صحيفة المثقف
  • مدخل
  • الاولى
  • مقالات
    • أقلام حرة
    • آراء
    • أقلام ثقافية
    • قضايا
    • أقلام فكرية
    • شهادات ومذكرات
    • كتب واصدارات
    • علوم
    • دراسات وبحوث
    • ثقافة صحية
    • تنوير واصلاح
  • أدب
    • نصوص
    • ترجمات
    • هايكو
    • روافد
    • قراءات نقدية
  • حوارات
    • حوارات عامة
    • مدارات حوارية
    • نص وحوار
    • مرايا حوارية
    • حوار مفتوح
  • تقارير
    • تقارير وتحقيقات
    • أوركسترا
    • يوتيوب المثقف
    • اخبار ثقافية
  • استفهامات
    • مواربات
    • استطلاع
  • فنون
    • مقاربات فنية وحضارية
    • لوحات فنية
    • معارض تشكيلية
  • ملفات
    • المرأة في أسر العبودية
    • المرأة والسياسة
    • مستقبل الديمقراطية
    • المثقف والانتخابات
    • ملف: المثقف 10 سنوات عطاء زاخر
    • ملفات سابقة
  • تكريم
    • يحيى السماوي
    • وفاء عبد الرزاق
    • عبد الرضا علي
    • شوكت الربيعي
    • فرج ياسين
  • المؤسسة
    • رئيس التحرير
    • إصدارات المثقف
    • كتب ماجد الغرباوي
    • نشاطات المثقف
    • مناسبات المثقف
    • جوائز وشهادات
    • جائزة الابداع
    • ملتقى المثقف
    • ساهم معنا
  • كتّاب مشاركون
  • اتصل بنا

واقعة الموت في الخيال القديم

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. عامر عبد زيد الوائلي

 عامر عبدزيد الوائليعلى الميت أن يعرف خارطة الموت و جغرافية؛ ليستطع ان يدرك اسراره مكابدته التي سوف ترشده إليها خرائطَها وعوالمَها سوف يتغير مصيره بحسبها .ومن هنا ياتي السؤال الوجودي من ذا الذي يرمي إلى تلك المرامي سواه؟ ومن سواه قادر على أن ينقش على وجه الطين ملامحه ويرسل الى البشر رسالته المعتقة بريح الجنوب التي لعنها ادابا وبكى الجنوبيين على عذاباتها؟ من ذا ينسى حزن جلجامش على فقدانه غريمه ومن ثم حبيبه الأوحد الذي غيبت ارض كور نايه،وصدى صوته الحزين يعلن الحزن على أرض عشقها عذاب وفراقها عذاب ..صوت مازال لدى كل عراقي صداه يتردد في كل المنافي وحنينه إلى ارض أوروك ؟ حزن ترك ضلاله تمتد على انليل الفاجر الملعون المبعد إلى حيث أرض إللاعودة، تلك الأرض القاسية التي خاطتها مخيلة أدباء أوروك ومن قبلهم أدباء سومر تعلن كل المراسيم الحزينة وهي تبكي عشتار الجميلة التي جدبت خصالها الحية عند أبواب الموت الأبدي وخاطت حول كل الذكور قربان اخصاء كان حبيبها أول من ذهب قربان لها، اه يا تموز و أنت تهرب متخفيا وعين الإله تحميك من عيون متعطشة للموت تروم اعتصار رغبتك، عذاب سوف يتكرر صداه لدى كل أصحاب الرؤوس السوداء وأحفادهم من بعد ما أضاعوا الحلم بالخلود منذ غادرهم جلجامش الجميل الذي غيب ذاته من اجل بقاء أوروك، وآدابا من قبله أرام الخلود إلا أن خديعة شمش غيبة عليه وعلى جنسه فرصة الخلود؟ هكذا كان الكهنة يحاولون زخرفة لعنة الموت الأبدي الذي ينتظره الجميع وحتما ملاقوه ومن ثم الحديث عن جغرافية للموت تعني البحث عن إبعاد ومواقع تخيلية للجغرافية،التي شكلتها المخيلة العراقية معتمدة على آليات تخيل رسمت إبعاد لتلك العوالم امتدت أثارها عميقا في الذاكرة لدى الشعوب الأُخرى التي استعارتها من بعد؛ ونحن هنا نحاول تحديد جغرافيا للموت نحاول إعطاء مرتسمات لتلك العوالم الموازية التي تشكل إحدى الممكنات التي ممكن إن تكون قد فاز بها بعض الإبطال سواء أكان ذلك على مستوى الواقع أم على مستوى التخيل الرمزي، إلا إننا ندرك عظمة العراقي القديم الذي برع في تخليق عوالمه الرمزية وإكسابها بعد قيمي أضفى على الحياة قيمة عندما منح تلك الوقائع عمق ميتافيزيقي مرتبط بمنظومة من القيم إذ مثلما وظف الطين ليكون أداة للكتابة، كذلك وظف الخيال ليكون حقل فعال يتم من خلاله بناء الذاكرة وشحذها بالرموز التي هي صدى الواقع اليومي الاجتماعي والسياسي .

إن البحث في الواقع الديني "الموت " أو المخيال الديني وما يصطنعه من عوالم تخيلية تعود إلى الواقع الاجتماعي والمؤسسات الفاعلة فيه - قديما كان المعبد والقصر - كما يرى الكثير من الباحثين في هذا الأمر فهي نشاطاً يحمل معنى يشد إليه الفاعلين الاجتماعيين فينظمون سلوكهم بعضهم إزاء بعض، بمعنى انه فعالية جمعية يذوب فيها الفردي داخل الجماعة من اجل الحماية والشعور بالاطمئنان في تلك الفترة الفرد ليس فاعل بل منفعل على الرغم من أنها حقبه رعوية تبحث عن منقذ يقود الجماعة على الرغم من أنها هي من يصنعه خصوصا في فضاء الحاجة إلى قادة في الحروب هنا يتم تخليق الإبطال، ساعتها تصدق مقولة (إن مصير الشعوب لا يتوقف على الجماعة بقدر ما يتوقف على قيمة الفرد)(1) تشكل قيمة الوجود المتخيل من خلال وجود معبد يقرر الحقيقة ويكون الواسطة فيها كل هذا هو منطق الدين القديم الذي يرجع كل شيء إلى ما هو خارج البشر إلى القوى المفارقة التي تريد تبرير ذاتها، بعدها سلطة، وتفعل ذلك باستعمال مقولات قابلة للتعميم والشمولية، أيّ صالحة لكلّ النّاس نجد هذه المقولات بطابعها القديم من خلال التشريع المدعوم بالسرد الديني عبر الاسطرة إبطالها شخصيات مفارقة أو متميزة أو إنصاف آلهة. 

يفترض من اجل إنجازه هذه الغاية أن يندمج كل سلوك فردي في عمل يحمل طابع الاستمرارية وان تنتظم التصرفات وتتجاوب بعضها مع بعض طبقاً لقواعد ضمنية مستضمرة. من أجل النجاة من التيه، وكلّ ما يعاكسه هو التيه والجنون بحسب رواية المعبد إلا أنه كان ضروري لتنظيم وحده الجماعة فالممارسة الدينية- الاجتماعية، بوصفها تنتظم شتات تصرفات الأفراد وتوجهها نحو غايات مشتركة، تفترض وجود بنية معقدة من القيم وعمليات التعيين والاندماج المحمل بمعانٍ ودلالات في أو ملة أو طائفة أودين يتخذ من إله يحتمي به وبحياضه المقدس،هنا ظهر المكان المتخيل (المقدس) وظهرت أيضا حاجه إلى وجود , كما تفترض لغة رمزية (شيفرة) اجتماعية ومستضمرة ليست هناك أية ممارسة اجتماعية يمكن إرجاعها فقط إلى عناصرها الفيزيقية، والمادية بل لابد من اختلاق منظومة رمزية مرتبطة بالقوى التي يستمد المجتمع منها وجودة التي تبدو أنها في بداياتها الجنينية (تشكل عفوي، تكون متأصلة في الاديان ذات الصبغة الدعوية الكونية) (2) هكذا تدعم السلطة نفسها بالقوة القهرية سواء أكانت مادية بالرجال أم مفارقة إلهية تغدو السلطة كنتيجة لضرورة خارجية إن كل مجتمع كلي على صلة بالخارج بالإلهة التي أنزلت الملكية من السماء، وأنزلت القوانين للملوك كما استلم حمورابي شريعته من شمش (3) يبدو عبر سرد المعبد والقصر أن المجتمع يستمد قوانينه من خارجه لا من ذاته. ويتضمن ثانياً، مبدأ (المغايرة) أي القول بأن البشر مدينون بمعنى وجودهم إلى غيرهم وليس إلى بشـر مثلهم، ويتضـمن ثالثاً، مبدأ (الانفصال)، أي القول بوجود فارق أو مسافة بين المجتمع ومصدره، بين المجتمع ومصدره. (4)

ومن هنا فإن كل مجتمع -المجتمع ممثل بالقوة الفاعلة فيه هي هنا كما قلنا المعبد والقصر - ينشيء لنفسه مجموعة منظمة من التصورات والتمثلات، أي مخيالاً، من هنا فإن كل مجتمع هو إنتاج نفسه، مخيالاً يقوم ـ على وجه خاص ـ بجعل الجماعة تتعرف بواسطته على نفسها، ويوزع الهويات والأدوار ويعبر عن الحاجات الجماعية والأهداف المنشودة.

لهذا ظهرت اللغة الدينية ونخبويتها بوصفها وسيط بين الناس ومصدر وجودهم هنا اللغة ليس هي الأخرى - بحسب تلك المخيالات- ليس صنيعة البشر وضرورة من ضرورات تواصلهم بل هي صنيعة الإله هو الذي علم البشر الأسماء المحب للمعرفة هو إله الحكمة(انكي) هنا تصبح الحقيقة بيد الإلهة لكن كيف يمكن التواصل معها أو معرفة نواياها الملغزة هنا برعت المعرفة القديمة بقيادة المعبد في خلق علوم العرافة والتنجيم والرثاء والتأبين وصناعة مخال الموت .

كل هذا ساهم في خلق الهوية الموحدة لجماعة أنه (بقيام الجماعات البشرية معانٍ ودلالات مخيالية اجتماعية تتمكن من إعطاء معنى لكل ما هو (موجود)، لكل ما يمكن أن يقوم فيها أو يقوم خارجها) (5) وهو أمر موجود في عمق كل ممارسة إنسانية إذ يحاول المجتمع أن يرصن وحدته من الانقسام فيخلق أعداء يمثلون تهديداً واستناداً إلى هذا التهديد الخارجي.سواء كانوا من عالم مفارق إلهة أم شياطين أم أعداء . كيف يعمق وحدته من خلال صناعة المنظومات الدينية التي في اغلبها موروثة، فإنها تؤدي بالنتيجة إلى تمجيد وحدة المجتمع عبر "سلطة الرمز" التي تمظهر عبر المخيال الاجتماعي(6) بما أنه منظومة من البداهات والمعايير والقيم والرموز فهو ميداناً لتحصيل المعرفة بل هو مجال لاكتساب القناعات، مجال تسود فيه حالة الإيمان والاعتقاد.

كل هذا يتحقق من خلال "الدين" (7) فهو في أصله دَيْن البشر للعالم الآخر وللكائنات العلوية وللقوى الفائقة. بمعنى أن الدين على رغم من أنه ينبع من حاجات داخلية ؛ إلا انه ينزل من السماء التي تشرف وتدير شأن الأرض وفكرة الدين هي التي تتيح المجال الموت هو اعتداء على وجوده سواء أكان فردأ أم جماعة هنا أقام المجتمع منظومات قيمة تسوغ حدوث الموت إما بخطاء بدئي وإما بقرار كوني قامت به الإلهة مثل الطوفان فأن هذه المبادئ تحدد أسـس الواقعة "الدينية البدائية "فإنها تشــكل من جهة أولى شروط أمكان الدولة ؛ لأن نشوء الدولة ما كان ممكناً ؛ إلا أن يعقل المجتمع نفسه بواسطة مبدأ خارج عنه.(8)

بمعنى إن تلك الرؤية تستمد منها الدولة الشرعية كونها جاءت بقرار يعود إلى قوى مفارقة هي التي تصنع رؤية البشر ووجودهم ومن ثم ليس أمام البشر من قدرة بالخروج ؛إلا بحاله من حالات ثلاث :

الأولى، توجيه الشكوى إلى تلك القوى المفارقة فهي التي نصبت الملك ورسمت الأقدار .(9) وإما الثاتية فهي تكفير تلك القوى ومن ثم تجريمها وهكذا حدثت اغلب الانشقاقات الدينية من خلال ظهور ديانات جديدة .وربما هناك حاله ثالثة هي الاعتماد على القوة ثم إعادة بناء السرد الرسمي والقول إنّ الإلهة اختارت الإله الذي يعود إليه الشعب المنتصر أن يكون زعيم الإلهة كما حدث في قصة الخليقة البابلية عندما أنتصر حمورابي انتصر معه مردوخ كزعيم لإلهة هذا ترقيع للاهوتي يعيد بناء السرد من جديد حتىّ يسبغ المشروعية على المنتصر والقول إنه قرار مفارق .(10)

إذا كانت هذه آلية المجتمع البدائي في المحافظة على وحدته من التمايز فإنها تسهم في خلق عالم مفارق وأسبغ الشرعية على الملوك على حين هي جزء من نظام تشريعي ماضي من الشفاهيه بوصفه عرفاً يضفي القدسية على الوضع السياسي يرجع تشريعاته إلى الآلهة واوجب الخضوع لها ويعلي من شأن الملك في الوقت نفسه . في مجال تحليل المخيال الديني الناظم إلى وحدة الجماعة المتمثل في تلك المنظومة القيمة التي يشيدها المعتقد الاجتماعي الديني من خلال سلطة المعبد،يمكن رسم خرائط هذا العالم التخيلي من خلال سرديات أسطورية تشي بملامح هذا العالم من خلال سرد حبكات تروي رحلات متخيلة إلى هذا العالم المستحيل الذي تم تخليقه خياليا، فالخيال يستطيع بقدرته الخاصة التأليف بين الأشياء، والألوان والأحاسيس فيبدع الصورة مستفيداً من التعاقب والحركية في الزمان ومن التشكيلية في المكان. يعني أن الوعي مرتبط بعلم النفس والاجتماع والمعرفة التي يظهر عندها من خلال مفهوم الخيال إذ يرى (جيلبار ديران ـ Gilbert Durand ) أن الوعي يتمتع بطريقتين لاستحضار العالم ؛ واحدة مباشرة يبدو فيها الشيء ذاته حاضراً في الذهن، وذلك عند الإدراك أو الإحساس البسيط، كأن تتخيل إنسان تعرفه، أو شجرة أو شيئاً مادياً محسوساً وأما الثانية فهي غير مباشرة عندما لا يمكن لوعينا إن يستحضرا موضوعه استحضاراً حسياً، كما هو الشأن عندما تتذكر طفولتنا أو نستحضر عالم ما بعد الموت. (هكذا أتاحت تلك الطبيعة الجميلة "حيث تلك السهول الفسيحة والسماء الشديدة الزرقة التي ما كانت تشوبها سحب أو تكدرها غيوم، بينما النجوم تتلألأ فيها )(11) وقد تجلت تلك الحقيقة في تلك الحقب، في أماكن عديدة كانت بمثابة أول الأحلام التي عصفت بها الريح في خضم تراجيديا رهيبة جعلت منها مجرد نصوص أثرية ـ أحلام ظهرت بأشكال هندسية على جدران الفخاريات أو نصوص خطتها أنامل الكهنة(12) في كل الأحوال التي يكون فيها الوعي لا مباشر يكون موضعه غائباً أي من جنس المجردات التي يمكن أن يقال عنها أنها تمثل (قيمة أخلاقية سياسية) ولا يمكن للوعي أن يتمثل، إلا بوساطة الصور.(13) إذا كان للرموز وظيفة فهي الدافع الذي يعين ويجعل الإنسان قادرا على المواجهة، ومن هنا فالنصوص التي ظهرت شكلت مرحلة نضج، أمَا القراءة فهي من جانب مؤرخي الأفكار في محاوله تأويليه، تتجلى من خلال محاولاتهم الحفر و دراسة مراحل ظهور الرموز والبنية المعرفية التي أنتجتها والظروف التي ساهمت في ذلك ؛ أي هي مهمة القارئ الذي يبحث عن المعنى وهذه السطور مساهمة في جهود القراءة فأننا نلمس في الحفريات المعرفية الاثارية التي ظهرت باحثة عن مراحل تكون الفكر العراقي والإنساني القديمين والتي وجدتها تتمفصل إلى ما قبل التأريخ وما بعده .

والتي تعد محاولات حضارية ناضجة ؛ وفي الوقت نفسه تعد مدوناتها من أقدم المدونات التي تناولت مسائل وجودية:" كالحياة والموت، وخلق الكون والإنسان، والخير والشر، والثواب والعقاب "(14) .كانت تلك المدونات قد عكست قلق الإنسان الوجودي إذ الإنسان " هو كائن قلق الحس، يبحث عن ملجأ يأتمن إليه "(15).

هكذا فإن الأمر بقدر ما يمثل جانباً معرفياً فانه يقوم على بعد حسي يحصل فيه الإدراك بشكل مباشر، وبعد حسي باطن يعتمد على المدركات السابقة. فعندما يتصور الوعي بأشياء فأنه يريد أن يراها في الخارج بينما هي مخزونة في ذاكرته، بل حتى عندما يتصور صور جديدة و فأنه يتصورها بالمقارنة مع تلك الموجودة في الحس الباطن أو العقل بوصفها نتيجة لتجارب سابقة، يمكن ترميزها والتعبير عنها من خلال الرغبة (معاني الألم، الشر، و الحياة، و الموت) عبر الوسيط البطل الأنموذج الذي سعى إلى تحقيق رغباته من خلال محور الرغبة يظهر من يناصره ويظهر من يعاديه والذي يحول بينه وبين موضوع رغبته.الرغبة بالحياة الطويلة والصحة الجيدة بعيدا عن عوالم الموت والتقلبات كل هذا يمثل موضوع يمكن استثماره عبر جعل المخاوف تهجع والأماني تورق يتحقق هذا عبر السرد والقدر المدهشة للغة التي تمكننا من أن نحقق أحلامنا عبر السرد والمحكي من ثم نستطيع أن نبني مخيالا أسطوريا (لا يوجد أي مجتمع بشري يمارس دوره او آليته بشكل مختلف أي بدون تشكيل متخيل ما) (16) لأن التخيل يمنح المجتمع القدرة على أن يقدم حلول لما يحيط به من معضلات طبيعية (فالدين أو الأديان في مجتمع ما هي عبارة عن جذور .. ونجد إن كل الأديان قد قدمت للإنسان ليس فقط التفسيرات والإيضاحات، وإنما أيضاً الأجوبة العملية القابلة للتطبيق والاستخدام مباشرة في ما يخصّ علاقتنا بالوجود والآخرين والمحيط الفيزيائي الذي يلُّفَنا، بل وحتى الكون كله، وفيما وراءه بالأشياء الموعودة (فوق الطبيعة)(17) ومن هنا يلجأ الأفراد إلى رموز متعدد: فالحديث أو الكلام يستعمل نطاقاً من الأصوات ليكوَن أشكالا كثيرة من الرموز مثل الكلمات، واللغة المكتوبة، ويمكن تذكرها بسهولة جداً ؛ لان المكتوب يكون مطبوعاً، ويمكن للغة أن تأخذ أشكالا أخرى لا متكلمة ولا مكتوبة (..) يمكن تحقيق الاتصال باللغة، والهيئة، ووضع الجسم أو التعبيرات الوجه وهذه الوسائل للاتصال تشكل المستوى الأول للرمزية بينما تشكل المفاهيم، التي تعبر عن حقيقة ما المستوى الثاني التي تقدم صوراً أو تمثيلات ذهنية، تأخذ موقع الأشياء التي تعبر عنها ولكون المفاهيم شخصية لكل إنسان، فإنها تكون بالضرورة أيضاً نتاجاً اجتماعياً لعدد كبير من الناس(18)، ليس من الضروري أن نجد هيمنة الموضوعية على منظومة معتقدات المجتمع (فإن منظومة المعتقدات الفاعلة ضمن مجتمع غير محددة لا بالحقائق المنطقية أو التاريخية ولا بالأدلة الواقعية) (19) وهذا يظهر ونحن نتطرق إلى منظومة من المعتقدات الأخروية والدنيوية العراقية التي تخط ملامح جغرافية تخيلية للموت ؛من اجل فهم التمثلات القديمة لابد من الوقوف عند أمرين:أولهما، مفهوم الزمان كما تصوره العراقيين، والثاني المنظومة التي يمكن من خلالها كشف الصورة التي تمكننا من فهم الفكر القديم وموقفه من الموت . ونحن نجد نمطين من السرديات الأسطورية تغاير مقاصدها بتغاير المتن الوجودي لها فهي الأفاق التي تمكن الإنسان من خلالها أن يستوطن اللغة ويتخذها سفينة النجاة التي تحيل تخيلاته إلى أماكن قابله للعيش؟

لعل محاولتنا هذا هي رحلة إلى العالم الافتراضي الممكن أو المستحيل، الذي خلقته تلك الثقافات في محاولتها فك سر حدث الموت.

 

 د. عامر عبدزيد الوائلي

...........................

(1) عبد الرزاق الجبران، جمهورية النبي، بيروت،2007،ص57.

(2) ميشال مسلان، علم الاديان، ترجمة عز الدين عناية،المركز الثقافي العربي،ط1، بيروت، 2009، ص126.

(3)(3) شريعة حمورابي 1795-1750(ق.م) تعد انظم وأكمل شريعة في تاريخ الحضارات القديمة .انظر :نائل حنون، شريعة حمورابي،ج1،ص13.بواسطة : سالم الالوسي، شريعة حمورابي،بيت الحكمة سلسلة رواد الفكر، بغداد،2007،ص13.

(4) بيار كلاستر، مارسيل غوشيه، في اصل العنف، تعريب: على الحرب، دار الحداثة، بيروت، ط1، 1985، ص35ـ36 

(5) فاخر عاقل، معجم علم النفس، دار العلم، ج3، بيروت، 1979، ص25

(6) فاخر عاقل، معجم علم النفس، المصدر السابق، ص25ا

(7) الدين : بشكل عام، ثمة تصوران متواجهان يفترضان نفسيهمما . التصور الاول يقول بوحدة الظاهرة الدينية الاساسية . ففيما يتجاوز التاريخ وتنوع التمظهرات العينية، نجد ماهية واحدة للدين وحدة الظاهرة الدينية من خلال الايمان بوجود عالم غير مرئي، مفارق ومقدس، مأهول بالارواح أو الالهة واليه يتقدم الناس باستمرار بالنمط نفسه،من العباداة .

خلاف لذلك يرفض بعض الكتاب استخدام كلمة "دين" ويرون فيها تصنعا مفهوميا يشبه تحكميا واقعا واحدا لظواهر مختلفة ..لمزيد انظر :جان فرنسوا دورتيه، معجم العلوم الانسانية، ترجمة : جورج كتورة،مؤسسة الكلمة، ط1، ابو ظبي،2009،ص412.

(8) فاخر عاقل، معجم علم النفس المرجع السابق، ص 36ـ 37 ـ 38.

(9) انظر :محمد عابد الجابري،نحن والتراث دار الطليعة، بيروت .

(10) قصة الخليقة : إينوما إلش ... حينما في العلى،ترجمة ثامر مهدي محمد عن كتاب قصة الخليقة البابلية واثرها في العهد القديم تاليف الكسندر هايدل،دار الشؤون الثقافية 2001،طباعة : إنانا الأمير.

(11) صموئل نوح كريمر، ترجمة : فيصل الوائلي، كويت، (بدون تاريخ)، ص156.

(12) تربو عدد الرقم الطينية للعراق القديم على المليون لوح متعددة الإغراض .انظر : فاضل عبد الواحد، من ادب الهزل والفكاهة،م/ كلية الاداب، جامعة بغداد،ص82,

(13) صموئل نوح كريمر المرجع السابق الذكر،ص27-26.

(14) المرجع السابق، ص78.

(15) يوسف الحوراني، الإنسان والحضارة، ط2 بيروت، 1973، ص6-7.

(16) محمد أركون، العلمية والعلمانية، ترجمة : هاشم صالح، الساقية بيروت،ص32.

(17) - المرجع نفسه، ص23.

عبدالهادي عبد الرحمن، سحر الرموز، ص137. (18)

(19) خوان بايا وبونثا، العمارة وتفسيرها، ت سعاد عبد علي، الشؤون الثقافية، بغداد، ط1، 1996، ص39.

 

 

المشهد الأدبي المعاصرفي روسيا.. لقاء مع أولغا زلبيربورغ

التفاصيل
كتب بواسطة: د. صالح الرزوق

1192 أولغاملخص الحوار باللغة العربية

تكتب أولغا زلبيربورغ  Olga Zilberbourg القصة القصيرة والمقالة (الترافالوغ) وتعمل الآن على أولى رواياتها. وكما تقول ستضع فيها خبراتها عن تربية الأطفال والأمومة والعلاقة الشائكة بين البيئة والطفل. ويمكن أن تفهم أنها تحمل بصمات آن إينرايت في كتابها (إنجاب الأولاد)، وأليف شافاق في كتابها (حليب أسود). ولكن هذا لا يعني أنها دون ذاكرة وطنية. فقصص مجموعاتها تعكس القلق الوجودي الذي مر به جيلها، و لا سيما في مرحلة الانتقال من الاتحاد السوفياتي إلى روسيا الاتحادية. وألم البحث عن ملجأ أو منفى أو في عالم مشحون ضد التجربة الروسية. ولذلك إن قصصها لا تخلو من مشكلة الحرب الباردة وعيوب البيروسترويكا وقضية البحث عن هوية أدبية واجتماعية.  ولدت أولغا في سان بطرسبورغ (ليننغراد) في أيام الدولة السوفييتية. ثم غادرت إلى الولايات المتحدة للدراسة. واختارت أن تقيم فيها. وهي حاليا تعيش في سان فرانسيسكو مع زوجها وابنها بوريس وابنتها زينة. وتعمل  محررة مستشارة في مجلة (ناراتيف) الأمريكية، ومعاونة مدير لورشة أدباء سان فرانسيسكو. عن  كل هذه المسائل كان لنا معها الحوار السريع التالي.

 

* كيف هو حال المشهد الأدبي في روسيا الاتحادية الآن؟.

-   دخل الفضاء ناشرون جدد، وأصوات جديدة كثيرة. وهناك دور صغيرة تتابع دورها في اكتشاف كل شيء جديد، ولا سيما ما لم يكن موجودا في الاتحاد السوفييتي السابق.

 

* من هو أكثر معاصرة وتأثيرا بالمشهد المعاصر.. باختين أم برديائيف؟.. تولستوي أم دستويفسكي؟. وهل غوركي خارج التاريخ أم أنه موجود في روح الأجيال الجديدة؟.

- سؤال تحريضي. باختين طبعا. وتحليله للديالوج والكرنفالات لا ينضب. ولا أعتقد أن دستويفسكي أو تولستوي لهما نفس الرصيد في الحياة الراهنة. إنهما من الماضي ولهما دور في تربية الناشئة. لكن بوشكين هو الكاتب الخالد الذي لا يموت في ضمير الأجيال. وقصصه تعجبني وأعود لها دائما. أما غوركي فهو حي فعلا. ولا يزال له وزن. وأي تحليل معاصر لكتاباته يؤكد وجوده على المسرح السياسي أو سياسة الأدب.

 

* من هو أهم كاتب روسي في العصر الراهن برأيك؟.

- بلا تردد أقول سفيتلانا أليكسييفيتش، ليودميلا بيتروشيفكايا، لينور غوراليك، غوزيل ياخينا، أليشا غانييفا وآخرون.

 

* وماذا عن فلاديمير شاروف المترجم إلى الإنكليزية والعربية.  والذي حصد عدة جوائز؟..

- أتساءل كيف تأثرت به. طبعا  أنا أسمع عنه، ولكن تأملاته الدينية لا تصلني. فهو كاتب متدين. أترك مهمة الكلام عنه لك.

 

* كيف تنظرين لكتابات سولجنتسين ونابوكوف. هل تعتقدين أنهما قدما أبعادا جديدة للأدب الروسي. أم أن آخرين لعبوا هذا الدور ولكن عاشوا في منفى مزدوج، خارج المكان وفي الظل؟. هل لديك أسماء ومبررات؟..

-  نابوكوف، في عصره، وبرودسكي وسولجنتسين في فترتهما، لعبوا دورا كبيرا، لنقل: ضد النظام التوتاليتاري، وهو السبب الذي ألقى بهم في المنفى. ولكن أنا نشأت في عصر مختلف، وسافرت استجابة لنداء وضغط آخر. ولذلك لست مبتورة عن روسيا ولا توجد عندي أسباب للحقد. وفي هذه الآونة، أنا مهتمة بحكايات اليهود الروس الذين استقروا في أمريكا. على سبيل المثال، اكتشفت مؤخرا أعمال أنزيا يزيرسكا، والتي حققت شعبية واسعة بكتاباتها عن الغيتو اليهودي في مدينة نيويورك في فترة العشرينيات. وكتابها “سالومي في الوصايا” تحول إلى فلم صامت.

 

* كيف ينظر الأمريكيون للأدب الروسي. ومن هو الأهم برأيهم.. التقليديون أو المعاصرون؟. 

- لسوء الحظ، معظم الأمريكيين الذين لا يجيدون الروسية يعترفون بأسماء قليلة من جسم الأدب الناطق بالروسية. وأقول “لسوء الحظ” لأن هؤلاء الكتاب، رغم أهميتهم، يقدمون رؤية مختزلة عن الأدب الروسي. ولكن من حسن الحظ، أنه يوجد حلقة قوية من المترجمين الذين ينقلون من الروسية إلى الإنكليزية.

 

* ما هي الكتب التي نشرت لك بالروسية والإنكليزية. وأين تضعين نفسك: في المشهد الروسي أم الأمريكي. بكلمات أخرى لمن تنتمين، لماذا؟؟..

- للتو نشرت مجموعتي “مثل الماء وقصص أخرى” وصدرت عن دار “وتاو” في كاليفورنيا. وكتابي السابق “الأرض المستسلمة Khlop-strana "صدر في موسكو عام 2016 عن دار نشر فريميا. وسبقت ذلك مجموعتان من القصص ونشرتهما مطابع مستقلة في سانت بطرسبورغ. ولكنني أكتب غالبا بالإنكليزية وأتعاون مع مترجمين لنقلها إلى الروسية. وأحيانا، أكتب القصص بالروسية أيضا. وأنا مغرمة بالتفكير بسؤال أو مشكلة الانتماء والهوية -- الجواب ليس سهلا ولا مباشرا. إنما ككاتبة أجد نفسي في البيئة التي أعيش فيها في سان فرانسيسكو-- ولا زلت أكتشف أصواتا جديدة هنا.

 

* هل لديك تعليق حول الأدب الأمريكي ما دمت تختارين الحياة في سان فرانسيسكو والكتابة عنها؟.

- جوالكتابة في سان فرانسيسكو كوزموبوليتاني بمعنى أنه مختلف تماما عن نيويورك. وأقرأ حاليا كتابا قريبا من قلبي من تأليف ليليان هوين وعنوانه “مشترو السحر”، تدور الأحداث في تاهيتي وتروي قصة شاب من جماعة هاكا الصينية في تاهيتي والذي يغرم بابنة عمه. وفي سان فرانسيسكو دار للنشر هي “تو لاينز” وتركز في موادها على الترجمات الأدبية، وقد نشرت مؤخرا “مشرق” للكاتبة دوانوود بيموانا. وبترجمة موي بوبوكساكول، وهذه أول رواية لامرأة تاهيتية تمت ترجمتها إلى الإنكليزية. أما من بين كتابي المفضلين في سان فرانسيسكو أذكر:  تميم أنصاري، المولود في كابول، والذي تلقى علومه في جامعة ريد في أوريغون، وبيغ ألفورد بيورسيل، شارلي جين أنيرز، وغيرهم...

 

* هل تعرفين شيئا عن الأدب العربي. ماذا. وما رأيك به.  ومن له علاق وثيقة بالمشهد العربي، أمريكا أم روسيا؟..

- الجيل السوفييتي السابق من القراء كانوا على دراية أفضل بالأدب العربي بالمقارنة مع جيلي. والترجمة ليست مباشرة وغالبا تكون عن طريق الإنكليزية -- ومن فترة قريبة اطلعت بالروسية على عرض لكتاب: “تاريخ العرب” للمؤرخ البريطاني إيوجين روغان. ولكن أهم كاتبين حصدا شهرة مماثلة في الاتحاد السوفييتي وأمريكا هما المصريان نجيب محفوظ ويوسف إدريس.  وأنا لا أنسى ترجمة فادي جودة لشعر محمود درويش  -- وأذكر من قصيدة نشرتها مجلة ناراتيف، التي أشترك بتحريرها، قول درويش: "ماذا/ سنفعل/ من / دون/ منفى؟". وبالإشارة للمنفى، أنت رشحت لي مؤلفات هشام مطر. وأحببت على وجه الخصوص كتاب مذكراته “العودة”، ثم بحثت عن أعماله السابقة ورأيت أنها شديدة الأهمية ورائعة.

 

 * ماذا تقرأين الآن. وما رأيك به؟؟..

- مهتمة بقراءة قصص نسائية لأتعلم المزيد عن عالم المرأة. وذكرت لك سابقا عن إعجابي بكتاب “إنجاب الأطفال” للإيرلندية آن إينرايت. أسلوبها طريف و تتعلم منه أشياء كثيرة عن حكمة الأمومة وعبقرية الأطفال.  وبدأ هذا الاهتمام بعد إنجاب ابني الأول بوريس. و لكن الآن أطلقنا أنا ويلينا فورمان مدونة سميناها “سطور وعلامات تنقيط” بهدف جمع نتاجات الأصوات غير المعروفة من أدب ما بعد سقوط الاتحاد  السوفييتي. وهذا مشروع شيق وأتلقى منه زادا معرفيا هائلا.  فسقوط الدولة السوفييتية تجربة مخيفة وملهمة أيضا.

 

أجرى اللقاء بالإنكليزية وترجمه: صالح الرزوق

..........................

Russian Literature Between Past and Present: An Interview with the writer Olga Zilberbourg

Olga zilberbourg is a Russian writer belong to the fourth generation of story tellers. I mean the one that happened to appear after Russian renaissance, soviet Russia and writers in exile. She reflects in her stories much concerns about two points.. social upheaval and being uprooted.

Olga was raised in Sant Petersburg before she settled in San Fransisco. Most recently she serves as a consulting editor at Narrative Magazine and as a co-facilitator of the San Francisco Writers Workshop.

About Russian literature and her creative works we had this little chat.

*For a start what do you think about the contemporary scene of Russian literature?..

With the fall of the Soviet Union, contemporary Russian literature has become decentralized. On the one hand, the print runs are a lot smaller, but on the other hand, many new publishers have entered the space, and many new voices. In the past few years, the market pressures have led to some consolidation in the publishing industry -- but there remains a number of small presses that discover new voices -- none of that existed in the Soviet Union.

*Do you think recent writers retained some principals of soviet era.. in contents and in forms. Or went back completely to great traditions of russian poetry and novels.   And who is more influential. Soviet or russian writers. Inside and beyond borders?.

In 2018, Yuriy Saprikin, an influential Moscow-based journalist and editor, launched a project "Polka" -- "Bookshelf" -- where he asked a group of experts (teachers, writers, critics, etc) to nominate the most influential works of Russian literature. As a result, his team came out with a list of 108 books. At the top of this list is Lermontov's The Hero of Our Time, then Tostoy's Anna Karenina, then Gogol's The Dead Souls. Numbers six and seven are works written during the Soviet era, though anti-Soviet in effect: Andrei Platonov's The Foundation Pit and Venedikt Erofeev's Moscow-Petushki. So, the answer is: both, though I do believe that what we took most from the Soviet period is less the officially sanctioned literature (say, Gorky and Sholokhov -- though each of these is represented on "Polka"), but the underground and counter-cultural literature.

https://polka.academy/books?sort_direction=desc

*Of course there is some concern about who is more contemporary and influential.. Bakhtin or Berdyaev?.  Dostoevsky or Tolstoy?. Is Gorky out of date or is still alive within new emerging voices?..

Hah, great questions. To me, Bakhtin, is definitely more relevant. I definitely aspire to writing carnivalesque and dialogic literature. I haven't reread Dostoyevksy or Tolstoy since graduate school, but I do return to Pushkin with great joy. His short stories are so much fun!. Gorky could probably stand a contemporary reevaluation and rereading. He still matters, for sure -- one of the best contemporary online literary magazines is named after him:https://gorky.media/

Any analysis of his work today would still read very political, I think.

*Who is the best Russian writer in recent time in your opinion.

I would highly recommend Svetlana Aleksievich, Liudmilla Petrushevkaya, Linor Goralik, Guzel Yakhina, Alisa Ganieva and more.

*And what aboutVladimir Sarov who is available in English and Arabic translations?..

I'm curious what you'll make of him. I've heard of him, for sure, but I don't particularly find his religious speculation interesting. My personal perspective, of course. Would love to know your take!.

*Now to the exile.  How do you look at the writings of Solzhenitsyn and Nabokov. Do you think they had given new dimensions to russian literature. Or others more represented russian literature but lingered in the shadows. Who and why??.

In her recent essay "A Century of Russian Culture(s) Abroad" (published in a volume called "Global Russian Cultures," edited by Kevin M.F. Platt), Maria Rubens argues for moving away from the idea of "waves" of Russian emigration to the notion that loci of Russian culture exist in various places and time periods, and they are a permanent and evolving formation. "Each locus of Russian life that has emerged over the last century generated its own models of extraterrestrial identities, shaped by evolving relations with the metropolitan space and local geography." I find these ideas appealing.

Nabokov in his time, and Brodsky and Solzhenitsyn in their time had a lot to say against the totalitarian regime that sent them into exile. I grew up in a different era, and went abroad following different pressures. I'm not cut off from Russia--I could return there if I wanted to, and I don't hold a grudge. At the moment, I'm particularly drawn to stories of Russian Jews who found home in America. For instance, I've recently discovered the work of Anzia Yezierska, who achieved considerable popularity writing about the Jewish ghetto in New York City in the 1920s. Her book, Salome in the Tenements, was adapted into a silent movie. In the 1950s, she published her "fictionalized biography," that I haven't read yet but looking forward to.

