحدّثها، ويعيش معها لحظات يختارها هو، وأحياناً تأتي بها مناماته وكوابيسه المتلاحقة، لذا نجد أن أغلب الشخصيات هي في حقيقتها أفكار جاءت لتفصح عن مكنوناتها وإن ظهرت معقدة أو ضبابية بعض الأحيان.. ويمكننا الإشارة إلى شخصية "مجر عمارة".. العارف بخبايا الأمور والحكيم "أحياناً"، الذي ظهر مثل روح هائمة فارقت جسدها منذ عدة قرون.. فهوس الشخصيات التي تزخر بها الرواية وتناقضاتها، تشير إلى أنها لا تنتمي إلى الواقع بشكله الصريح، بل هي خلاصة يقدمها لنا مؤلف الرواية لتشير إلى تفاصيل الواقع المعاش.. فهم إما أن يظهروا على شكل أموات أحياء، أو أحياء أموات.. وهذا ما يؤكده لنا سائق التاكسي.. "أنا شخصياً استشهدتُ في (معركة) القادسية، ثم تبين أنَّني فُقدتُ في (معركة) "الشيب" وبعد ذلك، اُسِرتُ في إيران. وبعد سنين وجدتُ نفسي في مَصحّة عقليّة.. هذه السيارة الثانية التي أقتنيها بعد أن احترقت الأولى في انفجار (منطقة) الصدرية. خرجتُ منها محترقاً، وتعجَّبَ الناس كيف نجوت من الحادث! أنا ميت يا أستاذ من زمان.. فهل يخاف الميّت من الموت؟.. وفي مكان آخر يعزز المؤلف تلك الفكرة بوضوح حين يلتقي بطل روايته بأحد أصدقائه القدامى "سالم" الذي أُعدِمَ منذ قرابة الربع قرن، بسبب رفضه المشاركة في حرب الثمان سنوات.. "سالم" الذي أعيد إلى الحياة بعد ربع قرن من مقتله، بقرار من مخيلة بطل الرواية، نجده مواكباً وعارفاً بتفاصيل الخراب الذي يعيشه البلد وأبنائه، فحين يلتجأ إلى الحب ويتذكر زميلته في الجامعة وحبيبته "غدير" يحدّث صديقه القديم "بطل الرواية" الذي قابله صدفة متصوراً حالها في تلك اللحظة.. "ربما تزوجت، ولفّت فوطة كبيرة (حجاب) حول رأسها.. أغلب النساء من جيلنا يبدين كذلك الآن.. حزينات بوجوه شاحبة، ويلففن الفوط السود حول رؤوسهنّ بعد أن نسين شبابهنّ وأيّام الجامعة الملتهبة بالأحلام.. إنهنّ الآن أمهات يندبن أبناءهنّ الذين يموتون باستمرار في انفجارات الشوارع.".
"مالذي يجري لنا؟.. لِمَ الزمن ضاع إلى هذا الحد؟.. الزمن يكون أكثر وطأة وعدوانية في الحروب يا صديقي.." عبارة قد تختصر حجم اللوعة داخل النفس البشرية التي تعيش الخراب وتتنفسه، فالحياة داخل الرواية تقترب من الوهم، بينما الخراب هو الحقيقة الدامغة.. حيث حاول المؤلف تعزيز حالة الوهم المعاشة، بحركات وأصوات لها دلالاتها.. طيور ضخمة تطير، لا يرها، بل يسمع خفق أجنحتها العظيمة.. أصوات تدله على شيء ما يحتاجه، لا يرى مصدرها، يسمعها فقط.. تلك هي الحياة في بلد الكوارث، يأمرك المخفي أو الغائب أو حتى الميت منذ زمنٍ بعيد فتجيب صاغراً إثر حاجة في نفسك..
أغلب نساء الرواية أحببن بطلها "علي" الصحفي.. ضويّة، هند، أخلاص "لوصة"، حتى الصغيرة زينب بائعة الكعك، التي وجدت فيه أباً مشتهات، بدلاً عن أبيها الذي لا تتذكره حيث أكلته الحرب حين كانت طفلة، ونيفين، زميلة علي في الجريدة التي يمكن للقاري أن يتلمس صدق شخصيتها داخل الرواية، حيث تكاد أن تكون الشخصية الأكثر قرباً للواقع، والتي كلما حدثها بطل الرواية عن ما يجري معه من قصص ومشاهدات وأحداث، كانت تحاول أن تعيده إلى وعيه، معتمدة تذكيره بأن كل ما يقوله مجرد أوهام. وتلك اشارة مهمة على سيطرة المتخيل لأغلب أحداث الرواية، باستثاء الخراب الذي ظل ماثلاً أمام الحقيقة بكل وضوح، رغم الخراب يظل نهر دجلة محتفظاً بقدسيّته.. هناك يذهب الناس عن إيمان وقناعة، يغطسون بالنهر كي يتطهروا.. وهم يعرفون أن ماء النهر قد حمل العديد من جثث الأبرياء الذي قتلتهم رصاصات مؤدلجة.. "ضويّة" ذهبت للنهر مع "علي"، كي تتعمد هناك على الطريقة المندائية.. وحين عادت، مرّت على أم غايب التي تحتضن العديد من الأطفال المشردين، لنعرف أن ضويّة تشتغل عند "أم صبيح" لتعيل أولئك الأطفال وهناك غيرها أيضاً..
"أم غايب امرأة صالحة، تسللت ذات ليلة من مقبرة باب المعظّم وسكنت هذا البيت.. كانت تعمل ممرضة في مدينة الطب القريبة من المقبرة، قبل أن يقصفها الأمريكان ويقتلوا من فيها.. هي الآن تعيل مجموعة من الصبية والفتيات المُشردات.. تلتقطهم من الشوارع، أو يلجأون إلى بيتها.. ونحن نساعدها بما نقدر عليه بين الحين والآخر.. دوى انفجار هائل في مكان ما قريب أثار موجة من الهباب والدخان، تلته رشقات متقطّة من الرصاص ثم انفجار آخر أقرب من سابقه.." هكذا هي الرواية، كلما تتلمس إحدى الشخصيات إنسانيتها وتحاول مزجها تحت دافع الحب بإنسانية شخصية أخرى، تلاحقها الانفجارات وأصوات الرصاص، متلازمة تحتفل بها الرواية وكأنها تشير إلى عنوانها الحقيقي.. الحب من رحم الكارثة..
وأخيراً يمكننا استعارة ما جاءت بها الرواية لتشير إلى حجم الدمار الروحي التي صارت عليه الروح العراقية، التي ما زالت ترى الحب منبثقاً من وسط الخراب:
"كان نهاراً رائقاً من نهارات بغداد المكتوية في العادة.".. "ما تزال بغداد تدهشني بسحرها المُمزق بالقنابل.."
حسين السكاف – ناقد وروائي عراقي
متاهات العلاقات الأخوية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: رشيدة الركيك
عادة نتكلم عن الأسر كمجال للتماسك الاجتماعي وعن العلاقة بين الأزواج وما يشوبها من طلاق أو تفكك أو هجران، لكننا اليوم من خلال الواقع اليومي نشعر بضرورة وأهمية إثارة موضوع له وزنه في مجال العلاقات الأسرية قلما ننتبه له وهو العلاقة بين الأخوة، وربما قد يكون سببا أساسيا في انحلال الأسر.
لن نختلف أن الأخوة من أرق العلاقات وأقواها وأقدرها على البقاء ومواجهة الصعاب يدا بيد، هي إذن صمام الأمان الذي يحمي الأفراد من أي تفكك وتؤمن مصالحهم.
هذا التواجد أكيد ما يجعل الشخص يشعر بالسند والامتداد الاجتماعي،بحيث أن وجود إخوة معناه وجود عم أو خال لأبنائي.
أكيد أننا كإخوة نتشارك الهوية والإنتماء من خلال الإسم العائلي وشجرة العائلة، كما نتشارك الممتلكات وحب الوالدين والأحداث في شكل ذاكرة أسرية . لكنها علاقة لا تخلو من الصراع والشجار تصل لحد الغيرة قد يليها التباعد أو الجفاء والنفور. ليتراكم الجليد وتتجمد المشاعر من كثرة البرودة داخل الأسرة فتختفي معالم الأخوة والتصافي.
فما أساس تفشي ظاهرة الصراع بين الإخوة وانتشار التفكك الأخوي؟ لماذا يهجر الإخوة بعضهم البعض في شكل قطيعة؟
هل الحياة المادية والعلاقات البراغماتية طغت على علاقاتنا الأسرية، وأدت إلى البحث عن أصدقاء بعد هجران الأقرباء؟
إنها المرجعية الأسرية المشتركة والدلالات ومختلف التمثلات. لقد ارتوينا من نفس المياه ونبتنا في نفس التربة، ومع ذلك فهذا لا يعني أننا صورة متكررة لبعضنا.
وإن كنا نعيش نفس الأحداث فإننا لا نفهمها بنفس الطريقة لأن كل واحد له حساسيته المختلفة تعكس حالاته المزاجية الخاصة وقاموس حياتي متفرد.
الحقيقة أن كل مجال للتشارك هو أكيد مجال خلاف واختلاف، بل هو أيضا مجال أخذ ورد. إنه مجال مشادات يتطور ليصبح مجال صراع، مما يؤدي إلى التباعد بعد كل محاولات تقارب. فكيف تتأسس العلاقات الأخوية منذ الطفولة؟ وهل تتخذ مظاهر أخرى عند الكبر مترجمة خبرة ومرحلة طفولية سابقة؟
حقيقة من المنظور التربوي نقول يكفيني الشعور بالأمان ليكون للأخ وجود ما يبرره، إنه الوجود الذي يخرجني من تمركزي حول ذاتي والخروج من مشاعري الإنعزالية.
من خلاله نتعلم التعاون والتشارك،تدرك الذات أن وجودها يكاد يكون لاغيا بدون هذا الانفتاح.
غير أن هذا الوجود تتخلله أكيد لحظات من المشادات منذ الطفولة المبكرة، وتنمو شخصيتنا في ظل هذا الأخذ والرد ومراجعة للذات بشكل يومي من خلال مواقف مختلفة تعدّهم لتحديات الحياة المستقبلية. إذ لاشك أن كل مشكل يشكل أزمة بالنسبة لكل شخصية. والأكيد أن كل أزمة كما أكد علماء النفس تقتضي وضع تصور لها من أجل حلها، وبالتالي فإن كل صراع سيمنح للفرد فرصة لإغناء شخصيته، بل إنه يساهم في تثبيت الأنا بلغة مدرسة التحليل النفسي.
عموما يتمظهر الصراع بين الإخوة في البداية بشكل جسدي بالتطاول على بعضهم بالضرب أو الاتهامات المزعجة،والدعاء بالسوء فتسطر الألقاب داخل الأسرة. ومع ذلك يبقى الشجار ضرورة له ما يبرره في حياة الفرد السيكولوجية.
فالأسرة من حيث أنها النواة الأولى للتنشئة الاجتماعية فإنها مجال لتلقين المهارات الحياتية كمهارة التفاوض الناجح، ومهارة التواصل باستعمال اللغة بدل العنف اللفظي والبدني، بل إن الطفل يتعلم كيف يدافع عن نفسه وعن موقفه. يتعلم أن الوجود الاجتماعي هو مجال الاختلاف الذي لا يعني ضرورة وجود الخلاف.
يتذوق الطفل طعم الشعور بالانتصار ويعرف معنى تقبل الهزيمة وفي ذلك مناعة سيكولوجية على اعتبار أن الإحباط مهم في التوازن النفسي والاجتماعي، بل إنه يدرك ضرورة تغيير أسلوبه في التعامل والتنازل في بعض الأحيان من أجل التكيف السليم مع العالم الخارجي. وكأن الأخوة مدرسة أو قناة تعبر من خلالها مبادئ التواجد الاجتماعي الإيجابي بالتدرب على مهارة النقد والتقييم الذاتي وفي ذلك تطوير لقدرات الفرد وتنمية لملكاته.
لكن متى يصبح وجود الأخ يشكل تهديدا لوجودي أنا، ومصدر قهر وتدمر تكون أرضية خصبة لعلاقات مستقبلية متوترة، بل وقطيعة تتفجر في شكل أزمة علائقية عائلية؟
ألا يمكن أن يكون التدخل غير السليم للآباء سببا في حدوث تنافر وجفاء في المستقبل؟
مما لاشك فيه تلعب الظروف في تحديد أية علاقة سواء بين الأبناء مع بعضهم البعض أو بين الأبناء والآباء، وتتأسس روابط لها ما يبررها: كحالة معاناة الإبن من مرض يكون تعاطف الوالدين معه والاهتمام الزائد به أمرا طبيعيا...وتتعدد القصص بتعدد الحالات.
ويبقى السؤال المشروع: هل يمكن أن نحقق هذا التوازن في التعامل مع الأبناء دائما؟
ألا يمكن أن نتكلم عن حظ البعض دون الآخر، أو ربما قدرة أحد الأبناء على استمالة الآباء والإستفراد بحبهم الزائد والدفع بالآخر في الهامش، لاغيا وجوده متجاهلا حقوقه وأحاسيسه؟
سننطلق من كون أن كل فئة عمرية أكيد لها متطلباتها وحاجاتها السيكولوجية، ويبقى تباعد السن بين الإخوة قد يشكل أحد أسباب الصراع، فهذا طفل صغير يتم التغاضي عن زلاته وتجاوزها، وفي المقابل التدقيق في كل ما يفعله الكبير، وكأن معايير السلوك تتخذ أشكالا وتزركش بألوان لتبرير السلوك وتقبله.
ولكن ثم ولكن سيكبر هذا الصغير وستكبر امتيازاته لتصبح حقا مشروعا، فيعتاد كلا الطرفين على هذا الوضع: لقد اعتاد الأول على التضحية بينما اعتاد الآخر على أي الأخذ سواء كان ماديا أو معنويا.
وهكذا فمثلما يتم التمييز بين الإخوة على أساس السن أيضا يتم التمييز بينهم على أساس الجنس أو من هو أكثر جمالا أو ذكاء... والواقع كما أكد فرويد رائد مدرسة التحليل النفسي الأمور لا تنسى ولكن تكبت، ويبقى المكبوت ينتظر الأحداث والأشخاص ليظهر من جديد، ولكن بصورة أقوى من الماضي بفعل التراكمات التي حفرت طريق التذمر وكل المشاعر السلبية منذ الطفولة .
و أمام هذا التفاوت في الإمكانات والمهارات بين الأبناء، قد يتدخل الآباء في الصراع فيرى فيه أحد الطرفين تحيزا والذي يعني الحب الزائد للطرف الآخر، وبفعل التكرار تتولد مشاعر السلبية من بغض وحسد وكراهية كمشاعر مدفونة في أعماق الطفولة، نجد لها صيتا عند الراشد لينطق الطفل بلغة الراشد، فتطفو تلك المشاعر وتظهر العداوة والقطيعة بين أسر الإخوة الذين أصبحوا أباء اليوم، ليمتد الوضع على مستوى الأجيال.
والحاصل أننا نعيش أحاسيس ترسخت بفعل التكرار، لتكرس معانات حقيقية تنتقل لأبناء لا ذنب لهم سوى هذا الإنتماء، وربما عليهم أن يتكلموا باسم ماض لم يعيشوه لتتوتر العلاقات من جديد، فتصبح تاريخا أسريا كل يتكلم عنه من أرشيفه الخاص، ويجتره بأحاسيسه العميقة كجزء منه لا يستطيع نكرانه.
ومهما يكن الحب الذي قد نحاول تقديمه للتعويض فيما بعد، فإنه سيكرس الوضع وسيؤكده، ذلك أنه في كل إنكار تأكيد وكأن الصلح مع الماضي لن يأخذ طريقه إلا بالتصالح مع الذات من جديد والتخلص من ألم سبب في توتر أو قطع العلاقات وجفائها.
ولا يمكن وضع الماضي موضع نقاش كل واحد عاشه كواقع صارخ لازال صداه في أذنه وإن تجاهله وحاول تناسيه.
واقع الأسر اليوم يدعونا للتفكير فيه من أجل الحفاظ على التماسك الإجتماعي والدعوة إليه، ربما من خلال الوعي بالوضع والدعوة إلى القيم الإنسانية السامية. ولا شك كل ذلك في مصلحة الجميع، لأن المكون الأسري والعلاقات الإجتماعية الإيجابية مهمة في التوازن النفسي والعيش الأفضل وإلا ستعيش الأسر هذيانا.
هو هذيان من طبيعة سيكولوجية،يعني نوعا من التفكير الإنساني في صورته المرضية بمعنى صورة الضياع وإعادة تشكيل غير سوي للفكر، فهو عرض أساسي للمرض ومهم في فهم البنية المرضية للشخص.
لكننا حين نتكلم عن هذيان الأخوة فهو أكيد من أجل فهم البنية المرضية للأسرة وبالتالي المجتمع. إنه الفكر الحامل لأحاسيس سلبية تتشكل في سلوكات اجتماعية غير سوية.
وإن استعصى علينا تحقيق السعادة الأسرية والعائلية، فإن المطالبة بها والسعي وراءها أمر مشروعا وضرورة ملحة حتى ولو في حدود المستطاع، وإن كانت العلاقات المادية هي ما يطغى على الجميع رغم تحقيقها لنوع من الرفاهية في العيش دون راحة وهدوء نفسي أكثر ضرورة.
فكم من أخ متسلط عنيف ينفرد باتخاذ القرارات المصيرية، فيتصرف في الأملاك ويستولي على الإرث، متصرفا بشكل أناني مستغلا هذه العلاقة الأخوية ومبتزا لكل ضعيف، وتبقى الأخت هي آخر من يجب المطالبة بحقها في مجتمع ذكوري، لينطبق عليه المثل "حاميها حراميها"، فتدخل لبيت أخيها كأنها غريبة وتعود حزينة باكية متحسرة، تشكي للغريب بغبن عن أخ كان عليه أن يكون مصدر حماية وأمن. بل وبكل وقاحة يلومها وينتقدها عندما تطالب بحقها في المحكمة بعدما يئست من أخوة كاذبة.
عموما نعيش اليوم هذيانا أسريا وتفككا يتوه الفرد في متاهات، مما سيزيد الفرد انفرادية وانعزالا لن يرمي به إلاّ في براثين الضياع والضعف والضغط الإضافي، والذي لن يتجاوزه إلا بالتواجد الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية الإيجابية.
إلا أن الهذيان الأسري قد يكون له وجوها مختلفة غير الصراع،هو تحمٌّل البعض أخطاء البعض الآخر، وتستمر الأخوة على حسابهم، ويفضل الآخرون الإتكالية والكسل دون أية مبادرة لاعبين دور الضحية وقلة الحظ، وباسم الأخوة يفرض مساعدته اللانهائية دون أية محاولة حتى لإنقاذ نفسه، وسيستمر الضحية الحقيقي من ينشد التماسك الإجتماعي الظاهر...
والحقيقة كان على الأخوة أن تبنى على أسس متينة غير ما نراه حاليا من بناء مهدد بالانهيار.بناء أساسه الحب والمودة والرحمة ليقينا من كل تصدع أو تفكك.
لازلنا نأمل ذلك إيمانا منا بضرورة تأسيس مجتمع متماسك، يشكل فردا متوازنا قادرا على تحقيق سعادة فردية بعلاقات أسرية سليمة.
بقلم: رشيدة الركيك
التفكير أولوية تربوية للتواصل
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مالكة العلوي
الجزء المحذوف من كلماتنا، الأحلام التي لا نخبر عنها أحداً، النظرة التي نحتفظ بها حتى نستدير، هي نحن في الحقيقة. "وليم شيكسبير"
أثناء تحليلنا لنص سردي.. انزعج متعلمو الجذع المشترك العلمي كثيرا من تنكر الأم لعزيز الابن الذي هاجر بلدته إلى فرنسا لمدة ثلاثين سنة دون أي شكل من أشكال الاتصال..
(- عزيز مات ودفناه منذ ثلاثين عاما.،، وأغلقت الباب وسمع خطواتها تبتعد...) فُتح الحوار تبادليا بين مجموعة الصف...
عبر أحمد عن مسؤولية الأم في قطيعة عزيز وانقطاع أخباره عنها..كما رفض أحمد حكم الأم بموت الابن دون سماع مبرراته..
وقالت آية: يجب إعطاء فرصة لعزيز حتى يبرر غيابه، قد يكون السبب قاهرا!!..
عماد الدين: لماذا ينسى الآباء حق الأبناء في استقلاليتهم واختيار مسارهم بعيدا عن سلطوية الآباء وتحكمهم
خديجة: لو أن الأم كانت طيبة معه، ووفرت له احتياجاته لما غادر كل هذه المدة دون أن يتصل
ملاك: أرى أن المسؤولية تقع على عاتق الأم، قد تكون ربته تربية غرست فيه الأنانية وحب الذات، فكبر ورمى كل شيء خلفه بلامبالاة..
ياسر: ما بالكم؟! وأين حق هذه الأم؟! عزيز جاحد.. مهما كانت ظروف عزيز بفرنسا لا شيء يشفع له انقطاعه عن والدته.. أتفق مع الأم وقرارها صائب.. غيثة تُزكِّي رأي ياسر وتدعمه..
عبد الحميد: أرى أن الجواب يكمن في قوله تعالى: " إنه عمل غير صالح " ...
كل هذه الآراء والأفكار أشعرتني بالفخر والاعتزاز وأنا أتتبع حلقة النقاش الدائر بين مجموعة الصف وكل متعلم يعبر عن ذاته ويؤكد عبر تدخله سعيه إلى تطوير شخصيته.. من خلال قصة عزيز وعلاقة الآباء بالأبناء ومسؤولية كل طرف..
أحسست بمسؤولياتنا نحن الأمهات والآباء.. الأستاذات والأساتذة في خلق تلك البيئة التي تحتضن " تطوير الشخصية" فإما أن نقابل فعل التطوير بالإحباط وعدم الإيمان، أو نحيطه بالاهتمام والثقة فنغديه ونعززه وأهم الخطوات: التقبل - أن نكون مساندين غير متحكمين- أن نعمل على التخطيط والتنظيم- خلق مساحة من الحرية- التحفيز وتنويع وسائل وسبل التوجيه...
وبالعودة إلى عزيز بطل نصنا السردي، ( الذي أصر المتعلمون على عدم تقبل فرضية أو احتمال أن المرأة العجوز يمكن أن تكون زوجة وليست أما لعزيز ) بالعودة إلى مقتطف النص، فتدخلات المتعلمين كانت مميزة استنادا إلى الزاوية التي انطلق منها كل منهم.. وكلها تدفعنا نحن الأولياء إلى ضرورة توجيه وتربية أبنائنا بل وتعويدهم على تحمل المسؤوليات.. في البيت في المدرسة.. في مواقف حياتية لمواجهة الابن لأخطائه ومحاولة حلها، مع ترك مسافة يتابع من خلالها الولي تصرف الابن/ البنت.. تحمل المسؤولية يجعل أبناءنا أقوى ويعينهم على مواجهة ما سيعترضهم في المستقبل، ويساعدهم على التفكير في الآخرين بأنانية أقل وفاعلية أكثر.. بل ويساعدنا نحن الأولياء من الاعتماد على أبنائنا.. لأننا بحاجة لجيل مسؤول وليس جيلا اتكاليا أو معاقا..
دروس الحياة صادمة هي أقل مراعاة وأكثر قسوة.. فَلْنُعِنْ أبناءنا عليها ولْنُرَبِّهم على الإقدام لمجابهتها.
لالة مالكة العلوي - شاعرة وباحثة مغربية
العلاج بالخلايا الجذعية بين الوهم والحقيقة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. محمد فتحي عبد العال
هل ثمة علاج نرمم به أجسادنا المتهالكة ونعيد لأعضائها الحياة خاصة مع التقدم في العمر؟ هل يمكن تعويض خلايا القلب والكبد والكلية والبنكرياس والدماغ، والسيطرة على قصور هذه الأعضاء وإعادتها إلى سابق عهدها كما في أيام الشباب؟ حلم راود المفكرين وجادت به قرائح الشعراء ولم يتخيل أحد أن يتحول هذا الحلم يوماً إلى واقع.
لقد نجحت تقنية استخدام الخلايا الجذعية في تحويل الخيال إلی واقع ملموس، ورغم أن استخدامات هذه التقنية ما زالت محدودة، إلا أن الأمل كبير في إمكانية استخدامها على نطاق أوسع في ترميم واستعاضة أعضاء وأنسجة فقدها الانسان بفعل المرض أو التقدم في السن.
تتلخص فكرة العلاج بالخلايا الجذعية في أن هذه الخلايا بإستطاعتها التحول إلى أيٍّ نوع من أنواع خلايا الجسم المختلفة، وذلك لقدرتها على الإنقسام والتكاثر لتعطي أنواعًامختلفة من الخلايا المتخصصة (Specialized cells)، كخلايا العضلات والجلد والكبد والخلايا العصبية وغيرها. وهي بذلك يمكن أن تقوم بأعمال الترميم والتعويض عن الأنسجة المتضررة أو المفقودة، ويأمل المتخصصون الاستفادة من هذه الخصائص وتطويعها في علاج الأمراض المختلفة.
أنواع الخلايا الجذعية
١- الخلايا الجذعية الجنينية
لكل خلية من خلايا الجسم وظيفة محددة وذلك بحسب الجهاز أو العضو الذي تنتمي إليه، أما الخلايا الجذعية الجنينية فتتميز أنها ليس متمايزة وليس لها وظيفة محددة ويمكن تحويلها لخلايا أي عضو في الجسم، وبالتالي استخدامها لترميم واعادة وظائف الأعضاء المصابة كالقلب والبنكرياس والكبد.
يمكن الحصول على الخلايا الجذعية الجنينية من المشيمة والحبل الشوكي والسائل الأمنيوسي ومن الأجنة المتبقية من عمليات أطفال الأنابيب.
٢- الخلايا الجذعية البالغة
تحتوي أعضاء جسم الانسان البالغ على خلايا جذعية يمكنه استخدامها لتجديد خلايا الجسم عند الحاجة، وهي عبارة عن خلايا جسمية أكثر تمايزاً من الخلايا الجنينية متخصصة بكل عضو.
تساعد الخلايا الجذعية البالغة على اعادة تجديد الخلايا المستمر خلال الحياة وتوجد خاصة في نقي العظام وخلايا الأمعاء، كما توجد في الجلد والكبد والعضلات . وهي التي تساعد على تجديد خلايا الدم وشفاء الجروح وترميم الأعضاء خلال حياة الإنسان والوقاية من الشيخوخة المبكرة. و رغم وجودها إلا أنه ليس من السهل العثور عليها ويمكن أن تبقى بصورة كامنة في الجسم لمدة طويلة.
والفرق الرئيسي بين الخلايا الجنينية والبالغة يكمن في قدرة الخلايا الجذعية الجنينية على التخصص والإنقسام المستمر بفعل انزيم التيلوميراز، بينما الخلايا الجذعية البالغة تنتج هذا الانزيم بكميات قليلة وعلى فترات متباعدة لذا فهي محدودة العمر. اضافة إلى أن الخلايا الجنينية يمكن استخدامها لترميم أي عضو بالجسم بينما الخلايا البالغة أكثر تخصصاً، فالخلايا الجذعية في نقي العظم تنتج خلايا الدم من الكريات البيض والحمر والصفيحات الدموية ولكنها لا يمكنها انتاج خلايا الكبد والجلد والعضلات.
٣- الخلايا الجذعية الجنينية المبرمجة بتقنية الأي.بي.اس ( iPSCs)
إن استخدام تقنية التمايز العكسي Retrodifferentiation يشكل قفزة علمية هائلة في مجال زراعة الخلايا الجذعية، يمكن من خلالها العودة بالخلايا المتمايزة البالغة إلی أصولها كخلايا جذعية. حيث يمكن استخدام خلايا المريض نفسه واعادة استنساخها وتحويلها إلى حالتها الجنينية. هذه الطريقة تعد بالكثير خاصة أنها تستخدام خلايا الشخص نفسه وبالتالي يمكنها تجاوز القضايا الأخلاقية المتعلقة باستخدام الأجنة البشرية،اضافة الى تجاوز مشكلة الرفض المناعي كونها من خلايا المريض ذاته.
ما هي أنواع العلاجات بالخلايا الجذعية المتاحة حالياً؟
يوجد حاليا عدد قليل من علاجات زرع الخلايا الجذعية التي أثبتت فاعلية وأماناً، و أفضل مثال على ذلك هو زرع نخاع العظم لعلاج أورام الدم، وما زالت الأبحاث تجري على قدم وساق للبحث عن علاجات واستخدامات أخرى.
ويتوقع العلماء أن تشهد السنوات القادمة مزيداً من التقدم في هذا االمجال، خاصة في علاج أمراض مستعصية كمرض السكري من النمط الأول، حيث تعمل الدراسات على إيجاد طريقة لتعويض خلايا بيتا التي تفرز الأنسولين في البنكرياس والتي تعرضت للتلف نتيجة آلية مناعية ذاتية. كما أن أبحاث تجرى لإيجاد علاج لمرض التصلب المتعدد و داء باركنسون ومرض الضمور البقعي للعين.
في المقابل، يساء استخدام تقنية زرع الخلايا الجذعية لأغراض تجارية، حيث تستخدم طرق غيرمعتمدة علمياً في مجالات مختلفة مثل بعض الاجراءات التجميلية ، ويجب توخي الحذر وعدم الانجراف وراء هذه الاعلانات البراقة واستخدام علاجات تفتقد للفعالية والأمان يمكن أن يكون لها نتائج كارثية في بعض الأحيان.
د. منی كيال - استشاري المختبرات
د. محمد فتحي عبد العال - كاتب وباحث
هانيبال الرئبال
- التفاصيل
- كتب بواسطة: محمد عبد الكريم يوسف
وقف أمام الحشود قبل 22 قرنا وقال: "الشعب الذي ينسى من أذله لا يستحق لقمة العيش والشعب الذي لا يعرف الكراهية العظمى لا يستحق المجد الأعظم ولا يستحق أن يعيش". بهذه الكلمات أنهى هانيبال خطابه لشعبه ردا على أباطرة روما الذين اعتادوا أن ينهون خطاباتهم بالعبارة التالية: "يجب أن تُدمر قرطاجة." كان هانيبال ملكا للرعب في البر والبحر وعاصفة للغضب والحقد وقد ظُلم من أجل فكره في حياته ومماته . هناك من اعتبره الوحش والسفاح والمجنون ومصاص الدماء و الحقد الأسود واللعنة وشبح الدمار الرهيب . وقد كان ذنبه الأعظم أنه يحب بلاده لدرجة الموت وكان مستعدا أن يشرب من دم أعدائها ولم يكن الرومان أقل وحشية وسفكا للدماء وعدوانا وحقدا .
فما حكايته من أولها إلى آخرها؟
كانت روما تتوسع أفقيا في عموم ايطاليا وعلى الشاطئ الإفريقي الشمالي وكانت قرطاجة في تونس بأشرعتها التجارية الممتدة على طول البحر المتوسط وعرضه وفي وقت من الأوقات طمعت روما بثروات قرطاجة التجارية فنشبت الحرب الأولى بين روما وقرطاجة واستمرت لمدة 23 عاما دُمرت خلالها العديد من المزارع المحيطة بقرطاجة فتنازلت لروما عن معظم الجزر التي تقع تحت سيطرتها وفقدت الكثير من أسطولها التجاري وبقيت تدفع لروما إتاوة لمدة 10 سنوات من أموالها وذهبها وفضتها وشعر الناس بمذلة الهزيمة .
وفي غمرة أحداث جسام من المذلة والخوف، شكلت أسرة بارك وصهرها أسد روبال حزبا عسكريا مهمته الثأر من روما . كان العسكريون يريدون لقرطاجة المجد والفخر وعندما قتل أسد روبال (الأسد الرئبال) الملقب بالبرق في إسبانيا لم يجد العسكريون القرطاجيون أفضل من شقيق زوجته الملقب بالرعد لقتال روما. كان في الخامسة والعشرين من عمره وكان يفتخر بأنه رضع بغض روما وكراهيتها مع حليب أمه وأنه لم ينم من قبل تحت سقف أبدا . أخذ عليه والده وكان عمره تسع سنوات عهدا أن يحارب روما إلى الأبد وفي كل مكان، فاحترف العمل العسكري في الخيام والقلاع والبراري . لقد كان العمل العسكري الذي قام به هانيبال من معجزات الحروب.
وبدأ الرجل حربه الضروس ضد روما في إسبانيا . طالبت روما قرطاجة تسليمها هانيبال فأجابها بمسيرة حربية لم يسبقه إليها أحد في التاريخ إذ حشد أربعين ألف مقاتلا وجيشا في مقدمته ثلاثين فيلا . لقد كانت الفيلة بدعته في الحروب وسار نحو روما برا منطلقا من اسبانيا . عَبَر جبال البيرينية ثم بلاد الغال وكان يحارب على طول الطريق . كانت دباباته من الفيلة كافية بأن تهزم كل من وقف في طريقه وتقدم حتى وصل جبال الألب حيث الثلوج والبرد القارس . كانت جبال الألب العقبة الكبرى أمامه. يقال في التأريخ الغربي أن مصادفة كبرى غيرت مجرى التاريخ وهي انفجار بركان بجوار جيشه قتل من جيشه عشرين ألف مقاتل وبقي معه عشرين ألفا آخرين . ويذكر التاريخ الشرقي أن العواصف الثلجية هي من قتل جنوده العشرين ألف وأكلت الصخور الزرق من أجسادهم . ورغم ذلك استطاع اجتياز جبال الألب وانحدر بهم نحو روما من الشمال واقترب من محاصرة عاصمة الكون في ذلك الزمان لدرجة أن نساء روما كانت تهدد أطفالهن بهانيبال . كان أمامه طريقان لا ثالث لهما إما الموت أو النصر . ظل الرجل يحارب في ايطاليا سبعة عشر عاما لم يخسر فيها معركة واحدة . الخطر الوحيد الذي كان يهدده كان فقط قلة المدد من قرطاجة . وحين وصل إلى مشارف روما جاءه خبر اتفاق التجار والحكومة في العاصمة قرطاجة ضده تحت الضغط الروماني واتهموه بالجنون وبأنه ضلل الشعب وبدد الأموال مع أنهم لم يدفعوا له شيئا . ثم أبلغوه القرار بأن يعود. غادر هانيبال الأراضي الإيطالية مهزوما وهو الذي لم يقهر في معركة من المعارك . ولدى وصوله إلى قرطاجة حاول أن يجمع قادة الجيش والتجار لمحاربة روما إلا أن الخونة والمرتزقة والعملاء فضلوا الاحتلال على الحكم الوطني فهزم الجيش القرطاجي وسلمت السفن الحربية والتجارية للرومان وكل الفيلة مع إتاوة تدفعها البلاد للاحتلال الروماني لمدة خمسين عاما بالإضافة إلى تقديم رهائن من الذكور حتى لا تعود للحرب مرة ثانية . حاول هانيبال تجميع الرجال لكن الخونة والتجار والمرتزقة رفضوا وطالبت روما برأسه فهرب إلى سورية فطاردته روما هناك فهرب إلى أرمينيا لكن روما لاحقته هناك ولم يكن له إلا كمية صغيرة من السم القاتل يحتفظ بها في خاتمه تكفيه للخلاص . يقول الناس أنه كتب على جدار غرفته: "إلى روما أعدائنا . لقد حاربتكم أربعين عاما ولم أتعب . اليوم يموت أخر جندي في رتل الكراهية الأبدية لكم . "
وحصلت روما على ما أرادت من قرطاجة ...
رحل هانيبال بأيدي شعبه ...ودمر الرومان قرطاجة تدميرا لم يسبق له مثيل، وأصدر مجلس الشيوع الروماني قرارا يلعن هذه الأرض وساكنيها ومن يبني عليها حجرا فوق حجر . لكن بقايا الحجارة ما زالت تئن وتقول: " الشعب الذي ينسى من أذله لا يستحق لقمة العيش والشعب الذي لا يعرف الكراهية العظمى لا يستحق المجد الأعظم ولا يستحق أن يعيش ."
وما الحياة إلا دروس وعبر ....أليس كذلك ؟
بقلم محمد عبد الكريم يوسف
العراقيون بجامعة موسكو في الستينات ومصائرهم (2)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. ضياء نافع
كلية الجيولوجيا هي المحطة الثانية في هذه السلسلة من المقالات عن الطلبة العراقيين بجامعة موسكو في ستينات القرن العشرين ومصائرهم . كانت هذه الكليّة جديدة كليّا لمفاهيمنا، اذ استطعنا ان نترجم الى العربية اسماء معظم الكليّات تقريبا، الا اننا كنا نقول – كليّة الجيولوجيا . تميزت هذه الكليّة بقبول مجموعة كبيرة نسبيا من الطلبة العراقيين وفي الدراسات الاولية فقط، اذ لم يكن هناك طالب عراقي في الدراسات العليا . اسماء هؤلاء الطلبة وكما اتذكرهم وحسب حروف الهجاء هم كما يأتي – المرحوم انترانيك (نسيت اسم والده) / المرحوم الشهيد د. حامد الشيباني / المرحوم جمال منير / د. ديكران يوسف / صاحب (نسيت اسم والده) / صدّاع العاني / المرحوم د. عدنان عاكف / المرحوم غريب رياح / المرحوم فيصل الجبوري/ كبه (نسيت اسمه) / د. محي السعد / منذرنعمان الاعظمي / د. يحيى قاسم.
احاول ان اتوقف عند هذه الاسماء (الحبيبة الى قلبي) ومصائرهم حسب معلوماتي المتواضعة، وحسب ما انحفر في ذاكرتي عن احداث ارتبطت بهم وعرفت بها او سمعت عنها، وكم أتمنى ان يكمل الآخرون هذه السطور او يصححونها في الاقل، اذ رحل البعض منهم عن الحياة، ومن واجبنا، نحن الذين لازلنا على قيد الحياة، ان نسجّل ما شاهدناه وما عرفناه آنذاك للاجيال العراقية القادمة من الابناء والاحفاد وابناء الاحفاد، كي نبرز الحقائق والوقائع كما كانت فعلا ونسجلها قبل ان تضيع الى الابد، اولا، وكي لا تكرر هذه الاجيال الاخطاء والعثرات الى حدثت في مسيرتنا، ثانيا، وتلك هي مهمة التاريخ العظيمة .
المرحوم انترانيك، وكنت اسميه دلعا انتران . كان مرحا وبسيطا ومبتسما ومتفائلا دائما، وهو الذي اطلق (هلهولة عراقية مدوّية) عندما اجتمع معنا الدكتور المشاط (مدير البعثات في وزارة المعارف آنذاك) في قاعة (02) بجامعة موسكو (انظر مقالتنا بعنوان – رابطة الطلبة العراقيين في الاتحاد السوفيتي 2) . لقد تصرف المشاط بعنجهية وغرور وبشكل فظ تجاه الطلبة العراقيين، واستخف بالشهادات السوفيتية، واعلن ان شهادة الكانديدات حسب القاموس الروسي العربي الذي اطلع عليه هذا المدير بحثا عن معنى تلك الكلمة الروسية هي (مرشح علوم)، وبالتالي فانها لا يمكن الا ان تعادل شهادة ماجستير ليس الا، وكان رد فعل القاعة واضحا ضد هذه الافكار السطحية، واذا بنا نسمع (هلهولة) مدوّية من وسط القاعة يطلقها انترانيك، وقد ضجّت القاعة بالضحك طبعا، وكان ذلك اجمل رد (شبابي!) رائع (رغم كل ما قيل ويقال) على هذا المدير (المبوّز!)، الذي يتكلم عن العلم السوفيتي (وكان آنذاك يغزو الفضاء) وتعادل شهاداته من وجهة نظر سياسية عراقية ساذجة ومضحكة وضحلة ولئيمة، وجهة نظر تعكس طبعا تلك الخلافات السياسية التي كانت سائدة في الساحة العراقية بداية الستينات . ولقد تذكرت المرحوم انترانيك وهلهولته المدوية عندما جمعنا مرّة (نحن اساتذة جامعة بغداد والمستنصرية) وزير التعليم العالي والبحث العلمي الدكتور المشاط نفسه، وتكلم امامنا بنفس ذلك التعجرف والعنجهية والغرور والسطحية ايضا، نحن الاساتذة، وهو يمجّد ويمجّد (القائد الضرورة!!!) بتلك الكلمات الطنانة والرنانة المقرفة حتى الضجر، وقلت بيني وبين نفسي، آه لوكنت معنا الان ايها المرحوم انترانيك !!!، وتذكرت المرحوم انترانيك ايضا عندما قرأت اسم الدكتور المشاط ضمن عرائض الذين (يرجون !!!) الامريكان بالتدخل لانقاذ العراق ...
الاسم الثاني هو الشهيد د. حامد الشيباني، والذي كتبت عنه عدة مرات، وسأبقى اكتب عنه وأذكر سيرته المتواضعة (والعظيمة ايضا) منذ كان طالبا متميّزا (علما واخلاقا) في كلية الجيولوجيا بجامعة موسكو وهو يرفع اسم العراق عاليا، وكيف اقترح مشرفه العلمي نفسه ان يكمل حامد دراسته العليا لانه لاحظ تميّزه، وهكذا حصل على شهادة الدكتوراه، وعاد الى العراق واصبح – وبجدارة - شخصية علمية وادارية بارزة في شركة النفط الوطنية في السبعينات، وكيف اعتقلوه في شركة النفط هذه واثناء الدوام، ومن ثم اختفى أثره، ولا يوجد له الآن حتى قبر، رغم كل محاولات عائلته، التي ارادت فقط ان تعلم مصير ابنها، او حتى مكان قبره في ارض الوطن، الوطن الذي رفع المرحوم د . حامد الشيباني رايته عاليا في اجواء كلية الجيولوجيا بجامعة موسكو في تلك الايام الخوالي ... الرحمة والذكرى العطرة والخلود لك ايها الشهيد الدكتور حامد الشيباني .
أ.د. ضياء نافع
ميّ زيادة واعتدال ميزان الكتابة المتجنّية عليها
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مادونا عسكر
"إنّ الوصم بتهمة الجنون وسيلة معروفة وناجعة للتّهميش الاجتماعيّ، تغني عن أيّ نقاش آخر" (مقدّمة كتابات منسيّة- أنتيا زيغلر)
استوقفني الفصل الأخير من كتاب "تربية" للمفكّر المصريّ سلامة موسى المعنون بـ "ذكريات من حياة ميّ". ولعلّه أسوأ ما كُتب عن ميّ زيادة، إذ إنّه يُختصر في كلمة واحدة، "اللّاإنسانيّة". ولست أدري السّبب الّذي دفع سلامة موسى لإدراج هذا الفصل في كتاب سيرة ذاتيّة يحكي فيها فصولاً من مراحل حياته ويروي تاريخ العصر الّذي عاش فيه وتاريخ مصر والتّقلّبات الفكريّة والسّياسيّة ومؤّلّفاته الّتي وجّهته. ولئن كان عنوان الكتاب "تربية" ونوعه سيرة ذاتيّة، فلا ريب أنّ موسى أراد أن يروي كيف تطوّرت تربيته في شتّى مراحل حياته. ولكن، لماذا أقحم في الكتاب "ذكريات عن حياة مي"؟ وماذا أضافت هذه الذّكريات إلى تربيته أو ماذا تضيف إلى القارئ إذا ما كان موسى يرمي إلى أن يستفيد القارئ من خبراته الشّخصيّة؟ فالذّكريات الّتي رواها عن ميّ شوّهت صورة أديبة كان لا بدّ من أن تترسّخ في ذهن القارئ من جهة عبقريّتها الأدبيّة والفلسفيّة والفكريّة بدل أن يترك له صورة مشوّهة تتناقض كلّ التّناقض مع صورة أعمق وأجلى نستدلّ عليها من خلال مقالات وأدب وفلسفة ميّ.
إنّ مسؤوليّة الأديب والمفكّر تكمن في البحث في النّتاج الفكريّ والأدبيّ، ومسؤوليّته تقتضي الحفاظ على التّراث الثّقافيّ. غير أنّنا نرى الأستاذ سلامة موسى ينقل صورة عن ميّ زيادة في أيّامها الأخيرة يستدعي بها شفقة القارئ الّذي يحسب غالباً أنّ كلّ ما يقوله المفكّر حقيقيّ.
يستهلّ الكاتب هذا الفصل بفقرة ترسم شخصيّة ميّ أخرى غير تلك الّتي تفرض نفسها بقوّة في مقالاتها الأدبيّة والفلسفيّة والنّقديّة. إذ فيها تبرز شخصيّة ميّ القويّة والفذّة. يقول الأستاذ سلامة: "عرفتها في 1914 وكانت حوالي العشرين من عمرها، حلوة الوجه مدلّلة اللّغة والإيماءة، تتثنّى كثيرًا في خفّة وظرف. وكان الدّكتور شبلي شميّل يحبّها ويعاملها كما لو كانت طفلة بحيث كانت تقعد على ساقيه. وكان يؤلِّف عنها أبياتًا ظريفة من الشّعر للمداعبة وما هو أكثر من المداعبة." وإنّي لأتساءل عن سبب ذكر هذا التّفصيل عن شبلي شميّل وميّ زيادة إن صحّ. ويضيف: "وكنت أصدر في ذلك الوقت مجلّة أسبوعيّة باسم المستقبل. وكنت أنا وشبلي شميّل على نيّة معيّنة مبيَّتة في إصدارها من حيث مكافحة الخرافات الشّرقيّة. ونشرت في أحد أعدادها حديثًاً مع مَي أطريتها فيه إطراء عظيمًا. وكان القارئ لكلماتي يلمح أكثر ممَّا يرى من الإعجاب الأدبيّ، ولكنّي مع ذلك حرصت على أن يكون إعجابي بها أدبيًّا فقط؛ ولذلك لم أتعمّق ميّ في تلك السّنين. وكانت أحاديثي لها اجتماعيّة أكثر ممّا كانت سيكلوجيّة." وكأنّ الأستاذ سلامة لم يكن في الأصل يبدي اهتماماً لأدب ميّ وهو نفسه القائل عنها في مقدّمة كتابها "المدّ والجزر": "وهناك أسف واحد يعتري الإنسان كلّما قرأ كتابًا لمي، وهو أسف شبيه بالغبطة؛ فإننا نغبّطها جميعًا لذكائها وسعة ثقافتها، ونودّ لو نجد عددًا كبيرًا من فتيات سوريا ومصر يقتفين أثرها في خدمة الحياة القوميّة العربيّة والعمل على رقيّها ورفعها، ولسنا نطمع في أن نجد من تساويها، ولكنّنا نودّ أن نجد من تدانيها."
من العجب أن يكتب أدباء ومفكّرون عن أديب أو عالم أو شاعر أفضل المعاني وهو حيّ يُرزق ثمّ يستفردون به بعد موته ليهشّموا صورته ويميتونه مرّةً ثانية في ذهن القارئ. فالأستاذ سلامة الّذي لم يطمع في أن يجد من يساوي ميّ يذكر في هذا الفصل أنّ ميّاً كانت على ثقافة واسعة في الأدب الفرنسيّ والإنكليزيّ. وكانت تتحدّث اللّغة الفرنسيّة والإنكليزيّة. وكانت إلى هذه الثّقافة النّادرة موسيقيّة وعلى دراية بكبار الموسيقيّين. إلّا أنّها لم تكن تبالي بالعلوم. ولم يكن يجد بين الكتب الّتي حفلت بها كتاباً واحداً في العلم. فاعتبر ذلك نقصاً في ثقافاتها لذلك كانت حين تؤلّف بقلبها وعاطفتها.
كيف لم يتنبّه الأستاذ سلامة إلى مقدّمة ميّ زيادة في كتاب الدّكتور يعقوب صرّوف "فصول في التّاريخ الطّبيعيّ من مملكتيّ النّبات والحيوان"؟ (كتابات منسيّة- ص841) ألم يقرأ مقال "كيف نقيس الزّمن" (مجلّة الزّهور- 1913- الأعمال المجهولة لميّ زيادة- جوزيف زيدان – ص 58)، ومقال "أربعون يوماً بعد وفاة أديسون" (كتابات منسيّة- ص 425) وغيرها من المقالات الّتي لعلّها ضاعت كما ضاعت مقالات كثيرة لميّ زيادة؟
ولئن تحدّث الأستاذ سلامة عن التّعمّق السيكولوجي الّذي لم يقم به إبّان معرفته لميّ، أورد في هذا الفصل أنّ ميّاً عاشت بالعاطفة دون التّفكير في المستقبل: "وخاصةّ هذا المستقبل البعيد حين يذوي الشّباب وتحتاج كلّ فتاة إلى حكمة العقل إذا ما ذهبت عنها حلاوة الوجه. وأهملت الزّواج والأمومة إذ كانت لاهية بشبابها تتلألأ أمام أضيافها الكثيرين كلّ مساء وكلّ هؤلاء الأضياف من الباشوات الأثرياء أو من الأدباء الأثرياء أو من الأدباء المعدمين. وكلّهم كان معجبًا وإن اختلفوا في مواضع الإعجاب... وكانت مخطئة. وكان خطؤها خطأ الحياة. وكثير من النّاس يفهم النّجاح على أنّه نجاح الحرفة أو الثراء أو الجاه، ولا يفهمه على أنّه نجاح الحياة كلّها، نجاح الصّحة الّتي نعيش بها إلى يوم الوفاة، ونجاح الفلسفة الّتي توجّهنا في هذه الدّنيا، ونجاح الحرفة الّتي نحصّل منها العيش الإنسانيّ، بل كذلك نجاحنا في البناء العائليّ والبناء الاجتماعيّ."
لم يتحدّث أحد مثلما تحدّث ميّ عن البناء العائليّ وأهمّيّة الأسرة وتأثيرها في المجتمع والوطن. وحيت دعت إلى حرّيّة المرأة شدّدت على حرّيّتها الّتي تعود بها إلى المنزل والاهتمام بالعائلة. ولم يتحدّث أحد عن رصانة المرأة واتّزانها المعرفيّ والعقليّ بدل الانغماس في التّبرّج والأحاديث السّخيفة وإهمال أولادها كما فعلت ميّ. ولا يذكر الأستاذ سلامة أنّه نصح ميّاً أو دلّها على خطئها أو حثّها على الاهتمام بالمستقبل. بل إنّه يشرح أنّ شخصيّتها اضطربت عندما رافقها صراع داخليّ مزّق قلبها على الشّباب الذّاهب. فشرعت تخلط بين الحقائق والأوهام وتطلّ من نافذتها فتجد من يتربّصون بها بغية خطفها. ممّا دفع أهلها لحملها إلى لبنان خوفاً عليها فقادوها مقيّدة إلى مستشفى أو مارستان حيث بقيت سنوات ثمّ عادت إلى مصر. ولم يأتِ الأستاذ سلامة على ذكر عرقلة إلغاء الحجر عن ممتلكات ميّ في مصر بعد أن ألغي الحجر على ممتلكاتها في بيروت. (مأساة النّبوغ- سلمى الحفّار الكزبري – ميّ في الفريكة في جوار أمين الرّيحاني- ص 325) وتورد السّيدة سلمى كلّ مخطوطات الرّسائل الّتي تبادلها "المنقذون" كما سمّتهم ميّ، مع الجانب المصريّ.
يبدو أنّ الأستاذ سلامة يبرّئ أقارب ميّ ممّا فعلوه في حين أنّ ميّاً عانت ما عانته بفعل ظلم شديد وقع عليها منهم. ونراه في فقرة أخرى يروي أنّه زار ميّاً في مصر مع الأديب أسعد حسني الّذي كان صديقاً له. وآلمه أن شاهد ميّاً امرأة مهدّمة كأنّها في السّبعين، قد اكتسى رأسها بشعر أبيض مشعّث. وظنّها الخادمة، وانتظر أن تتنحّى ليدخل وصديقه. ويصف لنا الأستاذ سلامة ميّاً أشقى وصف، ويحدّد لنا ملامح اضطرابها وانهيارها. كأنّ يقول: "وقعدنا نتحدّث، فروت لنا كيف خطفوها من القاهرة إلى مارستان العصفوريّة في لبنان، وكيف كانوا يتربّصون بها على مقهى قريب في الشّارع القريب من منزلها. ثمّ شرحت لنا ما كابدته من عذاب في هذا المارستان، وجعلت تلومني لأنّي لم أسأل عنها. وتدفّقت دموعها كما لو كانت ميازيب. وجرى بكاؤها في تشنُّجٍ كأنّها كانت تلتذُّه. ثم هدأت، وأشعلت سجارة وجعلت تدخّن وتنفخ دخانها عليَّ مداعبة لأنّي أكره الدّخان، وهنا استولى عليها طرب فشرعت تضحك في إسراف يزيد على إسرافها في البكاء. وكانت تتشنّج بالضّحك كما كانت تتشنّج بالبكاء".
ميّ لم تستقبل أيّ شخص لم يسأل عنها. وبالعودة إلى "مأساة النّبوغ" ص 421، إبّان عودتها إلى مصر، نقرأ الآتي:
"وفي ذلك الصّيف استقبلت ميّ صحافيين مصريين أثبتا لها أنّهما كانا يتلقّفان أخبارها إبّان محنتها هما الأديب الصّحفيّ الأستاذ أسعد حسني رئيس تحرير مجلّة "العالم العربي" الّتي أنشئت بعد وفاة ميّ، والصّحفيّ طاهر الطّناحيّ. كان أسعد حسني قد عرفها في سنة 1932 فروى أنّه ذهب لزيارتها بعد رجوعها من لبنان قال: (طرقت باب بيتها فلّما فتحته ورأتني قالت:
- إنّي يا سيّدي لا أقابل أي إنسان لم يذكرني في محنتي!"
قلت:
- "ومن يدريك يا سيّدتي أنّي لم أذكرك؟ خذي هذه المجموعة من الصّحف تجدي فيها كلّ ما كتبته عنك خلال غيبتك عن مصر".
وضحكت ميّ وهي تمدّ يدها لأخذ الصّحف ثمّ قالت لي مازحة:
"إذن ادخل... فقد جئت ومعك جواز المرور!"
فكيف يدّعي الأستاذ سلامة موسى أنّه زارها مع الأديب أسعد حسني؟ وكيف يذكر أنّها كانت مصابة بلوث عقليّ جعل تصرّفها شاذاً؟ وكيف ينقل لنا هذه الصّورة المقيتة المثيرة للشّفقة عن ميّ؟ في المقابل يقول الأديب اللبنانيّ مارون عبّود لمّا زارها في الفريكة: "إنّ في صمود تلك البنت المقهورة في وجه المصائب الّتي حلّت بها ما يذكّر بصمود الصّفصاف في وجه العواصف، ويدعو إلى الإعجاب بقوّة شخصيّتها، وقوّة إرادتها، وروح الدّعابة، وعزّة النّفس...". (مأساة النّبوغ- ص 372).
مادونا عسكر/ لبنان
سيميائية الأهواء في المجموعة القصصية "هيهات" لمحمد الشايب
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عبيد لبروزيين
شهدت المناهج النقدية ما بعد البنيوية انتقادات كثيرة لإقصائها العناصر الخارج-نصية من عملية التحليل والتفكيك والتركيب، اقصاء جعل النص مادة محنطة خالية من القيم المعرفية والموضوعية والنفسية والعاطفية بعد موت المؤلف أو قتله على الأصح، واعتبار النص بنية مستقلة عن سياقها السوسيوثقافي، غير أن كريماص تنبه للأمر وأحدث فرعا من السيميائيات يهتم بالأهواء والعواطف والرغبات، مستحضرا هذا الجانب الذي أقصته المناهج النصية، وهو ما سنحاول مقاربته في المجموعة القصصية "هيهات" لمحمد الشايب الصادرة عن دار التنوخي للطباعة والنشر والتوزيع، فإلى أي حد تحضر الأهواء في هذه النصوص القصصية؟ وكيف يمكن للأهواء والعواطف أن تسهم في بناء النص القصصي؟
تعالج المجموعة القصصية مواضيع مختلفة من خلال أحداث يومية تكشف جملة من الانفعالات المتناقضة، هذه الانفعالات التي تظهر في القصة الأولى "ريح يوسف"، والتي يهيمن عليها الحقد والغضب، هذه العاطفة التي نمت شيئا فشيئا نتيجة الصدمات النفسية للسارد من الحال التي أصبح عليها الإنسان، والتي استدعى من خلالها الكاتب قصة يوسف للتعبير عن حجم الغضب الذي يعتوره اتجاه مجتمع يتفكك باستمرار، وتظهر فيه سلوكات عدائية حتى أصبح تربة خصبة للكراهية والعنف، يقول السارد وهو يتحدث عن الواقع والأمل، بغضب مضمر في ثنايا الخطاب "أخوك يتمنى أن يحب الإخوة أخاهم، لكنهم له كارهون، في كل بيت أخ مختلف، وفي كل بيت إخوة لا يطيقون الاختلاف، فلماذا يا أخي هم الإخوة هكذا يكرهون ولا يحبون؟ تعبت من هذا الرحيل، أمضي طوال الوقت، يتجاهلني المطر، ولا تعرفني الرياح ودروبي ما عادت تطيقني"1. وهكذا يغدو الرمز الديني بحمولته الإيحائية دلالة على الغضب المضمر في الوجدان من سوء أوضاع الإنسان، إحساس نما في منطقة الغياب اللاشعور، ليتحول إلى منطقة الحضور الشعور، سلوكا معبرا عنه بأدبية تأبى أن ترضخ لليومي وللمسخ الذي طال هذا الكائن، إنه غضب ينقلب إلى إحساس عميق بالغربة، عزلة تنمو في النص لتعلن الغضب والرفض لكل ما الت إليه الأمور، تحول العاطفة إلى سلوك وموقف حتى أن مطرات القطر تتجاهله، والرياح والدروب ما عادت تطيقه، إنها صرخة في وجه المسخ.