*How do the Americans receive the russian literature. And what is more respectable. Old great writers or contemporaries?.

Unfortunately, most non-Russian speaking Americans still recognize only a few names from the body of Russian-language literature. I say "unfortunately" because these authors, though important, provide a reductive view of Russian literature. Fortunately, however, there's a very strong group of translators who work from Russian to English. And these translators are often willing to be champions for their authors. I loved seeing recent translations of the work of Guzel Yakhina, Ksenia Buksha, Linor Goralik, Olga Slavnikova, Akram Aylisli -- an author from Azerbaijan, who writes both in Azeri and Russian. Lisa Hayden runs a wonderful blog "Lizok's Bookshelf" where she catalogs the top translations from Russian. I highly recommend it: http://lizoksbooks.blogspot.com/2018/12/russian-to-english-translations-for-2018.html

 *What do books do you have published in russian and in english so far. And where you put your self. In russian or American scene. In other words to whom you do belong. Why?.

LIKE WATER AND OTHER STORIES was just published by WTAW Press in California. My previous book, The Clapping Land (Khlop-strana) came out in Moscow, in 2016, from Vremya Press. Two previous collections of stories were published by independent presses in St. Petersburg. I do most of my writing in English and work with translators who help me to adapt these stories to Russian. On occasion, I do write stories in Russian as well. I do love pondering the question of belonging and identification -- the answer to it has never been simple and straightforward one. As a writer, I strongly identify with my writing community in San Francisco--and I keep discovering new voices here.

*Do you have a say about American literature since you live in SF?.

My view of American literature is definitely impacted by living in San Francisco. The voices that I hear most strongly around me often reach the commercial publishing houses in New York, but often they don't. Writerly San Francisco is a very cosmopolitan space in a way that's very different from New York. My recent favorite was a book by Lillian Howan, THE CHARM BUYERS, set in Tahiti and telling a story of a young man from the Hakka Chinese community on Tahiti who falls in love with his cousin. Two Lines Press, a San Francisco-based publisher that focuses on literature in translation, recently published BRIGHT by Duanwad Pimwana and translated by Mui Poopoksakul, which is the first novel by a Thai woman to be translated to English. My other favorite local writers include Tamim Ansary, who was born in Kabul and went to college at Reed College, in Oregon, Peg Alford Pursell, Charlie Jane Anders, just to name a few.

*What is the difference between American and russian literatures in your view. Or both belong to one mind and two tongues?..

My sense is that barriers to entry into American literature are lower. You want to be a writer? Great -- get a degree in creative writing, and learn all about that profession. Obviously, this path depends on having money to get the education and to support yourself through this challenging and not very financially rewarding career -- and underprivileged groups have much smaller chances of accessing this path. In Russia, as far as I know, there's still only one university that teaches creative writing. Creative writing workshops have been popping up in various places in Russia, but they don't have the same clout as a university degree, and few publishers pay attention to them. So, a path to a writing career can be a lot more circuitous and depend on personal connections.

*Do you know some thing about Arabic literature. What. And what do you think about it. Who is better involved with Arabic scene, The states or Russia?.

The dissolution of the Soviet Union meant that traditional publishing connections vanished. The previous generations of Soviet readers were a lot better informed about Arabic literature than mine is. If literature from Arabic is getting translated in Russia (and I'm sure it is), I haven't seen it reach the mainstream booksellers and reviewers. Translation often happens through English--just the other day, I saw a review of a Russian translation of a book by a British writer, Eugene Rogan, The Arabs: A History.

Two writers who were equally present in the Soviet Union and in the United States are probably Egyptian writers Naguib Mahfouz and Yusuf Idris. Personally, I have very much enjoyed Idris's short fiction. But I'm not sure if he's read in Russia anymore. In the US today, I think Arab literature is best represented less through translation than through the work of the exilic authors. Translation does happen: I very much appreciate Fady Joudah's versions of Mahmoud Darwish's poems -- I still remember the line from his poem published in Narrative Magazine, where I used to work: "What / will we do / without / exile?"  And speaking about exiles, you've introduced me to the books by Hisham Matar. I particularly appreciated his memoir The Return, but I went back and read his novels that I found quite wonderful.

*Does 11/9 catastrophe affect russian literature? .

I don't think 9/11 affected Russian literature. Perhaps, it speaks more to the limitations of my perspective, but I haven't seen references to 9/11 of any significance in Russian literature.

*What kind of project you are working on now?..

I've been working on personal essays -- it's a new form for me, and I'm trying to see if it will be a productive for the stories I have to tell. I'd really like to explore more of my memories from growing up in the Soviet Union at the time of its dissolution. Being a teenager in a country that was suddenly left without history gave a very particular slant of my understanding of the world, and I want to explore that.

*What do you read now. What do you think about it?.

I'm interested in reading more of women's stories and learning more from women. Yelena Furman and I have recently started a blog called "Punctured Lines" with the goal of gathering underrepresented voices of the post-Soviet literature. It's been a thrilling project and I'm learning a ton through it. https://puncturedlines.wordpress.com/

Interviewed by: S. Razzouk

 

 

نزيف مقامر

التفاصيل
كتب بواسطة: رشيدة الركيك

رشيدة الركيكسيستمر نزيف الأسر، وستذرف الدموع دما، مع آفات وأمراض يتخبط فيها المجتمع، وكأنه مس من الجن يجعل صاحبه مسلوب الإرادة، قاطعا الأمل في التغيير، محكوم عليه بضرورات حياتية لا يملك سوى الانحناء أمام أمواجها العاتية.

آفة هذا المشهد هو ظاهرة القمار في مجتمعاتنا العربية، فكم من قصص المقامرين انتهت حياتهم بحالة من الضياع واليتم الوجودي في شكل قطيعة مع العالم الاجتماعية، ومع العيش الكريم باستقرار نفسي وعاطفي.

استنزفت الجيوب وضاعت القيم الإنسانية،وتحولت الحرية إلى قفص من قضبان تضيع معه ملامح إنسان نفسيا واجتماعيا ، لتنقلب حياته بين أقصى القطبين، من بؤس شديد إلى نشوة مفتعلة سرها ربح منتظر.

لم يعد للإقناع والقدرة والإرادة والإختيار مكانا في ذات الإنسان، بعدما كان يتبجح بامتلاكه كل تلك الصفات.

هكذا يتحول الإحتفال الرمزي بطقوس لعبة المقامرة إلى إعتقال مجتمعي، وبعد الحكم في شكل إقصاء ونبذ كلما تضرر منه وعانى الأمرين.

فكم من ثروة صارت سرابا بين عشية وضحاها فتتحول الأسرة من حال إلى حال، من غنى إلى فقر واكتفاء إلى حاجة.

وقد تهتز كل الصور الحياتية ليرفض العقل هذا اللامعقول بين ما أمسينا عليه وما أصبحنا فيه، ليتنازل العقل عن معقوليته وتفكيره الخطي إلى حالات من الذهول عن واقع لم يستوعبه لسرعة تقلباته، وتنتهي به الحياة في عالم المجانين.

المقامرة إذن، مخاطرة بائسة، يائسة، تقودها الأحلام والأوهام والجري وراء السراب وراء خيبات أمل والغرق في بحر الضياع.

بعد استنزاف الجيوب والممتلكات تتراكم الديون نتيجة توالي الخسارة، ليكتشف بعدها أنه بريق وهم الربح المنتظر من سلبه كل قراراته وكذا طمعه في رزق لم يشقى من أجله، إنها جاذبية المال السهل بمتعة اللعب سر كل الضياع.

لعله دافع الوصول إلى تجربة توقع الفوز الوافر أو حتى الإقتراب منه في نوع من الإثارة، تحت تأثير نشوة الكسب الملتهبة.

المقامرة وضع من الأوضاع الإنسانية المعقدة، فيه يخسر المقامر من أجل الربح. بل وقد يتلذذ بالخسارة وكأنه يعاقب نفسه بشكل ماشوسي متلذذا بتلقي العذاب والحصول على المتعة كلما تلقاه.

هكذا يبدو وكأنه تتملكه رغبة لاشعورية في اتجاه الخسارة بذل الربح،أو يبحث عن شيء يستحقه وهو العقاب، أو أنه يكفر عن إحساس بالذنب ما من دون توقف.

الشيء الذي يجعلنا نطرح سؤالا: هل للمقامر تركيبة سيكولوجية خاصة؟ هل علينا أن نتفهمه أو نحاسبه؟

لقد قيل عنه انه شخصية اعتمادية سلبية فاقدة لأي نوع من الإستقلالية الذاتية في كل جوانب الحياة  إلا لعب القمار.

تصرفات جنونية بنوع من الخنوع مستشعرا الرضا بتكرار نفس الأفعال والأفكار، رافضا أي نقد أو تغيير، يطلب دون كلل أو ملل، وفي رفض الآخر معناه عزلة وتمرد وعداء بسبب أنانيته المفرطة.

على الكل أن يكون مسخرا له ولطلباته وحاجته النفسية للعب ربحا كانت أم خسارة فالنتيجة لا تهم.

هو إذن هوس باللعب والمجازفة مخاطرا بكل ما هو مادي ومعنوي. فأي محرك قوي هذا يدفعه للهلاك متجاهلا عالم المعقولات؟

كثيرا ما يقال أن الرغبة في الحصول على ثروات هائلة تعتبر محركا ودافعا معقولا إلى حد ما لكل مقامر. قيل أيضا دافع التسلية واللهو والإثارة للتغلب على انفعالاته أو أي شعور بالملل واليأس قد ينتابه. أو هو بحث عن اعتراف الآخر به، والمكانة والشعور بتقدير الذات والهبة.

فكيف لإنسان يتخلى عن هيبته وباحثا عنها دون كلل في لعب القمار بدون القدرة على التوقف سواء بالخسارة أو الربح؟

لم يدعه طمعه ليغادر صالة القمار تبدو على ملامحه نشوة الكسب الملتهبة، والتي لن تنطفئ،بل ولن يروي ظمأه أي انتصار، لكن تتجدد رغبته من جديد، فتطول معه الحكاية في شكل يوميات اعتاد عليها، ويعيش على أمل التمتع بلحظة الإنتظار لأي فوز.

و في حال الخسارة المتوقعة يبقى الحل أن يرمي كل ما لديه لعله يفلح أو يستدين أو حتى يرهن أي شيء، ثم يعود خالي الوفاض ليبيع كل ما يملك عندما تعمي هذه اللعبة بصيرته وكأن حب المال وشهوة الربح لن تجد لها قدرة للمقاوم.

قد يتكهن أو يتطير ليوم حظ آت بيقين معتقد، فيحاور الأرقام بطريقته ويحاول تفهمها

أو حتى استنطاقها لعلها تخبره بسر من أسرارها، تجمعه معها علاقة لم تستوعبها الذات المفكرة.

المهم هو الفوز ولا شيء غير الفوز. فكل مقامر مدمن عن اللعب ينسيه إدمانه أي حذر أو خوف ويقوده للهلاك بالمخاطرة في اتجاه المصير المظلم.

فهل يمكن لفقدان الحب والإحساس بالمتعة يجعله يبحث عنه في شكل قمار قهري؟

هكذا يعيش المقامر مجموعة من الاضطرابات النفسية والسلوكية والاجتماعية والاقتصادية ليعاني منها الأمرين، تشعل ناره الملتهبة في الفوز وينتقل لهيبها  فتحرق كل من يحيط به أو حتى من يعاشره، هم أطفال يشكون الجوع والألم والقهر وقد تلحقهم المقامرة  برهن أحدهم أو حتى أمهم، لتصبح عرضة للمساومة في سوق النخاسة حيث الجشع على أصوله، ومن تم الضياع الأسري. فلن نتعجب من تواجد أطفال في الشوارع تشربوا مر الضياع من رحم المعاناة قهرا.

فهل سننظر نحن كمجتمع للظاهرة في إطارها الإجرامي المستحق للعقاب؟ أم في سياقها المرضي؟ في شكلها الذاتي أم الموضوعي لتتداخل فيها مجموعة من العوامل الإجتماعية والإقتصادية والتربوية والدينية وحتى القانونية؟

والحقيقة أن الرابطة الأمريكية للطب النفسي تتحدث عن المقامرة المرضية وتسميه القمار القهري مثل الوسواس القهري، وإن كان التوجه الحديث يهتم بالعوامل النفسية والشخصية للمقامرة بدلا من الإهتمام بالعوامل الإجتماعية والإقتصادية.

ومع ذلك لا يمكن أن ننكر أنها جريمة في حق المجتمع تستدعي منا التدخل السريع ولو حتى بالإسعافات الأولية.

وإن كانت المقامرة محرمة في جميع الأديان فإنها أيضا  جريمة في حق التماسك الأسري وفي حق الأدوار الإجتماعية التي حددها المجتمع سلفا ولا يمتثل لها المقامرون.

هكذا يبدو أن الوضع البشري بالغ التعقيد يجعلنا نتوه في الحكم مرة أخرى على المقامر: فهل اختار وضعه ليحاسب على تلك المسؤولية؟ أم اجبر مضطرا على هذا الحال؟

ثم لماذا يلعب البعض بغرض التسلية خاسرا بعض المال ليعود لحياته الإجتماعية ماسكا زمام الأمر فيلعب مقابل المال أو لإظهار مهارته الفكرية، والمهم أنه يستطيع كبح جماح نفسه لتتحول تلك الغلطة إلى لقطة من لقطات حياته؟

لكن ستظل تلك الغلطة غلطة العمر عند المقامر القهري ليستنزف ماله ووقته وتتعطل جل مصالحه متخليا عن عمله بدوافع لن تقاوم. وستظل فكرة القمار تلاحقه نائما أو يقظا: يحلم وهو يلعب ويستيقظ ليلعب من جديد ولتصبح حياته لعب في لعب بملامح الطفل المهوس.

إنه إدمان سلوكي يرتكز على الحظ في الحياة ويسقط بكل القيم الإنسانية السامية قد نرددها في حياتنا لكل مجتهد نصيب. والحقيقة أنه مجرم قي حق القيم الإنسانية السامية وخلخلة في نظمها. لتضيع المعايير التي على أساسها نميز بين كل المتناقضات فنعيش بها ونتعايش معها ونجري وراء السراب ووهم الفوز.

بينما كل فوز على الآخرين هو أخذ لمالهم وترك أسرهم في العراء، ذلك أن ربح البعض وفوزهم هو أكيد خسارة للبعض الآخر باعوا ما يملكون في اللعب، وأضاعوا أسرهم في صمت قاتل مسموع في سماء المعقولات،. فهل هو تحقيق للمال أم للدمار الأسري؟ فهنيئا لمن فاز بدمار المجتمع.

هو إدمان سلوكي إذن يجعله يلعب بنفسه ومستقبله وبأهله وأسرته بتكرار نفس الأفكار ونفس الأحداث، هم شباب أو شيوخ يجرون وراء السراب في اتجاه مظلم فيه من الخطورة ما يكفي لهدم الذات واحتراقا لطاقتها لتجر معها كل من اقترب منها.

وستبقى الإشكالات التالية تفرض نفسها:

ما الذي جعل من الدخول لأول تجربة انصهارا أو نفورا فيما بعد لهذا العالم؟

هل هناك من له استعدادا نفسيا للوقوع في فخ المقامرة والضياع؟

هل المسألة تتعلق بالمناعة السيكولوجية أم الأخلاقية أم شيء آخر؟

اختلفت المواقف والآراء باختلاف الحالات والتجارب الحياتية منهم من يستشعر الخطاب الإلهي في كل فعل يقوم به ويستوعب الرسائل جاعلا منها بوصلة لحياته ومساره.

ومنهم من يتوه في غياب هذه البوصلة .

يبدو أن التدين يعطي مناعة أخلاقية التي بدورها تؤدي إلى مناعة سيكولوجية في حالة من الاتزان.

فالإيمان بأن الرزق من الله يجعل الإنسان يبحث عن رزقه في إطاره الشرعي، بينما البحث عن الرزق بدون ضوابط ولا أخلاقيات يجعل من الإنسان بشع المنظر، يعيش توترا أو هيجانا وتحد للقدر، مخاطرا بكل شيء وأي شخص حتى بنفسه وكرامته.

لذلك يقال أن القمار فيه من كل شيء شيء، فيه جنون وفيه مرض وفيه مال وجنس...

 

بقلم رشيدة الركيك

 

الشاعرة اللبنانية لبنى شرارة بزي تقيم جمهوريتها الشعرية

التفاصيل
كتب بواسطة: قاسم ماضي

1193 لبنى شرارة"في وسط هذا السيل الجارف من الشاعرات العربيات من خلال ديوانها" حديث الفصول الاربعة .

كلنا نكره ونحب، ليس هذا فقط بل كلنا نرتكب المعاصي ونؤجج الحروب،وهل الشعراء لهم نصيب بهذه الأخطاء؟ فالجواب نعم فهناك الكثير منهم كتب قصائد لا تزال عالقة في ذهنية العربي منذ أيام الجاهلية  ولا تزال اشعار العرب المتعلقة بالحرب، وغيرها من الملاحم الا خير دليل على اهتمام الشعوب بهذه الظاهرة التي تميز التحولات العظيمة للاحداث،وقد تكررت الألفاظ الدالة على الاعتراف بالذنوب، وعلينا إن نتطّهر بالمعرفة والحكمة لما احتواه الكون من أسرار وجمال

"ذاك القمرُ، ملامحُه مبهمة، رغم صفاء الجو " ص87

والاعتذار والاعراض عن الذنب والندم على ما فعلناه مع العزم على عدم العودة اليه . ديوان " حديث الفصول الاربعة " هو صرخة إنسانية في جمهورية الشاعرة اللبنانية " لبنى شرارة " من خلال المشهد الطبيعي المتمثل في فصول السنة،وهي الربيع، الصيف، الخريف، والشتاء .

" كم مرة  غسلك ِ المطر ُ، ولم تطهري من الشر، أيتها الأرض " ص59

والمعروف عن الشعر له الكثير من الفضائل ولا داعي لسردها في هذه المقالة ، بل نقل نعم " كان الشعر ديوان فضائل العرب " فالشاعرة  شرارة  تطلق صرختها الإنسانية وهي بمنزلة الحاكم في واقعنا المعاش هذه الأيام،وهي محتجة على الكثير من القضايا التي تلامسها في حياتها .كل هذا في ديوانها الجديد المعنون "حديث الفصول الاربعة" وكم تمنيت إن تحذف كلمة " الاربعة، لأن القارئ يعرف هذه الفصول وبالتالي لا داعي لذكرها، والكتاب صادر من دار ليندا للنشر والطباعة والتوزيع – سوريا – السويداء، ويقع الكتاب في ص100 من القطع المتوسط  .

أليس الشاعر أو لنقل الشعر هو التعبير عن مشاعر الناس والتجسيد لأفكارهم، وهو الشاعر الذي سيجل مآثر الناس،ويبدو ومن خلال قصائدها  إنها تمعنت كثيرا بشعراء العصور الذين سبقوها حيث نجد قصيدتها فيها ألم كبير لما يحدث الآن في مجتمعاتنا، فظلت تلك الشاعرة العصامية وهي تؤسس لحقيقة موضوعية مستغلة تفاصيل الحياة اليومية لتنسج منها قصائدها والتي نحن بصدد طرحها الى القارئ، من حيث الالفاظ والصور والمعاني والأخيلة يقول إبن سلام "وكان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان عملهم ومنتهى حكمهم،به يأخذون واليه يصيرون" واليوم يبقى الشعر النافذة الفعالة للتعبير عن همومنا الجمة .

" تحت المطر،أسير بلا مظلة، أخبئ دموعي المنهمرة ص32

وعلى الشاعرة التي إتخذت من بعض مفرداتها المتكررة في هذا الديوان " حديث الفصول الأربعة " مثل الثلج ، البحر، الشمس، الأرض، الصباح،  المطر، وغيرها لتؤكد ارتباطها بهذه الفصول وكذلك تنسج هذه التأملات في عمق الطبيعة والإنسان، وراحة الجسد المنهك من متاعب الحياة، كان عليها كذلك الغوص في حقول الانكسار اليومي، الذي نحن نلامسه في كل يوم من جراء هذه الفصول الأربعة التي أرادت منها مشعلا تتوهج من خلاله حتى تصب فيه مفرادتها اليومية بوصفه وميضا ً من النبض الإنساني، مشترك بين الناس جميعا، ولهذا شاعرتنا " شرارة " ظلت ملتزمة بالسهولة والسلاسة في بناء الجملة الشعرية، وكانت جميع مفرداتها الشعرية بهذه القصائد التي اطلق عليها شعر الهايكو خالية من التعقيد، وحاولت توظيف استعارات كثيرة من لغة القران الكريم  وقد نجحت في نسجها بما يتساوق مع فكرتها، وهي محاولة منها بتنأئ عن الغريب والنادر .

" التين ُ والزيتون، غذاء  ودواء، واية في الكتاب المبين " ص 73

والذي يعرف شعر " الهايكو " كما يقول الشاعر " المصيفي الركابي " في مقدمة الديوان فهو جنس أدبي ياباني المنشأ انتقل الى الثقافة الانكليزية والأمريكية ثم إلى الثقافة العربية عن طريق الترجمات، ولبناء قصيدة الهايكو عناصر أساسية ومن هذه العناصر، المشهد الطبيعي المتمثل في فصول السنة، وهي الربيع الصيف الخريف والشتاء، ويبدو أن الشاعرة ومن خلال ديوانها أخذت على عاتقها فلسفة ومفاهيم هذا الشعر وتبنته حتى ظهر إلى النور ديوانها الجديد المعنون " حديث الفصول الاربعة " وهي منطلقة عبر قراءة واعية " ان الشعر في جوهره نقد للحياة " ودائما في كتباتنا نؤكد على هذه الفلسفة العميقة والمؤثرة، لأن الشاعرة اللبنانية تصدح بمفرداتها عبر فك طلاسم وخفايا هذه الحياة والتعبير عنها بجمل شعرية مكثفة ومعبرة وهي سمات لقصيدة الهايكو وهي تحاول الغوص في اعماقها وتمييز عناصرها المختلفة التي تكوّن نسيجها العام .

"منذ سنين، تردد نفس الأغنية، بلا ملل ايها البلبل " ص100

ونحن بدورنا نرصد كل تجربة شعرية في مهجرنا الإغترابي، حتى نؤكد للقارئ العربي هي بمثابة بناء جديد للعمل النقدي، بالرغم من أن بعض التجارب الشعرية تحتاج من الشاعر ان لا يستسهل الشعر من حيث المنهج الشعري والأدوات والمفاهيم والتصورات، ونحن امام صور شعرية خاضعة لتوجيه العمل الفني والدقة في اختيار المفردة المدروسة والمسترسلة مع الإيقاع الموسيقي الشعري، ويبدو أن شاعرتنا " شرارة " متأثرة بفلسفة " سقراط " من خلال الجمع لحكمة وهدفها النهائي " ومن المعلوم ان النفس البشرية يعز عليها ان تتعرى وان تفضح نقائصها ولو امام نفسها، فمتى نرسم ونعزز ماذا نريد من الشعر أو اي منجز أدبي، " ألم تمل النوارس، عشقك الأزلي، أيها البحر " ص78

ولهذا ظلت الشاعرة باحثة في ايامنا عن عناوين واقعية يعرفها القاصي والداني ولكنها حولتّها بطريقة أو أخرى إلى رموز مغروزة بالفصول الأربعة ومنها " الصقيع، المزرعة، الفضاء، الأرض " وغيرها لتؤكد لنا انها في أحضان الطبيعة تلاقحت أفكاري ورؤاي مع ما احتواه الكون من حكم وأسرار وجمال ملون بالوان الفصول الأربعة .

" لأنك رمز ُ السلام، تأتي بلا ضجيج، أيها الثلج " ص16

 

قاسم ماضي – ديترويت

 

تركيا والكرد وجهان للعدوان المستمر على سوريا

التفاصيل
كتب بواسطة: ابراهيم ابوعتيله

ابراهيم ابوعتيلهوتصر تركيا الأردوغانية على عدوانها المباشر والصريح على الجمهورية العربية السورية، فلم يكفها كل ما قامت به طيلة السنوات الثماني الماضية من مؤامرات استهدفت كيان الدولة السورية ارضاً وشعباً ونظاماً وبنية تحتية مستقدمة من أجل ذلك كل ما أمكنها من عصابات العالم المتلحفة بالظلامية الدينية المتطرفة وتلك المرتبطة بالصهيوأمريكية الإمبريالية لتدمير كل وجوه الحضارة السورية العريقة، فسهلت لهؤلاء الظلاميين وبدعم البترودولار العربي، عملية التدريب والتسليح وتوفير كل ما يلزم من مال لهؤلاء المرتزقة الإرهابيين مع ضمان تلقي العلاج عند الإصابة في مستشفيات كيان العدو الصهيوني ....

لم تكن تركيا وحيدة في عدائها لسوريا العربية، فلقد تحالفت من أجل ذلك مع العدو الرئيسي للعرب فكان هناك تفاهمات وتنسيق ودعم مباشر من الصهيونية وأمريكا ومن يسير في ركبها من القارة الاستعمارية العجوز كفرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها، كما وقف الإخونج وقوفا مباشراً مع تركيا ومع تدمير سوريا موظفين من أجل ذلك دولار الغاز ودولار النفط ....

ومع تكالب كل أعداء الحرية والعروبة ومع تحقيق الظلاميين والإرهابيين بعض اهدافهم من دمار استهدفوه وخططوا له مرحلياً، ظن التركي من خلاله اقترابه من نيل ما يريد تحركه في ذلك شهوة تقسيم الوطن السوري وتشكيل كيان عدو جديد في شمال شرقي سوريا يحكمه الأكراد الوافدين لسوريا كلاجئين بعد هروبهم وطردهم من تركيا في عشرينات القرن الماضي برعاية ودعم مباشرين من أمريكا والعدو الصهيوني ومستغلين في ذلك انشغال الجيش العربي السوري بمقاتلة ودحر الظلاميين المرتزقة من أرض سوريا والتي سجل فيها الجيش السوري انتصارات أذهلت كل الأعداء .

وما أن اقتربت ساعة التحرير الشامل والنهائي والهزيمة المطلقة لحلفاء الإرهاب والظلام حتى تأهبت تركيا لمنع ذلك من خلال الوقوف بقوة مع حثالات العالم البشرية التي تجمعت في محافظة إدلب ساعية إلى منع الخلاص منهم مستغلة في ذلك شهوة القيصر بوتين وهدفة باختراق حلف شمال الأطلسي بتعزيز علاقاته بتركيا الذي يسعى أردوغانها لتسجيل انتصارات تعيد البريق للاتاتوركية العثمانية على حساب دول الجوار .. فتم تأخير عملية تحرير إدلب وايقاف زحف الجيش العربي السوري ولو مؤقتاً .

ولما استشعر أردوغان بقرب فشل كل مؤامراته على سوريا العربية ... عاد مرة أخرى بوجه جديد وأكثر عدوانية،  فكان أن قام بعدوانه على شمال سوريا بحجة إقامة منطقة " آمنة " ينقل إليها اللاجئين السوريين المتواجدين في تركيا، متذرعاً بمنع الإرهابيين من دخول تركيا علماً بأن غالبية هؤلاء الإرهابيين قد جاؤا من خلال تركيا وبغطاء منها، وليس مستغرباً أن يستغل أردوغان من دربتهم تركيا من الارهابيين والخارجيين عن الدولة السورية تحت مسمى " الجيش الوطني الحر " ليكون هذا الجيش في مقدمة أعداء وطنهم السوري ...

وهاهي تركيا وعملائها يقومون بالعدوان على الشمال السوري بعد أن سكتت عما يجري في تلك المنطقة لسنوات عديدة، منفذةً في ذلك رغبة أمريكا والصهاينة الذين وظفوا الكرد في تلك المنطقة لمحاربة الدولة السورية بهدف إقامة كيان لقيط لهؤلاء الكرد متناسين في ذلك أن هؤلاء الكر قد قدموا من تركيا كلاجئين بعد ثورة سعيد بيران 1925 حيث استضافهم الوطن السوري ومنحهم حق المواطنة فقاموا بطعنه فاتحين في ذلك المجال للعنصريين من الأكراد القادمين من شمال العراق وايران وتركيا للتواجد معهم موهمين العالم بكثرة تعدادهم وبحقهم المزعوم بخلق دولة قومية لهم في شمال سوريا كما حاول قبلهم البرازانيين الصهاينة بأن يفعلوا في شمال العراق ..  فتركيا هنا وبعدوانها تستهدف كما سبق تقسيم الوطن السوري واستمرار الحرب على سوريا بوجه جديد تحقيقاً لأطماع الأتاتوركيين العثمانيين ومن جهة ولمنع قيام كيان للكرد قد ينمي ويزيد الوعي القومي للكرد في مناطقهم الأصلية في جنوب شرق تركيا وهي المنطقة التي يتوجب أن تقام بها الدولة الكردية ففيها يتواجد أكثر من 25 مليون كردي ومنها قدم الكرد لسوريا فلا جذور تاريخية للكرد في سوريا وجذورهم إن صحت تقع في جنوب شرق تركيا ....

ومن المفارقات التي احدثها العدوان التركي:

- أن تقوم أمريكا بسحب قليل من قواتها من شمال سوريا كي تسهل العدوان التركي ومنع أي احتكاك بين أمريكا وتركيا موهمة العالم بمعارضتها للعدوان التركي.

- قيام الكثير من الدول التي أيدت الإرهابيين بشجب واستنكار العدوان التركي رغم كونهم مؤيدين للجيش الحر التي تستخدمه تركيا في حربها .

- استمرار الإخونج في دعم كل ما يستهدف تدمير سوريا بقيام هؤلاء بدعم العدوان التركي .

- قيام دول الجامعة العربية باستثناء قطر باستنكار العدوان على سوريا العربية بكلام وعبارات معسولة رافضين حتى الآن إعادة سوريا إلى تلك الجامعة ودخول الصومال " المنهار" إلى التحالف الداعم لتدمير سوريا برفضها لبيان الجامعة العربية حول الموضوع .

- استمرار دول أوروبا العجوز بدعمها للكرد ورفضها للعدوان التركي على سوريا ليس دعماً لسوريا بل دعماً لإنشاء كيان كردي في تلك المنطقة .

- تباكي الصهاينة علناً على حق الكرد في قيام دولة لهم واعتراض الصهاينة على قيام حليفهم أردوغان بالعدوان على تركيا .

- عدم وضوح الموقف الروسي ومحاولة بوتين تسويق أفكار للمصالحة " المستحيلة " بين الكرد والاتراك من جهة وبين الأتراك وسوريا من جهة أخرى .

- قيام بعض الكرد باللجوء للدولة السورية ساعين إلى دعمها في مواجهة العدوان التركي .

ومهما قيل، فكما فعلت الدولة السورية وكما فعل الجيش العربي السوري .. فإن منطق الأحداث والتجارب خلال السنوات الثماني الأخيرة يؤكد وبما لا يدع مجالاً للشك بأن المشروع الكردي والتركي والصهيوني والأمريكي والإخونجي والدولار الغازي / النفطي سيفشل وسيتحطم على صخرة الصمود العربي السوري .

 

ابراهيم ابوعتيله - الأردن

 

 

خطاب المرجعية إنصاف للمُحتجين وقهر للفاسدين

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. علي المرهج

علي المرهجلطالما كانت المرجعية الدينية العليا في مقدمة من يوجه لهم النقد في حال خذلان الحكومة للشعب من كل الأطراف: الحكومية، أو الجماهير المؤيدة لتدخلها، أو الرافضة لهذا التدخل، وهي بين هذه النيران تحتسب، فهي بكلا الحالات مُتهمة، فإن صمتت قالوا أنها تخلت عن مسؤولياتها في النُصح والإرشاد، وإن طالبت الأطراف المتصارعة لاتخاذ خطوات عملية للإصلاح وتحاور الأطراف المُتنازعة، وطالبت بوجود أصحاب اختصاص مستقلين من الذين عُرفوا بالنزاهة للنظر في حال المجتمع ومساعدة الحكومة على اتخاذ خطوات عملية في مُحاربة الفساد قال البعض عنها من أطراف الحكومة أو الجماهير المُحتجة وهل نحن نعيش تحت ظل دولة (ولاية الفقيه) وأظنها حيرة ما بعدها حيرة!، ولكنها قالت قولتها وليجتهد من يجتهد في تأويل خطابها وأنا من بين هؤلاء، فلست من المؤيدين لتدخل رجل الدين في السياسة، ولكن طبيعة الحال في مجتمعنا وما آل إليه المآل، بعد أن (ضيعت الحكومة صول جعابها) أو بوصلتها، وبما أن أغلب المُتظاهرين هم من الذين يحترمون مقام المرجعية العليا، أجد أن لخطاب المرجعية تأثير في التهدئة وقبول لدى كل أطراف النزاع.

لا أظن أن الحكومة تستمع لتوصيات المرجعية وتسير على هديها كما يدعي رجالاتها، فلو كان الأمر كذلك لما أظهر خطاب المرجعية تململه من رتابة الاجراءات الحكومية نحو الإصلاح ومحاربة كبار الفاسدين.

سأوجز خطاب المرجعية الذي وضعته بفقرات أهمها: 

ـ مطالبتها السلطة بالتعجيل بعملية الإصلاح الذي راهنت عليه بوصفه ضرورة لا محيص عنها، فحذرت الحكومة بأن الاحتجاجات ستعود في وقت آخر بأشد وأوسع من هذا بكثير إن لم تتخذ خطوات عملية وسريعة لمعالجة الموقف.

ـ دعوتها للسلطات الثلاث لاتخاذ خطوات عملية واضحة في طريق الإصلاح الحقيقي، عبر العمل واتخاذ إجراءات واقعية يستشعر أهميتها وفاعليتها المواطن البسيط.

ـ تحذيرها الكتل الكبيرة من مغبة المحاصصة والبحث عن المكاسب الآنية للحزب أو الجماعة ودعتها للتخلي عن مصالحها الحزبية.

ـ مطالبتها السلطات القضائية والرقابية بتفعيل دورها بعملية الإصلاح الشاملة عبر عبر فتحها لملفات كبار الفاسدين ومحاسبتهم.

ـ تحميل الحكومة مسؤولية الخراب بسبب تهاونها في محاسبة الفادسدين الكبار من الذين تلاعبوا بأموال الدولة وأثروا على حساب المال العام. يعني باختصار دعوة المرجعية لتفعيل قانوان (من أين لك هذا؟). (يعني سياسي معارض جان ما عنده قمري صار بالسلطة صار ملياردير، وعنده هو وأهله وأهل أهله عدهم أرصده خيالية وشركات، إمنين جابها، من نضاله ـ مثلاً) (عمت عيني على الحُسين "ع" وإخرب بيتي على جيفارا "رض")! ماتا ميتة الشرفاء، ولم يرث أتباعهما سوى رثاؤهما والبكاء، ولا أقصد المُدَعين الأفاقين الذين يلهجون بإسم الثوار ليل نهار ويتباكون على الحُسين في الليل ويسرقون أموال الفقراء في وضح النهار!.

ـ تأكيدها على تشكيل لجنة تكنوقراط مستقلة من المعروفين بالكفاءة العالية والنزاهة التامة للتحقيق في الفساد على أن تُتاح لها الاتصال مع كل الأطراف الحكومية وغير الحكومية لا سيما المتظاهرين.

ـ برأت المرجعية نفسها (ومن حقها ذلك) لأن الحكومة لم تأخذ بتوصياتها المستمرة لمعالجة أحوال الفقراء والخريجين وأصحاب الشهادات بايجاد فرص عمل لهم، ولكن الحكومة تغافلت عن توصياتها لتدارك الأمور قبل فوات الأوان، فكان ما كان. (حكومة تُعرف طُرق التغليس والتدليس على وفق المثل القائل (أذن من طين وأذن من عجين)، يعني بحسب آي الذكر الحكيم: "صُمٌ بُكمٌ عُميٌ فهم لا يرجعون" لأنهم في "ظُلمات لا يبصُرون"، فهم صُمٌ عن الحق فلا يسمعونه "بُكمٌ"، ولا يرون طريق الهدُى وصلاح لأنهم "عُميٌ"، فقد "ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلال لا يُبصرون" (البقرة/179) "إولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مُهتدين" (البقرة/16) وهو تفسير لقوله تعالى في سورة البقرة: "صُمٌ بُكمٌ عُميٌ فهُم لا يرجعون" (البقرة/18) أو "صُمٌ بُكمٌ عُميٌ فهُم لا يعقلُون" (البقرة/171).

ـ رفضها لاستخدام العنف الحكومي ضد الحركات الاحتجاجية ومطالبتها للمحتجين بالتهدئة لانتظار خطوات الحكومة العملية.

يحمل خطاب المرجعية رسالة واضحة للحكومة بأنها فشلت في اتخاذ خطوات جادة للإصلاح، بل وحملتها مسؤولية الدم المراق للمتظاهرين، وإن كان في خطابها ألم لما آلت إليه الأمور، ولكنها طالبت الحكومة بأكثر من خطبة منذ تظاهرات البصرة أيام العبادي، ولكن الحكومة (منطيتها إذن الطرشة).

ما يُلفت النظر ويستحق التقدير في خطاب المرجعية أنها لم تُشكك بمصداقية مُطالبة المُحتجين والمتظاهرين، ولم تتهمهم بأنهم مدفوعون من جهات خارجية، بل حمل الخطاب بين طيَاته دفاعاً عن حقهم بالتظاهر وتقريعاً للحكومة على إفراطها باستخدام العُنف، بل ومطالبتها بمحاسبة قادة الأجهزة الأمنية الذين لم يلتزموا بتوجيهات القيادة العامة للقوات المُسلحة التي أكد رئيس الجمهورية أن لا أحد منه طُلب منه ردع المُحتجين بالرصاص الحي!.

لم يأت خطاب المرجعية على ذكر وجود جهة مُندسة اخترقت الأجهزة الأمنية، الأمر الذي يعني في حال الاعتراف بوجودها الاعتقاد بفشلها وعدم قدرتها على إدراة ملف أمني بمساحة لا تزيد على كيلو مترين، فالأولى مُحاسبة قادتها.

يحمل خطاب المرجعية تعاطفاً مع مطاليب الجماهير المُنتفضة، الأمر الذي يعني رفضها للغة التخوين للجماهير التي استخدمها بعض المسؤولين الأمنيين الذين توعدوا وعربدوا على أنهم يعرفون بحجم (المؤامرة) قبل أحداث 1/10، وكان خطابهم ممجوجاً ويدل على قصر وعيهم الأمني، فإن كان من يرأس أكبر جهاز أمني يعرف بوجود (مؤامرة) ولم يتخذ إجراءات لوقاية الدولة وحماية شباب التظاهرات الذي هم أم الأمة القادم، فهو آثم، وينبغي محاسبته ومحاسبة كل من له دراية بتبعاتها ويدعي نباهة!.

في ذات الوقت حمَل خطاب المرجعية مجلس النواب مسؤولية تقعاسه عن اقرار قوانين وتشريعات تُساعد الحكومة على التعجيل في برنامجها الحكومي، بل وفي عدم محاسبتها للحكومة باتخاذ خطوات عملية لتقليل البطالة وتشغيل الشباب العاطلين.

يحمل خطاب المرجعية بين طياته شعوراً بالحسرة والتألم من أفاعيل الأحزاب الكبيرة التي لم يرتق قادتها لمستوى الحدث والشعور بمسؤوليتهم التاريخية عن هذا الشعب، فكانوا ولا زالوا في واد وناخبيهم في واد آخر!، لتُخبرهم (المرجعية) أن (الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك) وهذه الاحتجاجات مؤشرات خطيرة أو ناقوس خطر يدق لتنبيهكم أنكم ذاهبون بالبلد إلى الدرك الأسفل، فتهادوا واستكينوا وخففوا الوطئ لأن أديم الأرض من أجساد أجداد هؤلاء الصبية والشبيبة سقتها دماؤهم، وهي بتحصيل الحاصل دماء أهليكم فتريثوا ولا تستهينوا بدمائهم لأنها سقتنا وسقتكم كرامة النفس وعزتها. إنهم ابناء المدن الفقيرة ومُدن العشوائيات إن كان يصح عليها الوصف بأنها مدُنٌ. إنهم أبناء الخايبات (أمهاتنا) الثكلى اللواتي تستحي أرض الرافدين من فرط عطائهنَ، فتريث أيها الجندي أو شرطي الأمن وتمعن وأنعم النظر في وجوه هؤلاء الصبية ستجد ملاحة وجوه أمهاتنا وطيبتهنَ التي من فرط شعورك بالخطر تناسيت ملامح وجوههن السمراء التي ولدننك وحملنك وصبرنَ على شقاوتك وتمردك مثل أخيك المتظاهر الذي لم تسطع لا أمي ولا أمك وقف اندفاعه وحماسته لأنه يروم العيش بكرامة، وأظن أنك لا ترتضي لنفسك ولا له أن يعيش بذلة (فهيهات منَا الذلة) تلك مقولة تربيتما عليها أنت وأخيك المُحتج الصادق في تضحيته بنفسه بعد أن لم يجد من يحتضنه لا أنا ولا أنت ولا "حكومة أبوية" تشعر بألمه وعوزه. (جا إذا أنت خويه العشت ضيمه ما تحس بيه منو يحس بيه أمريكا لو إسرائيل، لو دول الجوار، خويه (ما حك جلدك غير ظفرك) و(الظفر ما يطلع من اللحم) وهذا الشاب المُحتج هو ظفرك فدعه يحك بقايا الصدأ في حكومتنا لعلها تستفيق ولا تخليه يطلع عن طور الأمل بحياة أفضل تحت خيمة هذا الوطن الذي لا نستظل إلَا بظله، فساعده ولا تقتص منه، ولا إتكلي (مؤامرة) ولا أنفي وجودها، ولكن لا تجعل أخيك يقع في حبالها فتقتص منه، على قاعدة (الوقاية خير من العلاج)، وإن لم تستطع الوقاية فعليك تحمل الأذى إن كان في رفض الظلم والخروج على حاكم فاسد أشر تعدَه أذى، فاصبر على أخيك لدرء مفسدة أو فتنة ولو إلى حين على قاعدة (جلب المصالح ودرء المفاسد)، ففي كسب الشباب جلب للمصالح، وفي قتلهم وضربهم شر معلوم، وفي التجاوب معهم والتعاطف مع مطالبهم خير محتوم، فكيف تسنى لك ترك الخير واستبداله بالشر، ولا كسب لك فيه معروف، والقاعدة الفقهية تقول:"درء المفاسد مُقدم على جلب المصالح"!. ولا أظن أن فيما حصل في ردع المتظاهرين ما يُنبئ عن تطبيق واع لهذه القاعدة الفقهية. ولا أجد فيما حصل من رد فعل غير محسوب لكثير أو قليل من الأجهزة الأمنية على احتجاجات الجماهير سوى عمل غير مدروس كاد أن يؤدي إلى فتنة لولا وجود بقية حكمة مكنونة ظهرت بوادرها في خطاب رئيس البرلمان الشاب الذي داعب قلوب الشباب المتظاهرين واقترب من وجدانهم في تركه للتنظير وكتابة الخطاب، ليقول ما في قلبه كشاب قريب من طموحاتهم وآمالهم، وقد خفف بعض من غلوائهم، ولكنه ليس سلطة تنفيذية فما طرحه يبقى مقول للتخدير لا فعل للتغيير.

اعترفت المرجعية في خطابها بضعف السطات القضائية والرقابية في اتخاذ خطوات عملية في مُحاسبة كبار الفاسدين، فلو حاسبت هذه الجهات عدد قليل من رؤوس الفساد لما وصل الحال لما نحن عليه الآن.

ا. د. علي المرهج

 

التفسير السوسيولوجي لحروب الجيل الرابع (2)

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. محمود محمد علي

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا في مقالنا الثاني عن بزوغ حروب الجيل الرابع؛ حيث يكون حديثنا منصبا عن الرأي الثاني، ويتمثل في الكيفية التي من خلالها الولايات المتحدة الأمريكية إلي الحرب غير المتماثلة بديلاً عن الحرب النظامية، وفي هذا يمكن القول: في أواخر تسعينيات القرن الماضي قررت الولايات المتحدة الأمريكية أن تغير من نمط إدارة الحروب الدائرة في العالم؛ حيث اكتشفت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، بأن نموذج حرب الناتو "Nato -model" المبنى على القطاعات الضخمة المزودة بالآليات، غير فاعل إلى درجة كبيرة أمام قوات العصابات المدعومة من قبل الأهالي، وهذا جعل الولايات المتحدة الأمريكية تبحث عن نموذج آخر مؤسس على عدم توريط الجيوش الأمريكية في اشتباكات عسكرية مباشرة، وبالتالي أهمية الاعتماد على قيمة ومنطقية القوات الخفيفة (Lighter Forces) التي كانت منبوذة في السابق من قبل ألوية الجيوش التي تزحف عبر الأنهار والوديان على سكان القرى، وبالتالي التخلص من "الفشل العسكري" وتقليل المخاطر البشرية والاقتصادية لأي تدخل من قبل الجيوش الكبرى .

وهنا بدأ كثيرون من صناع القرارات في الولايات المتحدة يتحدثون عن الحرب غير المتماثلة والحرب طويلة الأمد، حيث ستشارك الولايات المتحدة - تحت مظلة هذه النماذج من الحروب- في أنشطة مكافحة الإرهاب في منطقة واسعة من العالم الإسلامي لفترة طويلة جداً. وبدا صراع الند للند peer-to-peer conflict قد عفى عليه الزمن؛ حيث أشار بعض المحللين الأمريكيين إلى أن الحروب التي شاعت في السابق أصبحت لا تتضمن دولًا، وإنما جماعات غير وطنية، وبالتالي لن تكون هناك حرب نظامية، فإن من أطلقوا هذا الرأي لم يدركوا طبيعته الراديكالية، ونادراً ما كان يُنظر إلى سياسة الدفاع الأمريكية التي أخذت به على أنها غير ملائمة. وإذا كانت الولايات المتحدة ستشارك بشكل رئيسي في عمليات مكافحة الإرهاب في العالم الإسلامي على مدى السنوات الخمسين المقبلة، فمن الواضح أننا في حاجة إلى قوات عسكرية مختلفة جداً عما نملكه اليوم.

كما أدرك صناع السياسات الأمريكية بأنه في ظل الظروف المناسبة قد تستطيع "العصابات" أن ترجح الكفة أمام "الجيش التقليدي"، حتى لو كان الأخير يمتلك مميزات خارقة في الجو، أو البحر، أو في القدرة النارية؛ حيث وصف "ماوتسي تونج " Mao Zedong حرب العصابات بأنها:" عندما يتقدم العدو فإننا نتراجع، وعندما يخيم "نناوش"، وعندما يتعب "نهاجم"، وعندما يتراجع "نطارده"؛ بمعني أن نضرب العدو طالما كان ضعيفاً، وأن نتجنبه عندما يكون قوياً، وأن نطارده عندما ينسحب، وأن نناور عندما يتقدم. فذلك ينسجم مع التفكير السليم" .

وكما يقول الباحث الأمريكي "روبرت تابر" Robert Taber (المتخصص في حرب العصابات) عن حرب العصابات بأنها:" حرب ثورية"، تجند سكاناً مدنيين أو على الأقل جزءاً من السكان، ضد القوى العسكرية للسلطة الحكومية، القائمة شرعياً أو المغتصبة".

وقد وازن أفضل الخبراء الأمريكيين بين مجموعتين من الثوابت .. وأدركوا بأنه "في مجال الحرب لابد من الأخذ في الاعتبار ليس بالتقييم أو الفوارق النوعية فحسب (مثل النواحي المعنوية، ودور السكان المحليين ... إلخ) ولكن باحتمالية وجود صفات عسكرية مختلفة بالكلية عن بعضها البعض، قد تؤثر على طرفي معادلة التكافؤ والتماثل" .

إن في حرب العصابات، نجد أن الطرفين لا يستخدمان نفس الأدوات أو استراتيجيات القتال، ولا يخضعان لمعايير التوازن السائدة، فحسب تلك الحرب، لا يوجد مسرح عمليات يلتقى فيه المحاربون بأية صورة، ويستخدم كل طرف أسلحة غير متماثلة، وقد لا تكون هناك علاقة بين الفعل ورد الفعل فيها، كما أن "الخطط المستخدمة خارج نطاق التصور ويحكمها ـ تفكير يوسوس به الهذيان والجنون، ولا يؤدى إليه العلم، أو توازن القوة مهما كانت دقة حساباته، فلا يوجد تقيد بمبادئ الحرب، وإنما بأفكار تنتج عنه عن مصادفات يتم تحويلها لخطط مدروسة، وتحيط بعملياته أقصى درجات المخاطرة، ويتم كل شئ فى سرية شديدة، ويختلط فيها ما هو مادى بما هو نفسى، كما يتمتع العدو ـ فى هذا النوع من الحروب بإرادة قوية، وتنظيم حديدي، وصبر شديد، وروح عالية، وقدرات رفيعة، تجعل تحقيق أهدافه ممكنة، حتى لو بدت وكأنها ضرب من الجنون" .

وقد وصل تطور مفهوم حرب العصابات في التفكير الأمريكي إلى مستوى اقتراح استراتيجيات محددة للتعامل مع هذا النوع من الحرب، كتعظيم قوة الإدراك النظري لما يمكنني أن يحدث استناداً على مبدأ عام يرتبط بالتفكير بنفس الصورة غير التقليدية (المجنونة) التي يفكر العدو بها، والتغاضي عن المراسم التقليدية التي طالما حكمت التحرك المضاد، كتشكيل التحالفات واستشارة الدول، وتقدير الحساسيات، والاتجاه مباشرة إلى فرض الأمر الواقع، مع تخيير الدول بين الانضمام إلى ما يتم، أو يجدون أنفسهم في الجانب الآخر، يضاف إلى ذلك "تدعيم أساليب الاستخبارات الموجهة، والعودة إلى بعض الأساليب التقليدية كنشر الجواسيس، ثم تغطية مواقع الانكشاف في الأراضي الأمريكية بسد كل الثغرات التي يمكن النفاذ منها، واتباع أساليب جديدة في التعامل مع مسألة الأمن الداخلي، على أساس تخفيف القيود المفروضة على أجهزة الأمن تجاه المجتمع" .

ولذلك أدرك المتخصصون في الشؤون العسكرية الأمريكية أن: " تكتيك رجل العصابات يختلف عن تكتيك الجندي المضاد للعصابات، لأن دوريهما مختلفان، منهما قوتان متنافرتان، تشنان حربين متعارضتين، في سبيل أهداف متضادة. ويبحث الجندي الحلول المضادة للثورة عـن كل حل عسكري، يتمثل في إبادة رجال العصابات، لكنه معاق بعقبة سياسية واقتصادية، فهو لا يستطيع أن يبيد الشعب ولا واحداً من أجزائه الهامة. أما رجل العصابات، فإنه يرغب في اهتراء عدوه العسكري، ويستعمل تكتيكياً مناسباً لهذا الغرض، وهدفه الرئيسي سياسي، ويتمثل في تسعير حريق الثورة في صراعه، وتحريض الشعب كله، ضد النظام، وإظهار عيوب هذا النظام، وعزله، وتقـويض اقتـصاده، واسـتنزاف موارده، وإثارة تفككه. إن حرب العصابات في جوهرها سياسية واجتماعية. أما وسائلها فهي سياسية بمقدار ما هي عسكرية أمـا هدفها فسياسي بالكامل تقريباً، ونستطيع أن نقول انطلاقاً من مقولة "كلاوفيتز" Clausewitz: إن حرب العصابات استمرار للسياسة بواسطة صراع مسلح، وفي درجة معينة من نموها، تصبح ثورة، عندها تغدو أسنان التنين آكلة لكل قوتها، إن حرب العصابات تعادل حرباً ثورية، إنها امتداد للسياسة باستعمال السلاح، وطالما أن أولئك المكلفين بالصراع ضدها لا يفهمونها، فلن يجدوا أية وسيلة استرتيجية أو تكتيكية لتحقيق النصر. أما إذا فهمها أولئك الذين يقودونها، فإنها لن تخيب مطلقاً، مهما كانت الظـروف، لأن الحـرب الثورية لن تبدأ إلا عندما تتوافر ظروف نجاحها " .

واعتبر الباحثون في الشؤون العسكرية الأمريكية أنّ " الطرف الضعيف، في الحرب غير المتماثلة، يستخدم المجتمع كغطاء له، ويعتمد عليه في الإمدادات اللوجستيّة، ويقوم انطلاقا منه بشنّ هجماته ضدّ الطرف الأكثر قوّة، ما يتسبّب بامتداد العنف داخل المجتمع. من هنا، فبداية هذه العمليّة هي حرب العصابات ونهايتها الإرهاب الدولي كما يحصل حاليًا، ومن نتائج الحرب غير المتماثلة حصول إبادة جماعيّة، أو حرب أهليّة، أو اندحار العدو (جنوب لبنان نموذجا) " .

ومن جهة أخري فإن الجهد الرئيسي لحرب العصابات، هو أن " إثارة تمرد السكان، الذين لا يمكن لأي نظام في دولة ما، أن يدوم طويلاً دون موافقتهم. فرجل العصابات هادم للنظام القائم، لأنه ينشر الأفكار الثورية، وتعطي أفعاله قوة إلى عقيدته، وتبين السبيل نحو التغير الجذري، ومن الخطأ أن نعتبره منفصلاً عن مرقد استنبات الثورة. إنه يخلق من المناخ الـسياسي الذي تصبح فيه الثورة ممكنة، ويمثل هذا المناخ التعبير وعنصر الاستقطاب للإرادة الشعبية في مثل هذا التغيير" .

ولذلك يري "روبرت تابر" بأنه "عندما نتكلم عن رجال العـصابات، يتداعى في أفكارنا معنى النصير السياسي، فهو مدني مسلح، وسلاحه الرئيسي ليس البندقية أو الساطور، بل علاقته مع الجماعة، مع الأمة التي يقاتل ضمنها وفي سبيلها، والانتفاضة أو حرب العصابات، عبارة عن فعل يحث على تغيرات من الثورة المضادة، أي الطريقة التي تتم بها مقاومة الثورة: فهما وجهان لعملة واحـدة، ومن الضروري ألا نخلط بينهما، أو بين عواملهما، بسبب تماثلهما. وبسبب الطبيعة السياسية للصراع، وتفاوت الوسائل التي بحوزة المعسكرين، وخاصة بسبب التناقض التـام لأهدافهما السياسي، فإن التكتيكات الأساسية المطبقة في حرب العصابات، غير قابلة للتطبيق من قبل الجيش الذي يقاتل العصابات، ولن تكون قابلة للتطبيق، وبشكل محدود جداً، إلا من قبـل (الاختصاصيين) العاملين في القوات الأمريكية الخاصة، التي يمكن أن تحاول تقليد تكتيكات العصابات" .

ويستطرد " تابر" فيقول:" إن الأسباب تامة الوضوح، فرجل العصابات يمتلك المبادرة فهو الذي يبدأ الحرب، ويقرر أين ومتى يضرب. وعلـى عـدوه العسكري أن ينتظر مستعداً لمواجهته في كل مكان، ويجد جيش الحكومة نفسه، قبل وبعد بداية الحرب، في موقف الدفاع بسبب دوره كشرطي مكلف بحراسة الممتلكات العامة والخاصة، ويجب أن نبين منذ الآن، بأن الشعب يشكل مفتاح الصراع كله، وبالواقع، ومهما بدت الفكـرة مغيظـة للمحللين الغربيين، فإن الشعب هو الذي يقود الصراع. فرجل العصابات ينتمي إلى الشعب، بنفس المقدار الذي لا يستطيع فيه جندي الحكومة أن ينتسب إليه (لو لم يكن النظام قد فقد محبة الشعب لما انـدلعت الثورة). إن رجل العصابات يقاتل بمعونة الجماهير الشعبية المدنية، التي تشكل تمويهه، ومنـابع إمـداده، ومصدر تطوعه، وشبكة اتصالاته، ومصلحة استخباراته، الموجودة في كل مكان والشديدة الفعالية" .

إذن في حرب العصابات تستخدم أساليب ووسائل وأدوات مختلفة (قنابل ذريّة، خطف طائرات، رهائن، ألغام، تفخيخ، عمليّة استشهادية، عمليّة انتحارية)، كما أنه" لا يوجد مكان محدّد لمسرح العمليّات، وحتّى الفترة الزمنيّة قد تمتدّ عدّة سنوات، وكذلك نمط الحرب لا يقتصر على مسرح العمليّات داخل دولة معيّنة، بل يشمل مصالحها ورعاياها في العالم بأسره" .

وهنا تصبح حروب العصابات أو الحرب غير المتماثلة حرباً بين طرفين غير متكافئين تماماً، وتمثل التفافاً واضحاً على قوة الخصم وقدراته يتم تفاديها وتحويلها إلى نقاط ضعف، ففي حين أنه من المرجح أن تنجح المؤسسة العسكرية الأمريكية المتفوقة على سبيل المثال، في مواجهة أي مؤسسة عسكرية تقليدية لدولة أخرى، " فيما يخص التكيف مع التقنيات الجديدة، فإن المستقبل ربما يكون من نصيب الأطراف التي لا تتبع لدولة، وجهات ليس لها صفة التي قد تسهل لها الثورة التكنولوجية والمعلوماتية، إمكانية الحصول على أسلحة، ربما تكون رخيصة وعالية التقنية، تستطيع بها تحييد القدرات المتفوقة لجيوش دول عظمى" . لقد ارتقى هذا التهديد وانتقل من مرحلة خطف الطائرات، واحتجاز الرهائن، واستخدام المتفجرات العادية إلى مرحلة الهجوم المباشر بأساليب وأسلحة غير متوقعة ووسائل إلكترونية متطورة، وقد يصل الأمر إلى حد "استخدام الأسلحة البيولوجية أو الكيميائية، بهدف إحداث خسائر مادية وبشرية جسيمة" .

هذه الأطراف أو المجموعات التي لا ينطبق عليها وصف دولة، حيث لا إقليم لها، ولا سكان، ولا عقد قيادة، سيكونون أعداء غير تقليديين من نوع جديد؛ حيث يتمتعون بالمرونة، وبالترابط الشبكي، لا تحكمها هياكل تنظيمية محددة، ولا تعمل في إطار نسق عسكري واضح، ولا يمكن توقع أفعالها، أو ردود أفعالها، ولا تدور عملياتها على مسرح محدد، وهو سياق مختلف تماماً عن السياق التقليدي للحرب، وسيمثلون أكبر التحديات التي تواجه الدول والمنظمات الدولية في المستقبل وليس الأعداء التقليديين. ففي الوقت الذي يمكن لهذه المجموعات اللا تناسقية الآن استخدام إجراءات لاتصل إلى حد الحرب التقليدية، "مثل شن هجمات باستعمال أشكال شبكية متلائمة مع عصر المعلومات؛ حيث تستطيع الآن مجموعات صغيرة ومتنافرة أن تربط نفسها وأنشطتها شبكياً وتنسيق أعمالها عبر الإنترنيت فإن الطرف الثاني – الدول – لا يزال يعتمد على بنيات هرمية سلمية لا تناسب بشكل جيد التعامل مع هذه الشبكات ذات الطرد المركزي" .

وإذا أمعنا النظر في هذا النموذج، فسنجد أن الولايات المتحدة المتفوقة تستخدم كل الأسلحة الممنوعة في تلك اللحظة التاريخية ضد حركة المقاومة الفيتنامية . ومن الناحية العملية، لا يمكن للثوار ككتلة أن يصمدوا أمام هذه الآلة العسكرية، ولكن تبقي أمام المستضعفين استراتيجية واحدة: "وهي إطالة أمد الحرب، وزيادة تكاليف بقاء الخصم، فاستخدموا أسلوب حرب العصابات، وحروب الكر والفر، وحروب الغازات، والهجوم المضاد بمجموعات صغيرة . وقد كان بإمكان العملاق الأمريكي الضخم أن يدهس أي قوة تواجهه- وإن كانت كتلة كبيرة – ولكن عندما تكون الهجمات من مجموعة من البراغيث التي تلسع الأجسام الكثيرة. وهكذا، استمرت عملية لي الذراع أو العض المتبادل . وكانت الحرب حرب إرادات، وجهت فيها الولايات المتحدة كل آلاتها الإعلامية والدعائية وكل إجراءاتها لإقناع الطرف الآخر- وهم الفيتناميون – باستحالة تحقيق أهدافهم وحتمية هزيمتهم " .

ثم ماذا كانت النتيجة؟! انتصر الطرف الأضعف علي الطرف الأقوى، لم يعد الفيل قادراً علي الصمود، وأصبحت تكلفة البقاء أكبر بكثير من الفائدة من البقاء وانتصرت الإرادة، ولم تنكسر نفسية الفيتناميين. من أين جاءت هذه النتائج التي قلبت المعادلة ؟! إذا اتفقنا علي أن "الولايات المتحدة حاربت الفيتناميين بنسبة 20 % للحرب النفسية، 80 % لحرب الآلة، فقد استطاعت المقاومة الفيتنامية قلب المعادلة، بحيث أصبحت 80 % حرباً نفسية، و 20 % حرب آلة، لأنه إذا ما تم كسر إرادة الخصم، لم يعد هناك حاجة إلي استخدام الأدوات . فالأدوات فقط من أجل إقناع الطرف الآخر بعدم جدوي المحاولة، بحيث يقع في روعه الشعور بعقم المقاومة وحتمية الهزيمة" .

ومن فكرة حرب العصابات بزغت فكرة حروب الجيل الرابع فى أواخر حكم الرئيس بوش الابن، وأوائل حكم الرئيس أوباما كتعويض لحروب الجيل الثالث التي فشلت بسبب تكاليفها المادية الباهظة؛ حيث "أخذت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في الاستمرار نحو تحقيق مخططها لتفتيت الوطن العربي الذي بُني من قبل، ولكن بصورة جديدة هنا وهي إثارة الفتن، وتقليب الشعوب ضد مؤسسات الدول المستهدفة، وإثارة حالة من الفوضى العارمة، بحيث تدمر الدولة نفسها بنفسها، من خلال إنهاك مؤسساتها وإرباكها والسعي لتحطيم اقتصادها، مستغلين بذلك الانفلات الأمني الحادث، ثم سقوطها لإعادة البناء بما يلائم المصالح الأمريكية والغربية" .

وتستعين أمريكا بأعوان لها من الداخل علي مقدرة عالية لاستقطاب أكبر عدد من التابعين الذين تستقطبهم، من خلال سيطرة العمليات السيكولوجية علي العقول وتأثيراتها، فتكون بمثابة قنابل تغزو العقول لاجتذاب أكبر عدد ممكن من المتبنين لهذا الفكر المدمر، وهذا "ما يعرف بالأسلحة الذكية، وتعد وسائل الإعلام المأجورة والعميلة أهم آليات التنفيذ" .

من كل ما سبق يتضح لنا أن حرب العصابات تمثل شكلاً خاصاً من أشكال القتال يدور بين قوات نظامية، وبين تشكيلات مسلحة تعمل في سبيل مبدأ بالاعتماد على الشعب أو جانب منه، وتستهدف تهيئة الظروف الكفيلة بإظهار هذا المبدأ أو هذه العقيدة إلى حيز التطبيق... وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

الأوهام العثمانية والفخ الامريكي

التفاصيل
كتب بواسطة: د. باسم عثمان

باسم عثمانهواجسها ومخاوفها من تداعيات تحرير إدلب، دفعها لاستعجال تأزيم الأوضاع ولقبولها بما كانت ترفضه، ولاستعجال استنساخ الكيان الإسرائيلي شمالا ًوشرقا ًبالنكهة التركية والانفصالية، ودَعَتها "منطقة اّمنة"، رغم التكريد والتتريك على غرار التهويد، ورأت في انفصالييها وأردوغانها، عكاز بقائها اللاشرعي على الأراضي السورية، والذي رأى نفسه ضامنا ً للحلم العصملي، وراّه السوريون عدوا ًوقحا ًضامنا للإرهاب والاحتلال البائد لا محالة، واعتبروها فرصة لاستلاب السيادة ولإبراز العضلات بالوكالة، لكنهم بَدوا تائهين وربما سيتحولون إلى نادمين، فهذه سوريا ليست مشاعا لعربدتكم وأوهامكم.

ان الغزو التركي على شمال سوريا ما كان ليحصل لولا الضوء الأخضر الأمريكي الذي أعطاه ترامب لاردوغان بالانسحاب الأمريكي من الشمال السوري، ولولا الخلل في العلاقات الدولية التي نسفتها السياسة الامريكية الخرقاء وتدخلها السافر في شؤون الدول دون مراعاة للأعراف و القوانين الدولية.

ان السياسة أحادية الجانب التي تمارسها أمريكا ضد شعوب العالم و سيادة أراضيه، في تجاهل تام للشرعية الدولية وهيبة مؤسساتها، وهو ما جعل اردوغان يتجاهلها و يعلن جهارة عن نيته بغزو بلد جار دون أي رادع كما تفعل الإدارات الامريكية و الكيان الإسرائيلي.

اللافت للانتباه، ان العدوان التركي على الأراضي السورية جاء تحت ذريعة محاربة " داعش" الإرهابية، بينما الواقع يقول، ان المدن التي يقصفها الجيش التركي بكل أنواع الأسلحة الثقيلة و الخفيفة، مثل راس العين وتل ابيض، هي من حررت أراضيها من بطش واحتلال "داعش" لها.

في البداية لم يكن السوريون يعرفون الكثير عن مّا سُمى “قوات سورية الديمقراطية” ولا عن أهدافها، لكن الأيام كشفت نوايا مطلقي هذا المشروع المشبوه و يقوم على الطاعة العمياء للسيد الأمريكي، وبادعاءات محاربة الإرهاب، فقد رأى العالم كله مرور وعبور الإرهابيين وإمداداتهم عبر مناطق سيطرة ميليشيات “قسد”، وكان لهم “شرف” حضور حفلات نقل الدواعش عبر الحوامات الأمريكية إلى غير جبهات، لكن الرئيس ترامب حافظ على ذريعة وجود وتسليح ميليشيات “قسد”، والتي احتفظت بدورها عبر مخاوفها من العدو التركي و حججها المزعومة ب ”حقها بالدفاع عن نفسها” ومناطق “احتلالها”.

الدّور التركيّ “الاردوغاني” في سوريّا:

1- استغلّت تركيّا علاقاتها مع العالم الغربيّ (أمريكا والاتّحاد الأوروبيّ ولاحقاً روسيّا)، في محاولتها الأخذ بزمام المبادرة في “الأزمة السّوريّة”، واعتبار نفسها لاعباً قويّاً، يُحسب لها حسابها في كافّة معادلات الحلّ النهائيّ، من خلال استغلالها للجوار الجغرافيّ.

2– طرح نفسها كدولة إقليميّة مؤثّرة وذات أهميّة استراتيجية بالنسبة لمصالح الدّول الغربيّة.

3– استخدام ذريعة “متطلّبات الأمن القوميّ التركيّ” للجم أيّ تحرّك دوليّ أو إقليميّ يقف في طريق اطماعها السياسية، مستغلة الورقة الكردية ( كمسمار جحا) في حسابات اجندتها الإقليمية.

4– التسهيل للعناصر المتطرّفة الارهابية القادمة من كافّة أصقاع العالم، باستخدام أراضيها ممرّاً لهم للوصول إلى سوريّا، ودعمها بكافّة أسباب القوّة العسكرية والانتشار.

5– استنزاف الاقتصاد السّوريّ، بفتحها المجال أمام المجموعات المسلّحة بسرقة ونهب المصانع والمنشآت الصناعيّة السّوريّة، ونقلها وبيعها في تركيّا.

6– بعد حشر تركيّا أهدافها ودورها في سوريّا بمحاربة “الكرد”، غدت أداةً طيّعة بيد القوى الفاعلة، تبتزّها في العديد من القضايا والتي تعاملت معها بمبدأ “الصفقات”.

7– غياب أيّ توجّه استراتيجي تركيّ يذهب باتّجاه استقرار المنطقة وإزالة أسباب التوتّر، على العكس تماماً، تميّز الدّور التركيّ بتصعيد العنف وخلق صراعات هامشيّة بما تطيل من عمر” الأزمة في سوريا ”.

8-الإصرار غير المجدي في فرض رؤيتها على المجتمع الدّوليّ، وانكشاف حجم النفاق الذي تمارسه، من خلال دعوتها إلى حلول مجتزأة، لا ترقى إلى مستوى إنهاء “الأزمة السورية” بالطرق السلميّة.

9– خيبة الأمل الأمريكيّة، في توظيف الدّور التركيّ في كبح محاولات تمدّد قوى اقليمية في المنطقة، وانقلاب تركيّا على التّحالف الدّوليّ في محاربة تنظيم “داعش”، والالتفاف إلى محاربة “الكرد” وهندسة القوى الحليفة لها وفق هذه الذّهنيّة والتوجّه.

 الحقيقة السورية:

الدولة السورية أعلنت عن موقفها الرافض لأي مشروع تقسيمي، وتحذيرها لكل من "تسول له نفسه النيل من وحدة أرض وشعب الجمهورية العربية السورية تحت أي عنوان"، وتأكيدها مرارا ً أن "طرح موضوع الاتحاد أو الفيدرالية يشكل مساسا ًبوحدة الأراضي السورية"، وأنه "يتناقض مع الدستور والمفاهيم الوطنية والقرارات الدولية" وأنه " لا قيمة ولا أثر قانوني له"، واعتبرته عملا ًداعما ً للإرهاب، وأنه يصب في خانة إضعاف سوريا، وأنها ترى في أي تواجد لا شرعي ”عسكري” على أراضيها هو مجرد احتلال.

لكن هذا لم يردع الانفصاليين، واستمروا في العمل على تكريس الانفصال، وأقاموا هياكل الجسم الفيدرالي – التقسيمي، واستولوا على كافة مصادر الثروات المتنوعة على امتداد الشرق السوري، وبنوا بأيديهم القواعد الأمريكية، وحفروا الخنادق حول القواعد الفرنسية، وقاموا بتنفيذ كل ما من شأنه خدمة المشروع الأمريكي-الصهيوني.

ولعبت الإدارة الأمريكية على الحبلين التركي والانفصالي، ومضت في استغلالهما إلى أبعد مدى، فقد رفضت “المنطقة الاّمنة التركية” على مدى ثمان سنوات، ورفضت سحب السلاح الأمريكي من أيدي الانفصاليين، وحافظت على النقيضين، فالأتراك يتمسكون بادعاءات “امنهم القومي” وبمنع قيام أي شكل سياسي لكيان كردي لطالما دعاه الرئيس أردوغان بالإرهابي، فيما يمضي الانفصاليون تحت العباءة الأمريكية بتكرار مخاوفهم من عدوان تركي يجتاح مناطقهم من خلال علاقة تكافلية لم يعد بالإمكان إخفائها.

ومن الواضح أن مطالبة كلا الطرفين التركي والانفصالي بإنشاء المنطقة الاّمنة، أنهما يتفقان على اغتصاب الأرض السورية لكنهما يختلفان حول السيطرة، فأردوغان يريدها مناطق نفوذ تركي ولا يمانع بالإبقاء على مناطق الإدارة الذاتية وبهيمنة المكون الكردي من باب “الرشوة”، فيما يريدها الانفصاليين منطقة اّمنة بقرار دولي أو أمريكي تمنحهم أحقية السيطرة عليها وإدارتها.

واذا صحت الانباء عن دعوة ما يسمى " الإدارة الذاتية الكردية" لروسيا للقيام بدور الضامن في حوار مع الحكومة السورية، ستكون خطوة في غاية الحكمة يقوم بها الاكراد، رغم انها جاءت متأخرة جدا، فلا خيار امام الاكراد الذين غدرت بهم أمريكا واصبحوا ضحية للأطماع "العثمانية" الجديدة،الا العودة الى حضن الوطن، و الوقوف الى جانب الجيش العربي السوري من اجل سحب البساط من تحت اقدام الطامعين الجدد بارض و ثروات الشعب السوري.

وكما يبدو ان اردوغان وقع في الفخ الأمريكي الذي نصب له،مدفوعا بحفنة من الأوهام "العثمانية" الجديدة وهو في سكرة اطماعه، والتي ستاتي عليه و على حزبه وتنهي حياته السياسية الى الابد، وكل الشعارات التي ترفعها تركيا حول دعمها للشعب الفلسطيني ومساندتها للشعوب العربية الثائرة ضد الظلم والاستبداد أو دعمها لما يسمى نهج "الإسلام المعتدل"... الخ،لا يمكنه اخفاء مطامعها ورغبتها بالهيمنة وكراهيتها وحقدها التاريخي الموروث للعرب وللمشروع القومي العربي، وأنها عضو في الحلف الأطلسي، وتدخلها في الشؤون الداخلية للدول العربية ودعمها لجماعات "المعارضة" فيها يؤكد ذلك، كما أن أطماعها في سوريا ليست جديدة وقضية لواء اسكندرون السوري الذي تحتله تركيا ما زالت حاضرة.  

في الوقتٍ الذي تراقب فيه واشنطن الاندفاعة السورية – الروسية نحو تطبيق بنود اتفاق (سوتشي) بالقوة العسكرية، وربما إلى أبعد من ذلك فتحرير إدلب بات “قاب قوسين او أدنى”.

سوريا ليست فقط مهد الحضارات القديمة و طريق الحرير،هي الرقم الصعب الغير قابل للقسمة لا في أوهام الطامعين ولا في اجندات الانفصاليين  الانتهازيين، قالتها دمشق و ستقولها " يا خوف عكا من هدير البحر".

 

د. باسم عثمان

كاتب وباحث سياسي

 

أحتجاجات الكرامة في العراق وخطبة المرجعية الدينية

التفاصيل
كتب بواسطة: د. عامر صالح

عامر صالححمل رجل الدين، علي السيستاني، يوم، الجمعة أمس، الحكومة العراقية والأجهزة الأمنية مسؤولية مقتل متظاهرين وعدم حمايتهم في الاحتجاجات الدامية التي شهدتها البلاد، الأسبوع الماضي، وأودت بحياة أكثر من مئة شخص وآلاف الجرحى ومئات المعتقلين. ويعتبر السيستاني المرجعية الدينية العليا للشيعة في العراق، وقال ممثله عبد المهدي الكربلائي، خلال خطبة صلاة الجمعة في كربلاء، إن "الحكومة وأجهزتها الأمنية مسؤولة عن الدماء الغزيرة التي أريقت في مظاهرات الأيام الماضية"، محددًا مهلة أسبوعين للسلطات كي تعلن نتائج تحقيقاتها. 

وأضاف الكربلائي أن ما حصل عبارة عن "مشاهد فظيعة تنم عن قسوة بالغة فاقت التصور وجاوزت كل الحدود"، معتبرا أن الحكومة مسؤولة "عندما تقوم عناصر مسلحة خارجة عن القانون، تحت أنظار قوى الأمن، باستهداف المتظاهرين وقنصهم، وتعتدي على وسائل إعلام معينة بهدف إرعاب العاملين فيها".

بعيدا عن الجدل المستديم والدائر على أشده بخصوص التعقيدات الناتجة من زج الدين والمرجعيات الدينية في السياسية في الوضع العراقي ما بعد سقوط النظام الدكتاتوري في عام 2003 وما جلبه هذا التدخل من آثار سببت في خلق مزاج غير مواتي لبناء عملية سياسية بعيدة عن زج الدين في دهاليز السياسه، الى جانب اشتداد الطائفية السياسية والأحتقان الجغروطائفي، وأشتداد ساعد الاحزاب الاسلاموية، نرى ان خطبة الجمعة اليوم 11-10-2019 جسدت بوضوح كافي ادانة الحكومة العراقية واجهزتها الأمنية والعسكرية في ارتكابها إراقة الدماء بين شباب انتفاضة أكتوبر، كما طالبت الحكومة بالتحقيق العاجل ومعرفة كل التفاصيل ومن هو المسبب لذلك او ما اسمته المرجعية" بغزارة الدم "، كما اعطت المرجعية الشرعية الكاملة لأحتجاجات الشباب المطلبية بعيدا عن التهم الجاهزة الموجه لهم من قبيل العمالة و تنفيذ اجندات خارجية ورأت في مطالبهم كل الحق، كما أكدت المرجعية انها لم تقف ولا تدعم اي حزب بعينه من الأحزاب الحاكمة.