وهكذا يتحول الغضب من حالة نفسية اتجاه الواقع اليومي إلى سلوك وأفعال، الإخوة يكرهون أخاهم، ويضمرون له العداوة، الغضب هنا من هذه السلوكات حالة نفسية تعكس تفسخ القيم وانحلال الأخلاق وترهل العلاقات الإنسانية التي أثارت حنق السارد، كره يتحول فجأة إلى شفقة في قول السارد "سرت وسط موكب الجنازة، فتحولت من جديد إلى ذئب ورأيتني أرحم بكثير من الإخوة، مر الموكب من كل شوارع المدينة وأزقتها وبكت يوسف كل الأشجار والأزهار"2 . أن يحول السارد إلى ذئب مع كل ما له من صورة نمطية في المخيال الشعبي من غدر ووضاعة خسة، ذلك يعني أن غضبه شجرة تغطي غابة من السلوكات الدنيئة للإنسان والمسكوت عنها في النص، هكذا يغدو الغضب موقفا من العالم، مواجهة بالغضب، وهو اخر أسلحة السارد لمواجهة قبح العالم في العالم الجديد الذي يهيمن عليه الإنسان وقتل فيه كل أسباب الحياة.
انفعالات متناقضة تسائل الأهواء النفسية في تشكيل عوالم النصوص، غير أنها عواطف تتشكل في لحمة واحدة، فها هو الغضب يؤدي إلى الشفقة، فيكون التفاعل بين هذه الأحاسيس هو كيمياء النص الحقيقية.
ونجد أيضا من بين هذه الانفعالات التي تشكل فسيفساء النص الرغبة والحب في قصة "هيهات"، الحب الذي يسبق وجود المحبوب، العاطفة المتجذرة في فطرة الإنسان، لذلك يشكل السارد صورة حبيبته المنشودة على هواه حين يقول "حسناء وارفة الظلال، في عينيها موج من الضياع ومن ثغرها يسل الدواء حينا والداء حينا. وأخيرا كتبتها هيفاء كالنغمات، وتهب كالريح وقت الهجير.. وأخيرا كتبتها عجزاء تدبر فتتبعها الأغاني وتهطل المدام"3 إنه الحب المتقد في صدر السارد، غير أنه حب متوقف عن النبض، وهكذا يحضر الحب أيضا في قصة "الحب المشتت"، حب منكسر يبحث عن الحب.
ظل الشوق يحرك لواعج النفس ليتحول إلى رغبة في اقتحام عالم الاخر، إنها الرغبة في السراب، أو في مجالسة طيف بعيد في زاوية من زوايا خيال السارد، كما يستحيل هذا الإحساس إلى رغبة في معرفة الذات، أو الوعي بها في علاقتها بالاخر، يقول السارد "وانطلقت كالسهم، فولجت غابة ملونة بشتى المعارف، فسيحة لا يحدها البصر ثم أخذت تحدو تارة بين الرفوف وتتوغل في أعماق السطور، وتارة تطير في سماء الخيال والحلم وتنأى بعيدا" 4، حب مستحيل، لكنه، في حقيقة الأمر، ليس حب المرأة، بل هي هذه القيمة الإنسانية النبيلة التي يفتقدها المجتمع، إن هذه العاطفة التي يتغنى بها السارد هو ما نحتاج إليه، نحتاج إلى الحب والحب وحده.
وهكذا يستسلم الحب المنشود في قصة "نرجس" حيث يقول السارد "هكذا أبن أحدنا نرجس التي حفرت لنفسها قبرا في الماء ومضت بعيدا في غياهب الغياب"5 لتتحول نرجس، رمز الحب المفقود في نهر سبو إلى مزار يقصده الناس بين الفينة والأخرى، هكذا شيع السارد الحب، وحفر له قبرا في الماء، لتطفو الكراهية والحقد والعنف...
هذا الاستسلام المضمر في ثنايا النصوص يتحول إلى حزن مطبق في "فاكهة الممشى" ليصبح بؤرة دلالية جديدة في توليد المعنى "حزينا جدا سرت في الشارع دون هدف لا أدري لم أنا حزين ، الشارع مملوء بالمارة وأصوات الباعة تتعالي في الحقيقة هناك أكثر من سبب للحزن" وقوله السارد أيضا "هناك أكثر من سبب للحزن، واصلت المسير والمدينة لا تكترث بي، مثقلا بالتوجسات أهيم في أنحائها وهي لا تريد أن تطلق سراحي" .
"هيهات" مجموعة قصصية حافلة بالانفعالات المتناقضة (الغضب والحب والحزن والشفقة...)، وهي تضطلع بدور أساس في بناء عوالم النصوص القصصية، وقد استطاع محمد الشاب أن يروض جموحها تعبيرا رائقا ولغة شعرية جميلة وبناء متماسكا... إنها مجموعة قصصية مستفزة جدا.
عبيد لبروزيين
.......................
1 - محمد الشايب، هيهات، مجموعة قصصية، التنوخي للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، 2011، ص 7
2 - نفسه، ص 7
3- نفسه ص 9
4- نفسه ص 13
5- نفسه ص 15
6- نفسه ص 19
7- نفسه ص 19
عطفا على ما قد سبق.. حمودي الكناني يحاور الأديب د. صالح الرزوق في مدارات حوارية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: حمودي الكناني
في هذه الحلقة من مدارات حوارية تستضيف المثقف الأديب والناقد والمترجم الأكاديمي د. صالح الرزوق، وحوار شامل وصريح أجراه معه الأديب حمودي الكناني، فاهلا وسهلا بهما.
حمودي الكناني: مر اكثر من عامين وانا منقطع عن مواصلة الحوارات مع كتاب بستاننا الوارف الظلال صحيفة المثقف الغراء بسبب حمل ثقيل انوء به ابعدني عن الأصدقاء هنا، لكن "شهيد العلم" كما يلقبه اصدقاؤه الحمصيون قد سهل علي اختيار العنوان المناسب لهذا الحوار مع الدكتور صالح الرزوق "عطفا على ما قد سبق". وهو عنوان المجموعة القصصية للرزوق والتي ضمت قصة "ايفيت الصغيرة" والتي تحكي عن أول شابة يهودية حسناء يتعرف عليها في حي الجميلية الحلبي المعروف والتي يقول عنها كانت تدور دورات مكوكية من بيت أهلها إلى السوق وهي تحمل سلة الطعام وكأني بعينيه كانت تدوران كما تدور وتلفان كما تلف ولو كنت أعلم بهذا لسألته عن عدد الحسنوات من حي الجميلية ضمته قائمته وحلف اغلظ الإيمان انه لم يتعرف الا على ملهمة قصة ايفيت الصغيرة.
لكن لا بأس فالإحساس بالجمال يلهمك أسراره ويبوح لك بمكامن سحره. وكما توقعت جاءتني الإجابات عامة وبعضها جاء محايدا ولا لوم عليه لأنني اعرف تماما ما وراء الحكاية فالرجل كما قال يخاف ان يضع مبضعه على الورم لئلا ينتشر ويأكله اولا.
استاذ التكنلوجيا والعلوم التطبيقية قارئ نهم ويمكنني ان اطلق عليه bookworm فهو واسع الاطلاع وعميق في رؤيته هاله ما رأى من دمار لحق بالبنية الاجتماعية والتحتية في بلاده فالخسارة كبيرة حتما ولدت انكسارا كبيرا لديه ولدى امثاله من جيل الوطنية وشعورها الجارف، دعائي له براحة البال وعودة الغائبين والمغيبين وان تعود الدبكات الشعبية إلى كل ميدان وساحة في بلاد الياسمين ويعم الفرح مدنها وقراها وحاراتها ويستمر مسلسل بيت الحارة مواصلا جديد حلقاته والذي ما زالت كل بيوت العرب تتابع حلقاته بلا ملل، تحياتي وشكري للدكتور صالح الرزوق الذي ابكاني وانا اقرا اجوبته على أسئلة الحوار
المنجز الفكري والأدبي
- د. صالح الرزوق، أديب وناقد ومترجم، ينشر باللغتين العربية والانكليزية، طالما أثرى صفحات المثقف بمنجزه. حاز على جائزة المثقف لعام 2012م، وقد صدر له 25 كتابا باللغة العربية. بينها كتابان عن البيولوجيا والتكنولوجيا.
- كتاب واحد باللغة الانكليزية بالاشتراك مع فيليب تيرمان. نشرته جامعة غرين باولنغ ككتاب العدد في مجلتها MidAmerican Review. وهو عن الشاعر الراحل رياض الصالح الحسين ابن مدينة حلب.
- جدلية العنف والتسامح: قراءة في المشروع الاصلاحي لماجد الغرباوي. دار نينوى دمشق.
- موت الرواية: أزمة الخيال الفني بعد عام ١٩٨٥. دار ألف. بيروت ودمشق.
- تحرير الحداثة: الرواية المضادة في أعمال سعد محمد رحيم. دار نينوى. دمشق.
- الحركة الرومنسية في بواكير القصة السورية: رؤية في مرحلة. دار النور. ألمانيا. (أعادت مجلة الأقلام العراقية نشره ببغداد).
- حضور بصيغة الغائب: قصص وذكريات. دار الجندي. دمشق.
- وغير ذلك
***
حوار مع د. صالح الرزوق
س1: حمودي الكناني: الصديق الدكتور صالح الرزوق السلام عليكم، تحياتي واشواقي وبعد.. بادئ ذي بدء دكتورنا العزيز اتمنى ان تحدثنا عن صالح الرزوق، أين ترعرع وتربى، وما هو انحداره الاجتماعي، أين اكمل تعليمه الاولي والعالي وهل حقق ما كان يطمح اليه أم أنه اصطدم بواقع مليء بالحواجز الكونكريتية والمعوقات؟
ج1: د. صالح الرزوق: أشكر الأستاذ حمودي الكناني، نجم من نجوم القصة والقصيدة الحديثة. وبطل اتحاد الأدباء في كربلاء. أنا مولود في حلب، مستشفى القسيس، عام 1959. درست الإبتدائية في مدرسة هارون الرشيد. ثم في مدرسة عبد الرحمن الكواكبي. وأتممت تعليمي في مدرستي الأمين والمأمون. وكلتاهما في منطقة الجميلية من حلب. وهي حي اليهود المعروف. وهناك تعرفت على أول يهودية. شابة. رائعة الجمال. كنت أراها بصمت وهي تحمل سلة الطعام وتدور دورات مكوكية بين بيت أهلها والسوق. وكتبت عنها قصة ” إيفيت الصغيرة” المنشورة في مجموعتي “عطفا على ما سبق”. ثم تابعت دراساتي العليا في بولندا (غليفتسة - سيليزيان بوليتيكنيك)، واختتمت المطاف بإنكلترا (كولشيستير، نوتنغهام، بولتون). وحصلت على شهادتي الماجستير والدكتوراة في التكنولوجيا والعلوم التطبيقية. كانت جولة لا يمكن أن أنساها. ووفرتها لنا الدولة السورية في عداد خطة توسيع كوادر الجامعات. ويمكن أن تقول كما يسميني أصدقاء من حمص “شهيد العلم”. لا أعرف في هذا العالم غير الدراسة والكتابة.
هل حققت أهدافي بالحياة؟. .
لا والله.
لم أحقق شيئا لأن سوريا مكسورة. وتحترق. ونحن كنا من جيل يحمل المسائل الوطنية على كتفيه. وبصراحة أعتقد أنني كنت نائما أو منوما. وفتحت عيني عام 2012 لأشاهد عمق الدمار في البنية التحتية للمجتمع في سوريا. ربما الجيل القادم يعيد البناء ويحقق الأهداف التي كنا نسعى ونشقى من أجلها.
س2: حمودي الكناني: كما انت اديب وناقد تكتب القصة بإتقان وآراؤك النقدية عالية الدرجة لكنك في المقابل مترجم مرموق وارتبط اسمك بسكوت ماينر وقد ترجمت له اكثر من عمل وهو استاذ نقد ادبي امريكي، هل هناك علاقة شخصية ربطتكما دعتك لترجمة اعماله ام هناك مبررات نقدية فماذا يمثل لك هذا الشاعر على الساحة الامريكية بالذات؟؟
ج2: د. صالح الرزوق: سكوت ماينار هو أستاذ الأدب الحديث في جامعة أوهايو، لانكستر. وهي جامعة صغيرة تبعد عن قرية متواضعة اسمها حلب بمقدار 4-5 كم. بمعنى أن الصدفة وضعتنا بطريق واحد. أنا أعيش في حلب وسط مليوني نسمة. وهو يعيش قرب حلب التي يبلغ تعداد سكانها 700 نسمة. لماينار جاذبية خاصة بالنسبة لي، تأتي من وضعه الوجودي ومن اختياراته الفنية. فهو أولا عازف على الماندولين. رقيق القلب. يكتب الشعر ويلحنه ثم يغنّيه مثل بوب ديلان الحائز على نوبل في الآداب. وبدأ مشوارنا معا لترجمة نماذج من الشعر السوري الحديث. وكان فريق العمل يضم أيضا فيليب تيرمان. وهو شاعر يهودي مهتم بالمشكلة الفلسطينية، بحثا عن توازن نفسي في عالم تتحكم به الأساطير والمدونة التي يخترعها الأقوياء والسياسيون. وتوسع المشروع ليشمل نماذج من الشعر والقصة. مثلا ترجمنا من العراق علي رشيد. ومن فلسطين ناصر رباح. ولا تزال حلقات السلسلة تتوالى. إنما أهم إنجاز هو نشر مختارات من أشعار السوري رياض الصالح الحسين المعروف بولائه لسوريا ومعارضته للفساد والأخطاء. وما يزيد من متانة العلاقة مع ماينار أنه أعاد كتابة ملحمة جلجامش شعريا. وآخر مجموعاته كانت “جلجامش وقصائد أخرى” وأهداها للمرحوم زاحم مطر. وللأسف توفي الصديق مطر قبل نشر المجموعة التي حملت اسمه على أول صفحة. وأذكر لماينار أيضا ولعه بشاعر بولندا الأكبرزبيجنيف هيربيرت. فقد كتب عنه مجموعته السابقة بعنوان “التصنيج - ترجمتها عزيف النحاسيات”. مثل هذه الشبكة الصغيرة التي تربط أوهايو بميزوبوتاميا. من فوق وارسو. أجده ظاهرة وجدانية وفنية تحمل هما بشريا عاما يتجاوز الحدود والأعراق.
بالنسبة للساحة الأمريكية أرى أنه كاتب مغامر. وهو يتمنى أن يتفوق على نفسه باستمرار. لكن أمريكا بلد عجيب. كما يقول بوش: في كل بيتين متجاورين تجد كاتبا شابا. لذلك الموهبة تحتاج لعضلات فنية أو رافعة رسمية لديها الإمكانيات ليتمكن الكاتب من الصمود. إنما أعتقد أنه وجد صوته. وهو الآن محرر مستشار لزاوية الترجمة في مجلة جامعة شارلستون والمسماة “كريزي هورس”. ودائما أجد في جعبته قصيدة قصيرة ولطيفة إن لم تكن ضربة حظ موفقة. إنه يبحث عن نفسه وعن صوته باستمرار ويدفع الحشود بمنكبيه. وأعتقد أنه يحب شارلز سيميك ومايكل سيمنس ومجموعة من الشعراء المهاجرين لما لديهم من حالات وجودية خاصة. ولا سيما أنه ابن عائلة إيطالية مهاجرة. وعاش وترعرع في حي للسود والمهجنين. إنه خريطة شعرية وثقافية بلا حدود واضحة.
س3: حمودي الكناني: كتبت القصة، ونصوص النثر، والنقد والمقالة وهناك من يقول ان الكاتب أي كاتب اذا توزع بين اجناس مختلفة يغرق فلو أنه اختص بجنس واحد لكان اكثر ثراءً وأغنى تجربة، فكيف لك أن تنقض هذا الرأي؟.
ج3: د. صالح الرزوق: معك حق. لكن ماذا أقول وأنا مصاب بالقلق. وموزع بين دراسة الزراعة في الجامعة. والنسيج في الماجستير. والبيئة في الدكتوراة. ثم أنا لا أعتد بنفسي كثيرا. وخجلان من هذا الحوار. كاتب صوته ضعيف مثلي يحتاج للتركيز. وغالبا ما أعود لنصوصي القديمة وأنقحها بكل قسوة تصل لدرجة التشريح والتكسير. ومجموعاتي تحمل عدة صياغات متباينة لبعض الشخصيات أو القصص.
س4: حمودي الكناني: حصل لنا عام 1947 تحول كبير في مسار القصيدة العمودية، إذ ظهر شاعران عراقيان كبيران هما نازك الملائكة والسياب، كسرا شكل هذه القصيدة وخرجا علينا بلون جديد ألا وهو الشعر الحر او شعر التفعيلة كما يسمى، تدعي الراحلة نازك الملائكة انها هي الرائدة التي سبقت السياب في قصيدتها الكوليرا لربما بأيام من شهر 12 من هذا العام فهي تدعي انها ارسلت قصيدتها الى اديبين كبيرين في لبنان تريد رأيهما في القصيدة، احدهما استحسنها وعده تجديدا في الشعر العربي والاخر لم يرق له ذلك بينما صدر للسياب ديوانه في نفس الشهر من تلك السنة فلمن تسجل الريادة في هذا المضمار وكيف ترى هذا التحول وكسر ضوابط العمود؟.
ج4: د. صالح الرزوق: لكليهما. وماذا يعني 12 يوما في عمر تاريخنا الحديث. نازك الملائكة تكتب وجدانيات تناشد الذات بصوت متألم يشبه التوبيخ الضمني. والسياب يكتب بإيقاع نفسي مضطرب يدل على خلافات مع الذات. كأنه يعيد تفسير مقولة سارتر: كلما نظرت في المرآة أجد أنني أختلف مع نفسي. والشعر الحر نوع من الخلاص وليس الإلغاء. فهو نقلة من فلسفة القانون والأب لفلسفة الذات والابن. وحتى المنطق يقف مع هذا التجديد. أي آلة تساعد البشرية على تخفيف آلامها ومجاعاتها تتعرض للتطوير. وبالنتيجة ننتهي إلى أجيال متعددة منها. لماذا لا يكون الشعر مثل العقل والآلة. العمالة الفكرية رديف للعمالة العضلية وإن وقف ضدها الستالينيون.
س5: حمودي الكناني: مذ فترة ليست ببعيدة جدا طغت على الساحة الشعرية العربية (ظاهرة) قصيدة النثر ومنهم من أجاد في كتابة هذا اللون حتى يجعلنا احيانا نهيم معه في اوديته الخضراء، في رأيي المتواضع انها ثورة على عمود الشعر الذي كثيرا ما يطربنا جميلُه ويجعلنا نغني القصيدة مع الشاعر فهل يا ترى سبب لجوء كتاب قصيدة النثر الى هذا الجنس هو عدم المامهم ببحور الشعر المعروفة وصعوبتها على من لا يمتلك الاذن الموسيقية أم ان هؤلاء الكتاب يجدون فيها فضاء رحبا يحلقون فيه وميدانا واسعا يطلقون فيه أعنة خيولهم ولمن تسجل الريادة في هذا الجنس؟.
ج5: د. صالح الرزوق: معك حق أيضا. أحيانا السهولة والتيسير ضد الإبداع. لكن القصيدة النثرية التي ولدت نثرية لها مبرراتها. نحن تأثرنا بالترجمات. وانتقلنا من حالة الكتابة إلى حالة التعايش. بمعنى أن الميزان تحول من قانون الكتابة إلى الحساسية الفنية. مثل تناقض المادة والروح. يمكن للروح أن تعيش بعد فناء الجسد من خلال الذكريات والأثر. وبهذه الطريقة أنظر للشعر النثري. ويمكن أن تقول الشيء نفسه بخصوص القصة القصيرة جدا. إنها سهلة وسريعة. ولكن لتكون مبررة يجب أن تعرف كيف تدفع القارئ للتفكير بالموضوع. وكيف تترك له مهمة رسم الشخصيات بخياله أو ملء الفراغ. ومن أيام قرأت لقصي الشيخ عسكر أربع قصص من سطر واحد. كل قصة تعادل حكمة تقربنا من معنى الحياة.
س6: حمودي الكناني: هنالك شعراء قريضٍ مجيدون حد الادهاش لا تمل قراءة قصائدهم لا بل دواوينهم لكنهم عندما يكتبون قصيدة النثر لا نجدها بمستوى عمود شعرهم، لا ادري ربما لست موفقا في رأيي هذا فهل يتفضل علينا الدكتور الرزوق بإماطة اللثام عن وجه هذا (التباين) إن صحّت رؤيتي؟؟.
ج6: د. صالح الرزوق: قرأت لشعراء عمود قصائد نثر جميلة جدا. ومؤثرة جدا. ومنها مرثيات يحيى السماوي. ولا يوجد في ذهني شاعر خان نفسه وشعريته. وأود أن أقول إن السياب في أواخر حياته اقترب من القصيدة السطرية. وكاد أن يدخل في الشعر النثري. ولا يوجد عندي أدنى شك أن تطوره من العمود إلى التفعيلة ثم التفعيلة الخفيفة لا يصدر إلا عن ضرورة يجيزها الفن والمنطق. وأستطيع أن أقول ذلك عن أدونيس. بدأ بالعمود ثم وصل إلى النثريات في “قبر من أجل نيويورك”. إنها قصيدة معجزة بلغتها الملحمية. حيث تتطور على مستويين. إعجاب إنكاري. وإصرار على إسقاط ذاته وأمنياته على أبراج نيويورك. فهي ترتفع في عنان السماء كالجبال الراسخة لكن يعيش فيها ضعفاء ومحرومون ومجانين. وهنا موضع المأساة.
س7: حمودي الكناني: يقول كثير من المهتمين بالأدب عموما، أن هذا الزمن هو زمن السرد بكل اجناسه وأن جنس الرواية بالذات هو الطاغي في المشهد العربي على الشعر ومن وجهة نظر شخصية أرى أن هذا الرأي مبالغ فيه ومرد ذلك هو انحسار دَوْر السينما لأنها العامل الرئيس المشجع لكتابة هذا اللون فهل يا ترى أن هناك عزوفا من قبل الناس لتشكيل طوابير امام دُور السينما أم أن الكم الهائل من الاصدارات الجديدة لا يحمل بين طياته ما يشجع المنتجين والمخرجين والمهتمين بصناعة الافلام؟.
ج7: د. صالح الرزوق: السينما دخلت إلى كل بيت بالفضائيات والفيديو. وكل شخص لديه سينما متنقلة في جيبه باليوتيوب (الموبايل - الخليوي بلغة العرب). والعلاقة جدلية بين الرواية والسينما. نجيب محفوظ سيناريست. ومعظم الأعمال الأدبية تتحول إلى أفلام ومسلسلات. ومن فترة قريبة شاهدت فيلما إنجليزيا بعنوان “النشالة” وعلمت أنه من عمل روائي فاقتنيته. وأسعدني قراءته.
س7: حمودي الكناني: عصر النهضة في اوربا شهد كتابا وشعراء ساهمت كتاباتهم في اذكاء الوعي الجمعي في مجتمعاتهم حتى انهم اصبحوا قدوة ورموزا اجتماعية كبيرة، واذا ما رجعنا الى وطننا العربي نجد ايضا الكثير من الشعراء والكتاب استنهضوا الامة لكن الاستجابة كانت محدودة ان لم تكن معدومة وبقينا نرزح تحت وطأة الطغيان والاستبداد، فأين الخلل،هل هو فينا كأفراد وجماعات جعلنا نفضل التخلف على التقدم والامية على المعرفة؟.
ج7: د. صالح الرزوق: الشعر لا يبدل الواقع ولكن يساعد على التغني به أو إدراكه. وفي أوروبا واكب النهضة الفنية ثورة صناعية. أما نحن لا نزال نستهلك. ولهذا السبب تفوق لساننا على سيوفنا. حتى عرب الجاهلية كانوا شعراء معلقات تهز مشاعر أي قارئ في كل العالم. ولكن كانوا يقولون ما لا يفعلون. وكل قصائد المديح والتمجيد والافتخار بالذات قابلها احتلال أجنبي وعزلة بين كثبان رملية تعصف بها الرياح.
س8: حمودي الكناني: اعتقد انك تتفق معي حينما اقول أن حكامنا المستبدين ولا استثني منهم احدا من أجل ان يبقوا متمسكين بكراسيهم وعروشهم جعلونا متعمدين نئنُّ من وطأة الفقر لاحول لنا ولا قوة، واذا ما استنهضنا قوانا وخرجنا محتجين على الواقع المزرى جابهونا بكل شراسة وبطش فمن اعطاهم الحق أن يتسيدوا ويستبدوا، أ هو قدرنا أم انها بساطتنا أم هو الترويض الذي مورس علينا قرونا؟.
ج8: د. صالح الرزوق: الاستبداد آفة. وطغيان آل رومانوف أودى بهم لنهاية سوداء في روسيا. ودكتاتورية هتلر جعلت منه مجرما يلعنه التاريخ. لم يروضنا أحد إن شئت الحقيقة. إنما وضعنا العربي مختلف. لدينا أرض سليبة مع تخلف مركب. وهذا يجعل مفهوم الالتزام والحرية في صراع مستمر. وبرأيي إن الزمن كفيل بحل هذا الإشكال كما حصل في أمريكا اللاتينية أو روسيا وعموم شرق أوربا.
س9: حمودي الكناني: ارعدت السماء وزمجرت فأوحت لبو عزيزي ان يحرق نفسه فعصفت العاصفة في بلدان بعينها فدمرت وأفقرت وقتلت وهجرت الملايين بينما نرى هذا الامر لم يحدث في ممالك العرب فهل ان الناس في هذه الممالك تنعم ببحبوحة من العيش الرغيد ولا فاقة ولا حرمان ولا تعسف فيها أم ان لدى ملوكها تفويضا من الرب ان يحكموا باسمه والخروج عليهم يعتبر خروجا على الرب وجعلوا قول (اذا هبت رياحك فاغتنمها) وراءهم ظهريا؟؟
ج9: د. صالح الرزوق: تكلمنا كثيرا عن الملوك والسلاطين. وأدبياتنا حافلة بهذه المناقشات. ولكن الأنظمة لا تتساوى بظروفها. فالخليج مثلا ينعم ببحبوحة تسهل له تدبر أموره. بينما المغرب والأردن في حالة قريبة من القلق والتوجس بسبب انتشار الفقر والبطالة. وإن شئت رأيي كان الهدف أمريكيا بحتا. وهو تصفية حساب مع بقايا الاتحاد السوفياتي. ولذلك هربت تونس ومصر من المجزرة، بينما غرقت العراق وسوريا واليمن وليبيا بالدم لقمة رأسها. حيثما تجد بصطار العسكري السوفييتي سبحت الأرض بالدماء.
س10: حمودي الكناني: في قلبي حبٌ كبير لبلاد الياسمين سوريا العزيزة ووددت دائما زيارتها لأرى بعض الاصدقاء السوريين الذين جمعتني بهم الغربة في بلاد اليمن في اوائل تسعينيات القرن الماضي وبالرغم من علاقتي القوية بهم لكنهم كانوا يتحفظون بكلامهم وخاصة عن الوضع السياسي فلاحظت انهم يخافون بعضهم البعض تماما مثلما هو الوضع عندنا أيام حكم البعث فالحكم الشمولي واستبداده سواء في سوريا او في العراق جعلنا نخاف حتى من الحائط واتذكر ماذا فعله النظام في حماة في عهد الرئيس حافظ الاسد ولما هبت رياح ما سمي بالربيع العربي انتفض السوريون وطالبوا بالتغيير فجوبهوا بالقمع والبطش ومن حقهم ان ينتفضوا لكن بالمقابل انصاعوا للتدخلات والاموال الاتية من الخارج واستغل ما يعرف بتنظيم الدولة الوضع وقتل ودمر ونبش القبور واتلف الاثار وهذا عمل مشين بحق الانتفاضة والمطالبة بالحقوق وتحولت الانتفاضة الى حرب طائفية افرحت اعداء سوريا سواء اسرائيل او غيرها وأدت الى تدخل دول اخرى للانخراط في هذا الصراع، فما قولك عن هذه الحرب المستمرة منذ 2011 ولحد الان وهل في النهاية يحقق المنتفضون اهدافهم، أم ان نار الطائفية لن تخمد ونتائجها ستكون وخيمة على الشعب السوري المبتلى وهل تنحي الرئيس بشار الأسد هو الحل؟
ج10: د. صالح الرزوق: صديقي أستاذ حمودي.
الحرب حرب. أي نقطة دم مأسوف عليها حتى لو نزفت من أصبع عدوك وهو على الزناد. والخوف جريمة. ويترك في النفس البشرية فراغا يتحول مع الزمن إلى وعي باطن حتى أنت لا تعرف ماذا يدور فيه أو أنك تتهرب من مواجهته حفاظا على لقمة عيشك أو ضرب رأسك بجدار المعطيات. في حالتي أجامل حينما أخاف. وأبتعد حينما يزداد الخطر. وأعتقد أن المخاطر لا تزال تتضاعف وتتكاثر بمتوالية هندسية جنونية. الطائفية بلاء ابتلينا بها نحن وغيرنا. وأذكرك بما كان يجري في شمال إيرلندا. لكن الخاتمة السعيدة حان وقتها هناك بسبب التقدم الصناعي وبسبب علاقات العالم الودية مع بريطانيا. وأعتقد أن العالم يجامل تركيا في هذه الأزمة أكثر من سوريا. لأنها تمر بما يسميه الاقتصاديون المعجزة التركية. أتمنى أن نصل لنهاية سعيدة وبأسرع وقت ممكن. لكن هذا محال في هذه الظروف. لا يزال السم يفتك بالبدن. ولا أستطيع أن أقول إن ما يحصل يصب في مصلحة الثقافة أو المثقفين. بالعكس إنه يدمر الإحساس الجمالي الذي ندين له بوجودنا ويقربنا من المأساة المتوقعة. نهاية العالم تبدأ من تدمير وجه اللغة أو الجماليات البصرية كما قال جاك دريدا. وهناك جريمة بشعة ومقصودة تدمر إحساسنا وتقربنا من اللامبالاة والتخلي عن المقاومة أو الصمود. لا يمكن لأحد أن يدافع عن شيء لا يقتنع به.
س11: حمودي الكناني: تركيا اوردغان استغلت الوضع وسمحت لأعداد كبيرة من مختلف الدول لدخول سوريا والانضمام الى النصرة وداعش والجيش الحر وغيرها من المنظمات، ما هي غاية تركيا من هذا التدخل في الشأن السوري، هل هي الاطماع والحنين الى ايام العصملي، ام فعلا يخافون على بلدهم من الكرد علما أن هناك ما يقارب العشرين مليون مواطن كردي في تركيا، ام هناك كره دفين تجاه بشار الاسد من قبل العصملي الجديد؟؟
ج11: د. صالح الرزوق: تركيا ضجرت من سياسة البطاقة التموينية. والوقوف بالدور للحصول على كيس طحين أو مكيال من الأرز. وأعتقد أن هذا تناقض جوهري وضعها بمواجهة مع سياسة الندرة التي ابتليت بها سوريا باسم الاشتراكية. اشتراكية الفقر تدمير لنفسية الإنسان وقتل لموهبته وإرادته. وهناك حسابات أخرى. منها خشية تركيا من انفجار الغشاء الذي تحتمي خلفه بسبب وجود إسلاميين وأكراد وعرب. كما أنها ضجرت من استجداء أوروبا حق الانضمام للاتحاد الأوروبي. وهذا ما يوضحه الدكتور إحسان داغي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة أنقرة للعلوم والتكنولوجيا في كتابه “تركيا بين الديمقراطية والعسكرة” وهو مجموعة مقالات عن أهمية الخيار الأوروبي لحماية هذه الديمقراطية الناشئة والتي يسميها ديمقراطية إسلامية. الأتراك بحالة مواجهة مع ماضيهم وخياراتهم. ولذلك يهمهم أن تكون العراق وسوريا وإيران خاصرة لينة - ضعيفة.
س12: حمودي الكناني: حسب ما علمت به انك غادرت بلادك مضطرا وانك تعيش الان في دولة خليجية سؤالي ما قبل الاخير ما هو الحل لإنهاء ما يجري في بلادك الآن؟
ج12: د. صالح الرزوق: لو عندي حل لأسعفت به نفسي. أنا مجبر على مغادرة سوريا. بالإكراه والضغط والتخويف والمقاطعة. ولم يكن معي غير كتاب وقلم. الآن موبايل ولا بتوب. رفعت الراية البيضاء وتركت نفسي وووضعت كل الأوراق بيد المجهول. من هو هذا المجهول الغامض الذي لا يسعني رؤية وجهه؟؟.
زوجتي؟. غادرت منذ عام 2014.
ابني. لا أعرف مصيره منذ عام 2013.
ذاتي الأخرى. أو روحي الهائمة في هذا القفر الغريب والذي نسميه العالم الآخر. أنا ميت. أنفاس الحياة صناعية. وموجودة برئة إنسان آخر غيري. لم يعد لدي قدرة على التنفس. اختنقت.
س13: حمودي الكناني: أخيرا دكتور، عرب النفط الى أين، وهل هذه الثروة كانت نعمة ام نقمة عليهم واصبحوا مادة تندر بسبب ما تعرضوا له من ابتزاز وفرض أتاوات من قبل الرئيس التاجر (الحاج) ترمب؟ هل هم فعلا كما وصفهم القرآن الكريم (خير أمة اخرجت للناس) أم ان هذا الخطاب ليس عاما وانما يخص جماعة بعينها؟
ج13: د. صالح الرزوق: الثروة نقمة. والسعادة نقمة. لكن أنى لي أن أعرف هل هم سعداء أم أشقياء. لا أعرف أحدا منهم. وكل معلوماتي تأتي من قراءاتي. لحسن الحظ من حوالي أسبوع اقتنيت “ناقة صالحة” للكويتي سعود السنعوسي. وهي تعالج صراع آل رشيد مع آل سعود وحلفائهم من عائلة الصباح. يعني هي من دروس الماضي. وقبل أن أفارق حلب اقتنيت بالصدفة كتابا مستعملا بعنوان “موت صغير” للسعودي محمد حسن علوان. وكانت أحداثه تدور في زمن الحلاج، وتتابع رحلته بين الأمصار مثل أي روح قلقة لا تعرف أين هي أين هي أرضها. وقبل سنوات قرأت “وترمي بشرر” لعبده خال. وكانت رواية كافكاوية عمودها الفقري الكوابيس في مكان بلا اسم وبفترة دون تاريخ محدد. وقبله قرأت للسعودي عادل حوشان “مساء أصعد الدرج”. وكانت الحبكة عن الحرب الأهلية في لبنان.
يا الله.
كلنا نهرب من أنفسنا. لا يوجد من يريد أن يتكلم. سأشتري القرود الثلاثة وأضعها على طاولتي: أبكم وأطرش وأعمى. هكذا هي الحياة في زمن الربيع العربي.
حاوره: حمودي الكناني
مدارات حوارية – صحيفة المثقف
19 – 0 – 2019م
لمحة مبسطة عن صرامة فكر الهايكو وأثر كتابته البلاغية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. إشبيليا الجبوري
فموضوع هذه المقالة "لمحة مبسطة عن صرامة فكر الهايكو وأثر كتابته البلاغية"، لما له من تحديات تعكسها الفلسفة وسياقات تحكمها في تدوين الحياة اليابانية، وأهمية أحقية موضوعاته المتجددة، وحقل بكارته، التي تخص ـ من قبل ـ بعض من ألهم لهم الشأن بخصوصه، وثمرة الدراسة الجديرة في جديد موضوعاته، وحقول قضية الإبداع فيه، وآثار فهم الهايكو في تلاحق أطواره المختلفة عن تطورات جديرة به من إضافة على الآخر. وقد يأخذ منا في هذه اللمحة إيجاز للمحات ثلاث أو أكثر، مبسطة، لتسليط الضوء عليه، والوقوف على وجه صرامته وإبداعه؛ نشأة ونموا وازدهارا.
ولأجل ذلك سأجعل هذه المقالة مدخلا أوليا مبسطا، تدفعنا متابعين حلقات لمحاتها القادمة؛ أو إفاضة اكثر بقليل مما ورد (من كيف إلى لماذا، واين، ومتى ومن هم شيوخه ومريدوه)؟ حتى تبادل أنتقال لغة ترجماته، إن تطلب لاحقا للأمر ضرورة.
وإن كان هناك منا أغفال أو سهو غير مقصود "فنحن بشر"، سبحانه. ومن وجد إصابة، نأمل من الأخرين تسديدها ودفعها للقاريء ليسود سؤدد الحوار والتواصل، بارفع قيمة مضافة تعمها الفائدة فهما للجميع. مع الشكر الخالص لفريق عمل تحرير موقع الناقد العراقي لعونه وتحمله أعباءنا وحرص الاستاذ د. حسين سرمك من تقويم وتعاون ودعم نبيل معنا. ونأمل دوما من الله العظيم التوفيق.
أما بعد:
هيمن تصور المهتمون بكتابة "الهايكو" الياباني، من الربع الأخير للقرن الماضي، أن البحث في الهايكو ومعالجة إشكالياته ومهامه سيقتصر على طريقة الكتابة الموجزة البارقة؛ أي قصيدة "الومضة" اليابانية كما يحلو للبعض تسميته، خصوصا بعدما أفلحت الأخيرة في الخروج من معطف المحلية على غرار أنفصال خصائص تعلم اللغات و الكتابة في فنون ترجمة لسانياتها، بمعنى اخذا اتصال تصور الكتابة فيها كحجوم للأشياء أو سائر المتخيل عن التكنولوجيا المحمولة بساطتها.
لكن بقدر ما أنصلت وصغرت بذاتها عن معارف فنون الكتابة الشعرية أشتد ارتباطها بالفلسفة وتعمق. بحيث ألفت نفسها ـ أي الهايكو ـ نفسها موضوعا لتأمل أم معارف. وخير المعارف من تأملها هو معرفة كيف تتجاوز منها نبذ مساوئ اتصالها من قطائعها، أو العكس. وتزيد نفعا مجالا من مجالات أشتغالها، ونظرا لأهمية تلك التأملات أو المعارف في كتابة به، تطور بأعتبار أن أغلب الفلاسفة والمفكرين عنوا الأسلوب والمنهج به وبإشكالاته، خصوصا في القرن العشرين والعقدين الأخيرين ليومنا هذا على مستوى الثقافة العالمية أو العربية خاصة (=كتاب المغرب العربي ـ بنحو أدق، لأسباب معروفة لدى لجميع).
ولعل سبب أهتمام الفلسفة بنظم كتابة قصيدة "الهايكو" يرد إلى كونها تفكيرا في الحاضر، والغرض، قبل كل شيء، وأنتباها إلى ضرورة التعايش في المنجز الإنساني العام، والأنخراط بالمشاركة والإسهام في بناءه عبر أنتشاره بين شتى الثقافات العالمية. وبالعمل على توجه الأفاق نحو المستقبل. وجلي أن انشغال صرامته في طريقة نظم نشأته الأولى منذ القرن الخامس (كما تظهرها حفريات الدراسات المتخصصة)، وصرامته هذه فكرية، غير أنه لا ينفي أتجاها نحو الماضي، وأن مرونته تروم، في الحال ذاته، إنتشال القبلية بإنقاذ الذاكرة وضمان استدامتها واستمرارها، فهو بذلك يشكل تقاطعات مع الفلسفة (ظاهرا ومحتوى) في مجالات عديدة. بمعنى أن تكون المعنى تشكل علينا المراد لا بالمجاز فحسب، بل، أيضا مقياسا لبلاغة الكلام، في حرص منهج الكتابه فيه على أيجاد صيغة الأبداع له، فيه تفسيره الموازن بين قوة دور الحقيقة وأقتدارالمجاز في التعبير الفني ـ عند وقع الأختيارـ أي حينما يكون موضوعا للتأمل، الذي يتقدم به للحصول على درجة من المعرفة وآثرها في تدوين، وأبلاغ قضيته الجديرة بالدراسة أو المراجعة لوقعها في رسالته ـ الهايكو.
لكن العلاقة ولقاء الحقيقية بينهما يتكشف في أرتباطهما في حيز الموسيقى، العلامات اللغوية، فكلتاهما قوة "أقتدار" يعلن عن ذاتهما بصفتهما صحبة تمكن مع ما تحثه تلك العلامة من جاعلية، أي حمولة شحناتها الثقافية والنفسية والمعرفية بالعمل على توجه الأسماء الأفعال في تحولها لصفات حقيقة نحو المستقبل، مما تكون كلتاهما مضطرة. إلى فك علاماتها. فيكون كلهما، أي الشاعر والفيلسوف يوثقان تأملاتهما لما سيصدرانه عن قراءة إشارات، هي كلمات في صرامة نظمهما، وسياقات تؤلف نصوصا بلاغية رفيعة الفكر، وهما يستخرجان اسرارها الخفية من جمل أسمية تعمها٫ معززة بنبع مصدري، وجعل الجلة فعلية خفية بالدوافع التحفيزية تحرك جمالا جوهريا لمعنى مادي ملموس وأستدعاء توظيف للحواس بمدارك تتلذذ بالجمال المعرفي الحسي في أعماقه.
ويحدث للشاعر من خلال صرامة أسلوبية فكر الهايكو، أن يتعرف كثيرا من تلك الإشارات تأملات لم يسبق له أن تعمق بجوهرها أو ظاهرها تمام المعرفة، وما يخفي وجه الحكمة في رفض أو قبول تفسير النطم الشعري بمعنى الطريقة والأسلوب في الكلام أو إطلاقه على توالي الألفاظ في النطق والإسماع أو تلاؤم الحروف وانسجام أجراسها أو إنكارها أن تكون بمثابة الميزة البلاغية كامنة في اللفظ ذاته، ما يعني دون أن يستنفد إمكاناتها الدلالية؛ فهو يمر جانبها في كثير من الأحيان، أثناء بحثه في النص في لغته الأصلية عن الحقيقة، ولذلك تبقى معرفته بالنص وإحاطته به ناقصة، مما يسوغ تعدد تأملات القصيدة الواحدة من جهة، ويبرر قراءات متنوعة هي في الواقع أطر حوار محددة وتبادل لوجهات النظر، ودعوة إلى مجتمع المحبة والمعرفة والصداقة في تعبير عن أن الحياة سريعة الزوال. وبكلمة واحدة تغدو قصيدة الهايكو تفكيرا، لمرورها أثناء بحثها عن الحقيقة بالفهم والشرح والتفسير فالتحديث، وهي لعمرية بساطة الظاهرة سهولة الفهم نفسها والوصول إلى دلالاتها، كما هي التي تحرض عليها عمقها الفلسفة والجمالي أيضا، التي تفتأ تعيد قراءة الإشارات/العلامات، وإعطاءها معان مغايرة عما ألف، نظرا للقراءة الجديدة التي تخضعها لها، مما يحول مسير الفكر والمعرفة لتوضيح مشاكلها العلمية الجادة لقضية الإبداع "الهايكوي".
ويؤكد الأستنتاج السابق كما هو معظم الشعراء اليابانيين الذين أسهموا في تقدم موضوعاته الفلسفية وثقافته المعرفية وأزدهارها قد يكون من العسير تفسير آرائهم وخططهم الفكرية والبلاغية تفسيرا سليما ما لم تمخض قضية الشذرية الموجزة بقيمة الدقة الوامضة، من إضافات إضاءة البرق، الذي يرى أن سر التفكير يكون نفاذ ضوئيته دوما تأويلا، أي تفسيرا وتطويرا، وترجمة لإشارات متغيرة سريعة، فلا يترك ألا وجود إيجازه سوى لمعان تكمن في إشارات قبلا في السر، تابعة معانيها ملفوفة المقياس ومطوية لبلاغة كلام، وفي حرص حال، موازنة غامضة لما يجبر على التفكير إنسجام أجراسها بين دور الحكمة والمجاز في الأسلوب الفني.
ومن ثم دفعت العلماء في وقت مبكر إلى بذل ما رخص للعين ظهورا أوغال للقلب غناه ضموره وأفصحه، بجمع الكلام له، وحفظه وتدوينه وتعليمه، مع جهد عرض تقبله، وتفسيره، ودراسة أساليب نظمه البيانية ومقابلتها بأساليب البلغاء، ثم أستخلاص عناصر الجودة في اساليبه البيانية ومواضع فجوة التقصير في سلاستة؛ ليظهر امتياز العبارة على وضح الكلام من موضع قويم أو اعوجاج، توكيد رفعة الأجراس القويمة الذين استوت لديهم ملكة البيان، ومن أجل خدمتها خاضوا في مسائل الفلسفة والبلاغة كالقول في الهايكو البلاغي، وتفضيل الكلام على كلام، وكانت أيضا وراء زيادتهم للمقايس البلاغية وتعميقها، وإرساء نظرية النظم وتقرريرها فيه، وبيان مكانته في التعبير الجميل، والتشبيه والتعمق فيه، والإيجاز والإطناب والإلتفات بالتماثل (إن صح التعبير) وبيان الميزة البلاغية من خلال أجراسه في مقاطعه الثلاثية (=النشأة والنمو والنتيجة) وأين تكمن موازنتها لمقاطع ثلاث مكونة الـ(17) صوتا/أجراسا، بطريقة (5 ـ 7 ـ 5 )، أو، 5 ـ5 ـ7 أو أيضا 7 ـ 5 ـ5 ) حسب فهم علمية الأسلوب؟ والمقاطع "الثلاث" تعني؛ بالنشأة والنمو والأزدهار. بمعنى رسم المنهج السليم لثقافة التربية الفنية والتعاليم الأدبية القادرة على الخلق والنقد والإبتكار وتوليد المعاني الخلقية الجمالية قبل فقدانها أو الزوال؛ للوقوف على وجه إبداع الهايكو البلاغي؛ وظيفة أنبثاق المثال، حكمته، والقول بعمله المأثور. فمنذ أن وجد الهايكو أصبح سر تجدد الفكر الياباني دوما طريقا للإيمان بنور وصف لنفس الطبيعة برسمها الحياة واستمرار تجديدها بالبدء الفطر الخلقي الفطري، وأعمار الكمال، وسيادة الذوق والجمال، لتقلد تعلمه من أمور الحياة، و تعميم ثمرة فهم الهايكو في فهم قول اللحظة، و وقوف الهايكو على وجه تفرده بالزمان وإبداعه بالمكان. فهو، مثلا، يعود بأستمرار إلى تراثه الفلسفي، ويعيد قراءته قراءات جديدة؛ كحال شيخ البلغاء من اللاحقين في تاريخ هايكو اليابانيين (باشو ماتسويو 1644 ـ1694)، الذي يستحدث بأستمرار، وليس على كل مائة سنة، ومن ثم تفهم إبداعية الغرب، الذي يستلهم أرتقاءه وتطوره من إعادة ترجمة تراثه الياباني وفهمه وفك إشاراته وتأويله وتفسيره. وهذا يعضد ذهاب ما رسل إليه حق أثار لاحقة من مريدوه بعده، مثل (بوسو يوسا 1716 ـ 1783 ، شيكي ماساوكا، 1867ـ 1902 ، كيوشي تاكاهاما، إيبيرو نوك تسوكا 1874ـ 1959 ...وآخرون) إلى أن (الهايكو) هو تواصل للتفكير في العصر الذي تأتي منه وقائع حال التفسيرات والشروح، قبل أن تكون له تأويلات لنص من النصوص، لاستعداد همة اليابايين للنهوض المستمر للفهم البارق لتغيير واقعهم وإحداث أنعطاف في معيشه وذهنيته.
وعلينا ألا ننسى، أيضا، بأن الأصل في الأختلاف بين نظم قصائد الهايكو ليس النص بعلاماته التي قد ينظر إليها بصفتها جوهرا موضوعيا، وإنما يرد إلى إلى ما أمتازت بوصوله الذوات إليه خاليا من التبديل والتحريف والزيادة والنقص، التي يفترض فيها أنها مختلفة وأنها جوهر ذاتي متعدد، وأن كل "هايكو" يكشف في النص الذي يكتب فيه عن معنى غير متوقع، وهو ما ينعكس مباشرة على الفكر، أي على الفلسفة التي تتغذى عليه الهايكو، لميزته المرموقة هو الأشغالات اللامتناهية لحظة بلحظة، وفقا لما يتغلغل ويسود الحواس الواقعية من مصادر الحياة اليومية، أما التجريد والتعميم فهو مطلق الغياب.
تسعفنا نظم قصيدة الهايكو في تخطي ذاتنا وعالمنا، وفي الخروج إلى عوالم أخرى ما كان لنا نطلع عليه إلا بإتقان لغاتها جميعها؛ في الدلالة للتواتر وتاريخ الهايكو نفسه. ويسمح تعدد المبدعيين وكثرتهم في تيسير المهمة التي يمكننا من الوقوف على الفلسفات وفنون ومعارف وغيرها كانت ستظل في حكم المجهول بالنسبة إلينا. والأكيد أن المبدع يقدم من خلال نصه الشعري قراءته الخاصة للنص مرحلة نضج الأصل والكمال، وهي إبداية بيانية لغة تخاطب القوب والعقول معا، ادخرها أصل الشيء، حتى بلوغ الحواس مرحلة بدء النشأة ونمو الكمال ونضجه، وازدهار الجمال بفهمه، أي نصا مختلفا بالضرورة، ما يعني أنه يبسط أمامنا أختلاف قراءته عن قراءة الآخرين بالضرورة، وما يفيد بأن النص المكتوب لا يوجد إلا في الصورة البلاغة التي هو عليها في لغة الوصول، وأن لا مثيل له خارج ذاته.
يتبعها مقالة: وقفة وامضة عن تمييز السمات الفلسفية للهايكـو والتانكو/ أو(تفكيك التشابه وقطيعة التواصل من أختلاف)
إشبيليا الجبوري
ماركس في "مدينة الغنج والدلال"
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عبد الحسين شعبان
منذ الصباح الباكر أجلس في المقهى:
طنجة تستيقظ
لست أنا من يوقظ طنجة
من قال: الحلمُ ينام؟
...
...
...
طنجة سيّدة الأنوار السبعة
أغنية البحار
سعدي يوسف
من قصيدة طنجة -"ديوان طنجة" 2011
إذا كان " الحب من أول نظرة"، فعشق طنجة من أول زيارة، فتهيم غراماً بها وتزداد عشقاً لها كلّما اكتشفت مكنونات روحها بما فيه من سحر وألغاز، وحسب بربارا هايتن "طنجة هي الحياة"، وكما كتبت على لوحة رخامية في منزلها " الجنة هنا.. هنا.. هنا" وهي تعني طنجة .
الألوان والأنغام تختلط في طنجة، وما الحياة سوى لون ونغم، "وحق الهوى أن الهـوى سبب الهـوى .. ولولا الهوى في القلب ما وجد الهوى"، كما يقول محي الدين بن عربي، فالزرقة للسماء والبحر، والخضرة تكسو الوديان والسفوح مطرّزةً بالأصفر والوردي، حتى لتبدو طنجة وكأنها حديقة أو غيمة سندس تفوح منها كل الأطايب، وتتفرّع على جانبيها أزقة وبيوت وأبواب ملوّنة تشمّ منها عبق التاريخ.
منذ أن قرأت "الخبز الحافي" هامت روحي بطنجة، فقد كان الروائي محمد شكري بارعاً بجنونه الفائق وعوالمه الليلية والنهارية الشائقة وشخصياته الهامشية الفاتنة التي روى حكاياتها التي تُحكى ولا تُحكى، فعدتُ أفتش عن "مجنون الورد" و"الخيمة" و"غواية الشحرور الأبيض"، مقتفياً خطاه في المقاهي والحانات، من مقهى الحافة إلى مقهى الرقّاصة في السوق القديم وصولاً إلى مقهى باريس ومقهى روكسي وغيرها، وهكذا بدأ الحبل السرّي بيني وبين تلك المدينة الساحرة.
واجتذبت طنجة عدداً كبيراً من كبار المبدعين الذين تردّدوا عليها وعاشوا فيها مثل جان جينه والبرتومورافيا وأرنست همنغواي والجواهري وأدونيس وسعدي يوسف وخوان غوتيسولو ومارسيل خليفة وغيرهم، ولكل قصته وعشقه. ومن أزقة طنجة بزغ ابن بطوطة ليلفّ العالم، ثم يعود ليرقد محتضناً أطالس الجغرافيا وكتب التاريخ وحكايات المجتمعات المتنوعة والشعوب المتمايزة.
هكذا تتبدّى لك الأندلس حتى لتشعر أن العالم كله في عهدتك، فـ "المدينة الحلم"، حسب بول باولز، صوّرها الرسام هنري ماتيس في لوحته الشهيرة العام 1912" نافذة من طنجة"، الموجودة حالياً في متحف بوشكين في موسكو وعلّق عليها قائلاً: طنجة " جنّة الرسام" و"المرآة المفتوحة على العالم". ومكث ماتيس في فندق فيلا دي فرانس، وصادف في إحدى زياراتي لطنجة أن نزلتُ في الفندق ذاته وبجوار غرفته الرقم 35 وطلبت حينها من عامل الفندق أن يفتحها لي، فوجدت الضوء يملؤها من جميع الجوانب.
وتعلّق الجواهري هو الآخر بطنجة التي وصفها بأنها مدينة " الدلال والغنج"حيث ينطلق الليل من جفنيها، وينفرج الصبح عن نهديها، وذلك حين زارها في العام 1974، وقصة الجواهري مع طنجة مثيرة وملتبسة وسأعود إليها في وقت لاحق.
فكيف حلّ ماركس ضيفاً على طنجة التي لم يزرها؟، لكن "للأفكار أجنحة" على حد تعبير ابن رشد، فقد زارت أفكاره طنجة وحلّقت فوق البحرين (البحر المتوسط والمحيط الأطلسي) حيث يلتقيان في طنجة في لقاء حميم لا مثيل له. وكانت "عودة ماركس" إلى طنجة عبر مهرجان ثويزا حيث دعيت للحديث عنها ، فاستعدتُ مقابلة لي في جريدة "أنوال" المغربية قبل ثلاثة عقود من الزمان، عن "أزمة الماركسية"، وهو الموضوع الذي توسّعت في تناوله بكتابين الأول "تحطيم المرايا في الماركسية والاختلاف " والثاني "الحبر الأسود والحبر الأحمر- من ماركس إلى الماركسية". فهل العودة إلى استحضار ماركس دليل طمأنينة أم إشارة قلق؟ وهل هو سؤال شك وأزمة أم جواب يقين وثقة؟
لكننا لسنا وحدنا من يعود إلى قراءة ماركس، فقد أخذ مدراء بنوك وشركات كبرى يشجعون على قراءته، فبعد أزمة العام 2008 كان كتاب "رأس المال" الأكثر اهتماماً وكانت نتائج استفتاء لهيئة الإذاعة البريطانية BBC قد صنّفت ماركس كأحد المؤثرين في العالم بين 100 شخصية.
والمهم كيف نقرأ ماركس والماركسية من بعده وأعني "المادية التاريخية" فقد كان هو الحلقة الذهبية الأولى فيها. أعداؤها حاولوا تأثيمها وأبلستها لأنها مثلت خطراً على مصالحهم الطبقية، أما أتباعها فصنّموها وألّهوها وربطوها بشخص ماركس ومن جاء بعده، حتى أن بعض أصحابنا أضفى عليها نزعة ريفية أو بدوية بالضد من جوهرها المدني الحداثي.
وإذا كان الأعداء والخصوم قد لعنوها وطاردوها، فإن الأتباع والمريدين كانوا عبيد النصوص، والنصوص كما هو معلوم منتهية، أما الواقع فمتغيّر، وهو لا متناهي، وبغض النظر عن منهج ماركس، فإن تعليماته كانت تصلح لعصره وقد تجاوز الزمن العديد منها، فما بالك حين أخفقت بالتجربة، وإذا كان المنهج يقتضي قراءة الواقع، فلا بدّ إذاً من استنباط الأحكام منه، والمرجعية أولاً وأخيراً للواقع الملموس وليس للنصوص، والممارسة جزء من النظرية مثلما الوسيلة جزء من الغاية.
ولو عاد ماركس اليوم لأعاد النظر بالكثير من المسلمات والأحكام، خصوصاً في ظلّ العولمة والعصر الرقمي، حتى وإن تشبث المريدون بجعله أيقونة تصلح للمتحف. وتلك كانت جوهر مداخلة طنجة في فضائها الفكري المفتوح.
عبد الحسين شعبان
أكاديمي وأديب عراقي
زيف الرأي العربي العام !!!