نعتقد ان هذا الخطاب وبفعل تأثر شرائح اجتماعية فيه اعطى قوة دفع اضافية للمحتجين في الأصرار على انتزاع حقوقهم والكشف عن مرتكبي جرائم القتل والقنص، وأكد عدم وقوف المرجعية الى جانب الحكومة، ومطالبتها بمحاسبة مرتكبي الجرائم، وهذا يعني لدى الشرائح المتأثرة بالمرجعية وخطبها الدوريه سقوط لشرعية افعال الحكومة واحزابها الحاكمة اتجاه المحتجين، وقد يجد موقف المرجعية انعكاساته في استمرارية زخم الأحتجاجات واتساعها في الذهنية المؤمنة بالمرجعية والمساهمة في احتجاجات اكتوبر العراقية. بالتأكيد ان خطاب المرجعية لا يخلو من محاولات امتصاص غضب الشارع الذي يلقي اللوم علبها في عدم وضوح موقفها من الحكومة وضبابيته في مناسبات كثيره وخاصة ان المرجعية لها اليد الطولى في تصميم النظام في بداياته الأولى.

نرى اليوم أن المرجعية وبعد كل الدماء التي سالت والتي سببها الصراعات الطائفية السياسية ونظام حكم بني على اساس المحاصصة الطائفية والاثنية المريضة والذي لا يستجيب لأبسط مستلزمات العيش الكريم، وساهمت المرجعية في ترسيخه ووضع لبناته الاولى بالاتفاق مع قوى الاحتلال الامريكي والاحزاب الاسلاموية الطائفية، ان المرجعية اليوم مسؤولة اخلاقيا ودينيا وشرعيا عن الدماء التي تراق. ومن هنا جاء خطاب المرجعية يوم الجمعة منتفضا على ما هو سائد وعبثي ومنتهكا لكل الحرمات الدينية والانسانية، وبغض النظر عن توقيته ودوافعه ومديات سقفه، إلا انه يشكل محاولة لردع السلطات الحكومية المتمادية والمستهترة بالدم العراقي.

ولعل ابرز ما ورد في خطاب المرجعية هو: ادانتها ورفضها للأعتداءات التي تعرض لها المتظاهرون وكذلك عدد من القوات الامنية، وصفها للمتظاهرين بأنهم سلميون، حديثها عن سقوط آلاف بين جرحى شهداء في بغداد والناصرية والديوانية وغيرها،  تأكيدها بأطلاق النار على متظاهرين سلميين، اعتداء على قنوات فضائية ووسائل اعلامية لمنعها من نقل ما يقع من احداث في ساحات التظاهر، تحميلها الحكومة وأجهزتها الأمنية مسؤولية الدماء الغزيرة التي أريقت في مظاهرات الأيام الماضية، سواء من المواطنين الأبرياء أو من الأجهزة الامنية، تأكيدها مسؤولية الحكومة عن قيام بعض عناصر الأمن باستخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين، ولو بسبب عدم انضباطهم وانصياعهم للأوامر، مطالبتها بقوة للحكومة والجهاز القضائي بإجراء تحقيق يتسم بالمصداقية حول كل ما وقع في ساحات التظاهر، ثم الكشف أمام الرأي العام عن العناصر التي أمرت أو باشرت بإطلاق النار على المتظاهرين أو غيرهم، وعدم التواني في ملاحقتهم واعتقالهم وتقديمهم إلى العدالة مهما كانت انتماءاتهم ومواقعهم، تأكيدها مجددا على وجوب المضي في المشروع الإصلاحي من مكافحة الفساد المالي والإداري وتحقيق درجة من العدالة الاجتماعية، والذي شرطه أن يتم فرض هيبة الدولة، وضبط الأمن وفق سياقاته القانونية، ومنع التعدي على الحريات العامة والخاصة التي كفلها الدستور، تأكيدها الانحياز للمظلومين والمحرومين من أبناء الشعب، بلا تفريق بين انتماءاتهم وطوائفهم وأعراقهم، تأكيدها عدم انحيازها إلا إلى الشعب، وعدم دفاعها إلا عن مصالحه، وعدم مداهنتها لأحد أو جهة فيما يمس المصالح العامة للشعب العراقي.

بالتأكيد لا اريد القول هنا انها بداية القطيعة بين الاحزاب الاسلامية الحاكمة والمرجعية الدينية في النجف، حيث تتداخل وتشابك المصالح بين عناصر وقيادات من الاحزاب الاسلامية وبين عناصر ورموز من العاملين في المرجعية، وهذا نوع من تشابك المصالح وتداخلها بين الاسلام السياسي وبحثه عن شرعية للبقاء عبر استمالة رموز من المرجعيات، ولكن اقول ان هول الاحداث وما يجري للعراق من خراب شامل وضع المرجعية امام اعلان حالة الطلاق مع الاحزاب الحاكمة" ولو جزئيا " وعلى مرأى ومسمع من الشعب، فهي تبرئة لازمة نفسيا، رغم انها ليست الحل، وانما الحل بيد الشعب وحده صاحب المرجعية الوحيدة في التغير الشامل ونقل العراق الى مصافي الدول المتحضرة، يحترم فيها الدين والسياسة ". وما دامت هناك تأثيرات للمرجعية الدينية في عقول الكثير فأن موقف المرجعية اليوم يضيف الى طاقات الشباب المنتفض طاقات مضاعفة نحو التغير الشامل لنظام الفساد والمحاصصة الطائفية والاثنية.

 

د. عامر صالح

 

تورط تركيا في المستنقع السوري.. إلى أين!

التفاصيل
كتب بواسطة: بكر السباتين

بكر السباتينتستمر العمليات العسكرية التركية شرق الفرات وسط تضارب في المواقف الدولية إزاءها.. فقد أعلنت وزارة الدفاع التركية يوم أمس الجمعة، القضاء على 219 عضوا لحزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية منذ بدء عملية “نبع السلام” العسكرية في شمال سوريا، في حين قتل ستة أتراك وأصيب ستة عشر آخرون جراء سقوط قذيفة هاون أطلقت من الجانب السوري على مركز مدينة أقجة قلعة الحدودية التركية حسب البيانات التركية.

وفي سياق متصل أعلن كل من، جبهة العمل الوطني لأكراد سوريا، وتجمع السوريين الأكراد الأحرار، عن دعمهما لعملية “نبع السلام” التي أطلقتها القوات التركية والجيش الوطني السوري شرقي نهر الفرات.

جاء ذلك في بيان مكتوب بشأن العملية العسكرية شمالي سوريا ضد قوات سوريا الديمقراطية الكردية متهمة إياها بممارسة الظلم في حق الشعب السوري من العرب والأكراد، وبأنه يجند الأطفال والشبان في صفوفه تحقيقاً لغايات خبيثة في المنطقة، مشيراً إلى أنهم أجبروا العديد من السكان على ترك منازلهم في المدن التي احتلوها، بينما تم اعتقال التنظيم لكثير من الأكراد وممارسته لانتهاكات حقوق الإنسان في المنطقة.

بالمقابل قالت قوات سوريا الديمقراطية الكردية إن الضربات الجوية والقصف التركي خلَّف مقتل تسعة مدنيين في شمالي شرقي سوريا منذ أن بدأت أنقرة هجومها في المنطقة، كما أعلنت عن مقتل اثنين وعشرين من مقاتلي المليشيات التابعة لتركيا وخمسة جنود أتراك وتدمير خمس آليات تابعة للجيش التركي.

وقد توعد الأكراد بالرد على عملية الأتراك العسكرية الجديدة بـ "حرب شاملة". وفي محادثة مع "نيزافيسيمايا غازيتا"، أكد عضو المؤتمر الوطني الكردي، فرحات باتييف، أن قوات كردستان السورية ليس لديها خيار سوى الدفاع. ووفقا له، فإن مهمة القيادة التركية هي احتلال الأراضي من محافظة إدلب إلى محافظة دير الزور. و"هذا تكرار لقصة قبرص، التي تم تقسيمها إلى الجمهورية التركية لشمال قبرص وقبرص نفسها"، وقال لـ"نيزافيسيمايا غازيتا": "في حالتنا، الحديث يدور عن إنشاء جمهورية شمال سوريا التركية".

وقد دفعت العملية العسكرية في الشمال السوري عشرات آلاف الأسر إلى النزوح من منازلهم، وقالت مصادر أهلية أن عدد كبير من الأسر باتت بلا مأوى وتمكث بالعراء وإن أعداد النازحين تزداد بشكل كبير ما ينذر بكارثة إنسانية خطيرة.

إن دخول تركيا الأراضي السورية عسكرياً لم يكن اعتباطياً فقد تهيأت له تركيا جيداً، ويجيء ذلك لعدة أهداف تتجلى فيما يلي:

أولاً: ضرب الأكراد وعمل مناطق آمنه لسد منافذ الدعم اللوجستي إلى المنظمات الإرهابية كداعش والحزب العمالي التركي المتمركز في تلك المناطق المحاذية للحدود التركية السورية إلى جانب القوات السورية الديمقراطية الكردية.

ثانياً: إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم وتحديداً منطقة العمليات العسكرية التي تضم قرى كثيرين منهم، حيث غادروها بسبب الحرب الأهلية السورية، وخاصة أنهم باتوا يحرجون موقف أردوغان الداخلي والإقليمي.

ثالثاً: وبناءً على تحقيق الهدفين السابقين، يتمكن حزب التنمية والعدالة ممثلاً برئيسه رجب طيب أردوغان من استعادة شعبيته في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وخاصة أن ما يقلق الحزب هو بروز منافسين في المعارضة التركية ومنشقين من داخل الحزب نفسه، باتوا يطرحون معضلة اللاجئين كأحد أخطاء الرئيس أردوغان، لذلك يسعى الأخير بسرعة لسحب هذه الورقة وتحويلها لصالحه.

رابعاً: وهناك سبب آخر تجتمع عليه كل من إيران وسوريا وتركيا ويتمثل بقطع الطريق على العدو الإسرائيلي من استكمال مشرعه في تعزيز استقلال الدولة الكردستانية الموحدة التي تضم كردستان العراق وشرقي الفرات. فالخبراء العسكريين الإسرائيليين يشرفون على بناء حزب الحياة الكردي "البيجاك" المرتبط وجدانياً واستراتيجياً مع الأكراد شرق الفرات. إن كردستان الكبرى من شأنها لو كتب لها النجاح أن تشكل خطراً داهماً على تلك الدول الإقليمية وخاصة أن الدعم اللوجستي الإماراتي متوفر.

وتجدر الإشارة إلى أن عملية “نبع السلام” لم تأت من باب العمل الإنساني كما يروج لها الإعلام التركي، لأن أردوغان نفسه هو من هدد أوروبا قبل أيام بطرد اللاجئين السوريين في حال لم يدفع الأوربيون ثمن إقامتهم في تركيا، وكثير منهم تم اعتقاله واقتياده عنوة ورميه في ادلب سوى أصحاب الرساميل من السوريين الذين أسهموا في إنعاش الاقتصاد التركي. أي أن أردوغان أخذ يمارس لعبة شن حرب خارجية محسوبة؛ لدعم موقفه في الداخل وحرف أنظار الشعب والنخبة عن الأزمات الداخلية التي تواجه حكمه مؤخراً، حيث لم يعد يجديه نفعاً من الناحية الجماهرية في أنه يعتبر المنقذ لتركيا حيث جعلها مزدهرة فدخلت البلاد بعهده في منظومة دول العشرين ودول نادي باريس الست؛ فالشعب يهمه أكثر تداعيات الوضع الراهن المتأزم بسبب أزمة اللاجئين السوريين في تركيا، وخطر حزب العمال الكردستاني المتمركز شمال سوريا، وعليه فإن نتائج العمليات المحتملة ستحقق له ذلك، كونها ستؤدي إلى أبعاد القوات الكردية المسلحة عن حدود تركيا وتعيد اللاجئين إلى ديارهم.

ويركز خصوم أردوغان إعلامياً على أنه من سعى وعمل على تقويض قوة وسلطة الحكومة المركزية السورية والجيش السوري في مناطق الشمال السوري برمته ناهيك عن شرق الفرات لا بل ساهم في جلب خطر التنظيمات الإرهابية التي يسعى لمواجهتها في هذه العملية الاستراتيجية.. وخاصة بروز القوات المسلحة الكردية التي يقول أردوغان اليوم أنها تهدد الأمن القومي التركي. وإيغالاً في الخطأ فهو يجحفل في حملته قواتٍ محسوبة على المعارضة السورية ما يعني أن الخاصرة التركية ستظل ملتهبة، حيث سيحل سكان آخرون محل أبناء المنطقة، ومن ثم سيتم تسليمها أمنياً وعسكرياً لتلك القوات السورية المحلية التي تتبع لتركيا، والرهان على ذلك يعد قصر في الرؤية الإستراتيجية لأنه لا ثوابت في السياسات الاستراتيجية في إقليم تتحكم به القوى الإقليمية، وقد يؤدي ذلك إلى عودة داعش ومثيلاتها مدعومة من السعودية والإمارات والعدو الإسرائيل المتمركز في كردستان العراق.

وفي سياق متصل فقد توالت المواقف الدولية ما بين مؤيد أو معارض لهذه العملية التي ترى تركيا بأنها ستحفظ الأمن القومي التركيا، وهي عملية محدودة، فقد أيدت قطر العملية العسكرية التركية. وبعض الدول الكبرى أيدت العملية بصمت، من خلال الانتقاد الخجول للعملية التركية العسكرية شمال سوريا ضد الأكراد على نحو ما فعلت كل من روسيا وإيران وربما سوريا نفسها، على اعتبار أن العملية جاءت من باب تحقيق الأمن القومي التركي ومحاربة الإرهاب وتنسجم مع اتفاقية أضنه التي أبرمت عام ١٩٨٦ بين البلدين، ويجيء هذا التأييد المبطن من قبل تلك الدول؛ لتلاقي المصالح في هذه الضربة العسكرية الموجعة.. ولكن هل تتساوى حسابات البيدر والحقل اعتماداً على التحالفات في الحروب التي تتبدل فيها موازين القوى والاستراتيجيات، والتي تتقلب فيها النتائج والمفاجآت، وهذا لا تثير الاطمئنان. ولا أستبعد أمريكا من هذا السياق رغم مناصبتها العداء لأردوغان على أرضيّة صفقة صواريخ "إس 400" الروسيّة، كونها هيأت للعمليات العسكرية شرق الفرات بانسحابها ميدانياً.

وكان مجلس الأمن قد فشل في تحديد موقفه من العمليات العسكرية التركية في العمق السوري، لتوافق الرأيين الروسي والأمريكي الداعمين للعملية بطريقة غير مباشرة، حيث لم يتمكن أعضاء المجلس من الاتفاق على بيان رسمي بشأن العملية . حيث أفادت وكالة "أسوشيتد برس" بأن الاجتماع المغلق لمجلس الأمن شهد اختلافات في مواقف الدول لم تسمح بإصدار البيان. فقد أفادت مصادر دبلوماسية لوكالة "الأناضول" التركية بأن الخلاف الرئيسي كان حول عبارة "الإدانة" للعملية العسكرية، مشيرة إلى أن الولايات المتحدة وروسيا عارضتا البيان. وأكدت المندوبة الأمريكية الدائمة لدى الأمم المتحدة كيلي كرافت، بشأن الموقف الأمريكي في أن الرئيس دونالد ترامب "كان واضحاً للغاية" حول أن الولايات المتحدة لم تدعم بأي شكل من الأشكال القرار التركي بشن العملية العسكرية. وهذا بحد ذاته ليس إدانة. إلا أنه لم يمنع من تلويح الكونغرس الأمريكي بفرض العقوبات ضد تركيا والتي لن تكون مجدية، لأن البنك المركزي التركي بادر إلى سحب احتياطي الذهب التركي من نظام الاحتياطي الفدرالي الأمريكي في عام 2017، حيث بلغ 28.7 طن من الذهب.

وعلى صعيد أوروبي، قال وزير الدولة الفرنسي للشئون الأوروبية إميلي دي مونتشالين إنه سيتم بحث فرض عقوبات محتملة على تركيا في قمة الاتحاد الأوروبي الأسبوع المقبل.

وقالت السويد إنها ستستعى للحصول على دعم على مستوى الاتحاد الأوروبي لفرض حظر على تصدير السلاح إلى تركيا خلال مباحثات الاثنين. غير أن ذلك قد يكون أيسر للتنفيذ على مستوى الدول، حسبما قال دبلوماسي أوروبي في بروكسل.

لكن المعارضة الأشد لهذه العملية العسكرية الضخمة على صعيد عربي جاءت من الموقف الإماراتي والمصري؛ ربما لثأر مبيت مرده موقف أردوغان المؤيد لقطر.. (الموقف السعودي المعارض تحول إلى مؤيد للخطوة التركية ربما من باب المراوغة والتكتيك لتنأى بنفسها عن الشبهات مستقبلاً، أو لضغوطات خارجية تعرضت لها المملكة، من أمريكا مثلاً).

وفي محصلة الأمر يطرح السؤال نفسه فيما لو تعلمت تركيا من التاريخ بأن الحرب ليست نزهة وحساب البيدر لا يساوي حساب الحقل وأنها قد تكون وقعت في فخ أراده لها الخصوم لذلك تراوحت مواقفهم ما بين مؤيد أو متفرج ساكت عن إبداء الرأي أو رافض.. فخ يستهدف شخص أردوغان لاستنزاف قواته.. فليس مستبعداً على سبيل المثال وهذا وارد في حروب المنطقة، وصول صواريخ بالستية إلى القوات الكردية بوسعها ضرب العمق التركي، وإصابة مدن مثل اسطنبول وأنتاليا ومرسين في مراحل يكون فيها الجيش التركي في العمق السوري.. فالأيادي الخفية تنتظر دورها في هذه المواجهات المنتظرة! وأعداء تركيا يبحثون عن أدوار لهم وخاصة السعودية التي تباكت على الأكراد ووعدت بالوقوف إلى جانبهم، وبالطبع الطريق الوحيد لتقديم هذا الدعم الموعود سيكون بالسلاح وربما بالمقاتلين من الجماعات التي تدعمها السعودية. هذا إذا أدخلنا في حساباتنا الدور الإسرائيلي والإماراتي في دعم القوات الكردية في إقليم كردستان، حزب الحياة الكردي "البيجاك" المرتبط وجدانياً واستراتيجياً مع الأكراد شرق الفرات.

إن ورطة تركيا ستكون وخيمة فيما ذهبت إليه في هذه العمليات العسكرية الكبيرة، ولعل أبسط مخرجاتها ستؤدي إلى إحراج موقف أردوغان أو إسقاط نهجه المختلف عليه داخلياً فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، ولا نريد أن نقول باحتمالية سقوطه إذا فشلت العملية لأن من يتربص به في تركيا لن يسكت إلى الأبد.

المستنقع السوري الذي تتوغل فيه تركيا متخم بالمفاجآت، والحرب سجال.. يوم لك ويوم عليك! اسألوا التاريخ القريب البعيد.

 

بقلم بكر السباتين..

12 أكتوبر 2019

 

مأساة العراق قصة تقرأ من خاتمتها

التفاصيل
كتب بواسطة: ثامر حميد

احتلت الأحداث الأخيرة في العراق مكانا هاما في التغطية الأخبارية لآنها اتسمت بالعنف والعنف المضاد بين الجماهير والأجهزة الأمنية وارتفاع عدد الضحايا من الطرفين. وربما ولو كانت المظاهرات منظمة وترفع شعارات مطلبية مدروسة حتى لو كانت سياسية، بل يجب أن تكون سياسيا، ولم ينجم عنها ضحايا بهذا لعدد الكبير لما راينا هذا الاهتمام لأن الدول التي تقف وراء الكثير من وسائل الإعلام لا يهمها بل يخيفها أن يكون المتظاهرون العراقيون منظمين ويطرحون شعارات مدروسة تمس الواقع السياسي في البلد ويخيفها أكثر مسارعة المؤسس السياسية إلى الاستجابة لمطالب الجماهير ليعكس حقيقة أن العلاقة بين السلطة والحاكم لم تعد علاقة إخضاع بل إرضاء.

وإنه لمبعث أسف أن يأتي سيل من الصورالمحرضة تروجه مواقع التواصل الاجتماعي  على يد بعض العراقيين من الجيل الأول والثاني للهجرة والذين حصلوا على جنسية البلدان المقيمين بها ذلك أن مبعثها ليس الخوف على العراق ومصيره  بل إلتحريض على مزيد من العنف. إن لسان حال هؤلاء هو: بما أني أكره الحكومة فيلحل الخراب في العراق.

ويصدر بعض من هؤلاء "فرمانا" يدعو الحكومة الأمريكية للتدخل "لإنقاذ" العراق ونحن نعرف أن أقرب الحكومات إلى قلب أمريكا عبر التاريخ هي الحكومات الفاسدة والسبب بسيط هو أن لا مصلحة للغرب بنجاح الدول الفتية في نموذج تنمية مستقل يعتمد الطاقات الذاتية وأن الأموال المنهوبة تذهب إلى خزائن الغرب. أين ثروات الخليج وأموال الرؤساء السابقين مثل مبارك وبن علي والقذافي،  اليست في بنوك أوربا؟ ولم تستطع الحكومات التي ورثت تلك الأنظمة أن تسترجع إلا النزر اليسير من هذه الأموال بينما لا تنفك الحكومات الغربية  الناهبة لهذه الأموال تلقن قادة دول العالم الثالث دروسا حول معايير "النزاهة" و"الشفافية" و"الحوكمة الرشيدة" .

ورغم أن العراقيين الحاصلين عى جنسية البلد الذي يقيمون فيه يمتلكون كامل الحقوق المدنية المنصوص عليها في دساتير تلك البلدان فلم نر أحدا منهم ينشر صورا في مواقع التواصل الاجتماعي تعكس مشاركته في احدى مظاهرات الاحتجاج الاجتماعي في ذلك البلد سوا كانت عمالية أم غيرها. وتتفتح قريحتهم على العجائب في ابتداع ما يؤجج العنف في بلدهم الأم.

وجريا على عادة الضعيف الفاقد الحجة يعلل كثير من هؤلاء موقفهم بالقول أن سبب البلاء هو أن الحكومات المتعاقبة تدين بالولاء لإيران. هؤلاء لا يقرأون أو يسمعون إلا ما يصدر عن المصادر المتخصصة بذم العراق. عندما تسلم سدة الرئاسة ظل الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد يتقاضى راتبه كمدرس في الجامعة  وظل يركب سيارته القديمة من طراز بيجو 504 موديل 1983. أما الرئيس الحالي روحاني فقد نشرت وكالة أنباء سبوتنك مؤخرا أن أخاه قد قدم للقضاء وحكم عليه بأربع سنوات بتهمة فساد مالي ولم يتدخل الرئيس في الأمر. ورغم سيل الإعلام المعادي لإيران القادم من الغرب ودول الخليج لم نسمع مرة واحدة من أعداء إيران المتربصين بكل نفس يصدر منها أن الفساد يستشري في صفوف الطبقة الحاكمة فيها. قد نختلف مع إيران في الكثير من سياساتها ولكننا لانستطيع أن نقول أن إيران صدرت لنا الفساد.

 إن حقيقة أن المتظاهرين ضد المؤسسة السياسية هم جميعا هم من الشيعة  يقوض كل ادعاء صادر من عناصر خارجية أو داخلية أن الحكومة ذات طبيعة طائفية لأن الطائفية تعني التمييز في المعاملة ومنح الحقوق والامتيازات بين المنتمين لطائفة معينة على حساب الطوائف  الأخرى..

وينص الدستور العراقي في المادة 22 على أن:

 " العمل حق لكل العراقيين بما يضمن لهم حياة كريمة"

 وفي المادة 30 على:

 اولاًـ تكفل الدولة للفرد وللاسرة ـ وبخاصة الطفل والمرأة ـ الضمان الاجتماعي والصحي، والمقومات الاساسية للعيش في حياةٍ حرة كريمةٍ، تؤمن لهم الدخل المناسب، والسكن الملائم.

ثانياًـ تكفل الدولة الضمان الاجتماعي و الصحي للعراقيين في حال الشيخوخة أو المرض أو العجز عن العمل أو التشرد أو اليتم أو البطالة، وتعمل على وقايتهم من الجهل والخوف والفاقة، وتوفر لهم السكن والمناهج الخاصة لتأهيلهم والعناية بهم، وينظم ذلك بقانون.

أين نحن من ذلك؟

وكما هو معروف فإن النص الدستوري ملزم لجميع السلطات ويستطيع اي مواطن عاطل عن العمل أو لا يتمتع بالتغطية الصحية أو الاجتماعية أن يحتج لدى المحاكم المختصة  لينال حقوقه. غير أنه من الناحية الواقعية فأن تكون بلدا نفطيا لا يعني بالضرورة أن على حكومة ذلك البلد أن تشغل جميع العاطلين عن العمل حتلى غير المؤهلين منهم  لأن ذلك يعني في الحالة العراقية  إمكانية حلول الكارثة  في أية لحظة في بلد يعتمد اقتصاده على ريع النفط بنسبة تفوق 90 بالمائة ونسبة ارتفاع الولادات الجديدة  فيه عالية جدا  لأنه بمجرد انخفاض أسعار النفط كما حدث زمن حكومة العبادي فإن الدولة لن تجد ما يكفي لدفع الرواتب. عندما انخفضت أسعار النفط في زمن الحكومة السابقة وانخفض سعر البرميل إلى 36 دولارا قبل أن يرتفع قليلا ليستقر لفترة من الزمن عند 40 دولارا صرح السيد العبادي أن واردات النفط  البالغة 40 مليار دولار سنويا  آنذاك لا تكفي إلا لدفع الرواتب..هذا يعني أن الحكومة لم يكن يبق لديها ما تصرفه على الاستثمار أو التشغيل أو تحسين البنية التحية ناهيك عن تغطية التكلفة الباهضة للحرب ضد الإرهاب فاضطر إلى السحب من احتياطي العملة (وهو مخالف للقانون) وإلى التداين من الخارج. أما حاليا فقد ارتفعت فاتورة الرواتب إلى 52 مليار دولار حسب تصريح رئيس اللجنة المالية في البرلمان هيثم الجبوري لإحدى المحطات الفضائية أي أن نصف الميزاينة تذهب لتغطية تكلفة الرواتب وإذا أضفنا التكلفة الإضافية التي ستنتج عن تشغيل مئات الآلاف حسب وعود رئيس الوزراء فإننا سنكون أما رقم مخيف.

ولا يعتبر العمل حقا دستوريا في الدول الغربية  و لا توجد قوانين تنص على ذلك رغم أنه منصوص علية في الاتفاقيات الدولية مثل العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذي صدر في أواسط القرن الماضي ووقعت عليه هذه الدول . وفي الدول الاشتراكية السابقة فقط كانت القوانين تنص على أن الحصول على عمل هو حق من حقوق المواطن. ولا ننكر أن الدول الغربية تضمن لمواطنها الحد الأدنى من الدخل الذي تؤمنه منحة البطالة والتي يعتبرها المواطن الغربي معيبة بحقه لأنها في مفهومه تجعل منه غير صالح للعمل أي عضوا غير نافع في المجتمع ويمتنع الكثيرون عن تسجيل أسمائهم في سجل العاطلين المستحقين للمعونة لذلك غالبا ما تجئ إحصاءات الغرب عن البطالة غير دقيقة.  أما عندنا فلا يشعر العراقي بالحرج وهو يتقاضى منحة من الضمان الاجتماعي رغم أنه يمارس عملا حرا يدر عليه دخلا يكفي لإعالته. قال وزير العمل والشؤون الاجتماعية السابق محمد شياع السوداني أن وجد على لائحة الضمان الاجتماعي (وهي مرادفة لمنحة البطالة في الدول الغربية) في إحدى محافظات العراق (إحدى محافظات الوسط لا أريد ذكرها) 26 ألف شخص يتقاضى منحة ضمان اجتماعي لا يستحقها لأن لديه مصدر دخل. وفي مقابلة أجرته معه مؤخرا  إحدى المحطات التلفزيونية   قال وزير العمل الحالي باسم الربيعي وهو يتحدث عن القروض التي تمنح لإقامة مشاريع صغيرة  أن الوزارة وجدت أن الكثير ممن استلموا قروضا بحجة تأسيس مشروع قد صرفوها أما لشراء سيارة أو للزواج أو للبناء.

وانت لو واجهت واحدا من هؤلاء الذين يتقاضون منحة اجتماعية دون حق أو يصرفون القروض في مجال غير ما هو مخصص لها  وسألته لماذا يفعل ذلك فسيكون جوابه: "يابة هي الحكومة كلها تبوك بقت علي". ("يبوك" بتخفيف الكاف عامية عراقية تعني "يسرق").

هنا تكمن المشكلة الكبرى فالفساد وما روج لها في وسائل الإعلام وما استقر في تلافيف عقل المواطن العراقي أصبح خط الصد الأمامي له ضد أي مسائلة عن سوء تصرف. من الملام؟ ليس المواطن في نهاية الأمر فالإنسان يبحث عن مثل يسترشد به فلا يجده فتكون مصلحته الشخصية هي المعيار حتى لو كانت على حساب جاره بل ابن أمه. 

إن واحدة من الأسباب الرئيسية لأن لا يتمكن رئيس السلطة التنفيذية من الخروج إلى الجماهير ومصارحتها بالواقع خاصة ما يتعلق بالقساد هي أن الجماهير لن تصدقه لأنها تعتقد، وهي محقة إلى حد كبير، أن المشكلة تكمن في أن الحكومات المتعاقبة لم تعمل  على محاربته. هنا أيضا لا يستطيع رئيس الوزراء أن يرد بحجة مضادة مفادة ان الحكومة عاجزة بسبب تورط أحزاب سياسية بالفساد أو التغطية عليه وأن البرلمان لا يتعاون معها بل يعرقل عملها وأن القضاء يتعرض للضغوطات والتهديد. فقط عندما  بلغ الضغط الجماهيري ذروته وترافق معه ضغط المرجعية الدينية  وجدت السلطة التنفيذية  الشجاعة الكافية لأن تدافع عن نفسها وتشير بإصبعها إلى البرلمان الذي حاول أن يرد بالتصريحات وبعض الوعود ويبقى أهمها طلبه من الحكومة ان تقدم إليه قائمة بالفاسدين الكبار لاتخاذ الإجراءات بحقهم.

ثم جاءت كلمة رئيس الجمهورية التي حددت المسؤوليات بوضوح ووزعت اللوم بشكل عادل.

 إن ما يجعل الجماهيرالعراقية تؤمن أن من حقهم جميعا أن توفر الدول لهم عملا هو ليس وعيها الحقوقي بل ما تعتبره حقها الطبيعي في بلد يعتمد على النفط  كمصدر أساسي للثروة  وليس العمل المنتج  الذي يحصل العامل مكافئا له من رب عمله وأن هذه الثروة توزع  بطريقة غير عادلة وتستحوذ المؤسسة الحاكمة والمتنفذين في جهاز الدولة على جزء كبير و يذهب جزء آخر كبير أيضا إلى جيوب الفاسدين دون رقيب أو حسيب. ويمكننا أيضا أن نلاحظ العناصر التالية المؤسسة للأزمة:

 أولا: انسداد الأفق لدى المواطن بسبب غياب التنمية الاقتصادية والاجتماعية والذي يعطل تفكيره ويجعله فاقد الحماسة في البحث عن الفرص وخلقها فالمبادرات الفردية لولوج سوق الانتاج  مفقودة أو محدودة جدا بسبب محدودية السوق والتي يقتصر نشاطها على التجارة  وبعض المهن الفنية والخدمية  التي لا تنتج قيمة مضافة تساهم في رفع  الطلب على سوق العمل مع غياب كامل للمؤسسات الحكومية التي تهتم بتوجيه المواطن نحو الاتجاهات التي يمكن ان يذهب نحوها لخلق فرصة وكيف يحصل على التمويل وتوفير التدريب الازم له حيث تدعو الحاجة. و عدا الحرب ضد الإرهاب والتي استهلكت الكثير من الثروة،  فإن الدولة لا تستطيع أن تصبح المستثمر الأكبر في السوق رغم امتلالكها الكتلة الأكبر من النقد  كما كانت الدولة العراقية في الزمن السابق لأنها دولة الاقتصاد الحر الذي يعتمد على القطاع الخاص كمحرك اساسي للتنمية وهذا لايمكن أن يحصل دون أن تتوفر لهذا القطاع الشروط الضرورية ليصبح  محركا. هذا التوجه الاقتصادي هو خيار مفروض من الخارج وقدرة الدول على رفض هذه الخيار محدودة إن لم نقل معدومة وغيرعملية وتجلب مشاكل أكثر من أن تحلها.

ثانيا: أن العمل الحكومي أصبح يدر دخلا سهلا دون متطلبات شاقة على المستوى الفكري أو الجسدي. ولم  تعد الكفاءة  معيارا للحصول عليه وتعج دوائر الدولة بموظفين لا يفعلون شيئا. في تصريح سابق له قال وزير الكهرباء أن 60 بالمائة من العمالة في وزارته فائضة عن الحاجة. ويمكننا بالطبع أن نفترض أن بقية الوزرات لديها نفس المشكلة. لذلك نجد كثيرا من طالبي العمل الحكومي لديهم نشاط اقتصادي تجاري ويحصول منه ما يكفي لعيشهم رغم ذلك لا ينفكون ينادون بالحصول على عمل حكومي خاصة منهم من يحمل شهادة مع ملاحظة أن هؤلاء لم يلجأوا يوما إلى العنف للتعبير عن مطالبهم. ويبدو لي أن ظاهرة العنف أي الاعتداء على رجال الأمن ثم الرد غير المتناسب من طرفهم لم يأت من متظاهرين يعانون من  الفقر والبطالة  فهاتين وحدهما ليستا عاملين حاسمين في توليد العنف أو الميل إلى ممارسته.إن قدح شرارة العنف في نفوس محتقنة ولكنها غير عدوانية جاءت من مجموعات منظمة.

ثانيا: الفساد المالي، أي ظاهرة سرقة المال العام (هنا يجب الإقرار أن سرقة المال العام أو أخذ العمولة  أو الارتشاء لا يشمل الطبقة السياسية أو التنفيذية العليا بل يسود في كافة دوائر الدولة في المحافظات المختلفة دون أن تفعل مجالس المحافظات شيئا لمكافحته). هذه الظاهرة لا تمدنا أية جهة موثوقة رسمية كانت أم مؤسسة خاصة بمعلومات تخص حجمها الحقيقي من حيث كمية المال المنهوب، أين ذهب المال، ما هي المنافذ التي يخرج منها المال، ما هي المؤسسات التي تتصدر قائمة الهدر والفساد، كيف تجري عملية مزادات البنك المركزي لبيع العملة ولمن تذهب العملة الصعبة المباعة، كيف يتصرف كبار التجار والمستوردين بالدولارات التي يشترونها،  ماذا فعلت عشرات البنوك التي تأسست عشية 2003 ولمن تعود ملكيتها وكثير منها كانت مهمتها غسيل الأموال وعشرات بل مئات من الأسئلة  التي يعتمد المواطن في معرفتها على الإعلام الخاص خاصة محطات التلفزيون. وفقط مؤخرا عرفنا أن قاعات البليار هي والبنوك التي تودع فيها الأموال المحصلة هي غطاء لتهريب الأموال وتبييضها ويتورط  بعض موظفي الدولة في العملية.

إن هذا العماء الذي يعيشه المواطن على مستوى المعلومة الصحيحة تجعله مستعدا لتصديق أي شئ يروج ضد الحكومة والمؤسسة السياسية الحاكمة ونتيجة لذلك فإنه يضع الجميع في سلة واحدة  فتأتي الأحكام الإطلاقية بأن الجميع فاسدون وهذا الأمر له تبعات خطيرة على مجمل النظام السياسي. ومن الطبيعي أن يحمل المواطن الحكومة المسؤولية الأولى  لأنها لا تعطيه الحقائق المتعلقة بأسباب تلكؤها كما وأنه ليس  مسؤولا عن حقيقة أن الحكومة أصبحت طرفا ضعيفا في المعادلة السياسية حيث تحولت الأحزاب إلى مراكز قوة والفساد إلى مؤسسة مخيفة قادرة على إدخال الرعب في النفوس التي تتجرأ على الكشف بما فيها القضاء.

إن هذا الموقف من السلطة السياسية يدفع بالمواطن إلى الانكفاء والسلبية وغير المبالاة وتصبح السلوكيات المضرة الصادرة من غيره ليست شأنه لأنه هو نفسه مستعد لممارستها لذلك نجد أنفسنا أمام  تحول خطير في القيم، من قيم الجماعة والتعاضد والتآزر إلى قيم الفرد والمصلحة الفردية ويصبح "البطل" هو من يجيد استغلال الفرصة ليحظى بأكبر جزء من الغنيمة.

ثالثا: الفوارق الاجتماعية الصارخة أي في الدخل إذ تجد قطاعات من الشعب تملك الكثير وتمارس البذخ بينما نجد قطاعات أخرى محرومة منه. فالسيارات الفارهة الغالية الثمن والفلل ذات الواجهات المكلفة تنتشر في كل مكان. صحيح أن الكثير منها أو ربما أغلبها يمتلكها كبار  التجار أو الأطباء  ولكن كثير منه ايضا  يملكها موظفون حكوميون  يفترض أن يصنفوا على أنهم من ذوي الدخل المحدود (الثابت والمعروف). ولم نعرف عن الحكومة أنها فرضت أية ضرائب دخل على هؤلاء لتصرفها على مكافحة الفقر والبطالة.

وخارج إطار المطالب الشخصية وعند الحديث عما هو عام لا يحس العراقي بأن تغيرا ملموسا  يطرأ على حياته وأن نوعية الحياة تتحسن مع مرور الوقت فسوء الخدمات وتهالك البنية التحتية والبروقراطية الحكومية القاتلة والعزلة المضروبة بينه وبين موظفي الدوائر التي يراجعها تلقي ضلالا ثقيلة على حيات اليومية  التي يستهلك جزء كبير منها على المراجعات. في مشهد كنت أرافق فيه صديقا  ذهب لمراجعة  دائرة التقاعد في إحدى المحافظات (لن أذكرها أيضا) وجدت أن علي أن ألج ممرات ضيقة بالكاد تتسع لمرور شخصين تأخذني يمينا ويسارا وأن سقوف البناية مكونة من سقائف من حديد "جينكو" يصطلي تحتها المراجعون، وأكثرهم كبار السن، حرا في الصيف  وسط عدم مبالاة من الموظف أزاء معاناة هؤلاء الناس الذين يتكومون أمام الشبابيك بانتطار أن تفتح فيتدافعون بينهم في مشهد مهين للكرامة ليسألوا أين وصلت أوراق معاملاتهم قبل أن يعود الموظف فيغلق الشباك في تكرار يبعث على الغضب. ولولا أن هؤلاء المتقاعدين قد تعلموا من الحياة الصبر ولو كانوا يمتلكون القابلية الجسدية  لكانوا في الصفوف الأولى مع المتظارهين. هكذا يكافئ من أفنى عمره بالعمل ظنا منه أنه سوف يستريح قليلا في نهاية العمر قبل أن يودع الحياة . وممن؟ من قبل موظفين شبان يفترض بهم أن يمتلكوا الحد الأدنى من الحس الإنساني أزاء من هم بعمر آبائهم و أجدادهم.

ونكرر القول أن مجالس المحافظات لا تجد أن تخفيف معاناة هؤلاء الناس هو شأن من شؤونها. إن إدعاء نقص المال لم يعد يقنع أحد.

وفيما تركزت مطالب الجماهيرفي لقاءاتها مع الحكومة العراقية  على قضايا تتعلق بالعيش والحاجات اليومية

تطرح قضية ضرورة خروج النظام السياسي من مأزقه نفسها بإلحاح شديد هذه المرة. فالحكومة تقول أن مجلس النواب يكبل يدها ويعرقل عملها فهو يتلكأ في الموافقة على مشاريع القوانين التي تقدمها له والتي تتعلق بحل مشاكل الناس وتعطل الكتل السياسية استكمال الكابينة الوزارية وتصر على تقاسم الدرجات الخاصة (تعبير أصبح مكروها لدى الناس) وغيره بينما يدعي بعض أعضاء في المجلس أنهم دائما ما تعاونوا في تمرير قوانين المشاريع  وأن الحكومة لا تأخذ بآرائهم ومقترحاتهم لحل المشاكل غير أن خطاب المرجعية ثم خطاب رئيس الجمهوررية قد وزع المسؤولية واضاف لها المسؤولية التي تقع على عاتق القضاء خاصة في ملف محاسبة رؤوس الفساد. ونحن نميل إلى تصديق رئيس الوزراء فيما يخص التعطيل لأن موضوع اختيار وزيري الدفاع والداخلية لا زالت حية في ذاكرتنا ولم يصوت المجلس على اختيار وزير للتربية إلا بعد مرور شهور من المناكفات والجدل و لايهم المواطن أن يكون التعطيل من الكتلة السنية أو الشيعية او الكرد أم غيرهم فهم يترفعون عن هذه القضايا ويحملون المجلس برمته المسؤولية.

إن توفر المال الكافي حاليا للاستجابة للمطالب الآنية  للجماهير سوف يؤجل أزمة النظام السياسي ولن يحلها ذلك أن إثقال الميزانية برواتب مئات آلاف العاملين الجدد يمكن أن تدفع ثمنه الوزارات القادمة بل الجماهير نفسها خاصة إذا حصل انخفاض مفاجئ في أسعار النفط وحصل ذلك في زمن العبادي كما أسلفت. إن زيادة الانتاج النفطي (حتى  لو تجاوز العراق أو تحايل على الحصة المقررة من أوبك) يمكن أن يفاقم المشاكل إذا ذهب الفائض لمزيد من الاستهلاك وليس الاستثمار في القطاعات المشغلة لليد العاملة و المولدة للقيمة المضافة.

لذلك وعند بالحديث عن إصلاح النظام السياسي نحن أما خيارين:

إما اعتماد صيغة الغالبية السياسية في تشكيل الحكومة (وهي صيغة طرحت عشية انتخابات 2014 ولم يستجب لها) أي أن رئيس الوزراء المكلف  يمتلك حرية اختيار الوزراء الذين سوف يعملون معه وتستطيع  الكتلة المعترضة أن تمتنع عن التصويت على من لا تقتنع به من الوزراء عند تقديم الكابينة الوزارية للتصويت بالثقة عليها في المجلس...وهذا الأمر سهل من حيث المبدأ لأنه لا يتطلب تعديلا دستوريا ذلك أن المحاصصة أو التوافق التي درج عليها النظام السياسي منذ 2003 ليستا مبدأين دستوريين بل أصبحتا عرفا معطلا ويمكن تجاوزة بوجود إرادة صادقة. عنذاك يمكن تحميل رئيس الوزراء الذي يأتي من كتلة الأغلبية  المسؤولية الرئيسية في الإخفاق ولن نجد أنفسنا أمام اتهامات واتهامات مضادة  فلا يدري المواطن لمن يحمل المسؤولية الأكبر.

أو جعل النظام النظام السياسي رئاسيا بحيث ينتخب رئيس الجمهورية من قبل الشعب مباشرة بعد أن يعدل الدستور لتوضع الصلاحيات التنفيذية الكبرى بيده  فهو يختار من يكون رئيس الوزراء ويكون شريكه في اختيار الوزراء و لا رأي لأحد من الكتل الأخرى في عملية الاختيار وتعبر عن موقفها في التصويت على منح الثقة للحكومة.

بالطبع كلا هذين الخيارين سوف يصطدم بعقبات كأداء واولها النص الدستوري (والذي اعتبره فخا دستوريا) الذي ينص في المادة  142 رابعا على:

 ـ يكون الاستفتاء على المواد المعدلة ناجحاً بموافقة أغلبية المصوتين، وإذا لم يرفضه ثلثا المصوتين في ثلاث محافظات أو أكثر.

وكما هو واضح فإن النص يمنح إقليم كردستان حق النقض وبالتالي تعطيل اي تعديل دستوري لأن التعديل لا يتوافق مع مصالحه لأن الانتخاب المباشر للرئيس ومنحه غالبية الصلاحيات التنفيذية سوف يعني المزيد من السلطة بيد المركز وأنه باعتماد صيغة حكومة الغالبية السياسية  فإن الأحزاب الحاكمة في كردستان حالها بذلك حال بقية الأحزاب لن تكون قادرة على فرض مرشحيها للمناصب الوزراية.  ولا شك أن موقف غالبية الشعب الكردي سوف يتوافق مع الموقف الرسمي في الإقليم فيما يتعلق بالحفاظ على المكاسب الخاصة بالإقليم. أما الحديث عن ثلاث محافظات فهو غطاء ذلك أن محافظات الوسط والجنوب لا هيمنة لأحد عليها و سوف لن ترفض تعديلا ترى فيه مصلحة لها كما لايتوقع أن تقف الأحزاب الممثلة لها ضد تعديلات كانت هي أقترحتها وأقرتها.

وبموازاة ذلك لا بد من قضاء عادل حازم وصارم يتوجب على أية حكومة جادة أن توفر الحماية  الكاملة للقضاة وعوائلهم ومناطق سكنهم وتحركاتهم لأن  النزيه  فيهم هو عرضة دائمة للخطر من قبل الجريمة المنظمة التي تقف وراءها أهدافا تتعلق بمنع البلد من إصلاح نفسه ففي كركوك على سبيل المثال قتل ستة من القضاة عندما كان نجم الدين عبد الكريم محافظا لها وليس لدي شك أنهم كانوا قضاة عادلين وشجعان.

إنها لمأساة أن لا يجد العادل والنزيه والشجاع  من يحميه  فيصبح  مشروعا للموت.

 

ثامر حميد

 

هل لدينا حداثة حقا؟

التفاصيل
كتب بواسطة: نبيل عودة

نبيل عودةهناك العديد من الأدباء يحتمون وراء اصطلاح الحداثة، لتبرير غموض نصوصهم وأحيانا غياب المضامين منها. أصبح اصطلاح الحداثة تقليعة نعلق عليها كل غسيلنا الوسخ، كل عاهاتنا الإبداعية وكل أزمتنا الأدبية.

كيف يجوز ان نصف اعمالا ما بالحداثة وهي تفتقد للخطاب الأدبي البسيط، المشروط في العمل الإبداعي، وتحول الابداع الى مجرد نصوص تهوم بلا هوية مميزة، مضطربة المعاني، مفككة الصياغة ومليئة، وهذا الأساس، بالإفلاس الأدبي غير المعلن؟

ان التهافت لوصف كل نصوصنا الفاشلة بالحداثة، لا يضر الحداثة بشيء، انما يبرز عقم التفكير لدى البعض، والضياع داخل الاصطلاحات التي لم تنشا أصلا في ثقافتنا، انما استنسخناها من الحضارة الأوروبية بالأساس.

كثيرا ما اقرأ مراجعات نقدية لنصوص تافهة، يحاول الناقد ان يقنعنا بانها عمل ابداعي مميز. قرأت قبل فترة ديوان شعر لشاعرة، لم انجح في إيجاد مقطع شعري واحد يلفت الانتباه، لم أجد أيضا ضرورة للاحتفاظ بالكتاب في مكتبتي، لكني فوجئت بناقد يحمل شهادة الدكتوراة، لم يستح ان يجعل من الديوان مفخرة شعرية، سألت نفسي لعل بينه وبين الشاعرة ما يوجب هذا الحماس؟ طبعا ذهب صاحبنا بعيدا لدرجة انه أجلسها على عرش الحداثة الشعرية، وهي أصلا لم تكتب جملة شعرية واحدة، فأين وجد الشعر في ديوانها ليلصق به الحداثة؟

كيف نتعامل مع الحداثة او ما بعد الحداثة؟ (التي ربما لم يسمع بها ناقدنا؟) هل يجوز لمجتمع لم يبلغ بعد الحداثة، ولم يستوعبها، ان يبدا بالحديث عما بعد الحداثة؟ الا يعبر عدم فهمنا للحداثة عن وضعية فكرية؟ الا يعتبر الالتصاق بهذا التعبير ضربا من التهريج، خاصة حين نشبه بالحداثة كل ما هو تافه، غامض ومشوه؟

اذن ما هي الحداثة؟

يمر العقل البشري بعدة مراحل في تطوره. تمتد من المرحلة الغيبية-الخرافية، الى مرحلة الاحتكام للعلوم والمنطق. بينهما تنشأ عشرات المراحل في تشابك من الصعب فكه، مع ذلك كل مرحلة هي حديثة نسبيا، بالمقارنة مع سابقتها، وما زالت المجتمعات النامية، بل وبعض المجتمعات المتطورة، تعاني نسبيا بصورة اقل، من فكر خرافي غيبي. يبدو ان لتطور العلوم مساره المستقل، الذي لا يؤثر تأثيرا شاملا ومباشرا على المثقفين وذوي القدرة على استعمال عقولهم بموضوعية. هذه حالة منتشرة ومتجذرة خاصة في المجتمعات البدائية، للأسف معظم المجتمعات العربية لم تتجاوز هذه المرحلة. اذن كيف نتحدث عن خطاب الحداثة او ما بعد الحداثة، ونحن لم نتخلص بعد من القديم البائد؟ كذلك استصعب فهم الحداثة في مجتمع تغلب عليه العقلية اللاهوتية التي تنتمي الى الماضي. ان الخطاب العلمي الحديث في مجتمعاتنا لا يجرؤ حتى على توجيه النقد العلني، ومشكلته انه فكر مقموع يدافع عن شرعية وجوده وحقه في احتلال مكانته.

نحن كمجتمع ما زلنا نعيش في المرحلة اللاهوتية، لاهوتنا لا يمشي مع التطور. من الصعب ان نقول اننا في مرحلة "العلمية الوضعية"، وهي مرحلة هامة شهدتها أوروبا في طريقها للحداثة والتحرر من عقلية القرون الوسطى.

في الغرب هناك نقد لعقل الحداثة العلمية، لكننا بعيدون عن هذه الحداثة العلمية، مجتمعنا ما زال يحتكم لانتماءات اثنية وقبلية، بينما المجتمعات الحديثة طورت الدولة المتجانسة، دولة حقوق الانسان، التعددية الثقافية، حرية الرأي والمجتمع المدني.

الحداثة لم تولد في مجتمعاتنا الا فكريا، تعرفنا على الحداثة بالفكر، ونقاتل لجعلها قاعدة لحياتنا، والأدب والنقد الفكري الاجتماعي هو أحد أسلحتنا لترسيخ الحداثة في واقعنا الاجتماعي. السؤال: هل حقا يقوم ادبنا المأزوم بهذه المهمة؟ أليست أزمته هي التعبير الصارخ عن عجزه من القيام بدوره الحداثي؟

اليس ازدياد انتشار الفكر الأصولي هي الدلالة على تعثرنا الثقافي والاجتماعي وتراجع الفكر المتنور والحداثي لحساب القديم البائد؟

بيننا وبين الوصول للحداثة مرحلة تاريخية واسعة، لا أعني الوصول الى القناعة الفكرية، فأعداد كثيرة من المثقفين والأكاديميين يعيشون الحداثة بنبضها العالمي ولكنهم عاجزون عن جعلها نهجا اجتماعيا ثقافيا، يخلص مجتمعنا من لاهوتيته الغيبية، ويدفعه نحو العلم والعقلانية والتقدم. أصلا لا حداثة بدون بناء اقتصاد وعلوم والانتقال لنظام ديموقراطي، يحمي حق الاختلاف والتعددية الفكرية والدينية ويطبق القانون الوضعي وليس الديني.

بدل ذلك نجد من يجرؤ على تسمية الغيبيات بالحداثة، وادعاء البعض انهم الحداثة بعينها. الحداثة تعني أولا التخلص من الماضي الخرافي، من عقلية القرون الوسطى الغيبية، وان يسود العقل العلمي الذي يخرج مجتمعاتنا من مرحلة الانحطاط والتخلف التي نتخبط فيها، وان نعيد للفكر العربي مجده الغابر في العلوم والاكتشافات والتطور الاقتصادي والثقافي، وان تصبح المنافسة بيننا وبين الغرب ليس صراع أديان او حضارات بين حضارة حديثة وحضارة أصولية، انما المنافسة على الإنجازات العلمية، الاقتصادية والثقافية.

آية حداثة ستنشأ ومجتمعاتنا غارقة بخطب عمرو خالد وثقافة مصطفي محمود، و"فلسفة" الدواعش ومن لف لفهم، وفتاوى ارضاع الكبير ونكاح الكفاح وغيرها من الترهات التي  تثير الألم والاستهجان لعجز تفكيرنا عن الفرز بين المنطق الديني السليم والترويج لغباء ديني مدمر،  بينما الغرب يتعامل مع روسو وديرو  وكانط وهيغل وسبينوزا وماركس وورودنسون  ونيتشه وادوارد سعيد وغيرهم من حملة الفكر والتقدم الاجتماعي.؟

في آية مرحلة يعيش المجتمع العربي اليوم؟ هذا هو السؤال الذي على أساسه نستطيع ان نحدد مكاننا من الحداثة!!

ملاحظة:

كتبت المقال قبل أكثر من عقد من السنين ولم انشره. اليوم أستطيع ان اضيف انه يتطور ادب مهجري حديث لا يقل بحداثته وانفتاحه على التنور والحداثة الفكرية والابداعية عن أي ادب أجنبي آخر. حتى لغته العربية تزداد طلاوة واتقانا وجاذبية (ولا اعني القواعد والنحو والتقييد اللغوي الذي يسجنها وراء قضبان التزمت) . ابحثوا مثلا (كنموذج) عن اعمال الأديب المهجري المبدع د. جميل الدويهي، ربما يشكل في هذا المضمار النموذج الأمثل لفكر الحداثة الإبداعية والفكرية واللغوية. في وقته أيضا انجز ادباء المهجر انقلابا فكريا ولغويا أخرج لغتنا من سجن الغباء اللغوي والانغلاق، وساهم بتحريرها من التتريك القاتل والقيود المتزمتة. طبعا لا أنكر وجود ادباء ومفكرين حداثيين أبدعوا في مضمار الأدب والفكر، لكن الساحة الأدبية مقيدة بتطور المجتمع، ان تطوير الأدباء لمشروعهم الثقافي هو عملية تقع خارج مجتمعهم بواقعه وقيوده. لذا ليس بالصدفة ان المهجر أضحى ملجأ للكثيرين من المفكرين والعلماء والباحثين والأدباء!!

 

نبيل عودة

 

مع سائق أرمني في موسكو

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ضياء نافع

ضياء نافعما ان جلست في سيّارة الاجرة، فاذا بسائقها يقول لي رأسا بعربية ركيكة ولكن مفهومة – (كيفك؟). اندهشت انا طبعا من سؤاله، واجبته مبتسما – (زوين)، فقال لي بالروسية، انه لم يفهم جوابي، واضاف انه كان يتوقع ان اقول له – (كويّس)، فضحكت أنا واوضحت له باختصار (صلب الموضوع !)، وهكذا بدأنا ندردش معا وبحيوية ومرح طوال الطريق، ورغم هذا المرح، فان المواضيع التي تكلمنا حولها كانت في غاية الاهمية والجديّة .

انه أرمني يسكن ويعمل في موسكو، وقد تعلّم عدة كلمات عربية من أصدقائه الارمن، الذين هربوا من سوريا . قال لي، ان هؤلاء الارمن يحنون للعودة الى سوريا ويعتبرونها وطنهم، رغم انهم واقعيا عادوا الى وطنهم الحقيقي ارمينيا، وان الارمن كافة قد هاجروا فعلا من سوريا، وهاجروا ايضا من العراق، ولم يبق اي ارمني في العراق الان، رغم ان اجيالا منهم قد ولدوا وعاشوا هناك عشرات السنين . ابتسمت أنا، وقلت له، ان معلوماته ليست دقيقة، وانها تعتمد على اقوال فلان وفستان ليس الا، فسألني رأسا، وهل تعرف انت عراقيين ارمن لا زالوا يعيشون في العراق ؟ قلت له، نعم اعرف الكثيرين منهم، وهم عراقيون مثلنا جميعا . نظر اليّ باندهاش، وقال، انه يفهم الان لماذا الارمن الذين هربوا من سوريا يريدون العودة من وطنهم ارمينيا الى بلد هجرتهم سوريا، وانها لظاهرة غريبة فعلا بالنسبة لامثاله من الارمن . قلت له، ان الارمن من اصدقائي في العراق عراقيون بكل معنى الكلمة، وانهم عاشوا ودرسوا معي في الاتحاد السوفيتي وعادوا الى العراق بعد انتهاء دراستهم ليعملوا ويعيشوا في وطنهم العراق، مثل معظم طلبتنا آنذاك، رغم انهم زاروا وطنهم الاصلي ارمينيا، وكانوا يقدرون ان يبقوا هناك طبعا، ولكنهم عادوا الى العراق . سألني مرة اخرى، وهل انت تعرف بعضهم شخصيا ؟ فقلت له، لقد درست معنا وفي كليتنا ارمنية عراقية، وتزوجت من عراقي وولدت بنتا اسمتها سيفان، وهي تسمية البحيرة الارمنية الجميلة كما تعرف، وعادت الى العراق مع زوجها وابنتها بعد ان تخرجت في جامعة موسكو . سألني السائق، وهل زوجها كان ارمنيا ايضا ؟ قلت له لا، انه عراقي عربي، فسألني رأسا، هل هو مسيحي؟ فقلت له لا، انه مسلم، فاندهش وسألني، وهل وافقت عائلتها على زواجها هذا، فقلت له، ربما لم يوافقوا كليا، ولكنها تزوجت قبل اكثر من خمسين سنة، وعندهم الان اولاد واحفاد، وهم لايزالون يعيشون في بغداد ضمن عائلة عراقية جميلة وعريقة، فقال، لو ان ابنته قررت الزواج بهذا الشكل لما وافق على ذلك ابدا، ضحكت انا، وقلت له، انني اعرف الكثير من الزواج المختلط في الاتحاد السوفيتي آنذاك، ومن بينهم زواج ارمنيات، فقال نعم، ولكن دون موافقة اهلهم كما يجب ان يكون الامر وحسب التقاليد الارمنية، وأضاف بحزن، بعد ان صمت قليلا، قائلا – لقد تعرّض الشعب الارمني الى حملات ابادة رهيبة، ويجب علينا الان - نحن الارمن - ان نحافظ على ما تبقى لنا، قلت له، ان الارمنية التي تتزوج غير الارمني تبقى ارمنية طوال حياتها، فقال نعم، هي تبقى ارمنية، لكن اطفالها لن يكونوا ارمن، اذ اننا لسنا مثل اليهود، الذين يعتبرون ان كل من يلد من امرأة يهودية هو يهودي بغض النظر عن جنسية والده او قوميته او دينه، وضحك وقال، ان اليهود شياطين، وقد وجدوا حلاّ لهذه القضية المعقدة جدا . 

عندما اقتربنا من العنوان المطلوب، قال لي هذا السائق، انه ممنون جدا من موقف العراقيين والعرب عموما تجاه الارمن، وان هذا هو رأي كل الارمن الذين يعرفهم في ارمينيا او خارجها، وانه لهذا لا يريد ان يأخذ منيّ اجرة سيارة الاجرة تعبيرا عن امتنان الارمن لنا . رفضت انا هذا العرض (الحاتمي!) من قبله، وقلت له، انك حتما تحتاج لهذا المبلغ البسيط منيّ ومن غيري من الركاب، للعيش في مدينة غالية مثل موسكو، فشكرني جدا على ذلك، وقال، انكم تتفهمون مشاكلنا، فنحن – ابناء الشعوب السوفيتية سابقا - نتصارع مع الحياة من اجل عوائلنا، كي نوفر لهم – وبالكاد – لقمة العيش الضرورية - ليس الا - في موسكو او في بلداننا هناك...

 

 أ.د. ضياء نافع

 

ابن حزم وموقفه المنطق الأرسطي

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. محمود محمد علي

محمود محمد علييعد ابن حزم واحدا من فقهاء الأندلس الذين اعتنقوا المذهب الظاهري، الذى أنشأه "داود بن سليمان" (ت: 270هـ)،  ثم وقف من المنطق الأرسطي موقفا مؤيدا خالف فيه الشافعي، حيث كان من أهم أغراض المشروع الثقافي لأبن حزم تأسيس الشرع على القطع، وضبط القواعد المتبعة فى العلوم الدينية، وهو مقصد لا يتأتى إلا بالاستعانة بعلوم الأوائل ومن بينها وأهمها المنطق من حيث هو أداة ضابطة للتفكير، تضفى عليه الصرامة والدافة الضروريتين للحفاظ على هوية الشرع وعلى كما له وحمايته من خطر الإضافات والزيادات، لا على المستوى الشرعي فحسب، بل حتى على المستوى العقائدي . حيث خطر التأويلات وتهد يدها ممثلا فى الملل والنحل التي جنحت عن الإسلام دينا وسلوكا فى نظرا بن حزم مما يتطلب دعم العقيدة الإسلامية مجسما فى علوم الأوائل  وبخاصة المنطق، وذلك من أجل بناء الشرع على القطع ودعم المنقول بالمعقول .

ومن أجل ذلك ألف ابن حزم كتابه "التقريب لحد المنطق والمدخل إلية بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية" وفى مقدمة هذا الكتاب قسم ابن حزم الناظرين فى كتب المنطق إلى أربع طوائف:

أولها: طائفة حكمت على كتب المنطق بأنها محتوية على الكفر وناصره للإلحاد دون أن يقفوا على معانيها، ويحكم ابن حزم على هذه الطائفة بأنها مخالفة لروح الشرع .

والثانية: طائفة ترفض هذه الكتب لأنها بدعة وعبث من القول، ويصف ابن حزم أصحاب هذا الرأى بالجهل، ويتساءل معهم قائلا:  "فإن قال جاهل: فهل تكلم أحد من السلف الصالح فى هذا، قيل له: أن هذا العلم فى نفس كل ذى لب، فالذهن الذكى واصل إليه بما مكنه الله تعالى من سعة الفهم إلى فوائد هذا العلم. والجاهل متسكع كالأعمى حتي ينبه عليه، وهذا شأن سائر العلوم، فما تكلم أحد من السلف رضوان الله عليهم في مسائل النحو، ولكن لما فشا الجهل بين الناس باختلاف الحركات التي باختلافها اختلفت المعاني في اللغة، وضع العلماء كتب النحو فرفعوا إشكالا عظيما، وكان ذلك معينا علي الفهم لكلام الله وكلام نبيه . وكان من جهل ذلك ناقص الفهم عن ربه . فكان هذا من فعل العلماء حسنا وموجبا لهم أجراً " .ثم يتابع ابن حزم فكرته في تبرير دراساته للمنطق فيقول:" وكذلك هذا العلم (المنطق) فإن من جهله خفي عليه بناء كلام الله عز وجل مع كلام نبيه .. وجاز عليه من الشغب جوازا لا يفرق بينه وبين الحق، ولم يعلم دينه إلا تقليدا والتقليد مذموم ".

والثالثة: طائفة قرأوا هذه الكتب بعقول مدخولة وأهواء مريضة غير سليمة فضلوا في فهمها ورفضوها بسبب الفهم السقيم لها .

والرابعة: طائفة نظرت في هذه الكتب بأذهان صافية، وأفكار نقية من الميل وعقول سليمة فاستندوا بها ووقفوا علي أغراضها، فاهتدوا بمنارها . وثبت التوحيد عندهم ببراهين ضرورية لا محيد عنها، ووجدوا هذه الكتب كالرفيق الصالح ".

ويصل ابن حزم من ذلك إلي القول بفائدة المنطق لكل علم، وأنه آلة نافعة لكل مستدل " .

ومن هذا المنطق يبطل ابن حزم القول بأن تعاطي المنطق بدعة، فكما النحو وغيره من علوم اللغة استحدثت، ولم يخض السلف الصالح فيها، نظرا لظهور الحاجة إليها بعد ما تفشي اللحن، أي ظهور الحاجة لقواعد تقنن استعمال اللغة، كذلك المنطق، ظهرت الحاجة إليه أيضاً كمعين علي فهم النص استعمال اللغة، كذلك المنطق ظهرت الحاجة إليه كمعين علي فهم النص والاستدلال علي صحة مضامينه " فإن من جهله (أي المنطق) خفي عليه بناء الله عز وجل مع كلام نبيه صلي الله عليه وسلم . والسلف الصالح في حاجة إلي كل ذلك، لأنهم عاصروا النبوة وعاشوا في فترة لم يوجد فيها مشاغبون يخلطون الحق بالباطل .

ويبدو من حديث ابن حزم، أن هناك ثلاثة دوافع تظهر معها الحاجة إلي صناعة المنطق في مجال العلوم الدينية، وهي:

1- فهم بناء كلام الله ورسوله، وفهم أحكامه وطرق استنباطها .

2- الرد علي المشغبة، وهو أمر يقتضي التسلح بالأفانين التي يلجأون إليها لإثبات دعاواهم الباطلة.

3- التمييز بين الحق والباطل، وه أمر يتم بطبيعة الحال لا بصورة مجردة، بل اعتمادا علي انص الديني .

ونلاحظ أن الدافع الأول دافع أصولي فقهي، فمعرفة القضايا وأقسامها ومعرفة الكلي والجزئي، والسلب والإيجاب، ليس له فائدة سوي فهم الأحكام الإلهية والعلاقات بينها، وطبيعة الجهات الشرعية.

وهذا مدلول امتزاج المنطق بالفقه، ومعني امتزاجها، أي فهم الفقه لا يقوم إلا بالمنطق لأن من طبيعة الفقه أن يؤدي بنا إلي كيفية وقوع الأسماء علي مسمياتها، ووجوه ارتباط القضايا والأحكام ببعضها البعض.

ومما يؤيد ما ذهبنا إليه بخصوص موقف ابن حزم الأصولي من المنطق الأرسطي نذكر رأي " روبير برونشفيك " , حيث يذهب في إحدى دراساته إلي أن ابن حزم نموذج من الفلاسفة المسلمين الذين قالوا بإمكان تطبيق واقتباس المنطق الأرسطي جزئيا في الأحكام الشرعية، وخلافا للغزالي الذي قال بالإمكان الكلي ولابن تيمية الذي قال بالاستحالة المطلقة .

ولا شك في أن المسألة في الإشكالية الحزمية لم تطرح علي هذا النحو، أي لم يكن أمام ابن حزم اختبار موقف من الموقفين امكان اقتباس أو عدم إمكانه، بل كان أمام محاولة إثبات كيف أن فهم النص الديني، وفهم أحكامه يحتاج ويستدعي اللجوء إلي المنطق، أي معرفة كيفية وقوع الأسماء علي مسمياتها، وأن معالجة مسألة ما من المسائل الفقهية والأصولية، تتطلب معرفة بطرق الاستنباط . وتلك الطرق بالضرورة، هي ما قال به أرسطو، يقول ابن جزم " إن الكتب التي جمعها أرسطاطاليس في حدود الكلام ( يقصد قواعد المنطق) كلها كتب سالمة، مفيدة، دالة علي توحيد الله عز وجل،وقدرته عظيمة المنفعة في انتقاد جميع العلوم . وعظم منفعة الكتب التي ذكرنا في الحدود ( أي القواعد المنطقية) في مسائل الأحكام، بها يتعرف كيف يتوصل إلي الاستنباط (الصحيح)، وكيفية تقديم المقدمات، وإنتاج النتائج، وما يصح من ذلك صحة ضرورية أبدا، وما يصح مرة، وما كان خارجا عن أصله، ودليل الاستقراء، وغير ذلك مما لا غناء بالفقيه المجتهد لنفسه لأهل ملته عنه " .

إذن ابن حزم يؤمن بفائدة المنطق لأي علم ومنها علم الفقه وأصوله، وأنه آلة نافعة لكل مستدل .

ويربط ابن حزم بين دراسة المنطق وفوائده للفقيه، فيجعل فائدة المنطق عامة، كما صرح بذلك الفارابي وابن سينا من قبل، وفوائده في فهم كتاب الله وحديث نبيه صلي الله عليه وسلم، وفي الفتيا في الحلال والحرام، والواجب والمباح أعظم وأعم .

كما يجعل ابن حزم معرفة المنطق أساسا في الإفتاء، وذلك لوجوه:

أولها: اعتقاده أن دراسة المنطق تساعد علي فهم الكتاب والسنة واستنباط الأحكام وفهمها .

وثانيها: العلم بمسائل المنطق وأصول البرهان، تساعد المفتي والفقيه علي التمييز بين الآراء، لنعرف الصحيح من السقيم، بحيث يتحقق له الإفتاء علي الوجه الصحيح الصائب .

وثالثها: اعتقاده أن المنطق قد يساعد علي بناء اليقين، والدفاع عن العقيدة، لأن إيمان المقلد عنده غير صحيح مشكوك فيه .

ورابعها: هو أن اشغاله بالفقه والكلام، دفعه إلي الاشتغال بالمنطق لحاجة المتكلم إلي معرفة أساليب الجدل، وحاجة الفقيه إلي إقامة البرهان .

وانطلاقا من هذا، حاول ابن حزم تطويع منطق أرسطو، كي يغدو آلة ضابطة للتفكير عامة، وللتفكير الفقهي علي الخصوص، فقد تجاوز نقائض المنهج القياسي القائم علي العلة والتعليل، وذلك أن فهم الأحكام الشرعية وفهم كيفية أخذ الألفاظ علي مقتضاها وفهم العام والخاص والمجمل والمفسر وبناء الألفاظ بعضها علي بعض، وتقديم المقدمات، وإنتاج النتائج، والصحيح من القياس والفاسد منه، يتطلب معرفة بالمنطق وتسحا به، وهو علم لا غناء عنه بالنسبة للمتكلم والفقيه والمحدث والناظر في الآراء والديانات والأهواء والمقالات لأن مهمته الوقوف علي كافة الحقائق وتميزها من الأباطيل .

ومما يكشف عن نية ابن حزم في تأسيس الفقه علي المنطق الأرسطي، أنه أسقط تماما لفظ " القياس " من حيثه عن أشكال الاستدلال مكتفيا بكلمة " البرهان"،وهو أمر نابع من اقتناعه بنقائض القياس الفقهي وعدم يقينية نتائجه، مما يجعله دعوة بلا برهان، أو يجعل نتائجه علي الأكثر قائمة علي الظن والترجيح ويسوق ابن حزم الأدلة لإبطال القياس الفقهي، ونلخصها فيما يلي:

أول هذه الأدلة: أن الله سبحانه وتعالي أنزل الشرائع فما أمر به فهو واجب وما نهي عنه فهو حرام، وما لم يأمر به ولم ينه عنه فهو مباح مطلق حلال والنصوص جاءت بكل ما محرم، وجاءت بكل ما هو مأمور به، والباقي علي أصل الإباحة، فمن أوجب من بعد ذلك شيئا بقياس أو بغيره، فقد أوتي بما لم يأذن به الله تعالي، ومن حرم من غير النص، فقد أتي بما لم يأذن به الله تعال .

الدليل الثاني: أنه لا قياس في موضع النص عند القياسين، وإنما القياس في غير موضع النص، ومن قال أنه لم يشمل النص كل شئ، فهو يناقض قوله تعالي " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " وقوله تعالي:" لتبين للناس ما نزل إليهم  . وقوله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع:" اللهم هل بلغت ؟ قالوا نعم .قال: اللهم أشهد " فإن هذه النصوص كلها تدل علي أن النصوص قد اشتملت علي كل شئ فلا حاجة إلي قياس بعدها .

الدليل الثالث: أن القياس في غير موضع النص، مبني علي الاشتراك في الوصف الذي اعتبر علة الحكم بين الأصل المنصوص علي حكمه، والفرع غير المنصوص علي حكمه، وإن هذا الوصف لا بد من دليل عليه، فإن كان هذا الدليل هو النص، فإن الحكم في الفرع أخذ من ذلك النص، وليس هذا قياسا،وإن لم يؤخذ من نص ولا إجماع، فمن أي شئ عرف؟، وإن ترك ذلك من غير بيان إشكال وتلبيس، وتعالي الله عن ذلك علوا كبيرا، ولا يحل لأحد أن ينسب هذا إلي شئ من دين الله تعالي، الذي قد بينه سبحانه غاية البيان علي لسان رسوله صلي الله عليه وسلم .

والدليل الرابع: أن النبي صلي الله عليه وسلم أمر المؤمنين بأن يتروا ما تركه الرسول، وما تركه رب العالمين من غير نص علي أصل ما كان عليه، فقد قال عليه الصلاة والسلام " دعوني ما تركتم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم علي نبيهم، فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم، وغذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه ". وبهذا يتبين أن ما لم ينص عليه فليس للعبد أن يحرمه بقياس، ولا أن يأمر فيه بقياس، وألا يكن ممن يزيد علي شرع الله ولم يكن أخذا بذلك الحديث الصحيح .

والدليل الخامس: يتمثل في نصوص كثيرة صريحة في إبطال القياس، من مثل قوله تعالي " يأيها الذين أمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله "، وقوله تعالي:" ولا تقف ما ليس لك به علم "(، وقوله تعالي:" ما فرطنا في الكتاب من شئ ، وقوله تعالي:" كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون" .

هذه هي الأدلة التي يسوقها ابن حزم لإنكار القياس الفقهي، علي أن هذا لا يعني أن ابن حزم يطعن في أساس هذا القياس، بل يري أن هذا الأساس قائم علي الاستقراء ؛ فقياس الفقهاء كما يراه ابن حزم هو استقراء، وفي هذا يقول:"... فمن ذلك شئ سماه أهل ملتنا القياس، أن معني هذا اللفظ، هو أن تتبع بفكرك أشياء لموجودات يجمعها نوع واحد ويحكم فيها بحكم واحد، فنجد في كل شخص من أشخاص ذلك النوع، أو في كل نوع من أنواع ذلك الجنس صفة قد لازمت كل شخص من أشخاص ذلك أو في كل نوع تحت الجنس أو في كل واحد من المحكوم فيهم، إلا أنه ليس وجود تلك الثقة مما يقتضي وجودها في كل ما وجدت فيه، ولا تقتضيه طبيعة ذلك الموضوع فيكون حكمه واقتضته طبيعته أن تكون تلك الصفة فيه ولا بد . بل قد يتوهم وجود شئ من ذلك النوع خاليا من تلك الصفة .

ومن جهة أخري هاجم ابن حزم القاس الفقهي، لكونه يقوم علي قياس الغائب علي الشاهد في أمور لا يصلح فيها هذا القياس، وفي هذا يضرب ابن حزم مثالا فيقول: " ما دمنا في حياتنا العادية لا نري فاعلا، وهذا غير جائز لأن الغائب هنا هو ما فوق الطبيعة والعقل . أما إذا كان الغائب ما غاب عن العقل، بل هو شاهد فيه كمشهود ما أدرك بالحواس، ولا فارق، وهذا ما يضمن إمكانية التعميم وصحة الانتقال من الجزئي إلي الكلي، وإذا أيقن المرء أن الحواس موصلات إلي النفس، وأن النفس إنما يصح حكمها بالمحسوسات، وإذا صح عقلها من الآفات، لم يجد المرء حينئذ لما يشاهده بحواسه، فضلا علي ما شاهده بعقله دون حواسه، فلا غائب من المعلومات أصلا وإذا غاب عن العقل لم يجز أن يعلم البتة " .

ويذكر ابن حزم أن لجوء الفقهاء إلي إطلاق لفظ " القياس"، والذي هو في الحقيقة مجرد عطية استدلالية منطقية، تتركب من مقدمتين ونتيجة تلزم عنهما ضروريا ليس إلا حيلة ضعيفة سوفسطائية لتسمية استقرائهم " قياسا" .

ما سبق يتضح لنا أن ابن حزم، يريد باختصار تأسيس الفقه والأصول علي المنطق، وذلك من أجل إضفاء اليقين .

أما الدافع الثاني إلي صناعة المنطق في نظر ابن حزم، فهو دافع جدلي، والجدل هنا يؤخذ بمعني النقاش الذي نسعي فيه ومنه إلي دحض آراء الغير قصد إبراز تهافتها، وما تتضمنه من باطل، هو مناصرة الباطل ومنهجه التلبيس، والتلبيس يكون بإيجاب ما لا يجب، وإما بإسقاط قسم من الأقسام أو أكثر أو زيادة قسم فاسد .

والملاحظ بهذا الصدد، أن ابن حزم لا يعتبر السفسطة في كتابه " التقريب " كتابا بذاته، مثلما هو الشأن مع أرسطو، ولذا لا يفرد لها كتابا بها، بل هي في نظره ما ليس برهانا، ولا ما يؤخذ من مقدمات حسية .

غير أن الحق في نظر ابن حزم لا يدرك بالعقل فقط، بل واعتمادا علي نص ديني، وارتباطا باللغة ولا سيما وأن هذه الأخيرة في نظر ابن حزم كلمات مستفزة في النفس لدي جميع ناطقيها بنفس الكيفية، فمعانيها واحدة وظاهرة، إلا لمن أراد التشغيب، وفي هذه الحالة الحاجة إلي إتقان أساليب الجدل وصناعة المنطق، لا لأنها توصل إلي الحقيقة، ولكن لأنها تساعد علي إبطال حيل الخصم وإبراز تهافت حججه، وهذا بالفعل ما قام به في كتاب " لفصل " حيث تصدي لإبطال مضامين الحلل والملل الأخرى التي لم يكن يتفق معها، كما قام بشبيه ذلك في كتاب " الفروع والأصول" .