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. ميثاق بيات الضيفي
"لابد أن تكون للقدرات الثلاث مجتمعة.. القدرة على الملاحظة.. والقدرة على التفكير.. والقدرة على البوح والمطالبة... مجملا لجميع وسائل تطوير القوى الحياتية وتطبيقها.. إذ لا أحد يعرف مديات قوة قدراته.. حتى يختبرها!!!"
بادئ ذي بدأ لن أخجل ولن أجامل فإنا اشك واشكك بالفرضية المشاعة حول إن كل استطلاع للرأي العربي العام يمكن أن يكون له معنى أو أية مصداقية، وبعبارة أخرى اشكك في حقيقة وجود إنتاجا للرأي العربي أو بإمكانية التعبير عنه أو حتى بإتاحة ذلك للجميع، وأرى أنه من الممكن إثبات أن في بال الحكام جميع الآراء العربية العامة ليست مهمة على الإطلاق، وأن حقيقة جمع الآراء بأستطلاعات الرأي هي ليست أكثر من إنتاج أعمال فنية مزيفة لا معنى لها، وببساطة ليست هناك فرضية صريحة حول وجود إجماع حول القضايا، وغالباً ما يتم تحدي استطلاعات الرأي العام بطابع السؤال عن تمثيلية العينات، وأعتقد أنه نظراً للحالة المأساوية الراهنة للواقع العربي وكذلك للوسائل التي تستخدمها برامج تلك الأستطلاعات فإن هذا الاعتراض لا أساس له من الصحة لأنه لا يتم إجراء العمليات بصدق بحيث يتم طرح الأسئلة الكلاسيكية بطرق مائعة وماكرة أو استخدام حيل الزيف في صياغتها، وغالباً ما يتبين أن الإجابة مشتقة من شكل بناء الأسئلة وحتى الإشكاليات الخاصة التي يقام بها ذلك النوع من التنظيم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالظاهرة وتخضع لنوع معين من النظام الاجتماعي الوالي والتابع والمنتفع من الأنظمة الحاكمة.
بعالمنا العربي تخضع الإشكاليات التي تقترحها دراسات الرأي العام للمصالح السياسية المرتبطة بإبراز حكمة وعبقرية الحاكم، وبذلك سيمحق بشدة كل من معنى للأسئلة وللإجابات ويفضح هدف نشر النتائج!! إن استطلاعات الرأي العام في أشكاله الحالية هو أداة حمقاء للعمل السياسي، ولعل أهم وظائفها غرس الوهم القائل بأن هناك رأي عام باعتباره حتمية يتم الحصول عليها فقط من خلال إضافة آراء فردية، الغرض منها إخفاء حقيقة بؤس ويأس وضياع الرأي الشعبي العام، وعبره تأمل الأنظمة الحاكمة للتأثير الأساسي على تسطير فكرة وجود رأي داعم لها بالإجماع وذلك محاولة منها لإضفاء الشرعية على سياساتها، ولإحكام خروج نتائج ترضيها فهي تعمد على وضع وفرض فلسفة خفية للتصويت على استطلاعات الرأي العام وإذا ألقينا نظرة عن قرب فسنجد أن النسبة المئوية لأولئك الذين لا يجيبون على الاستبيانات أعلى بشكل عام بين الإتباع والمواليين مقارنة بالمشكوك في ولائهم لها، وأن الفرق في هذا الصدد هو الأكثر أهمية إذ أن الأسئلة الأكثر طرحًا تكون سياسية وكلما كانت مسألة الاستبيان أقرب إلى مشاكل المعرفة والإدراك ازداد الفرق في حصة "غير مجاب" بين الأكثر تعليما والأقل تعليما وبين الأقل أو الأكثر خضوعا، وكلما تناولت الاستطلاعات قضايا النزاع وعقدة التناقضات الدينية والوطنية كلما زاد التركيز على السؤال عن أي فئة معينة من الناس تستطلع، وكلما ازدادوا عددا سيجتمعون خوفا ورعبا على حصة لم تتم الإجابة، لذلك لن يقدم الاستطلاع سوى تحليل بسيط للإحصائيات وستبرز به بقوة حصة "بدون إجابة"، فيتم تعريف المعلومات على أنها الاحتمالية فيما يتعلق بتلك الفئة للحصول على رأي وكاحتمال مشروط للحصول على رأي مؤيد للنظام الحاكم.
إن أحد أكثر الآثار الضارة لدراسة الرأي العربي العام هو بالتحديد أن الناس مطالبين بالإجابة على أسئلة لم يطلبوها هم أنفسهم أو أنهم يخشون ويتهربون من الإجابة عليها ولنأخذ على سبيل المثال أسئلة تركز على القضايا الأخلاقية سواء كانت تتعلق بصرامة الآباء أو العلاقات بين المدرسين أو الطلاب أو التوجيه التربوي أو الدراسي وما شابه، في كثير من الأحيان ينظر إليها الناس على أنها مشاكل أخلاقية وكلما انخفض مستوى هؤلاء الناس في التسلسل الهرمي الاجتماعي كلما انخفضت فاعلية الأسئلة، وقد تكون تلك الأسئلة تطرح نفسها كقضايا سياسية للناس حين يكون الاستطلاع للطبقات العليا فتتحول الاستجابات الأخلاقية إلى استجابات سياسية تشيد بالنظام السياسي وتمجد بالزعيم الحاكم وأخلاقياته وذلك بمجرد فرض مستويات ووجهات نظر لطبقات عليا والتي دوما ما تكون من اشد الطبقات ولاء للأنظمة السياسية للمنافع المادية والتسلطية التي كسبتها بوجودها.
بعالمنا العربي وعلى النقيض من كل العوالم الأخرى فيتم تصميم الاستبيانات بطريقة تجعل الناس لا يسألون ولا يفكرون أو حتى لا يعتبرون أنفسهم مشاركين أو مهتمين في السياسة أو قريبين منها، وذلك يكشف عن اختلاف خطير للغاية في فن نوعية الاعتماد على نوع المجموعة الاجتماعية إذ إن الشرط الأول للحصول على إجابة ملائمة لمسألة سياسية هو القدرة على تمثيلها على وجه التحديد والثاني هو القدرة على تطبيقه على فئات سياسية بحتة والتي قد تكون بدورها ملائمة إلى حد ما أكثر أو أقل تطوراً، وإن كتلة الأجوبة التي تعتبر إجابات سياسية تتم في الواقع وفقا للطبقة العرقية غير إن ذلك ليس من المستحيل تطبيقه في عالمنا العربي إنما الحق نقوله انه لا يمكننا أصلا التفكير بوجوده أو حتى الحلم بعمله!!! وبالتالي قد تكتسب تلك الاستطلاعات المزيفة معنى مختلفا تماما عندما يتم عرضها وبحثها وتحليلها على أوضاع المجال والحياة السياسية.
في رأيي ينبغي التشكيك في أهمية الإجابات على معظمها لان السلسلة الأولى منها تسيء وتؤثر على الابتكار في العلاقات الاجتماعية وتكون في مستوى ارتفاع مكانة المستجيب في التسلسل الهرمي الاجتماعي وتفوق مستوى التعليم، وعلى العكس من ذلك فإن الأسئلة التي تؤثر على أنواع التغيرات الفعلية في علاقات القوة بين الطبقات كلما زاد رفض المجيبين أكثر كلما كان المدعى عليه أعلى في التسلسل الهرمي الاجتماعي، وبكل بساطة وخلال استطلاع الرأي العربي العام، لا الأسئلة التي تطرح في الواقع يتم تنفيذ تفسير الإجابات لهها بغض النظر عن الإشكالية التي تنعكس حقا في إجابات فئات مختلفة من المجيبين وان المشاكل المسيطرة هي فكرة تدور لتعطي قائمة بالأسئلة التي طرحتها مؤسسات المسح أي المشاكل التي تهم في المقام الأول أولئك الذين يريدون أن يكونوا على علم بوسائل تنظيم أعمالهم السياسية فيتم استيعابهم بشكل غير متساو من قبل الطبقات الاجتماعية المختلفة، وإذا كانت استطلاعات الرأي العام تفهم بشكل سيئ حالات الرأي المحتملة فإن السبب هو وضع مصطنع يتم فيه تسجيل آراء الناس بواسطة صناديق الاقتراع وفي الأزمات تتكون حالات الرأي عبر توجيه الشعوب بآراء متشعبة وآراء مدعومة من قبل مجموعات سياسية تابعة للنظام بصور فردية أو فوضوية وبالتالي فإن الاختيار بين الآراء يعني الاختيار بين المجموعات التابعة للحاكم، وهذا هو مبدأ تأثير التسييس الناجم عن فحوى وامتداد الأزمات. وكما إن هناك آراء تشكلت وحشدت وانضغطت بجماعات حول النظام في إشكال واضحة من المصالح المتقاطعة، ولذلك فأن الاستطلاعات هي ليست آراء حقيقية، وبياناتها ونتائجها ليست مقبولة وذلك حينما يطلب دوما من المشاركين فيها أن يختاروا موقفًا بين الآراء المُصاغة، وما إن يتم ذلك عن طريق الجمع الإحصائي البسيط للآراء المنتجة حتى يتم بهذه الطريقة إنتاج وإعلان النتائج والتي هي بجملتها منافية للوقائع ومناقضة وشاطبة لحقيقة الرأي العام. وإن حقيقة عزف الشعوب عن التعبير أو عدم الإصرار عليه تتضح عبر حقيقة أن همة الاستعدادات للعديد من الفئات الاجتماعية والإرهاب والإرعاب السياسي المتعمد ازائها يمنعها من الوصول لوضعية طرح الرؤية الصريحة لها أي أنها غير مكتملة وغير متمكنة لكنها تدعي تماسك التعبير وحاجة الاستجابة العامة، وأن الناس الذين ليس لديهم رأي سيختارون في جو من الأزمات وعن طريق الصدفة، لذلك أوقن وأؤكد أن الرأي العربي العام الصريح لا وجود له ومحدد في الكبت الحاد والصمت المفجع والرأي المكبوت حد النهاية.
بقلم/ الدكتور ميثاق بيات ألضيفي
برج بابل
- التفاصيل
- كتب بواسطة: صباح شاكر العكام
تعد حضارة وادي الرافدين من اقدم الحضارات التي بناها الانسان القديم كالحضارة السومرية والحضارة البابلية والحضارة الآشورية، وان اقدم الاقوام كانت قد استوطنت في هذه الارض فشيدت فيها الكثير من المدن العامرة والمعابد الفخمة، لقد اقامت هذه الاقوام حضارات راقية ففيها وضع اول حرف وأسست اول مدرسة وفيها وضعت اولى الشرائع، ولخصوبة ارضها ووفرة مياهها ازدهرت فيها الزراعة وتربية الحيوانات، ومن هذه المدن مدينة بابل والتي حكم فيها ملوك عظماء مثل حمورابي ونبوخذنصر الثاني وغيرهم اللذين عملوا بجد واخلاص من اجل توحيد ارض بلاد الرافدين واقامة حضارة عظيمة عليها .
تميزت بلاد ما بين النهرين بكثرة معابدها (هياكلها)، التي كانت لها عدة وظائف منها وظيفة دينية فتمارس فيها الطقوس العبادية للآلهة، ووظيفة سياسية فكانت مركزاً لإدارة الحكم ولها وظيفة اقتصادية فكانت مخزناً للغلال يضم الفائض من الانتاج الزراعي وما يضاف إليه من هدايا الملوك ونذور الرعية كما يمتلك المعبد اراضي زراعية واسعة يعمل فيها الفلاحون . كانت المعابد تشيد فوق زقورات(1) مدرجة، وما برج بابل إلا احدى هذه الزقورات، وهو من المعالم المهمة التي اشتهرت بها مدينة بابل والذي ذكر في التوراة وفي بعض الالواح الطينية التي عثر عليها خلال التنقيبات الآثارية وفي مدونات الرحالة الذين زاروا مدينة بابل، والذي يقع إلى الجنوب من القصر الجنوبي للملك نبوخذ نصر الثاني .
سمي برج بابل بالعبارة السومرية (اي- تمن- آن- كي) والتي تعني " بيت أسس السماء والارض" وقد بني قرب أشهر المعابد البابلية (اي- ساكلا) الذي يعني البيت الشامخ أو الرفيع، وهو المعبد الخاص بعبادة كبير آلهة بابل (مردوخ)، وقد اقترن هذا البرج بأسطورة "بلبلة الالسن" التي ذكرت في التوراة في سفر التكوين(2) .
برج بابل في التوراة:
لقد جاء في العهد القديم (التوراة) ان هنالك قوم يتكلمون لغة واحدةً قد شدو رحالهم نحو الشرق حتى وصلوا الى ارض شنعار(3) وسكنوا فيها، فصنعوا لبناً مشوياً (استخدم في البناء بدل الحجر)، واستخدموا القار بدل الطين لتثبيت اللبن المشوي، فبنوا مدينة فيها برجاً رأسه في السماء . فنزل عليهم الرب ليرى المدينة والبرج فقال لهم بانهم شعب موحد يتكلمون لغة واحدة، فبلبل لسانهم وبددهم على وجه كل الارض فسميت مدينتهم (بابل)، وكما ورد في سفر التكوين في الاصحاح (11): (وكانت الارض كُلُّها لساناً واحداً ولغةً واحدةً * وحدث في ارتحالهم شرقاً أنهم وجدوا بقعة في ارض شنعار وسكنوا هناك * وقال بعضهم لبعض (هلم نصنع لبناً ونشويه شياً) فكان لهم اللبن مكان الحجر، وكان لهم الحُمَرُ مكان الطّين * وقالوا: (هَلُّمَ نبن لأنفسنا مدينة وبرجاً رأسه بالسماء ونصنع لأنفسنا اسماً لئلا نتبدّد على وجه كُلّ الارض) * فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما * وقال الربُّ: (هو ذا شعبٌ واحدٌ ولسانٌ واحدٌ لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل .والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يفعلوه * هلُمَّ ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض) * فبدَّدهُم الرّب من هناك على وجه كلّ الارض، فكفُّوا عن بنيان المدينة، لذلك دُعِيَ اسمها (بابل) لأن الرَّبَّ هناك بَلبَلَ لسان كلَّ الارض . ومن هناك بدَّدهم الرَّبُّ على وجه كل الارض .
يتضح من ذلك أن ما ورد في التوراة من بلبلة ألسن الناس هو فبركة يهودية للإساءة لسمعة بابل، لان كلمة بابل تتألف من كلمتين اكاديتين: (باب أيلو) أي (باب الاله)، كما ورد في التوراة الغرض من انشاء البرج بشكل مغاير للغاية التي انشأ من اجلها .
برج بابل في الالواح الطينية:
اختلفت المدونات التاريخية والآثارية حول تاريخ برج بابل وابعاده الهندسية، ولم يعرف متى شيد هذا البرج، فلم تشر النصوص المسمارية إلى وجود البرج في زمن الملك حمورابي (1792 ق.م - 1750ق.م) لعدم الاشارة إليه في المقدمة التي كتبت في شريعته والتي تحدثت عن جميع المعابد في بابل وصفاتها بضمنها معبد (أي- ساكلا) دون ذكر البرج . ولكن النصوص المسمارية التي تشير إلى ملوك العصر البابلي الحديث كانت تتحدث عن برج بابل وكأن له تاريخاً أقدم من تاريخهم بكثير . كان هنالك نصان مسماريان ذكر فيهما اعادة بناء البرج الاول للملك البابلي نبوبلاصر(625 ق.م – 605 ق.م) والذي جاء فيه " أمرني الرب مردوخ بشأن برج بابل المدرج، الذي كان قبل زماني قد أصابه البلى والخراب، أن أوطد اسمه في حضن العالم السفلي وأجعل قمته كالسماء "(4)، وقد أمر الملك بصنع الآجر من الطين المشوي، وقام بنفسه بتثبيت أبعاد البرج ومشاركته الفعلية بالبناء وقد حمل على رأسه الآجر والتراب وهو في رداءه الملكي، ووضع في اسس البرج تحت الآجر ذهباً وفضة وأحجاراً كريمة من الجبال ومن البحر .
والنص المسماري الآخر للملك البابلي نبوخذنصر الثاني (604 ق.م – 562 ق.م) أبن الملك نبوبلاصر الذي أشاد ببناء البرج من قبل أبيه ومساهمته الفعلية ببنائه عندما حمل الآجر والتراب على رأسه، وقد قام بإكمال بناء البرج بتوفير اعداد ضخمة من العمال من رعاياه ومن العمال الاجانب، وتوفير كمية ضخمة من مواد البناء، وقد جاء في النص المسماري: " كل الشعوب من أمم عديدة أجبرتها على العمل في تشييد البرج (أي – تمن – آن – كي)، وأقمت المسكن العالي لربي مردوخ على قمته "(5) . ولم يدونا نبوبلاصر وأبنه نبوخذنصر في النصين المسماريين أبعاد البرج .
في أثناء التنقيبات الآثارية وجد لوح من العهد السلوقي (القرن الثالث قبل الميلاد) في زمن الملك سلوقس الثاني(6)، (اكتشف سنة 1913م) يشرح أبعاد البرج كتبه كاتب بابلي اسمه (اتو- بيل- شونو) سنة (229 ق.م) والذي يَصف برج بابل:
يتكوّن برج بابل من ستِّ طبقات كما ذُكرت في اللوح الحجري مبنيّة فوق مِصطبة أو قاعدة مربعة الشكل طول ضلعها 91,55 م (295 قدم)، وهذه المصطبة لها أربعة أبواب من الجوانب، ويقال ستّة أبواب، تؤدي هذه الأبواب لمعابد مختلفة، مثل بوابة الشّمس، والبوابة الكبيرة، والبوابة العظيمة، وبوابة التماثيل، وبوابة القتال، وبوابة منظر البرج، ويعلو هذه المصطبة بناء ضَخم.
فالطبقة الأولى للبرج أكبر الطبقات، ومن ثمّ تعلوها الطبقة الثّانية، وهي منحدرة ومائلة في بنائها، ثمّ تأتي الطبقة الثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة فجميعها متساوية في ارتفاعها، ولكنّها مختلفة بالمساحة، حتى تُشكّل برجاً لولبياً ومدرّج، وعلى قمّة البرج يوجد المعبد الأعلى للإله مردوخ، ولا وجود لأيّ تماثيل له.
قياسات برج بابل التي اعتمدها العلامة طه باقر والتي وردت في اللوح السلوقي(7):
الطول (بالقدم) العرض (بالقدم) الارتفاع (بالقدم)
الطبقة الاولى 295 295 108
الطبقة الثانية 256 256 59
الطبقة الثالثة 197 197 19.75
الطبقة الرابعة 167.5 167.5 19.75
الطبقة الخامسة 138 138 19.75
الطبقة السادسة 108.5 108.5 19.75
الطبقة السابعة 79 79 49
وصف الرحالة هيرودوتس لبرج بابل:
جاء في تاريخ هيرودوتس (8) (الكتاب الاول) الفقرة 181 عند زيارته لمدينة بابل سنة (460 ق.م) ما يأتي:
في حارة الإله بعل(9) المقدسة وهي فناء مربع طول كل ضلع من أضلاعه 800م (2880 قدم تقريباً)، وذو أبواب من البرونز الصلد، ويقع وسط ذلك الفناء برج ذو بناء متين، اقيم فوقه برج ثانٍ، وعلى هذا برج ثالث وهكذا إلى البرج الثامن الاعلى . وكان الصعود إلى القمة من الخارج بواسطة سلم يدور حول جميع الابراج . وعندما يبلغ المرء منتصف المسافة في صعوده فإنه يجد موضعاً للجلوس لغرض الاستراحة . ويوجد فوق الطبقة العليا معبد فسيح وضع في داخله سرير عظيم بديع الصنع ومزين بزينة فاخرة، وبجانبه منضدة من الذهب . ولا يوجد أي تمثال في هذا المعبد، كما لا يشغل الحجرة في أثناء الليل أحد سوى امرأة يقول عنها كهنة هذا المعبد: إن الإله اصطفاها لنفسه من بين نسوة البلاد، وإن الإله يأتي أحياناً إلى المعبد وينام على السرير.
بقايا برج بابل:
على مر العصور وحتى عصرنا الحديث استمر الخراب والعبث ونقض آجر البرج بحيث لم يجد المنقبون من بقايا البرج سوى أسس قاعدته السفلى العميقة وهي قلب القاعدة يحيط بها خندق مربع الشكل كان بالأصل أسس جدران القاعدة .
صباح شاكر العكام
.........................
الهوامش:
(1) الزقورات: هي صروح مدرجة شيدت على عدة طبقات، وشيد فوق الطبقة العليا معبد صغير .
(2) طه باقر – مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة – ص628
(3 ) أرض شنعار: بلاد ما بين النهرين (العراق القديم) كما سميت في التوراة .
(4) اندريه بارو – برج بابل – الموسوعة الصغيرة، ص18 .
(5) اندريه بارو – برج بابل – الموسوعة الصغيرة، ص20
(6) سلوقس الثاني: ثاني ملوك الدولة السلوقية، حكم بين سنة (246 ق.م. - 225 ق.م.).
(7) طه باقر - مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ص631 .
(8) هيرودوتس: مؤرخ إغريقيا يوناني عاش في القرن الخامس قبل الميلاد (حوالي 484 ق.م - 425 ق.م). اشتهر بالأوصاف التي كتبها لأماكن عدّة زارها حول العالم المعروف آنذاك، ومن المحتمل أنه زار مدينة بابل بحدود سنة (460 ق.م) .
(9) بعل: هو أحد الآلهة في بلاد الشام وآسيا الصغرى، وهو إله العواصف والرعود والبروق والأمطار، وفي اللغات السامية تأتي على شكل لقب أو تأتي كاسم نكرة ويستدل من أنها تعني: السيد أو الملك .
المصادر:
1- العهد القديم (التوراة) - دار الكتاب المقدس في الشرق الاوسط، القاهرة
2- طه باقر- مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة – دار الوراق للنشر، 2009م .
3- عبد القادر عبد الرزاق الشيخلي - الوجيز في تاريخ العراق القديم - دار ومكتبة عدنان، بغداد، 2014م .
4- فراس السواح – مغامرة العقل الاولى – دار التكوين للطباعة والنشر، 2016م .
5- حميد المطبعي - رحلة إلى بابل التاريخية – الدار العربية للعلوم، بغداد،2011م .
6- اندرية بارو – برج بابل – ترجمة جبرا ابراهيم جبرا – الموسوعة الصغيرة، وزارة الثقافة والاعلام العراقية، 1980 م .
ديالكتيكية التنوير
- التفاصيل
- كتب بواسطة: حاتم حميد محسن
كتب ادورنو وزميله هوركهايمر رسالة هامة اثناء حياتهما في المنفى ليتوصلا الى رؤية تشاؤمية عن الحياة في نظام زائف. كتاب ديالكتيكية التنوير لثيودور ادورنو وماكس هوركهايمر هو ربما " أهم اصدار لمدرسة فرانكفورت".
قامت مدرسة فرانكفورت مجتمعة بتطوير نظرياتها في عالم دمرته الحرب العالمية الاولى. جمهورية ويمر(1) شكلت صدمة نفسية خطيرة للمجتمع حين تحطمت العديد من اليقينيات القديمة الى اشلاء متناثرة. وما هو اسوأ من ذلك، لم يبرز أي شيء من بين ذلك الحطام ليعطي الناس املاً في المستقبل.
عندما فشلت الديمقراطية الليبرالية وتحولت ويمر الى نازية، اضطرجميع اعضاء هذه المدرسة وهم من المثقفين الماركسيين اليهود الى الهروب خارج البلاد الذي تحوّل ضدهم لأسباب عنصرية وسياسية. احد اهم اعضائها البارزين ولتر بنيامين قتل نفسه عام 1940 على الحدود الاسبانية الفرنسية، وهو الحادث الذي ترك باقي الأعضاء في كآبة شديدة.
وبعد ان غيّروا بلدهم اكثر مما غيروا احذيتهم كما يقول برتولت بريت، انتهى بهم الحال في الولايات المتحدة اثناء سنوات هتلر، ورغم ان هذا كان ملاذا لهم، لكنه ليس المجتمع الذي يوفر الانسانية. ارنست بلوتش وصف الولايات المتحدة بـ "طريق مسدود مضاء بالنيون" وهم شعروا ان المجتمع الملزم للسعي وراء السعادة الفردية كان مثالا لعالم من الضحالة والنفاق واللااصالة. في واحدة من اهم حكايات ادرنو الشهيرة في Minima Moralia (2) التي نشرها عام 1951 يقول من غير الممكن ان تعيش حياة حقيقية في نظام زائف.الشيء الاكثر اهمية في هذا النص، ان المفكرين من مدرسة فرانكفورت لم يميزوا كثيرا بين مختلف أشكال الراسمالية سواء ديمقراطيات استهلاكية كانت ام دكتاتوريات فاشية. ورغم ان السطح الظاهر للآليات الظالمة كان مختلفا بشكل واضح، لكن بالنسبة لهم القاعدة الاساسية لرأس المال كانت ذاتها.
ديالكتيكية التنوير يصل الى رؤية متشائمة حول ما يمكن القيام به ضد نظام زائف والذي، من خلال "صناعة الثقافة" يخلق باستمرار وعيا زائفا حول العالم الذي حولنا مرتكزا على الاساطير والتحريفات التي انتشرت بقصد لمنفعة الطبقة الحاكمة.
هذا بالطبع ليس غريبا على الرأسمالية، ولكن الرأسمالية تتخذ شكلها السلعي الكامل لكي نصبح مستهلكين راغبين ومنتجين للاغتراب. بالنسبة لادرنو وهوكمر، الثقافة الاصيلة لا تتساوى ببساطة مع الثقافة العالية، والتي هي سلعية بنفس المقدار. الثقافة الاصيلة تقاوم بشكل مباشر التسليع وتعاقب المشاهدين بسبب توقعهاتهم للترفيه .
وبالاعتماد على نظرية الديالكتيك السلبي، تجادل ديالكتيكية التنوير بان قيم التنوير ذاتها ليست تقدمية بشكل اوتوماتيكي وان عملية التحرير المحتملة للحرية الانسانية كما عرضها هيجل وماركس جرى إضعافها باستعبادنا ضمن شمولية العلاقات الاجتماعية الرأسمالية.
رؤيتهم هي ان الفاشية والستالينية ورأسمالية المستهلك كلها انتج الانتشار الواسع للانماط الاجتماعية لوسائل الانتاج وتوسيع نطاق الشركات مع دور مركزي للدولة.
هذا الالتقاء ترافق مع اسوأ استغلال للطبقة واستبدلها بنوع من التواطؤ الاجتماعي بين الطبقات بالرجوع الى الميثولوجيا والسيطرة الايديولوجية.
السيطرة تمت ليس فقط عبر القمع المباشر وانما من خلال مظاهر غير ايديولوجية لحياتنا اليومية وخاصة الطرق التي تشجع بها الحداثة على إنجاز ومتابعة الرغبات بدلا من سحقها او السيطرة عليها. هنا، جاءت السادية الى جانب نيتشة لإظهار كيف ادّت الحداثة والتنوير الى إعادة تقييم منظومة القيم واضعفت كل التقاليد. ماركس ايضا لاحظ ان الرأسمالية قادت الى ان (كل ما هو متماسك تبخر في الهواء). ان ما حصل من سوء فهم في هذه المسألة هو ان مدرسة فرانكفورت لم تكن السبب في الانهيار الظاهر للقيم الاجتماعية وانما كانت تجذب الانتباه للطريقة التي كانت بها الرأسمالية وبإصرار تحطم اليقينيات القديمة.
في قسم اللاّسامية هما يوضحان الطرق التي اُستعملت بها الاساطير حول اليهود من جانب كل من الفاشية والليبرالية الديمقراطية لخلق جماعة خارجية يمكن القاء اللوم عليها لكل المشاكل. هذا بلغ ذروته في النظرية النازية بان العالم خضع لمؤامرة يهودية فيها موّل المصرفيون اليهود الاغنياء الشيوعيين لكي يسيطر رأس المال على القيم الانتاجية التقليدية الجيدة.
فرويد دخل في اللعبة هنا بالقول ان كراهية الآخر(هنا اليهود، ويمكن ان يكون اي جماعة اخرى) هي في الحقيقة طريقة لإخفاء الغيرة عما لديهم، ليس بالنسبة للثروة، وانما في تقاليدهم الجمعية الظاهرة والتماسك الاجتماعي، الذي حافظوا عليه بينما الامة المضيفة تتآكل من حولهم. الفاشية هكذا نجحت ليس بسبب قمعها وانما لأنها تجيز وتشجع رغباتنا العميقة لإيجاد سببا لإشتراكنا او قبولنا الخطأ.
حاتم حميد محسن
....................
الهوامش
(1) جمهورية ويمر هو الاسم التاريخي اللارسمي للدولة الالمانية من 1918-1933. الاسم مشتق من مدينة ويمر التي عُقد فيها اجتماع الجمعية الدستورية اول مرة، اما الاسم الرسمي للجمهورية (جمهورية الرايخ) بقي لم يتغير منذ عام 1871. بعد ان عقدت الجمعية الوطنية اجتماعها في ويمر كُتب دستور جديد وجرى تبنّيه في 11 اغسطس عام 1919. وطوال سنواتها الـ 14 واجهت جمهورية ويمر مشاكل هائلة بما فيها التضخم المتسارع، التطرف السياسي(لكلا جناحي اليمين واليسار تدعمهما قوى مسلحة) بالاضافة للعلاقات الشائكة مع المنتصرين في الحرب العالمية الاولى. الاستياء في المانيا تجاه معاهدة فرساي بدأ يتصاعد خاصة في جناح اليمين حيث هناك غضب شديد تجاه اولئك الذين وقّعوا على المعاهدة وخضعوا لشروطها، لكن جمهورية ويمر لبّت معظم شروط المعاهدة. ومنذ عام 1930 فصاعدا، استعمل الرئيس هندبيرغ قانون الطوارئ لدعم المستشارين. الكساد الكبير المتزايد في ظل سياسة الانكماش قاد الى ارتفاع حدة البطالة. في عام 1933 قام هندبيرغ بتعيين ادولف هتلر مستشارا للدولة وجعل حزبه النازي جزءا من ائتلاف الحكومة حيث استلم النازيون مقعدين من مجموع المقاعد الوزارية العشرة للحكومة. وخلال اشهر، تم فرض حالة الطوارئ وفقا لقانون تفويض السلطات لعام 1933. وهنا تم إلغاء تام للحكومة الدستورية والحريات المدنية مع سيطرة هتلر التامة على الحكومة. هذه الأحداث وضعت حدا لجمهورية ويمر حيث انهارت الديمقراطية وبدأ عصر جديد للدكتاتورية النازية بتاسيس دولة الحزب الواحد .
(2) minima moralia هو عنوان كتاب للفيلسوف ثيودور ادرنو نُشر عام 1951. ادرنو بدأ في كتابة الكتاب اثناء الحرب العالمية الثانية حين كان يعيش في المنفى في امريكا، ثم اكمل الكتاب عام 1949. عنوان الكتاب مشتق من Magna Moralia وهو كتاب في الاخلاق يعود تقليديا لارسطو. في مقدمة الكتاب رسالة عن الموضوع الذي يهتم به الكتاب وهو "تعليم الحياة الجيدة"، وهي الفكرة المركزية في الاصول اليونانية والعبرية للفلسفة الغربية. في اواسط القرن العشرين يؤكد ادرنو ان الحياة الجيدة والنزيهة لم تعد ممكنة لأننا نعيش في مجتمع لا انساني. في بداية الكتاب يضع ادرنو عبارة ان "الحياة لا تُعاش". يوضح الكاتب هذا في سلسلة من الكتابات القصيرة والامثال التي تتوزع على طول الكتاب منتقلا من الممارسات اليومية الى المعالم المقلقة للنزعات العامة للمجتمع الصناعي. المواضيع تضمنت الطبيعة التدميرية للالعاب، حالات اليأس والاحباط على مستوى العائلة، عدم حقيقة ما هو حقيقي، تآكل الحوار، تصاعد الايمان الماورائي. يبيّن ادرنو كيف ان تغيرات بسيطة في السلوك اليومي تنعكس في العلاقة مع الأحداث الكارثية للقرن العشرين.
الانتخابات الفلسطينية.. استحقاق دستوري ووطني وسياسي
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. باسم عثمان
وليست خيارا سياسيا!!!
ما يغيب عن غالبية المنشورات الحزبية الفصائلية والإعلامية السياسية على منصات الاعلام وداخل اروقة الصالونات الأدبية التوصيفية،ان الانتخابات الفلسطينية (التشريعية والرئاسية) المزمع اجراؤها، انها تحتاج وبالدرجة الأولى الى الإرادة السياسية لأصحاب القرار الفلسطيني في الضفة والقطاع، وتحتاج أيضا الى التوافق الوطني على الإجراءات الإدارية لإنجازها و ترتيبها ونجاعتها،حتى لا تتحول الى كارثة وطنية – بقصد او بدون قصد – من انقسام سياسي اداري الى انفصال اداري وجغرافي سياسي تتكرس فيه الكانتونات الجغرافية الفلسطينية (في الضفة وغزة والقدس)، وبالنتيجة، خدمة مجانية ميدانية لأهداف المشروع الأمريكي – الإسرائيلي وتجلياته السياسية في عناوين صفقة القرن الامريكية.
وما يغيب أيضا عن التفكير الفلسطيني الرسمي، ان هذه الانتخابات المركبة : الدستورية الإدارية والسياسية الوطنية، هي اجراء مركب: إداريا و سياسيا، تتعلق برافعتي الحالة الفلسطينية بشقيها: منظمة التحرير الفلسطينية كائتلاف وطني عريض تمثيلي وسياسي، والسلطة الفلسطينية باعتبارها احدى مكونات الحالة الوطنية الفلسطينية ومعنية بدورها الإداري الخدماتي الجغرافي لجزء من الشعب الفلسطيني المتواجد على ارضه المحتلة، والتي تتمايزعن دور ومهام منظمة التحرير الفلسطينية كاطار تمثيلي – سياسي لحركة التحرر الوطني الفلسطيني لإنجاز استحقاقات مشروعها الوطني في الحرية والاستقلال، في حين ان السلطة تمثل الأداة الوطنية واحدى إنجازات الأخيرة (م.ت.ف) على طريق تحقيق السيادة الوطنية.
هذا الموقف ينطلق في تعاطيه من الانتخابات من مجموعة حقائق:
الحقيقة الأولى: ان السلطة الفلسطينية ليست كيان سيادي سياسي، طالما هي تحت الاحتلال، وهي ليست ممثلة لعموم الفلسطينيين (إداريا وسياسيا ووطنيا) و لطالما تقتصر في ادارتها ورعايتها على الفلسطينيين المتواجدين في الضفة والقطاع والقدس، وهذه الإدارة لشؤون الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني تعكس نفسها بصورة او بأخرى، على صمود شعبنا وادواته الوطنية والاجتماعية لإنجاز مشروعه الوطني، لذلك، فهي ادارة مهمة بالمفهوم الوطني وتعكس معطى سياسي في معركتنا الوطنية السياسية، لهذا، فان بنية السلطة وتركيبتها وان كانت ليست سياسية فهي تؤدي لنتائج سياسية .
الحقيقة الثانية: ان شعبنا يدرك تماما انها انتخابات تحت سقف الاحتلال، وهي انتخابات إدارية من جانب، وسياسية من جانب اخر، لمكونات الحالة الفلسطينية بشقيها (منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية)، لذلك، لا بد من انتاج ومن خلال التجديد الانتخابي لإدارة ذاتية ملتزمة بثوابت شعبنا الوطنية وحقوقه المشروعة - معطى وطني- لأفشال أهداف المشروع السياسي للاحتلال الإسرائيلي وتجلياته الميدانية من خلال تعزيز صمود شعبنا على ارضه و الحفاظ على الثوابت الوطنية، ومن حيث المبدأ، كل مؤسساتنا المدنية والوطنية والاجتماعية تحت سقف الاحتلال (البلديات، الجامعات، التعليم، الصحة ..الخ)، لذلك،لا مبرر للتعاطي مع المنطق الانتقائي مع ما هو تحت سقف الاحتلال وبما يخدم رؤى حزبية ضيقة، ورفض ما هو تحت سقف الاحتلال ولنفس الغاية، الا اذا كان ذلك يكرس الهروب الى الامام من استحقاقات الهم الوطني وتعبيراعن الإفلاس والاستسلام والانبطاح السياسي.
الحقيقة الثالثة : والمهمة والتي يجب ان لا تغيب عن بالنا وتحليلاتنا السياسية، ان الانقسام في الحالة الفلسطينية أيضا مركب : هو انقسام اداري سلطوي من جانب، وانقسام سياسي وطني من جانب اخر، الأول سبيله الوحيد للخلاص منه :هو اجراء الانتخابات الادارية في الضفة والقطاع والقدس، والثاني سبيله الوحيد للخلاص منه : هو بأطلاق باكورة الحوار الوطني الفلسطيني لإنتاج الرؤية الاستراتيجية الوطنية الفلسطينية التوافقية استجابة لمتطلبات عودة النهوض الوطني الفلسطيني مجددا، وبما يعزز من مكانة منظمة التحرير وصدارتها وقيادتها للمشروع الوطني الفلسطيني وإنجاز مهامها كحركة تحرر وطني .
إن تنفيذ أي من هذه الاستحقاقات الوطنية يتطلب القيام بالخطوات الآتية:
- على الرئيس الفلسطيني الإعلان عن موعد إجراء الانتخابات، إثر انجاز لجنة الانتخابات المركزية للمشاورات التي تقوم بها وتقديم تقريرها، ضمن الحدود الزمنية المحددة في بنود المحكمة الدستورية.
- ان يدعو الرئيس الفلسطيني هيئة تفعيل وتطوير مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية والمكونة من الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية وأعضاء اللجنة التنفيذية ورؤساء المجالس التشريعية الفلسطينية وشخصيات وطنية واجتماعية ومدنية لتفعيل المؤسسات ولبلورة رؤية وطنية توافقية للأجماع الوطني واستراتيجيته المقاومة.
- الاتفاق على اعتماد النظام الانتخابي النسبي الكامل لإتاحة الفرصة لمشاركة كافة أطياف الفصائل والقوى السياسية والاجتماعية الفلسطينية وضمان تمثيلها في التشريعات الفلسطينية وفقا لحجمها النسبي في المجتمع الفلسطيني، أو: اعتماد نظام انتخابي على مستوى الدوائر، والذي قد يتيح مشاركة قوائم المستقلين في الدوائر لضمان وصول شخصيات محلية مستقلة قد لا تكون لها فرصة لإقامة قوائم على مستوى الوطن، أو: اعتماد نظاماً انتخابياً نسبياً مختلطاً، بحيث يتم انتخاب نصف مقاعد المجلس التشريعي "البرلمان" عبر قوائم على مستوى الوطن، والنصف الثاني عبر قوائم على مستوى الدوائر.
- التعهد من قبل " سلطتي طرفي الانقسام الإداري والسياسي في الضفة والقطاع" بضمان حرية ونزاهة الانتخابات، وضمان احترام نتائجها والتسليم بها.
-تكليف لجنة الانتخابات المركزية بالتحضير للانتخابات ووضع الخطط الكفيلة بمنح المصداقية للعملية الانتخابية وتعزيز نزاهتها وشفافيتها من خلال وجود هيئات رقابة دولية تحظى بثقة الاطراف الفلسطينية، سواء أكانت من هيئة الامم المتحدة أو من أطراف فلسطينية أو عربية أو إسلامية ومنظمات اجنبية.
نحن احوج إلى بلورة استراتيجية وطنية متماسكة وعلى أعلى المستويات للبحث في كيفية مشاركة الجميع وبدون استثناء في هذه الانتخابات، وتوفير ضمانات فعلية لإنجاز هذا الاستحقاق الوطني بشقيه الإداري والسياسي، وميدان الاتفاق على هذا من خلال حوار وطني عام وشامل يقوده الرئيس عباس ويشارك فيه أعضاء اللجنة التنفيذية ورئيس المجلس الوطني الفلسطيني والامناء العامون لفصائل العمل الوطني وشخصيات مستقلة، هذا هو الإطار الوحيد الذي يمكن من خلاله أن نصل إلى تفاهمات تمكننا من اجراء الانتخابات في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، وغير ذلك، ستقودنا الانتخابات بدون الإجراءات والاليات التمهيدية لها ولنجاحها، الى كارثة وطنية يصعب التنبؤ بنتائجها.
ان نجاح أنجازهذا الاستحقاق الوطني -وهو ليس خيارا سياسيا تكتيكيا بالمناسبة -في الإرادة السياسية الفلسطينية الخالصة، ولا يحتاج الى مكياج الاجندات والتكتيكات الاستعراضية والفئوية الفصائلية، قالها الشعب الفلسطيني وسيقولها مجددا:" لقد بلغ السيل الزبى".
د. باسم عثمان
كاتب وباحث سياسي
السيد بينيت والسيدة براون
- التفاصيل
- كتب بواسطة: خضير اللامي
فرجينيا وولف: محاضرة لفرجينيا وولف ..
ترجمة: خضير اللامي
***
يبدو أنني الشخص الوحيد(1) في هذه القاعة الذي ارتكب حماقة الكتابة؛ أو حاول كتابة الرواية (2)؛ أو اخفق في كتابتها . تساءلت مع نفسي بعد دعوتكم لي في أنْ اتحدث اليكم عن الرواية المعاصرة . أيّ عفريت هذا الذي همس في اذنيَّ، وحثني ازاء قدري وبرز أمامي على هيأة رجل أو امرأة . "أنا براون، إمسكي بي إنْ كان بمقدورك؟!"
معظم زملائي الروائيين يمرون بهذه التجربة . بيد أنَّ الإختلاف في إسم العفريت، البعض اسمه براون، والآخر سمث، أو جونز، يظهر أمامهم ويتحدث بطريقة مغرية جدا، وساحرة في الغالب، (ها أنذا أمامكم هل تستطيعون الإمساك بي؟!) وهكذا يستدرجهم بهذه الطريقة السرابية . ويروح الروائيون يتخبطون في كتابة رواية بعد أخرى، ويقضون جلَّ سنين أعمارهم في المطاردة، ولا يتسلَّمون مقابل ذلك إلاّ جزءا قليلا من الأجر، والبعض الآخر لا يقبض إلاّ الريح . والغالبية منهم تقنع بخرقة بالية من بدلة تلك الشخصية، او خصلة شعر من رأسها .
واعتقد أنًّ النساء والرجال ممن يكتبون الروايات يستخدمون طعما في خلق شخصية روائية تفرض نفسها عليهم، وعلى وفق مواصفات السيد آرنولد بينيت للشخصية . ففي مقالة له أقتبس هذه الفقرة " فأساس الرواية الجديدة هو خلق الشخصية، ولا شيء آخر . فالإسلوب يؤثر، والحبكة تؤثر، ووجهة النظر الأصيلة تؤثر، ولكن، لا شيء له تأثير فاعل ابدا، مثل تأثير الشخصيات، فإنْ كانت الشخصيات واقعية، فثمة فرصة لها، وإنْ كان العكس، فالنسيان سيكون من نصيبها، ويستنتج السيد بينيت في ختام مقاله .. إنه ليس لدينا روائيون شباب، مهمون من الدرجة الاولى في الوقت الحاضر؛ لانهم غير قادرين على خلق شخصيات واقعية وحقيقية ومقنعة . "
هذه هي المسائل التي أريد أنْ أناقشها، واريد أنْ أبرهن، ماذا يعني حينما نتحدث عن (الشخصية) في الرواية . لنذكر شيئا ما عن السؤال الذي اثاره السيد بينيت عن الواقعية، ولنقدِّم بعض الأسباب عن إخفاق الروائيين الشباب في ابداع الشخصيات الروائية، فإذا هم كما يؤكد السيد بينيت فشلوا حقيقة في هذه المهمة، وهذا سيقودني، وانا واثقة من ذلك الى بعض المسوحات والتأكيدات الغامضة جدا، ذلك أنَّ السؤال غاية في الصعوبة . ألا تتفقون معي أننا لا نعرف إلاّ النزر اليسير عن الشخصية، ومعلوماتنا تقتصر على الشيء القليل من الفن؟ ولكن، لا بد لي من أنْ اكون واضحة قبل أن اشرع بالإجابة، هو أنْ نصنف الكتّاب الادوارديين (3) والكتاب الجورجيين (4) الى مخْيميْن، وسأطلق على السيد ويلز والسيد بينيت والسيد غالزوورثي مخيم (الإدوارديين) والسادة، فورستر ولورنس وستراشي وجويس واليوت مخيم (الجورجيين) . فإن تحدثت باسم ضمير المتكلم المفرد الاول وبذاتية ربما لا تطاق، فإنني استميحكم مقدما العذر، فانا لا اريد ان اعزو الى نفسي عالم الاراء الانعزالية، والفردية المضللة والسرد المريض .
فتأكيدي الأول، هو احد التاكيدات التي اعتقد انكم ستخولونني إياها – إنَّ كل شخص كما افترض هو محلل في هذه القاعة، وفي الواقع، سيكون من المستحيل أنْ تمر سنة دون ان تلّم بنا كارثة، ولا يمكن مواجهتها ما لم يمارس المرء قراءة الشخصية، ويمتلك شيئا من المهارة في الفن، فعلاقاتنا الزوجية وصداقتنا تعتمد عليها، وشؤون عملنا ترتكز عليها بقدر او آخر، وفي كل يوم يمر تثار اسئلة لا يمكن حلها الا بقدرتنا على تحليل الشخصية . اخاطر بالتاكيد الثاني، وخاصة عندما نشير الى العام 1910، الذي ترك بصماته وتاثيراته على الشخصية .
وهنا، لا ادعي ان التغير يحدث سريعا، مثلما يخرج شخص الى حديقة ويشاهد هناك ان زهرة جديدة قد تفتحت، وان دجاجة قد وضعت بيضة، فالتغير لا ياتي فجاة ومحددا بهذه الطريقة، بيد أنَّ التغير حاصل رغم ذلك، ومهما كان الانسان تعسفيا في ارائه . فدعونا نضع تاريخا للتغير للعام 1910، (5) . فعلاماته الاولى، مدونة في مؤلفات صاموئيل بتلر، في كتابه، طريقة الجنس البشري، The Way of All Flesh، واستمرت مسرحيات جورج برنادشو تشير اليه .. من هنا نستطيع ان نلاحظ وتيرة التغير في مسار الحياة . فلنأخد مثالا مألوفا لدينا نحن الانجليز، عن شخصية الطباخ في العهدين الفيكتوري والجورجي، فالطباخ في العهد الفيكتوري عاش شبيها بالوحش البحري الشرير في الاعماق السفلى، فهو كائن مرعب، وصامت، وغامض، ومحاط بالالغاز، في حين أنَّ الطباخ في العهد الجورجي مخلوق لشروق الشمس، والهواء الطلق في داخل وخارج قاعة الإستقبال . وثمة مثال آخر، دعونا نلتمس من الديلي هيرالد،The Daily Herald، أنْ تقدم لنا نصيحة في شراء قبعة، فهل نطلب منها تفاصيل وافية عن تاريخ السلالة البشرية وسلطتها وتغيرها؟!! اقرا اغا ممنون، Agamemnon، ولاحظ إنْ كانت مشاركتك الوجدانية في عملية الزمن في الغالب لا تتطابق مع كليتمنسترا Clytemnestra، او تأمل الحياة الزوجية لكارليل، والنواح على الخراب، واللاجدوى (له او لها)، هو العرف المحلي المرعب الذي يجعل من ذلك شيئا ملائما للمرأة العبقرية في أنْ تمضي وقتها في مطاردة الخنافس، والبحث عن الفضلات في القدور بدلا من تأليف الكتب ! فقد تغيرت جميع العلاقات الانسانية – تلك التي بين السادة والعبيد، والازواج والزوجات، والاباء والابناء . من المنطقي، حينما يعتري العلاقات الانسانية تغيرا، فلا بد ان يحدث تغيرا في الدين، والسلوك، والسياسة والادب . دعونا نتفق على المتغيرات في العام 1910 .
وقد ذكرت أنه يتطلب من الناس قدرا جيدا من المهارة، لقراءة الشخصية لمواجهة أية نكبة قد تواجههم، وقراءة الشخصية هو فن الشباب . فقد أستخدم هذا الفن في العصر الوسيط والعصر القديم، وكان من النادر أنْ تخلق الصداقات والمغامرات الأخرى، والتجارب في فن قراءة الشخصية، ولكن، الروائيين يتمايزون عن بقية الناس، لأنهم لا يتوقفون عند الإستمتاع في تحليل الشخصية ذاتها .. وحين تكون جميع الاعمال العملية في الحياة قد افرغت من مضامينها، فإنَّ ثمة شيئا ما يستمر حول الناس؛ يبدو لهم ذا اهمية غامرة بالرغم من الحقيقة أنْ ليس هناك قدرة على الاحتمال . مهما كانت اهميتها، لها تاثير على سعادتهم وراحتهم، وربما على دخلهم، وامست دراسة الشخصية بالنسبة لهم مطاردة شيقة، ليضفوا عليها نوعا من التسلط الفكري .. وقد وجدنا هنا، من الصعوبة بمكان، ان نوضح، ماذا يعني الروائيون عندما يتحدثون عن الشخصية؟ وما هو الدافع الذي يحثهم بقوة بين مدة واخرى ليجسدوا رؤيتهم في العمل الابداعي؟
وهكذا، فلو سمحتم لي، أنْ اسرد عليكم بدلا من هذا التحليل والتجريد، قصة بسيطة، هي على كحال، لا تحتوي على ثيمة، بيد انها جديرة، ان تكون حقيقية . وهي عبارة عن رحلة ريجموند الى واترلو، على امل ان اريكم ماذا اعني بالشخصية ذاتها .. وبالتالي بامكانكم ان تدركوا المظاهر المختلفة التي يمكن أنْ تتلبسها الشخصية، والخطر الشنيع الذي يحدق بكم مباشرة،سأحاول أن اصفها لكم . .
موعد مع السفر
في احدى الليالي، قبل اسابيع مضت، كنت على موعد مع السفر، بيد انني تاخرت بعض الشيء، عن موعد القطار، وعند وصولي المحطة، قفزت الى اول عربة واجهتني، وعند جلوسي انتابتني مشاعر غريبة، وغير مريحة في الوقت ذاته، ذلك انني قطعت حديثا كان يجري بين شخصين كانا جالسين في العربة، ليس لأنهما شابان او سعيدان، أنَّ الامر يتعدى ذلك، كانا كلاهما متقدمان في العمر، فالمرأة تجاوزت الستين والرجل فوق الاربعين، وكانا متقابلين في جلستهما، كان الرجل يتكلم بثقة، كان ذلك يبدو ومن خلال جلسته، ومن خلال الضوء الذي ارتسم على وجهه، لاذ بالصمت، ويبدو انني سببت له ازعاجا . فضلا عن مضايقتي له . اما السيدة العجوز التي ساطلق عليها، على كل حال، اسم السيدة براون، كانت تبدو الى حد ما، مرتاحة، وكانت واحدة من السيدات اللائي يتمايزن بالنظافة، برغم الملبس الرث – فكل شيء مزرر، ومربوط باحكام، ومرتب، ومصقول، وتوحي بالفقر اكثر مما توحي اسمالها، وثمة شيء ما يبدو ا يضايقها – نظرة المعاناة والخوف من شيء مرتقب، كانت ضئيلة البنية جدا، وكان قدماها في جزمتها الصغيرة النظيفة، نادرا ما تمسان الارض، وشعرت بان لا احد يريد انقاذها، وعليها ان تفكر بطريقة ما للخلاص من هذا الوضع الحرج . ويبدو انها هجرت او تركت ارملة منذ سنوات مضت، ويبدو انها تعيش حياة يشوبها الترقب والانهاك، ربما كان ذلك ناتجا عن معاناتها من تربية وليدها الوحيد، او من المحتمل انه في هذا الوقت يسيء التصرف .. كل هذا انثال في ذهني بسرعة وانا جالسة، وانتابني شعور بعدم الارتياح، مثل بقية الناس الذين هم في سفر مع زملائهم المسافرين، واحسسب لهم حسابا آخر، بطريقة او باخرى، بعد ذلك، تطلعت الى ذلك الرجل، لم تكن له علاقة مع السيدة براون، وانا متاكدة من ذلك تماما، انه ضخم البنية، ومن النموذج الذي يعوزه التهذيب، واستطيع ان اتخيل انه من رجال الاعمال، ومن المحتمل جدا، ان يكون بائع قمح قادما من الشمال، يرتدي نسيجا صوفيا ازرق جيدا، يحتوي على جيب سكين، وقد وضع منديلا حريريا في جيب صدره، ويحمل حقيبة جلد كبيرة . ومن الواضح، على كل حال، انه ارتكب عملا غير سار ويريد ان يضع حلا مع السيدة براون، عملا سريا، ربما عملا فاسدا، لا ينويان مناقشته في حضوري . قال السيد سمث " كما سأسميه " " ان الكروفتيين (6) سيئوا الحظ مع خدمهم " .. قال ذلك، بطريقة توحي بالاحترام عائدا الى الموضوع الرئيس بقصد التمويه والحفاظ على المظاهر . ردت السيدة براون " آه، يالها من انسانة مسكينة .. " قالت العبارة بطريقة تظهر تفوقا تافها، ثم اردفت " كان لجدتي خادمة، جاءت عندما كانت في الخامسة عشرة، وبقيت معها حتى الثمانين " قالت ذلك، بشفقة مشوبة بالم، واعتداد عدائي،ربما بدافع التاثير علينا . قال السيد سمث بنبرة توفيقية " ان المرء لا يلتقي احيانا بهذا البشر في هذه الايام"، ثم لاذ بالصمت لمدة وجيزة، بعدها اردف، ويبدو ان الصمت لم يبعث في داخله الارتياح . " انه من الغريب، انهم لم يبدأوا بعد تاسيس ناد للغولف – واعتقد ان احد الزملاء الشباب سيقوم بذلك . "
ولم تاخذ السيدة براون المشكلة محمل الجد، لذا لم تكلف نفسها بالاجابة .
قال السيد سمث، وهو يتطلع الى النافذة ويختلس النظر اليً كما يفعل دوما " ما هي التغيرات التي يقومون بها في هذا الجزء من العالم؟"
يبدو جليا من صمت السيدة براون، ومن الدماثة غير المحببة التي تحدث بها السيد سمث ان له تاثيرا عليها من خلال الجهد الذي بذله من اجل ذلك . ربما كان بسبب ابنتها، ولربما كانت ذاهبة الى لندن لتوقيع بعض الوثائق لتحويل ملكية عقار، ومن الواضح، انها وقعت في براثن السيد سمث ضد رغبتها .. وبدأت اشعر بتعاطف كبير ازاءها، حينما قالت فجاة وبطريقة لا صلة لها بالموضوع وبصوت نير والى حد ما دقيق، وبطريقة مهذبة يشوبها الفضول، " هل بالامكان ان تحدثني ان كانت اوراق شجرة البلوط تموت عندما تبدأ الدودة الجرارة باكلها على مدى سنتين متتاليتن . "
جفل السيد سمث، لكنه تنفس الصعداء، ليتناول موضوعا لا ينطوي على مخاطر عن السؤال الذي وجهته اليه، اخبرها بسرعة عن وباء الحشرات، وقال،ان له شقيقا كان يمتلك مزرعة فواكه في منطقة كينت . واخبرها ايضا عن عمل المزراعين الذين ياتون الى في كل سنة الى هذه المنطقة . وهكذا، وهكذا، وعندما تحدث اليها عن شيء غريب حدث هناك، تناولت السيدة براون منديلا صغيرا ابيض، وبدأت تمسح عينيها، كانت تبكي، بيد انها استمرت في الاصغاء برباطة جأش لما يقوله سمث، استمر يتحدث بصوت مرتفع قليلا، تتخلله نبرات غضب، كما لو انه كان فعلا قد شاهدها من قبل تبكي، وكما لو انها كانت مادة مؤلمة، وفي النهاية اثارت عصبيته، توقف حالا، تطلع الى النافذة، ثم مال باتجاهها، وبينما هو كذلك، افسحت مجالا، وهددته متوعدة ان يكف عن هذا الحديث، عن هذا الهراء .
قالت السيدة براون وهي تجمع نفسها وتوحي تعبيراتها بكرامة فائقة : " سبق ان كنا نتناقش في هذا الموضوع . ومن الافضل الا اتاخر اكثر لان جورج سيكون هناك يوم الثلاثاء القادم ."
لم ينبس سمث ببنت شفة، نهض زرر معطفه، تناول حقيبته، وقفز من عربة القطار، قبل ان يتوقف في محطة كافلام جنكشن، وقد نال ما اراد، ولكنه احس بالخجل من نفسه . مع انه بدأ عليه السرور وهو يغادر مشهد السيدة براون .