وأما الدافع الثالث، فهو دافع أخلاقي ديني، وبما هو ديني فإنه يتضمن بالطبع الجانب الآخر الملازم له، وهو الدنيوي المتمثل في تدبير المنزل والرعية " يعطي للفلسفة أبعادا وحدودا، وتجعلها شيئا مناظرا للشريعة نفسها . فمقاصدها هي مقاصده، وغذا كان المنطق مدخلا للفلسفة، فلا مانع من أن يكون غلما مساعدا في فهم النص الديني، وفهم حدود الكلام وبناء القضاء وترتيب المقدمات والنتائج وشروط الاستنتاج وبنية البرهان والتمييز بين القضايا الكاذبة والقضايا الصادقة والتمييز بين الحق والباطل، فإذا كان الفكر اليوناني اعتبر الأخلاق ثمرة الفلسفة، واعتبر التمييز بين الحقيقة والخطأ، مؤسسين علي النظر، فإن المنطق آلة ذلك النظر.

وهنا نلاحظ أن ابن حزم يجعل الأخلاق ثمرة الدين، والتمييز بين الحق والباطل مصدره هذا الأخير، والمنطق آلة النظر في الدين، وفي نصوصه قصد فهم أحكامه، لأن هذا الأخير لا يمكن أن تفهم حق الفهم، إلا تفكيرا لا يبقي في مستويات العموميات المجردة، بل ينصب علي لغة مركبة من ألفاظ وضعت ليعبر بها عن معاني علقت هذه الألفاظ عليها . والباطل يحدث كلما أحيلت الألفاظ عن معانيها، وحرفت الكلمات عن مواضعها .

هذا هو باختصار موقف ابن حزم من المنطق الأرسطي، وقد بدأ فيه ابن حزم مولعا به، الأمر الذي جعله يصرح بأن هذا المنطق آداه جيدة ومثمرة في الدراسات الفقهية .

وهذا الموقف الذي وقفه ابن حزم من منطق أرسطو سيكون له أثر فعال عند الأشاعرة ؛ وبخاصة الغزالي الذي سيدعم فكرة مزج المنطق بالفقه علي المذهب الشافعي الذي يؤمن بالقياس الفقهي ويتغاضى عن بعض الأفكار الفقهية التي قام بها المذهب الظاهري عند ابن حزم.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

تمثال في جامعة موسكو للطالب تشيخوف

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ضياء نافع

ضياء نافعواخيرا، تذكّرت جامعة موسكو، ان تشيخوف كان أحد طلابها وواحدا من أبرز وأشهر خريجيها، وقررت – اعتزازا به وتكريما له - ان تضع له تمثالا على ارض جامعته، جامعة موسكو العريقة . لقد سألت مرة أحد مسؤولي تلك الجامعة عن عدم وجود تمثال لتشيخوف وهو خريج تفخر باسمه كل جامعة، فقال لي، ان هناك اسباب كثيرة، اهمها طبعا تلك الظروف والاحداث التي اعقبت وفاة تشيخوف، اذ انه توفي العام 1904، اي عندما بدأت سلسلة احداث تاريخية كبيرة وهائلة في روسيا – الحرب مع اليابان، ثورة 1905 وفشلها، الحرب العالمية الاولى 1914، ثورة اكتوبر 1917 والحرب الاهلية التي أعقبتها، السنوات السوفيتية الاولى وصعوباتها، ظاهرة الستالينية وعواقبها، الحرب العالمية الثانية ونتائجها، وكل هذه الوقائع الكبيرة قد عرقلت اقامة تمثال او نصب لهذا الخريج المتميّز فعلا.. وكلام ذلك المسؤول منطقي ودقيق طبعا، اذ ان الامة تضع تماثيل رجالاتها لتخليدهم عندما تستقر الامور والاحوال فيها . يمكن ان نضيف هنا سببا وجيها آخر لتلك العوامل والاسباب التي حالت دون عمل تمثال لتشيخوف في جامعة موسكو، وهو ان النظام السوفيتي ألغى كليات الطب من الجامعات العامة منذ العام 1930، واقام بدلا عنها معاهد وجامعات طبية متخصصة لدراسة العلوم الطبية بشكل متكامل ومستقل، اي بمعزل عن تلك الجامعات الكلاسيكية (ان صح التعبير)، ولا زال هذا النظام معمولا به في روسيا الاتحادية لحد الان، ولهذا، فان جامعة موسكو (كما هو حال الجامعات الروسية الاخرى) كانت بلا كلية للطب في العهد السوفيتي، و تشيخوف خريج كلية الطب بالذات، ولهذا لم يتم نصب تمثال له، لان الكلية التي تخرّج فيها لم تعد قائمة في تلك الجامعة . الان، تم اقامة المركز الطبي العلمي - التعليمي في جامعة موسكو، وامام بناية هذا المركز بالذات تم وضع تمثال لطالب الطب تشيخوف، وهي خطوة تتلائم طبعا وتنسجم مع طبيعة الدراسة في هذا المركز العلمي بكل معنى الكلمة. تم وضع اساس هذا النصب العام 2010، عندما احتفلت روسيا (والعالم ايضا) بذكرى مرور (150) على ميلاد تشيخوف، وقد شارك محافظ موسكو آنذاك في تلك المراسيم، وأشار في كلمته الى (.. ان عشق تشيخوف للعاصمة موسكو ابتدأ بالذات منذ ايام الدراسة في جامعة موسكو ..)، وهي كلمات حقيقية وصادقة فعلا بالنسبة لمسيرة تشيخوف الحياتية والابداعية .

 تم تدشين النصب في الاول من ايلول / سبتمبر من العام 2014، اي في اليوم الدراسي الاول في الجامعة . يجسّد النصب الشاب تشيخوف مرتديا معطفه وهو جالس على مصطبة، ويحتضن بيده اليسرى كلبا صغيرا. التمثال يعتمد على صورة مشهورة جدا لتشيخوف ايام شبابه وهو يجلس – بمرح - بين افراد عائلته. على الجانب الايسر للنصب توجد لوحة نحاسية للعريضة التي كتبها تشيخوف بخط يده الى رئيس جامعة موسكو العام 1884، حيث يرجو فيها منحه دبلوم كلية الطب، التي انهاها بنجاح في ذلك العام الدراسي، اما في الجانب الخلفي للنصب، فتوجد قائمة بالاسماء المستعارة، التي استخدمها تشيخوف، عندما كان ينشر قصصه الساخرة الاولى في الصحف والمجلات الروسية، وهو طالب في كلية الطب بجامعة موسكو، وهي اسماء طريفة جدا، واصبحت الان معروفة طبعا في تراث تشيخوف، مثل – (انتوشا تشيخونتيه، او، شقيق شقيقي، او، طبيب بلا مراجعين مرضى ...الخ). بعد سنة من تدشين النصب هذا، اي في العام 2015، تم زرع حديقة كبيرة من اشجار الكرز امام هذا التمثال، تذكيرا بمسرحية تشيخوف الشهيرة (بستان الكرز)، واكمالا للاجواء التشيخوفية حول هذا النصب الرمزي الجميل لطالب كلية الطب بجامعة موسكو تشيخوف، والذي اصبح واحدا من الاسماء العملاقة في مسيرة الادب الروسي، والادب العالمي ايضا.    

 

أ. د. ضياء نافع

 

هل أصبح مبحث الابستمولوجيا ميتافيزيقا في الفلسفة المعاصرة؟

التفاصيل
كتب بواسطة: علي محمد اليوسف

علي محمد اليوسفتعريف أولي: المبحث الذي توليه الفلسفة الحديثة حقه من الاهتمام كثيرا هي أن علم النفس الوظائفي التجريبي المرتبط فيزيائيا بمبحث الابستمولوجيا المعاصرة يعتبرأهم ركيزة تقوم عليها مباحث الفلسفة المعاصرة اليوم،، وغالبية تلك المباحث الفلسفية خاصة فيما يخص الابستمولوجيا يلعب علم النفس التحليلي الوظائفي التجريبي وعلم وظائف الاعضاء والجهاز العصبي والدماغ، دورا مركزيا هاما فيها يوازي الاهتمام بالجانب الادراكي المنطقي الفلسفي على صعيد علاقة (الفكرباللغة) في فلسفة اللغة بل ومحاولة تجاوزهما (ثنائية الفكر واللغة) كأهم محورمركزي تقوم عليه الفلسفة الاوربية المعاصرة بدءا بالتحليلية التي ساهم بأرسائها فينجشتاين الى جانب جورج مور وبيرتراند رسل، وليس انتهاءا بتفكيكية دريدا التي قامت على ميراث كل من التحليلية الانجليزية والبنيوية الفرنسية... ومدرسة مابعد التحليلية المعاصرة التي يقودها ريتشارد رورتي وسلارز وكواين وكارناب ويشكل علم النفس التجريبي محور أرتكازها الفلسفي معلنة أحتضار الابستمولوجيا كمبحث فلسفي أثير دام قرونا طويلة كما أحتضرت وماتت الميتافيزيقا كمبحث شغل التفكير الفلسفي قرونا من قبل ...

سلارز واللغة

يعتبر سلارز( 1912- 1989) وهو من رواد الفلسفة الواقعية النقدية القرين والوريث القوي لأفكار فينجشتاين (1889- 1951) في فلسفة اللغة حول أعتماده اللغة ودورها المركزي في تحليل وفهم وحل أشكاليات قضايا الفلسفة الموروثة العالقة منذ عصور طويلة. وأعتبر سلارز اللغة مفتاح أدراك العالم ووسيلته في التعبير عنه وفهمه وتفسيره.. (ولم يقدم سلارز براهين على نظرية العلاقة بين اللغة والفكر) كما يصفه رورتي.1، وسيلارز صاحب المقولة المعروفة (الوعي كله شأن لغوي بدايته اللغة). وبأعتباره فيلسوف أبستمولوجي فهو يعتقد (أن الافكار أحداث داخلية لا يمكن أعتبارها غير ذات صلة ضرورية باللغة، أو الى حالات الدماغ أو الى حالات مختلفة بحسب حاجات علم النفس التجريبي الحسّي ) 2.

من الناحية المبدئية لا ضير في أهمية التسليم بصوابية أن الافكار هي أحداث داخلية تجري بالذهن صوريا (تجريديا) لكنما نريد التوقف قليلا عند معنى الدلالة اللغوية لمعنى كلمة التجريد غير المصطلحي خارج مباحث فلسفة اللغة. فالتجريد على المستوى الفني في أبداع ضروب الانتاج الفني هي التعبير بالفكر اللغوي الصامت عن أشكال ومحتوى الفن من غير الاستعانة بدلالة اللغة التعبيرية المسموعة أو المكتوبة كوسيط تواصلي، فاللوحة التشكيلية أو القطعة النحتية هي شكل من أشكال اللغة في التعبيرعن دلالة فكرية مضمونية كامنة غير مفصح عنها في لغة تعبير دلالية تواصلية مباشرة وأنما معبّر عنها بدلالة التأويل الايحائي بفهم المعنى.

أما التجريد الفلسفي فهي التفكيرالمنطقي الصوري بالذهن داخليا أو التفكير المعبّر عنه خارجيا باللغة المجردة في صور الادراك للاشياء والموضوعات و محاولة فهم العالم بتجريد لغوي يمّثل الفكر...فالتجريد هو صورة التفكير بواسطة اللغة وليس التعبير بها،، ولا توجد لغة تعبيرية غير مجردة في التعبير عن الواقع...لذا يبقى الواقع عصيّا على محاولة أحلال الفكر عوضا عنه بدلا من التعبير عنه.

بهذا التوضيح البسيط جدا لا نستدرك سلامة تعبير سلارز ولا نتحفظ على تعبيره أن الافكار الداخلية يمكن أعتبارها ذات صلة تعالقية ضرورية باللغة، على أنه تعبير موّفق متماسك المعنى فلسفيا،، فالتفكير الذهني داخليا تجريديا لا يتم بغير أدراك صور الاشياء خارجيا، وكذلك العقل يفكّر بصور الاشياء تجريدا على مستوى أدراك الاحاسيس داخليا أي من داخل أجهزة بيولوجيا الحياة التي يتوزعها جسم الانسان مثل جهاز الهضم وجهاز الدورة الدموية والجهاز العصبي والعضلي وهكذا،، وكذلك على مستوى الأستجابة للاحساسات الخارجية عن الموضوعات والاشياء أيضا.

وعندما نقول أدراك الذهن لصور الاشياء خارجيا وداخليا، أنما المعني به صور الاشياء بالفكر التي لا يمكن للعقل البشري التفكير من غيرها، وكل صورة مجردة لشيء مدرك بالذهن هو صورة لغوية مجردة لنفس الشيء ماديا أيضا.. والتفكير الصوري بالاحاسيس داخليا أنما هي لغة صورية صامتة ساكنة لم يفصح العقل التعبير عنها خارجيا..لذا فالعقل الذي يبدو لنا أنه يفّكر بصور الاشياء تجريديا، فأنما في الحقيقة يكون هو يفكر بلغة أيحائية مجردة عن مواضيع أدراكها الحسّي باستثناء صور الاشياء الملازمة للفكر عنها .. وعليه تكون حقيقة تفكير العقل قائمة على التفكير باللغة التي تعبر عن صور الاشياء موضوعة التفكير.. وحواس الانسان والجهاز العصبي المرتبط بها والذهن العقلي الذي يستقبلها أنما هو يشبه عمل كاميرا التصويرالتي تكتفي بطبع صور الاشياء فيها فقط،، لكن بفرق جوهري أن الكاميرا مرآة الوقائع والاشياء هي صمّاء لا تعي ولاتفكر كما يفكر ذهن الانسان في التقاطه صور الاشياء ومعالجتها بتجريد لغوي يقوم على الصورة قبل لغة التفكير التجريدية للمدركات، فالذهن يفكر تجريديا بصورة الشيء قبل التعبير عنه باللغة الأبجدية....فصور الاشياء بالذهن هي تعابير لغوية كامنة صامتة وليست صورا مجردة عن مدلولاتها اللغوية في عالم الاشياء.

ونجد الالتباس بين علاقة الفكر بالذهن داخليا يبحث عن أفصاحها رورتي خارجيا بدلالة موضوعات العالم الخارجي الحسّية فهو يعتبر (المعرفة اللاتصورية واللالغوية للاحساسات الاولية الخام تنسب الى كائنات على أساس عضويتهم الممكنة في المجتمع) 3. لا يفهم بالضبط معنى تعبير رورتي أن المعرفة تكون لاتصورية ولا لغوية للاحساسات الخام بنسبتها حسب تعبيره الى كائنات عضويتهم ممكنة في المجتمع، والتعليل الوحيد الذي نفهمه منها يبقى أن الابستمولوجيا هي سلوك مجتمعي قبل أن تكون مادة لغوية بالذهن من أجل المعرفة.. ..فالاحساسات الاولية حسب رأينا هي أشعارات تحفيزية صادرة منقولة أدراكيا شعوريا الى مناطق محددة وظيفيا بالدماغ.. وكل مايتم أدراكه أو الشعور به يكون بالضرورة المعرفية التكاملية في فهم الشيء هو (لغة) وأن كانت لغة لا تعبيرية منطوقة كما في الصمت، لكنما هي لغة تفكير ذهني تتم داخليا وهي في حالة كمون غير معبّر عنه بالصوت أو الكلام أو بالكتابة.

الفرق بين أن تكون المحفزات الفيزيائية عن الاشياء هي وسيلة أحساسات نفسية مرتبطة بالسلوك أكثر منها وسيلة أكتساب معارف علمية حسب رغبة فلاسفة البيسكولوجيا فلاسفة بعد التحليلية اللغوية في قول رورتي (الابستمولوجيا نظام نظري وليس نظاما عمليا بيسكولوجيا)،، بمعنى أن الابستمولوجيا نظام تجريدي نظري من حيث هي خزين الاحساسات بالذهن بينما البيسكولوجيا هي نظام بيولوجي تجريبي نفسي عملي يتخذ صفة السلوك الانساني. وتكون الاحساسات الفيزيائية في كلتا الحالتين (النفسية السلوكية والمعرفية النظرية) أنما تمثل وسيلة أدراك وليس هدفا أدراكيا قائما بذاته.

المعرفة الوهمية والعلم

على خلاف الكثيرين من الفلاسفة القدماء والمحدثين عمد كارناب (1891-1970) وهو فيلسوف التجريبية المنطقية الحديثة الى ضرورة فصل الفلسفة عموما عن العلم، رغم محاولات العديد من فلاسفة القرن السابع عشر المتأثرين بديكارت قلب تلك المعادلة في وجوب التكامل الضروري بين العلم والفلسفة وليس مهما عندهم لمن تكون الأسبقية ولا التبعية بينهما هل تكون في ريادة وأسبقية العلم على الفلسفة أم العكس.. كما (وأعطى كارناب ومعه فلاسفة آخرين من حلقة فينا كلمة ميتافيزيقا توصيف محتقر قولهم أنها تفيد (اللامعنى) وخلعوا نفس التوصيف القاسي على مبحث الابستمولوجيا بالفلسفة بانها بلا معنى).4

من المهم التفريق بين صحة القول الفلسفي أن الميتافيزيقا لامعنى لها، أي لا جدوى من الخوض في مسالكها وقضاياها، وبين تحفظ الاتجاه الجديد الذي يلازم بعض الفلاسفة المعاصرين البسكولوجيين أعتبارهم الابستمولوجيا مبحثا حان وقت تجاوزه كما حصل مع تجاوز الفلسفة قضايا الميتافيزيقا باعتبار الابستمولوجيا هي مبحث فلسفي يترّتب عليه الادراك السلوكي النفسي وليس وسيلة اكتساب المعارف التجريبية كما يفعل العلم مختبريا،، فمبحث الابستمولوجيا ليس علما ينوب عن العلم بل هي سلوك نفسي مكتسب لا علاقة له بمنجزات العلم..

ومثال تأكيد ذلك فقد وجد فينجشتاين ومعه فلاسفة اكسفورد أن هناك وظيفة فلسفية باقية في ضرورة العلاج النفسي لفلاسفة هم بحاجة الى الشفاء من الوهم بوجود مسائل أبستمولوجية.5 ويعتبر كواين أن فلاسفة الابستمولوجيا كانوا يحلمون أيجاد فلسفة أولى أكثر ثباتا من العلم وتوظيفها في تسويغ معرفتنا العالم الخارجي. 6

والحقيقة التي لا يمكن العبورمن فوقها هي أن الابستمولوجيا كانت الفلسفة الاولى على أمتداد تاريخ الفلسفة منذ افلاطون وكانت الابستمولوجيا مبحثا في الفلسفة قرينة مبحث الوجود (الانطولوجيا)، قبل أن تصبح الابستمولوجيا في الفلسفة الحديثة والمعاصرة لا قيمة حقيقية لها كما هي الحال بلامعنى ولا قيمة للميتافيزيقا وزيف التفلسف بقضاياها عند رواد الفلسفة الاوربية والامريكية المعاصرة.

الاشكالية التي تعاني منها الفلسفة المعاصرة حول مبحث الابستمولوجيا هو حقيقة أن تاريخ الفلسفة بقي قرونا طويلة يعتبرها الفلسفة الاولى،، ويراد منها الآن أخلاء الطريق امام الفلسفة المعاصرة التي ترى أن المعرفة اليوم هي مشكلة البحث عن المعنى في فلسفة اللغة...وهذا ما عبّر عنه كارناب ممثلا عن حلقة فيينا وفينجشتاين ومعه حلقة اكسفورد (أن مهمة الفلسفة الاولى اليوم أن لم تكن الوحيدة هو تحليل المعاني) في لغة الفلسفة فقط..

ومن غير المجدي محاولة ربط الايستمولوجيا ومقارنتها معياريا بالعلم ومنجزاته في الحكم على أنها لامعنى حقيقي لها،، أكثر من أعتبارها وسيلة أكتساب السلوك المجتمعي وليس أكتساب حقائق ومنجزات العلم التجريبي... والعودة بحسب أجتهادهم الى أصل الابستمولوجيا على أنها ترتبط بعلم نفس السلوك المجتمعي، وأصبحت الابستمولوجيا اليوم لا تعني جدوى ملاحقتها منجزات العلوم ولا حتى الاسهام بها أو المفاضلة معها بين العلم والابستمولوجيا أحدهما بمعزل عن الآخر ليس على صعيد آلية الاشتغال وحسب وأنما على صعيد المنجز المتحقق لكل منهما... كما من المفروغ منه أن تكون الابستمولوجيا مبحثا فلسفيا يتكامل بالعلم لكن لا ينوب عنه ولا يأخذ دوره.فالابستمولوجيا ترجع الى أصلها الفلسفي المنطقي غير العملي التي تقاطع العلم في تطبيقاته العملية التجريبية..

الابستمولوجيا والوهم الفلسفي

على خلاف مع الكثيرين من الفلاسفة عمد كارناب الى وجوب وضرورة فصل الفلسفة عن العلم القائمة فعلا كجوهرين منفصلين،، في وقت أستمات فيه العديدون من الفلاسفة منذ ديكارت القرن السابع عشر محاولتهم قلب المعادلة في أهمية تلازم وتكامل الفلسفة مع العلم وليس مهما التفكير لمن تكون الاولوية والاسبقية بمقدار أهمية تحقيق النتائج المتوخاة من مثل هذا التوجه العلمي - الفلسفي..وقد أعطى كارناب وفلاسفة آخرين معه من حلقة فينّا كلمة ميتافيزيقا توصيفا تحقيريا بالقول انها (بلامعنى) لها، وفي وجوب أن تلحقها الابستمولوجيا بنفس التوصيف الفلسفي.. وعبّر فينجشتين ومعه فلاسفة اكسفورد بان هناك وظيفة فلسفية باقية علينا انجازها بالعلاج النفسي تتمثل باشفائنا لبعض الفلاسفة المرضى وتخليصنا لهم من وهم وجود مسائل ابستمولوجية بالفلسفة علينا معالجتها. 7. ويكمل كواين هذا التوجه قوله (لقد حلم الابستمولوجيون بفلسفة اولى اكثر ثباتا من العلم وتوظيفها في تسويغ معرفتنا العالم الخارجي) 8.والمقصود بالفلسفة الاولى هنا هي مبحث الابستمولوجيا المتعالق بمبحث الوجود ومبحث القيم والاخلاق.

في محاولتنا فهم وأستقصاء كيف يفكر هؤلاء الفلاسفة اقصاء الابستمولوجيا أن تكون مبحثا غير ذي جدوى حاله حال الميتافيزيقا، نجدهم يحاولون ربط الابستمولوجيا من الناحية التوظيفية الآلية بالاحاسيس وعلم النفس التجريبي، وليس ربطها بالعلم معتبرين بداية ما يطلق عليه معرفة ابستمولوجية لا تكون غير استجابة كهربائية للاعصاب ناتجة عن مثيرات تحفيزية فيزيائية لا علاقة لها باكتساب معرفة علمية تجريبية بمقدار ما تمثله من علاقة وطيدة بعلم النفس الوظيفي التجريبي.

لكن الصحيح الذي تمت مصادرته من فلاسفة البيسكولوجيا ان المؤثرات التحفيزية الفيزيائية للاعصاب لا تمثل قيمة معرفية علمية حقيقية مباشرة بذاتها بالقياس الى القيمة الحقيقية التي نكتسبها عن طريق التجربة المختبرية الدقيقة في قضايا العلم.. فوظيفة المؤثرات التحفيزية أنها لا تمّثل قيمة علمية ناجزة بحد ذاتها مسألة قائمة صحتها ولا مجال مناقشة دحضها... الا أن تلك المحفزات الفيسيولوجية تحمل بدايات التفكير في معرفة العالم ليس بالضرورة أن تكون معارف تجاري حقائق العلم أو تنافسها ولا حتى التكامل معها كما يرغب العديد من الفلاسفة القدماء الذين كانوا يحلمون مزاوجتهم مباحث الفلسفة بالعلم بشكل تلفيقي أعتباطي لم يكتب له النجاح..فكما أن معرفة العالم لا تستأثر به منجزات العلم لوحدها كذلك لا يمكننا نكران المعارف الابستمولوجية المكتسبة بغير طرائق العلم أنها لا تمثل أحدى أهم الوسائل في معرفتنا العالم بغير وسائل العلم وحدها.

أن استماتة فلاسفة البيسكولوجيا مابعد التحليلية المعاصرين ضرورة التخلي عن فكرة أعتبار الابستمولوجيا هي الفلسفة الاولى التي تسبق العلم،، يجب أن يتم بنفس الاسلوب الفلسفي المنهجي في تخلي الفلسفة عن مباحث الميتافيزيقا حسب تعبيرهم..بحكم حقيقة التفوق العلمي الذي نشهده باعتبارها اليقين الوحيد الذي يمكننا به معرفة العالم والاحتكام على حقيقته القائمة على التجربة العلمية المتحققة بنتائجها..لكن هذه وجهة نظر ناقصة غير متكاملة وحيدة الجانب تغفل أن معرفة العالم لا تتم بمنجزات وحقائق العلم وحدها بل أن معرفة العالم تتم بأكثر من مجال فلسفي أو معرفي أو علمي أو نفسي أو تاريخي أو انثروبولوجي ولا حتى في تكامل هذه الجوانب مجتمعة معا، فمعرفة العالم عملية مطردة متجددة على الدوام تلغي الكثير من الوسائل القديمة لكنها تستحدث الكثير الجديد غير المسبوق بدلا منها.

 

علي محمد اليوسف /الموصل

..................

الهوامش

1- ريتشارد رورتي/ الفلسفة ومراة الطبيعة /ت : د. حيدر حاج اسماعيل/ ص271

2- المصدر اعلاه نفس الصفحة

3- المصدر اعلاه ص 272

4- المصدر اعلاه ص 311

5- المصدر اعلاه ص 313

6- المصدر اعلاه ص 314

7- المصدر اعلاه ص 311

8- المصدر اعلاه ص 313

 

 

زادي سميث: لم أنتهي حتى الآن من قراءة بروست أو حتى الأخوة كارامازوف

التفاصيل
كتب بواسطة: احمد فاضل

1191 زادي سمثكتابة: زادي سميث

ترجمة: أحمد فاضل

***

في أحدث مقابلة مع الروائية البريطانية المتحدرة من أصول جامايكية زادي سميث، الحاصلة على عدة جوائز مهمة منها على سبيل المثال جائزة أورانج الأدبية، صحيفة الغارديان البريطانية المعروفة توجهت لها أن تقول كلمتها بخصوص الكتب التي طالعتها وتطالعها بأسئلة تدور جميعها حول الكتب، وهو باب يتابعه قراء الصحيفة باهتمام في كل شهر، حيث تلتقي فيه بأسماء لامعة في الأدب والفن ما يعكس حجم ما تتمتع به هذه الأسماء من ثقافة في مجال القراءة، فكان أن كتبت تقول:

 

الكتاب الذي أقرأه حالياً:

"عصر رأسمالية المراقبة" للكاتبة شوشانا زوبوف تبلغ عدد صفحاته 700 صفحة، لقد قرأته لفترة من الوقت إذ تم قياس أهميته بمدى فعالية وصفه للعالم الذي نعيش فيه، ومدى إمكانيته لتغيير العالم المذكور، فأرى أنه من السهل أن يكون أهم كتاب ينشر هذا القرن " .

 

الكتاب الذي كان له أكبر تأثير على كتابتي:

" أعتقد أن الإجابة الأكثر صدقاً على ذلك هي دائماً كتب الأطفال، وأخص منها " الاصبع السحري " لرولد دال " .

 

الكتاب الذي أعتقد أنه بالغ الروعة:

" اثنان قرأتهما مؤخراً: الأول هو " منزل يمسها " للكاتب ويليم فريدريك هيرمانز، هو كاتب كلاسيكي معروف لدى معظم القراء الهولنديين، ولكنه جديد بالنسبة لي، أما الثاني "المرأة حافية القدمين " للكاتب الرواندي Scholastique Mukasonga هو كتاب جميل ومؤلم يجب قراءته على نطاق أوسع " .

 

الكتاب الذي غير رأيي:

"روح اللامساواة في الحياة الأمريكية" للكاتبتين كارين إي فيلدز وباربرا جي فيلدز، تحدتا وبشكل جذري بعضاً من أقدم الأفكار حول العرق وغيرتا الكثير من آراء إيمانويل كارير وآني إيرنو التي وردت في كتبهما الفرنسية " .

 

الكتاب الأخير الذي جعلني أبكي:

"الزيتون مرة أخرى" من قبل اليزابيث ستراوت، ما يلفت النظر في ذلك هو أنه في ذلك الوقت لم أكن قد قرأت لأوليف كيتريدج التي تحدثت عنها، حيث تمكنت ستراوت من أن تجعلني أحب هذه المرأة الغريبة التي لم أقابلها أبداً، ولم أعرف عنها شيئاً، يا لها من كاتبة رائعة ".

 

الكتاب الأخير الذي جعلني أضحك:

"أنا الجديد" لهالي بتلر، الذي سبق وأن قرأته عندما كنت طالبة، يروي حكايات جيل الألفية من الشابات وبصورة تدعو للسخرية " .

 

كتاب لم أستطع الانتهاء منه:

" كثيرة جدا هي الكتب التي لم أتمكن من الانتهاء من قرائتها، مثل مارسيل بروست و Robert Musil’s The Man، أو حتى " الأخوة كارامازوف "، وهو ما سوف أعطيه فرصة أخرى للقراءة في الوقت الحالي، وكذلك " قصة مدينتين " و " دون كيشوت " والقائمة تطول، إنها ليست مسألة عدم إعجابي بهم أبداً، إنها دائماً مسألة وقت والتزامات أخرى، فأنا أكره عدم الانتهاء من الكتب ودائما ألوم نفسي على ذلك " .

 

الكتاب الذي شعرت بالخجل منه ولم أقرأه:

"من الصعب أن أفرد واحداً من هذه الكتب، ولكن ربما أشعر بالخجل لعدم قراءة " مذكرات توماس ثيسلوود "، كنت أكتب عن العبودية وأستخدمها في الكثير من رواياتي، لكنني وجدت اليوميات تبتعد كثيراً عما أؤمن به، إنه لأمر مدهش بالنسبة لي أن مثل هذه الكتب تجد لها قرائها ويستطيعون تحمل ما يقوله كُتابها" .

 

راحة لي عند قراءة:

"أي شيء من قبل كريس وير، من المريح أن أعرف أنه ليس لدي سوى فرحة قرائتها أمامي لبضع ساعات ".

 

الكتاب الذي أقدمه كهدية:

"أعتقد أن الكتاب الذي يتم تقديمه كهدية يجب أن يكون بكل سرور ودون أي التزام لذلك غالباً ما أقدم روايات مصورة، لقد أعطيت مؤخراً مجلدات " عرب المستقبل " للكاتب رياض سطوف للكثير من صديقاتي وأصدقائي " .

 

الكتاب الذي أحب أن أتذكره أكثر شيئاً من غيره:

" الكتاب الذي يترك في نفسي مساحة كبيرة من الإعجاب " .

 

عن / صحيفة الغارديان البريطانية

 

الباحث الاسلامي محمد شارف: طه حسين كان ابنا مخلصًا للإستشراق الغربي

التفاصيل
كتب بواسطة: خولة خمري

1189 محمد شارفلذلك تم استغلاله لزعزعة تراثنا الإسلامي.

أهلا ومرحبا بك معنا.

- مرحبا أختي خولة.

 

بداية: كيف يقدم لنا الدكتور محمد شارف نفسه؟ وخلاصة ما عاشه من تجارب وتنقلات فكرية بين الحركات الفكرية للقراء والمتابعين؟

- رغم أنني لست مؤمنا بتزكية الإنسان لنفسه وأومن إيمانا عميقا بأن عمل الإنسان هو خير من يقدمه للناس .إلا أنني ـ واستجابة لدعوتك ـ أقدم نفسي بإيجاز ..محمد شارف من مواليد 7سبتمبر 1960ببوحنيفية ولاية معسكر .درست الابتدائي بمسقط رأسي ثم التحقت بالمعهد الأصلي ولاية سيدي بلعباس وبعد التخرج زاولت مهنة التعليم كأستاذ للغة العربية، مارست هواية الشعر منذ الصغر ثم تخليت عنها .ونظرا لبعدي عن الأضواء لم أشارك في الملتقيات إلا نادرا ..كتبت ثلاثة كتب هي على التوالي 1سيد قطب المفترى عليه 2عيسى بن مريم وليس بن الله3ضوابط الاعتدال في نقد الأفكار والرجال ..كما ألفت ثلاث روايات 1وغربت شمس الضلال2العائد من الجحيم 3الراقي والمسحورة. ولي كتب أخرى تحت الطبع منها 1نفحات الإنعام في شرح قطر ابن هشام الذي سيصدر قريبا .

أما عن التنقلات الفكرية فأنا من عائلة محافظة متدينة ونشأت على هذا وما زلت ملتزما به والحمد لله، لكنني عايشت اليساريين والعلمانيين وتحاورنا وتم التفاعل وأثر ذلك في أعمالي الكتابية والشفوية.

 

- تعيش الدولة الجزائرية هذه الأيام حراكا شعبيا ونخبويا كبيرا ما قراءتك الثقافية والفلسفية لهذا التحول الكبير الذي يشهده وعي المجتمع الجزائري؟.

- في البداية دعيني أقول لك :إن الحراك الذي عرفته الجزائر هو حراك شعبي جاء كنتيجة تراكمات سلبية عديدة ’فالسلطة قد وصلت إلى نوع من التردي لم يعرف له مثيل من قبل ..التعفن الإداري، والتسيب السياسي، والعفن المالي الذي أزكمت رائحته العفنة كل النفوس الشريفة، وباتت الجزائر وكأنها مزرعة تسيرها فئة أقل ما يقال عنها أنها عصابة لا تنتمي لهذا البلد ولا تحب له الخير، ومما زاد في الطين بلة أن كرسي الرئيس الذي هو رمز البلد أصبح يجلس عليه شخص عاجز والغريب أن هذا الشخص أصبح وكأنه صنم تقدم له القرابين من طرف أناس يخدمهم بقاؤه ..ونتيجة لكل هذا هب الشعب وثار سلميا مطالبا باسترجاع وطنه المسروق منه ..أما النخب فبعضها تريث كعادته والبعض الآخر ركب الموجة لعله ينال ولو قسطا من الكعكة والبعض الثالث ساند الحراك بدافع حب الوطن وتخليصه من براثن هذا المستنقع لأنه يؤمن بأن هذا البلد ضحى من أجله رجال ليعيش أهله سادة لا عبيدا

 

- أبانت الحركة الطلابية بالجزائر في ظل الحراك على وعي وطني كبير هل يمكن مقارنة ثورة الطلاب بالجزائر هذه الأيام بثورة طلاب فرنسا سنة 1968م التي غيرت مجرى أوروبا كاملة؟.

- في اعتقادي أننا لا نستطيع أن نقارن بين ثورة طلاب كانت فاعلة ومنسجمة مع المشروع التحرري الهادف إلى نبذ الهيمنة وتحرر البلاد وزرع أفكار خادمة للمجتمع والشعب الجزائري عموما أقصد ثورة 1968وبين مشاركة الطلاب في الحراك الذي لا يرقى إلى تسميته ثورة ..فالأولى كانت فاعلة والثانية كانت منفعلة، والأولى أثرت في الغير بينما الثانية تأثرت بالغير.والأولى كانت أسبابها وغاياتها واضحة بينما مشاركة الطلاب في الحراك لم تكن واضحة الأسباب والدوافع ..بالإضافة إلى أننا عندما نقرأ الحركة الطلابية في الجامعة نجدها محزبة وتعمل لأجندة حزبها ..فالولاء عندها للحزب أو الجماعة مقدم على الولاء للوطن والشعب ..وهذا لا يعني أنه لا يوجد من الحركة الطلابية من كان نزيها صادقا وأولى أولوياته هي حب الوطن والعمل له ..كما أن الجامعة هي المخبر الذي تتكون فيه الأفكار ومنذ تأسيس الأحياء الجامعة شاهدنا هذه التناقضات الفكرية والانتماءات الإديولوجية والحزبية

- تنامي وبروز النعرات العرقية والقبلية ومصطلح الهوية داخل الحراك في هذا الوقت بالذات أليس مؤشرا خطيرا لاختراق الحراك وهل يمكن لأطراف تصطاد في المياه العكرة أن تتسبب في الانفلات الأمني بالبلاد؟

- النعرات موجودة منذ القديم لكنها تختفي وتظهر حسب الخريطة السياسية وحسب طموحات أصحاب القرار ففرنسا المستعمرة استغلت هذه النعرات ثم جاء المسؤولون بعد الاستقلال واستغلوها لحفظ بعض التوازنات ..لكننا كمسلمين نؤمن بقوله تعالى(إن أكرمكم عند الله اتقاكم )كما نؤمن بأن الرسول محمدا جاء رحمة للعالمين ولو يأت لعرقية دون أخرى .والغريب أنه بعد أحداث سنة1991استغلت الطبقة الحاكمة والتي لها انتماء واضح ..هذه النعرات وغذتها فأوصلت سفينة البلاد إلى الارتطام بالصخور مما أدى إلى تحطيمها في النهاية ..ولا نستغرب أن يخترق دعاة الفكر العرقي كاليساريين واللائكين المتطرفين الحراك بغية توجيه إلى تحقيق أهدافهم ..وهذا ما حدث بالفعل حيث أصبحنا نسمع أصواتا هنا وهناك تدعو إلى بعض الأفكار المشبوهة التي لا تخدم البلد والوطن ..ولكن ما نحمد الله عليه أن الجيش الحالي لم يتورط فيما تورط فيه الجيش في التسعينات من الاستجابة لأقلية شاذة فكرا وانتماء تريد أن تتحكم في بلد عريق حضارة وثقافة ودينا .

 

- أصبحت المجتمعات العربية اليوم تلجأ للدراما التركية بشكل ملفت للانتباه فهل أصبحت الدراما التركية تلبي حاجاته العاطفية التي فشلت الدراما العربية في معالجتها ما تعليقكم؟ أم أن ذلك إحدى وسائل القوة الناعمة التركية التي تمكنت من خلالها السيطرة على ذهن المجتمعات العربية؟.