بقينا انا والسيدة براون حسب؛ جلست هي في زاويتها المقابلة، جد انيقة، جد ضئيلة، غريبة الى حد ما، تعاني الكثير، مما تركت لدي انطباعا غامرا، جاءني متدفقا مثل تيار، مثل رائحة حريق، كيف تكوَن ذلك الانطباع الخاص، وذلك التيار الغامر؟! انهما يتألفان من افكار وعناصر لا تعد ولا تحصى، متناثرة وغير مترابطة، واخرى منسجمة مع بعضها، تزدحم في رأس الانسان في مثل هذه المناسبات، فانت تشاهد انسانا ما، والاخر يشاهد السيدة براون في مركز جميع المشاهد المتباينة .. تخيلتها وهي تسكن في دار على شاطيء البحر، تحيطها زخارف غير مألوفة، وقنافذ بحرية، ونماذج من السفن موضوعة في صناديق زجاجية، واوسمة زوجها معلقة فوق رف الموقد الحجري . وهي تدخل الغرفة ثم تخرج منها تتكيء على حافات الكراسي، تلتقط بعض الطعام من الاواني القريبة منها، وتطلق العنان لتحديقات طويلة وصامتة في الفضاء، بدت تتأمل الدودة الجرارة، وشجرة البلوط التي تحتوي على جميع هذه الاشياء، وفي خضم هذه الحياة الخيالية المنعزلة، رايت السيد سمث يتهاوى في مهب الريح في يوم عاصف مطير، وهو يتكلم ويضرب ويصفق بمظلته الارض، مما ادى الى خلق بركة من الماء وسط الغرفة وقد جلسا مختليين معا .. بعد ذلك، واجهت السيدة براون الهاما مرعبا، فقد اتخذت قرارها البطولي، في وقت مبكر من الفجر، حزمت حقيبتها وحملتها بنفسها الى المحطة ولن تدع السيد سمث يمسسها، فقد احست ان كبرياءها قد جرحت وتحرر مركبها من مرساة المرفأ، ووصلت الى مرتبة الاشراف الذين يملكون الخدم – ولكن لا بد من انتظار التفاصيل، وما يهمنا هو ان نبدأ بفهم شخصيتها والغور في قاع محيطها؛ بيد انه ليس ثمة وقت كاف لاوضح ان ثمة احساسا قد غمرني، ان تلك الشخصية كانت الى حد ما، تراجيدية، وبطولية، وقذفت بالطيش والفنتازيا جانبا قبل ان يتوقف القطار . راقبتها وهي تختفي وهي تحمل حقيبتها، دخلت في وهج المحطة الهائل، بدت صغيرة ومتضائلة، وبطولية، ولم ارها ثانية، ولم اعرف ماذا حل بها ..
من ريجموند الى واترلو
القصة تنتهي دون اي موضوع يشير اليها، بيد انني لم اخبركم، ان هذه الحكاية توضح اما براعتي او سعادتي في السفر من ريجموند الى واترلو . اريدكم ان تلاحظوا مايلي : هنا شخصية اسمها السيدة براون فرضت نفسها على شخص اخر، كي توحي للكاتب اوتوماتيكيا في الاغلب ان يكتب رواية عنها . واعتقد ان جميع الروائيين، لنقل هكذا، يتعاملون مع الشخصية ليعبروا عنا – ولا يعظون تعاليم او يؤدون اغان، او يحتفلون بامجاد الامبراطورية البريطانية . هذا النوع من الرواية هو ثقيل جدا، ومطنب، ولا دراماتيكي؛ رغم انه ثر، ومرن، وحيوي، للتعبير عن الشخصية، وكما قلت، انكم ستبقون تتأملون مليا، ان ذلك التأويل الواسع جدا، يمكن ان تحتال عليه الكلمات، فعلى سبيل المثال، ان شخصية السيدة براون ستدهشكم بطريقة مختلفة جدا طبقا للعمر، والبلد الذي ولدتم فيه . ومن السهولة بمكان، ان تكتب ثلاثة روايات متمايزة للحادثة التي وقعت في القطار، رواية انجليزية، ورواية فرنسية، واخرى روسية . فالكاتب الانجليزي سيحول السيدة براون الى شخصية character، وسيظهر غرائبها، واخلاقياتها، وازرتها، وتجاعيدها، اوسمتها وثآليلها، وستسود شخصيتها في الرواية . اما الكاتب الفرنسي، سيزيل كل هذه الصفات، وسيضحي بفردية السيدة براون ليعطي فكرة عامة عن الطبيعة الانسانية، ليجعل من ذلك اكثر تجريدا وتناسبا . وسينفذ الكاتب الروسي الى السيدة براون من خلال جلدها، وسيظهر لنا روحها – الروح فقط، متجولا في واترلو ليطرح تساؤلا كبيرا عن الحياة سيبقى يرن ويرن في اذاننا حتى نهاية الرواية، فضلا عن العمر، ثمة مزاجية الكاتب التي يجب ان تؤخذ بنظر الاعتبار . فانت ترى في الشخصية شيئا وانا ارى شيئا آخر . انت تقول تعني كذا، وانا اقول تعني كذا، وحين يحين مخاض الكتابة، فكل واحد منا يختار ما يناسبه وانسجاما مع مبادئه . وهكذا، بالامكان ان تتعامل مع السيدة براون في تنوع مطلق من الاساليب؛ طبقا للعمر والبلد ومزاج المؤلف . والان يجب ان ان نستحضر قول السيد ارنولد بينيت، حيث يقول: " اذا كانت الشخصية واقعية فقط، فان الرواية لها نصيب في البقاء على قيد الحياة؛ وبعكسه، فموتها حتمي . ولكن دعونا نطرح هذا السؤال على انفسنا، ما هي الواقعية؟ ومن الذي يحكم عليها؟ فالشخصية يمكن ان تكون واقعية من وجهة نظر السيد بينيت، ولا واقعية من وجهة نظري تماما . فعلى سبيل المثال، يقول، D. Watson، في شرلوك هولمز، هو شخصية واقعية بالنسبة له . اما انا فارى د. واتسون هو عبارة عن كيس محشة بالقش، ابكم ومثير للسخرية . وهكذا، مع بقية الشخصيات الاخر، وبقية الروايات واحدة بعد الاخرى، ولا شيء يثير جدلا اكثر مثل الواقعية في الشخصية المعاصرة، فاذا وسعنا المشهد اكثر، فاعتقد ان السيد بينيت كان صائبا تماما . ومن هذا المنطلق، المشهد، بامكاننا ان نفكر بروايات قد تبدو لنا عظيمة، مثل الحرب والسلام، وتدسترام وشاندي، وعمدة كاستر بريدج الخ .. وان تاملتم هذه الروايات فانكم لا تفكرون فجاة في شخصية محددة، قد تبدو لكم واقعية، " ولا اعني بذلك الحياة الواقعية " . ذلك انها، اي الشخصية تمتلك القوة لتجعلك تفكر بقوة ليس فيها حسب؛ بل تفكر في كل انواع الاشياء من خلال عينيها – في الدين، والحب، والسلام،والحرب، والحياة الاسرية، والعاب الكرة في مقاطعات البلدان، وشروق الشمس، وبزوغ القمر، وخلود الروح . وقلما نجد موضوعا عن التجربة الانسانية لم تتناوله رواية (الحرب والسلام) . وان جميع الروايات هذه وجيمع اولئك الروائيين العظام طلبوا منا ان نرى ما كانوا يظهرونه من خلال الشخصية؛ والا لما كانوا روائيين، بل مجرد شعراء ومؤرخين او كتَاب كراسات .
ولكن دعونا نتمحص . مايريده السيد بينيت هو الاستمرار في حديثه . فقد ذكر انه لا يوجد روائي عظيم بين الكتَاب الجورجيين، لماذا؟ لانهم لا يستطيعون خلق شخصيات واقعية، وحقيقية، ومقنعة . وهنا، لا اتفق معه . ثمة اسباب ومبررات وامكانات تجعلني افكر في ان اضع طيفا على القضية؛ وتبدو لي هكذا على الاقل، بيد انني ادرك جيدا، ان هذه القضية التي من المحتمل ان اكون فيها متحيزة، ومتفائلة، او قصيرة النظر . وساضع وجهة نظري هذه امامكم على امل انكم ترون فيها النزاهة والشرعية والعقل الحصيف .. وهنا، نتساءل، هل من الصعوبة بمكان بالنسبة للروائي في هذا العصر، ان يخلق شخصية تبدو واقعية ليس بالنسبة لبينيت حسب، ولكن على نطاق العالم اجمع؟ بيد ان ثمة سؤالا لا بد ان يطرح نفسه، لماذا اخفق الناشرون تزويدنا برائعة ادبية منذ العام 1910؟ للاجابة على ذلك، هناك سبب واحد، هو ان الروائيين والروائيات الذين استلهموا كتابة الرواية من العام 1910، او قريبا من هذا التاريخ، كانوا يواجهون مشكلة عويصة – ذلك لانه ليس ثمة روائي انجليزي حي استطاع الافادة من تجربته الروائية باستثناء السيد كونراد Mr. Conrad، الذي كان يشكل في الرواية احد قطبي ارضين جامدين، بالرغم من انه كان رائعا، لكنه لا يبدي اية مساعدة .اما السيد هارديHardy، فلم يكتب اية رواية منذ العام 1895، وكان اغلب الروائيين البارزين والذين حققوا نجاحا يذكر منذ العام 1910، هم، كما افترض ويلز، والسيد بينيت، والسيد غالزوورثي، والان، يبدو لي الموضوع، كما لو انك تذهب الى هؤلاء الرجال وتطلب منهم ان يعلمونك كيف تكتب رواية – وكيف تبدع شخصيات واقعية – وعلى وجه الدقة، كما لو انك تذهب الى اسكافي وتطلب منه ان يعلمك كيف تصنع ساعة؟ وهنا، لا اريد ان اعطيكم انطباعا انني لا اعجب او استمتع برواياتهم – فهم يبدون لي ذا فائدة عظيمة، فضلا عن انهم سيشكلون ضرورة كبيرة بالنسبة لي، وهناك فصول من السنة تكون اكثر اهمية في ان نصنع فيها احذية بدلا من صنع ساعات . دعونا نسقط هذه الاستعارة، ذلك انه بعد النشاط الابداعي في العصر الفكتوري، اعتقد من الضرور ي جدا، ان على الانسان ان يؤلف او يعيد تاليف الكتب التي الفها ويلز وبينيت وغالزوورثي، ليس في الادب حسب؛ وانما في الكتب التي تتناول مختلف مسارات الحياة، واتساءل مرة اخرى، ماهذه الكتب الغريبة؟! ان كنا صائبين ان نسميها كتبا؛ اذ ثمة شعور غريب ينتابني ان هذه الكتب لا تسد حاجة القاريء او جوعه، وهي غير مقنعة . ولكن قد تم كل شيء . وطبعت الكتب ولا يمكن الا ان نضعها على الرف، ولا نحتاج الى قراءتها مرة ثانية . بيد ان الامر مع الروائيين مختلف، فرواية ترسترام وشندي .. ورواية Pride and Prejudice، هما روايتان تامتان، ويتمتعان باكتفاء ذاتي، ويخلقان لدى القاريء شعورا غامرا بالعودة الى قراءتهما ثانية بهدف استيعابهما، وربما الاختلاف هو، ان ستيرن Sterne، وجين اوستن Jane Austen، كانا كلاهما يستمتعان في الاشياء وفي الشخصية ذاتها، وفي مجمل الكتاب ذاته . وهكذا، فان كل شيء كان في داخل الكتاب ولا شيء خارجه، بيد ان الادوارديين كانوا على العكس من ذلك، لا يستمتعون في الشخصية او في الكتاب، انهم يستمتعون بشيء خارج الكتاب . ولهذا، فان كتبهم او رواياتهم تعد كتبا ناقصة، وفي هذه الحالة، يتطلب من القاريء ان يبذل جهدا عمليا وحيويا لانجاز هذه الروايات .
وربما، نقدم صورة اوضح،ان اخذنا حريتنا في تخيل حفلة صغيرة في عربة قطار السيدة العجوز براون – فالسادة ويلز وغالزوورثي وبينيت هم مسافرون الى واترلو مع تلك العجوز، وقد سبق لي ان ذكرت ان هذه السيدة كانت رثة الثياب الى حد ما، وضئيلة الجسم، وتمتلك نظرات متلهفة ومنهكة . وقد انتابني شك، حينما اطلقتم عليها صفة امرأة متعلمة، وربما ساكون غير منصفة عندما لا اعير اهمية للتعليم المدرسي، ولكن لا استطيع الا ان اكون غير ذلك ..
حسنا، سيعرض السيد ويلز من خلال لوح زجاج نافذة القطار رؤية لعالم افضل واروع واسعد وايسر واكثر مخاطرة وعملقة . من خلال عربات قديمة في احداها امرأة عجوز محافظة، في وقت تجلب البوارج العملاقة الفواكه الموسمية من كامبرويل في الساعة الثامنة صباح كل يوم، وحيث مشاتل الازهار العامة منتشرة، والنافورات والمكتبات في كل زاوية، وبيوت فيها غرف استقبال وغرف طعام، وتقام حفلات الزواج، والمواطن الانجليزي كريم ونزيه وشهم ومعتد بنفسه؛ والى حد ما شبيه بالسيد ويلز، ولكن لا احد يشبه السيدة براون، وليس ثمة سيدات بهذا الاسم في عالم اليوتوبيا . وفي الحقيقة، لا اعتقد ان السيد ويلز يريد ان يجعل من عاطفته ما ينبغي ان تكون عليه السيدة براون، ولكن من جهة اخرى، ماذا يرى السيد السيد غالزوورثي؟ هل نستطيع ان نشك ان جدران مصنع دولتون تستقبل تصوره؟ ففي هذا المصنع ثمة نساء يصنعن خمسا وعشرين دزينة من الخزف في كل يوم، وثمة امهات في مايل ايند وود يعتمدن في رزقهن على ربع ما تكسبه تلك النساء . ولكن، هناك في المقابل اصحاب عمل في سوري يدخلون السيجار الفاخر على انغام صوت العندليب، ويمورون سخطا ورؤوسهم محشوة بالمعلومات التافهة، فضلا عن عدم رضاهم عن الحضارة .
ويرى السيد غالزوورثي في السيدة براون مجرد اناء خزف مكسور مقذوف على عجلة عربة في احدى الزوايا المهملة، بيد ان السيد بينيت هو الكاتب الوحيد في العهد الادواردي الذي يحافظ على نظرته في عربة القطار . وفي الواقع، انه سيراقب كل التفاصيل باعتناء دقيق، بما فيها الاعلانات وصور سواناج وبورتسموث وانتفاخ تنجيد جلود المقاعد وتقطع ازرتها . وسيلاحظ كيف ان السيدة براون تضع دبوس الزينة الذي اشترته بثمن بخس من وتوورث وقد عدلت من قفازيها . ويبدو ان ابهام قفاز اليد اليسرى قد وضع خطأ في ابهام قفاز اليد اليمنى، ولن يفوته على مسافة سير القطار دون التوقف من وندسور الى ريجموند، هو ملائم لمواطني الطبقةالوسطى الذين بامكانهم ارتياد المسارح دون ان ترهقهم النفقات . بيد انهم لم يصلوا المرتبة الاجتماعية التي تؤهلهم شراء سيارة . لكنهم بامكانهم الذهاب لحضور بعض المناسبات بوساطة استئجار السيارات وهكذا، سيمشي السيد غالزوورثي برصانة اتجاه السيدة براون ليقدم لنا؛ او ليقول، ان السيدة براون قد تركت ارضا هي ملكا صرفا copyhold (7)، واخرى اقطاعية ملزمة freehold (8)،وثروة في داتشيت مرهونة باسم السيد بنغيه المحامي .
ولكن، لماذا عليَ ان استأنف التلفيق ضد السيد بينيت؟ هل انه لم يكتب روايات بنفسه؟ ان السيد بينيت لم ينظر بكل قوة ملاحظاته المدهشة وعاطفته وانسانيته العظيمة الى السيدة براون في زاويتها ولو مرة واحدة – فهي تجلس هناك في زاوية العربة التي كانت مسافرة ليس من ريجموند الى واترلو، ولكن من عصر الادب الانجليزي الى عصر اخر، لهذا، فان السيدة براون تتغير فقط على السطح، وليس ثمة احد من الكتاب الادوارديين قد نظر اليها كثيرا . فهم نظروا نظرة قوية ومتفحصة وعاطفية من خلل النافذة الى المصانع واليوتبيات، وحتى الى زينة تنجيد اثاث العربة، ولكن ليس الى السيدة براون، ولا الى الحياة، او الى الطبيعة الانسانية . وعلى هذا فهم قد طوروا تقنية كتابة الرواية التي تلائم اغراضهم، ولكن تلك الاساليب (الادوات) لم تكن اساليبنا، وتلك لم تكن اعمالنا . وان تلك التقاليد والاساليب بالنسبة لنا هي بقايا اثار عفا عليها الزمن حسب .
وهنا، ربما تشكون من غموض لغتي، وربما تتساءلون ما هي التقاليد؟ وما هي الاساليب؟ وماذا تعنين بقولك ان تقاليد السيد بينيت والسيد ويلز والسيد غالزوورثي هي تقاليد خاطئة من وجهة نظر الجورجيين؟ ويبدو ان السؤال غاية في الصعوبة، ذلك ان التقاليد في الكتابة لا تختلف كثيرا عن التقاليد في الاخلاق . فكلاهما ضروريان في الحياة والادب . ولا بد لنا من بعض الوسائل لتجسير الثغرة بين الكاتب وقارئة المجهول . فالكاتب على وفق هذه الاساليب يجب ان يكون في تماس مع قارئه من خلال شيء ما امامه يعرفه ويحفز مخياله ويخلق لديه الرغبة في التعاون في اعمال اكثر صعوبة وحميمية . ومن الاهمية بمكان ان هذا اللقاء العام بينهما يجب ان يصل بسهولة وبطريقة عفوية، كما لو ان الكاتب يسير في الظلام ويستخدم في الوقت ذاته عينا واحدة في تلمس الاشياء، وهنا، يستخدم السيد بينيت هذه الارضية المشتركة بين المؤلف والمتلقي . والان لو تسمحون لي، ان امزق حكايتي هذه الى مزق صغيرة، وسترون كيف انني اشعر بحماس لحاجتي الى التقليد، وكم يبدو ان الموضوع جاد حينما تكون ادوات احد الاجيال عديمة الفائدة للجيل التالي . فالحادثة حفرت في ذاكرتي انطباعا حادا، ولكن كيف انقله لكم؟ كل ما استطيع فعله هو ان اكتب بدقة قدر الاستطاعة لأصف بالتفصيل ما قد ارتدت السيدة براون من زي، ولاقول ان جميع تلك المشاهد انثالت في ذهني لمتابعة تخبط الروائيين، ولأصف هذه الحيوية، وهذا الانطباع الغامرالشبيه بالتيار المتدفق، او رائحة الحريق، ولا اكتمكم اذا قلت انني اغريت بقوة لفبركة رواية من ثلاثة اجزاء عن ابن السيدة العجوز، ومغامراته عبر المحيط الاطلسي، وابنتها وكيف حافظت على محل صنع قبعات النساء في ويستمنستر، والحياة الماضية لسمث ذاته، ومنزله في شيفيلد، رغم ان هذه القصص تبدو اكثر جفافا، وغير مترابطة، فضلا على احتوائها قضايا احتيال في العالم؟
ولكنني، اذا انجزت ذلك فلا بد لي من الهروب من الجهد المروع من قول ما اعنيه، ولكي ادرك ما عنيته، فعلي العودة الى الخلف، ثم الخلف، ثم الخلف . ولاجرب هذه الجملة اوتلك، وهذه الفقرة او تلك، والرجوع الى مصدر كل كلمة من خلال رؤيتي، واجعل لها مرادفا دقيقا قدر الامكان . ومعرفة ذلك بطريقة او اخرى، فانه من الضروي ايجاد ارضية مشتركة بيننا، وتقليد ادبي لا يبدو لكم غريبا جدا او غير واقعي، او تصديقه بعيد الاحتمال، واعترف انني تجنبت هذا التعهد الشاق . وجعلت سيدتي براون تنزلق من بين اصابعي ولم اخبركم عنها اي شيء . بيد ان هذا كان خطأ الادوارديين الكبير الى حد ما، وسألتهم بوصفهم الادباء الكبار والافضل – كيف ابدأ في وصف هذه الشخصية؟ قالوا : ابدئي بالقول، ان والدها مثلا، يمتلك محلا في هيروغريت للرقابة على استيفاء الايجارات، ورواتب عمال المحل في عام 1878، وانك اكتشفت سبب وفاة امها، وصفي مرض السرطان الذي توفيت بسببه، وصفي القماش القطني . واكتشفي .. " بيد انني صرخت : كفى ! كفى ! " وقد شعرت بالندم ان اقول انني قد رميت تلك الاداة القبيحة، والفظة، والمنفرة، من خارج النافذة، لانني ادركت ان انا وضعت السرطان والقماش القطني، فان سيدتي براون تلك الرؤية التي اتشبث بها لا اعرف كيف اصورها لكم؟ وسأكون على هذا الاساس متبلدة الاحساس، ومتبددة، ومتلاشية للابد .
هذا ما اعنيه بالقول، ان ادوات الادوارديين غير صالحة لنا في استخدامها، لانهم ركزوا بقوة على فبركة الاشياء واعطونا دارا على امل ان تكون لدينا القدرة على تمييز الناس الذين يسكنون فيها، ولنمنحهم استحقاقهم، كما جعلوا من تلك الدار افضل سكن يمكن العيش فيه . فاذا كنتم تعتقدون ان تلك الروايات هي تعبير عن مشاعر الناس بالدرجة الاساس، وثانيا، عن المساكن التي تسكنون، فهذه بداية خاطئة – وعلى هذا، كما ترون، ان الكاتب الجورجي وجب عليه ان يتخلى عن ذلك النهج في الكتابة الذي كان يستخدم في ذلك العصر . قد ترك هناك وحيدا في مواجهة السيدة براون دون اي منهج لايصاله الى المتلقي، بيد ان هذا ليس دقيقا، فالكاتب ليس وحيدا، فثمة اناس معه، فاذا لم يكونوا على المقعد في عربة القطار اوغيرها، ففي الاقل هم في الشقة المجاورة له . اما الجمهور فهو رفيق سفر غريب؛ فهو في انجلتر مخلوق لديه رغبة في التعلم ومثير جدا . فان قلت له بلغة مقنعة تماما : " ان جميع النساء لهن ذيول وان جميع الرجال لهم سنامات ." سيفكر فيما قلته، وربما لا نحتاج ان نقول له " هذا هراء ! القرود هي التي لها ذيول والجمال هي التي لها سنامات .. ولكن النساء والرجال يملكون عقولا وعندهم قلوب . وهم يفكرون ويشعرون ." وهذا يبدو نكتة سمجة غير مناسبة للوصول الى اقناع .
ولنعد للموضوع، هنا جمهور انجليزي جالس الى جانب الكاتب، ويقول بطريقة جمعية واسعة ان العجائز يمتلكن منازب، ولهن آباء، وعندهن موارد مالية، ويمتلكن خدما، ويواجهن مأزقا، وبهذه الطريقة نعرف انهن عجائز . فقد علمنا السادة، ويلز وبينيت وغالزوورثي ان نميزهن بهذه الطريقة، ولكن كيف نتعامل مع سيدتك براون، كيف نصدقك؟ فان كانت الفيلا التي تمتلكها تسمى البرت، او بالمورين، وكم دفعت ثمنا لقفازيها؟ او كانت امها توفيت بمرض السرطان، او بذات الرئة، وكيف تعيش؟ كلا، ان الامر تلفيق من بنات خيالك حسب .
فالنسوة العجائز لكي يكونن عجائز، يجب ان يقترنن بما يملكن من فلل Freeholds،او عقار فلل Copyholds، وليس هنا ذلك الخيال حسب .
فالروائي الجورجي، على هذا الاساس، هو في مازق صعب، ذلك ان السيدة براون كانت تحتج انها كانت متميزة، واستطاعت ان تغري الروائي لانقاذها بطريقة ساخرة، رغم اسلوب وميض سحرها الزائل . من جانب آخر، كان هناك الادوارديون الذين ينشرون رواياتهم بين البيوت الفارهة، وبيوت اللصوصية في ان واحد، فضلا عن الجمهور الانجليزي الذي يصر على ان يرى المأزق اولا في وقت كان القطار مندفعا باتجاه المحطة الاخيرة، حيث يجب على الجميع ان يهبط منه .
وهكذا، فانا اعتقد ان المأزق الذي وجد الروائيون الجورجيون الشباب انفسهم في خضمه حوالي العام 1910،امثال، فورستر ولورنس بشكل خاص – وقد دمروا اعمالهم، لانهم بدلا عن التخلي عن تلك الاساليب التي حاولوا استخدامها، وحاولوا ان يوفقوا، وحاولوا ايضا ان يربطوا احساسهم المباشر بما فيه من غرابة ومغزى للشخصية – بمعرفته لFactory Acts،ومعرفة بينيت للمدن الخمس Five Towns، نعم انهم جربوا السيطرة، ولا بد لهم من القيام بعمل ما، ومهما كلف الثمن في الحياة كلا او جزءأ لتدمير الثروة النفيسة، ويجب علينا ان ننقذ السيدة براون، وان نعبر عنها وتنطلق في علاقاتها السامية مع العالم قبل ان يتوقف القطار، وتختفي للابد . وهكذا، بدأ التحطم والتهشم، وهكذا، ايضا نسمع ما يدور حولنا في القصائد والروايات والسير الذاتية، وحتى مقالات الصحف وافتتاحياتها نسمع صوت التحطم والسقوط والتهشم والخراب .. انه الصوت في العصر الجورجي – انه الصوت القادم من الماضي .. فكروا في شكسبير وملتون وكيتس وحتى في جين اوستن وثاكري وديكنز في اللغة والسمواللذين يحومان طليقان حينما يشاهدان العقاب نفسه حبيسا اصلع وناعبا ..
في ضوء هذه الحقائق – مع تلك الاصوات التي ترن في اذني، وتلك المخيالات في رأسي – لا اريد ان انكر ان السيد بينيت لديه سبب وجيه عندما يشكو من ان كتابنا الجورجيين غير قادرين على ان يجعلونا نؤمن ان شخصياتنا هي شخصيات واقعية، وانا مرغمة ان اقول لهم انهم لم ينتجوا ثلاث روائع ادبية خالدة في العهد الفكتوري في كل خريف، وبدل من ان اكون متشائمة، فانني اشعر بالتفاؤل، وفي هذه الحالة، انه من المحتم كما اعتقد سواء في العصر الجليدي ام في عهد الشباب الغر، سيتوقف النقد الادبي عن كونه وسائل اتصال بين النص والمتلقي بل العكس من ذلك سيتحول الى عائق او معرقل بينهما . وفي عصرنا سنعاني من عدم وجود نظام اخلاقي يقبله القاريء او الكاتب على حد سواء، كاستهلال لاتصال اكثر اثارة في العلاقة بينهما، والتقليد الادبي للعصور هو مسألة تلطف ليس الا – وفي هذه الحالة، من الطبيعي جدا، ان يؤدي الوهن الى حالة من الغضب، والقوة الى تخريب المؤسسات والقواعد في المجتمع الادبي، وتبدو علامات ذلك ظاهرة في كل مكان، فقواعد اللغة منتهكة، والاعراب متحلل، تماما مثل صبي يقضي عطلة نهاية الاسبوع مع عمته فيروح يتدحرج بحرية في حقل زهور الجيرانيوم، نتيجة يأس مطلق اصابه . اما الكتاب الكبار فلا يفعلون ذلك . وبالطبع يطلقون عنانهم في مثل لهو الصبي في حقل الزهور،لان اخلاصهم شديد، وشجاعتهم فائقة، لكنهم لا يعرفون متى يستخدمون ايديهم؟ وهكذا، اذا قرأت جويس واليوت فانك ستصاب بالصدمة لبذاءة الاول وغموض الثاني، فبذاءة جويس في عوليس تبدو لي وعي وحسابات الرجل اليائس الذي يشعر كي يتنفس عليه ان يهشم زجاج النوافذ، وفي اللحظة التي تتهشم فيها النوافذ ينتابه شعور بالعظمة، ولكن، اي تدمير للطاقة هذا؟! وبعد ذلك كم تبدو غبية تلك البذاءة، اما غموض اليوت فاعتقد انه كتب ابياتا فاتنة في الشعر الحديث، ولكن، كم كان متعصبا للاستخدامات القديمة واخلاقيات ذلك المجتمع، الذي يحترم الضعيف ويقدر البليد !
وهكذا، فقد جربت امتدادا مضجرا، واخشى ان اجيب عن بعض الاسئلة التي شرعت بطرحها، وقدمت تعليلا لبعض الصعوبات التي هي من وجهة نظري تكتنف كل الصيغ الادبية للكاتب الجورجي . وقد بحثت عن مسوغ اقدمه له، فهل انتهى الى مغامرة، لاذكر كم كانت مدهشة ورغم ذلك، فانكم ستسمحون لهؤلاء الكتاب كي يقدمون نسخا من رواياتهم، وصورة للسيدة براون التي ليس لها شبه لكل ما يظهر من اندهاش، وتبدون في تواضعكم ان اولئك الكتاب يتباينون عنكم دما ولحما، ذلك انهم يعرفون السيدة براون افضل منكم، وهم معصومون عن الاخطاء . هذا هو الفاصل بين المتلقي والمؤلف، وهذا هو التواضع من جانبكم، وهذه هي اجواء الاحتراف والتمايز، وهذا هو فساد الكتب وعجزها التي من المفروض بها ان تكون عافية فصل الربيع، فصل التحالف والتقارب بيننا .
ودوركم هو ان تصروا على ان اولئك الكتاب سيهبطون الى الدرك الاسفل من قاعدة التمثال، وتصفون بجمالية ان امكن، وبواقعية السيدة براون على كل حال، وتصرون على انها سيدة عجوز في مقدرتها اللامحدودة وامتلاكها تنوعا متعددا، ومقدرة على الظهور في اي مكان . وترتدي اي زي تشاء، وتقول ما تشاء، وتفعل اشياء لا تعلم بها الا السماء .. بيد ان هذه الاشياء التي تقولها والافعال التي تنجزها، وان عينيها وانفها وكلامها وصمتها كله سحر غامر، ولانها بالطبع، الروح الذي نستنشق من خلاله الحياة، بل هي الحياة ذاتها .
ولكن، لا تتوقعوا في الوقت الحاضر، ظهور صورتها كاملة مقنعة وقادرة على تحمل التشنج والغموض والاخفاق . ومساعدتكم هو ان تستحضروا سببا وجيها . ولهذا، ساقوم بتنبؤ نهائي واندفاع مدهش – ذلك، اننا نرتعش على حافة احد العصور العظيمة للادب الانجليزي، ولكننا، فقط سنصل الى ما نريد اذا صممنا الا نهجر السيدة براون ابدا، ابدا ..
...................
1ـ هو ارنولد بينيت Arnold Bennet، ناقد وروائي انجليزي والسيدة براون شخصية روائية مفترضة بدات الكاتبة بتحليلها في هذه المحاضرة (المترجم)
2 ــ محاضرة القتها فرجينيا وولف في نادي هيرتكس في كمبردج (المترجم)
3 ــ نسبة الى ادوارد السابع ملك بريطانيا وآيرلندة 1841ــ 1910 (المترجم)
4 ــ نسبة الى جورج الخامس ملك بريطانيا العظمى 1865ــ 1936(المترجم)
5 ــ وهي السنة التي تولى فيها جورج الخامس عرش بريطانيا العظمى وحدثت في عهده الحربين العظميين الاولى والثانية (المترجم)
6 ــ هم اصحاب الحقول الصغيرة المقسمة بين المزارعين عن طريق الشراء والاستثمار خاصة في اسكوتلنده (المترجم)
7 ــ التملك الصرف للعقار، فلل، بيوت، اراض . (المترجم)
8 ــ عقار التملك للارض وفق شروط بائعها الاصلي ..
هوس التاريخ في الرواية المصرية المعاصرة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: محمد جهاد اسماعيل
يجد المتابع لإصدارات دور النشر المصرية، والكتب الصادرة حديثاً، أن ثمة ظاهرة جديدة، تنتشر كانتشار النار في الهشيم، ألا وهي العناوين والمضامين التاريخية للروايات المصرية الحديثة. لقد بات واضحاً أن الروائيين المصريين - تحديداً فئة الشباب - يفضلون انتقاء العناوين التاريخية لرواياتهم، كما وينزعون لتناول المواضيع التاريخية، سواء المتعلقة بالتاريخ المصري، أو تاريخ الحضارات المحيطة، أو الميثولوجيا، أو الأديان القديمة وتكوين الكون وبدء الخليقة.
لقد أصبحت النزعة التاريخية لدى الروائيين المصريين المعاصرين تمثل موضة، أو ظاهرة واضحة المعالم. ونحن مدعوون هنا للتأمل والتفكير في هذه الظاهرة، ذات الحضور الطاغي في عالمنا الروائي.
علينا أن نسأل أنفسنا جملة من الأسئلة. لماذا الرواية المصرية المعاصرة مصابة بحمى المواضيع التاريخية؟، لماذا الروائيون المصريون مهووسون بالتاريخ لهذه الدرجة؟. هل هم يكتبون هكذا روايات استجابةً لذوق القراء؟، أم انعكاساً لثقافة ما تسود المجتمع، أم تقليداً للغير، أم تلبيةً لرغبات الناشرين أي لدواعي تسويقية.
مما لا شك فيه أن علم التاريخ - تحديداً بعد ظهور علم الآثار - صار علماً ماتعاً، يفك لنا الطلاسم، ويجود علينا بالكنوز، ويكشف لنا يومياً أسراراً مشوقة حول ماضينا الغابر وأسلافنا القدماء. وبالتالي فهو من أروع - إن لم يكن أروع - العلوم، التي يمكن توظيفها في مجال صناعة الأدب والرواية بالتحديد.
لكننا أمام ظاهرة غريبة، يظهر فيها التاريخ بشكل مبالغ فيه وزائد كثيراً عن الحد، ليبدو متسيداً، أو شبه متسيد، للرواية المصرية الحديثة. ما ينبغي على البُحاث والنقاد والدارسين فعله هو تحليل الدوافع التي أدت إلى نشوء هذه الظاهرة، سواء أكانت دوافع فكرية، أو نفسية، أو اجتماعية، أو اقتصادية، أو غير ذلك.
محمد جهاد إسماعيل - كاتب من فلسطين
احلام اليقظة..
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مريم لطفي
"نجاحك يعتمد على احلامك ليست الاحلام التي تراها في نومك وانما في اليقظة"..انيس منصور
حلم اليقظة: هو الخيال الذي يلجا اليه الانسان لتحقيق رغبة ما عجز الواقع عن تحقيقها، لذا يلجأ الانسان الى الركون الى واقع افتراضي يرسمه لنفسه لتحقيق حلم طالما تمنى ان يكون واقعا ملموسا، فهو اذن ليس حلما بالمعنى المادي الذي يتطلب نوما عميقا، وليس مرهونا بصدفة او حدث او مشاعر داخلية اختزنها عقله الباطن تأتي على شكل حلم ليلا، بل انه هدف يود تحقيقه وهو بكامل يقضته، بل ويصر على ذلك عن طريق التخيل واغراق نفسه بتفاصيل دقيقة يضعها هو وفق سيناريو اعده لهذا الغرض وتلك هي ادواته لتحقيق هدفه..
وبما ان حلم اليقظة يخضع لقوانين الحالم نفسه، فمعنى ذلك انه قد يكون من الممكن جدا ان يتحقق بناءا على رغبته وارادته واصراره الشديد على تحقيقه، بل ان كثيرا من الاهداف في حياتنا كانت عبارة عن احلام يقظة-امنيات-كنا نتمنى ان نصلها وقد وصلنا اليها فعلا بسعينا الدؤوب، وذلك بتذليل الصعاب وتسخير الظروف المحيطة بنا واستثمارها احسن استثمار للوصول الى الهدف المنشود..
انا شخصيا اعتبر ان اغلب الاهداف كانت امنيات مؤجلة ليس لها وجود وبالتخطيط الممنهج والارادة والاصرار تحققت وخرجت الى ارض الواقع، لذا فان حلم اليقظة عملة ذات وجهين:الاول تحقيق رغبة ما للوصول الى هدف معين واخراجه الى النور وهذه حالة صحية تعود بالخير على صاحبها عن طريق تسخير كل الظروف للوصول الى المراد، اما الوجه الثاني هو ان يبقى الانسان في دائرة الحلم يتمنى ويتخيل فقط، بل ويندب حظه ويعيش حالة من اللاوجود المستمر رسمها لنفسه ليهرب من واقعه، كأن يتخيل النجاح اذاكان فاشلا ، ويتخيل الغنى اذاكان فقيرا وهكذا، ويبقى متقوقعا بدائرة الوهم يجتر اوهامه ويعيش عليها وهذه حالة مرضية ارتضاها الانسان الضعيف لنفسه من شانها ان تكبله وتقضي عليه..
من كل هذا نصل الى حقيقة مفادها ان كل موضوع مهما كان صغيرا اوكبيرا يحتاج الى خطوة اولى وان خطوة الالف ميل تبدا بخطوة ومع صعوبة الخطوة الاولى لكنها تكون المفتاح الحقيقي وكلمة المرور للدخول الى العالم الذي اختاره الانسان لنفسه ليكون ناجحا، تلك الخطوة هي الحجر الاساس الذئ سيبني عليه مشروعه الذي طالما حلم به وهو يقظا متجاوزا بذلك المصاعب والمطبات واضعا قدميه على ارض صلبة وصولا الى هدفه..
وعليه فالانسان يجب ان يكون مدركا لحقيقة حلمه ، مصرا على تحقيقه ولو بعد حين..
مريم لطفي
الجواهري على أعتاب "ذكرياتي"خطفًا ممتعًا
- التفاصيل
- كتب بواسطة: كريم مرزة الاسدي
أنا العراق ُلساني قلبهُ ودمي *** فراتهُ وكياني منهُ أشطارُ
1- مدخل إلى رحاب الجواهري:
بعد تدقيقنا الدقيق، وتحقيقنا الحقيق، بما لا لبس فيه إلا التصديق ! إنّ شاعر العرب الأكبر محمد مهدي بن الشيخ عبد الحسين بن الشيخ عبد علي بن الشيخ محمد حسن المرجع الديني الكبير في عصره (1)، والشهير بـموسوعته الفقهية (جواهرالكلام)، وإليه ومنها يعود نسب العائلة الجواهرية الكريمة، أقول ولد شاعرنا العبقري في السادس والعشرين من تموز عام 1899م / 1317 هـ (2)، في محلة العمارة بالنجف الأشرف، وأوصلت المعلومة إليه عن طريق صهره الأستاذ صباح المندلاوي في أواخر عمره المديد، وعلى ما قال لي أنه أقرّها، لذلك انتشرت من بعد، وكلّ من ذهب إلى غير تاريخنا لميلاده المدون - على أغلب الظن - لم يحالفه الصواب، وذهب مذهب جواهرينا في إصراره على التصغير، والكبير كبير!، ثم ماذا؟!! وأنا أتجول في صحن السيدة زينب بريف دمشق الشام غروب يوم الأحد 27 تموز 1997م، فجعت بسماع نبأ وفاته، وكانت فجر ذلك اليوم؛ بل صدمت، لا من حيث ما ستقوله لي: إن الموت حق ٌّ، وحكم المنية في البرية جارٍ ِ، وقد بلغ من الكبر عتيا، لا تحرجني عزيزي، أنا أتفهم هذه الأمور، ولست بغافل عنها وعنك ؛ وإنّما لأن الرجل" مالىء الدنيا، وشاغل الناس " قرنا من الزمان، بضجّه (الضمير للقرن) وضجيجه، وعجّه وعجيجه، وبؤسه ونعيمه، وقضه وقضيضه، أيّ أنه عاش في هذه الحياة ما يقارب ضعف ما قضاه المتنبي ابن كوفته فيها (303هـ - 354 هـ / 915 م - 965 م)، وأكثر من ذلك عمراً شعريا، ونتاجاً أدبيا، ولو أن المقارنه تعوزها الدقة العلمية، والنظرة النقدية - كما تعرفون وأعرف - لكن استعارتي لمقولة ابن رشيق القيرواني في (عمدته) عن المتنبي في حق الجواهري ليس عبثا، وليس أيضا من السهولة بمكان، أنْ يحلّ محله - أي محل الجواهري - إنسان، أوشاعر فنان في آخر هذا الزمان ! إلا ما شاء الله.. نعود إلى الصحن، والعود أحمد ؛ أخذت برهة أتأمل أحوال الدنيا وأحداث العصر، ومصير الإنسان، الغافل الولهان، إذ يتربص به الموت، ويلاحقه القدر، وهو سرحان، لحظات فلسفية عابرة، وما الفلسفة كلـّها إلا " تأملا للموت " على حد تعبير آفلاطون، وراود ذهني حينها بيت الجواهري الرائع، وحكمته البالغة في الرصاقي بعد أن استحال إلى تراب (3) :
لغز الحياة وحيرة الألبابِ *** أنْ يستحيل الفكر محض ترابِ
وربطت البيت بقصيدة المعري الشهيرة الخالدة في رثاء أبي حمزة الفقيه (غير مجدٍ..)،خصوصاً البيت التالي، وأنا أسير على أرض مقابر قد دثرت، ثم كسيت:
خفـّفِ الوطء ما أظنُّ أديمَ الأرض ِ إلا من هذه الأجسادِ
خففتُ الوطء، وردّدت مع نفسي: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ثم رفعت رأسي إلى السماء، كمن لا يريد أن يتجرع هذا المصير المؤلم - في حساباتنا - للإنسان، وعادت بي الذاكرة إلى سنة 1971 م، ووقفت مع مكابرة الجواهري، وهو يرثي عبد الناصر:
أكبرت يومكَ أنْ يكونِ رثاءا *** الخالدون عرفتهم أحياءا
الله أكبر و أكبر على كل حال، والجواهري نفسه لاريب من هؤلاء الخالدين، وله خصوصية مميزة في وجدان العراقيين، ونفوس المثقفين منهم، فهو محل فخرهم، وعنوان أصالتهم،وعنفوان فروسيتهم:
أنا العراق ُلساني قلبهُ ودمي *** فراتهُ وكياني منهُ أشطارُ
وبلا شعورأخرجت ورقة كانت بجيبي، أحتفظ بها للحظات الفكرالخاطفة الهاربه، وسللت القلم الحسام، وهمهمت وحدوت وحسمت الأمر بـ (الكامل)، وبأبيات ارتجالية ثلاثة:
عُمْرٌ يَمُرُّ كَوَمْضَـــةِ الْأحـْـــــلَام ِ *** نَبْضُ الْحَيَاةِ خَدِيْعَة ُ الْأيَّـــــام ِ
هَلْ نَرْتَجِي مِنْ بَعْدِ عَيْش ٍخَاطِفٍ ***أنْ نَسْتَطِيلَ عَلَى مَدَى الْأعْوَام ِ
أبَدَاً نَسِيْرُ عَلَى مَخَــاطِر ِ شَفْرَة ٍ *** حَمْرَاءَ تَقْطِرُ مِنْ دَمِ الْآنـَـــــامِ
تم ذهبت إلى شقتي في ضواحي مدينة دمشق الزاهرة، وعملت القهوه، وبتُّ ليلتي، ودخّنتُ عدة سكائر، وواصلت مشوار قصيدتي مستلهما شعر الجواهري، وذكرياتي والأيام، وما في اللاوعي من (أفلام)!، وأكملتها بعد يومين أو ثلاثة، بعد تجوالي في شوارع الشام الفسيحة،وساحاتها الفارهة، وحدائقها الغناء منفردا، فتمّ لي منها اثنان وثمانون بيتا، ودُعيت للحفل التأبيني الذي أقامه المثقفون العراقيون بدمشق في الثاني من شهر آب (1997م)، وكانت القصيدة العمودية الفريدة المشاركة، وشارك فيه كل من الباحث هادي العلوي، والدكتور عبد الحسين شعبان، والكاتب عامر بدر حسون، والشاعر زاهر الجيزاني، وختم الحفل نجل الفقيد الدكتور فلاح الجواهري نيابة عن العائلة الكريمة، وكان عريف الحفل الشاعر جمعة الحلفي، ونشرتها عدة صحف عربية وعراقية بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاته، منها(تشرين) السورية، و(الوطن) العراقية الصادرة من دمشق وغيرهما، ثم نشرت في العديد من المواقع الكبرى والرصينة.
نكتفي بهذا القدر الوافي من المدخل للجواهري الشافي .
2 - الجواهري ... على أعتاب ذكرياتي ....
عجيبٌ أمركَ الرجراجُ *** لا جنفــــــاً ولا صددا
تضيقُ بعيشــــــةٍ رغدٍ *** وتهوى العيشةَ الرغدا
وتخشى الــزهدَ تعشقهُ *** وتعشـــقُ كلَّ من زهدا
ولا تقوى مصـــــامدةً *** وتعبـــــدُ كلَّ من صمدا
لا أستطيع استيعاب الجواهري بأجمعه، ولا الإلمام بكليته، هذا محال...!!،آلا وهو الجواهري و الجواهري - أنت سيد العارفين - قضى قرناً من الزمان في هذه الحياة، القرن العشرين كلـه - أو كاد - من ألفه إلى يائه، ووضع نيفاً وعشرين ألف بيتٍ من الشعر، وأنا القائل: (عشرون ألفاً صُفّفتْ أبياتها)، ثم ماذا ؟ لا يوجدعندي - الآن في غربتي - مجموعة ديوان الجواهري سوى (ذكرياته)، الجزء الأول، وذكرياتي عنه، ومما قرأت منذ طفولتي المبكرة حتى شيخوختي المتأخرة !!، وأزعم معظم ما كتب عنه وأكثر !! وأيضاً مما حفظت من أشعاره، وهذه الشبكة العنكبوتية جنبي بغثـّها وغثيثها!، المهم أنني أسير على سواحل محيط الجواهري العملاق، عملاق بمتانة إسلوبه،وقوة بيانه، وحباكة ديباجته، وسمو بلاغته، ووضوح عبارته، وحيوية نبضه، وشدة انفعاله لحظة سكب خوالجه وعوالجه، وبروز ظاهرة (الأنا) الفنية العالية المحببة سيان بتحدياتها الصارخة، أو عند سكب آلامها النائحة في شعره، وشعره غزير الإنتاج حتى أنّه بلغ قمة عالية بين شعراء الأمة على امتداد تاريخ أدبها، فإذا تجاوزنا الشعر الجاهلي الذي دون بعضه القليل بعد قرنين من ظهوره - ولا أقول ولادته ونشأته -، فما - مما وصلنا - في عصري صدر الإسلام والأموي ما يستحق عنده الوقوف للمقارنة نتاجاً بنتاجه، إلا أنّ الفرزدق (ت 114هـ) له حوالي (7235 بيتا)، وجرير (أيضا 114هـ)، وله (5640 بيتا)، فخلفا لنا مجلدات ديوانيهما الرائعين، نعم ! في العصر العباسي ترك لنا أبو نؤاس شعرأ غزيرا (ما يقارب اثني عشر ألف بيت)، بالرغم من قصر الفترة التي عاشها في هذه الحياة، على أغلب ظني بين (142- 200 هـ)، ولا أميل لأي رواية أخرى، وابن الرومي (221 - 283 هـ)، وصلنا شعره سليماً معافياً أقرب إلى التمام، فسبق الأولين والآخرين في كثرة النظم، فبلغ قمة القمم (30515بيتاً)، وهو غزير ممتع أي إمتاع، فالرجل قضى حياته شاعراً شاعراً لحظة لحظة، فما حياته إلا الشعر، وأسرّكم - من السرّ والسرور !! - والكلام بيننا، والحديث شجون، بقى شعره بتمامه، لأن الرجل كشخصية على قد حاله، لم يهتم ولم يبالِ به ولا بشعره أحد، فوصل إلينا أقرب للتمام، والحمد والشكر لرب العالمين على لطفه الخفي !! و للمقارنة السريعة من بعدُ، ومن بعدِ جاء المتنبي (ت 354هـ)، له (5578 بيتاً)، فالشريف الرضي (ت 406 هـ)، له (13832بيتا)، ومهيار الديلمي (428 هـ)، له (22525 بيتاً)، وأبو العلاء المعري (449 هـ)، وأبيات شعره ما يقارب (13515 بيتاً)، ثم في العصر الحديث، ونأخذ تاريخ الوفاة بالميلادي، للظروف المرحلية، لأحمد شوقي (ت 1932م) حوالي (11336 بيتاً)، وخليل مطران (ت 1949م)، وله (23187 بيتاً، لم ندرج الشعر التالف أو المتلوف، ولا شعرالملحمات الدينية، أو الأرجوزات التعليمية، فالجواهري - مما يتضح على الأغلب - يأتي ضمن الأسماء الخمسة الأوائل في غزارة الإنتاج من بين كل شعراء العرب منذ عصرهم الجاهلي إلى يومهم هذا .
3 - " ذكرياتي " بين يدي ...!!
مسكت الجزء الأول من كتاب (ذكرياتي) لجواهرنا الجواهري، وقلبت ورقتي العنوان فإذا به صدر ذكرياته بمقولة لحكيم صيني تقول:" وُلدوا فتعذّبوا فماتوا "، لابدَ أن هذه الفكرة راودته فترة طويلة، بل تخمرت في ذهنه، وزُرعت في دمه حتى آمن بها قناعة لا تتزعزع، فجعلها الكلمة الأولى لكتابه الموعود، ولكن... جزما، أبعاد المقولة، واتجاهاتها الفكرية، وفلسفتها الحياتية، متابينة في عقلي الرجلين، فالتطابق محال، ومدلولها واسع على أية حال، وله أن يحلل أبعادها كما يشاء، و(ابن الرومي) (ت 283هـ / 896م)، قد سبق الرجلين بما ذهبا إليه:
لِما تؤذن الدنيا به من صروفها ****يكون بكاء الطفل ِساعـة ّ يولدُ
وإلا فما يبكيـــــــه منها وإنـّها **** لأفسحُ مما كــــــان فيهِ وأرغدُ
إذا أبصر الدنيا أستهلَّ كأنّـــهُ******بما سوف يلقى من أذاها يهدّدُ
وللنفسِ أحوالٌ تظلّ كأنـّــــها ***** تشاهدُ فيها كلَّ غيبٍ سيشــــهدُ
المهم وُلدوا نعم وُلدوا، وإنما الولادة هل هي قدر محتوم، مقيدة في سجل معلوم، أم عقبى ملاقحة عابرة لمصادفة غابرة ؟، فالرجلان تركا لغز وجود نائب الفاعل في المبني للمجهول لتعليل العقول، والعقول حقول !، وعلى العموم، الحياة لم تعطِ عهدا للحكيم الصيني ولاللشاعرالعربي، ولا لغيرهما، كيف ستكون، ولا تبالي بأحدٍ كي تقول له: ممنون !! سُعد أم تعذب، والمسألة فيها نظر، فالحياة لذة وألم، صحة وسقم، رخاء وعدم .وصاحبنا هو الأدرى بذلك، ففي قصيدته (سجين قبرص)، يطل علينا بقوله:
هي الحياة ُ بإحلاءٍ وإمرار ِ*** تمضي شعاعاً كزند القادح ِ الواري
أمّا في حكمته الصينية، فواضح لي ولك، ما أراد من المفرادات الثلاث إلا (فتعذبوا)، لماذا ؟ لأنه - بغريزته الفنية - رام ما لا يُستطاع إليه سبيلاً، جمع النقيضين اللذة والثورة، الحنان والرفق بالخاصة، والحقد والألم من أجل العامة، وطلب من زمنه - كمتنبيه - " ما ليس يبلغه من نفسه الزمن"، فوقع في صراع الأضداد، وطغى على شعره التشاؤم، والكآبة، وعدم الرضا، والتبرم:
عجيبٌ أمركَ الرجراجُ *** لا جنفــــــاً ولا صددا
تضيقُ بعيشــــــةٍ رغدٍ *** وتهوى العيشةَ الرغدا
وتخشى الــزهدَ تعشقهُ *** وتعشـــقُ كلَّ من زهدا
ولا تقوى مصـــــامدةً ***وتعبـــــدُ كلَّ من صمدا
ومنذ ثورة النجف على الأنكليز (1917م)، وحصارها الشهير - وثورة العشرين من بعدها -، وكان حينها شاباً يافعاً، ارتسمت في ذهنه صورة لا تـُمحى، تخيلها شاخصة بعين الآخر، وعكسها إلينا من فوران دمه الذي لم يبرّده غليله، ولو بعد عشر سنوات منها، اقرأ معي ما يقوله في قصيدته (الدم يتكلم):
لو سألنا تلك الدمــــــاءَ لقالت ** وهي تغلي حماسة ً واندفاعــا
ملأ اللهُ دوركم من خيـــــــالي *** شبحاً مرعباً يهزُّ النخــــــاعا
وغدوتم لهول ما يعتريـــــــكم *** تنكرون الأبصار والأسمـاعا
تحسبون الورى عقاربَ خضراً ** وترون الدروب ملآى ضباعا
والليالي كلحاءَ لا نجمَ فيـــــها *** وتمرُّ الأيـــــام سوداً سراعا
هل هذه الرؤية المتشائمة،هي رؤية الإنسان الجلاد المرتعب الخائف للإنسان الثائرالمنتفض المستشهد - والعكس صحيح في معادلة صراع الحياة - أم نظرة الجواهري السوداوية المستديمة المتأملة والمتألمة للحياة كلّها على طول الخط ؟ القضية تطول، وما انا بدارس، ولا باحث في حياة الجواهري، وشاعريته وشعره، وإنما نظرات عابرة على أعتاب (ذكرياته)، وأعني عدّة أوراق، سبقت فصوله المفصلة، مهما يكن من أمر، ما تنتظر منه أن يرى الدنيا بعد مصرع أخيه جعفر في معركة الجسر (27 كانون الثاني 1948م)، غير ما ذكره عنها موريا بكلمة (جسر ٍ) من النكد في (تنويمته للجياع)، التي نظمها بعد ثلاث سنوات (آذار 1951م) من الحدث الجلل ؟:
نامي فما الدنيا سوى *** "جسر ٍ" على نكدٍ مقامِ
و أترك إليك محيط الجواهري لتغوص فيه مراراً وتكراراً، لقد خلفنا الموت خلفنا ناسين أو متناسين، والموت حقٌّ لا ينسانا، قدم إليهما، فاستقبلاه مرغمين طائعين، أو كما يقول جواهرينا :
وأنَّ الحياةّ حصيدُ الممات *** وأنَّ الشروقَ أخو المغربِ !
وقفا الرجلان عنده حيث وقف العقل المحسوس المحدود من قبل، وكان يعنيان شأن الحياة الدنيا، وما عساهما أن يفعلا غير ما فعلا، الجواهري - ولا أدري بالآخر - بطبيعة الحال يكثرمن ذكر الله في شعره، وتـُعدُّ قصيدته عن الإمام الحسين (ع) من أروع الشعر العربي، والرجل ليس بحاجة إلى شهاداتنا، ولا يحفل بها، فلماذا الإطالة ؟!! الآن صرخ في أذني ببيتين من الشعر، هازّاً بيديه مستهزئاً !:
دعِ الدهر يذهبْ على رسلهِ***وسرْ أنتَ وحدكَ في مذهبِ
ولا تحتفـــلْ بكتاباتـــــــــهِ *** أردْ أنتَ مـا تشتهى يُكتبِ !
ثم أردفني هامساً مع نفسه ببيت قاله في ثمانياته (نيسان 1986م)، ومضى إلى رحمة ربّه:
اللهمَّ عفوكَ إننّي برمٌ *** ولقد يُدسُّ الظلمُ في البرم ِ
إذاً رجاء اقلبْ ورقة الحكمة، واقرأ الإهداء الذي كتبه الشاعر بخط ّ يده اعتزازاً وتقديراً واهتماماً وحبّاً: " أُهديه إلى من هم أعز علي من صفو الحياة إلى كلِّ مَن ودعّني من أهل بيتي وإلى كلِّ مَن اقام " .
وضعت لك خطـّاً تحت الجملة التي أروم التأمل فيها (بين هم والحياة)، فالشاعر رغم التشكي والتبرم والتشاؤم، بل حتى الكآبة المرسومة على تقاطيع وجهه، هو رقيق الطبع جداً، كشاعر مرهف الحسِّ، يفيض قلبه بالحنان والحب ِّ، والعاطفة الصادقة:
جربيني منْ قبل ِأنْ تزدريني *** وإذا ما ذممتني فاهجـريني
ويقيناً ستندمين علــــــى أنّكِ *** منْ قبلُ كنتِ لــمْ تعـرفيني
لا تقيسي على ملامحِ وجهي *** وتقـــاطيعهِ جميعَ شــؤوني
أنا لي في الحياةِ طبـعٌ رقيقٌ*** يتنافى ولونَ وجهي الحزينِ
ومن الطبيعي أنْ يكون أهله الأقربون أقرب إليهِ من حيث معاملتهم بالرّقة واللطف والحب، فهم الأغلون، ففكرة (الإهداء) مختزنة في وعيه لأهله، ووردت في مقدمة ديوانه المطبوع عام (1961م)، حين كتب قائلاً: " إلى قطع متناثرة من نفسي هنا وهناك ...أهدي ديواناً، هو خير ما أهديته في حياتي كلـّها، وقد لا أقدر أن أهدي إليهم شيئاً بعده "، و (صيغة الإهداء) - أيضاً - ليست بجديدة على ذهنه، وكان قد ضمنها في قصيدته (بريد الغربة)، التي نظمها (1965م)، وأرسلها إلى أهله في العراق:
ويا أحبابـــي الأغليـــن***منْ قطعوا ومَن وصلوا
ومن هم نخبةُ اللــذات***عندي حيـــــــن تنتخلُ
هُمُ إذْ كلُّ من صــافيت *** مدخــولٌ ومُنتـــــــحَلُ
سلامٌ كلـّــــــــــهُ قبـــلُ ***كأنَّ صميمــــــها شغلُ
وشوقٌ من غريبِ الدارِ***أعيــتْ دونـهُ السّـــــبلُ
ولهذه الإشكالية المعقدة بين الخاص والعام، وأعني بين خصوصياته العائلية الأصيلة والمتينة بروابط حبها الجارف من جهته على الأكثر، وعلاقاته الإجتماعية المتميزة و المتماسكة لمنزلته الأدبية الرفيعة، وبين المهمات الصعبة الملقاة على عاتقه عرفاً وطبعاَ لإثارة العقل الجمعي الواعي ... كم يجب تقدير وتثمين مواقفه الجريئة، وتضحياته الكبيرة إبان شرخ شبابه، ونضج كهولته، ولكن في شيخوخته - من سنة 1972م - أُثيرَ موضوع صمته واغترابه، لأغراض عديدة، ودوافع متعددة، اغتاض منها فردَ عليها - والشاعر ليس بكاتم غيض - متحاملاً على من تحامل، ومعللاً بتخريجات عامة على من تساءل، والعجيب أن ردوده تحمل في طيّاتها الانتقادات الواضحة والمباشرة، للمواقف المتخاذلة دون ذكر الأسماء، وينتقد ! وتعجبني من ردوده (1977م) هذه الأبيات الرائعة :
قالوا سكتَّ وأنت أفظعَ ملهـبٍ *** وعي الجمــوع ِ لزندها، قـدّاح ِ
فعلامَ أبدل وكـــرَ نسر ٍجامـح ٍ*** حردٍ بعشِّ البلبــلِ الصـــــدّاح ِ
فأجبتهم:أنا ذاك حيثُ تشابكتْ ***هامُ الفوارس تحتَ غابِ جناحيِ
لكنْ وجدتُ سلاحهمْ في عطلةٍ ****فرميتُ في قعرِ الجحيم ِ سلاحي
وقد يعذر من يعذل، ومن التفتَ وحلـّل بواطن (أعز علي من صفو الحياة)، يدرك أنه - إبان الحروب العبثية والمجانية - كان يخشى على المتعلقين به، والمخصوصين لديه من أفراد أسرته، داخل العراق وخارجه، بل حتى على نفسه، من سطوة نظام لا يعرف للرحمة معنىً، وشيخنا لم يرَ من حقـّه أن يتجاوز الخطوط الحمراء لأرواح ومصائر غيره، وبلا ثمن، ثم ما جدوى التهليل لهذا أو ذاك من المتحاربين أوالمتصارعين، قال الأبيات التالية - وفيها إشارة إلى أبنائه - من قصيدة ساخطة على الأوضاع، داعية للوحدة الوطنية ولمِّ الشمل على سبيل مقارعة الظلم والإرهاب، وجهها إلى صديقه السيد جلال الطالباني في (10/12/ 1980 م)، أي بعد اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية بثلاثة أشهر، إثر رسالة من الأخير إليه، يحرضه فيها على التغني بالنضال:
يا صاحبي - ويموت المؤمنون غداً - ***وخالدٌ صدقُ قــــــولٍ ناصفٍ زَمِنِ
حتـّى كأنّي - وأشبـــالي - بعيدهـــــمُ *** عُفـْرُ الأضاحي من المنحورةٍ البُدُن ِ
وكنتُ منهم كمصلوبٍ على وثـــــــن ** ضحى على ربّــــــــهِ يوماً ولم يدن ِ
فلـــنْ أغني بأعـــــراس ٍ مهلهلــــــةٍ *** ولنْ أنوحَ علــــــــى موتى بلا ثمنِ
والبيت الأخير واضح ومبين، فلا تضحية بلا ثمن ثمين، يعود مردوده للشعب والملايين، هذا رأيه، وربما لك رأي، لا أطيل عليك، والإطالة إفادة،إذا كان الوقت لديك يتسع، فالحديث عن الجواهري ممتع، رويدك - يا صاحبي - ما بقى لديَّ في هذه الحلقة إلا قصيدته (برئت من الزحوف)، نظمها الشيخ المشرف على التسعين في حزيران براغ سنة (1985م)، إذ صكَّ سمعه أخبار منتقديه، بل شاتميه، لموقفه الصامت من الحرب الرعناء، وتعالت حواليه الأصوات المنتمية من هذا وذاك، وهاجت عليه الأقلام المسيسة من هنا وهناك، وهرعت إليه سائلة عن سرِّ سكوته على هؤلاء وأؤلئك، فأجابها بإنسياب قافية شجية:
وســــائلةٍ أأنتَ تـُـسبُّ جهراً ** ألسـتَ محجَّ شبان ٍوشيــبِ؟
ألستَ خليفة َالأدبِ المصفـّى ** ألسـتَ منارةَ البلدِ السّليب!؟
أيسرحُ شاتموكَ بــلا حسيبٍ **وتسمعُ من هناكَ بلا نسيبِ!
أقولُ لهـــــا ألا أكفيكِ عبئـاً ** ألا أ يكِ بالعجبِ العجيــبِ!؟
لقدْ هجتِ اللواعجَ كامنــاتٍ ***وقدْ نغـّرتِ بالجرحِ الرغيبِ
برئتُ من الزحوفِ وإنْ تلاقت **تسدُّ عليَّ منعطفَ الـدروبِ
زحوفُ "الرافدين"فقدْ تهزّتْ **بهنَّ مزاحـفُ البلــدِ الغريبِ
برئتُ من الزحوفِ بدونِ حول*سوى قـُبُلِ الحبيبِ على الحبيبِ
لتسلمهُ إلى وبش ٍخسيس ٍ****ومرتكبٍ ومشـــــبوهٍ مــريبِ
إلى صُحفٍ تسفُّ بلا ضميرٍ** سوى ما دُسَّ منها في الجيوبِ
برئتُ من الزحوفِ مجعجعاتٍ ***تخلـّفُ سكتة ّالموتِ الرهيبِ
مباحٌ عندهنَّ دمـي لذئـــبٍ *** ولا أسدٌ يبيـــحُ دمـــــــاً لذيبِ
وأُنبَذ ُ بالعــراءِ بلا نصير ٍ***** نبيل ٍأو أديـــبٍ أو أريـــــــبِ
بيت القصيد المفيد ما قبل الآخير، وخلاصة القول " ولا أسدٌ يبيحُ دماً لذيب ِ"، هل اقتنعت يا قارئي الكريم، أم أنّك تهزُّ رأسك حائراً بين الرفض والقبول، لك ولي ما نقول، وله: أعزُّ عليَّ من صفو الحياة !! وإلى الملتقى، فالموضوع ما انتهى سبيلا....وكفى بالله وكيلا!
4 - الجواهري بـ "ذكرياتي" بين إجابة قلبه وزبد صدره...!
أجب أيها القلبُ الذي لستُ ناطقاً ***إذا لم أشاوره ولستُ بســـامع ِ
وحدّثْ فأنّ القومَ يدرونَ ظــاهراً ***وتـُخفى عليهم خافيات الدوافع ِ
وفجّر قروحاً لا يطـاقُ آختزانها *** ولا هي ممـــــا يتقى بالمباضعِ ِ
تلفـّتُّ أطرافي ألمُّ شتــــــــــائتاً *** من الذكرياتِ الذاهباتِ الرواجع ِ
تحاشيتها دهراً أخافُ آنباعثـها ***على أنّها معدودة ٌ مــن صنائعي
ودّعتك على أمل اللقاء بك وعداَ، ووعد الحرِّ دينً عليه، سأواصل المسيرة، وهذا مشوار العمر أخيره، ولو أن العين ضريرة، لكن الذاكرة بصيرة، ليست هذه بشكوى، وإنّما هو التّحدي لأي نائبة من نوائب الدهر صغيرة كانت أم كبيرة، ولعن الله كلّ من باع ضميره!!!
هذا " ذكرياتي" بين يدي، قلبت ورقة الإهداء، فإذا بصورة الجواهري إبان مطلع شبابه تصافح عيني، بجبته وعباءته ونحافته وعمّته، واقفاَ باعتدال قامته الشامخة، سابلاّ يده اليمنى على كرسي بجواره، وواضعا يده اليسرى عليها، لا تبدو على ملامحه نظرات التحدي، وتعبيرات التصدي، وإن كان في شعره غيره في صورته، مما يعطيك انطباعاً، أن الرجل في الأصل طبعه الهدوء والسكينه والوداعة والألفة الطيبة، والعلاقة الحميمة، وما الثورة والتمرد والهيجان إلا حالات عابرة تنتابه بين حين و آخر، إثر موقف جماهيري، وصدمة قوية، أو عقبى انفعال شديد وحادث جلل، وغالبا ما يسكبها شعرا مبدعا،أو يكتبها نثرا رائعا، وعندما يأتيه الإلهام الشعري " أشبه إلى الوحي" فيضاً، ينعزل منفردا، ويغضب على من يأتيه قاطعا، حتى أنّ أروع قصائده (يا دجلة الخير) نظمها في ليلة براغية واحدة !! .
وقبل أنْ أقلب ورقة الصورة المعممة، تأملت قليلا متسائلا عن سرِّ اختيار هذه الصورة من بين آلآف الصور التي أخذت له كشخصية شهيرة، طيلة عمره المديد، ألم يقل ذات يوم بحقها ؟!:
قال لي صاحبي الظريف وفي الكفّ ***ارتعاشٌ وفي اللسان انحبــاسه:
أين غــــادرتَ "عمّة ً" واحتفاظــــاً ***قلت: إنّي طرحتها في الكناسه
عضضت على شفتي، وقلت ربما الأمر عابر، وورد على باله خاطر، لا بأس الصورة معبّرة و عابرة، وله ما يشتهي ويتشهّى، غلقت الكتاب، فوقع نظري على غلافه الأخير، فإذا بصورة ثانية للجواهري المعمم تحتله كاملاً، وهذه المرّة واضعا نظارته على عينيه، واقفا بشموخه المعتاد، ويبدو أكثر هيبة ووقارا، وأكبر عمرا، قلت مع نفسي لآتصفح الكتاب، فوجدت صورة ثالثة على الصفحة 173 تشغل حيزها تماما، إذاً الأمر مقصود لرغبة نفسية جامحة عارمة، تنطلق من اللاوعي المكبوت، وربما يدعمها وعيه بحدود، ولا اعرف بالتأكيد ما كان يدور في مخيلته إبان طفولته المبكرة، إذْ تتراكم العقد في العقل الباطن للإنسان، فهل كانت العمامة لديه ترمزالى وقار أبيه، أو علم جده صاحب الجواهر،أو جذور عائلته، أم انّها تمثل عمائم عمالقة الشعر، عمامة المتنبي العظيم، وعمامة العبقري الخالد ابن الرومي،وعمامة أبي العلاء الشاعر الفيلسوف العتيد؟ ولم أذكر عمامة الشاعر الشاعر الفنان المبدع البحتري، لعلمي أنّ الجواهري يعشق شعر الأخير، لريشته الفذة، وزجالته الرائعة، ويكره شخصيته لإنتهازيته الفجة، المهم لا يهمني كثيرا ما قال، أو ما لم يقل الجواهري بهذا الشأن ! فانا لا أعيد " ذكرياته"، وإنّما أسجل انطباعاتي على أعتابها، ولكن بالتأكيد هذا التغيير في لباسه، سيان لعمامته بطاقيته، أوغترته - الوشاح الأبيض الطويل الذي ارتداه إبان فترة سجنه - أم لعباءته و جبته بطاقمه ورباط عنقه ... لا يعبرعن دهاءٍ سياسيٍّ، ولا عن نفاق ٍ اجتماعيٍّ، ولا هم يحزنون، لأن ببساطة القول الشاعر العملاق لم يخلق لهذه الأشياء، فهو أكبر منها، وأعرف بها، والبيتان اللذان قالهما في مدح الملك فيصل الأول، ليشير فيهما إلى حسن تمرسه في السياسة، و ألمعيته في الدهاء - وهما يحملان الضدين المدح والقدح - لا ينطبقان على الجواهري نفسه، بأي شكل من الأشكال، أو حال من الأحوال، اقرأ معي وتمعن !:
لبّاس أطوار ٍيرى لتقلب الأيّــــــــام ِ مُدّخراً سقاط ثيابِ
يبدو بجلبابٍ فإن لم ترضْه **ينزعْهُ منسلاً إلى جلبـابٍ!!
لم تفتني الأبعاد المجازية، والصيغ البلاغية للبيتين، كما تتوهم، بل ألعب اللعبة نفسها، رجاء تابع معي، الرجل خلع عمامته، لا كرهاً لها، ولا سخطاً عليها، ولا تخلصا منها، وله أن يطرح صورتها المزيفة في الكناسة بجلسة عبثية، وإنـّما ابتعادا عنها، نشداناً لحريته، وتكيفاً لبيئته، واحتراماً لخلفيته،وإلا فهي مخبؤة في دمه، مزروعة في وجدانه، فاعادها إلى مقامها، وارجعها إلى هيبتها، متباهيا بها، فهي الشعر وإصالته، والتاريخ ومهابته، والكلام وبلاغته، هذا ما تقوله لي أعتاب " ذكرياتي"، وإنْ خُفيت الأمور على الجمهور:
أجب أيها القلبُ الذي لستُ ناطقاً ***إذا لم أشاوره ولستُ بســـامع ِ
وحدّثْ فأنّ القومَ يدرونَ ظــاهراً ***وتـُخفى عليهم خافيات الدوافع ِ
وفجّر قروحاً لا يطـاقُ آختزانها *** ولا هي ممـــــا يتقى بالمباضعِ ِ
تلفـّتُّ أطرافي ألمُّ شتــــــــــائتاً *** من الذكرياتِ الذاهباتِ الرواجع ِ
تحاشيتها دهراً أخافُ آنباعثـها ***على أنّها معدودة ٌ مــن صنائعي
الآن قلبت ورقة الصورة،ووصلت إلى ورقة تحمل عنوان (المقدمة)، والبيتين الموجعين:
أزحْ عن صدركَ الزّبدا ***ودعهُ يبثُّ ما وجدا
وخلِّ حطـــــامَ مَوْجدةٍ *** تناثرُ فوقــــهُ قصَدا
البيتان من قصيدة ما بعدها قصيدة في الروعة !! فإنْ كانت (يادجلة الخير) رمزالحنين والشوق ومناجاة الأوطان، و(أخي جعفر) عنواناً لجرح الشهيد، ودم الثائر ...، أمّا هذه فهي منتهى صدق ما تبثُّه النفس البشرية من مكنونات أليمة مكبوتة، تقطع نياط القلب، بجرأة متناهية في عصر ٍلا يرحم ! قال عنها الجواهري نفسه هنا (الجواهري ينتصر للجواهري) ! وكتب إلى مجلة الديار اللبنانية، التي نشرتها في عددها المؤرخ (15 - 21 أذار 1976)، قائلا: " آخر ما لدي، ومن أعزُّ قصائدي إلي "، حصل من خلالها الشاعر على جائزة (اللوتس) العالمية لسنة 1975م، فاقامت جمعية الرابطة الأدبية في النجف الأشرف حفلاً تكريميا له بالمناسبة، وذلك مساء الخميس (2 / 11 /1975م) في قاعة الاجتماعات التكريمية، وألقى الشاعر قسماً منها، فعدد أبياتها (124) بيتاً، فإليك عدّة أبيات ونعقب:
ولا تحفلْ فشــقشـــــقة ٌ**مشتْ لكَ أنْ تجيش غدا
ولا تكبتْ فمِــــن حقبٍ *** ذممتَ الصبرَ والجــلدا
أأنتَ تخافُ مـــن أحدٍ *** أأنــــــــتَ مصانعٌ أحدا
أتخشى الناسَ أشجعهمْ ***يخافك مغضبـــــاً حردا
ولا يعلــــــوكَ خيرهمُ *** ولستَ بخيـــــرهمْ أبــدا
ويدنو مطمحٌ عجـــبٌ *** فتطلبُ مطمحا بَـــــــعدا
ويدنو حيثُ ضقتَ يداً ** وضعتَ سدىً وفاتَ مدى
أفالآنَ المنى منــــــحٌ *** وكانتْ رغـــــــوة ً زبدا؟
وهبكَ أردتَ عودتــها ***وهبكَ جُهــــدتَ أن تجـدا
فلستَ بواجدٍ أبـــــــداً ***على السبعين مــــــا فقدا
صفق الجمهور هنا كثيرا، ودعوا له بطول العمر، أريدُ منك أنْ تتساأَل معي، وتساعدني على الإجابة، لماذا كان يكبت الجواهري، ويصبر حتى ذمم صبره والتجلدا؟! وممنْ كان يخاف شيخنا فيصانعه حتى سكب لوعته مستنكراً حرداً على نفسه؟! ومن هو أشجع الناس الذي كان يخاف الجواهري إذا غضب؟! ومن هو خيرهم الذي لا يعلو شاعرنا منزلة ؟!!
والقصيدة طويلة، ولا أريد أن يغلب شعرُهُ مقالتي، وينجرف القارىء الكريم معها، ويتركني منفردا، وينسى في غمرة النشوة لذة الفكرة ! ديوانه متوفر وافر، والقصيدة من مجزوء الوافر (مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن)، عروضتها صحيحة، وضربها مماثل لها، ويعتري أبياتها جوازات الوافر، ومعظمها من زحاف القضب، وهو حسن، تتحول فيه (مفاعلـَتن) الى (مفاعلـْتن)، بإسكان الخامس، فتصبح التفعيلة (مفاعيلن)، واختار الجواهري، أو انطلق - على الأصح - من اللاوعي، هذا - أو من هذا - البحر السريع المتلاحق - يأتي في المرتبة الثانية بعد الكامل في سرعته - لبث همومه المتراكمة كسيل جارف للأحقاد و الإعلام الزائف، وما ألف إطلاق قافيتها الاّ دليل الشموخ والانطلاق للمارد العملاق !
أزحْ عن صدركَ الزّبدا***وهلهلْ صادحاً غردا
وخلِّ البـــومَ ناعبــــة ً ** تقيء الحقدَ والحسدا
بمجتمــع ٍ تثيرُ بـــــهِ *** ذئابُ الغابـــةِ الأسدا
بهمْ عــــــوزٌ إلى مددٍ ***وأنتَ تريدها مــــددا
كفى من القصيدة مددا، وبعد انتهاء الحفل العائلي النجفي، والتكريم المعنوي، وكعادة أهله الأصيلة، ورفقته العريقة، دهدى بيتين من الشعر، كأنهما عند سامعيه جوهرتان من الدرّ:
مقــــامي بينكمْ شكرُ **ويومي عندكمْ عمرُ
سيصلحُ فيكمُ الشـّعرُ** إذا لـم يصلح ِالعذرُ
ونحن نعتذرإليك،ونرجو أن يصلح الأمر، ففي الإطالة مللٌ، وفي الترقب أملٌ، والجواهري لا يمُلُّ، ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ ...
كريم مرزة الأسدي
......................
(1) الشيخ محمد حسن بن الشيخ باقر بن الشيخ عبد الرحيم النجفي، ولد في النجف الأشرف بحدود 1192هـ / 1778م (تختلف الروايات في سنة ولادته)، وتوفي فيها سنة 1266 هـ / 1850م، ودفن في مقبرتهم الشهيرة قرب الصحن الحيدري الشريف، تزعم الحوزة، وكان المرجع الأعلى للطائفة الامامية في جميع أنحاء العالم، اشتهر بموسوعته الفقهية الاستدلالية (جواهر الكلام)، أنجب من الذكور ثمانية، كلهم خلفوا إلا الشيخ حسين، إذ توفي شابا قبل الزواج، والعائلة الجواهرية ترجع بكنيتها، ومجدها وشهرتها إليه.
(2) هنالك روايات تجعل ولادته في 17 ربيع الأول سنة 1317 ه ـ لذلك عزفت عن ذكر الشهر واليوم لعدم تيقني تماما من صحتهما.
(3) توفي الرصافي 1945م، وقال الجواهري بيته في ذكرى الرصافي 1959م .
الترامبية في بعض ملامحها
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عبد الحسين شعبان
يعتبر بعض الباحثين أن مصطلح "الترامبية" هو تعبير عن تيار فكري آخذ بالتبلور منذ تولّي الرئيس دونالد ترامب الإدارة في البيت الأبيض، وهو ليس عابراً أو ظرفياً، وإنما هو امتداد موضوعي لتراكم طويل الأمد في السياسة الأمريكية، في حين يراها آخرون أنها ردّ فعل سياسي طارئ ومؤقت ومرهون بوجود الرئيس ترامب على رأس السلطة في الولايات المتحدة.
وثمة سؤال آخر يتمحور حول جوهر "الترامبية"، أهي وليدة التطورات الجديدة والشاملة في الأوضاع الدولية، خصوصاً بعد تراجع دور الولايات المتحدة عقب غزو أفغانستان 2001 واحتلال العراق 2003 وفشل سياساتها لمواجهة "الإرهاب الدولي"؟ أم هي محاولة شعبوية لرئيس امتهن التجارة وسعى لوضع السياسة في خدمتها، لاسيّما برفع أكثر الشعارات رنيناً وصخباً متجاوزاً على ما هو مألوف من سياسات تقليدية اعتادت عليها واشنطن؟
وبعد ذلك فهل أصبح الوقت كافياً لتحديد الملامح الأساسية للترامبية سواءً أكانت تياراً فكرياً جديداً أم نهجاً سياسياً ارتبط بالرئيس الخامس والأربعين وسُجّل ماركة تجارية باسمه؟ ثم ما هي خصائص الترامبية وسماتها داخل منحى السياسة الأمريكية وانعكاساتها عالمياً، لاسيّما مستقبل العلاقات الدولية؟ الأمران جديران بالدراسة والتأمل بغض النظر عن "المصطلح" وما يمكن أن يتضمّنه من حمولة فكرية أو سياسية، إذْ يبقى جزءًا من ظاهرة نحاول التعرّف على ملامحها الأساسية:
الملمح الأول- البزنس، "العمل التجاري" حيث يمثّل جوهر الترامبية فكراً وممارسة، لأنها تقوم على فلسفة توظيف السياسة في خدمة التجارة، وعلى الرغم من أن عدداً من الرؤساء جاءوا من ذات المهنة، لكن ترامب أخضع السياسة للبزنس، وهو لم يتصرّف أكثر من كونه "رجل أعمال" في حين أنه رئيس أكبر دولة في العالم، وقد مضى بسلوكه التجاري شوطاً بعيداً حدّ التطرّف بإخضاع السياسة والعلاقات الدولية لاعتباراته.
الملمح الثاني- إعادة القرار في السياسة الخارجية إلى البيت الأبيض، بالدرجة الأساسية، وإضعاف ما سواه من مراكز مؤثرة، مثل وزارة الخارجية ووزارة الدفاع "البنتاغون" والمخابرات المركزية الأمريكية CIA، ويدلّ على ذلك الإقالات أو الاستقالات لعدد من كبار المسؤولين والأركان في اتخاذ القرار، وربما كان أهمهم وزير خارجيته جيم ماتيس.
الملمح الثالث- إملاء الإرادة على الحلفاء طبقاً لقاعدة امتثالهم له ومشاركتهم "الحيوية" في تنفيذ القرار الأمريكي، سواء كان ذلك يتّفق مع مصالحهم أو لا يتّفق ، وقد أجرى العديد من الرؤساء الأوروبيين تعديلات على سياسة بلدانهم الخارجية تبعاً لمواقف واشنطن ، حتى وإن عبّروا عن تبرّمهم منها.
الملمح الرابع- التخلّي عن قيم الثقافة الأمريكية للحقوق والحريّات التي كانت واشنطن تتباهى بها تقليدياً وأخذت تضيق ذرعاً من انفتاحها، وخصوصاً إزاء المهاجرين، فأغلقت الأبواب وحاولت بناء أسوار لمنع الهجرة.
الملمح الخامس- العزلة والانقسام والتفرّد في السياسة الخارجية، وقد ازدادت واشنطن تدخّلاً بشكل مباشر في اختيار قيادات المنظمات الدولية، فترجّح كفّة هذا وتحول دون وصول ذاك في تصرّفات فجّة ومنفّرة للدبلوماسية الدولية.
وأخذ المجتمع الدولي ينظر بعين عدم الثقة للسياسة الأمريكية وقراراتها المتفردة فيما يتعلق بالانسحاب من عدد من المنظمات والمعاهدات الدولية مثل: اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ (يناير/كانون الثاني/ 2017) وهي أولى الاتفاقيات التي انسحب منها ترامب، واتفاقية باريس للمناخ (يونيو/حزيران/2017) والانسحاب من اليونسكو (اكتوبر/تشرين الأول/2017) والاتفاق بشأن الملف النووي الإيراني (مايو/أيار/2018) والانسحاب من مجلس حقوق الإنسان (19 يونيو/حزيران 2018) وتجميد المبالغ المخصصة للأونروا (آب أغسطس/ 2018) والانسحاب من معاهدة نزع السلاح النووي مع روسيا ( 1 فبراير/شباط/2019) والموقعة مع الاتحاد السوفييتي السابق والاتفاقية الدولية لتنظيم الأسلحة التقليدية (26ابريل/ نيسان/ 2019) وغيرها.
الملمح السادس – ضعضعة التوازن الدولي بخلق الفوضى، لاسيّما بتشجيع الهويّات الفرعية وتفتيت الدول والبلدان وفرض الحصارات وإضعاف الثقة بميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي والاتفاقيات والمعاهدات الدولية بما يزعزع أركان النظام الدولي ويشيع جواً من التوتر وعدم الاستقرار، بما فيه منع أي تقاربات أو تحالفات سواء تخصّ الأصدقاء أو الخصوم، ولعل الموقف من البريكست والاتحاد الأوروبي، ناهيك عن الموقف من الصين وروسيا خير مثال على ذلك.
الملمح السابع- الرهان على التهديد بالقوة حتى وإنْ لم تستخدمها، حين تلجأ في الكثير من الأحيان إلى الضغوط الاقتصادية للتأثير على سياسات الدول، العدوّة والصديقة لابتزازها، من خلال هيمنة الشركات الكبرى والسيطرة على الموارد وفرض العقوبات الاقتصادية: روسيا والصين وتركيا وإيران وكوريا وسوريا وقبل ذلك العراق، متجاهلة مصالح الشعوب وما ينجم من ردود فعل بسبب ذلك.
الملمح الثامن – التناقض والتخبّط القائم على المنفعية والذرائعية، خصوصاً بنفي حق الشعوب بتقرير مصيرها والمثال الأصرخ هو فلسطين، حيث تنكّرت الترامبية لسياسات الرؤساء السابقين بمن فيهم: أوباما وجورج دبليو بوش وكلينتون، فقامت بنقل سفارتها إلى القدس، وأعلنت عن "إسرائيلية" الجولان السورية "بحكم الأمر الواقع"، وفي الحالين ثمة تعارض صارخ مع قرارات مجلس الأمن وما يسمّى بـ"الشرعية الدولية".
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
قراءة في رواية أولاد حارتنا
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. محمد فتحي عبد العال
تقديم: تعد رواية أولاد حارتنا من الروايات الابرز تأثيرا في الأدب المعاصر والأكثر تطرفًا واثارة لحفيظة الأوساط الدينية في مصر والعالم العربي وقد قام بتأليفها الكاتب المصري نجيب محفوظ وتعد الرواية عاملا أساسيا في وصوله للعالمية وحصوله علي جائزة نوبل للآداب عام 1988م، كأول مصري وعربي يحصل علي الجائزة وفي المقابل كانت سببا رئيسا لمحاولة اغتياله عام 1995.
الحكمة من الرواية بحسب المؤلف:
بعد ثورة يوليو عام 1952 توهم الكثيرون أن الأمور سوف تسير نحو التحول الي الحياة الاجتماعية العادلة الا أنه وبمضي الوقت اكتشفوا أن أصنام العهد الملكي التي هدمت حلت محلها اصناما جديدة وأن الأبواق الإعلامية التي سبحت بحمد الأصنام الهالكة هي ذاتها التي تصنع الأصنام الجديدة وتبارك عبادتها وأن لا شيء من حياة الناس قد تغير. حاول نجيب محفوظ عبر استحضار قصص الأنبياء أن يضع نصاب قادة يوليو 1952 حاجة المجتمع الماسة إلى تحقيق العدل ونبذ الظلم وهي القيم التي نشدها الأنبياء في رسالاتهم. غير أنه استخدم طريقة غير مألوفة فقد نزع عن هذا القصص الديني لباسها المقدس وأوجه الاعجاز فيها مسقطا إياها علي الواقع وبدت القوالب الواقعية شديدة السذاجة كما هو الحال في تحويل النبي موسی صاحب معجزة العصا الي جبل الحاوي والنبي عيسى الذي يبريء الاكمة والابرص الي رفاعة طارد العفاريت ! عبر محفوظ عن ذلك بقوله: "فقصة الأنبياء هي الإطار الفني ولكن القصد هو نقد الثورة والنظام الإجتماعي الذي كان قائما." ولأن الأمور بخواتيمها فهل وصلت الرسالة لقادة يوليو والاجابة: بالطبع لا.. فلم يفهم أحد أن للقصة طابعا سياسيا قبل تصريح الكاتب بذلك والدليل أن الرئيس جمال عبد الناصر والمعروف بصرامته مع المعارضة وجه رئيس تحرير صحيفة الأهرام آنذاك محمد حسنين هيكل بالاستمرار في نشرها الأول عام 1959علي الرغم من اعتراض الأزهر مع سرعة الانتهاء من نشر حلقاتها لتكون يومية بدلا من أسبوعية .
شخصيات الرواية:
تتضمن الرواية خمس قصص: الأولى: أدهم والثانية: جبل والثالثة: رفاعة والرابعة: قاسم والخامسة: عرفة.وقد استطاع محفوظ أن يختار للأنبياء أسماء مبطنة قريبة من إسم كل نبي ولصيقة بالواقع فأدهم هو أدم وجبل هو موسی ورفاعة هو عيسی وقاسم هو محمد أما إدريس فيمثل إبليس، وقدري هو قابيل، وهمام هو هابيل وشافعي وعبدة يوسف النجار ومريم أما عرفة فيرمز للعلم المادي الحديث .
قصص الرواية في ايجاز:
القصة الاولي أدهم: وتبدأ القصة بشخص يدعى الجبلاوي وهو المستمر معنا طوال الرواية علي الرغم من تباعد الأزمنة وكان كثير الحريم يقطن في بيته الكبير ذو الحديقة الغناء وله وكالة كبيرة، ولديه أبناء عدة أكبرهم إدريس ولكن الجبلاوي يفضل أدهم ابن الجارية السوداء على بقيَّة أشقائه لعلمه بأسماء المستأجرين واجادته الكتابة والحساب ، وهو ما قبله عباس وجليل ورضوان علي مضض ورفضه ابنه إدريس؛ فيطرده الأب من البيت الكبير إلى الأبد ، فيحاول الإنتقام عبر إفساد العلاقة بين أدهم وأبيه واغوائه بالوصول إلى كتاب الجبلاوي المتضمن الميراث حتي يطمئن إدريس إن كان له نصيب فى الميراث أم لا ؟ فتزين أميمة لزوجها أدهم خوض هذه المغامرة والوصول الي المجلد حتي يعلما نصيبهما أيضا من الميراث فيكتشف الجبلاوي ذلك فيطرد أدهم وزوجه من البيت إلی الخلاء .رزق أدهم من أميمة بقدري وهمام ثم ينشب الخلاف بين الأخوين مع دعوة الجبلاوي عبرالبواب كريم لهمام ليعيش مع جده في البيت ويبدأ حياة جديدة هناك فتتملك الغيرة من قلب قدري فيقذف أخيه همام بالحجر ويقتله ثم يدفنه.
القصة الثانية جبل:وتتناول القصة الصراع بين آل حمدان أفقر الناس وأكثرهم تعرضا للتنكيل والهوان والناظر الافندي حول احقيتهم في وقف الجبلاوي ثم يطل علي الأحداث جبل والذي تتبناه هدی هانم العقيم زوجة الناظر بعد أن رأته في حفرة مملؤة بمياه الامطار ، ثم يتعلم مباديء القراءة والكتابة، وحين يبلغ أشده يعينه الأفندي علي إدارة الوقف.ثم تتسارع الأحداث بفرار جبل الي سفح المقطم بعدما أجهز علي (قدره) احد فتوات الناظر لينقذ (دعبس) احد آل حمدان الذي كان علي موعد مع الهلاك بنبوت قدره الغليظ وفي سوق المقطم يجد جبل كشك حنفية مياه عمومية، يتزاحم حولها الناس ليملئوا أوعيتهم بالماء فيجد فتاتين (شفيقة وسيدة) منعهما الحياء من مزاحمة الناس فملأ لهما الماء. ثم كان استدعاء أبوهما المسن "البلقيطي" مروض الحيات له حيث يزوجه أحدي ابنتيه ويعلمه مهنة الحواة، فكان يخفي بيضة في جيب ويخرجها من جيب آخر، ويتعامل مع الحيات والثعابين ثم يرقّص الحيّة. ويذهب جبل إلى الناظر - بعد أن قابَل الجبلاوي وأمَرَه بذلك - مطالبًا بحقِّ آل حمدان في الوقف فيرفض ثم يلي ذلك أحداث عظام تقع في الحارة فتغزو الثعابين البيوت حتي وصلت بيت الناظر وارعبت الهانم فطلب من جبل أن يطهر الحارة من الثعابين في مقابل إحترام كرامة آل حمدان وإعطاءهم حقهم في الوقف. لكن الناظر يحنث وعده لجبل بعد أن انجز مهمته لتحدث مواجهة بين الطرفين وتنتهي القصة بعودة الحق لآل حمدان .
القصة الثالثة رفاعة: حيث زنفل الطاغية قاتل الاطفال ينزل بآل جبل أشد ألوان العذاب مما يضطر شافعى النجار وزوجته الحامل (عبدة) إلی الفرار ثم العودة مرة اخري إلى الحارة بعد أن هدأت الاحوال وبصحبتهما ابنهما رفاعة ..كان رفاعة شغوفا بالقصص التي يرويها الشاعر جواد بقهوة جبل عن الجبلاوى وأبنائه وهذا ما صرفه عن التركيز في مهنة أبيه في النجارة وكان رفاعة كثير التردد علي زوجة الشاعر (أم بخاطرها) التي كانت تجيد ترويض العفاريت بالزار والبخور السوداني والتعاويذ الحبشية والاغاني السلطانية ليتعلم منها فشعر أن هذا هو العلم الذى يحقق السعادة الحقيقة ويعالج الشرور ثم جاءه أمر جده الجبلاوي(فالإبن الحبيب من يعمل !!) علي عودة العدل إلى الحارة ، يتزوج رفاعة من البغي ياسمين انقاذا لها إلا أنه كان زاهدا في الزواج فتستغل غيابه في تطبيب الناس عبر طرد العفاريت وتخونه ياسمين مع بيومي الفتوه والذي يتآمر مع الفتوات علي قتل رفاعة فلمَّا عرف رفاعة بعزمهم هرب مع أصدقائه الأربعة الذين كان قد اصطفاهم بعد توبتهم (زكى الصعلوك وحسين الحشاش وعلى البلطجى وكريم القواد) ، الا أن الفتوَّات ظفروا به بمساعدة ياسمين وقتلوه ثم دفنوه ويستخرج أصدقاؤه جثته من المكان الذى دفنها فيه الفتوات ليدفنوها فى إحدى المقابر ثم يقتلون ياسمين لخيانتها إلا أن أهل الحارة سري بينهم أن الجبلاوي رفع جثَّة رفاعة ودفنها في حديقته ، ثم بالَغُوا في تقديس والديه ومنهم من امتنع عن الزواج اتباعا لسيرته.
القصة الرابعة قاسم: نأتي لقاسم الطفل يتيم الأبوين الذي تربي في كنف عمِّه زكريا بائع البطاطا من حي الجرابيع والذي يذهب به إلى يحيى العجوز بائع الأحجبة والبخور والمسابح وتتوطد العلاقة بينهما ، ومع عمل قاسم في رعي الغنم حُبِّب إليه الخلاء والهواء النقي وحب النساء ثم يحدث الزواج بين قاسم والسيدة (قمر) التي يرعي غنمها والتي تكبره بسنوات وفي أحدی الليالي ينتاب القلق قمر علي زوجها فترسل في طلب عمه زكريا وابن عمه حسن وصديقه صادق للبحث عنه فيجدوه مغشيا عليه ولما أفاق أخبر قمر أن أحد خدم الجبلاوي ويدعي قنديل قد أخبره بأمر الجبلاوي له بالتصدی لظلم الفتوات وبعد قمر يخبر صديقه صادق وابن عمه حسن ، وعمه زكريا يحاول إثنائه خشية بطش الفتوات ومع اضطهاد أتباع قاسم وموت قمر يقرر قاسم الهجرة بعيدا عن الحارة وتصله الأخبار بأنهم يتآمرون لقتله فيهرب عبر الأسطح المجاورة تاركا مصباحه مشتعلا في شقته لتضليل المتآمرين ويقابله أتباعه المهاجرين ممن سبقوه فى جبل المقطم بالغناء ونشيد (يا محنى ديل العصفورة) ثم يتزوج ببدرية الفتاة الصغيرة أخت صديقه صادق وبعد أن نمت قوة أتباع قاسم فيهجمون على زفة سوارس فتوة الحارة وتدور معركة بالشوم والنبابيت تنتهى بانتصار قاسم وأصحابه فيقرر الفتوات الثأر فيزحفوا على الجبل حيث قاسم وأتباعه ويفاجئهم لهيطة الفتوة الكبير من الجنوب وتدور معركة عنيفة يقتل فيها لهيطة .ثم يحاول رفعت ناظر الوقف أن يستأصل شأفة قاسم وأتباعه عبر استدعاء جلطة وحجاج الفتوتين لإحكام القبضة علي قاسم وأتباعه في الجبل وليطمئن أن لا خلاف بينهما فيمن يصبح كبيرا للفتوات خلفا للهيطة ؟.لكن يقتل حجاج غيلة ويدب الشقاق بين جلطة وأنصار حجاج المغدور ويحاول ناظر الوقف الحيلولة دون اندلاع القتال بين المعسكرين موضحا أنها مكيدة من قاسم لبث الفرقة ولكن نصح الناظر يذهب ادراج الرياح ويتقدم قاسم ورجاله إلي بيت الناظر والذي فر من توه ويقف قاسم أمام البيت الكبير خطيبا قائلا: (هنا يقيم الجبلاوي جدنا جميعا لا تمييز في الإنتساب إليه بين حي وحي أو فرد وفرد) ثم وزع ريع الوقف على الجميع بالقسطاس فرأى فيه الجرابيع نموذجا فريدا لم يعرفوه من قبل ثم تعددت زيجاته ليربط نفسه بأهل الحارة جميعًا ثم مات قاسم فخلفه (صادق)على النظارة متبعا سيرته، ثم دب الخلاف بين القوم حينما رأوا أن (حسنًا) أحق بالنظارة لقرابته من قاسم، ليعود الجرابيع بعد موت صادق للتناحر وتمنَّى الناس لو عادت أيام قاسم وصادق مرَّة أخرى. القصة الخامسة: حيث عرفة الغريب والذي يتخذ من بدروم في الحارة معملاً فكان هو وأخيه حنش يعملان على ضوء مصباح غازي مثبت في الجدار لصناعة الأعاجيب، حيث يخلط المواد بعضها ببعض مستخرجا موادا جديدة ، كان عرفة لا يصدق حكايات أهل الحارة عن الجبلاوي وجبل ورفاعة وقاسم ويقول عرفة (وما أنا فتوة ، ولا برجل من رجال الجبلاوي ولكني أملك الأعاجيب في هذه الحجرة ، ومنها قوة لم يحز عشرها جبل ورفاعة وقاسم مجتمعين) ويدير محفوظ على لسان عرفة وزوجته عواطف حوارا هاما للغاية: (فقالت عن جبل ورفاعة وقاسم: أولئك كلفوا بالعمل من قبل جدنا الواقف ، فقال عرفة بضجر جدنا الواقف ؟ كل مغلوب على أمره يصيح كما صاح أبوك " يا جبلاوي " ولكن هل سمعت عن أحفاد مثلنا لا يرون جدهم ، وهم يعيشون حول بيته المغلق ؟ وهل سمعت عن واقف يعبث العابثون بوقفه على هذا النحو وهو لا يحرك ساكنا؟ فقالت: إنه الكبر ، فقال لم أسمع عن معمر عاش طول هذا العمر فقالت: ربك قادر على كل شيء فغمغم قائلا: كذلك السحر قادر على كل شيء) فدفعه فضول العلم لاستجلاء حقيقة كتاب جده الجبلاوي وسر قوته المتضمن شروط الوقف والذي طرد ادهم بسببه فتسلل إلی البيت الكبير فحفر حفرة بمساعدة أخيه دخل منها ليري أمامه خادم الجبلاوي الأسود العجوز فخنقه خشية افتضاح أمره ثم فر مسرعًا، وإذا به يسمع أن الجبلاوي لم يحتمل خبر قتل خادمه فمات كمدا عليه، فيشعر عرفة بالذنب تجاه وفاة الجبلاوي ويعزم علي اعادة الحياة له بسحره وأن يحل محله قائلا: (إنه يجب على الابن الطيّب أن يفعل كلّ شيء، أن يحلّ محلّه، أن يكُوْنه.) فيقتل فتوة الحارة ويفجر عددا من الفتوات الاخرين عبر متفجرات من زجاج سحري ثم تأتي خادمة الجبلاوي تنفيذا لوصية الجبلاوي ، لتخبره أن جده الجبلاوي قد مات وهو راض عنه! ثم تتوالی الأحداث ويدفن عرفة وزوجته عواطف أحياء بأمر الناظر قدري الذي حاول الاستحواذ علی سحر عرفة لبسط سلطاته وظلمه ولكن عرفة قد أستطاع أن ينقذ قبيل موته الكراسة التي سجل فيها خلاصة عمله،وبحث عنها حنش في القمامة حتي اهتدی لها وأصبح عرفة حديث الناس ورأوا أن ملاذهم الوحيد هو سحر عرفة وواجه الناس شعراء المقاهي الذين يتغنون بقصة الجبلاوي "لا شأن لنا بالماضي ولا أمل لنا إلا في سحر عرفة ولو خيرنا بين الجبلاوي والسحر لاخترنا السحر"؛ ثم رفع أهل الحارة أسم عرفة فوق جبل ورفاعه وقاسم ولم يعد يعنيهم إن كان قاتلا للجبلاوي أم لا؟ .
الجدل حول الجبلاوي:
لا مفر أمام القاريء لهذه الرواية من الإعتراف أن الشخصية الرئيسية فيها هي الجبلاوي ثم يليه عرفة ...ويحاول الكثير من المتيمين بأدب محفوظ تخطي مسألة تجسيده للذات الالهية في شخص الجبلاوي خاصة وأن محفوظ قد صب عليه جام غضبه علي ألسنة أبطال الرواية بعبارات متدنية واعتباره رمزا للدين وكأن هناك اختلاف بين الله والدين!!
لقد أضاف محفوظ للجبلاوي أوصاف لا تكون إلا لله تعالى فيذكر أنه عاش فيها (يقصد الحارة) وحده وهي خلاء خراب وهو ما يتطابق مع ما جاء في العهد القديم في سفر التكوين: (في البدء خلق الله السماوات والأرض ، وكانت الأرض خربة وخالية) ويصفه في موضع آخر: (وهو يبدو بطوله وعرضه خلقا فوق الآدميين ، كأنما من كوكب هبط) . ويقول أيضا على لسان جبل: (ولكنه بدا لي شخصا ليس كمثله أحد في حارتنا ولا في الناس جميعا) وهو ما يتطابق مع القران الكريم في قوله تعالي: " ليس كمثله شيء " اضافة إلی أن الجبلاوي بقي للأجيال المتعاقبة ، معتزلا ومختفيا لا يراه أحد ولا يتصل بأحد إلا عبر وسطاء وخدم ، ولا يعلم الناس عنه شيئا إلا من خلال ما يروى وهو ما يتفق مع قوله تعالي:" وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم "
كما يلحق محفوظ بالجبلاوي أوصاف لا تليق بالذات الالهية فهو لا يكترث بوصاياه المهملة ولا بسلب أمواله وأموال أحفاده فيقول علي لسان عم شكرون: (يا جبلاوي يا جبلاوي حتى متى تلازم الصمت والاختفاء. وصاياك مهملة واموالك مضيعة .انت في الواقع تُسرق كما يسرق احفادك يا جبلاوي.يا جبلاوي الا تسمعني؟الا تدري بما حل بنا؟لماذا عاقبت ادريس وكان خيرا الف مرة من فتوات حارتنا؟يا جبلاوي؟).
وهو الاب القاسي المذل لابنائه علي لسان ادريس: (ما أهون الأبوة عليك، خلقت فتوة جبارا فلم تعرف إلا أن تكون جبارًا، ونحن أبناؤك تعاملنا كما تعامل ضحاياك العديدين)..ويقول ادريس (ملعون البيت الذي لا يطمئنّ فيه إلا الجبناء، الذين يغمسون اللقمة في ذلّ الخنوع، ويعبدون مُذلّهم..). وعن غياب التسامح لدي الجبلاوي يقول بالرواية: (لماذا كان غضبك كالنار تحرق بلا رحمة؟ لماذا كانت كبرياؤك أحبّ إليك من لحمك ودمك؟وكيف تنعم بالحياة الرغيدة وأنت تعلم أننا نداس بالأقدام كالحشرات؟ والعفو واللين والتسامح ما شأنها في بيتك الكبير أيها الجبار!).
تفسير نهاية الرواية في ضوء فكرة موت الإله عند نيتشه:
و يشير هذا المصطلح الي التكفير عن الخطايا عبر موت المسيح وصلبه إلا أن نيتشه طرح فكرة موت الاله في إتجاه مغاير عبر كتابه (العلم المَرِح) الذي نُشِر عام 1882، حيث قال: (لقد مات الإله. ونحن الذين قتلناه). فموت الإله المسيحي، هو موت للإله الأخلاقي وأنه لا توجد قوة ميتافيزيقية (غيبية) تتحكم في الإنسان ، فالإنسان هو المسؤول عن أفعاله وهو القادر علي تشكيل عالمه ومن هنا طرح فكرة الرجل الخارق أو السوبرمان ليكون بديلا للإله الميت، هذا «الرجل الخارق» سيأتي لإنقاذ العالم وسيصوغ أهدافا ثابتة ومعاني قيمية واخلاقية حياتية نابعة من عالمه الذي يعيش فيه وسيكون أكثر وعيا بمعاناة الوجود، ومستعدًا للتضحية بنفسه من أجل تقدم الإنسانية.
ربما نجد في هذه الفكرة تفسيرا للنهاية التي أختارها محفوظ ففكرة الرجل السوبرمان تتجلی في عرفة الذي يمتلك قوة السحر(العلم) والتي لا يمتلك عشرها جبل ورفاعة وقاسم ممثلي الديانات الثلاث مجتمعين مما يجعل أهل الحارة يرفعون اسمه فوق جبل ورفاعة وقاسم كما تضع الرواية قدرة السحر (العلم) في مواجهة قدرة الله فكليهما قادر علي كل شيء وذلك بكل وضوح علي لسان عرفة ثم تنتصر لقوة العلم في قول عرفة (أن أثر السحر لا يزول) ثم نري انقشاع سحب المواجهة بين العلم والدين بموت الجبلاوي (الدين او الاله) بتأثير عرفة (العلم) ثم عزم عرفة علي اعادة الجبلاوي للحياة مرة أخري عبر (أن يحل محله) وهو ما تحقق عبر قتله للفتوات بسلاحه السحري وهنا ينجح العلم في فترة وجيزة في تحقيق ما عجز عنه الدين وصم أذنيه عنه عبر عقود ثم تضحية السوبر مان بنفسه بعد أرسی القواعد الثابتة في كراسته والتي يجدها حنش لينير الطريق للآخرين الذين وجدوا في سحر عرفة الملاذ .وموت عرفة ليس موتا للعلم فالعلم سلاح مستمر بينما موت الجبلاوي هو انقضاء لعصر الدين كحل للصراعات الإنسانية.
انها مفردات محفوظ وعوالمه الخاصة وتصوراته بعيدا عن فكرة الايمان والكفر فأذا أردت سبر أغوار الرواية فأنت تتحسس صراعا نفسيا داخل الرجل لم يحسمه في صفحاته التي تعدت الخمسمائه صفحة بشأن أفكار ثلاث الله والانسان والعلم والمكان هو الحارة الكون بالنسبة لمحفوظ فهو يناقش فكرة الله من منظور ظلما الهيا يراه بحق الضعفاء المتروكين فريسة لفتوات الحارة وأن العدل الالهي لا يظهر إلا عبر مصلحين لا تستمر رسالتهم طويلا (فآفة الحارة النسيان) وينتكس المجتمع مرة أخری ومع كونهم مصلحين فهم يتعاطون الحشيش الأفيون والخمر ثم يناقش فكرة الأنسان وتنوعه بين الخير والشر وذلك عبر السجال الممتد بين الفتوات والمصلحين وأهل الحارة الضعفاء المفعول بهم دوما ثم في النهاية يري أن العلم هو البديل للدين فهو طريق مستمر غير متقطع وبالتالي هو القادر علي ترسيخ ديمومة العدل ومحاربة الظلم دون حدوث انتكاسات بينيه.
ما فات محفوظ:
والحقيقة أن المسألة محسومة فالشر هو وجود أنطولوجي فكيف للانسان أن يتذوق الخير أن لم يعرف مقابله وهو الشر وكيف نستطيع تقرير حقيقة أن الانسان مخيرا دون أن يكون موضوعا بين أضاد أما العلاقة بين الدين والعلم فلا تصارع فيها فالانسان في ممارسته للدين والعلم وفي محاولته اكتشاف المجهول انما يلبي حاجة فطرية ملحة ويدعم الوشائج التي تربطه بخالق هذا الكون .
د. محمد فتحي عبد العال
كاتب وباحث مصري
العراق: هدأ الحراك الشبابي ولكن التضحيات جسيمة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. كاظم الموسوي
هدا الحراك الشبابي الغاضب في العراق بعد اسبوع من التظاهر اليومي وقدم تضحيات جسيمة تجاوزت الأرقام المعلنة، عكست أساليب عنف تفضح النوايا والغايات التي تفاعلت في إدارة البلاد والعلاقة بين السلطات والشعب. وفي الوقت نفسه لا يعني هذا أن الأمور ختمت وان الغضب الشعبي بعد تلك الدماء سيسكت أو يتوقف نهائيا مهما وعد أو اغري بإصلاحات لا تتحقق عمليا أو واقعيا وتظل وعودا كسابقاتها من الحكومات السابقة التي تركت المطالب المشروعة، بعد ان اعترفت بها لفظيا، دون تنفيذ فعلي، بل زادت في اعمال الفساد والعرقلة فيها، ولاسباب لم تعد سرية، ومنها التدخلات الأجنبية.
لقد أعلن رسميا عن استشهاد مئة وأربعة مساء اليوم السابع 2019/10/7 وزاد في الليل إلى مئة وعشرة شهداء، وعن إصابة ستة آلاف وزاد العدد إلى ستة آلاف وخمسمائة مواطن عراقي، مدني وعسكري، وهناك من يضع ليس شكا في ما اعلن وحسب بل يعلن أرقاما أخرى تتجاوز المعلن. وهي في كل الاحوال ارقام مجزرة دموية لا يمكن الصمت عليها أو تمريرها دون المطالبة بمحاكمة وكشف المرتكبين لها والمنتهكين لابسط الحقوق المشروعة والمتفق عليها قانونيا ودستوريا وإنسانيا.
بلغ السيل الزبى ولم تعد الوعود المعسولة مقبولة أو قادرة على إرضاء المحرومين والمحتاجين والجائعين فعليا لا قولا أو تعليقا إعلاميا. رغم اسراع الرئاسات الثلاث في بغداد، (الجمهورية، مجلس الوزراء، مجلس النواب)، إلى الاجتماع والخطاب وتقديم برامج عمل إصلاحية لملاقاة المطالب التي رفعتها تظاهرات الغضب الشعبي، والى اتخاذ قرارات عاجلة لمعالجة المطالب وتوفير إمكانات وقدرات، مما يستدعي أسئلة عنها، لماذا لم تتوفر قبل ذلك وكانت أغلب المطالب معروفة ومرفوعة في الحراك الشعبي في الفترات السابقة، أو السنوات السابقة. وهل ستنفذ بأكملها ام ستكون كسابقاتها، اقوالا بلا افعال، محاولات شراء وقت وتعليق الاحتجاجات الشعبية أو تجزئتها؟.
وسائل العنف التي واجهت الحراك الشعبي الاخير، كشفت قسوة مفرطة وتعاملا عدائيا لا يمكن أن يعبر عنه بشكل محايد، رغم الحديث عن طرف ثالث أو جهات مشبوهة وموجهة من جهات لها مصالح بإثارة العنف واستفزاز الحراك الشعبي وإثارة النقمة على الجهات السياسية الرسمية أو المشتركة معها في العملية السياسية. وهي ايضا وفي كل الأحوال يجب أن تحاسب وتسجل كجرائم جنائية لا تمر مرور الكرام. وايقاف الاعتداء والتهرب او الإفلات من العقاب.
الهدوء والقرارات والوعود امام اختبار، تتطلب إعادة النظر والاستفادة من دروس التجربة الماضية، وعدم تكرار أو المراوحة والقفز على الأسباب والمبررات والنتائج والتداعيات. والاهتمام الجدي بكل ما يصدر من مسؤولين، أو نواب، أو اعلاميين ممارسين. مثلا تصريح نائبة برلمانية، يستدعي التوقف عنده ووضعه في مواجهة السلطة والتشريع والمسؤولية. إذ أعلنت النائبة عن تحالف النصر هدى سجاد، يوم الثلاثاء 2019/10/8 أن الأرقام المعلنة حول ضحايا المظاهرات غير دقيقة ويفوق الإحصائيات المعلنة. (أليس هذا كلاما مسؤولا ويقتضي الدليل والمساءلة؟!)
وقالت هدى لشبكة رووداو الإعلامية، إن "الإحصائيات الرسمية المعلنة من قبل الحكومة العراقية حول أعداد الضحايا غير دقيقة بعد أن استقبلت مستشفى واحدة فقط في العاصمة بغداد أكثر من 100 شهيد وعدد كبير من الجرحى". مشيرة إلى أن القمع والاستهداف العشوائي الذي طال شباب العراق سيدفع بالبلاد نحو مزيد من التصعيد. وأضافت أن المحاصصة وعدم توزيع ثروات العراق بشكل عادل من الأسباب الرئيسة وراء تدهور الأوضاع يوماً بعد يوم منذ 2003 ولغاية الآن. مؤكدة أن المعالجات الحكومية لجميع أزمات العراق غير مدروسة وعقّدت المشهد السياسي والأمني والاقتصادي.
من جهتها وخلال فترة حراك الغضب وفي إطار التعاون والتنسيق المتواصل، لم تتوقف اللقاءات والاجتماعات بين الرئاسات الثلاث، ولاسيما بين رئيس مجلس الوزراء عادل عبدالمهدي، ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، ومناقشة الجهود المبذولة للإستجابة للمطالب المشروعة ولماورد من مكتب المرجعية الدينية العليا في خطبة الجمعة، والطلبات التي سلمها المتظاهرون في ضوء اللقاءات المباشرة والإتصالات التي اجريت مع ممثليهم، والتنسيق بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، كما "جرى التباحث حول حزمة الإصلاحات والقرارات الأولى التي أعلنتها الحكومة والإستمرار بتقديمها وصولا الى تطمين أبناء الشعب على حرص السلطتين التنفيذية والتشريعية على الإستماع للمطالب المحقة والإستجابة لها ، الى جانب بحث الخروقات والإعتداءات التي ادت الى وقوع شهداء وجرحى من المتظاهرين وأفراد الأجهزة الأمنية، وتركيز الجهود على حفظ الأمن والإستقرار بعد عودة الأوضاع الى طبيعتها في بغداد والمحافظات " كما ورد من مكتب رئيس الوزراء يوم 2019/10/8.