- لا يخفى على أي باحث دور الصورة وتأثيرها على المجتمعات سواء في تقديم المعلومة أو تقديم الدراما ..فالدراما العربية رغم تقدمها في مجال الصورة بشكل نسبي مقارنة بالماضي إلا أنها على الشكل الموضوعي نجد إما أنها تجتر الماضي أو تلجأ للبهلوانية وكأنها مازلت تستخف بعقول المشاهد العربي ..بالإضافة إلى الرقابة السياسة التي تئد كل فكر جميل يعلو ولا يهبط .أما الدراما التركية فأهدافها محددة وليست غوغائية فهي ذات هدف استقطابي تجاري.حالمة بماض مجيد عاشه أجدادها،  واستخدمت براعة التصوير وجدة المواضيع والجرأة في الطرح للوصول إلى هذه الأهداف ومما زاد انبهار العالم العربي بها هو ترجمتها للعربية وأحيانا إلى اللهجات المحلية .أما عنصر إشباع الغرائز والعواطف المكبوتة فهو واضح ولا يحتاج إلى تعليق .

- قديما خاصة بعد نكسة حزيران 1967 كان للمفكر العربي دور كبير في تفعيل الحراك السياسي والشعبي، بماذا تفسرين التراجع الرهيب لدور المثقف العربي في الحراك السياسي العربي بعد الربيع العربي؟.

أعتقد أن القضية هنا هي قضية نوع الثقافة والوعي لدى المفكر ..فبعد هزيمة 1967والتي تعتبر نكسة بكل المقاييس لأن إسرائيل هزمت كل الدول العربية مجتمعة ومرغت سمعتها في التراب ..فالمثقف العربي آنذاك رغم انهياره من الداخل لم تطل نومته بل صحا وشرع يبحث عن أسباب هزيمته فاقتنع بأن الزعامات الفارغة والخطب الرنانة والسياسة التي ليست لها أهداف واضحة قد تؤدي به إلى الهاوية ..فبدأ يكتب ويناضل ويدعو للتحرير وعدم الذوبان في الآخر وركز على القضية المركزية وهي استعادة كرامته وتحرير أرضه ومحاولة امتلاكه لوسائل القوى والتقدم مثل عدوه ..لكن المثقف العربي الحالي يعيش تشرذما وفقدا للحصانة الثقافية التي تحميه من الذوبان ..فتفتحه على الغرب مبالغ فيه، حيث يراه قدوة في كل شيء، كما أن المعيار النقدي عنده ضعيف فهو لا يقوم بدور الغربلة بل يريد أخذ كل شيء عن الغرب (دون تعميم طبعا).. بقي أن أشير إلى أن العالم العربي بعد نكسة 1967ظهر فيه تياران ثقافيان متناقضان 1المد اليساري 2المد الديني بالَإضافة إلى موجة اليأس والقنوط التي أدت إلى ظاهرة الإلحاد ..وهذا عكسته كل الكتب والروايات التي جاءت بعد تلك الفترة ..بل حتى بعض الأعمال الدرامية عالجت هذه الظاهرة ومنها على سبيل المثال (فيلم أين تخبئون الشمس) ليوسف شاهين .

 

- فكرة المهدي المنتظر ظاهرة منتشرة في الأديان السماوية ما قراءتكم لتحول هذه الفكرة إلى مطية للتكاسل عن فعل التغيير بالوطن العربي دون باقي الشعوب؟.

- فكرة المهدي المنتظر ليست منتشرة في كل الأديان السماوية، بل هي عقيدة عند المسلمين سنة وشيعة فهم متفقون على الفكرة ولكنهم يختلفون في الجزئيات ..فمهدي الشيعة حي وموجود في السرداب وسيخرج .أما مهدي السنة فميت وسيخرج في آخر الزمان عند ظهور الفتن وهو عندهم علامة من علامات الساعة ..أما الأديان الأخرى فتوجد عندهم فكرة المخلص وهي شبيهة إلى حد بعيد بفكرة المهدي عند المسلمين .

بغض النظر عن المهدي كعقيدة نجد أن المنهزم يهرب من الواقع باستمرار ويلجأ إلى عالم الغيب كعملية تبريرية لعجزه ..والأحق لو يدرس الإنسان مشكلته بمعطياتها الواقعية ويتعامل معها على هذا الأساس ..(هذا ليس إنكارا مني للغيب فهم من عقيدتي وجاء به قرآني)

 

- بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 تم الإعلان من أمريكا عن جعل تلك السنة سنة للتعايش و الحوار بين الأديان ..لكن الواقع أدى إلى عكس ذلك فشاهدنا ضرب العراق وغيرها ما تحليلكم لذلك؟.

- التعايش السلمي بين الأديان مبدئيا لا يكون بين دين صحيح وآخر محرف كما لا يكون بين قوي يفرض سيطرته وآخر ضعيف لا حول له ولا قوة ..فالأديان مصدرها واحد هو الله الذي بعث أنبياءه وقالها محمد بن عبد الله (نحن معشر الأنبياء أبناء علات أبونا واحد وامهاتنا شتى )والأديان جاءت لخدمة الإنسان كإنسان دون النظر إلى عرقه أو جنسه أو لسانه لكن الهيمنة المسيحية لا تؤمن بهذا .فأعتقد أن تنامي ظاهرة الإرهاب كانت من الدواعي إلى إعلان هذه الفكرة مؤقتا ..ثم جاءت قضية ضرب العراق ودون كلام كثير فهي ذات شقين:

1- إرجاع العرب إلى بيت الطاعة وقص جناح صدام حسين الذي رأوا فيه متمردا عن الطاعة وربما معرقلا لمشروع أمريكي في الشرط الأوسط بتمويل خليجي .وهذا ما ظهر الآن جليا ولا يحتاج لأي توضيح

2ـ ضرب مقومات الحضارة العربية الإسلامية التي تحول دون استغلال اليهود لتلك المنطقة .. ولا ننسى أن علاقة اليهود بالعراق قديمة فهي متواجدة منذ العهد البابلي ..

 

- انتشار دعوات تجديد الخطاب الديني تطالب به العديد من الدول الغربية ..إذا كنا فعلا بحاجة لذلك فلماذا الاقتصار على الخطاب الديني الإسلامي فقط دون المسيحي في منطقتنا العربية؟

- السؤال يحمل في طياته بذور الجواب ..أولا إن التجديد فكرة إسلامية،، ولقد عرف التاريخ الإسلامي مجددون عبر حقبه منهم على سبيل المثال الشافعي وأبو حامد الغزالي وغيرهما ..وحتى السنة النبوية تبين بأن هذا الدين فيه تجديد لكن هذا التجديد له شروطه وضوابطه وليس بابا مفتوحا على مصراعيه ..ثم إن هذا التجديد يأتي استجابة لدواعي دينية واجتماعية وثقافية نابعة من المجتمع المجدد وليس مفروضا عليه من عنصر خارجي ..فالغرب يريد تجديدا في الأصول العامة والقواعد الدينية وحذف آيات وأحاديث من الدين كما يجري في مصر الآن ..بحجة أنها لا تنسجم مع العصر والزمن ..وفي الواقع أنها لا تنسجم مع الغرب الذي يريد الهيمنة والاستحواذ الثقافي واستحمار الشعوب العربية والإسلامية ..ثم لماذا لا يمس هذا التجديد الخطاب المسيحي لأن هذا الخطاب بشري بأصله ويغيرونه متى يشاءون ..

 

- تاريخ العالم العربي والإسلامي يعج بالعديد من المغالطات التاريخية وحتى الدينية منها لكن السؤال الذي يطرح نفسه لماذا ارتبط ظهور هذه المغالطات بالفكر الاستشراقي بالذات ما قراءتكم لذلك؟.

- الكلام طويل ..لكن المغالطات التاريخية بدأت قديما على يد الحركات الهدامة وفي مقدمتها الحركة الشعوبية (في الأدب) والحركة الباطنية (في الدين) لكن في عصر الحديث كان المستشرقون أكثر دقة في الهجوم وأعظم تأثيرا لأنهم وجدوا تلاميذ مخلصين ينشرون هذا الفكر ومن بينهم 1طه حسين 2علي عبد الرازق 3محمد أركون وغيرهم ..وهذه المغالطات يجب أن نقرأها بتأن ونعالجها بموضوعية بعيدا عن التقديس والتبخيس ..كما أن المستشرقين نقبوا في بطون الكتب التي أهملناها نحن طويلا ..ومن هذه المغالطات: - 1الإساءة إلى الصحابة وفي مقدمتهم خالد بن الوليد وعثمان بن عفان.

- 2الإساءة الى التاريخ العباسي والإسلامي جملة وتفصيلا

- 3التفاسير الخاطئة للقرآن والسنة وإعطائها أبعادا عدائية

4- تشويه الأدب العربي في مقابلة تمجيد الأدب اليوناني وأساطيره

 

- الحركة الثقافية العربية تشهد تهافتا كبيرا على منجزات الثقافة الغربية لكن يشوب تلك العملية حركة انبهار بل وتلقي دون غربلة أو مراعاة للخصوصيات الحضارية والثقافية التي أوجدت تلك النظريات ما قراءتكم لذلك؟.

قديما قالها ابن خلدون (المغلوب مولع بتقليد الغالب) لكنني هنا أريد أن أميز بين نوعين من الثقافة

1- هناك ثقافة عالمية الجنسية فيها الأخذ والعطاء دون قيود كالعلوم الطيبة والتجريبية وغيرها فكما أخذ الغرب منا قديما نأخذ منه دون حرج،، فالغرب أخذ من الخوارزمي وابن رشد والرازي كما تعلم أبناؤه في جامعات الأندلس وهذه بضاعتنا ترد إلينا في شكل متطور مدروس

2- هناك ثقافة لها علاقة بدين الأمة وحضارتها وتاريخها هذه يجب أن نأخذ عنهم بترو وغربلة وتمحيص كالأدب والدين والتاريخ وعلم النفس وعلوم التربية وغيرهم ..

فالانبهار جاء من كوننا ضعفاء حضاريا أمام الغرب وقبولنا لتشويه مقوماتنا جاء من كوننا لم نفرق بين العلمين بالطريقة السالفة الذكر

 

- ما مدى قدرة علماء الاجتماع العرب على إيجاد نظرية عربية أصيلة في علم الاجتماع تمتاح من النظريات الغربية ومصطلحاتها وكذا التراث العربي الأصيل من خلال كتابات رواد النقد علم الاجتماع العرب أمثال عبد الرحمن ابن خلدون وغيره؟.

- هذا العمل يتطلب عملا جماعيا وتفرغا له، كما يتطلب تدعيما من الدول لأنه مجهود شاق وجاد ..وهو موجود على مستوى بعض الأفراد نذكر من بينهم على سبيل المثال الأديب والعالم المصري أنور الجندي الذي قدم عدة دراسات في هذا المجال .وهو دور يجب أن تتفطن له الجامعات عبر رسائلها وبحوثها ..وليس عيبا ان نأخذ من الغرب في هذا المجال لا سيما في المجال المنهجي .فليس عيبا ان نأخذ من دوركايم أو جون جاك روسو ولكن العيب في أن نصبح نسخة مشوهة منهم .

 

- هل بالإمكان إيجاد نوع من المقاربات التّثاقفية الجديدة الجامعة بين الثّقافتين العربية والغربية لحل الجدل الدائر بين بنية المجتمعات الشرقية والغربية من خلال تشاكل ثقافي كوني جديد بعيدًا عن سلطة المركزية الغربية؟.

- مكن، لكن في إطار الاعتراف بخصوصية الآخر وعدم تضخم الأنا عند أي طرف .فهناك قواسم مشتركة في النظرة للإنسان والكون كما أن هناك قواسم مشتركة في الإله المعبود مع بعض التفاصيل ..أما الأشياء المختلف فيها فيمكن أن يتم الاتفاق فيها على احترام الخصوصيات .

 

- انتشرت ظاهرة النشر السريع في أوساط الشباب العربي بشكل ملفت للانتباه باعتبارك مثقفا بماذا تنصح الشباب في هذا المجال؟.

- جميل جدا أن ينشر الشباب وأن يقول رأيه لكي يتم التواصل بين الأجيال، لكنني أنصحه بالقراءة الواعية والتعلم والموضوعية في الطرح والاستفادة من خبرة من سبقوه لأن كل بناء لا يبنى على أساس سينهار ..ومما لاحظته أن بعضهم نشر روايات فجاءت هشة من حيث التقنيات الروائية لعدم قراءته في هذا المجال ومن حيث المعالجة الموضوعية نظرا لقلة التجربة، ولو تريث حتى ينضج لكان خيرا فالابتسار (التسرع )يضيع الثمرة المرجوة .

 

- دكتور في نهاية حوارنا الشيق هذا، نطرح عليكم سؤالا أخيرا وهو ما هو تصوركم لواقع ثقافة العيش المشترك بالوطن العربي بعد خمسون سنة؟.

- ليس عندي أكثر من الأمل لأن هذا الوطن قد أصبح رقعة شطرنج بين الشرق والغرب فكل ما أرجوه أن يصحو يوما ويدرك كوامن مصلحته ويتعاون بناء على مصلحته المشتركة لا على العواطف .فالعواطف لا تبني الدول ..ورأينا ذلك في العلاقة بين الدول العربية في الستينيات كيف انهارت لأنها مبناها كان قوميا عاطفيا ولم ترتاع فيه مصالح البلدين (سوريا ومصر نموذجا)

 

- كلمة أخيرة تعبر فيها عما يجول بخاطرك وما تود قوله للجمهور والمتتبعين؟

أولا أشكرك على أسئلتك التي أبحرت فيها في مختلف الشواطئ، وأتمنى أن تتغير النظرة للمثقف فالمثقف ليس ذلك الذي يحمل شهادة عليا (مع احترامي لهم جميعا) وإنما هو ذلك الذي يملك رؤيا ورصيدا ثقافيا يجابه الواقع ..كما أنني أتمنى أن يكون المثقف مستقلا حرا في فكره ورؤيته وألا يكون عميلا للسياسي وأن يدرك بأن ما تخطه يمينه مسؤولية يعاقب عليها عند ربه وألا يغش أمته ولو بحرف .

 

حاورته الإعلامية والباحثة الأكاديمية: خولة خمري

 

السينما المصرية وأغوار النفس البشرية.. قراءة فلسفية لفيلم: طاقية الإخفاء

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمد عرفات حجازي

محمد عرفات حجازيتدور أحداث الفيلم حول الشيخ قمر الدين (محمد عبد القدوس) الذي يعمل عطارًا وقرأ كثيرًا في كتب السحر القديمة والمخطوطات وكتب الكيمياء وأقام معملًا في منزله لتحويل التراب إلى ذهب ما أثار استياء زوجته وابنه الصغير فصيح (أحمد فرحات)، واستطاع العطار استقطاب ابنه الأكبر عصفور (عبد المنعم إبراهيم) للعمل معه بمعمله في محاولة لإسعاد البشرية، بعد أن تمّ طرده من عمله في مهنة الصحافة.

المحطّة الأولى للفيلم تتجلّى من خلال تنمّر أمين بائع الذهب (توفيق الدقن) على عصفور واستغلال طيبته وإذلاله أمام أهل الحي الشعبي حيث يقيمون؛ كون الأخير مرتبطًا عاطفيًّا بآمال (زهرة العلا) زميلته في الصحافة وابنة خالة أمين.. تتوالى أحداث الفيلم لتُسافر آمال في مُهمّة صحفيّة إلى لبنان تتعرّض خلالها الطائرة لعاصفة ولم تصل خلال موعدها لينتشر خبر موت آمال ما أدى بعصفور إلى الرغبة في الانتحار، وخلال مُحاولاته البائسة يعبث أخاه الأصغر فصيح بمحتويات المعمل ما أدّى لحدوث عدة انفجارات مُتتالية نتج عنها خروج عفريت احترق نتيجة حالة إغماء أصابت فصيح من هول الموقف وتحوّل إلى رماد يُخفي أيّ شيء يُلامسه، ويكتشف عصفور سرّ الطاقية بعد أن أفسدت الانفجارات المُتتالية مُحاولة انتحاره..

هنا، يضعنا صُنّاع الفيلم أمام السؤال الخطير: هل امتلاك الإنسان الضعيف المُسالم لقوة خارقة (مثل طاقية الإخفاء) ستحوّله لوحش خارق يسرق وينهب ويقتل، أم أنّه سيستخدمها لإحقاق الحقّ وإنصاف المظلومين؟ لم يُخيّب عصفور أملنا، فقد تمكّن من مُقابلة مستر نوجات (جورج بورانيدس) ملك الشكولاتة وأجرى معه سبقًا صحفيًّا رفع من قُدرة الجريدة التي كان يعمل بها، كما أرشد الشرطة عن عصابة لتزييف النقود، وفضح خطط زعماء السوق السوداء، وأرشد عن سارقي آثار منطقة تلّ العمارنة، ليتمّ تعينه كرئيس لتحرير الجريدة وتتبدّل حياته وينتشي المجد بعد خطبته آمال.

أمّا أمين فقد تمكّن بعد غيظ شديد ـ بسبب المكانة التي وصلها عصفور وخطبته لآمال ـ من معرفة سرّ تلك النجاحات، ليُقرّر مع عشيقته لولا الراقصة (برلنتي عبد الحميد) سرقة الطاقية، والفتنة بين عصفور وآمال لإفشال الخطبة بعد تصويره عاريًا في أحضان لولا الراقصة لتبدأ بذلك المحطّة الثانية للفيلم والمرتبطة بالسؤال السابق..

يزداد تنمّر أمين على أهل منطقته بعد استحواذه على الطاقية، ويبدأ في تحقيق أحلامه غير الأخلاقية المنشودة، كسرقة محال المجوهرات لترتفع بذلك أسهم أمين لدى آمال التي وافقت على خطبتها منه بعد انفصالها عن عصفور، ولدى عشيقته لولا الراقصة وشريكته في مسعاه الجديد، وفي المُقابل تنحدر إسهامات عصفور الصحفية ويتراخى عن عمله بعد فقدان الطاقية ويتمّ رفده من عمله ليُخبره بعدها فصيح بتفاصيل واقعة السرقة ويذهب عصفور للراقصة لاسترداد حقّه المسروق بعد أن هدّدت أمين بفضح السّر إن لم يتزوّجها ليدخل أمين ويسمع حوارهما  فيعتمر الطاقية ويقتل لولا ويُتّهم عصفور بالجريمة الذي ذكر للشرطة قصّة الطاقية فأودعوه مشفى الأمراض العقليّة.

هنا يضعنا صُنّاع الفيلم أمام سؤال آخر: مَن تُساند: الحبيب السابق والمُتّهم بالقتل وهو بريء، أم الخطيب الثريّ ابن الخالة القاتل اللص؟ لتأتي آمال بما تحمله من طيبة ووداعة وتُنصفنا من خلال مُساندتها لعصفور بعدما علمت بجرائم أمين، ويستطيع فصيح صُنع طاقية أخرى تمكّن بواسطتها عصفور الهرب من المشفى وإجبار أمين على الاعتراف بكافة جرائمه أمام الشرطة، ليقوم الضابط بعدها بإحراق الطاقية.

تعود آمال وعصفور وفصيح إلى الحي وينتهي الفيلم على دخول أم عصفور لمعمل زوجها في محاولةٍ منها لتحضير بورنيطة (طاقية) الإخفاء ليؤكد لنا بذلك صُنّاع الفيلم استمرار الحلم.

لقد تألّمنا لآلام عصفور وانتشينا بنجاحاته وأفراحه، وعشنا معه لذّة الاختفاء عن الأنظار والانتقال من حالة الوجود إلى اللاوجود وتعلّمنا منه درسًا أخلاقيًّا، وقد أجابنا عصفور في نهاية الفيلم عن سؤال فلسفي هام: هل خلاص الفرد رهن بقيام ضرب من الرفاهية المادية وإن جاءت بطريقة لا أخلاقية؟ ليبقى سؤالنا: لماذا نستدعي الفيلم الآن؟

حديثًا ذهب مانوفيتش إلى أنّ الأفلام أدوات تخدم هدفين هما: الكذب، والتمثيل. وبتقديمها بهذا الشكل، تتوافق السينما على نحوٍ مثاليّ مع التاريخ السياسيّ والاجتماعيّ، بينما نعتقد أنّ السينما ليست فقط وسيطًا يتعلّق بالمُؤثِّرات الخاصة في المقام الأول، كما أنّ الأفلام التي يهتمّ بها بعضنا أكبر اهتمام، ويعتبرونها محوريّة لمشروع السينما كلّه، لها مَهمّة أخرى مُختلفة تمامًا عن الكذب أو الإثارة؛ تهدف للاكتشاف والالتقاء والمُواجهة والإفشاء.. وعليه، فلا ينبغي أن يكون هدفها النهائي هو أن تعني بقدر ما تكشف.

تمّ طرح السؤال التالي على موقع (فيس بوك)؛ لاستطلاع الرأي: ما الذي ستفعله لو أصبحت غير مرئيّ لمدة أربع وعشرين ساعة؟

1188 جدول

جاءت إجمالي التعليقات (53) تعليقًا، منها (3) تعليقات تهدف المُتابعة فقط، ما يعني أنّ التعليقات التي يُمكن تحليلها هي (50) تعليقًا فقط، وذلك بواقع (33) تعليقًا للذكور، بما نسبته 66%، و (17) تعليقًا للإناث، بما نسبته 34%، ويُمكن عرض النتائج كما يلي..

- أغلب التعليقات تصبّ في اتجاه الأفعال غير الأخلاقية بما نسبته 74% (26% تحفّظ، و 18% سرقة ’المصارف، ومحلات الذهب، وسرقة المحلات العامة’، و 12% قتل ’قتل رؤساء وملوك عرب، ورؤساء غربيين، والمجرمين الفاسدين’، و 6% تمنّي، و 12% سفر، أو استخراج جواز سفر أوروبيّ).

- بعض التعليقات تُعبّر عن الحيرة والتأرجح بين الأخلاقية بما نسبته 12% من المجموع الكلّي (6% لن يفعلوا شيئًا، و 4% الخلود إلى النوم، و 2% عن حيرتهم إذا تحقّق الأمر فعلًا).

- حضور الجانب العاطفي لدي المُتفاعلين خاصةً الإناث (4% الانتقام من الرجال الخونة، و 2% التشهير بالآخرين مِمَّن يستحقُّون ذلك، و 2% مُراقبة الآخرين وحديثهم عنهنّ، و 4% زيارة أحبّتهم السابقين).

لقد ذهب دادلي أندرو إلى أنّ السينما الحقيقية مهما يكن مظهرها أو زمنها، لها علاقة بما هو حقيقي، ومن قبله أكّد أندريه بازان على أنّ الفيلم يضعنا في تواصل مع الواقع من خلال ما تراه أعيننا مُركّزًا على الشاشة، ولكن أيُّ واقع هذا في فيلم سرّ طاقية الإخفاء ـ والذي تمّ تصنيفه بضرب من الخيال الكوميدي؟!

إن الطاقية موجودة في زمننا بوفرة: كم من شخص اعتمرها فأفرغ خزانة المؤسسة التي تحت يديه وتوارى خارج الوطن، وموظفون اعتمروها فكفتهم عناء العمل فلُقِّبُوا بالأشباح، وآخرون وضعوها على رؤوس أموالهم فتوارت عن الضرائب... وها هو العالم الافتراضي: الدخول بأسماءٍ مُستعارة وإطلاق العنان للنفس بالشتائم وتصيّد الإناث والولوج للمواقع الإباحية.. إثارة الفتن وترويج الشائعات والأكاذيب والخرفات.. الهكر (الحسابات والبيانات والصور الشخصية) وما نجم عنه من أضرار.

وها هو العلم المُعاصر يطلُّ علينا بعدّة محاولات لإخفاء الأجسام، من أبرزها السيطرة على أشعة الضوء واستخدامها لتغيير مظاهر الأجسام لتصبح غير مرئية عن طريق تشتت أشعة الضوء الساقط على الجسم. وتعتمد تلك الخدعة على التلاعب في سرعة الضوء، وبالتالي تغيير معامل انكسار للجسم وللضوء الذي يمرّ من خلاله. وعن طريق تلك التقنية، يمكن للص اقتحام أي مكان، حتى لو كان مُزوّدًا بكاميرات فيديو لتأمينه، ما يضعنا أمام تحدِّيات أخلاقية حقيقية..

 

محمد عرفات حجازي

 

نيتشة، هايدجر وعودة اليمين المتطرف

التفاصيل
كتب بواسطة: حاتم حميد محسن

1186 عقول خطرةعند البحث عن نيتشة في اليوتيوب سنجد هناك رابط شوهد اكثر من ثلاثة ملايين مرة.انه امر مثير للاعجاب لفيلسوف في القرن التاسع عشر. بالمقابل، جون ستيوارت مل لم يحظ باكثر من مائة الف مشاهدة. اذا كان الرابط يكشف عن شعبية نيتشة(1844-1900)، هو ايضا يخبرنا عن الكيفية التي نُظر بها اليه كمرشد ساحر ومحبوب منقطع النظير.

ان الرسالة الاساسية لـ "عقول خطرة" هي ان لا وجود هناك لقراءة لنيتشة تجعله مقبول اخلاقيا لجناح اليسار السياسي او الوسط. اي تفسير يصفه بهذا هو غير ناضج وخطير .

ان النقاش الحالي هو من النقاشات الملحّة حول نيتشة. نحن نعيش في وقت حيث اليمين المتطرف يتحفز احيانا بنيتشة، يعود للظهور مجددا حيث يُقابل باحترام كبير لدى المعلقين المؤثرين مثل غوردن بيترسون، وحيث القادة الشعبويين السلطويين مثل بوتن واردوغان ورئيس الفليبين يتّبعون اسلوب نيتشة في التقليل من قيمة القواعد والحقائق مفضلين الرؤية البطولية للقوة والمصير. وكما بالنسبة لترامب، الحقيقة البديلة او ما بعد الحقيقة، فيها يكون الواقع صدى لفكرة نيتشة بان"لا وجود هناك لحقائق وانما فقط تفسيرات"، هذه الرؤية تصدرت عناوين الاخبار متسائلة ما اذا كان بالإمكان إلقاء اللوم على المانيا في بروز ظاهرة ترامب ام انها مجرد تنبأت به.

الكاتب بينير(Beiner) كان يركز على هجوم نيتشة الواضح على الليبرالية والمساواة بما جعله فيلسوفا مؤثرا لليسار. انها ليست محاولة من نيتشة لإخفاء رؤيته الرافضة للاخلاق الليبرالية. هو أطلق النارعليها من الأعلى. لكي يطرح جداله ضد التفسيرات اليسارية لنيتشة، يعمد بينير الى تكرار بعض تعبيرات نيتشة الشهيرة التي يحرّض فيها على العبودية، وتشجيع التطهير العرقي، وكراهيته العميقة ورفضه للمساواة الانسانية.

بعض الباحثين في نيتشة يمنحون العذر لهذا العنف المتطرف من خلال قرائته باعتباره استعارات غير حقيقية وبلاغات ساخرة، هي لم تكن توجهات ضرورية مرشدة للفعل. رغم ان نيتشة يترك نفسه مفتوحا للتفسيرات، لكن لا دليل على انه ليس خطيرا ومميتا في هذه القضايا.

هناك جزءان اساسيان واضحان لفلسفة نيتشة : هو يجد المساواة انحدارا اخلاقيا مثيرا للاشمئزاز، وهو يريد الانسانية ان تخرج من فكرة الاخلاق العالمية. كل فرد يجب ان يقرر دليله الاخلاقي. مفاهيم الخير والشر يجب الغائها. بينير يذكّر الليبراليين بان الالتزام بالمساواة الانسانية فيما يتعلق بالحقوق والحرية او اعتبارات الكائن الاخلاقي هي المبدأ المعرّف لأي اخلاق في مرحلة ما بعد التنوير. انها لا يمكن التفاوض عليها. لكن أي نوع من المساواة، وأي شفرات اجتماعية مرتكزة على المساواة، هي ببساطة تثير الكراهية الشديدة لدى نيتشة، وبصرف النظر عن قرائتك لأكثر اقوال نيتشة الصادمة، فان فلسفته الاخلاقية لا يمكن ان تمثل أي نوع من سياسات اليسار او الوسط. بالطبع، اليمين المتطرف هم ايضا يشعرون بالاضطراب لو ارادوا إسناد ايديولوجيتهم على اكتاف نيتشة. هو وجد مناهضة السامية سخيفة، ونصح دائما بالبحث عن منظور جديد لفهم العالم. وما هو اكثر جوهرية، ان نيتشة كان واضحا برفضه الراسخ لأي نوع من ذهنية القطيع، اليسار، اليمين او الوسط.

آفاق نيتشة

يسعى بينير الى انجاز ثلاثة اشياء في كتاب "عقول خطرة". اولاّ، هو يعرض فكرة الحدود او الآفاق Horizons كعامل اساسي لكشف نقد نيتشة للحداثة. ثانيا، هو يريد القول بانه – على عكس ما يريده منك كبار الاكاديميين – فانه من غير الصحيح القول بعدم وجود فلسفة سياسية لنيتشة. اخيرا، هو يقول ان كل ما ذُكر آنفا – تحطيم الاخلاق، سيادة الفلسفة السياسية، ومركزية الآفاق- تنطبق ايضا على مارتن هايدجر (1889-1976).

هجوم نيتشة على الديمقراطية الليبرالية لازال يتسبب في اراقة الدماء. المجتمعات الحديثة هي في ازمة روحية، كما يقول نيتشة، بسبب تقديسها الشديد للعقلانية والمساواة. نيتشه يرى هذا كارثيا لأنه يقود الى تحطيم أفاق الثقافة التي يحتاجها الناس لكي يعيشوا حياتهم الحقيقية.

الآفاق الثقافية هي حدود ثابتة من الافكار والتصورات بها يُعرّف الناس بالضبط منْ هم وما هي اهدافهم في الحياة. في هذا الجانب نيتشة يمجّد فوائد الطاعة الطويلة لقواعد معينة، والتي كما يقول تقود الى انتعاش الاشياء التي"لأجلها نستحق الحياة، مثل، الفضيلة، الفن، الموسيقى، الرقص، العقل، الروحانية "(ما وراء الخير والشر، v188، 1886). اليونان ما قبل سقراط امتلكت مثل هذه الآفاق، وكما فعلت الثقافات الاخرى غير الدينية. المسيحية ايضا لديها حدودها التي يجب احترامها، لكن نيتشة يكره المسيحية. تفسير بينير لهذا هو ان المسيحية رغم انها تفرض آفاقا، لكنها لا تسمح بالخلق الذاتي الأصيل لأن عقيدتها بالخلاص تنكر المأساة المطلقة للحياة، او فكرة ان كل شيء ينتهي بالموت وبالنتيجة كل جهودنا بالنهاية تذهب هباءاً. بالنسبة لنيتشة ان الثقافة الحزينة مليئة "بتشاؤم القوة" المطلوبة لمواجهة الفراغ. وبما ان ذلك يتطلب الشجاعة، فهو يجيز التفوق او النبل Nobility. المسيحية، من جهة اخرى، ترسّخ ما يسميه نيتشة "اخلاق العبودية".

ان ما هو اكثر إشكالية للمجتمع الغربي هو انه عبر"موت الاله" (1) وفقداننا ايماننا التاريخي، نكون قد محونا آفاقنا الثقافية، كما يذكر ذلك نيتشة بطريقة بلاغية في" الانسان المجنون"(The Gay science، 1882). بدون آفاق سوف نتحرر من القيود نحو فراغ يبتلع كل المتعة والمعنى من الحياة. هذا، كما يقول بينير، هو اصل كراهية نيتشة الخاصة للمسيحية: انها جسر من القديم النبيل الى الحداثة الساقطة.

ان اقتراح بينير في ان الآفاق توضح كراهية نيتشة للمجتمعات الحديثة يبدو صحيحا. ادّعاء بينير هو "ان نيتشة أراد الابداع والافاق المفتوحة للفيلسوف البطل وأراد الافاق المغلقة والضيقة لكل شخص آخر"(ص36). ولكن كيف تكون الآفاق مفتوحة للسوبرمان لو نال نيتشة رغبته وعاد الى الافاق المغلقة لما قبل ثقافة المسيح؟ وبعبارة اخرى، اذا كان السوبرمان يضع آفاقه الخاصة به فلماذا يشعر نيتشة بالحزن على ازالة الافاق التي جلبتها المسيحية والتنوير لاحقا معهما؟

الشيء ذاته مع هايدجر

فكرة ان نيتشة ليس لديه فلسفة سياسية جرى الدفاع عنها من جانب الباحث البارز في نيتشة وهو بران ليذر Brian Leiter في انسكلوبيديا ستانفورد للفلسفة. هنا هو يجادل بانه رغم ان نيتشة يدّعي انه مفكر سياسي هام، ومع انه لديه الكثير ما يقوله عن مشكلة الديمقراطيات الحديثة، لكن فلسفته السياسية الايجابية تنقصها التفاصيل. الوصفات الايجابية الكامنة في نقد نيتشة هي في الحقيقة تنطبق على الفرد وليس على الدولة وتهتم بالكيفية التي يصل بها الناس العظام الى طاقتهم الخلاقة.

بينير يسمي رؤية ليذر هذه بالسخيفة. فقط لأن الفلسفة السياسية سلبية ذلك لايجعلها غير سياسية. في الحقيقة، ليذر يعرض نفس الجدال في مناقشة الفلسفة الاخلاقية لنيتشة. هو يرى بانها في الاساس سلبية في نقدها اخلاقية القطيع لكنه لايزال يستنتج منها اخلاق ايجابية بافتراض ان الاخلاق الايجابية هي المضاد لما يكرهه نيتشه.

كتاب "العقول الخطرة" بوضوح ينطبق بالتساوي على نيتشة وهايدجر، لكن هايدجر اُلقي عليه اللوم بسبب ما فعله نيتشه . بينير يشير الى ان تحليل هايدجر للمجتمعات الحديثة تأثّر وبطريقة مشابهة بنيتشة. الآفاق تلعب دورا موازيا. ونفس الشيء ايضا ان هايدجر افتقر الى تفاصيل في فلسفته السياسية الايجابية. لكن بينير يقول، كما في نيتشة، نحن لا نستطيع القول ان فلسفته ليست سياسية.هذا الادّعاء يصعب اثباته . من كتاباته وافعاله يبدو من الواضح ان هايدجر كان نازيا على الاقل في جزء من حياته، والافتراض بانه تنقصه الفلسفة السياسية هو غير صحيح.

استنتاج

الكتاب يختتم بتحذير من القناعة بالليبرالية. الليبراليون ربما يشعرون بالآمان من هجوم نيتشة لأنهم يعتقدون ان افتراض المساواة متأسس جيدا لدرجة ان فكرة نيتشة السلبية وكراهيته لا يمكنها زعزعة ذلك الاساس. الاعتقاد بان القيم الليبرالية مقبولة عالميا هو واضح في القواعد المتفق عليها في القرن العشرين خاصة قواعد جون رولس" Proceduralism". يرى بينير ان تفضيل الاخلاق الاجرائية، "هي طريقة للقول اننا بالاساس جميعنا ليبراليون" . في الحقيقة، ان المشروع الليبرالي هو بعيد عن الانجاز، في ظل عودة الفاشية والبروز العالمي للسلطوية. بينير لا يتوسع هنا كي يوضح الكيفية التي يرتبط بها تحليله بالمشهد السياسي المعاصر(رغم انه قام بهذا في مقال لاحق في تاريخ شبكة الاخبار).هو ربما اضاع الفرصة هنا لكن جداله يبقى صامدا. نيتشة و هايدجر كشخصين ذكيين مثلما كان نقدهما للحداثة، اعتبرا جزءاً كبيرا من الانسانية لاقيمة له، وهما بديا ليس لديهما شك في استعباده او تحطيمه كليا. ولذلك هما كانا شريرين.

 

حاتم حميد محسن

.........................

* كتاب (عقول خطرة: نيتشة، هايدجر، وعودة اليمين المتطرف) للكاتب رولاند بينير، صدر عن مطبوعات جامعة بنسلفانيا عام 2018 في 176 صفحة.

الهوامش

(1) استعمل نيتشة عبارة "موت الاله" ليلخّص تأثير عصر التنوير على مركزية مفهوم الله ضمن الحضارة الاوربية الغربية والتي كانت مسيحية الطابع منذ الامبراطورية الرومانية. التنوير ادّى الى انتصار العقلانية العلمية على الكشف المقدس والى صعود المادية الفلسفية والطبيعية التي استغنت عن دور الاله في شؤون الانسان ومصير العالم. اعترف نيتشة بخطورة موت الاله على الافتراضات الاخلاقية في اوربا القائمة على الايمان المسيحي التقليدي."عندما يتخلّى المرء عن الايمان المسيحي، فهو يتخلّى عن الكل: لاشيء ضروري يبقى لديه".المشكلة هي في كيفية الحفاظ على نظام للقيم في غياب الامر الديني. الاستنتاج التنويري لـ "موت الاله" أعطى دفعا للافتراض بان الناس و الحضارة الغربية ككل لم تعد تؤمن بالنظام الاخلاقي الديني. موت الاله هذا سيقود، حسب نيتشة، ليس فقط الى رفض النظام الفيزيقي وانما ايضا الى رفض القيم المطلقة ذاتها. ومن هنا فان خسارة الاساس المطلق للاخلاق يقود الى العدمية. هذه العدمية وجد فيها نيتشة الحل عبر إعادة تقييم اسس القيم الانسانية.

 

 

محمد بن إدريس الشافعي رائد علم أصول الفقه (1)

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. محمود محمد علي

محمود محمد عليكان الإمام الشافعي، هو أول من دون أصول الفقه، ورتب أبوابه وجمع فصوله، وقد قال في حقه ابن خلدون (ت: 808هـ) :" وكان أول من كتب فيه (أصول الفقه) الشافعي رضي الله عنه، وأملي فيه رسالته المشهورة تكلم فيها في الأوامر والنواهي والبيان والخبر والنسخ، وحكم العلة المنصوصة في القياس .