مع كل ما حصل، يضاف له، وما يمكن الإشارة إليه باسف، يقع في تمكن جهات لها مصالح في إثارة الفوضى وإشاعة عدم الاستقرار في العراق من نشر شعاراتها واهدافها بقوة في ظروف أو هوامش الحراك الشعبي وتصويره وكأن الحراك خرج من اجل ما أرادته وخططت له وليس احتجاجا مطلبيا له دوافعه الواقعية، وعملت على تشويهه باقتراف جرائم واحداث تلفت الإنتباه وتسحب زوم الكاميرا اليها، كجرائم القناصة وحرق المباني الحكومية أو الحزبية ورفع شعارات لا علاقة لها بالمطالب المشروعة النابعة من تعثر أو تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي دفعت الى الاحتجاج والتظاهر وتصاعد الحراك الشعبي. لقد نجحت تلك الجهات وامثالها ايضا باستغلال إمكاناتها الإعلامية من تمرير ما خططت له وجعلت أوساطا اعلامية وسياسية تزعم بمعارضتها او نقدها للسلطات المتنفذة في الدولة من تكرار وترديد الشعارات والفيديوات الممنتجة باتقان وتقنية فنية متطورة وإعادة توزيعها وارسالها ونشرها بغفلة أو بغباء حماسي مريب. الأمر الذي يفضح وعي وادراك تلك الأوساط، افرادا أو مجموعات، ودورها ايضا في تعريض الوطن ومستقبل الشعب إلى إخطار إضافية وتدمير متسلسل.
هدأ الحراك الشبابي في العراق. وكانت تضحياته جسيمة ولم يعد بعد الإنكار والاختفاء من وقائع ما حصل مطلوبا، بل لابد من البحث عن سبل التغيير الحقيقي وانهاء المظالم واستثمار الثروات لخدمة الشعب والانطلاق، ولو متاخرا، بمشروع وطني ديمقراطي تقدمي يحفظ حقوق الإنسان وكرامته ويشرع لبناء دولة القانون والعدالة الاجتماعية والحريات والسيادة والاستقلال الوطني.
كاظم الموسوي
الابستمولوجيا في المنهجين المادي والمثالي والخبرة العقلية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: علي محمد اليوسف
تقديم: كانت لافكار (كانط) 1724 – 1804الفلسفية تأثيرا قويا لترسيخ الثورة الكوبرنيكية 1543م،ومن بعدها الثورة العلمية التي قادها غاليلو 1616م، وأنسجاما مع الفكر الديكارتي العلمي في القرن السابع عشر التمهيدي المزامن لثورة أسحق نيوتن 1672م التي زلزلت جميع اليقينيات اللاهوتية الثيولوجية، والتي فرضت على الفكر الفلسفي تبّني النزعة العلمية في تأمين تطابق الاشياء مع معرفتنا لها حسب تعبير رورتي،، وقد كرّس كانط طيلة أحد عشر عاما جهوده لهذه المهمة التي أثمرت عن ثلاث مؤلفات له تمثّل أهّم رصيده الفلسفي الموروث من بعد وفاته هي على التوالي (نقد العقل المحض) و(نقد العقل العملي) و(نقدالحكم) التي سببت ثلاثتها أمتعاضا وعداءا شديدين لكانط شخصيا واجهها بكل ثبات وبسالة وتحمّلها بشجاعة وسط كنيسة متزمتة وسلطة ملك جاهل ومجتمع قطيعي مبرمّج لاهوتيا لم يدّخروا جميعا جهدهم في محاربته بكل الوسائل حتى الوضيعة منها.
كانط وفلاسفة التجريبية المنطقية
لقد راجع كانط بمنهجه النقدي العقلي الأخطاء التي وقع فيها الفكر الفلسفي الحسي - التجريبي عند بيركلي وهيوم وجون لوك حول ثنائية شغلت التفكير الفلسفي زهاء قرن كامل بدءا من القرن السابع عشر حتى بداية مطلع القرن التاسع عشر، وهي ثنائية العقل والادراك المعرفي التي تمرّكز حولها مبحث الابستمولوجيا في تقليب صفحات الجدل الفلسفي الواسع حول علاقة الادراك الحسي بالتصور الذهني – العقلي،.. والتي أصبحت الآن بالنسبة لفلاسفة البسكيولوجيا** واللغة المعاصرين مسألة لا نفع من البحث فيها حالها حال الميتافيزيقا ليست جديرة بالاهتمام الفلسفي والوقوف عندها..
ورغم الاختلاف الجوهري الفلسفي الكبير بين فهم كانط لهذه الثنائية وأختلافه مع كل من جون لوك وديفيد هيوم من حيث أن كانط ناقش ثنائية العقل والمعرفة تجريدا فلسفيا محضا تماشيا مع منهجية أفكاره المثالية في كتابه نقد العقل المحض، في الوقت الذي كان تناولها قبله كلا من هيوم وجون لوك من منطلق أبستمولوجي تجريبي وليس من منطلق تجريد نظري فلسفي، وقد لخّص ريتشارد رورتي هذا التباين حول تلك الثنائية الفلسفية الخلافية (الابستمولوجيا والعقل) في عبارته ( أنه قد ذهب كانط الى مناقشة معرفة (قضايا) وليس معرفة (أشياء) كما ذهب له جون لوك) 1. معنى العبارة المباشر أن كانط ناقش قضايا وافكار (نظرية) في حين عمد جون لوك الى مناقشة (اشياء) فيزيائية متعينة انطولوجيا في العالم الخارجي.
نجد من المهم التنبيه أن كانط في معالجته قضايا المعرفة والعقل يلتقي مثاليا مع مناطقة المثالية التجريبية الواقعية الانجليزية التي يمثلها بيركلي وهيوم وجون لوك بأختلاف بسيط يتوّضح معنا لاحقا مرتكزه الاساس أن كانط يذهب الى أن الوجود سابق على الفكر.. والفكرأجراء عقلي يتعامل مع الوجود تخليقيا له ديالكتيكيا متخارجا معه وليس في أيجاده كواقع من عدم بالفكر المجرد كما يدعو هيوم ولوك، وكانط رغم هذا الاختلاف الجوهري عن المثاليين فهو بعيد عن الفهم المادي الماركسي المعروف في ثنائية أسبقية الواقع على الفكر.. بينما ذهب هيوم ولوك نحو عدم وجود عالم خارج مدركات الحواس وما يختزنه الذهن من أحساسات تصله عبر الحواس والجهاز العصبي تمّثل وجود أشياء العالم الخارجي في العقل التجريدي ومن دون الاحساسات التي مصدرها الحواس لا وجود لمادة في تفكير العقل ويمسي فارغا.
واضح من عبارة رورتي السابقة أن كانط ناقش ثنائية العقل والابستمولوجيا من منطلق تجريدي فلسفي على نطاق الفكر النظري المحض كما أشرنا له، في حين كان لوك ناقش الثنائية من منطلق حسّي تجريبي يفهم المعرفة فهما تجريبيا علميا تماما لكنه فهم مثالي لا مادي أيضا.. . وعبّر رورتي عن فهم جون لوك المثالي التجريبي الذاتي بما يرتّب عليه قوله (عدم وجود موضوعات في العالم الخارجي قبل عمل العقل التكويني، والموضوع هو الشيء الذي تصدق عليه محمولات عدة هي دائما نتيجة تركيب في العقل له داخليا) 2.. جون لوك هنا يلغي وجود عالم مادي مستقل خارج الادراك الحسّي العقلي له.. .علما أن عمل العقل التكويني داخليا يعطي بالضرورة الاستنباطية فلسفيا تكوينات العقل الانشائية للاشياء في وجودها الخارجي كمواضيع مستقلة للادراك العقلي.. ولا يخلقها العقل أنطولوجيا بالفكرالتصوري المجرد.. ولا يعدم ويلغي وجود الاشياء باستقلالية عدم الادراك الحسّي لها.. فالموجودات هي أشياء مادية موجودة سواء أدركها الحس والعقل أم لم يدركانها.
و تعبير رورتي واقعي موضوعي الى حد ما في فهم أكتساب المعرفة علميتها التجريبية عند لوك، فالموضوع حسب عبارته تكون محمولاته العديدة هي نتيجة لمعالجته عقليا بما أطلق عليه كانط مقولات العقل البنائية التشكيلية لموضوع الادراك بالذهن ، ومن حيث أنكارجون لوك الاقرارالمبدئي بحقيقة أن وجود الشيء واقعا مستقلا في عالم الموجودات يكون قبل أدراكه، هو غيره موضوعا مدركا جرت عليه عملية تخليق ذهني – عقلي وجعلت منه موضوعا تركيبيا معرفيا راسخا في الذاكرة في جملة مواصفاته وماهيته الجديدة.. وهو ما يلتقي مع وجهة نظر كانط القريبة من هذا الفهم الفلسفي بشأن تخليق العقل التخارجي الجدلي لمواضيع مدركاته وأقرار كانط بخلاف فلاسفة المثالية المنطقية التجريبية أن الواقع وجود مستقل لا يصنعه الفكر التخليقي العقلي له بل يضفي عليه مقولاته الادراكية في تكوينه الانشائي معرفيا داخليا وفي تشكيله تصوريا خارجيا كمدرك حقيقي واقعي في عالم الاشياء والموجودات بالتعبير عنه بالفكر واللغة وليس بخلقه واقعيا بالتصورات الفكرية.
كانط وثنائية المعرفة - العقل
قام كانط بمراجعة وتصحيح أفكار جون لوك كما أشرنا له سابقا، التي يذهب فيها الى أن تصورات العقل هي التي تمنح الوجود الخارجي والعالم الموضوعي حقيقته الموضوعية المادية، وأعتبر لوك صور الاشياء التي هي نتاج التفكير العقلي (داخليا) أي في الذهن هو الذي يمنح الحواس (واقعية) ما تدركه من الاشياء في وجودها (خارجيا).. .أي بحسب جون لوك الاحساسات القادمة من الحواس كافية لمعرفة عالم الاشياء وأدراكه خارجيا بالذهن وليس كواقع انطولوجي مستقل سابقا على التفكير الذهني.. وما لا تستطيع الحواس أدراكه لا يمتلك وجودا حقيقيا في عالم الاشياء الخارجي حسب لوك.
وبخلافه ذهب كانط الذي رأى العكس في نزعة الفهم المثالي الذاتي لدى هيوم ولوك متمثلا في عبارته ( الحدوس بلا تصورات تكون عمياء ) ويقصد كانط بذلك تصورات العقل التكوينية الانشائية عن مواضيع الادراك الخارجية في وجودها المتعيّن المادي المستقل، فهذه التصورات تكون عقلية في تفسيرها الحدوس،،التي هي بداية المعرفة المستمدة من (قبلية) الواقع كوجود وليس من (بعدية) التصورات العقلية التخليقية الانشائية له كمدرك واقعي وموضوع لوعي العقل..
وبهذا يكون كانط يرفض مثالية جون لوك في مثالية نقدية ذاتية أبتدعها لنفسه في أسبقية الواقع على الفكر وفي أهمية تخليق العقل للواقع وليس خلقه وأيجاده من لاشيء بوسيلة أدراكه الذهني فقط،،ومقولات العقل هي من مهمة العقل التكويني الانشائي للموجودات.. وعليه لا يكون العقل مرآة عاكسة للحدوسات وأنما هو (ملكة) فكرية تنظيمية أجرائية لتلك الحدوسات.. وتصورات عقلية أنشائية تكوينية جديدة لها وهو أهم أختلاف جوهري بين مثالية كانط الجديدة عن مثالية جون لوك وهيوم التقليدية الكلاسيكية الابتذالية.. .
وكان قدعبّر جون لوك عن تصوراته المثالية تجاه هذه الاشكالية الفلسفية القائمة حول أبستمولوجيا الادراك العقلي قوله (أن الطبع – يقصد ما يطبع من حدوسات الادراك على صفحة العقل من معارف – ليس ألا جعل الحقائق – بمعنى مواضيع المعرفة قبل أكتسابها صفة الحقيقة - مدركة حسّيا، هذا أذا كان لذلك معنى، لأن طبع أي شيء على العقل من غير أن يدركه العقل يبدو غير معقول). 3
والتساؤل المنطقي على هذا الفهم الفلسفي لجون لوك هو هل من الممكن تصوّرنا طبع صور الاشياء بالذهن أو العقل يكون من غير أدراكها العقلي القبلي المسّبق لها؟؟ وهل يكفي معرفة ما تنقله الحواس ويطبع بالذهن لا علاقة للعقل بتمّثله أدراكيا ؟؟ والأمر الآخر المهم أن مواضيع المعرفة لا تكون (حقائق) ولا تكتسب صفة حقائق بالحواس الناقلة لها قبل تأكيد العقل لصفتها الحقيقية بعد معالجتها أدراكيا وأنطباعيا في الذهن،، لذا لا يكون قبول الأمر والتسليم به يمرّعبر هذا الاسلوب المصادر للمنطق الفلسفي في التعبير عن آلية ميكانيكية تجعل من الذهن صفحة أستقبال وطبع ما يرده من الحواس عليها.. .وليس للعقل علاقة أدراكية أولية بها بفهمها مادة خام قبل أنطباعها في لوحة الذهن الذي هو الآخر غير الحواس وما تنقله من أحساسات..
ولمّا كان العقل هو (ملكة) تخليق وعي ذكي لمعالجة مدركاته، لذا يكون ما تطبعه تلك المدركات على صفحة العقل من أحساسات داخليا الواصلة اليه عبر الحواس ومنظومة الجهاز العصبي كمادة خام، أنما تكون بالمحايثة السببية والعليّة وحكم الضرورة المعرفية هي مدركة عقليا كتحصيل حاصل.. ولا يمكن للعقل ولا غيره أنكار حقيقة حدوث أشياء تطبع على صفحة الذهن المفكر لم يكن العقل قد أدركها مسّبقا وألا لم تكن تأخذ فرصة الانطباع المعرفي المخزّن في الذهن والذاكرة.. .فالعقل ليس لوحة مستباحة لكتابة حدوسات مدركات الحواس قبل أستحالة العقل أدراكها كما يذهب جون لوك أن العقل صفحة بيضاء فارغة في خلوّها مما تطبعه عليها الحواس من أحساسات.. وهذه العملية الادراكية تتم من دون رقابة العقل والانتباه لما يدركه على لوحة صفحته وما يطبع عليها من حدوسات خارجية...
وما تغاضى عنه جون لوك أن ما تنقله الحواس من أحساسات يستجيب العقل لها ويقبلها أنطباعا أوليا في الذهن قبل تخزينها في الذاكرة ليس بآلية ميكانيكية بعيدة عن الادراك والفهم المبدئي الاولي لها في منظومة العقل الحسية - الادراكية - العصبية - الفكرية - الذهنية.. وأن عملية الانطباع الحسي للمدركات وأن كانت تتم في ومضات كهربائية في نقل الحواس لها وأستقبال منظومة الجهاز العصبي والعقل لها،، الا أن العقل من المستحيل تمرير ما لا يدركه ذهنيا بالدماغ أن يكون (مطبوعا) على لوحته بالذهن والذاكرة داخليا،، والذهن والذاكرة هما من خصائص تكوينات العقل البيولوجية العصبية وليستا من خصائص ما تنقله الحواس من حدوس.. ليمّحص العقل بعدئذ حقيقة مطبوعات ما تنقله الحواس من زيفه وهو أفتراض آلي ميكانيكي لا يأخذ بكثير أهتمام قدرات العقل الخلاقة التي لا تحد بتنظيمه ومقولاته الاجرائية الصادرة عنه.. ألانطباع الذهني هو أدراك بدئي أولي لصور الاشياء وهي خام يسبق أدراك يقيني آخر يستتبعه في أعطاء العقل مقولاته النهائية عن تلك المدركات كوقائع سواء أكانت بالذهن كمواضيع تفكير أو موجودات في العالم الخارجي على السواء..
الخبرة عند جون لوك
أستعمل جون لوك مفهوم الخبرة بفهم فلسفي خاص على غير معناها العملاني الدارج تجريبيا - علميا في المهنة والسلوك الطبيعي العملي العلمي بالحياة التي تعني حصيلة تراكم التجارب المعرفية المكتسبة في مهنة ما أو أختصاص معيّن، فالخبرة بهذا المعنى تكون هي خزين معرفي مكتسب يحتاجها العقل العملي في تدبير شؤون أختصاصه بالمعرفة التراكمية التي يمتلكها بمرور الوقت..
أما لوك فيعتبر الخبرة هي (افكار الاحساس والتفكير) الآني Moment المباشرdieredct في التعبير عن المدركات من الاشياء والموضوعات.. .والخبرة عنده ليست خزين الذاكرة المكتسب من تجارب الحياة التي يمّر بها الانسان.. .وأنما هي ردود الافعال الآنية المباشرة للاحساسات الواصلة الى الذهن اللاارادية منها والارادية على السواء.كما يرفض لوك كل ما يسمى خبرات فطرية بالذهن.
أي أن الخبرة عند جون لوك هو ما يعطي صور الاشياء في الذهن حقيقتها الانطولوجية المادية في عالم الموجودات الخارجي وليس ما تختزنه الذاكرة عنها من أفكار تجريدية.. وبهذا الفهم يبتعد جون لوك عن حقيقة أمتلاك العقل قدرات تخليق لموجودات الاشياء بما يضفيه عليها من مقولاته الاجرائية والتنظيمية التكوينية غير مكتف بالتفكير العقلي المجرد بشأنها كما هي عند كانط.. .
أن المبدأ المفارق حول فهم كانط هو أن العقل عنده لا يفكر بالاشياء بميكانيكية حيادية من دون ملاحقتها بمقولات أجرائية صادرة عن العقل تعمل على تخليقها الانطولوجي بالجديد المضاف لها.. .وخطأ جون لوك أنه أعتبر الاحساسات المباشرة الواردة للذهن تستطيع تنظيم نفسها ذاتيا وتمنحنا معرفة الشيء المدرك من قبل الحواس بمعزل عما يسمى مقولات العقل الاجرائية عن الاشياء..
ونجد من المهم التعرّض لتفسير أعتراض التباسي بأن لوك فيلسوف تجريبي قريب جدا من الفهم المادي في معرفة حقائق الاشياء علميا، فأين يكون تفكيره من المثالية في المنهج المعرفي المادي؟؟
ألأجابة أن لوك يتعامل مع الأحساسات (كأشياء) فكرية مجردة يخضعها للتجريب العملاني الفكري للتأكد من صحتها من عدمه وهذه الاحساسات التجريبية هي تمهيد لأرهاصات بروز المذهب الذرائعي البراجماتي العملاني في الفلسفة الامريكية وهو ليس موضوعنا الآن.. وصحيح أكثر أن الفكر التجريبي يكون في محصلته وما يتوصل له من نتائج يقينية قاطعة يكون (واقعيا) أي ماديا نوعا ما،، لكن الفرق الجوهري في مثالية لوك باختلافه عن المنهج المادي أنه يعتبر الفكروحده وصور الاشياء في الذهن هو ما يحدد وجود الاشياء واقعيا من جانب أحادي ومنظور وحيد الجانب هو (الفكرة) الصورية عن المدركات وليس وجود الاشياء المستقل واقعيا في العالم الخارجي.. . في حين أن علاقة الفكر مع الواقع وتكويناته جدليا تخارجيا في المنهج المادي هي التي تقرر حقيقة الواقع من جهة وحقيقة الفكر من جهة أخرى على السواء.. . فالمادية تقر بيقين راسخ أسبقية الواقع على الفكر المنبعث عنه كأنعكاس مرآتي لكنها لا تعطي أحقية الفكر تقرير حقيقة ذلك الواقع وصدقية صفاته الظاهرة وماهيته المتوارية المحتجبة بمعزل عن وجوده الانطولوجي وما يفصح عنه من صفات حسّية بائنة وما يحتويه من ماهية وجوهرتتداخل جدليا مع الفكرالمعّبرعنه كموضوع مدرك عقليا.. ولا تعطي النظرية المنهجية المادية أيضا الواقع المادي العياني منفردا تحديد ما يجب أن يكون عليه الفكر لمدركاته..
الاحساسات بين المنهج المادي والمنهج المثالي
أننا ملزمون بتوضيح الفرق بين المنهج المادي عنه واختلافه مع المنهج المثالي في تحديد نوعية الادراك الحسي، أن هذا الاخيراي المنهج المثالي يتعامل مع ماتنقله الحواس هو سبب ونتيجة وجود الشيء، في حين يعتبر المنهج المادي الاحساسات المنقولة له ليست كافية أن تكون هي الالمام الكامل بوجود الاشياء والحكم عليها، والاحساسات هي وسيلة تجريدية لنقل ماتدركه الى العقل ليقوم بمعالجتها..
كما يكون الفرق في (المنهج) أي في المنهجية المادية تعطي للجدل المتخارج بين الفكر والواقعة التي يمثلها ويعبّر عنها نتيجة حقيقتها وحقيقة الفكر التعبيري عنها ماديتهما.. كما والمادية لا تقرّ أن وجود الاشياء متوقف على أدراك العقل لها.. وأن عالم الاشياء موجود أساسا من دون الادراك الصوري له في الذهن تفكيريا بخلاف مثالية لوك التي تجعل وجود الواقع هو تصورات فكرية ذهنية فقط وليس الواقع المادي الخارجي سوى تصورات الذهن له وفي غياب هذه التصورات فلا يكون هناك واقع مادي حقيقي للاشياء .. أن لوك يبدأ بداية صحيحة عندما يعتمد التجريد الصوري هو وسيلة العقل الوحيدة المتاحة بالتفكير وأدراك الاشياء في الذهن، بعدها يستنتج لوك نتائج غير صحيحة هي أن وجود الشيء هو ناتج تفكير العقل به فقط، ولا وجود حقيقي خارجي له مستقل بغير تصورات الذهن عنه..
ومن المعلوم جيدا أن سارتر أخذ بالمبدأ الماركسي بعيدا فهو لم يقل الوجود سابق على الفكركما في الماركسية وكفى،، وأنما ذهب أبعد من ذلك حين أعتبر الوحود سابق على الوعي والفكر والماهية والكينونة،،فلا تفكير من غير (واقع) مدرك ولا توجد للانسان (كينونة) مكتملة وأنما الكينونة ما يصنعه الانسان في كل مراحل حياته العمرية.. .وأخيرا فالانسان يصنع (ماهيته) بقراراته الحرة المسؤولة عن فرديته المجتمعية، وبذا يكون الانسان من أجل ذاته وليس(بذاته).. فالماهية والكينونة عند سارتر لا تسبق وجود الانسان.. وأنما هما صيرورة حياتية يبنيها الانسان لنفسه بالحياة ويكتسبهما بمرور الوقت.. .
مع جون لوك والمنهج
وأمام هذه المعضلة ثنائية العقل والابستمولوجيا أعتبر جون لوك أدراكات الحواس لا تجعل من تلك المدركات حقائق عقلية وهذا يحمل صواب تفكيره الدقيق ، كما ينكر لوك أن المدركات الحسّية هي وقائع مستقلة في عالم الموجودات وهو خطأ مغرق في مثاليته،، ويعتبر لوك يقينية وجود الاشياء المستقل ماديا بالعالم الخارجي ناقصا ما لم تتناوله (التجربة) العلمية بالاختبار وهو فهم تمهيدي يقترب كثيرا من الفهم الفلسفي البراجماتي الذي كانت أفكار ديفيد هيوم وجون لوك الارهاصات الفلسفية الاولية لها.. المدركات الحسيّة ليست نتاج تفكير العقل بها وأدراكها بل هي وسيلة مدركات لأشياء قائمة مستقلة وجوديا في العالم الخارجي بمعزل عن وجوب ادراك الحواس والعقل لها من عدمه..
المنهج المادي لا ينكر العلمية التجريبية بالتفكير كما يرغبه هيوم ولوك لكنه لا يأخذ بالفكر التجريبي المجرد ذهنيا على أنه يمثل سبب ونتيجة في وقت واحد لتأكيد حقيقة وجود الاشياء وحقيقتها الابستمولوجية أيضا.. والأهم الذي يجمع بين المادي والمثالي هو أن وسيلة العقل الوحيدة المعتمدة في أدراك الوجود وفهمه وتفسيره هو التجريد الصوري الفكري العقلي في أدراك ومعرفة الاشياء مبدئيا عن طريق الحواس، سواء أكان منهج التفكير الادراكي لموضوعاته مثاليا أو كان ماديا. فأين الاختلاف بين المنهجين المادي والمثالي في الادراك الحسي؟؟
الاختلاف أن ما تنقله الحواس والجهاز العصبي للذهن هو مادة خام ليس من عمل المنهج الادراكي المادي أو المثالي للعقل أعتبارها حقائق،، لكن ما يصدره العقل من مقولات فهم وتفسير (منهجي) لمدركاته الواصلة اليه كأحساسات مجردة هي التي تعطي منهجية التفكير المادي في أختلافه عن منهج التفسير المثالي.. فالفكر يكون ماديا حينما يعتبر في منهجيته العقلية أن الوجود سابق عليه والفكر أنعكاس الواقع.. والفكر المثالي في منهجيته العقلية يذهب الى أن الفكر يسبق الوجود ولا وجود مستقل يسبق الفكرالذي هو تخليق الوجود وتطويره وتغييره وليس خلقه وأيجاده من عدم كما ترى المثالية.. والاشياء لا تكتسب حقيقتها الانطولوجية في تعبير الحواس عنها بل تكتسبها في تخليق الفكر العقلي في التعبير عنها.. .
ما نريد التأكيد عليه أن وسيلة أدراك العقل هي نقل تجريدات الحواس للادراك العقلي صوريا في المنهجين المادي والمثالي، ويكون الاختلاف بينهما بما يصدره العقل منهجيا عنها من تفسيرات ومقولات تكوينية أنشائية بفهم مغايرأحدهما عن الآخر..
رورتي والخبرة
يعتبر ريتشارد رورتي الكلام الابتذالي غير الفلسفي عن الخبرة هو أنه (يمكن للتفكير العادي أن يتكلم عن الخبرة بمعناها المبتذل، كأن نفكر فيما أذا كانت لدينا خبرة كافية بشيء لكي نحكم عليه، غير أن هذا ليس تعبيرا فلسفيا، فالتفكير الفلسفي يكون فقط عندما نبحث كما يفعل كانط عن علل causes ومسببات الآراء الخاصة بالمعرفة التجريبية الحسّية وليس مجرد مبرراتها.)4.
ويوّضح رورتي مفهوم الخبرة بقوله (تتشكل خبرتنا المعرفية من عنصرين هما: المعطيات المباشرة مثل معطيات الحس التي تقدم للعقل أو تعطى له، والثاني صورة أنشاء أو تأويل يمّثل نشاط الفكر) 5. وهذا الفهم متماهي كثيرا مع فهم كانط للخبرة ويقاطع فهم جون لوك لها.. وأذا أستعرنا تعبير جاستون باشلار الذي سعى أن يرى الفلسفة والعلم متكاملان ببعضهما الواحد للاخر يقول الخيال والتفكير المستمد من العقل، هو ملكة تشكيل صور تتجاوز الواقع بل تعمل على صنعه وتغييره لوجدنا أن العقل تخليق جديد لمدركاته وليس عملية ميكانيكية بالتعريف الظاهراتي السطحي لصفات تلك المدركات.
بضوء هذا الفهم الذي يقدمه رورتي يكون بعيدا كثيرا عن كل من جون لوك وكانط كليهما ليقترب من الفلسفة البراجماتية الراسخة أمريكيا كفلسفة ابستمولوجية – وسياسية في تسيير المجتمع الامريكي، أن كانط يفترق عن هذه البراجماتية ليس في أبتعاده عن الأخذ بالتجربة في تأكيد صحة أختبار حقائق الابستمولوجيا وحسب وأنما أيضا يعتبر(مقولات) العقل هي صفات قبلية (فطرية) في الذهن وليست (بعدية) مكتسبة من الجدل المتخارج الذي يجمع بين المعرفة المدركة والفكرة المعبّرة عنها.. وبخلافه تماما لا يعترف جون لوك بشيء أسمه (خبرة فطرية) ويعتبرها خرافة.
أن كانط مثالي نقدي ولا يخرج على مثالية هيوم التجريبية فكريا ألا في القليل، فهما كليهما يتعاملان على أن الفكر هو جوهر الادراك وجوهر المعرفة بالاشياء معا.. فكانط يعتبر العقل يمتلك معارف فطرية ومكتسبة مخزّنة في الذاكرة بعضها مستمد من الواقع الخارجي،، يتمكن بها العقل من أصدار مقولاته (القبلية) وهذا بخلاف رورتي الذي يرى بمقولات العقل هي قدرات فكرية (بعدية) في أنشائها تكوينات المعرفة ومعالجة مدركات العقل.. والمقولات القبلية يوضحها كانط أنها خبرة متراكمة عن الاشياء تسمح للعقل أصدار مقولاته التي يطلق عليها (حقائق تركيبية قبلية) بضوئها يكون العقل ممتلكا قدرات المقارنة بين حقيقة الشيء المدرك ومطابقة معرفته له مع الخبرات القبلية عنه وعن غيره من المدركات..
أن كانط يؤمن بوجود خبرات قبلية (فطرية) كمعطى ذهني ويعتبر قانوني الادراك (الزمان والمكان) هما معطيان فطريان يولد الانسان مزوّدا بهما لمعرفة العالم.. ولا يقلل كانط أهمية تراكم التجارب المكتسبة سببا في تكوين الخبرة المخزّنة بالذاكرة متبّعا آلية تجمع الاثنتين (الخبرة الفطرية والخبرة المكتسبة) في تكاملهما معرفة العالم وأدراكنا الاشياء.
ولا يخرج كانط بهذا الفهم أن علّة وسبب وجود العالم الخارجي يكون مصدرها بالذهن وليس بالعلاقة الجدلية التخارجية مع المدركات والموجودات المتعالقة مع الفكر بعلاقة سببية، تلك السببية التي ينكرها هيوم ويعتبرها تراكم تجارب تمتلك بالتكرار صفة (العادة) المستديمة التي تفسّر ظاهرة ما بتعالقها مع أخرى ليس كسبب ونتيجة وأنما هي تكرارعلاقاتي بالصدفة تختزنه الذاكرة كمعرفة مكتسبة في تعليلها ترابط الاشياء بالصدف العمياء وليس سببيا في العلاقات التي تربط الاشياء علة ومعلول.. وهو ما يعتبره الفلاسفة سقطة كبيرة لهيوم في عالم نعيشه تحكمنا فيه السببية من أصغر حركة نقوم بها في حياتنا الى أعقد ظاهرة تحكم قوانين الكون ندركها أو لا ندركها..
الوعي والمعرفة
يشن سلارز هجوما لاذعا على منتقدي ومصادرة عبارته الفلسفية مفادها (عدم الاقرار لوجود وعي سابق على اللغة).6 وليس من السهل التسليم بصحة ماذهب له سلارز فالوعي عند الطفل في معرفته ألوان بعض الاشياء وصفات بعضها الآخر والعلاقة السببية بين الالم وتعابير الجسم عنها وغيرها عديد جميعها حالات يسبق الوعي بها تعلم اللغة وسيلة تعبير لما يدركه ويعجز التعبير عنها باللغة،، فالطفل يعرف النار تحرق قبل معرفته التعبير اللغوي عن ربطه النار سبب الاحتراق.. .
وجود الاشياء السابق على الوعي التعبيري المادي اللغوي عنها كمدركات هو مبعث الوعي السابق بها وسابق على تعبير اللغة عنها، كما يعتبرسلارز أيضا (أن كل وعي للكائنات المجردة، وحتى كل وعي للجزئيات هو شأن لغوي) 7. من المفروغ منه عدم مناقشة صحة هذه البديهية التي تذهب الى أن الوعي هو تفكير العقل لا يتم الا بتعبيراللغة عنه،، وعليه هل من الممكن التساؤل أن الوعي بالكائنات المادية والفيزيائية غير المجردة هي ليست شأنا لغويا؟؟ بالتاكيد البدهي لا.. .ولا أختلاف في التعبير اللغوي عن الكليّات كما هو الحال مع الجزئيات في الوعي الادراكي لهما كليهما.. .. فالوعي التعبيري هو أدراك لغوي وليس أدراكا حسّيا مجردا عن موضوعه كما هو في عجز التعبيرعن الوعي باللغة أحيانا.
الوعي هو ملكة العقل في أجتراحه اللغة وسيلة الافصاح عن مدركاته، لذا لا يكون الوعي تجريدا لغويا منعزلا عن وصاية العقل الملازمة علائقيا له. وأن كانت اللغة هي وسيلة الافصاح التعبيري عن قصديات الوعي الا أنها لا تمثل جوهرا ينوب عن الوعي الادراكي العقلي، وتبقى اللغة جوهرا للوعي تكتسب ماهويتها التعبيرية من ملازمتها الوعي كما في ملازمة الوعي لادراك الاشياء المادية وموضوعات التفكير التخييلية التجريدية.. .أننا يمكننا القول وبأطمئنان أن الوعي هو تصورات فكرية لا تحتاج التعبير اللغوي التواصلي أحيانا..
لذا يكون التساؤل هل توجد غير التصورات الفكرية اللغوية وسيلة للتعبير عن الاحاسيس والوعي بها؟؟ نعم يوجد مثلا شعور الطفل كما أوضحنا في سطور سابقة أو شعور الشخص البالغ بالالم هو وعي تصوري تجريدي للألم قبل أن يكون لغة معبّرة عنه،، لذا فالوعي بالوقت والحين الذي يمّثل رد فعل أستثارة الواقع له كمواضيع أدراكية، فأن الوعي لا يستطيع التعامل مع تلك المدركات في التعبير عنها الا بوسيلة التصورات العقلية المجردة (لغويا).
علي محمد اليوسف /الموصل
..........................
الهوامش :
** البسكيولوجيا تيار فلسفي أشار له وليم جيمس في مؤلفاته بعلم النفس ويقوده رورتي وسلارز وكواين من بعده.. ويمثلون هؤلاء بفلسفتهم تطوير مبحث اللغة التحليلية عند جورج مور وبراتراندرسل وفينجشتاين، كما ويعتمدون منهج علم النفس التجريبي مرتكزا في محاربتهم مبحث الابستمولوجيا فلسفيا بأعتبارها مبحثا ميتافيزيقيا لا فائدة منه.
1- ريتشارد رورتي / الفلسفة ومرآة الطبيعة / ترجمة: د. حيدر حاج اسماعيل/ مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ص 236
2- المصدر السابق ص 220
3- المصدر السابق ص 219
4- المصدر السابق ص 227
5- المصدر السابق ص 225
6- المصدر السابق ص 264
7- المصدر السابق نفس الصفحة
فوز المرشح الثوري في الانتخابات الرئاسية التونسية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. زهير الخويلدي
"العصفور الذي تخلص من قفص الاستبداد وحلق في سماء الحرية لن يعود لكي يرضى بالفتات"
تشير التقديرات الأولية التي قدمتها مؤسسات سبر الآراء وقبل الإعلان الرسمي عن النتائج من طرف الهيئة المستقل العليا للانتخابات إلى تقدم المرشح الثوري الأستاذ الجامعي قيس سعيد بنسبة تفوق السبعين في المائة من أصوات الناخبين والناخبات في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية التونسية سابقة لأوانها.
من المعلوم أن الأستاذ الناجح قد بنى في حملته الانتخابية الصامتة مجموعة من الأفكار التوجيهية الثورية مثل الكتلة التاريخية والحكم المحلي ومقاومة التطبيع وإعادة الاعتبار للأدوار الاجتماعية للدولة المدنية. كما أصر على فرض إرادة القوانين واحترام الدستور والتصدي للتهرب من العدالة وأكد على أهمية استمرارية مؤسسات الدولة في تقديم الخدمات العمومية للمواطنين على غرار الصحة والتعليم والشغل.
لقد ساندت القوى الثورية والمنظمات المهنية والأحزاب المحسوبة على تونس الجديدة المرشح قيس سعيد ولكن الفئة الاجتماعية التي حسمت الموقف ومثلت الخزان الانتخابي الداعم للأستاذ منذ الدور الأول هي الفئة الشابة وخاصة المتخرجين من الجامعة والمعطلين عن العمل والفصائل النشطة في الحركة الطلابية.
لقد رفض الأستاذ التمويل العمومي لحملته الانتخابية وكان زاهدا عن تلقي المساعدات واكتفى بجملة من التبرعات الرمزية من المجموعات المتطوعة التي قامت بالدعاية له منذ سنوات وجعلته يتصدر نوايا التصويت وفضل البقاء بعيدا عن وسائل الإعلام وقريبا من الناس واكتفى بتنظيم حوارات شعبية في المناطق الداخلية نظمها عدد من الجمعيات التي تنتمي إلى المجتمع المدني وابتعد بنفسه عن التجاذبات السياسية وأعلن في الكثير من المرات بقائه في وضع الاستقلالية وفسحه المجال للناس لكي يبلوروا بأنفسهم مبادراتهم التشريعية ويصوغوا مطالبهم وانتظاراتهم وينتخبوا ممثليهم بصيغة تشاركية للحكم.
لقد مثل صعود أستاذ القانون الدستوري المتقاعد إلى كرسي الرئاسة في تونس مفاجأة مدوية وحقق انتصارا ساحقا على الكثير من الوجوه المحسوبة على النظام القديم وعلى وجوه تنتمي للدولة العميقة وأعلن نهاية السيستام وتفكك المنظومة القديمة وقدم دفعا جديدا للمسار الثوري والانتقال الديمقراطي.
صحيح أن بعض القوى الديمقراطية المحسوبة على التيار الديني والقومي قد ساندت المرشح الثوري ولكن اليسار التونسي انقسم حوله فسانده البعض وهاجمه البض الآخر وبقي فريق ثالث في وضع الحياد ولكن الأهم من كل ذلك أن بعض المناضلين اللاسلطويين هم الذين ساندوه ووقفوا معه منذ الدور الأول.
لقد دافع الأستاذ في المناظرة التلفزية التي وقع تنظيمها لأول مرة في العالم العربي بينه وبين منافسه عن حرية التعبير وحرية التفكير وطال ببعث مؤسسة فداء تعتني بأسر الشهداء والجرحى ووعد ببعث مجلس أعلى للتربية والتعليم يعيد للتعليم دوره التربوي ونصح بتدريس الفلسفة للأطفال لوقايتهم من الإرهاب.
لقد كان الأستاذ المعبر عن لسان حال المضطهدين والثوار وظل وفيا للشهداء والجرحى الذين شاركوا في الانتفاضة الجماهيرية ضد الاستبداد ومنحه أكثر من ثلاث ملايين من الناخبين ثقتهم في الدور الثاني وبيّن أن شعار "الشعب يريد" الذي رفعه في حملته هو القاعدة الذهبية التي طبقها لكي يتمكن من قلب الطاولة على منافسيه وتجميع أكبر عدد ممكن من المستقلين والمثقفين والمتحزبين والإقلاع بتونس نحو الحرية. لكن هل يقدر الرئيس الفائز على السير بثبات بالجمهورية التونسية نحو التقدم والتنمية والتطور المنشود؟
د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي
مفتاح فوز قيس سعيّد في الانتخابات التونسية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: علي جابر الفتلاوي
كنت أتابع الانتخابات التونسية من خلال قناة الميادين، وقبل يوم الصمت الانتخابي ظهر قيس سعيّد مرشح الرئاسة التونسية مع منافسه نبيل القروي في مقابلة تلفزيونية، قال قيس سعيّد كلمته التي عبّرت عن موقفه من القضية الفلسطينية: إنّ مشكلة العرب ليست مع اليهود، معتبرا أن مسألة التطبيع مع اسرائيل خيانة عظمى. نقلت الخبر أيضا قناة روسيا اليوم وأضافت القناة نقلا عن قيس سعيّد: إن العرب يعيشون (حالة حرب مع كيان محتل وغاصب)، متعهدا بعدم السماح لحاملي جوازات السفر الاسرائيلية بدخول تونس. وقد استرعت مواقف سعيّد من القضية الفلسطينية، اهتمام الفلسطينيين وإعجابهم على مواقع التواصل الاجتماعي، ووصفه البعض بأّنه: (مرشح الفلسطينيين إلى الرئاسة التونسية).(1)
قول قيس سعيّد أنه لن يسمح لحاملي جوازات السفر الاسرائيلية بدخول تونس. لم يأتِ من فراغ، بل إشارة إلى الحكومة التونسية السابقة التي سمحت بدخولهم وهتفوا أمام الاعلام تحيا اسرائيل، هذا الفعل المشين أثار غضب الشعب التونسي ونقمته لأن شعب تونس مؤيد للقضية الفلسطينية وللمقاومة ضد الاحتلال.
موقف قيس سعيّد من القضية الفلسطينية العلني، جعل الشعب التونسي يتجه نحوه في انتخابات الجولة الثانية في 13/10/2019م، بل دفع موقفه الوطني تجاه فلسطين الشعب التونسي ليشارك بنسبة أعلى من الجولات الانتخابية السابقة، إذ تجاوزت نسبة المشاركة 57 بالمائة، موقف قيس سعيّد من فلسطين، هو مفتاح وسرّ فوزه في الانتخابات التونسية وبنسبة عالية؛ وهذا مؤشر على أن الشعب التونسي يتبنى القضية الفلسطينية بشكل واسع وقوي. والواقع أن الشعوب العربية والاسلامية جميعا يتبنون القضية الفلسطينة، لكن حكامهم هم من خان قضية فلسطين إلّا ما ندر نذكر حكومة إيران التي تقف بقوة مع الشعب الفلسطيني، ونضاله ضد المحتل الصهيوني، رغم العقوبات التي فرضت بسبب هذا الموقف الشجاع.
سمعت كلمة قيس سعيّد عن فلسطين، فقلت مع نفسي أن هذا الرجل هو مَنْ يفوز بالرئاسة التونسية! لماذا؟ الأمر واضح لكل متابع.
من خلال متابعة الأحداث في تونس، والثورة الشعبية عام (2011م)، وهروب رئيس تونس السابق (زين العابدين بن علي) إلى السعودية، ظهرت مؤشرات كثيرة تفصح عن وعي الشعب التونسي تجاه القضية الفلسطينية، وحماسته في دعم المقاومة ضد الكيان الصهيوني المحتل، رغم وجود بعض الاصوات النشاز داخل حكومة تونس ما بعد (زين العابدين بن علي)، التي سارت باتجاه التطبيع مع إسرائيل، لكنّ هذه الأقلية مرتبطة مع نظم عربية تسعى للتطبيع، تنفيذا للمشروع الامريكي الصهيوني في هذا الاتجاه.
قول قيس سعيّد: التطبيع مع اسرائيل خيانة عظمى، كان في رأيي مفتاح فوزه في الانتخابات الرئاسية التونسية، وبعد الانتخابات عبّر عن امنيته في أن يكون العلم الفلسطيني حاضرا جنبا إلى جنب مع العلم التونسي.
موقفه من القضية الفلسطينية جعل الشعب التونسي يتجه نحو قيس سعيّد، خاصة طبقة الشباب التي قاطعت انتخابات الجولة الأولى، والانتخابات البرلمانية التي سبقت الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية، جاء في النتائج المعلنة في يوم 14/10/2019م، أنّ (قيس سعيّد) فاز بنسبة72.71 بالمائة، وهذا مؤشر ايجابي يظهر أن جيل الشباب العربي واعٍ، ومنهم شباب الشعب التونسي، لم ينسوا فلسطين ونكبتها، ولم ينسوا معاناة الشعب الفسطيني، رغم محاولات الحكام العرب للتطبيع مع اسرائيل، ووضعهم البرامج الخبيثة التي يريدون من خلالها تصفية قضية الشعب الفلسطيني، إمتثالا لسيدهم الأمريكي والصهيوني، الشعب التونسي حسم الموقف لصالح قيس سعيّد بعد تعرفه على أفكاره فيما يخص القضية الفلسطينية.
فاز قيس سعيّد لأنه انتصر لفلسطين وشعبها المظلوم، فمن هو قيس سعيّد؟
قيس سعيّد ولد في 22 شباط 1958م، سياسي وأستاذ جامعي، مختص في القانون الدستوري، اشتهر باتقانه اللغة العربية، له مداخلات أكاديمية مميزة للفصل في الاشكاليات القانونية المتعلقة بكتابة الدستور التونسي بعد الثورة، دخل غمار الانتخبات بتمويل ذاتي بسيط، إذ أنه رفض المنحة المقدمة من الدولة للقيام بالحملة الانتخابية لأنها في رأيه من مال الشعب، هو استاذ في الجامعة التونسية، وشغل منصب الأمين العام للجمعية التونسية للقانون الدستوري بين عامي 1990و1995 شغل منصب رئيس قسم القانون في جامعة سوسة، كان خبيرا قانونيا في جامعة الدول العربية والمعهد العربي لحقوق الانسان، كان عضوا في لجنة الخبراء التي دعيت لتقديم تعليقاتها على مشروع الدستور التونسي عام 2014م، متزوج وله ثلاثة أولاد، زوجته هي اشراف شبيل قاضية ومستشارة بمحكمة الاستئناف، ووكيل رئيس المحكمة الابتدائية بتونس.(2)
علي جابر الفتلاوي
........................
المصادر:
(1): موقع: قناة روسيا اليوم، www.arabic.rt.com نشر في 13/10/2019م.
(2): موقع: وكيبيديا، الموسوعة الحرة، www.wikipedia.org نشر 14/10/2019م.
التحديث والتحديث المضاد.. تحليل فلسفي
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. علي رسول الربيعي
تؤكد الرؤية الحديثة على أن تعريف الأفراد بوصفهم من الذوات المستقلة لا يتحقق إلا عندما تدرك كل ذات أنها حرة في اتخاذ القرارات والأفعال. وتنظر إلى التحديث من خلال التصنيع والتوسع الحضري والعلاقات التعاقدية في السوق بوصفها الوسيلة التي يسمح بها المجتمع لكل مواطن أن يصبح ذاتاً مستقلة ًوقادرة على تعريف نفسها. استيقظت صحوة الذات، فعليًا في هذه المرحلة المعاصرة وتعمقت خلال الأزمات الاقتصادية والنمو الاقتصادي الديناميكي بدرجة ما. ومع ذلك، فإن السلطات السياسية الاستبدادية في بعض مناطق العالم متعاونة مع التكنوقراطية وتعيق ظهور الذاتية الناضجة. هو ذا ما يمكن أن يسمى ظاهرة التحديث المضاد. قد يجد التدرب على المواطنة من خلال الحوار الفلسفي طرقًا لحل هذا المأزق بإعادة تصور أهداف الحداثة ووسائلها من حيث تمكين الإمكانيات الكامنة في الذاتية.
تدور الحوارات الفلسفية التي تؤطر عالم اليوم متعدد الثقافات عادة حول مقارنات بين التقاليد المتنوعة لوجهات نظر عالمية. وتدرس مقاربات المقارنة التقاليد الفلسفية المختلفة من حيث قابليتها على الاتساق أو الانسجام أو عدم قابليتها على التأثر. هناك رأيان متعارضان في هذه المقاربات. يقول أحدهما إنه لا يمكن إجراء مقارنة ذات مغزى وقيمة بين الاختلافات لأنه لا يوجد أساس للمقارنة لتبدأ منه. بينما يقول الآخر بأن هناك جوهرا واحدا، وأنه يمكن تحديد هذا الجوهر في أي تقليد ثقافي، بغض النظر عن الثقافة.
تفترض هذه المقالة أنه على الرغم من الاختلافات الظاهرة بين الأفكار وتقاليدها المتنوعة إلا أنها تتعامل دائمًا مع طبيعة الواقع وأساليب المعرفة وكيف يجب أن يعيش الناس معًا ويمكن العثور على قدر كبير من القواسم المشتركة وكذلك التقارب الاختياري بينهم في كثير من النواحي. علاوة على ذلك، تبدو المجتمعات الصناعية والمتقدمة اليوم وكأنها تتخلى عن وجهات نظرها الثقافية التقليدية ورؤيتها للعالم (worldviews) أو وجهات نظرها عن العالمية، أو تغيًر جوانب معينة منها. والنتيجة هي تقارب وجهات نظر العالمية بين مختلف الشعوب، لا سيما فيما يتعلق بالكيفية التي يجب أن يعيش بها البشر الذين يتشاركون معًا في البيئة العالمية نفسها.
إن شرحًا اجتماعيًا تاريخيًا شاملاً، وقد أضيف، تفسيريًا، وهرمينوطيقياً لهذا التقارب قد تم التعبير عنه في وثيقة “تحالف الحضارات” التي أصدرتها الأمم المتحدة والتي تؤكد أن “الحضارات والثقافات تعبر عن ثروة للبشرية وتراثها الكبير؛ وطبيعتها أن تتداخل وتتفاعل وتتطور فيما بينها. تشترك جميع الحضارات في التاريخ في علاقة الاقتراض المتبادل وكذلك التكيًف واستيعاب أفكار وعادات بعضها البعض. تتطور الثقافات والحضارات من خلال التفاعل مع الآخرين، وتتحول وتتبدل العادات المحلية والمعارف والأفكار خلال عمليات الانتقال من ثقافة إلى أخرى في جميع أنحاء العالم. تتشكل الحكايات التي تلعبها الحياة الفردية والجماعية في كل ثقافة من خلال تفاعلات اجتماعية وتجريبية معقدة داخل ديناميات التاريخ والثقافات والهويات والعولمة والروح الجماعية. لا يمكن لأحد من هؤلاء وحده أن يدّعي أنه القوة المثالية الرئيسية لمصير البشرية. أو يمكن لأيّ منهم أن يعيش دون الآخرين؛ أو يرسم ويحدد تعقيد التفاعلات المرتبطة بالتطور الديناميكي والمستمر لأنفسنا وثقافاتها عبر الزمان والمكان بدقة”.
كل ما يمكن قوله بدرجة معقولة من اليقين هو أن التغيير المجتمعي، سواء كان دقيقًا متقناً أو صارماً صارخًا، معترفًا به أو غير معترف به هو ثابت ومتعدد بطبيعته. حتى هيجل، الذي أعطانا مفهومنا الحالي عن التاريخية، أكد أن معاني التغيير لا يمكن فهمها أو بناؤها إلا في نهاية حقبة زمنية، وأصرّ على أن تعقيدات التغيير لا تتوقف أبداً.
يمكن أن يكون أفضل مثال على تعقيد عملية التغيير هي المجتمعات الصناعية الحديثة وهي منطقة أو دول شرق آسيا، التي نريد أن نأخذها مثلا هنا، التي طالما اعتبرت منطقة للتقاليد الخالدة، والتي لا تتغير، وتوصف الآن، بأنها منطقة “الأسواق الناشئة” في الاقتصاد العالمي. لقد أحرزت تقدمًا سريعًا في إنجاز التجديدات العلمية والتكنولوجية في الإنتاج، وبالتالي خلق وفرة مادية وتحسين نوعية الحياة لأعداد أكبر في مجتمعاتهم. لقد أصبحت عوالم الحياة اليومية مع تطور هياكلها الاقتصادية بشكل متزايد، في المناطق الحضرية كما بكين وسيول وبانكوك ومانيلا وكوالا لامبور وجاكارتا أكثر انغماسًا في الثقافة التكنولوجية العلمية بحيث من المستحيل الآن على مواطني هذه العواصم الكبرى ممارسة الحياة اليومية دون التكنولوجيا.
لقد أصبحت التنمية والنمو الاقتصادي والعلوم والتكنولوجيا، بالنسبة إلى الأسواق الناشئة، ملاحق حيوية لبعضها البعض. فأضحى الشرق والغرب والشمال والجنوب، ومع تقدم وانتشار العلم والتقنية ليشمل جميع أنحاء العالم، يعمل بشكل متزايد في نفس مجال العقلانية، وبالتالي لم يعد بالإمكان ادعاء مفاهيم الواقع والموضوعية والعقلانية كخاصية للحضارة الغربية فقط. لقد تم دمج كل من التجريبية والعقلانية، التي كانت تعتبر يومًا ما المرحلة الأساسية التنموية للتاريخ الفكري الأنجلو-أوروبي، بسلاسة في تاريخ الفلسفة العالمية.
لا يوجد أي شك على الإطلاق في أن تراث هاتين المدرستين للفلسفة الحديثة يتردد صداها عميقا في العصر الحديث للمجتمعات الصناعية الجديدة في شرق آسيا وكذلك في أميركا اللاتينية، تمامًا كما كان له صدى عميق في المجتمعات الأنجلو-أوربية. في الواقع، عندما أتحدث عن روح العصر، أو روح الفكرة الكبرى المهيمنة في سياق حداثة اليوم، أجد نفسي أفكر في المصطلح بقدر ما استعمله هيجل، كشيء دائم وقوي، خارق للطبيعة تقريباً، يوجّه الجنس البشري. فبالنسبة إلى هيجل، إن روح أو مزاج فترة معينة من التاريخ كما هو مبين في أفكار ومعتقدات العصر قد تم تصوره ثم تجلى في الحياة المادية للشعب. ولأن كل فكرة لها فكرة معارضة وينشأ الصراع بشكل أو بآخر حتى يتم حل الصراع، ويتم نقض هذا الحل أو الطعن فيه دائما وتستمر الدورة الجدلية. اعتبر هيجل أن كل تصميم هو توليفة للروح عمومًا، يوفر توسيعًا لمعناها، حتى يمكن إدراكه مرة أخرى بنقاء رائع وشامل. الفكرة نفسها، بكل تداعياتها، أطلقَ عليها أحيانًا العقل، وأحيانًا الحرية، وأحيانًا، بكل بساطة، الفكرة.
الحرية هي فكرة قوية بشكل رائع. لكن منطق هيجل يدفعنا إلى إدراك أن العديد من الأفكار لها التوجيه نفسه والإرشاد لنا. تنتمي جميع الأفكار، في تناقضها أو أنسجامها، إلى الحياة المجتمعية؛ ويتم التعبيرعنها أحيانًا وتضطهد أحيانا أخرى؛ تتعدد بتنوع السياقات والعقلانيات واختلاف التقاليد والعادات. ونظرًا لأن مفاهيم مثل الحرية ذات ميزة عالمية، فهي تتخطى الحدود وتتشابك فيها ثقافتان أو أكثر، فيكون قبول المواقف أو العادات أو أنماط التفكير لدى كل منهما تجاه الآخر هو فتح طبيعي أو توسيع لعناصر مفاهيمية موجودة في كل منهما أساساً أو على الأقل توجد إرهاصاتها.
توسع عملية الاستلام في حالة الفرد أفق عالم حياته، وأيضا سواء كانت المشاركة في العملية جماعية أو فردية، فهي تحدث “إزاحة” لما هو مستقر في البيئة الثقافية التي استلمت المفاهيم الجديدة. وطبقاً لـلرؤية أو الأيديولوجية التي تقوم على تضامن وتنوع المواطنين العالميين وإنشاء قوانين تتجاوز الحدود الوطنية بهدف الرد على الجوانب اللاإنسانية للعولمة تتفاعل الأفكار والمعتقدات والقيم والعادات في عوالم مختلفة ويصيبها التحول من خلال التفاعل، وتتغير، وهي بهذا تتجدد مرة أخرى في عوالمها أو بيئاتها الأصلية، التي تتغير هي بدورها أيضًا. فما كان غريباً وغير مألوف يتحول إلى شيء مألوف وحميم. وهذا يعني أنه يتم تكييفها أو استيعابها من خلال وساطة عناصر عالمية مشتركة موجودة في عالمين أو أكثر، فتتغير الثقافات والأفراد وتصبح أكثر تركيباً وقدرة على التعبير عن إمكانات البشرية المتعددة الجوانب. تشترك المجتمعات التقليدية والحديثة في عناصر ومخططات توجيهية عديدة. فعلى سبيل المثال، يربط العمل في كل مجتمع زراعي أو صناعي البشر بالطبيعة. بالإضافة الى استعمال الأدوات سواء كان العمل منزلي أو في معامل التصنيع الحديثة.
التناقضات الثقافية
إن العمل تفاعلي في جوهره حتى وإن بدا أنه يتم تنفيذه بمعزل عن الآخر. إنه مشترك أساسا، واجتماعيته واضحة في تقسيم العمل، وفي تجارة مُنتج العمل تداوله. يخلق العمل مع الآخرين شعورا بالتضامن والغايات المجتمعية. ينبع من هذا التضامن الجماعي من شرائع الأخلاق للعيش معا في سلام. ليس من المستحيل، كما أشار هيجل في كتابه “ظاهريات العقل”، أن أفكاراً، مثل الاعتراف المتبادل، والعدالة الاجتماعية، والحقوق المدنية، مستمدة من إدراكنا للطابع التعاوني الجماعي للعمل الإنساني. ورغم أنه غالباً ما يشدد مسؤولو مشروع العولمة على قوة التعاون في العمل من أجل السلام والتنمية الناجحة إلا أنه تم في بعض الأوقات والظروف والمرة تلو الآخر إنكار الطبيعة الاجتماعية للعمل، فكان لهذا الإنكار تداعياته على التعايش السلمي في سياق هذه العولمة الاقتصادية، تمامًا كما كان ذلك في عهود بناء الإمبراطورية وتوسعها واستعمارها.
يتناقض هذا الإنكار، بطبيعة الحال، مع أهداف التحول الديمقراطي، التي تدعي جميع الدول المشاركة في مشروع العولمة، أنها تتبناها. إن من أكثر الأمثلة الصارخة لهذا الإنكار ممارسة نقل الصناعات إلى مواقع تكون فيها الضمانات الخاصة بالعمال والبيئة ضعيفة أو غير موجودة، مما يجعل الوعد بالحرية من خلال التنمية يتلاشى. بدأت الدول المتقدمة في الترويج لهذه الممارسة داخل حدودها في سبعينات القرن العشرين، لكنها منذ بضع عقود قامت بنقل الصناعات إلى البلدان النامية التي غالبًا ما تكون في منافسة فيما يتعلق بأقل الأجور وتكاليف السلامة الأقل. ما تلا ذلك، بالطبع، هو تكاثر الجيوب من العمال الفقراء والعاطلين عن العمل في الدول المتقدمة وضمان استمرار الفقر والفقراء في الدول النامية وتركيز شديد للثروة في أعداد صغيرة من المواطنين في كلا النوعين من الدول.
لم تكن الدول الصناعية الجديدة في شرق آسيا، والتي سنأخذها مثالاً في هذا المقال، قد فُرض عليها التحديث بحركة مد التاريخ. بل اختارت التنمية الاقتصادية حتى تتمكن من التمتع بالكرامة الإنسانية والحرية الفردية والعدالة الاجتماعية نفسها التي تصورت أن مجتمعات الدولة المتقدمة تمتعت بها في سياق التحديث. تبنت معظم دول العالم اليوم، ومن بينها الدول العربية، خطة التحديث التي طرحتها الليبرالية الجديدة التي عززت نظام البلوتوقراطية على حساب النظام الديمقراطي. ولكن كيف حدث هذا؟ كيف يمكن للدول التي يُفترض أنها اختارت الحداثة أن تنتهي الى البلوتوقراطية وليس الديمقراطية؟
شدد كل من كانط و هيجل على الدور المحفز للمواطنين لإيقاظ أنفسهم كأفراد في جماعة من أجل تحقيق الحداثة في مجتمعاتهم. يعد وجود درجة عالية من الحراك الاجتماعي عاملاً حافزًا لتطوير الوعي الفردي في طبقة متوسطة من طبيعتها تكون آخذة في التوسع. يحمل التحديث من خلال التصنيع وعدًا من قِبل المجتمعات الصناعية الجديدة بالاعتراف بمبدأ العقلانية في العلاقات التعاقدية في اقتصاد السوق، وبالتالي السماح لكل شخص بالوقوف على مؤهلاته ومزاياه الخاصة، متخلياً من الروابط الطبقية التقليدية. عندما ينظر إلى التحديث في ضوء ذلك، يصبح من الضروري لنجاحه أن يصبح كل مواطن مدركًا لذاته باعتباره فردًا له حق العيش كما يرغب. بالنسبة إلى شعوب شرق آسيا، يمكن القول إن عملية الاستيقاظ الذاتي هذه بدأت بالفعل منذ عقود وتتعمق في نمو ديناميكي، والأمل أن تستيقظ إرادة المستقبل للشعوب العربية.
هناك الكثير من العوائق الكبيرة التي تنتظر على الطريق المؤدي إلى الفردية في مجتمعات الدول العربية. على الرغم من التقدم المطرد للعلم والتكنولوجيا وفاعليًة العقلانية الأداتية والترشيد للإنتاجية في العالم إلا أنه ما تزال التغييرات في طرق التفكير التقليدية والإدراك تسير بخطى بطيئة في المجتمعات العربية، وهناك فجوة واسعة ومقلقة بين الحداثة والتقاليد. فبينما تدور القوى الإنتاجية حول محور العقلانية الأداتية-الذرائعية ذات الفاعليًة في المجتمعات الأكثر تقدماً، لا يزال الوعي السياسي والاجتماعي متمسك بأنظمة وطرائق تفكير تقليدية. فلا يبدو أن عملية العقلنة والترشيد مصحوبة بتغييرات مقابلة في البنية الفوقية للمجتمع. نرى، بدلاً من ذلك، أن الوعي السياسي والاجتماعي الوراثي/السلطوي هو الذي يوجه اتجاه التنمية الاقتصادية. تؤثر هذه الأنماط الراسخة بقوة في توجهات وتصرفات أولئك الذين يتخذون القرارات ويديرون شؤون المؤسسات الرسمية.
تكررت ظاهرة مقاومة الحداثة بشكل أو بآخر في الغرب على مدى قرنين أو ثلاثة قرون ، ونشهد ذلك في البلدان الناميًة المعاصرة مرارًا وتكرارًا اليوم أيضاً. إنها القوة الدافعة للعقيدة الانقسامية للنسبية الثقافية. فعندما يكون التحديث متعمدًا، كما هو الحال في معظم البلدان النامية، تعارض المشاعر التقليدية الإصلاحات وتسعى إلى استيعابها في إطار النظام القديم. غالبًا، في عصر العولمة هذا، ما يتم التغاضي عن حركات مكافحة التحديث بحجة التسامح مع الأنظمة والأطر التقليدية باسم حق التعددية الثقافية. فبينما يتم التحدث عن التسامح في العالم بأسره، يتبنى العديد من الزعماء السياسيين في الدولة الناميًة أيديولوجية التنمية التي تعتمد فقط على حكمهم التسلطي والقمعي. عندما تتحد السلطوية التقليدية مع التكنولوجيا الحديثة، تكون النتيجة قيام تكنوقراطية غير ديمقراطية. إن هذا الشكل من أشكال الحكم يضرّ بشدة بالمجتمعات التي لم تنضج فيها الظروف التاريخية لقيام وتعزيز الثقافة المدنية.
يزعم القادة السياسيون في الدول النامية بأنه يمكن تحقيق تنمية اقتصادية مستقرة من خلال الإدارة التكنوقراطية بزعم منهم بأن المواطنين سيتمكنون في نهاية المطاف من تبني حريات ومسؤوليات الديمقراطية. يبدو أن هذا يؤدي إلى نتائج ملموسة في البداية؛ ولكن مع مرور الوقت، يصبح من الواضح تمامًا أن عملية الاستيقاظ الذاتي للمواطنين كذوات فردية لا تظهر ببساطة لأن نمط حياتهم قد تعزز بالاتكالية والاستهلاك. تشجع القيادة السلطوية، في غياب مواطنين استيقظوا ذاتياً، أن يصبح الناس مستهلكين، ولا يهتمون إلا بالنمو الاقتصادي. وبالتالي سيكون بالنسبة إلى مثل هذه الدولة أنها ليست بحاجة للديمقراطية.
من المؤكد أن النزعة الاستهلاكية هي واحدة من أكبر العوائق التي تحول دون اليقظة الذاتية للمواطنين كأفراد. لكن رغم أنها ليست جديدة، ولا يلزم بالضرورة أنها تخنق الذاتية، إلا أنها عندما تكون تحت تأثير انتشار التكنولوجيا المتقدمة، فإنه يصعب تجنب أن تصبح شمولية. وكما أشار هربرت ماركيز في نقده للتكنولوجيا الحديثة والنزعة الاستهلاكية في الغرب، هناك ثلاث احتياجات وهمية، تغذيها الابتكارات التكنولوجية، يتم تلفيقها من قبل وسائل الإعلام والنتيجة هي أن العمال الذين من المفترض أن يحررهم التقدم التكنولوجي يُجبرون اجتماعيًا ونفسيًا على العمل بجهد أكبر من أجل تلبية حاجات دائمة التجدد ولا تشبع.
إن الخطاب الذي ينظر بإيجابية ومثالية للتكنولوجيا يرى فيها وسيلة لدعم نوعية حياة جيدة في كل جانب ولجميع المواطنين. ولكن في مستوى أقل من العالم المثالي هذا، أي في العالم الذي نعيش فيه، كانت التكنولوجيا دائمًا ولا تزال أداة هائلة للسيطرة السياسية والاجتماعية. ثم إن الاستهلاك، الذي تنشطه تكنولوجيا المعلومات المكررة إلى ما لا نهاية، يشل ذكاء المواطنين ويضعهم في حال وعي ضحل وفارغ. هذا الشعور الفظيع للفرد، الذي وصفه ماركيز جيدًا وعبّر عن مدى قوته، يتفشى في مجتمعات الأسواق الناشئة الآن. إن إشباع مواد الاستهلاك وحده لا يعزز الذاتية. تتغلب المادية في العالم الذي وصفه ماركيز، على الحساسية تجاه الآخرين مما يخلق جهلًا مخدرًا بالحياة نفسها.
الحداثة كذاتية
السمة الأساسية المميزة للحداثة هي وعي الذات بوجودها كفاعل يؤكد بعض المؤرخين الغربيين أن استيقاظ الذات هذا أصبح واضحًا في الشكل السياسي للثورة الفرنسية عام 1789 من ناحية وفي شكل المثالية الألمانية من ناحية أخرى. يشير هذا المنظور التاريخي إلى أنه لكي تحصل عملية الفردنة في المجتمع تتطلب تأملاً عميقاً في هذا العصر حتى يمكن مواكبة التغييرات المستمرة في العقلية التي تحدث نتيجة التحولات السريعة للبنية الاجتماعية في العالم الأكثر حداثة.
يسمح لنا ربطنا الفلسفة بالواقع من خلال الأنثروبولوجيا، التي فسرها كانط وهيغل في سياق ملاحظاتهما للظروف السياسية والاجتماعية في زمانهما، بإمساك أحد الآثار السياسية لنظرية المعرفة المتعالية عند كانط وهي مشكلة الذاتية، التي يصبح فيها أولئك الذين يحرزون الذاتية أفرادًا أحرارًا يقررون لأنفسهم، إذ أن الحرية الفردية محور أساسية في فلسفة كانط السياسية. وكذلك الذاتية علامة فريدة لا نظير لها للكرامة الإنسانية في فلسفته الأخلاقية.
عند قراءة كانط، من الصعب تصديق أنه عاش حياته كلها في المدينة نفسها ولم يغامر مطلقًا بأكثر من بضعة أميال خارجها. فقد كان ودون مساعدة من أيّ من وسائل الاتصال الحديثة التي نعرفها اليوم يعرف الكثير عن العالم خارج مدينته وبلده وأوروبا. لقد صرخ ضد العبودية وضد الحروب والوسائل القمعية المستخدمة لفتح الأسواق في الأراضي البعيدة. ويشمل اتحاد الدول الذي تصوره تلك الأراضي التي اعتبرها الأوربيون مأهولة بالمتوحشين. ورأى كانط، أن ممارسات الأوروبيين كانت أكثر وحشية من ممارسات “المتوحشين”. يحدد كانط المادة 3 من شروط السلام الدائم، والتي كانت تشير إلى حقوق الناس كمواطنين في نظام عالمي، بما يسميه “أوضاع الضيافة العالمية”. كان يعتقد أن جميع الدول تطمح إلى التجارة ولكن فقط في ظل ظروف وشروط عملية متفق عليها للضيافة العالمية، ولا يحق الدول الأنجلو-أوروبية من التعامل مع الأراضي الأجنبية كما لو أنها غير مملوكة لأيّ بشر ومتاحة لغزوها ونهب ثرواتها.
إن كانط نفسه الذي أصر على حسن الضيافة بين الأمم، فهم جيدًا الطبيعة التنافسية والصراعية للبشر. وقد اشتهر كانط باكتشاف لـ”اللااجتماعي في المجتمع” كصفة للطبيعة البشرية. لقد وصل البشر، كأفراد، إلى بناء النظام الاجتماعي بعد إدراكهم الحاجة إلى العيش في مجتمع، وأنه ضروري للبقاء على قيد الحياة. وتوصلت الأمم إلى فكرة الحفاظ على السلام الدائم للسبب نفسه. عندما تحدث كانط عن الانتهاكات التي ارتكبها التجار الأوروبيون لدول أضعف وأقل تطوراً من دولهم ، ربما كان يتنبأ بمشاكل اليوم. اعتقد كانط أنه سيكون هناك دستور عالمي، لكن ما ندعو إليه الآن بدلاً من ذلك هو نداءات من المجتمع المدني، من مختلف المنظمات غير الحكومية من أجل حكم ونظام عالمي يحقق العدالة الاجتماعية ويحافظ على البيئية من خلال دستور وقوانين عالمية وتدابير سياسية، لأن التحديث، كما يُمارس اليوم، خلق عدم مساواة لا مثيل لها بين المواطنين داخل الأمة الواحدة وفضلاً عن تلك التي بين الأمم.
تحدث كانط عن تدمير الطبيعة بالحرب والاستعمار وأساليب التسويق القسرية، لكنه لم يصل به التخيًل الى أن الحداثة قد تعرّض موارد العالم للخطر. لقد اعتقد أن البشر سوف يوفّقون بين طبيعتهم التنافسية وميلهم للصراع من أجل الحفاظ على مجتمع يسوده السلام. يُخيًل إليّ أن رسالته ستكون هي نفسها فيما يتعلق بإعادة رؤية الحداثة بحيث لا يمكن إدامتها فحسب، بل تستحق أن تكون مستمرة في تطورها. ولن يجد صعوبة في ربط إعادة النظر هذه بالعدالة الاجتماعية والبيئية.
أما بالنسبة إلى هيجل، فتتحقق الذاتية في العمل لأن في العمل نتعامل مع الطبيعة والبشر. وفي العمل يصنف فرد ما الآخرين من خلال بيذاتية أو موضوع ما ، ويحقق البشر ذاتيتهم عندما يدركون قيمة عملهم. يربط العمل، من الناحية المثالية، المواضيع معًا من خلال اجتماعيته وموضوعيته. فالعمل هو الإمكانات البشرية المتحققة في الفعل الاجتماعي. يحرص هيجل على الإشارة إلى أن العمل، الذي في جوهره ليس فرديًا أبدًا، يسمح للبشر باكتساب الاعتراف من الآخرين بأنهم يتوقون ويحتاجون له بطبيعتهم. يتم تلبية الحاجة إلى الاعتراف في تقسيم العمل داخل المجتمع، بوصف العمل عنصر ملزم للفرد في المجتمع. يكتسب الأفراد من خلال نتاج العمل، الاعتراف المتبادل على قدم المساواة. إن الأفراد، بوصفهم عمالًا، هم أشخاص مستقلون يتحملون مسؤولية الآخرين، وبالتالي فهم جماعيون أيضًا.
كان كل من كانط وهيجل مدركين تمامًا لعواقب اقتصاد السوق، وتصويرهما للذاتية على أنها وعي بقدرة الفرد على التفكير والتصرف بشكل مستقل، وكان التأكيد على التعاون هو استجابة للمشاكل الناجمة عن تحديث المجتمع الألماني في فجر الثورة الصناعية الكبرى. وطالب الأخير على وجه الخصوص، بتجاوز الدولة التي تم فيها معاملة الأفراد كتروس في آليًات السوق. لقد تصور مجتمعًا يشجع الخصوصيات الذاتية والاعتراف العالمي بالفرد الحر. ثم تطور هذا التفكير وعلى أساس قوي مع النظرية النقدية للرأسمالية المتأخرة. فهناك، المزيد من الأدلة التي تشير إلى أن الذاتية موجودة في جميع مجالات الحياة، وأن سمتها المميزة، الإرادة الحرة، وليست حاضرة حتى في أكثر الدول استبدادية وقمعًا. فقد تتجاوز الدول أو لا تتجاوز أدوارها القمعية وقد يتم خنق الشخصية، لكنها تبقى موجودة ولا تتوقف أبدًا عن العثور للتعبير عن نفسها على مستوى ما.
تأويل أخلاقيات عابرة للثقافات
يحول البشر بقوة الخيال والعمل الطبيعة إلى شيء جديد تمامًا، وبهذا الإبداع، يميـزون أنفسهم. ويكشف العمل كيف يغير البشر الأحرار العوالم الخيالية إلى العالم الفعلي، وهم بهذا يشكلون ذاتيتهم. وفي هذا السياق نطلب من الفلسفة أن تسـاهم في هذا التشكيل حتى نستعيد الذاتية قوتها لتطوير أخلاقيات عالمية. وجاءت فلسفة هوسرل الظاهراتية المتعالية للذات في مطلع القرن العشرين، في إطار المساعي الفلسفية لتأمين الذاتية البشرية من التهديد ضد إعادة توحيدها، وتبعتها وجودية هيدجر وسارتر، وصولاً إلى النظرية النقدية لهوركهايمر، أدورنو وماركيز وهابرماس حتى تشارلز تايلور وآخرين. لقد عالج كل واحد من هؤلاء الفلاسفة مشكلة اختفاء الذاتية عن طريق تناولها من وجهات نظر ومصادر مختلفة. لم تختف أزمة الذاتية أبداً باختلاف المنظورات. واجهت مجتمعات عديدة، منذ فجر الألفية الجديدة، أزمات أنثروبولوجية عميقة مما دعا الفلاسفة إلى إعادة النظر في قضية الذاتية في هذه اللحظة المعاصرة المحفوفة بالمخاطر حيث تخنق السيبرانية والنزعة الاستهلاكية ليس فقط ميل الأشخاص إلى التفكير والعمل المعارضين، ولكن إبداعهم وإرادتهم أيضًا.
إن المفاهيم الديمقراطية مثل “الفرد” و”المساواة أمام القانون” و”العدالة الاجتماعية” و”حقوق الإنسان” لا تُعطى لنا بداهة. إنها مفاهيم تنتمي إلى الإرث الذي بناه أولئك الفلاسفة والمفكرون الذين عكسوا نضال البشرية من أجل تحرير الذات من روابط الماضي. لقد تمكّنت هذه المفاهيم من الوصول إلى الكثير عبر قرون من خلال عمليات النشر المعقدة والمتنوعة وأصبحت تشمل كل البشرية الآن تقريبًا. يحفز اكتساب المعاني المركبة لهذه المفاهيم من خلال علاقاتنا الاجتماعية، من الحب والكراهية والعمل واللعب، وكافة الروابط العابرة للثقافات التي تقوم من أجل ضمان كرامة الإنسان والعدالة لجميع البشر.
نحن مدينون بالفهم لعمق وأهمية هذه المفاهيم للحث المتزايد باستمرار من قبل المجتمع المدني في جميع أنحاء العالم على استعادة الرؤية الأساسية للحداثة، مع التركيز على المساواة. لقد أوضحت منظمات المجتمع المدني والفلاسفة والنقاد، الذين كرسوا عملهم من أجل مفاهيم الحداثة الأصيلة والاستطلاعية، لمختلف الحكومات أن الذاتية والمساواة والعدالة الاجتماعية ومراعاة حقوق الإنسان تختنق تحت ضغط الاقتصاد في عالم اليوم. إن المجتمع المدني هو الذي يحث الحكومات على الاهتمام بما يقوله لنا العلماء عن بيئتنا. وهو الذي يُبلغ المجتمعات بالمخاطر التي تطرحها عليهم أيديولوجية الليبرالية الجديدة ونظامها الاقتصادي، واستغلالها البيئة. وهو الذي لفت الانتباه إلى حدود التحديث.
يحثني هذا الفهم على الدعوة إلى تعليم التفكير النقدي لحل المشكلات والوعي بالقضايا التي تهدد العالم. ألاحظ أن العديد من الجامعات في أنحاء العالم لديها تخصص في الدراسات البيئية والعدالة الاجتماعية. يجب أن يكون مثل هذا التعليم من أولويات الدول الحديثة، ولا ينبغي أن تنتظر حتى يصل الطلاب إلى سنوات الجامعة، ويمكن أن يبدأ في وقت أقرب بكثير. هناك برامج رائعة تعرض للمجتمع نوعا من الاستقصاء الفلسفي (CPI) الذي يستكشف عدة أنواع من التفكير، بما في ذلك التفكير الأخلاقي. يجب أن يقدم التعليم المستمر بالتأكيد دورات مجتمعية في الدراسات البيئية للبالغين من جميع الأعمار. هناك العديد من الطرق الأخرى لتثقيف المواطنين حول الذاتية والعمل. يبدو لي أن تلك الدول التي اختارت التحديث لديها أفضل فرصة لاستكشاف ذلك مع مواطنيها من جميع الأعمار. يوجد الأمل في الحفاظ على مفاهيم الحرية والمساواة بين الثقافات على قيد الحياة وتنميتها من خلال التعليم والنقاش محليا وعالميا.
الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ
عودة الآثار الفنية الى اهلها
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. كاظم شمهود
عندما بدأت الحرب الاهلية الاسبانية عام 1936 قام الجمهوريون بنقل آلاف الاعمال الفنية من متحف البرادو في مدريد الى المتاحف الاوربية بحجة بحثا عن الامان والرعاية وذلك لكي تكون بعيدة عن كوارث الحرب، ولكن يبدو في الحقيقة كانت نية وغاية الجمهوريين هو بيع هذه الكنوز والتراث الفني الاسباني على المتاحف والمؤسسات الفنية في اوربا وذلك لتغطية نفقات الحرب الباهضة امام زحف جيش فرانكو وحلفاءه الالمان، وقد اشارت الى ذلك صحيفة الوطن الاسبانية el pais، حيث يعقد هذه الايام مؤتمرا في مدريد بمناسة الذكرى ال 80 لعودة الاعمال الفنية الى اسبانيا.. من جانب آخر قام الجمهوريون باحراق الكنائس وقتل العدد الكبير من القساوسة ؟، وكانت هذه المعابد بمثابة متاحف حيث تحتوي على اثمن واغنى اللوحات والمنحوتات التي يعود بعضها الى فناني عصر النهضة، كما يذكر ان متحف البرادو في مدريد قد تعرض سقفه للحرق . وكان رئيس المتحف في ذلك الوقت يدعى فرانثيسكو خابير سانجث حيث امر عام 1936 بانزال الاعمال والقطع الفنية الثمينة وحفظها في الطابق الاسفل من بناية المتحف خوفا عليها من الحرق والسرقة والتلف ..
وعندما نشبت الحرب العالمية الثانية عام 1939 واخذت الفيالق المقاتلة الالمانية بقيادة هتلر تتقدم على بعض الدول وتحتلها مثل هولندا وفرنسا وغيرها، خلق ذلك هلع واضطراب وخوف عند المسؤلين في المتاحف الاوربية ولهذ اخذوا تجربة الجمهوريين الاسبان حيث بدأوا بنقل تراثهم الفني الى اماكن بعيدة عن كوارث الحرب وقنابلها المدمرة ووضعوها في اماكن اكثر امانا وحفظا كالانفاق والسراديب وغيرها، بعضهم نقلها الى دول ومدن اخرى لم تشترك في الحرب وكانت تعد بالآلاف، وكانت جيوش النازية عندما غزت هولندا وفرنسا حرقت ونهبت الكثير من المتاحف ونقلت بعض الاعمال الفنية المعتبرة الى المانيا، وعندما سقطت المانيا بيد الحلفاء وانتحار هتلر، وجدوا آلاف الاعمال الفنية محفوظة في اماكن خاصة تابعة بعضها الى هتلر ومساعديه وغيرهم . ويذكر ان هتلر كان في شبابه رساما، وقد شاهدت له بعض الاعمال في متحف طهران الحديث .
عودة التراث الى اهله:
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عادت الكنوز الفنية الاسبانية الى متاحفها قادمة من متاحف اوربا عابرة الحدود الفرنسية محمولة بواسطة شاحنات كبيرة، وكان من ضمنها اعمال الرسام المعروف فيلاسكس مثل لوحة – الاميرات – وكانت قادمة من فينا، كما كانت هناك اعداد هائلة من اللوحات في هولندا يقدر عددها ب 30،000 قطعة فنية وكانت مطوية باعتناء ودقة متناهية . اما اللوحات التي هربها الجمهوريون الى جنيف فتعد بالآلاف، وكان الجمهوريون قد تعهدوا بعدم عودة اللوحات الى اسبانيا ما دام فرانكو في الحكم، ولكن الحكومة السويسرية قد اعترفت بحكومة فرانكو وبالتالي كان لزاما عليها اعادة الاعمال الى اسبانيا خوفا من بيعها او تلفها . وفي نفس الوقت طلب بيكاسو بعدم اعادة لوحة جرنيكا الى اسبانيا حتى يذهب حكم الدكتاتور فرانكو . وفعلا عادت جرنيكا الى اسبانيا عام 1981 بعد موت فرانكو في زمن حكم الاشتراكيين واستقبلت في المطار استقبال الابطال المنتصرين وعمل لها استعراض حرس الشرف .
اهمية التراث عند الامم
كثير من النقاد في الفنون التشكيلية وكذلك الادب يخلط ما بين الحداثة وما بعد الحداثة وربما متأتي ذلك من عدم اطلاعه جيدا على مفهوم المصطلحين وقد شاهدت احد النقاد وهو يعرض عملا حداثويا ويسميه ما بعد الحداثة وانجر خلفه عدد من المثقفين .. ومن الواجب علينا التنبيه الى ذلك للتذكير لعلها تنفع . الحداثة هي حركة ظهرت في بداية القرن العشرين وتمثلت في جماعة الدادائية والمستقبلية وقسم من جماعة السريالية وجماعية الفوضوية، وغالبا ما يكون هؤلاء من اليساريين، وان كان لها جذور تاريخية قديمة خاصة في الادب، وتهدف هذا الجماعات في ادبياتها هو الغاء التراث برمته وحرق المتاحف والمكتبات وعدم الاعتماد عليه في المنجز الفني والادبي، وانما العودة الى الطبيعة والخيال .. بينما ما بعد الحداثة فهي تعتبر التراث العمود الفقري للعمل الفني والادبي والعودة اليه يعتبر مصدر من مصادر الالهام والابداع والتطور، كالمدرسة الاشتراكية .
ونستطيع ان نلمس في ذلك التراث الفني القديم انه لم يكن فقط مصدرا للمتعة والزينة فحسب وانما الى جانب ذلك فهو هوية الشعوب وتاريخها وثقافاتها وتقاليدها ابتداءا من الحياة البدائية البسيطة حتى يومنا هذا وما حفلت به تلك الحضارات من منجزات علمية وفنية وادبية والتي اصبحت لنا ينابيع فياضة نتسقي منها مبتكراتنا وابداعاتنا الحديثة، وهي سجل حافل بالوثائق المصورة والمكتوبة وقد وصلت الينا نتيجة للحفاظ عليها ومراعاتها من التلف والضياع، ووضعها في متاحف ومراكز خاصة لتكون عبرة لاول الالباب .
تراثنا في ضياع
عاد التراث الاسباني الى متاحفه وساهمت اوربا كلها في عودة تلك الكنوز الفنية النادرة، ولكن ياترى هل عاد التراث العراقي او المصري الى اهله؟ بعدما تعرض للنهب والسرقة من قبل الغزاة الاوربيين والسراق المحليين خلال تاريخنا الطويل؟ اليوم تعج المتاحف الاوربية بتراث الشرق واصبح مصدرا ثقافيا واقتصاديا كبيرا تعيش عليه تلك الدول ..
يذكر المؤرخ والناقد الانكليزي هربرت ريد بان التراث الفني اكثر اهمية من الاقتصاد والفلسفة ولهذا نرى ان الشعوب والامم المتحضرة قد حرصت كل الحرص على الحفاظ عليه وعدم المساس به لانه يمثل هويتها وعمقها التاريخي وتطلعاتها الى مستقبل افضل (وفي قصصهم عبرة لاول الالباب) .
د. كاظم شمهود
فائض الغضب العراقي الناتج من شدة الأحباط وتداعياته في انتفاضة اكتوبر
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عامر صالح
تمر الكثير من الدول الديمقراطية المستقرة بحالات من الانحسار والمراوحة في المكان بسبب عدم الاستجابة السريعة لمطالب المواطنين، ولكن تتم الاستجابة تدريجيا او دفعة واحدة حسب طبيعة المطالب وحجمها ومقدرة الحكومة على تمثلها وامتصاصها لأغراض تنفيذها، وقد يكلف ذلك الأتيان بحكومة جديدة قادرة على استيعاب وتنفيذ المطالب، وقد ينعكس ذلك على اعادة تشكيل الخريطة السياسية للقوى السياسية في البلاد الذي تجسده ضرورة اعادة الانتخابات البرلمانية وما يصحبها من اعادة اصطفاف للقوى السياسية.
العراق هو من البلدان التي لا تنطبق عليه سنة الحياة الديمقراطية في استيعاب متغيرات الحياة اليومية والتي تفرز الكثير من المطالب التي تستدعي المزيد من اعادة اصطفاف القوى السياسية، ومع كل انتخابات او اصطفاف جديد فهو ينتج نفس التحالفات السياسية التي انتجها كل مرة، والتي في جوهرها تدافع عن الفساد وتحميه ولا علاقة لها بالاستجابة لظروف الحياة المتغيره بدون انقطاع، وبالتالي نحن امام منظومة سياسية تشتغل خارج اطار الزمان والمكان الذي تعمل فيه، ومن هنا يأتي اغتراب المواطن عن النظام السياسي وانعدام ثقته به.
بعد سقوط الدكتاتورية عام 2003 لم تكن القوى السياسية راغبة في المشروع الوطني العراقي، وقد بنيت العملية السياسية على اساس تراكمي، من اخطاء الاحتلال الامريكي، الى جانب أرث الدولة السابق القمعي، توظيف الورقة الطائفية والاثنية في بناء العملية السياسية، الى جانب تدني اداء النخب السياسية والتي لا تمتلك تجربة في بناء الديمقراطية، بل ان معظمها غير مؤمن بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة اصلا، الى جانب الفساد الاداري والمالي الناتج من طبيعة النظام، وقد زاد الامر تعقيدا هو الارهاب بمختلف اشكاله، وكانت داعش تلك الخلاصة لما جرى، وكذلك تدخل الدول الاقليمية وعبثها في القرار العراقي وارتهانه لمصالحها الضيقة. واذا كان هناك من انجاز يذكر" من بركات الاحتلال " هو التدوال السلمي للسلطة، ولكن حتى هذا تم تجاوزه والاستعاضة عنه بحرق صناديق الاقتراع وتزوير ارادة الناخب وفرض ارادة اخرى لا تنسجم مع مبدأ التداول السلمي للسلطة.
الحالة العراقية تمثل نموذجا للأحباط المزمن، فمع سقف عالي من التوقعات وبعد عهود الاستبداد والدكتاتورية والحروب والحصارات الداخلية والخارجية وجوع مطبق، تولدت لدى المواطن العادي امال عريضة بحياة رغيدة وبمرحلة سياسية يلتقط فيها انفاسه ويعوض ما فاته، وخاصة بعد انفتاحه على العالم الخارجي بكل ما فيه من مغريات وطموحات يدفع العراقي بنفسه للمقارنة مع الآخر خارج الحدود" وهو يمتلك كل الامكانيات المادية والاستعدادات النفسية "، ولكن عندما يجد نفسه محاطا بكم كبير من المشكلات وضغط يومي من الخطابات السياسية والاعلامية التي تشعره بالعجز والاحباط مضافا لها تدني قدرات جهاز الدولة وتراجع امني وضياع سلطة القانون وأستشراء الفساد وتنامي سلطة العشيرة، وانتشار المليشيات المسلحة وحملة السلاح الفردي والعصاباتي، فان حصاد ذلك سيكون خطيرا على الحالة النفسية للفرد تزيده احباطا وتفقده الثقة بالزعامات والاحزاب السياسية وخاصة الطائفية السياسية، التي استغلت المشاعر البدائية للمواطن واستخدمته لتجييش المشاعر السلبية وتوظيفها في خدمة الصراعات الطائفية وتشديد قبضة خطاب الكراهية للآنتقام والانتقام المتبادل بين مكونات المجتمع الواحد.
أن تأزم الاوضاع المستديم يستنهض مشاعر الغضب والقلق والخوف والتوتر والظلم والقهر والضياع والشعور بعدم الأمان، ببعضها البعض، وتختلط بكل ما هو سلبي في حياة الفرد، توصله بكل تأكيد، ورغماً عنه، إلى حالة ذهنية تسمح للإحباط واليأس أن يحتل أوسع مساحاتها، وتشعره بالعجز التام، وتبعده مسافات ومسافات عن تحقيق آماله، فتتقطع به سبل النجاة. حالة الإحباط هذه التي تواجه الإنسان وتقف حائلاً أمام تنفيذ رغباته وتقتل فيه روح الطموح، تنتزع منه، في الوقت نفسه، أسباب الخوف وتحرره من هيمنتها، وتحول الوجه السلبي للإحباط إلى وجه آخر إيجابي وفعال، ينفجر ليصنع غدا آخر حين يجد هذا الفرد نفسه وسط حشد كبير يشترك معه في مشاعره وأهدافه. عند ذاك يتحول الإحباط من قوة سلبية ساحقة ومدمرة للفرد، إلى قوة إيجابية جبارة تدفع نحو التغيير.
أن الجماهير حين تعاني من الفقر طويلا وتستشعر الظلم أو الطغيان أو إهدار الكرامة قد تسكت لبعض الوقت ولكنها عند نقطة تنفجر انفجارا قد يبدو مفاجئا ولكنه ليست كذلك، فتتحول إلى قوة مدمرة للسلطة، وقد يمتد أثره إلى ابعد من السلطة، فالغضب الجماهيري يكون مثل الطوفان لا يعرف احد إلى أين سيتوقف ومتى، فبركان الغضب الخالص يسعى نحو التدمير والتغير ولا يوجد ميزان حساس في هذه الظروف يوازي بين قدرة تدمير النظام الحاكم ومؤسساته القمعية المرفوضة وبين قدرة التميز لحدود التغير المطلوب، ويزداد حدة أكثر عندما تنعدم القيادة الميدانية للأحداث، أي أن الانفجار يحدث في بدايته كبراكين غضب دون ترتيب سابق ودن هدف محدد غير الانتقام ممن قهرها وأذلها وجوعها وخدعها.
أن الثورات والانتفاضات والاحتجاجات اليوم لا ينطبق عليها المفهوم التقليدي المنظم سلفا كما كان يحصل في عقود خلت، حيث الأحزاب تقرر مسبقا مستوى النضج الذاتي للبدء بالأفعال الثورية، تعقبها " ساعة الصفر "، فالأمر اليوم معكوس تماما، حيث تبدأ الجماهير دون سابق إنذار بإعلان انتفاضها واحتجاجها ثم تطلق دعوتها للأحزاب والقوى السياسية للالتفاف حولها، فالجماهير هي القائد الميداني للأعمال الثورية، أما دور الأحزاب فيأتي متأخر نسبيا عن الحدث ليحول مشاعر الثوار إلى برامج سياسية ملموسة كما يضفي على مسحة الغضب الثوري بعدا أكثر منطقية من خلال ارتباطه بأهداف مصاغة ومقننة " على افتراض توفر حالة النضج السياسي لدى الأحزاب من خلال تمثل قيم الوطن والمواطنة باعتبارها مصلحة عليا".
إذا كانت الثورة الاجتماعية تعرف بأنها ذلك التغير الجذري، الذي يشمل البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة، وتشكل تغييرا جذريا شاملا في المجتمع يؤدي إلى أحلال تشكيلة اجتماعية اقتصادية بأخرى أرفع مستوى وأكثر تقدما. وأنها تغيير جذري للنظام القديم، وإقامة نظام جديد ومؤسسات جديدة. أي إنها في الإطار العام قفزة للمجتمع من مرحلة إلى أخرى أكثر تقدما وتطورا ورقيا، فأن عوامل إحداثها اليوم يفوق حصرها في عوامل الفقر فقط، وان كان شرطا لازما لها، ولكن الثورة اليوم هي فعل مركب تتضافر فيه الكثير من العوامل في عالم متغير بدون انقطاع، فليست كل من جاع ثار على أوضاعه القائمة، وقد يكون هذا التعقيد في أسباب الثورات اليوم هو احد العوامل الأساسية التي جعلت الأحزاب السياسية تتأخر عن الحدث نسبيا، أما أهم ابرز عوامل الثورات فيمكن إيجازها فيما يأتي: الفقر وسوء توزيع الثروات وانعدام فرص العمل والتشغيل؛ انتشار الفساد المالي والإداري وتأصله في الكثير من المجتمعات وهو جلي في الحالة العراقية؛ الانخراط الواسع في منظومة الاتصالات العالمية الحديثة واستعمال الوسائط الرقمية بكفاءة عالية وخاصة المنتديات الاجتماعية مثل الفايسبوك والتويترر واليوتوب وتشكيل منظومة من الاتصال الجماعي والإعلام الشعبي الموازي والمهدد لأعلام السلطات القمعية؛ الانفجار السكاني الهائل وارتفاع نسبة المواليد والتي تصل في الدول العربية إلى أكثر من 3% " وخاصة في العراق " وهو نذير بمزيد من الفقر والمعاناة في ظروف عدم التوزيع العادل للثروات مما يخلق حالة من الوعي المتوقع بمخاطره كما تشكل فئة الشباب الكتلة الأكبر في التركيبة السكانية وذات المصلحة الأساسية في التغير؛ ازدياد الوعي والحماس اللازمين للتغير والذي يدفع صوب المزيد من الغليان الشعبي والغضب العام وتولد الاستعدادات الكبيرة للتخلص من النظم السائدة وإتباع كافة الوسائل بما فيها غير المعقولة والانفعالية والتي شوهدت في الكثير من التجارب؛ حالات اليأس الشديد من القيادات السياسية والدينية وتعويل الشباب على أنفسهم في قيادة التغير بعد المزيد من الإحباط والوعود الكاذبة في تحسين ظروف العيش والحياة الحرة، والحالة العراقية اليوم نذيره بمزيد من الانتفاضات الشعبية الناتجة من ضنك العيش وفقدان الثقة بالسياسين وخاصة بعد مرور ستة عشر عاما على التغير دون جدوى؛ توظيف الموروث الفكري والسياسي والثقافي المناهض للفقر والحرمان وانعدام الديمقراطيات، ويشكل فكر اليسار الديمقراطي والقوى الوطنية قوة جذب نحو التغير لا يمكن التقليل من شأنها وقد بدأت ملامحها تتضح في الحالة العراقية رغم الصعاب والتعقيد.
أن السياقات السيكولوجية التي يختمر فيها التغير الثوري تمر بمراحل تكاد تكون محكمة ، وقد تتداخل فيما بينها استنادا إلى عوامل التعجيل" العامل الذاتي ومستوى التنظيم "، فهي مراحل تجسد علاقة القهر والاستبداد بين الحاكم المتسلط والإنسان المستضعف أو المقهور، وبالتالي فهي علاقات نفسية معقدة، وقد يبدو للبعض أن الأنتفاضة العراقية مثلا هي محض احداث متفرقة " كبطالة الخريجين وأزاحة العشوائيات وغيرها " وان كانت هي شرارة "، ولكن نحن نعرف أن النظم التعسفية والظالمة والمستبدة لا تسقط بزلة لسان أو بخطأ ثانوي تقوم به، بل أن سقوطها يمر عبر تراكمات نفسية ـ اجتماعية يترك أثره البالغ في انضاج الأنتفاضة الاجتماعية، ثم يأتي الحدث المفاجأة ليقرر ساعة صفرها القاتلة، أما ابرز المراحل النفسية والاجتماعية التي يمر بها الفرد المواطن بالمتسلط الحاكم والتي تعكس بمجملها جانبا من الوجود، فأشير إليها بتصرف والتي ذكرها الدكتور مصطفى حجازي في كتابه " التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور " فهي ما يأتي:
ـ المرحلة الأولى: الرضوخ والقهر خلال هذه المرحلة، التي تدوم فترة طويلة نسبيا، يشكل زمن الرضوخ والاستكانة أو الفترة المظلمة من تاريخ المجتمع، عصر الانحطاط، وتكون قوى التسلط في أوج سطوتها، وحالة الرضوخ في أشد درجاتها. وأبرز ملامح هذه المرحلة هو اجتياف (أستدخال) عملية التبخيس التي غرسها الحاكم المتسلط في نفسية الجماهير، فيكره الإنسان نفسه ويوجه عدوانيته تجاه نفسه وتجاه أمثاله، ومن ثم يقوم بإزاحة هذه العدوانية ليمارسها تجاه من هو اضعف منه. ومن الملامح الأخرى هو الإعجاب بالمتسلط المستبد وتضخيم تقديره، فيعطيه حقا شبه إلهي في السيادة والتمتع بكل الامتيازات، وبالتالي تنشأ علاقة رضوخ " مازوخي " من خلال الاعتراف بحق المتسلط بفرض سيادته، وتنشأ في هذه المرحلة مجموعة من العقد التي تميز حياة الإنسان المقهور أو المضطهد أهمها: عقدة النقص، وفقدان الثقة بنفسه وبأمثاله، والتي تجعله يحجم عن كل جديد، ويتجنب كل تجربة قد تساهم في تغير وضعه، لذلك فهو لا يحرك ساكنا، وإنما ينتظر ذلك البطل المخلص الذي سينتشله مما هو فيه، وهذا ما يمهد الطريق للتعلق بالزعيم الفرد، تعلقا يغري بالتسلط والدكتاتورية، إن هذه الأفكار تجعل عملية التحديث تجابه بمقاومة شديدة تحبط البرنامج التنموي. أما عقدة العار فهي تجعل الإنسان يخجل من ذاته، ويعيش وضعه كعار وجودي يصعب تحمله، فيتمسك بالمظاهر لتشكل غطاء لبؤسه الداخلي، ولابد للمتسلط دورا في تحويل انتباه الإنسان المقهور من حالة الذل والقهر التي يعيشها إلى أمور ثانوية، وبذلك يحمي المتسلط نفسه من ثورة المقهورين. وأخيرا وليس آخرا يعاني المقهور من اضطراب الديمومة، حيث أن طول المعاناة وعمق القهر والتسلط الذي فرض عليه ينعكس على تجربته الوجودية للديمومة على شكل تضخم في آلام الماضي، وتأزم في معاناة الحاضر وانسداد آفاق المستقبل، ويتفاعل هذا مع عقدة النقص وعقدة العار، مما يغرق الإنسان في ضعفه وعجزه واستسلامه إزاء قوى تتحكم في مصيره، ويحس انه لا قدرة له على مجابهتها.
ـ المرحلة الثانية: الاضطهاد وفيها يبدأ الإنسان بتحويل حالة الغليان العدوانية التي كانت موجهة ضد نفسه إلى الآخرين ، بعد عدم تمكنه من كبتها بالآليات التي استخدمها في المرحلة الأولى. انه يحول عدوانيته إلى الذين يشبهونه، أن جوهر هذه العملية هو التفتيش عن مخطئ يحمل وزر العدوانية المتراكمة داخليا، وبذلك يتخلص من شعوره بالذنب ومن عاره وعقد نقصه ويصبها على الآخر، متهما إياه " بشكل توهمي " أنه يحسده ويريد أن يؤذيه، وهكذا يصبح العدوان عليه مبررا فهو دفاع عن النفس ليس إلا. إن هذا التفريغ والتحويل للمشاعر السيئة الداخلية تجاه الآخر المقهور مثله ينفع مؤقتا في تخفيف التوتر الداخلي للإنسان المقهور، لكن ذلك يفشل في تخليصه وإراحته على المدى البعيد، مما يجعله ينتقل إلى المرحلة الثالثة.
ـ المرحلة الثالثة: التمرد والمجابهة عندئذ يصبح العنف المسلح وغير المسلح هو السبيل ليتخلص الشعب من عقدة النقص والجبن والخوف التي غرسها الحاكم المستبد في عروقه، وهو يحقق بذلك ذاته وينفض عن نفسه الكسل والجهل والاتكالية، وقد يكون العنف والغضب في البداية معيقا لإمكانية التفكير والتنظيم، ولكنه يفتح المجال لكل الاحتمالات، فأما إعادة دورة العنف أو الانطلاق إلى رحاب التغير السلمي الهادئ والتأسيس لمرحلة قادمة ذات صبغة تقدمية، وهذه الاحتمالات وثيقة الصلة بمن يقود عملية التغير.
ونحن إذ نقف إلى جانب انتفاضة اكتوبر العراقية، والتي تجاوزت الشعارات المطلبية الى التغير الشامل، فنحن بأمس الحاجة إلى دور مميز للفكر والسلوك الاستراتيجيين الذي يغيب كل الغياب عن ساحة الصراع والاحتجاجات، حيث لا تزال قراءتنا للأحداث قراءة انفعالية وذات صبغة إيديولوجية متحيزة، ولكنها صادقة لأنها صادرة من الأعماق في الرغبة للإصلاح الجذري، وتصل بعض الأحيان إلى نمط من القراءة الانتقامية، لأننا نحمل "عقدة الثورة " والتي قد تصل الأمور إلى أبواب موصدة، وهي قراءة نافخة في الجماهير، ولكنها لا تحمل البديل المطمئن، وهذا ما يعزز فسحة الفراغ السياسي والذي قد يؤدي إلى فقدان بوصلة التغير وانحرافها عن أهدافها المتوخاة، وأختزل بما اقصد به بقول نجيب محفوظ: " أن الثورة يخطط لها الدهاة وينجزها الشجعان ويغنمها الجبناء".
ومن هنا يجب فهم انتفاضة اكتوبر العراقية في اطار السياق الذي نشأت فيه، والذي ينعكس اساسا في اكثر من عقد ونصف من فشل تجارب الاسلام السياسي واستحواذه على السلطة وحتى على صناديق الاقتراع، مغيبا ارادة شعب في اختيار الافضل، ومستخدما كل وسائل الترهيب والتزوير والكذب والخداع التي افسدت الديمقراطية في العراق قبل ولادتها. لقد تعرض شعبنا الى كبت طويل الامد مما سبب احباط مستحكم وقد تنتج عنه المزيد من دورات الغضب المشروع.
د. عامر صالح
صور بغداد الافتراضية في المخيال اليهودي العراقي
- التفاصيل
- كتب بواسطة: نبيل عبد الأمير الربيعي
المنجز الفني ليهود العراق يتضمن صور الحنين والاعتزاز بالهوية الثقافية العراقية، وهو الوطن الأم، من خلال الأفلام السينمائية واللوحات التشكيلية والموسيقى والغناء الأصيل، فذاكرة يهود العراق تمثل انعكاسات الحنين إلى أرض الوطن من الجيل الثاني والثالث، وتمسكهم بالموروث المكاني واسترجاع الفضاء البغدادي والتمسك بالهوية البغدادية.
صدر حديثاً عن دار ومكتبة عدنان للطباعة والنشر والتوزيع في بغداد للدكتورة خالدة حاتم علوان كتابها الموسوم (صورة بغداد الافتراضية في المخيال اليهودي العراقي)، وهو الكتاب الرابع في توثيق تاريخ يهود العراق الأدبي والروائي، الكتاب يحتوي على (252) صفحة من الحجم المتوسط، وهو دراسة في تمثلات سرد الفضاء التاريخي في المنجز الفني للأفلام واللوحات والموسيقى لأبناء يهود العراق.
الكتاب يتضمن ثلاثة فصول، الفصل الأول يخص التعليم في مجال السرد البصري لاستعادة المكان من خلال الافلام الوثائقية التي انتجها يهود العراق، وتؤكد الدكتورة خالدة حاتم علوان حول اهتمام يهود العراق بالأفلام الوثائقية في هذا الكتاب، ففي صفحة 52 من الكتاب تذكر الدكتورة قائلة :"يبدو اهتمام يهود العراق بإنتاج افلام وثائقية اكثر من روائية يعود لجملة اسباب، ربما في مقدمتها اشراك طبقة واسعة من المجتمع بوصفهم الجمهور المتلقي"، فضلاً عن أن الافلام الوثائقية تعتبر جزءاً من وسائل الإعلام التي تساعد على استيعاب وحفظ التراث والتاريخ ليهود العراق، تلك الأفلام التي سلطت الضوء على ماضيهم، والعلاقات الجمعية مع ابناء العراق، والذاكرة العراقية، وتصوير الواقع في ممارسة نشاطهم في المجتمع العراقي وسيرة الطائفة على وجه العموم، فهيَ أفلام سيروية أكثر منها تاريخية.
بحثت الدكتورة خالدة حاتم في مجال أربعة أفلام تمثل لشخصيات متنوعة، منهم السياسي والفنان ورجل الأعمال والروائي والصحفي، ففلم (إنسَ بغداد)، وفلم (عراق رويال)، وفلم (ظل في بغداد)، وفلم (تذكر بغداد). تلك الأفلام الأربعة تمثل موضوعة المكان والهوية، وتركز على معاناة اليهود العراقيين بالانتماء للهوية العراقية.
إذ بينت د. خالدة أهمية الأفلام وثائقياً، وتعريف الجمهور بالشخصيات الرئيسة والمخرجين والمصورين للفلم وأماكن التصوير والمواضيع التي تدور حولها الأفلام، لكن من المؤسف نجد أن الطائفة اليهودية وعلى مدى تاريخها الرافديني قد غُيبّت في المناهج الدراسية العراقية والمنتديات الثقافية، وكل مل يَمت بصلة لهم كمكوّن ضمن مكونات الشعب العراقي الذي عاش في أرض بلاد الرافدين زهاء أكثر من 2600 عاماً، حتى الرحيل القسري عام 1951م، وتفريغ العراق منهم عام 1974م.
كانت اللغة الغالبة في الأفلام اللغة العربية وخاصة اللهجة البغدادية المؤطرة لعمليات الاستذكار في تلك الأفلام. تؤكد د. خالدة في صفحة 74 من الكتاب حول اللهجة البغدادية ليهود العراق قائلة :" لقد كان من جملة ما انماز به يهود العراق هو التحدث باللهجة اليهودية البغدادية أو اللهجة البغدادية التي لا يزالون يتكلمون بها في بيوتهم حتى اليوم في إسرائيل"، وهذا ما يتجسد في حواراتهم داخل بيوتهم مع أفراد العائلة، فضلاً عن متابعة أخبار العراق والسماع للأغاني العراقية التراثية، كما أن للغة العربية واللهجة البغدادية المخففة تشير إلى تمسكهم بأرض الوطن، علماً أن اللهجة البغدادية هي الأكثر وضوحاً مع شخصيات فلم (إنسَ بغداد)، وكأنهم لا يزالون يعيشون في بغداد، لذلك يؤكد شمعون بلاص في حواراته في الفلم عن ما تختزنه ذاكرته في العراق، واصفاً إحدى نقاشاتهم في الخلية الحزبية الشيوعية وبلهجة بغدادية واضحة قائلاً :"لأول مرة، في أول اجتماع مع الخلية الحزبية، لمَن رحت بگهوة شعبية جداً ومكتوب عليها خاص للإسلام (يضحك) وآني جاي دا اقره كتب، يعني مثقف (يضحك) فـ... رئيس سكرتير الخلية كان مدرس، إنسان لطيف جداً، گلي احنا هسه دنتباحث بأشياء فلسفية وكذا، شوف دنبحث الفرق بين المثالية والمادية، اشنو الفرق؟ گتلة المثالية رجل يحجي مثالي ومثل عليا وما ادري شنو، والمادية واحد يجري وراء المادة، اشوف دا احجي وساكتين كلهم، اشو هذا شويه (ديبتسم)، گلي أي صحيح بس هذا تفسير من ناحية أدبية (يضحك)"، من خلال حديث بلاص تبدو المفردات البغدادية لا تزال تسكن في قلوبهم.
لقد عالجت الأفلام الوثائقية موضوع الهوية والحنين للعراق، فضلاً عن اهتمامهم ببغداد والحنين إليها من خلال نتاجاتهم السردية والبصرية والتشكيلية، كما شملَ تداولهم لأسماء مناطق سكناهم في بغداد من أحياء (قمبر علي، الدهانة، المسبح، البتاوين، حنون). كما ينقل لنا فلم (ظل في بغداد) لبطلة الفلم ليندا عبد العزيز منوحين الأماكن التي عاشت فيها فترة طفولتها وشبابها حتى هروبها من العراق، فالعاصمة بغداد بدءً بساحة النصر وانتهاءً بمنطقة المسبح.
أمّا فلم (تذكّر بغداد) لبطل الفلم إدوين شكر ورحلة ذهابه إلى بغداد وزيارته لبيتهم القديم فيها، ذلك البيت الذي وجده إدوين معروض للبيع من خلال رحلته، وكانت رغبته الكبيرة بشراء البيت، فهو يمثل مرتع الطفولة والشباب وذكرى العائلة والوطن الأم، فكانت ذاكرته وقّادة في تحديد مكان دارهم في العاصمة بغداد، كان لنهر دجلة الذي يشكل خصوصية وقدسية لإدوين شكر ولأبناء الطائفة اليهودية العراقية، فقد مَثّلَ غصة في قلوبهم، إذ كانت ساحة لممارساتهم الاجتماعية وشاهداً على براءة الأيام الماضية ونقائها من الحقد والكراهية بين الطوائف.
المكان والأزقة والأحياء لها مكانة عزيزة في المخيال اليهودي العراقي، الذي يؤشر عمق التماهي مع الوطنية، من تلك الممارسات هي الجلوس في المقاهي وممارسة العاب شعبية شهيرة اهمها (الدومينو والطاولي)، ففي فلم (عراق اندرول) وعبرَّ رحلة الفنان والمسيقار (دودو تاسا) في المقاهي العربية التي يرتادها العراقيون بكثرة، ولا سيما المقاهي التي تطل على نهر دجلة، ونزهتهم بالزوارق واكلة السمك المسگوف.
الأفلام الوثائقية تعرض صور التعايش السلمي الذي كان سائداً في بغداد والمدن العراقية من وجهة نظر شخصيات الأفلام، والأحياء التي سكنها يهود العراق كانت مختلطة ومتنوعة الهويات الدينية، وهذا يمثل التمدن والتحديث الذي شهده المجتمع العراقي. من خلال متابعة الفلم يحاول الأبن الأصغر للفنان صالح الكويتي (شلومو/سليمان) أن يوضح لـ(دودو) حفيد داود الكويتي لأبنته كارميلا ما معنى أن يهدي الملك غازي ساعته لعازف يهودي؟ واستيعاب تلك العلاقة واسبابها، إذ يشرح لهُ المكانة التي حظي بها جده صالح الكويتي من قبل الملك غازي في وقف التصادم والعداء النازي للديانة اليهودية، فلم تكن الهوية الدينية عائقاً أمام الملك في التعبير عن محبته وتقديره للأخوين الكويتي.
فلم (عراق اندرول) قدمَ الصورة السلبية للآخر ممثلة بتوجهات رئيس الوزراء العراقي (توفيق السويدي) بتجريد العراقيين اليهود من ممتلكاتهم كافة ومصادرة اموالهم وترحيلهم إلى إسرائيل. كما تسلط بطلة فلم (ظل في بغداد) السيدة ليندا عبد العزيز منوحين حادثة إعدام اليهود أثر اتهامهم بالتجسس لصالح إسرائيل حقبة نهاية ستينيات القرن الماضي في ساحة التحرير وكيفية رقص الآخر على اجساد الضحايا، كانت في تلك اللحظة من السهولة أن يتهم النظام لأبناء العراق من اليهود بتهم الجاسوسية والعمالة، تلك التهم البائسة التي ذهب ضحيتها ابناء العراق الأنقياء.
كان لتولي حزب البعث السلطة في العراق دور كبير في عمليات الاضطهاد لأبناء المكون اليهودي، ومساهمة عناصره وقوى الأمن من الملاحقات والاختطافات والاعدامات العلنية والسرية، واستمرار موجة الاضطهاد حتى عام 1972م حين اختطف المحامي عبد العزيز منوحين والد ليندا ولم يعثر عليه حتى هذه اللحظة.
أما الفلم الرابع (مطير الحمام) أو (المطيرجي) للروائي إيلي عمير، تذكر الدكتورة خالدة حاتم في صفحة 105 من الكتاب قائلة :"يستند الفلم إلى رواية مطيرجي في بغداد وتتحدث عن حقبة الأربعينات وبداية الخمسينيات في بغداد التي تعد من السنوات الحرجة في تاريخ يهود العراق، بدءً بحادثة الفرهود عام 1941 وتداعيات إعلان دولة إسرائيل وصراع التيارات الفكرية آنذاك في الساحة العراقية، وتحديداً الحزب الشيوعي العراقي والمنظمة الصهيونية المحظورة في العراق"، لكن الكاتبة د. خالدة تناست دور منظمة (عصبة مكافحة الصهيونية) وهي الواجهة للحزب الشيوعي العراقي ودورها في مكافحة التنظيمات الصهيونية ومنها التنوعة وانتماء بعض يهود العراق إلى هذه المنظمة اليسارية وإلى تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي.
الفلم يسلط الضوء على طبيعة المجتمع اليهودي العراقي وطقوسه وتقاليده وطبيعة العلاقات الاجتماعية بين ابناء الطائفة من جهة وبين المسلمين من جهة أخرى، كل ذلك يقدم من خلال البطل الشابي (كابي) (دانيال كاد) ذي الـ16 عاماً. الفلم يمثل حياة الطائفة اليهودية البغدادية باللغة العربية، للمخرج نسيم دّيان، وقد ترجم إلى اللهجة اليهودية البغدادية من قبل الممثلة اهافا كيزين.
أحداث الفلم توضح واقع حال يهود بغداد بين الأعوام 1948- 1951م أي منذُ إعلان دولة إسرائيل حتى اقرار قانون إسقاط الجنسية العراقية عن ابناء المكون اليهودي العراقي وتهجيرهم القسري وتداعيات الوضع السياسي المتأزم في المنطقة وقتذاك.
الفلم وثقَ واقع حادثة الفرهود عام 1941م وحادثة إعدام التاجر شفيق عدس وأخيه، كما وضح الفلم ضلوع الحكومة العراقية آنذاك بمؤامرة الترحيل القسري حتى وصل الأمر باستخدام القوة والتهديد والوعيد لترحيلهم من خلال التفجيرات التي حصلت في تلك الحقبة، كما يركز الفلم على حملة الاعتقالات التي طالت افراد المنظمة الصهيونية تنوعة.
مخرج الفلم يصور السجن المركزي في منطقة باب المعظم بحيطانه القديمة ذات الألوان الباهتة وحجمه المتسع والوان الكآبة والتشاؤم وفقدان الأمل في هذا السجن الرهيب للسجناء السياسيين. كما يوثق فلم (المطيرجي) الحياة الاجتماعية ليهود بغداد ورفضهم للعادات والتقاليد المتحررة، وتعنيف (راشيل) بسبب ملابسها المتحررة التي لا تتلائم وطبيعة المكان الذي يعيشون فيه. ومن جملة الممارسات الاجتماعية التي يوثقها الفلم ما يتعلق بالألعاب الشعبية ومنها (الدومينو) و(الطاولي)، فضلاً عن دور التنظيمات الصهيونية والشيوعية التي اعتنق فكرها بعض يهود العراق ورفضهم الهجرة إلى إسرائيل. كما بين الفلم تمسك العائلة اليهودية بأرض الرافدين ورفض (نعيمة) والدة (كابي) وزوجة (سلمان) الذي تبنى زوجها المشروع الصهيوني من الهجرة الجماعية، فحين يخبرها سلمان بقرار الهجرة تنتفض وتجيبه بانفعال ورفض قاطع للهجرة (أنا اظل هون وية اجدادي واجداد اجدادي)، إذ تؤكد قِدَم وجود الطائفة اليهودية في العراق، كما تدخل في صراع مع زوجها الذي يحاول اقناع ولده (كابي) بالرحيل والعمل من المنظمة الصهيونية. كما جسد مخرج الفلم الملابس البغدادية العربية كالدشداشة والكوفية التي يلفها (ابي صالح) بطريقة تميز بها العراقيين.
أما الفصل الثاني من الكتاب فيتطرق إلى الذاكرة البصرية واستعادة الفضاء البغدادي في الفن التشكيلي للوحات التذكارية من بغداد للفنان العراقي إيلي سودائي تضم ما يقارب الـ(26) لوحة عمدت د. خالدة إلى تحليل كل لوحة على حِدَة للوقوف على خصوصياتها، وقد شاهدت بعض تلك اللوحات على جدران أحد دور العرض السينمائي في بغداد، التي انشأتها عائلة سودائي.
أما الفصل الثالث فقد خصص في الكتاب للتوثيق الموسيقي والغناء من قبل د. خالدة حاتم، كان للأخوين صالح وداود الكويتي الدور في الحفاظ على اسس المقامات العراقية، فلقد طور الموسيقار صالح الكويتي نغم مقام اللامي ووسع مساحته، وبعد رحيل الأخوين صالح وداود الكويتي استعاد الموروث الموسيقي حفيد داود الكويتي مطرب الراب (دودو تاسا) الذي يمثل الجيل الثالث من الذين ولدوا في إسرائيل لأبوين عربيين.
تذكر د. خالدة حاتم في صفحة 211 عن دودو تاسا قائلة :"اصدر البومه الأول من العام 2011 واطلق عليه اسم (دودو تاسا الكويتي)، وحظي بإعجاب وقبول كبيرين، فيما اصدر البومه الثاني (على شواطي دجلة) في العام 2015"، إذ نجح دودو في تأدية الأغاني باللهجة البغدادية، وبسبب نجاحه وجهت لفرقتهم دعوات عدة لإلقاء عروضهم الغنائية في فرنسا عام 2012م وفي هولندا عام 2016م، مما عمدَ دودو تاسا إلى توثيق موروث جدّه الفني عبرَ الفلم الوثائقي (عراق رويال) عام 2014م، فقد خلق حوارية موسيقية بين الحانه والحان جدّه في محاولة اغناء هويته الثقافية الجديدة.
الكتاب يبين اهتمام الدكتورة خالدة حاتم علوان بالموروث السينمائي والتشكيلي والغنائي ليهود العراق، فقد اسفر الكتاب عن اهمية ودور يهود العراق في مجال الفن، وعن دراسة واهتمام الجيل الثاني والثالث من يهود العراق في المهجر بموروثهم الفني ونجاحهم في توظيف السرد البصري اسلوباً لخلق الذاكرة الجديدة عبرَ استدعاء الفضاء البغدادي بمصداقية تسجيلية وثائقية عالية. لكن لا ننسى أن الكتاب فيه بعض الأخطاء المطبعية ولكنه ذات اخراج جميل ورائع من ناحية الطباعة والغلاف، إذ تنسجم صورة الغلاف مع مضمونه.
نبيل عبد الأمير الربيعي
الكُوفَةُ كِنَانَةُ العَرَبِ
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. سحر شبر
المُدُنُ كَفَاتِناتِ الجمالِ أَنَّى نَظَرْتَ إليهنَ، قَبَسْنَكَ بِشُهُبِ فِتْنَتِهنَ، وأيانَ حَدَّقْتَ في أنحائِهنَ أَرْتَعْنَكَ تحت ظلالِ رُسُومِهنَ. والكُوفَةُ شقيقةُ أولئك اللواتي وَصَفْتَهنَ لَكَ؛ اسْمُها عَربِيُّ الحروفِ، وشريفُ الدلائل، وشأنُها حيثُ جُند المسلمينَ اجتمعوا في قُبتِهم العراقيةِ الكُبرى، ودارِ هِجْرتِهم. وكانت قبلَ ذلك مَنْزِلَ النبيِّ نوح عليه السلام الذي بَنى مسجدَها الأعظمَ. حلَّ سَعْدُ بن أبي وقّاص وَكَتَائِبهُ بها في القرن السابع الميلادي، وهي لَمّا تَزْل تُرْبَةً حمراءَ، اختلطَ رملُها بالحصى، فاستدارَ واجتمعتُ الناس بِه ؛ وهي جُبيلٌ سُمِّي كوفان سَهَّلُوهُ وخَطَّطُوهُ لينزلَهُ الجُند. وها تَلكَ المَليحة العربية تتنوّعُ معاني اسمها وتتعددُ مرامي وَصْفِها، بيدَ أَنَّها جميلة لا تَبزَّ السنونُ طراوةَ مَجْدِها، ولا تَزيدها إلا أَلَقاً مُستمَداً من قَاطِنيها العرب الأُصَلاء من بني ربيعةَ و مُضَرَ ونزار اليمن. مَرَقَ نهرُ الفراتَ قِوامَها فَأَينعَ البساتين فيه، وأخصبَ تُرابَها، وأَلْطَفَ هواءَها. مَدينةٌ بِكْرٌ حَسْناءٌ لا تُعْدَمُ قولَ الحُسّاد، ونَعْتَ الأوغادِ، وشَرَّ الإفساد، اتَخَذَها أميرُ المؤمنينَ علي بن أبي طالبٍ عاصمةَ خِلافَتِه سِتاً من السّنواتِ، وهو عالِمٌ بِأيِّ أرضٍ سيصلُ قريشَ والمدينةَ، وعازمٌ على أَنْ تنهلَ دارةُ العراق الأولى من فِيضِ الإسلامِ وغورِ التأريخ. أَجل، فتاةٌ بعيدةُ المنالِ تهوى ثوراتُ الرجال الغِضابِ رَدَّها إلى حِماهم، فكانت أن التَهمَتْ كثبانُها سيوفَ القَرامِطَة البتّارة، ولم يطمسْ غُرَّتَها ثأرُ الحجاج بن يوسف الثَّقفي ولا ذُحْلُ المختار بن أبي عُبيدة الثَّقفي.
وما تستكفي مَلِيحةُ جنوبِ العراقِ أَن تَتَدَلَّهَ بجمالِها على سائر الأمصارِ العربية، وهل مِثلُها كِنانةٌ حَوَتَ أهلَ العلمِ والقراءة بالقرآنِ وفقههِ والعربيةِ وَشِعْرِها، حتى غَدَتْ مدرسةً لا يتعداها كلُّ دارسٍ لتلكَ العلومِ، ولا يمُرُّ مُنقِّبٌ عَنْ أصولِ التَمدن الإسلامي بها مَرَّ الكِرامِ فقط؟ في مَسْجِدها طلبَ عليُّ بن أبي طالب الحقَ للمظلومِ، وحكمَ بين أهلِها بالعدلِ حتّى قُتِلَ في محرابِهِ. وفي مسجدِها أيضاً قَرأَ الترمذي القرآنَ ومثله البخاري وأبو داوود السجستاني، وانتحى الكسائي أحد أروِقَتِهِ، لِيعلِّمَ تلميذَهُ الفَرَّاء النَّحوَ العربيَّ، وإليها قَصدَ أبو العباس ثعلبُ تاركاً مدينته بغداد، ومنها انبثقت شُعلةُ كيمياء جابر بن حيّان. صَدَحَت أيامَ الدولة الأموية والعبّاسية أصواتُ شعرائها: الطِّرماح ، ودِعْبِل الخُزاعي، والكُمَيْت، وأبو العَتاهِية، وشاغِل الناس بشعرهِ أبو الطيب المُتنبي في أبهى قراها: الغاضرية، والخورنق، وبانيقيا. جَرى المِدادُ في صحائفِها، فَرَسمَ حروفاً ذوات زوايا حادّةٍ ورؤوسٍ مجسمّةٍ كأنَّها أفاعي أُطلِق عليها الخَط الكُوفِيّ.
أيُّها القارئُ الكريمُ إذا أَصْغَيتَ إلى نداءِ الرَّوْعةِ ، ولبيتَ دعوةَ البَهاءِ وَقَصدْتَ مليحتَنا، فَسَتَألَفُها، وَقد ظَاهَرَتْ مدينةَ النجف شريكتُها في الجمالِ وجارتُها في التاريخِ ، وترى عَينُكَ الفراتَ ضمَّ حدائقَها إلى جهتهِ الغربيةِ، وروى بساتينَ نخيلها وزروعِها بِعذْبِ مائِهِ. ولعلَّي أراكَ وأنتَ تطلبُ إلى أحدِ شُبانها أن يلتقطَ لك صورةً مجليةً زِيَّ رِجالها الذين اعتمرتْ رؤوسُهم بِكُوفياتٍ بيضاء خُطَّت بأسودَ الخيوط، أولئك الذين أَبوا أن تطأَ أقدامُ الغاصِب البريطاني مِهادَها، فَبَرَؤا بثورةِ العشرينَ شَكاتَها.
وها أنتَ هنالِكَ على شاطئ الكوفة الضَّيقِ تَشُمُّ عَبَقَ النسيمِ الملتاثِ برائحة الطين الأسمرِ أوانَ غروبِ الشّمسِ، وتسمعُ أغنية المَلّاحِ، وهو يترنمّ :
مَرينه بيكم حَمَد
وأحنه بقطارِ الليل واسمعنه دك إكهوه
وشَمينه ريحة هيل ... .
أما عِندَ الصُّبحِ الباكِرِ، فلا يَفُوتنَكَ مذاقُ كِسْرَةِ الخبزِ الذي فرَّ من لهبٍ سَجَّرتْهُ يدانٍ سمراوانٍ دَافا الفرحةَ والعَبْرَةَ بالكَيمرِ وعسلِ التمرِ، تلكَ يَدا العراقيّة الكوفيّة اللتانِ تحملانِ كِنانة العروبةِ، وتَمسَحانَ عن وَجهِ المَدينةِ غبارَ الخَرابِ الذي اعْتَلَقَها اليومَ.
سَحَر شُبَّر
2019 شَنْغَهاي
جنون العبقرية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مأمون احمد مصطفى
تراودني أفكار غريبة، قريبة من الجنون، تنتهك اصوليات المنطق، وتهتك ستر الأشياء، كالطموحات الممزوجة بتوتر وغليان لا يهدآن، يقال أحيانا بان المس ينقل الانسان الى اقصى درجات الادراك والعمق، بعكس ما هو سائد في المفهوم المرعب للشعور المستتر خلف الخوف من الغريب والمستهجن، او بصورة اصح، خلف المستبد القاتل بسادية تمتزج بها النرجسية.
مثلا، فكرت ذات مرة ان احمل جسدي لأضعه على ناصية شارع مهجور غير مطروق، واتركه هناك انتظارا لمار او طارق، ربما عام، وربما مئة مليون عام، وكان علي ان اخضع روحي ومشاعري للبقاء في حالة يقظة مستمرة دون الشعور بالإعياء او الوهن والوسن، ولان طبيعة الجسد مرتبطة بالروح، شعرت بغصة وانفصام هائل اودى بذاتي الى معتقل الواقع والعجز، مرضت مرضا شديدا، وبكيت، اُرهقت كثيرا، وفجأة، شعرت بثقل هائل، قلت: استطيع ان احقق كل ما صبوت اليه، ليس فقط لمئة مليون عام، الى ازمان يعجز العقل عن احصائها، كل ما علي الانخراط بالجنون الاعمى والحلم المسحوب من مساحات الزمن.
أهكذا هي الأشياء، تحمل مسميات نعرفها دون ان ندركها؟ لم تكن حالات الجنون المتعاقبة التي توصلني الى مرحلة الهذيان والتحطم والتردم، بمنأى عن تفكيري بالقارئ، والكاتب الذي هو انا.
ماذا اريد ان اكتب؟ وماذا يريد القارئ مني؟ امران لا ينفصلان عن بعضهما ابدا، هناك الواقع الذي يسجل لحظات العمر، وهو امر يشحن المفردات والجمل بتقلبات ورجرجات كثيرة، تقنعني أحيانا باني وفقت في نقل فكرة او صورة او حدث الى مربع المكان والزمان، كثير من القراء يؤيد ذلك، اما انا، فبعد أيام من نشر عمل ما، اعود اليه مرة أخرى، فاشعر انه خال من الجنون والصدمة التي اردت، تنتابني كآبة ويشدني حزن، فاكتب شيئا جديدا اريد منه الانفلات من الواقع والمدرك، ليكون فوق حالة الجنون والتأرجح والانصهار، بحثا عن عالم لا يمت الى عالمنا بصلة، عالم له خصوصية التداخل والاشتباك والتناثر والتجمع والانفلات والتشتت، لا تحكمه حكمة او يزوره منطق، بل تتكون حكمته من تناقضاته التي تتناقض مع الحكمة والمنطق وتضاد، اعود مرة أخرى لأقرا من جديد ما كتبت، اشعر باني ما زلت استخدم ذات الحروف التي استخدمها سقراط وافلاطون، وهي ذات الحروف التي استخدمت برسم ما في عهود ما قبل التاريخ والتطور.
" أليس من الغريب ان الطرقات تصبح أطول عندما نشتهي الوصول" هذا ما يقوله قس بن ساعده، ومحمود درويش يقول " لم نفترق ...! لكننا لن نلتق ابدا ...!!"، هذا صحيح وينطبق على كل ما يمكن التفكير فيه، اللهاث المتواصل بين طرفي النقيض يشكل هاجسا نَتَغَياه من اجل الوصول الى الاقتران المطلق رغم عدم اللقاء، قس ومحمود اتفقا مع بعد الفاصل الزمني بإحساس الرياح وهي تعكف على نقل الطلع والبذور والرمال من الصحراء والشواطئ الى أماكن مجهولة حتى للرياح ذاتها، لكنهما من خلف العقل والوعي حملا المفردات معان لا تقال، لكنها تحس بشعور المجهول العاجز الكسيح.
هل هذا هو الادب الخارج من منطق الواقع والواقعية، وما هو تعريف الادب أصلا، اشهر التعريفات التي حاولت ان تعطي للأدب اطارا يمكن من خلاله فهم الصورة التي يحتاجها الكاتب والقارئ كانت تحاول عبر تطور المفهوم ان ترضي خلفيات المعرف والتعريف، وان تنزل عند غرور ونرجسية الكاتب والمتلقي، وما يمكن رصده الان من تعريفات معاصرة هي، النسبية، اللاأدرية، الذاتية، لكن هل تكفي كل هذه التعريفات حتى لو دمجت معا لتشكل تعريفا يضع المفهوم الشعوري وحالات التوتر والزخم والجنون والفصام الذي يجتاح الكاتب والقارئ ضمن بوتقة لا يختلف عليها، ليس في التعريف فقط، بل في طبيعة المُعطي والمُعطى، المَؤدي والمُؤدى.
اشك في ذلك، لأننا لا نستطيع مثلا اقصاء الرسام عن حالة من حالات الكاتب، وكذلك النحات، فهذا يكتب بمفردات اللون وذاك يكتب بمفردات الحجر، وكل منهما يحاول الوصول بالفكرة الى مرحلة من مراحل التعبير القصوى، ليس فقط لامتاع المتلقي، بل في محاولة مثقلة باليأس التخلص من توترات وتشنجات الفكرة التي تستعمر استعمارا كاملا منابت الشعور والاحساس الواعي وغير الواعي، وهذا ينطبق تماما على كاتب القصيدة والرواية والقصة والمسرحية، وهنا يتمحور السر الخفي الذي لا يمكن للكاتب او القارئ الادعاء او محاولة الادعاء بانه استطاع ان يدرك المعاني التوترية الوعرة التي تصلب محمود درويش على الواح العذاب والكآبة والعجز القاتل حين كتب رائعته لاعب النرد، وهو ذات السر الذي حاول سلفادور دالي ان يتخلص وينقله كوباء الى الناس في لوحاته المُعذِبة والمُعَذبة، وحياة الرسام بكل ما فيها من غرائبية تكاد تصل الى حد الجنون، تشير الى نوع من العذاب القادر على الخلق والابداع في محاولة للتخلص منه والانتقال الى هدأة قصيرة مختطفة من زمن غير مرئي وغير موجود في مساحات الوقت التي يعرفها الكاتب والقارئ.
الكتابة بشكل عام، هي توق لتسجيل وقائعي للمستحيل على ارصفة واقعية، وجهد يسعى لتحويل الغامض الى معلوم محسوس، وبذلك يمكن ادراجها كمحاولات مستميته للتخلص من الذات والذوات التي تعيش في شخصية الكاتب وتتحكم بها بشكل مطلق اثناء الكتابة او بدونها.
هناك دراسات نفسية حديثة تتجه للتعمق في محاولة متقلقلة معذبة لفهم العلاقة بين الاضطرابات النفسية وبين القدرة على الابداع، وخلصت هذه الدراسات الى نتيجة تثير الفضول، حيث تؤكد بان درجات من الحالات الذهانية الفصامية والهوس الاكتئابي، التوحد، وحالات أخرى كالشك والنرجسية، تؤدي الى مرونة في التفكير وإطلاق الذهن في القدرة على التخيل وخلق أشياء من العدم، لكنها يمكن ان تقود في لحظة ما الى الانفصال الكامل عن مجريات المعتاد ليبقى المريض المبدع يخطو بقوة نحو اضطراب نفسي شديد لا يمكن الخلاص منه او العيش معه.
انا لا اشك بهذا ابدا، فهناك حالات لا يمكن اغفالها أو النظر اليها بعين مجردة، بل بمجهر عال الدقة، لكنه مجهر البحث عن البصمة الذاتية للتحولات والتقلبات والغليان المستمر لنوازع وصفات لا يمكن تجاوز عواصفها وعصفها، فأرنستو همنغواي مَثًل بشكل مباشر حالات التطور والتنقل بين الانا الضخمة التي تسيطر على الفرد بناء على ترسبات ذاتية متراكمة لتبني حالة مرضية قادرة على التعامل مع معطيات العبقرية والجنون في ذات الآن، فهو عاش رغم ثراء عائلته الفاحش النقيض تماما، وحاول من خلال التنقل والترحال ان يطارد هاجس الموت الذي يبرز من داخله ليدنيه اليه، لكنه فشل ونجح، فقد تعرض لأكثر من حادثة كادت تودي بحياته، نجا منها جميعا، لكنه وبعد أعوام، سئم من كونه حيا وربما شعر بان وجوده في الحياة اكثر وقعا وايلاما من موته، لذلك عاش فكرة الانتحار بواقع مرضي فيه الكثير من الجنون، وبلحظة هادئة وادعة نزل من الطابق العلوي، وانتقى بعناية فائقة اجمل وافخم بندقية مطعمة ومرصعة، فتح فمه، وضغط على الزناد.
لم يكن دوستويفسكي بعيدا عن هذه التوجهات ابدا، فهو المريض بالصرع، وهو الذي وقف ينتظر الموت حين انتظم في صف المدانين بالإعدام، وهو أيضا المريض الذي لم يهدأ له بال او تتشبث به لحظة رضى وقناعة تتجاوز الألم والعذاب، شخصياته لا تخلو من مرضه ابدا، ولو خلت لكانت غثة لا قيمة لها على الاطلاق.
فان جوخ قطع اذنه ثم انتحر، جاك لندن، فالتر هارزن، كورت توخولسكي، ارثر كوستلر وزوجته، جميعهم انتحروا بالسم، ستيفان زفايج وزوجته اختارا الانتحار في يوم المهرجان الكبير الذي يقام في ريود جانيرو، اما الاديب جين آمري، فقد اختار يوم افتتاح الكتاب في المانيا ليكون يوم انتحاره، وكأنه يريد ان يوصل رسالة كانت تدور في خلده، او انه أراد موتا احتفاليا لامعا براقا يشد انتباه القراء اليه بطريقة غريبة، فها هو الروائي الإيطالي سيزار بافيز رفع مستوى الانتحار عنده الى مناسبة احتفالية حين صرح بان انتحاره افضل انجاز انجزه في حياته.
هناك أيضا حالات انتحار تكشف عن مرض كامن في العقل والنفس، فمثلا الروائية فرجيني وولف انتحرت خوفا من الجنون، اما الكاتبة الأرجنتينية مارتا لينش، فإنها لم تطق رؤية التجاعيد بوجهها، فقررت الانتحار وهي في الستين من عمرها لهذا السبب.
ما الذي يدفع مثل هؤلاء المشاهير للانتحار؟ اليس الموت ذاته يشكل هاجسا مرعبا عند الانسان قبل المبدع؟ قد يختلف الكثير بالنظر الى الموت كعالم خاص، لكن لا أحد يستطيع ان ينكر بانه يشكل فجيعة قاتلة ومصيبة عظيمة عند الغالبية من البشر.
العاطفة، الحساسية، الانفعال والتوتر، الشعور الواقع بين خيال الذات وواقع الوجود، وما يتصل بكل هذه من مسميات، يكون في حالات الكاتب والشاعر قادم من عالم متكامل من الوهم والخيال والتمني والذاتية المغرقة في توطيد كل هذا بقناعة مستبدة تعيش في ثنائيات متوازية لتشكل حالة مرضية تفتك بغيرها من حقائق الواقع وثوابت الحياة، بما فيها من صحة وخطأ. تتوالى العوالم الوهمية بالتداخل في كل المشاعر وتتركز، وتقصي كثير من الضوابط التي من شأنها ان تقلص سيطرة الخيال والوهم، فتتشكل العاطفة في جوف الفكر، كمغذي للتفكير وما يليه من تحليلات تتربص بالشخصية لتنثرها على خيوط حريرية حادة، تجرح وتكون اوراما من حب السيطرة والتفوق والتقوقع داخل ذات-يعتقد صاحبها- بعذريتها المطلقة، حتى تتداخل كل هذه وتلتحم كصبار مدبب ينمو نحو الداخل والخارج.
في هذه الاثناء يتحول الكاتب من كائن عادي، الى كائن مرهف محمل بالشفافية والرقة التي تغزل تطلعاته نحو المجتمع، من خلال رؤى ضبابية مثقلة بعدم الوضوح، وربما عدم المعقول، فهو ليس شخص واحد، هو مجموعة من الشخصيات المسطحة، وكم كبير من شخصيات مركبة، يجدها القارئ بوضوح في طريقة وصف الشخصيات لدى الروائي والقاص، فمن الحنكة للباحث والقارئ ان يرى الكاتب وما به من شذوذ عميق في الشخصية، من خلال مزج الشخصيات المركبة، السلبية والايجابية، الجانبية والاساسية، في شخصية الكاتب، لأنه مزيج معقد وصعب وثقيل من كل تلك الشخصيات، وليس فقط من شخصية البطل او شخصية الايجاب والخير في الرواية، وهذا ما يدفع الرواية او القصيدة او القصة، الى مرتبة العالمية بجدارة وصولها الى التوترات التي تعتصر الكاتب من كل الأعماق النفسية وتعتصره حتى يصل الى حالة من حالات الذهان المركبة من كل تلك الشخصيات وما رافقها من تفاصيل سجلت على الصفحات، وتفاصيل تم اعدامها داخل الشعور والاحساس للتعفن هناك، وتضخ سموم اوزار اعدامها.
ليس هناك على الأرض من يستطيع ان يدعي، بان الكاتب الذي وصل الى المرحلة التي سجلناها، له شبيه في الحياة الا من هو مثله، فلو افترضنا أن انسانا عاديا مر على طفلة صغيرة شوهتها ظروف الفاقة والفقر لتجلس على حافة رصيف تستجدي الناس لقمة عيش، ومر عليها كثير من الناس، فهم سيشفقون عليها، ويحزنون، وربما يبكون، لكن بالنسبة لمن تتحكم به عوالم من الشفافية والرقة، وعوالم من الخيال الخصب والمخصب، فان العالم سيقف محوره هناك، ستزوره الاحلام والكوابيس، يفقد القدرة على النوم، يتحرك باتجاهات متضادة، يبكي ويزدري العالم كله، ثم يبكي ويزدري نفسه لأنه جزء من مشكلة البنت ومشكلة الحياة، سيصدر احكاما على الحياة والوجود والعدالة تدخله في عالم خاص جديد، سيعاف طعم الشراب والطعام، سيلجأ للعتمة والنور بين حين وحين، ويوزع نفسه على سياط من التخاذل وعدم الرغبة في النظر للمرآة.
سيتكوم كل هذا في وعيه ولا وعيه، في مشاعرة واحساساته، في وهمه المنسوج من حالات الذهان والانتكاس والارتكاس، حتى يصل الى لحظة ينفصل فيها عن العالم وعن محيطه، بل وليحمل العالم مسؤولية كل شيء، دون ان يرى في نفسه القدرة على التوافق مع عالم لا يحمل غير الخطيئة والخطأ.
وكلما تقدم السن قليلا، وكثر الألم المركز والمعتق، وتداخلت احداث مع صور وتقلبات، كلما تعاظم المرض واستبد، وكل شخصية جديدة مكتوبة او قابعة في النفس تتقلقل وتترجرج، ستضفي على الشخصية، نوعا جديدا من أشياء مجهولة خاصة التكوين غير المرئي للكاتب، حتى تصل الى الوقوع في تناقضات شديدة السمية، لكنها لا تميت الجسد، بل تشعل التهابا هائلا داخل الروح والنفس والشعور، لتصل الى صلب كل ذلك على اضداد من الوعي المشوي والمشوه، والى لا وعي يصدر احكامه ليس المهم على العالم، بل على الذات التي تنهار داخل ذاتها فتسقط الماضي والحاضر والمستقبل في عمق مأزق له جنين يحتاج الى طلقات ولادة مجنونة، لا ليخرج الى النور، بل ليغوص بعمق المأزق ويتشبث به كمغذ للحياة، ونقطة تكوين للقادم.
ولو اردنا ان نحاول بقدر ما نملك من استطاعة تحويل الانهيارات والتردمات والعواصف والزوابع الوهمية والخيالية في مفردات معينة تكاد تصف ما نصبو الى وصفه، مع التأكيد والقناعة، كروائي وقاص، أقول: بأن احاطة ذلك بالغموض الممعن بالغموض، والمجهول المولود من مجهول، ولا شيء موصول بلا شيء، والاعتراف المطلق بعدم القدرة على تبيين او إيضاح الحالات الشاذة، شديدة الشذوذ، الموغلة بالغرابة والتهويل، هو الوصف الحقيقي للعجز الذي يصيب الكاتب عن فهم ذاته ومحيطه، وهو ذات العجز الذي يحيط بمن يحاول كما أحاول الان تأطير ذلك ضمن مفردات محددة تؤدي كما اريد ان اوهم نفسي والاخرين، باني استطعت تقريب المعنى الذي اريد لذاتي وغيري.
السر الكامن في الكاتب، من حيث الابداع الموصول بالمرض النفسي والذهني، او سمه ما شئت من تسميات، الذوات. الأنا. التي تدور حولها كل الأشياء والمسميات.
الكاتب يملك أنا لكنها ليست واحدة، ويملك ذات ولكنها ليست ذاته او ذات واحدة. والأنا التي يملكها والذات، ليست ثابتة، او موصوفة او محدودة، بل هي متحولة بكل عددها، غيميه مائية، فوقها وتحتها ظلال متدرجة اللون والغموض، تتمدد وتتقلص، تندمج مع رياح وبذور وتويجات، تتلاحم مع شوك وزلزال وبركان، ينصهر كل في ذاته وبعضه، تتكون أنا وذات جديدة، تتمرد تغزوها بيوض نمل ونحل، تتكاثر من جديد، تتمرد، تلوحها اللدغات والتغيرات والحكاك، تنشأ دُنى جديدة في الأنا والذات، تحاول ان تتعرف على نفسها، شخصيتها، وجودها، تتوزع بين تحول وتحول، تبدل وتبدل، تصاب بالخضة، بالرجة، تغزوها نوازع الهزيمة، تردها قليلا ثقة بالانتصار، تخيم عليها الخيبة، تتفجر لتخلق عوالم جديدة وأنا وذوات جديدة
لتتحول وتتبدل كما كل تجربة من هذا الى ذاك، ومن شيء الى لا شيء، ومن لا شيء الى شيء، ومن معلوم الى مجهول، ومن مجهول الى مجهول، ومن واضح الى غامض، ومن غامض الى غامض، ليتلاشى المعلوم والواضح، ولا يبقى سوى ثقوب سوداء تخفي مراجل الصهر والاذابة عن كل شيء.
الجنين او بصورة اصح، الاجنة التي تخلق طلقات ولادة حادة، مدوية، كاوية، كي تخلق الإرهاق المتواصل والرعشات النفسية والشعورية، هي الذوات الموزعة في أعماق الكاتب، متحركة، قافزة، تصدر ضوضاء لا حد لها تحت سطح الأنا، تتشقق النفس، تغرق الشقوق بملح صارخ، كل هذه هي شخصية الكاتب المستقل بشكل ما عن العالم، عن المحيط او الدوائر العادية للحياة، فهو مجموع من أَسًى، أَنِين، إِكْتِئاب، تَأَلُّم، تَأَوُّه، تَوَجُّع، حُزْن، شَجًى، وَصَب وبَوَى.
في هذه اللحظة المعبأة بالازدحام، تولد الأنا العظيمة التأثير، لتصدر احكامها على كل الأشياء كما تريد، فيتكون الخيط الناري، الذي يسوق الكاتب نحو الوحدة، التي تقوده نحو الاضطراب المتوائم مع كل ما سبق، ليشكل عوالمه من بناء خاص برؤاه، فينفصل انفصال شبه تام عن المحيط، فيه شيء من الجنون المتمرد، وشيء من التميز في اكتشاف تفاصيل لا يستطيع من لا يملك هذا الاضطراب العاطفي والجنون الذاتي اكتشافها ولو خصص أعمار فوق أعمار.
فليس من الغريب ابدا، أن ترى من الكتاب من تؤنسه الوحدة والظلام، أكثر مما يؤنسه الجمع والضياء، وأن ترى ارنست هيمنغواي يفكر مليا قبل الانتحار، بنوع السلاح، وجماله، واللحظة الوادعة الهادئة التي سيقتل نفسه فيها، فهذا التصرف بالظاهر يوحي بأنه كان ممسكا بزمام الأمور، وأنه يفكر بروية وتأن، ويخطط بذهن واع مدرك حجم اللحظة، لكن الحقيقة انه لا شيء من ذلك صحيح، فهو كان مسوقا سوقا، كالمنوم مغناطيسيا، من ذات أو أكثر من ذات، للتوجه نحو تنفيذ الحكم بالإعدام الذاتي، فهل نستطيع لو حاولنا الان بكل ما نملك من علم ان نصل الى يقين عن الذات التي تمكنت منه ليصل تلك اللحظة، وهل هي ذات واحدة او كم هائل من الذوات التي نشأت مع الطفولة، فالشباب، وما تلا ذلك؟ هل هي الأنا العالية المعتدة بذاتها، ام مجموعة من الأنا التي تمازجت؟ نحن لا نعرف، ولن نعرف. جل ما يمكننا معرفته العودة الى رواياته لنقرأها مرة أخرى من اجل اقناع ذات من ذواتنا بذات من ذواته، دون ان نستطيع الوصول لتقلبات ذاته او ذواته او أناة ولو ادعينا ذلك
هل اريد القول بالنهاية ان العبقري في الرواية هو مجنون؟ نعم بكل تأكيد، هو مجنون عبقريته وذواته ومشاعره وانفعالاته ووجعه وشفافيته وتهويله ووهمه.
ولولا ذلك ما كان بين أيدينا الجريمة والعقاب لديستويفسكي، او قصة مدينتين، او الأم وبين الناس وجامعياتي لتولستوي، وما عندنا فيكتور هيجو، او ابن الرومي ومحمود درويش على سبيل المثال فقط.
مأمون أحمد مصطفى
13-01-2019
قراءة في رواية: الذئاب على الابواب للكاتب أحمد خلف
- التفاصيل
- كتب بواسطة: جمعة عبد الله
تعتبر هذه الرواية نقلة نوعية في تطوير لغة السرد الروائي، بتقنياتها المتعددة الاساليب في الحبكة الفنية الحديثة. وحتى التطوير في منصات الضمير المتكلم، الذي يجمع صوت السارد والمسرود وصوت الكاتب. اي هناك تداخل بين صوت بطل الرواية او الشخصية المحورية، وصوت الكاتب او (السارد العليم) والمنولوج الداخلي في حواس المشاعر الداخلية. هذا التنوع بالصياغة التعبيرية وأدواتها السردية. وظفت في براعة متناهية اسلوب التداعي الحر. الذي يسلط الضوء الكاشف على العالم الداخلي في الشخصية. هواجسه في التوجس في القلق الحياتي الذي يلفها بالخوف والرعب، أو كشف كابوس الحالة النفسية والسايكولوجيةلهواجس الذات. في تدفق الاحداث الجارية وفي صراع الذات، ان الرواية استخدمت، حركة استرجاع الماضي في خزين شريط الذاكرة (فلاش باك) والنافذ التي يطل من خلالها على الواقع ومنصات تداعياته الجارية، اوفي العالم المحيط به، يراقب ويرصد ويلاحظ تحولات الواقع والشارع. في مؤثراته، في صياغة الوضع العام القائم للواقع. اي اننا بصدد الزخم في اعطى الوصف والتصوير العالم الداخلي والخارجي، بهذا الكم الهائل من الاحداث الجارية والمتلاحقة، في اسلوب توظيف التداعي الحر الذي يكشف بانوراما الحياة والواقع، فأن الفضاء الروائي اعتمد على ركيزتين. بناء الديكور الداخلي للشخصية المحورية او بطل الرواية (يوسف النجار)، في كشف العوالم الداخلية، من خلال الاستبطان والاستنطاق والاستقراء والتحري الداخلي. اوبالاختصار بما في جعبته الداخلية. اما الديكور الخارجي هو العالم المحيط بالشخصية وبالواقع في مجرياته وتداعياته. لذلك نجد التمازج والانسجام بين صوت الشخصية المحورية، وصوت السارد. وصوت الكاتب نفسه، الذي وضع بصماته بشكل واضح في المتن الروائي. ونجد تحولات في الازمنة المتعددة في التنقل، بين الماضي والحاضر، او بشكل ادق ما قبل وبعد عام 2003. لذلك الاحداث تلاحق الشخصية المحورية (يوسف النجار) حتى في منولوجه الذي يغطي حالته النفسية والسايكولوجية. من خلال تسليط الضوء الكاشف على طبيعة النظام الشمولي، الذي يتميز بالعسف والاضطهاد والانتهاك. سواء قديما وحديثاً، والمرحلة ما بعد عام 2003. التي تتميز في سمة الفوضى العارمة أو الخلاقة الى الاسوأ، العابثة بالحياة، والتي تدفع او تصرع الانسان الى مراتع الخوف والقلق من المجهول القادم. تجعل الانسان يعيش شرنقة كابوس المغلق بالقلق والخوف والتوجس والشكوك. هذه افرازات النظام الشمولي بتعدد صياغته واسالبيه وسلوكه وممارساته. لكن تبقى السمة البارزة في هذه النظم الشمولية. هو الانتهاك والخوف والتوجس، وعدم الثقة في فزاعة الشكوك والظنون التي تولد الريبة، عالم قائم على الخوف والفزع. هذه دلالات النص الروائي في رواية (الذئاب على الابواب) يعني الذئاب التي تترصد الابواب، تتحكم في مصير الانسان وتترقبه عند الابواب لتقوده الى المجهول. ان الرؤية التعبيرية في المتن السردي. تدلل على محنة الانسان ومعاناته، هذا الترميز الدال. وفق هذا المنطق، فأن شخصية (يوسف النجار) هي شخصية كل مواطن عراقي ويمكن القول بأن ضمير المتكلم يمزج بين (انا ونحن) تحت قبضة النظام الشمولي. فأن الشخصية المحورية او بطل الرواية، يحمل مظاهر عامة، كما هي مظاهر ذاتية وخاصية، رغم ان الرواية تدور عن المحنة الحياتية لسيرة حياة (يوسف النجار) لكنها محنة حياتية عامة. من حيث الكابوس الحياتي العام، من حيث الاستلاب والانتهاك. من حيث زرع الخوف، من حيث وضع الانسان تحت مجهر المراقبة والترصد والملاحقة. من حيث الخوف من المجهول، يعني ان المحنة ذاتية عامة، المتعددة الجوانب. بأن تكون الحياة رخيصة. وتعمق الحياة الى الازمة الوجودية وخاصة، وخاصة بعد عام 2003. حيث كثرت الذئاب على الابواب، تعمقت المعاناة اكثر من السابق، دلفت الحياة الى شرنقة شريعة الغابة. ولكن لابد ان نسجل النقلة النوعية، او التحول النوعي في حياة بطل الرواية (يوسف النجار) هو استعداده الشجاع في تمزيق الكابوس، في مواجهة الذئاب على الابوب بالعزيمة الشجاعة وبالتحدي، ونزل من شقته، وهو في كامل الاستعد للمواجهة (تيقن من وضع سلاحه تحت طيات ثيابه، قام بفحص السلاح الناري قبل الهبوط نحو الاسفل تأكد من وجود الاطلاقات داخل السبطانة، أعاد مسدسه الى وضعه، ورتب هندامه، أغلق الباب وراءه وهبط لملاقاة الرجلين، أستجابة لتحديهما العنيد) ص327.
أحداث المتن الروائي
الشخصية المحورية (يوسف النجار) يعيش حياة صعبة وشاقة، بعدما نسف الارهابين بيته وقتلوا زوجته وابنته الوحيدة. فقد ظل منعزلاً يعاني سأم والحزن الحياتي بعد فقدان عائلته، ويعيش حالات الخوف والكابوس، بأنهم ارسلوا رسائل تهديدية، بأنه سيكون الضحية القادمة، او القتيل المنتظر. ويحاول صديقه ان يواسيه ويشد من عزمه (- لقد كشفوا عن انفسهم بالاعتداء على بيتك
- ولكن لا أظن أن لي أعداء يكرهونني الى درجة الانتقام من أسرتي؟
- عليك بالصبر وألا تبدو أمامهم ضعيفاً خائر القوى، انهم ينتظرون تلك اللحظة التي تتهالك فيها الى الارض، كي يملأ الحبور صدورهم الخاوية. حذار. حذار من لحظة الانهيار تلك) ص13. هذه الديموقراطية الهوجاء والعرجاء التي بشر بها المحتل الامريكي في العراق. حين جعلوا المواطن يبحث عن ملجأ من الرعب الحياتي، والعبث في الحياة، والخوف من القادم بالمعاناة والانتقام، وتصفية الحساب بالقتل والاختطاف. اصبح الواقع يعيش الارهاب والاجرام، في دولة الفوضى. كأن الحياة تعود الى الماضي البغيض، بعد فشل انتفاضة الشعب عام 1991.، حيث اصبح الكل مطارد وملاحق بالسجن والتعذيب والاعدام. هكذا يطل من شريط خزين الذاكرة (فلاش باك) وهو يتطلع من خلال النافذة. تلك الحياة آنذاك، حياة البؤس والمعاناة، معاناة الحروب والارهاب والانتهاك والاهمال، فبعد تخرجه من الجامعة سيق الى الجيش كضابط احتياط. وارسل الى جبهة منسية من الله والانسان. لا احد يسأل ولا احد يزورهم. كأنهم في سجن اختياري، او في منفى في ارض منسية. ولكن بعد انتهاء فترة التجنيد، كون حياته، رغم انه كانت لديه مغامرات جنسية مع الفتيات من خلال استوديو التصوير.. ولكن بعد الاحتلال تدهورت الحياة الى الاسوأ، في تردي الى الفوضى. والحكومة والمسؤولين ليس عندهم حاسة الاصغاء، لا يحركوا ساكناً، كأنهم ليس لهم علاقة في حماية الناس، وليس لهم علاقة بالفوضى الجارية، من القتل والاختطاف أمام الموت المجاني، امام القتل على الهوية، أمام السطو المسلح، امام الرعب في الشارع. كل هذا والحكومة غافلة عما يحدث سوى انهم انفتحت شهيتهم على نهب المال العام، استولوا على المال ودمروا البلاد (- لا يمكن لهذا ان يحصل أمام انظار المسئولين في الدولة، ولا يردعهم الموت المجاني، الذي أكل الاخضر وألتهم اليابس) ص30. بأن الامور انفلتت عن السيطرة. الفقراء يموتون جوعاً ’ بينما الاغنياء واللصوص يعيشون في ثراء فاحش بالتخمة. اصبحت الحياة تليق بالحيوانات السائبة، وليس ان تليق بالبشر. و(يوسف النجار) يأكله القلق والخوف، من رسائل التهديد التي يرسلونها بالاقتناص من حياته بالقتل (لن يطول اختفاؤك عنا، ايها الواشي الرخيص) ص187. (لن تفلت من ايدينا، نحن اقرب اليك من حبل الوريد، أيها الماجن) ص209. ويتعرف على زميلته في الكلية (عبير) بعد حوالي ثلاثين عاما. فكان في البداية يتوجس منها، بالظنون والشكوك بأنها مرسلة منهم لتجسس عليه، او مدسوسة منهم، لكن بعد ذلك تبددت الشكوك حين عرف معاناتها الحياتية والعائلية، واقترب اليها في علاقته، ليبدد الوحشة والانطوى. في واقع لا يحمل الثقة والاطمئنان من الاخرين. في واقع تعيس في ظل الحاكم المدني (بول بريمر) والذين من جاءوا بعده في الحكم. فقد فككوا المؤسسات الدولة وباعوها في المزاد العلني. واهملوا المواطن بالحرمان، ان يصارع من اجل البقاء في كفاحه اليومي، في هوس الحياة العابثة. كأن الانسان يعيش وسط ذئاب كاسرة لا ترحم، في هوس الشعارات المزيفة بأسم الدين والمذهب والشريعة. ويقودون الفقراء الى الجحيم، بأسم الفضيلة والايمان والتدين. تزهق الارواح البريئة في الاحتراب الطائفي، وتنزف الدماء. بأسم الدين يشرع السحت الحرام والفرهدة والقتل على الهوية والاسم. لذلك يحير الانسان في وصف هؤلاء الشراذم التي تعصف في البلاد بهذا العبث الكبير، من اي صنف سياسي ينتمون (لذلك يحير الانسان في تسمية أهل هم سياسيون. أم عصابات، أم مليشيات خارجة عن القانون. تعاديك لاسباب غامضة، لانك لا تستطيع الوصول أليهم، لتفهم منهم اسباب العداء) ص156.. ولكن يعرف الانسان أنه مطارد ومطلوب رأسه كحالة (يوسف النجار) الذي يرى الحياة عبارة عن كابوس، لذلك يشعر بالقلق من حياته وهو مطلوب منهم. ولا يعرف من هم، واي صنف وجماعات هم، هل هم حقيقة بشر أم وهميين. في هذه الغابة، التي تعج بالذئاب بمختلف الاصناف والاشكال. هذه الحياة المزرية بالتدهور الى قاع الانحدار، اينما تذهب تشم رائحة الموت بالقتل اليومي العشوائي (وطالت التفجيرات، أماكن لم يتوقعها يوسف أو سواه. فجروا المقاهي ودور السكن والاسواق، وبدأت مسيرة القتل على الهوية، وفرز الطائفة والدين والمذهب من خلال تحليل الاسم واسم الاب والجد) ص233.. والكل يتساءل الى اين المطاف في هذه المحنة الحياتية وما هي النهاية ؟. الى متى تظل الناس تعيش الرعب الحياتي في واقعها اليوم؟ والنخبة السياسية الحاكمة، يبعون الوطن الى دول الجوار. انه زمن اللصوص التي تنهب كل شيء من خيرات واموال البلاد. ولكن حين يتكلم المواطن عن معاناته ويرفع صوته، يأتيه كاتم الصوت ليخرسه الى الابد، في سبيل تكميم الافواه بالارهاب الدموي، ومحروم عليهم النطق بعذاباتهم ومحنتهم. انهم يرريدون الانسان مسلوب الارادة، كالخرفان التي تقاد الى مسلخ الذبح. بهذا الاختناق يشعر (يوسف النجار) هكذا قتلوا واغتالوا المثقفين والمفكرين البلاد الوطنيين، الذين رفضوا الواقع المأزوم، هكذا كان مقتل (هادي الهادي، واغتيال كامل شياع واخرين غيرهما لم اتذكر، منْ يصدق أن المدينة أستجابت الى خرائب وفضلات تهيم فيها الحشرات والدواب ويختفي فيها اللصوص وقطاع الطرق في الليل) ص272. انه زمن اللصوص والقتلة، ان تصبح الحياة لعبة الحظ والقدر. هؤلاء الذين يحكمون الوطن جاءوا من اجل كعكة الوطن وتقاسم الفرهود. لا يعنيهم من الوطن شيئاً. واصبح الانسان سلعة زهيدة، ازاء هذا الاختناق مزق (يوسف النجار) الكابوس القلق والخوف، واستعد للمنازلة في مجابهة الذئاب على الابواب.
× الكتاب: رواية الذئاب على الابواب
× المؤلف: أحمد خلف
× الطبعة الاولى: عام 2018
× الناشر؛ دار النخبة 6 شارع رجاء الرسول من شارع وادي النيل / القاهرة
× عدد الصفحات: 328 صفحة
جمعة عبدالله
آوراق مبعثرة فی ملف الأقلیات وحقوق الأنسان
- التفاصيل
- كتب بواسطة: محمد سعد عبد اللطيف
حقوق الاقلیات ۔ وحقوق الأنسان
قضية الأقليات العرقية والدينية والمذهبية واللغوية بشكل عام تتسم بدرجة عالية من الحساسية، فی بلدان الشرق الأوسط، وينظر لها رغم أهميتها على أنها مسألة خطيرة، لذلك فإن هذا الموضوع الشائك يحتاج لكثير من الدقة،والرٶية،والموضوعية والانضباط، خاصة في ظل المرحلة الحالية التي تشهدها عملیة (نبع السلام) فی شمال سوریا من حرب یطلق علیها البعض تطهیر عرقی من حاله من السجال والجدل حول فحو عملیة ( نبع السلام) الترکیة ۔۔ وفی ظل المتغییرات المتسارعة فی سوریا ۔۔ وخروج القوات الأمریکیة من مناطق تمرکزها فی تل الأبیض وشرق الفرات، لا نعلم عن فحو المکالمة الهاتفیة التی جرت مع الرٸیسین (ترامب واردوغان) والأنسحاب المفاجٸ للآمریکان ۔ وإعطاء الضوء الأخضر للقوات الترکیة ۔ ومع التنسیق السابق مع روسیا وایران ۔۔ وتفاهمات بینهم فی غیاب الدور السوري والعربي ۔ قوات الجیش السوری الوطني او کما یطلق علیها الحر تحت قیادة ترکیا غطاء للعملیات ۔ وأکراد تطلعوا الی دور أکبر ولکن الحلیف تخلي عنهم ۔ یواجه مصیرهم ۔ المحتوم ۔ بین مطرقتین قوات بشار وقوات طیب اردوغان الترکیة ۔۔ الأکراد أخیرا تفتح ممرات للقوات السوریة فی مناطق نفوذها وتحت سیطرتها ۔۔ إن حقوق الإنسان بظننا لا تستقيم دون احترام قيم الوحدة والتماثل، ولا يمكن أن تكون مفاهيم حقوق الإنسان قضايا انتقائية على الطريقة الأمريكية، لأن البشر مختلفون منذ الأزل وسوف يظلون كذلك، لكن تجمعهم الإنسانية، فمن يقول: أن العرب مختلفين فقط عن الأكراد على سبيل المثال، بل هم أنفسهم مختلفين كعرب فيما بينهم؟
وكذلك حال المسيحي واليهودي والآشوري والتركماني والأرمني والشيعي والعلوي، جميعهم مختلفون عن الآخرين لكنهم أيضاً مختلفين فيما بينهم بنواحي عديدة.
كل هذه الاختلافات بين ما يسمى الأكثرية والأقلية، وبين مكوناتهما هو اختلاف طبيعي وموضوعي وإنساني، لكنه يفترض المساواة أخلاقياً وقانونياً، فلولا هذه الاختلافات لما كانت هناك حاجة إلى المساواة، فالاختلاف يستدعي ويتطلب مساواة سياسية واجتماعية وحقوقية أمام سلطة القانون في دولة مدنية حديثة، دولة المواطنة التي ترعى جميع مكوناتها دون تمييز.وماهو مصیر إدلب بعد عملیة نبع السلم !؟ إن الشرق الأوسط يواجه صراعات شبيهة بنمو النزعة القومیة داخل اوروبا فی مطلع القرن العشرین وتطلع الأقلیات الی الاستقلال والانفصال ۔ ولكنها أكثر اتساعا.
أن النزاعات الداخلية والدولية تقوى بعضها البعض، وأن الصراعات السياسية والطائفية والعشائرية والاقليمية والايديولجية والمصالح القومية تختلط بعضها البعض،تتفاقم مسألة الاقليات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وشهدت السنوات الأخيرة تزايداً ملحوظاً في أعمال العنف السياسي وعدم الاستقرار في هذه المجتمعات، وفي الغالب فإن أهم أسباب تفجر العنف يعود إلى فشل الأنظمة السياسية في المنطقة في إجراء مقاربات موضوعية وديمقراطية لهذه الإشكالية التاريخية، وبالتالي عجزت هذه الحكومات عن تقديم حلول جذرية لهذه القضية بدلاً من المحاولات المستمرة لاحتوائها وتجاهل الأسباب الموضوعية الكامنة وراء تصاعد العنف، وهناك أسباباً أخرى متعلقة بظهور خطاب قومي متطرف ومتشدد لدي بعض قادة الأقليات يدعو إلى الانفصال عن الدولة الأم، ويتبنى العنف في مواجهة الدولة، ويحرض على عدم الاستقرارالسياسي، الأمر الذي يولد خطابات متطرفة من الجانب الأخر، وهو ما يدخل هذه المجتمعات في دائرة الفوضى والفشل۔
ظهور الأقلیات قدیما
۔ومع قيام دولة الخلافة العثمانية ظهرت الدولة المركزية العسكرية وبدأت قضية الاقليات بالظهور وأخذ بعض أركان دولة الخلافة في تسييس هذا الموضوع الذي تعمق أكثر مع انهيار الخلافة العثمانية وظهور النظام الرأسمالي الذي ابتدع نظام حماية الأقليات، وجاء الاستعمار الاوروبي لتنتشر سياسة فرق تسد.
إن مرحلة الاستعمار في العالم العربي شهدت تأثر المنطقة ببعض إنجازات الثورات الاوروبية، ومنها قضايا حقوق الإنسان التي تم سنها في الدساتير الأوروبية، وتعامل الاستعمار مع الأقليات بصورة تظهره على أنه حامي مصالحهم ووجودهم کما حدث فی شمال سوریا من الوجود الأمریکي، وفي بعض الدول حاول المستعمر دمجهم قومياً عبر تشريعات، لكن الأكثرية الإسلامية رفضت وتصدت لهذه المحاولات بسبب رفضها أساساً الاستعمار على أراضيها وبالتالي رفضها لأي سياسات يحاول فرضها عليهم، ثم أن الأكثرية المسلمة رفضت أيضاً محاولات الاستعمار في تغريب المسيحيين الشرقيين، هذا الأمر خلق نوعاً من التصادم بين المجتمعات العربية المسلمة التقليدية، وبين الأفكار الغربية الديمقراطية، وهو ما أدى إلى تعقيد مسألة القوميات، ووضع العراقيل أمام الحلول الديمقراطية لاندماج هذه الأقليات بمجتمعاتها، وهكذا ظلت الدول العربية بعد حصولها على الاستقلال السياسي دولاً تضم مجتمعات تعاني من أزمات معلقة مربكة وملفات مفتوحة لا تتوفر ظروف معالجتها وإغلاقها، وأهمها قضية الأقليات، وهكذا وجدت هذه المجتمعات أنها غير قادرة على القيام بثورة ديمقراطية تؤسس لمعالجة جذرية سلمية وعصرية وديمقراطية لقضية الأقليات، وهذا واحد من أهم الأسباب التي جعلت من هذه الإشكالية في العالم العربي أزمة طائفية طاحنة تلخص أزمة الأمة، وتحتوي فتيلاً إشتعل في لحظة ويحرق اليابس والأخضر وما بقي من الأخضر في عموم المنطقة سوف یشتعل فی ای لحظة فی منطقة آخری .لقد طرح ملف الأسری من بقایا الدولة الأسلامیة (داعش) تحت سیطرة اکراد سوریا من الجانبین الأمریکی والترکی ومصیرهم فی حالة سقوط الأکراد تحت سیطرة الأتراك ۔۔رغم ان الغالبیة فی منطقه شرق الفرات من أهل السنة اکرادا او عرب لیحمل الدین السلاح فی خدمة الأهداف السیاسیة، وحالیا العملیات التی تجری شرق الفرات تستهدف المدنیین والقضاء علیهم بسبب انتماٸهم العرقی والطاٸفي بعیدا عن حقوق او الالتزامات الدولیة مبررة بذلك الأمن القومي ومتطلبات البقاء
ففی الحالة السوریة التی تفککت فیها الدولة وأصبحت ساحة للتنافس بین القوي المحیطة والتی عادة ما تحافظ علی قوتها وسطوتها دون مراعاة لحقوق وکرامة الإنسان ۔۔لقد اصبح صراع قومي عرقی دینی طاٸفی وجغرافی فی الشرق الأوسط ۔وقد ظهر کتل مکونة من نظام مذهبي تطلق علیها الکتلة السنیة وکتلة تقودها ایران فی الحرب الداٸرة فی سوریا من فصاٸل شیعیة وحزب الله وحماس ۔ ومع ظهور النعرات الإنفصالیة والقومیة مع ظهور عصر الإرهاب الانتحاری والقتل علی الهویة ۔ وأنتشار الفوضي فی مناطق متفرقة فی بلاد العرب والصراع الإقلیمی ۔یهدد مناطق شاسعة فی العالم کما هدد بها طیب اردوغان للاتحاد الاوروبی بفتح الحدود امام المهاجریین۔۔
إن العناصر المتشابكة والتعقيدات التاريخية في مسألة الأقليات تشكل واحدة من أهم الصعوبات أمام أي باحث يتناول هذا الموضوع بالدراسة والتحليل، ويضعه أمام تحديات وخيارات دقيقة، فإما أن تكون مع الليبرالية الجديدة في الدفاع عن حقوق الإنسان بشكل عام، وحقوق الأقليات بشكل خاص، من خلال تبني براغماتية منفعية مقترنة مع دوغمائية لا تريد أن ترى إلا جانب واحد من الموضوع، وإما وأن تکون فی مواجهة التحدیات، وأن تکون صراعات ترتیب المجتمات البشریة، بما یتوافق مع المفاهیم الجدیدة لشرق أوسط جدید ۔ وبذلك تجد نفسك متهما بتجاهل حقوق الأقلیات إن حقوق الإنسان بظننا لا تستقيم دون احترام قيم الوحدة والتماثل، ولا يمكن أن تكون مفاهيم حقوق الإنسان قضايا انتقائية على الطريقة الأمريكية، لأن البشر مختلفون منذ الأزل وسوف يظلون كذلك، لكن تجمعهم الإنسانية، فمن يقول
أن العرب مختلفين فقط عن الأكراد على سبيل المثال، بل هم أنفسهم مختلفين كعرب فيما بينهم؟
وكذلك حال المسيحي واليهودي والآشوري والتركماني والأرمني والشيعي والعلوي، جميعهم مختلفون عن الآخرين لكنهم أيضاً مختلفين فيما بينهم بنواحي عديدة.
كل هذه الاختلافات بين ما يسمى الأكثرية والأقلية، وبين مكوناتهما هو اختلاف طبيعي وموضوعي وإنساني، لكنه يفترض المساواة أخلاقياً وقانونياً، فلولا هذه الاختلافات لما كانت هناك حاجة إلى المساواة، فالاختلاف يستدعي ويتطلب مساواة سياسية واجتماعية وحقوقية أمام سلطة القانون في دولة مدنية حديثة، دولة المواطنة التي ترعى جميع مكوناتها دون تمييز. ۔
محمد سعد عبد اللطیف
کاتب وباحث فی الجغرافیا السیاسیة
رٸیس القسم السیاسي نیوز العربیة