فإذا كان الإمام الشافعي، يعد أول من دون أصول الفقه علي الطريقة العلمية بشهادة بعض المؤرخين، وذلك في كتابه " الرسالة" الذي يعتبر أول كتاب في أصول الفقه، فذلك لأن الفقهاء كانوا قبله يجتهدون من غير أن يكون بين أيديهم حدود مرسومة للاستنباط، إلا ما ورد بالقرآن والسنة من نماذج ودلائل وإشارات، وكانوا يعتمون علي فهمهم لمعان الشريعة، ومرامي أحكامها وغاياتها، وما تومئ إليه نصوصها، وما تشير إليه مقاصدها ومصادرها ومواردها، ومثلم كمثل من يزن البراهين بالسليقة، من غير أن يكون له إلمام بعلم المنطق، فإن تمرس هؤلاء الفقهاء بدراسة الشريعة وتعرف أغراضها ومقاصدها جعل موازين الاستنباط فيها كالملكات في نفوسهم، يجتهدون فيوفقون من غير أن نكون بين أيديهم حدود مدونة مرسومة، فجاء الشافعي رضي الله عنه،واختلط بالعلماء وناظر الفقهاء، وناظروه، وكانت مناهجهم في الاستنباط تبدو علي ألسنتهم في الجدل والمناظرات، ولذلك وضع الحدود والرسوم وضبط القواعد والموازين.

ولقد أشاد فخر الدين الرازي بفضل الشافعي في هذا المقام فقال :" اعلم أن نسبة الشافعي إلي علم الأصول، كنسبة أرسطو إلي علم المنطق، وكنسبة الخليل بن أحمد إلي علم العروض، وذلك لأن الناس كانوا قبل أرسطو يستدلون ويعترضون بمجرد طباعهم السليمة، ولكن ما كان عندهم قانون في كيفية ترتيب الحدود والبراهين، فلا جرم كانت كلماتهم مشوشة ومضطربة، فإن مجرد الطبع إذا لم يستعن بالقانون الكلي ما أفلح، فلما رأي أرسطو ذلك اعتزل الناس مدة  مديدة، فاستخرج علم المنطق ووضع للخلق بسببه قانونا كليا، ويرجع إليه في معرفة ترتيب الحدود والبراهين، وكذلك الشعراء كانوا قبل الخليل بن أحمد ينظمون أشعارا، وكان اعتمادهم علي مجرد الطبع فاستخرج الخليل علم العروض، فكان ذلك قانونا كليا في معرفة مصالح الشعر ومفاسده، فكذلك هاهنا الناس كانوا قبل الإمام الشافعي رضي الله عنه يتكلمون في مسائل أصول الفقه ويستدلون ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة في كيفية معارضاتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي رحمه الله تعالي علم أصول الفقه ووضع للخلق قانونا كليا يرجع إليه في معرفة مراتب أجلة الشرع، فثبت أن نسبة الشافعي إلي علم الشريعة كنسبة أرسطو إلي علم العقل ( المنطق)، فلما اتفق الخلق علي استخراج علم المنطق درجة عالية لم يتف أحد مشاركة أرسطو فيها، فكذا هاهنا وجب أن يعترفوا للشافعي رضي الله عنه بسبب وضع هذا العلم الشريف بالرفعة والتمييز علي سائر المجتهدين بسبب هذه الدرجة .

ثم يستطرد الرازي قائلا :" والناس وإن أطنبوا بعد ذلك في علم أصول الفقه، إلا أنهم عيال علي الشافعي فيه، لأنه هو الذي فتح هذا الباب والسبق لمن سبق "  .

وإذا كان الشافعي، قد وضع علم أصول الفقه، فهل تأثر في هذا العلم بالفلسفة والمنطق؟ .

يذكر الشيخ مصطفي عبد الرازق ( 1885- 1947م) في كتابه "التمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية":" إن  أصول الفقه لم يخل من أثر الفلسفة ـ فالشافعي حين كتب رسالته في أصول الفقه لم تخل الرسالة من صبغة فلسفية، حيث أن هذه الرسالة تسلك في سرد مباحثها وترتيب أبوابها نسقا مقررا في ذهن مؤلفها، قد يختل اطراده أحيانا ويختفي وجه التتابع فيه، ويعرض له الاستطراد ويلحقه التكرار والغموض، ولكنه علي ذلك كله بداية قوية للتأليف العلمي المنظم في فن يجمع الشافعي لأول مرة عناصره الأولي .

ويستطرد الشيخ مصطفي عبد الرازق فيقول :" وإذا كنا نلمح في " الرسالة " نشأة التفكير الفلسفي في الإسلام من ناحية العناية بضبط الفروع والجزئيات بقواعد كلية، وإن لم نغفل جانب الفقه – أي استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، فإنا نلمح للتفكير الفلسفي في الرسالة مظاهر أخري منها – هذا الاتجاه المنطقي إلي وضع الحدود والتعاريف أولا، ثم الأخذ في التقسيم مع التمثيل والاستشهاد لكل قسم . وقد يتعرض الشافعي لسرد التعاريف المختلفة ليقارن بينها، وينتهي به التمحيص إلي تحيز ما يرتضيه منها، ومنها أسلوبه في الحوار الجدلي المسبع ولطف الفهم وحسن التصرف في الاستدلال والنقض ومراعاة النظام الفلسفي – حوارا فلسفيا علي رغم اعتماده علي النقل أولا وبالذات واتصاله بأمور شرعية خالصة .

وينتهي الشيخ مصطفي عبد الرازق إلي ضرورة اعتبار علم أصول الفقه فرعا من فروع الفلسفة الإسلامية، علي أساس ما يتميز به من طابع فلسفي واضح، حيث يقول :" وعندي أنه إذا كان لعلم الكلام ولعلم التصوف من الصلة بالفلسفة ما يسوغ جعل هذا اللفظ شاملا لهما، فإن علم أصول الفقه المسمي " علم أصول الأحكام" ليس ضعيف الصلة بالفلسفة، ومباحث أصول الفقه تكاد تكون في جملتها من جنس المباحث التي يتناولها علم أصول العقائد الذي هو الكلام، بل إنك لتري في كتب أصول الفقه أبحاثا يسمونها " مبادئ كلامية" هي من مباحث علم الكلام . وأظن أن التوسع في دراسة الفلسفة الإسلامية سينتهي إلي ضم هذا العلم إلي شعبها " .

وإذا كان بعض الباحثين، قد أكد مظاهر التفكير الفلسفي والمنطقي في علم أصول الفقه، فهل يعني هذا أن مؤسس هذا العلم وهو الشافعي قد تأثر بالمنطق والرواقي أو بهما معا، أم أنه صدر في ذلك كله عن عقلية إسلامية متحررة من كل أثر أجنبي .

هناك رأيان متعارضان، أحدهما يقول أصحابه بتأثر الشافعي في رسالته بالمنطق الأرسطي . أما الرأي الثاني، فيقول أصحابه بعدم التأثر بهذا المنطق، بل يؤكدون علي عداء الشافعي للمنطق الأرسطي.

وسبيلنا الآن هو عرض آراء هذين الفريقين بشئ من التفصيل، ثم نذكر رأينا، وذلك علي النحو التالي:

الرأي الأول : الأصل اليوناني والروماني للمنهج عند الشافعي :

ذهب بعض الباحثين المعاصرين، إلي أن الشافعي، قد تأثر في منهجه الأصولي بالمنطق الأرسطي، وممن ذهب هذا المذهب أستاذنا الدكتور " إبراهيم بيومي مدكور "، حيث قال بأن الشافعي، قد طبق فكرة المنهج الموجود في المنطق الأرسطي في كتابه الرسالة، ويستدل علي ذلك بقوله :" بدأ الإمام الشافعي أعماله الفقهية في بداية القرن التاسع الميلادي ( أي الثاني للهجرة)، حيث كانت الترجمات العربية متطورة، وبصفة خاصة الاورجانون الذي كان قد ترجم منه علي الأقل جزء كبير، ويقدم لنا المؤلف المنهجي نموذجا جيدا للعلوم الناشئة في الإسلام، فعندما رأي تعقد الدراسات الفقهية والاختلافات التي غلبت عليها، أراد أن يضع لها قواعد مجردة ومنهجا خاصا، وهكذا وضع علم أصول الفقه، ذلك العلم الذي يعتبر بالنسبة للفقه مثل المنطق بالنسبة إلي الفلسفة، وإذا كان أرسطو هو منشئ منهج البحث المشترك بين كل الأبحاث النظرية، فإن الشافعي هو منشئ منهج البحث الفقهي في الإسلام، وهكذا انتقلت فكرة المنهج المشار إليها والمطبقة عند الفيلسوف اليوناني إلي الفقيه العربي ".

وممن ذهبوا أيضا إلي القول بتأثر الشافعي بمنطق أرسطو الدكتور حسن عبد الحميد، حيث يقول " أن نظرية قياس السبه التي أرسي قواعدها الإمام الشافعي، قد تأثر فيها بأرسطو وخاصة في كتابه الطوبيقا ".

وقد أشار الدكتور علي سامي النشار، إلي أن الذين قالوا بتأثر الشافعي بالمنطق الأرسطي، قد استندوا إلي ثلاث حجج :

- الحجة للأولي : أن الشافعي مفسر جيد يدرس القران والحديث من وجهة نظر دلالتهما، ولذلك يقتصر علي مسألة الألفاظ العامة والخاصة، وهذه المسألة تحمل طابعا منطقيا .

- الحجة الثانية : معرفة الشافعي للغة اليونانية علي ما يذكر أبو عبد الله الحاكم في كتابه " مناقب الشافعي " – الباب الرابع والعشرون، من أن الشافعي كان يقول حين سأله هارون الرشيد عن علمه بالطب " أعرف ما قالت الروم مثل أرسطوطاليس ومهرازيس وفورفوريوس وجالينوس وبقراط وأنباذوقليس بلغاتهم.

- الحجة الثالثة : أن بعض المستشرقين ذهب إلي أن النصوص التي احتوتها " الرسالة" للشافعي، تبين لنا أن صاحبها (الشافعي) يعتبر القياس الأصولي، هو التمثيل عند أرسطو ".

وهذه النقطة يثيرها المستشرق " مارجليوث" حيث يقول بأن الشافعي في نظريته الخاصة بقياس الشبه، قد تأثر فيها بالمنطق الأرسطي، علاوة علي أنه اطلع علي الترجمات العربية التي أخذت في الظهور في القرنين الثامن والتاسع الميلادي، ويستدل " مارجليوث" أيضاً علي تأثر الشافعي بمنطق أرسطو، بأن رسالة الشافعي تثبت أنه كان علي درجة كبيرة من الوضوح، حينما يتحدث عن الأجناس والأنواع، وأن قياس الشبه مبني عنده علي اساس منطقي سليم، المر الذي يفترض معه مارجليوث، أن الشافعي كان علي درجة معينة من الأفة مع منطق أرسطو " .

غير أن بعض المستشرقين يرون بأن نظرية قياس الشبه، لم تتأثر بمنطق أرسطو مباشرة، وإنما هي قد تأثرت بالمنهج الذي استخدمه فقهاء الرومان، ومعني هذا أن الصوليين الأوائل، قد أخذوا نظرية القياس الأصولي عن طريق القانون الروماني ومناهجه المختلفة .

ويوضح هذا الرأي المستشرق "جوزيف شاخت"، مبينا أن تكون الفقه الإسلامي بعد القرن الأول الهجري لم يحدث في المدينة، وإنما تم ذلك في العراق . وليس معني هذا أن شاخت ينكر دور فقهاء المدينة في تكوين الفقه الإسلامي، وإنما الدور الأساسي عنده، قد قام به فقهاء العراق، حيث كانت توجد مراكز لتعليم الفلسفة اليونانية، وبانفتاح المسلمين علي غير العرب الذين اعتنقوا الإسلام، والذين كانوا علي علم ودراية بمنطق اليونان وبمبادئ التشريع اليهودية والقانون الخاص بالكنائس الشرقية والتشريع الفارسي الخاص بعصر الساسانيين وكذلك القانون الروماني، فإن المسلمين قد أدخلوا بالذات طرائق تفكير فقهاء الرومان في علومهم الدينية الشرعية، فقد اخذوا علي وجه التحديد نظرية القياس عن طريق هؤلاء الذين دخلوا الإسلام من أصحاب الثقافات الأخرى ولم يأخذوا هذه النظرية مباشرة عن طريق القانون الروماني بتشريعاته ومؤسساته المختلفة" .وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

صعود المحافظين في الانتخابات التشريعية التونسية

التفاصيل
كتب بواسطة: د. زهير الخويلدي

زهير الخويلدي"للأسف لا يمكن التخلص من الأوغاد لأننا لم ننتخبهم أصلا" - نعوم شموسكي

شهدت انتخابات 6 أكتوبر التشريعية في تونس عبور القوى المحافظة من عدة مرجعيات إسلامية وقومية ودستورية إلى البرلمان وتراجع محير للقوى التقدمية واليسارية وانقسام وتشتت داخل الأحزاب الثورية. كما عرف هذا الحدث ارتفاع نسبة العزوف وتزايد المقاطعة من طرف الشباب بمعدل مرتفع منذ 2011 وكانت النسبة 41 بالمائة ما يعني تفضيل أربع ملايين من المسجلين عدم الذهاب إلى مراكز الاقتراع والاكتفاء بالمتابعة من بعيد والتعليق على ما يحدث في مواقف ساخرة ومنددة في الفضاء الافتراضي.

يمكن تفسير تنامي حركة المقاطعة بعدم احترام السلوك الانتخابي للمرشحين والناخبين للقيم الديمقراطية وانتشار المال السياسي الفاسد وتزايد الرشوة الانتخابية في الكثير من الدوائر وخاصة في مناطق الداخل المهمش وتعمد بعض الأحزاب والجمعيات التحيل والمراوغة وابتزاز المقترعين وشراء ذممهم بالمال.

لقد ألقت نتائج الانتخابات الرئاسية المبكرة بظلالها على نتائج الأحزاب والقائمات المستقلة في الانتخابات التشريعية وساهم الموقف المساند للناجِحَيْن في بروز قوى مضادة للمسار الديمقراطي وتريد العودة إلى الماضي الشمولي وترفض الاعتراف بالدستور من جهة وفي صعود للاتجاه السلفي من جهة أخرى.

بيد أن واقع الهشاشة والتشتت قد أصاب جميع العائلات السياسية والأحزاب الكبرى ولم تحصد أفضل الأحزاب الفائزة أكثر من خمس الأصوات المقترعة وهو ما يعطل تكوين كتل برلمانية وإبرام التحالفات ويؤخر إمكانية تشكيل الحكومة المقبلة بسهولة لتزايد التجاذبات الايديولوجية بين المتفوقين والفاشلين.

يمكن تفسير النتائج التي أدت إلى اندثار الكثير من الحساسيات وإسقاط القوى المهيمنة بصورة تقليدية على الحياة المدنية في تونس والهزيمة النكراء للأحزاب الحاكمة وتراجع شعبيتها وخزانها الانتخابي بتوجه المقترعين إلى التصويت العقابي بسبب فشل منظومة الحكم الحالية في الإقلاع وتزايد حدة الأزمة الاقتصادية وتراجع الخدمات الأساسية للمرفق العمومي وغلاء الأسعار وتفشي البطالة وارتفاع العجز.

لقد دفع اليسار فاتورة باهضة وتاه الطريق مرة أخرى بعد اقتراب مجموعات داخله من المنظومة القديمة وتوجهه نحو التبرير الثقافي للسيستام وتغافله عن تجديد خطابه وعن تطوير أدوات عمله ومواكبة تقدم الذي يعرفه اليسار العالمي وزاد في عزلته عن الشعب واحتكر التكلم باسم النخب المنغلقة على نفسها والعازفة عن النقد الذاتي وأقصى الكثير من المثقفين العضويين وأصيب بمرضي الخطية والانتهازية.

لقد عمدت بعض الأحزاب البرغماتية إلى تكتيك التصويت المفيد بعد إجراء تفاهمات وراء الكواليس قصد تمكين الطرف السياسي الأبرز من الفوز بالمرتبة الأولى وضمان ترشيحه لتشكيل الحكومة وقطع الطريق أمام منافسيه الذين جاؤوا بعده في الترتيب واجبارهم على الدخول في لعبة التفاوض المشروط.

إذا كان الشق الثوري يعتقد أن الانتخابات التشريعية مثلت لحظة مفصلية وحدثا فارقا في المعركة مع المنظومة القديمة ومناسبة للتخلص من السيستام فإن دخول بعض القوى في مشاورات مع كتل فائزة من أجل بلوغ الحد الأدنى المطلوب في البرلمان للتزكية وهو مائة وتسعة مقعد يمكن أن يعصف باعتقاده.

لقد بان بالكاشف أن البيت الإيديولوجي المنقسم لا يقوم وأن العائلة السياسية الموحدة تنتصر وأن منطق الثورة يتناقض جذريا مع عقل الدولة وما يتطلب من تنازلات مذلة وواقعية سياسية تحاول التكيف مع الموجود والتنصل بصورة آلية من العديد من الوعود الانتخابية والالتزامات الجادة والاستحقاقات المهمة.

المهم أن تونس تمضي بطريقة أو بأخرى في طريق التأسيس الديمقراطي للحياة السياسية وتتعهد بعد القوى الماسكة بدواليب الدولة بالوفاء للمسار الثوري والتمسك بالتعددية والتبادل السلمي على السلطة. فهل يتمكن المرشح الثوري للرئاسية من الوصول إلى الحكم في ظل حملة التشويه التي يتعرض لها؟

 

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

ما بين منظمة التحرير وحركة حماس

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ابراهيم أبراش

ابراهيم أبراشفي أية مقارنة تاريخية تفاضلية بين منظمة التحرير كعنوان للوطنية الفلسطينية وحركة حماس كعنوان لمشروع إسلامي فإن الكفة تميل أكثر لصالح الطرف الأول ليس لأن المنظمة حققت الأهداف من وجودها بل لأنها حققت عبر تاريخها انجازات وطنية لا يمكن إنكارها، بينما راكمت حماس إخفاقات وأخطاء على كافة المستويات، وكان من الممكن أن تكون المقارنة مختلفة لو أن سيرورة وصيرورة حركة حماس كانت أفضل مما آلت إليه منظمة التحرير وحركة فتح، وكان من الممكن أن يحدث ذلك لو أن حركة حماس تصرفت بعقلانية ومصداقية ووطنية بعد فوزها في انتخابات يناير 2006 حيث راهنت غالبية الشعب على أن تصحح حماس نهج السلطة وليس إعادة انتاج الفشل والفساد .

قد يقول قائل لماذا هذا التحامل على حركة حماس كـ (مشروع إسلامي) والتشكيك بنواياها فيما هي نهجت تقريباً نفس المسار الذي سلكته منظمة التحرير وتحديداً حركة فتح؟ وماذا حققت منظمة التحرير عنوان المشروع الوطني من مراهنتها على التسوية السياسية واتفاقية أوسلو؟ ولماذا الدفاع عن المنظمة وأصحاب المنظمة أنفسهم لا يريدونها أو غير معنيين باستنهاضها على أساس منطلقاتها الأولى وقد انقلبوا عليها قبل أن تنقلب عليها حركة حماس؟ .

هذه التساؤلات التي يدفع بها المدافعون عن حركة حماس هي ذاتها التي تبرر انتقادنا لحركة حماس، حيث لم تستفد الحركة من تجربة منظمة التحرير ومن أخطائها واعتقدت أنها بمجرد أن تضفي مسمى إسلامي على ذاتها وعملياتها العسكرية فستحقق ما عجزت عن تحقيقه المنظمة (العلمانية)، كما اعتقدت أنها يمكن أن تلغي المشروع الوطني والهوية الوطنية لصالح مشروع إسلامي ملتبس ومُبهَم، وكانت النتيجة أن حركة حماس ومن ورائها جماعة الإخوان المسلمين حولت الشعب الفلسطيني والقضية بشكل عام لحقل تجارب دون أن تراكم على ما تم إنجازه، وبعد كل الخراب والدمار وآلاف القتلى بسبب حروب حماس وإسرائيل خصوصا في قطاع غزة تعلن حركة حماس على لسان السيد إسماعيل هنية انها تقبل بدولة فلسطينية على حدود 67 ويتم توقيع هدنة مع إسرائيل ويجري تنسيق أمني معها، بالإضافة إلى استحالة أن تكون حركة حماس عنواناً للقضية الفلسطينية دولياً بل وعربياً ما دامت تسَوّق نفسها كمشروع إسلام سياسي وغير معترف بها لا عربيا ولا دوليا .

السياق التاريخي للطرفين يقول، إنه عندما اضطرت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في دورة المجلس الوطني في الجزائر 1988 ولوج مسلسل التسوية السياسية والقبول بقرارات الشرعية الدولية انتقدتها كثير من الفصائل الفلسطينية بما فيها حركة حماس الوليدة آنذاك، وعندما تم توقيع اتفاق أوسلو وقيام السلطة زادت حالة الغضب والرفض بل وقاطعت أحزاب كثيرة، بعضها من داخل منظمة التحرير وأخرى من خارجها،  انتخابات 1996، وحركة حماس حرمت الانتخابات وكفَّرت من يشارك في الانتخابات وفي السلطة ، كما رفضت هذه القوى (المعارضة) المشاركة في السلطة لأنها سلطة خيانية وأموالها مشبوهة على حد قولها!!! بينما سمحت للمنتمين لها بالعمل في مؤسسات السلطة والاستفادة من خدماتها كالرواتب وجوازات السفر الخ .

خلال العقد الأول من قيام السلطة عملت منظمة التحرير بقيادة أبو عمار على تشييد مؤسسات سلطة وطنية على أمل أن تؤسِس لاحقاً للدولة الفلسطينية المنشودة، وخلال ذلك واجهت السلطة أيضا الانتقادات والاتهامات ولم ينج الرئيس الراحل أبو عمار ذاته من هذه الاتهامات التي وصلت لتخوينه وتكفيره وإباحة دمه، ليس فقط ممن هم خارج منظمة التحرير بل ممن هم داخلها بل وممن ينتسبون لحركة فتح، كما رفض أبو عمار ما عرضته عليه واشنطن في كامب ديفيد 2 عام 2000 كما رفض عرضاً أن يكون رئيساً على دولة كاملة السيادة في قطاع غزة، ليس هذا فحسب بل مارست حركتا حماس والجهاد عمليات مسلحة ضد إسرائيل من منطلق أن التسوية والمفاوضات خيانة وطنية وأن المقاومة بديل عن المفاوضات وأن لا بديل عن تحرير كل فلسطين من البحر إلى النهر الخ، وهي أعمال كانت ترد عليها إسرائيل بتدمير مقرات ومؤسسات السلطة الفلسطينية ثم اجتياح الضفة في مارس 2002 ومحاصرة الرئيس أبو عمار فاغتياله، ثم آل الأمر بإسرائيل للانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة خريف 2005 بعد أن تأكد بأن حركة حماس هي التي ستستلم مقاليد السلطة في القطاع .

بعد صيرورة حركة حماس سلطة انقلبت الأمور رأساً علي عقب، فما كان محرماً أصبح محللاً، وما كان خيانة أصبح وجهة نظر أو تندرج في سياق الضرورات تبيح المحظورات، ومن رفض الاعتراف بإسرائيل إلى الاعتراف الواقعي بها والتعايش معها، ومن فلسطين من البحر إلى النهر إلى القبول بدويلة في قطاع غزة أما فلسطين والقدس فلهما رب يحميهما، ومن مقاومة لتحرير كل فلسطين إلى مقاومة للدفاع عن قطاع غزة وسلطة حماس فيها الخ .

الشعب بات يلمس ما آل إليه حال شعبنا وخصوصاً في قطاع غزة  من فقر وجوع وإذلال لكرامة المواطنين من نساء وشباب مصابين وبأطراف مقطوعة وهم يصطفون في مهرجانات وطوابير مصورة وبالبث الحي على الفضائيات ليتسلموا من قيادات حركة حماس أو من جهات مانحة مساعدات بمائة دولار بل بخمسين دولاراً أو كوبونة غذائية بأكياس بلاستيكية وينتظرون المنحة القطرية أو مساعدات الشؤون، كما بات يتابع تراجيديا الهجرة المنظمة وغير المنظمة من قطاع غزة وتحت نظر حركة حماس، وكأن هذا ثمن نضالهم وخروجهم فيما تسمى مسيرات العودة، وفي نفس الوقت بات الشعب يرى ويسمع عن الحياة المرفهة لـ(شعب حماس) ونخبها السياسية، والثمن البخس الذي حصلت عليه حماس والفصائل المتساوقة معها مقابل الهدنة مع إسرائيل، والهدنة تعني وقف المقاومة المسلحة أو الجهاد المقدس الذي لم يعد مقدساً إلا إذا كان للدفاع عن سلطة حماس وقياداتها.

ما سبق لا يعني منح منظمة التحرير شهادة براءة بالمطلق من الانتكاسات التي تعرضت لها القضية الفلسطينية، وإن أرادت منظمة التحرير استعادة دورها ومكانتها لمواصلة مهمتها الوطنية فعليها استنهاض نفسها والعمل على شموليتها للكل الفلسطيني وخصوصا أن بعض الفصائل المنضوية فيها أصبحت مناهضة لها، والخطوة الأولى في هذا الاتجاه أن يتم تصويب وضع حركة فتح العمود الفقري للمنظمة لأن استمراره على حاله بل وتراجعه المتواصل لا يشجع أو يساعد على استنهاض المنظمة .

التاريخ، حتى النضالي، لا يمنح لوحده شرعية سياسية دائمة، كما أن القول بالتمسك بالمشروع الوطني نظريا لا يكفي لحكم تفضيل عن الآخرين .إن لم تتدارك المنظمة وحركة فتح الأمر فإن هناك قوى أخرى من داخل التيار الوطني تعمل على توظيف تراجع المشروع الإسلاموي وأزمة حماس وضعف منظمة التحرير لتشكيل حالة وطنية أو مشروع وطني جديد أو الحلول محل المنظمة كعنوان للوطنية وللمشروع الوطني . 

وأخيرا وارتباطا بموضوع الانتخابات فإن الشعب يريد انتخابات لتجديد النخب والحياة السياسية سواء تعلق الأمر بنخب المنظمة وحركة فتح أو نخب حركة حماس والفصائل الأخرى وليس انتخابات تجدد شرعية النخب القائمة الفاشلة والمأزومة .

 

إبراهيم أبراش

 

ثورة العراق على الفساد والأطماع الإقليمية "القصة الكاملة"

التفاصيل
كتب بواسطة: بكر السباتين

بكر السباتين

الأزمة في العراق تفاقمت وتقلبت الأجندات الإيرانية والخليجية والإسرائيلية في الشارع العراقي سعياً منها لركوب الموجة الجماهيرية المنتفضة، حتى يتقاسمَ الخصومُ المقسومَ في العراق المُنْتَهَكُ والمنخورُ بالفساد، حيث تعالت الأصوات مطالبة بتحسين وضع الناس واجتثاث الفساد من جذوره، والنتيجة كانت إطلاق النار على المتظاهرين وسقوط العشرات ما بين قتيل وجريح.. جاء ذلك على خلفية قرار إقصاء قائد قوات جهاز مكافحة الإرهاب الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي والمعروف بدوره البارز في المعارك ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، حيث أثار ذلك غضبا كبيراً في الشارع العراقي ومواقع التواصل الاجتماعي، واعتبر الكثير من السياسيين والإعلاميين والناشطين القرار مجحفاَ. وأكدت مصادر عراقية إحالة الساعدي إلى إمرة وزارة الدفاع بقرار صدر يوم الجمعة الماضي.

ورأى رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي- في حسابة على موقع تويتر- أن هناك فساداً يتعلق ببيع المناصب في المؤسسات العسكرية والأمنية، وقال "ما هكذا تكافئ الدولة مقاتليها الذين دافعوا عن الوطن".

وفي الحقيقة أن إقصاء الساعدي لم يكن إلا الشعرة التي قسمت ظهر البعير، لأن الأزمة الخانقة التي يعانيها العراق بدأت منذ سقوط صدام حسين واحتلال العراق ثم توالي الطغمة الفاسدة على حكم العراق علماً أنها لم تتبرعم من الأرض العراقية الطاهرة؛ بل جاءت على ظهور الدبابات الأمريكية وجحفلت حلفاءها في العراق في إطار جيش لا يمتلك زمام أمره وكان أشبه بالمليشيات الخاصة، لكن وجود "داعش" في خاصرة العراق جلب الدب الإيراني إلى العراق من خلال بناء قوات الحشد الشعبي، الذي حظي برضى العراقيين بعد قيام هذه القوات باجتثاث "داعش" من الخاصرة العراقية وتحرير الموصل من فلولها.. وهذا لم يكن آخر المطاف حيث أن الحشد تحول إلى عبء على الحكومة الفاسدة من حيث ولائه لإيران وإخضاع الحكومة للرقابة غير المباشرة وسيطرته على القرار الشعبي وتبني موقف الرافض لصفقة القرن وعدم التطبيع مع العدو الإسرائيلي تأسياً بالموقف الإيراني وهو التوجه الذي يخالف براغماتية القيادة العراقية الفاسدة التي تقوم على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وسعيها الدؤوب لجسر العلاقات الدبلوماسية مع السعودية والإمارات خلافاً للموقف الإيراني.

الشارع العراقي من جهته تجاوز موضوع نقل الساعدي إلى منطقة الهامش بعيداً عن مركز الفعل؛ لينتقل إلى مواجهة جماهيرية دموية مع رموز الفساد الذين وعدوا بإصلاحات شاملة ولكن دون جدوى فقد انطلقت رصاصة التغيير كما يرى محللون.

ففي سياق متصل نشرت صحيفة الديلي تليغراف تقريراً موسعاً لفريق من مراسلي ومحرري الشؤون الدولية عن الأوضاع في العراق تحت عنوان "الحكومة العراقية تتعهد بإصلاحات اجتماعية بينما تخطى عدد القتلى 100 شخص خلال ستة أيام من الاحتجاجات".

ويقول التقرير إن الحكومة العراقية كشفت عن سلسلة من الإجراءات الإصلاحية في محاولة منها لاحتواء الاحتجاجات الضخمة التي تشهدها البلاد خلال الأسبوع الماضي والتي خلفت 100 قتيل، على الأقل.

ويضيف التقرير أن المظاهرات الأخيرة هي أكبر تحد للحكومة منذ تولت السلطة قبل أقل من عام وهو ما حاولت حكومة عادل عبد المهدي مواجهته بسبعة عشر قرار تدعم إصلاحات اجتماعية واقتصادية.

ويؤكد التقرير أن الاحتجاجات التي بدأت في العاصمة بغداد سرعان ما انتشرت إلى مدن الجنوب العراقي الشيعية حيث أصيب الآلاف وقتل العشرات بواسطة الطلقات النارية.

ويشير التقرير إلى أن الصدامات التي وقعت بين المتظاهرين والعناصر المسلحة كانت عنيفة، وأدت إلى هذا العدد من القتلى والمصابين رغم أن وزير الداخلية العراقي نفى نفياً تاماً استخدام قواته للرصاص في تفريق المتظاهرين.

كما تحدث عن قيام المتظاهرين بإشعال النيران في أكثر من خمسين مبنًى حكومي وثماني مقراتٍ لأحزاب مختلفة.

إن معرفة أسباب هذه المظاهرات العارمة (الثورة الربيعية الشاملة) تسترعي منا نبش الماضي القريب والتنقيب في ملفات الدولة العراقية العميقة، وتقليب الأجندات المتداخلة في الصراع الإقليمي داخل العراق، فثمة دول تسعى إلى جعل العراق نموذجاً للدولة الفاشلة التي ينخرها الفساد حتى لا تقوم له قائمة، ليتحول بفعل ذلك إلى أرض يباب، تقام عليها متاريس متقابلة بين إيران وحلفائها من جهة، وأقطاب صفقة القرن المتمثلة بالإمارات والعدو الإسرائيلي والسعودية وأمريكا من جهة أخرى.

ولنبدأ بإيران التي توسع دورها المشبوه في العراق، خلال العقد ونصف العقد الماضي، ما أثار تساؤلات حول أهدافها، وكيف تنظر إلى العراق في إطار استراتيجيتها الدفاعية.

فمن ناحية، تعتبر إيران العراق حليفاً لها، انطلاقاً من مفهومها. فقد سعت لعقد اجتماعات رفيعة المستوى مع مسؤولين عراقيين، وناقشت معهم موضوع الدفاع المشترك. على سبيل المثال، سافر الرئيس الإيراني، حسن روحاني، إلى العراق. وتم توقيع اتفاقيات ثنائية، بما في ذلك اتفاقيات اقتصادية، والسماح للإيرانيين بالسفر دون تأشيرة للعراق لزيارة الأماكن الشيعية المقدسة. ومع ذلك، فقد احتج العراقيون أيضاً على دور إيران السلبي في العراق. ففي صيف عام 2018، استهدفت الاحتجاجات في البصرة إيران وقوات الحشد الشعبي المدعومة منها. وهناك شكاوى حول الموارد المالية الضخمة التي يدفعها العراق نظير تزويده بالكهرباء وهناك ملف فساد يحتوى على بيانات بالمخالفات في العلاقة البينية العراقية الإيرانية.

ومع ذلك فقد أسهمت القوات شبه العسكرية المدعومة من إيران "الحشد الشعبي" في هزيمة تنظيم «داعش»، وأن العديد من السكان المحليين المنضوين تحت لواء الحشد الشعبي ينتمون لطوائف مختلفة. وقد ساعد الحشد في تسليح السكان المحليين وتوفير الأمن لهم. ويرى الشباب أن العمل في هذه الميليشيات يوفر لهم مردوداً طيباً، أي أن الانخراط في صفوفها تجاوز مفهوم الولاء الأيدلوجي والطائفي إلى مفهوم الحاجة إلى معيشة فضلى تسد الرمق وتمنع العوز في زمن عراقي صعب ولا يرحم. أي أن المأزق العراقي أصبح معيشياً ويجمع في بوتقته العراقيين بغض النظر عن الدين أو الطائفة.. وهذا يعني أن الفقر جمع الشعب العراقي تحت شعار " لا أمان في ظل الفساد المستشري". من هنا تناسى العراقيون دور الحشد الشعبي في اجتثاث داعش، وفتحوا ملفات فساده المزعزمة، واتهمه الخصوم بأنه يدير سجوناً سرية وفيما يستفيد من الفوضى التي تعم البلاد دون أن تساهم في إخمادها. صحيح أنه بالنسبة للبعض، تعتبر هذه المجموعات ضامنة لأمن العراق من خلال منع عودة «داعش» التي تحولت إلى فزاعة يخيف بها الخصوم الشعب المغبون كلما تململ محتجاً على الظروف القاسية التي يعيشها. ولكن من جهة أخرى فإن الحشد الشعبي ذاته بات يخيف العراقيين الذين فروا من حرب «داعش» عام 2014، متفرقين في المدن العراقية أو شرقي الفرات وفي العمق الجغرافي الكردي. فهذا يعني أنهم يواجهون صعوبة في العودة إلى ديارهم، خوفاً من انتقام هذه الجماعات شبه العسكرية.

هذا بالنسبة للدور الإيراني المشبوه في العراق الذي يعتبر بعده الاستراتيجي.. مقابل ذلك يأتي دور أقطاب صفقة القرن الذين دخلوا الساحة العراقية لمواجهة النفوذ الإيراني المستحكم في البلاد، وأقصد هنا الدور التخريبي لكل من الإمارات والعدو الإسرائيلي وأمريكا والسعودية.

تجدر الإشارة في سياق ذلك إلى أن الإمارات العربية خلطت الأوراق في العديد من ملفات المنطقة، وصولاً إلى العراق، البلد الذي لايزال أهله يعانون من آثار الغزو الأمريكي منذ عام 2003، وما جره من مشاكل أبرزها دعم الفساد وتيسير عملياته ودعم رموزه، وكان أكثر تلك المشاكل أثراً، ظهور تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" الذي صنعته مخابرات جميع الدول أعلاه، وما خلف ذلك من دمار في البلاد.

وتجلى التدخل الإماراتي في العديد من الأحداث التي تدور في العراق منذ الاحتلال الأمريكي لهذا البلد الجريح.. لم يكن آخرها تأييد الإمارات لاستفتاء انفصال إقليم كردستان. وهو ما كشفه حزب التغيير الكردي المعارض، الذي نقل معلومات إلى الحكومة المركزية، كشف فيها دعم أبوظبي مشروع الانفصال، مبيناً أن الدعم جاء "من خلال القنصل الإماراتي في أربيل رشيد المنصوري، فضلاً عن السفير في بغداد حسن الشحي، اللذين دعما رئيس الإقليم السابق مسعود البارزاني في هذا التوجه".

كذلك تحول دبي إلى وجهة مفضلة للسياسيين العراقيين ورجال الأعمال الذين تدور حولهم شبهات الفساد وغسيل الأموال وتهريب النفط وبيعه في الأسواق السوداء لصالح بعض المليشيات العراقية في البصرة؛ وجاء في تصريح لمسؤول في الخارجية العراقية ل(الخليج أونلاين) ما مفاده أن "مصادر المخابرات العراقية رصدت تهريب ما بين 300 و400 ألف برميل نفط يومياً من البصرة، تستقبلها الإمارات بشكل رسمي عبر موانئها".

فضلاً عن سرقة الأثار العراقية، حيث ذكرت تقارير إعلامية محلية، أن وسطاء إماراتيين استغلوا حالة الفوضى التي عمت العراق بعد ظهور تنظيم الدولة (يونيو 2014)، وعملوا على بيع وشراء الآثار بالتعاون مع وسطاء محليين وبعض المنتسبين الفاسدين في القوات الأمنية، وحصلوا على قطع من مدينة الموصل يعود تاريخها إلى حقبتي الآشوريين ومملكة الحضر، تقدر قيمتها بعشرات آلاف الدولارات وتم عرض هذه المسروقات في متحف اللوفر في دبي.

بل وتم اكتشاف شبكة لتهريب السلاح إلى العراق.. حصل ذلك يوم الثلاثاء الموافق 9 أبريل 2019 حيث أعلنت الهيئة العامة للجمارك العراقية عن إحباط تهريب حاوية في ميناء أم قصر بمحافظة البصرة، جنوبي البلاد، تحتوي على أسلحة تم إخفاؤها في شحنة لعب أطفال كانت قادمة من ميناء جبل علي الإماراتي.

وقال مصدر عراقي ل (أون لاين) إن "الأجهزة الأمنية رصدت اتصالات أجراها مسؤولون إماراتيون مع قيادات سياسة سنية، وإن أمولاً كبيرة يتم دفعها لهذه القيادات لتنفيذ أجندة الإمارات، وعلى رأسها محاربة الإخوان المسلمين اجتماعياً وسياسياً"، مشيراً إلى أن "الجانب الأمريكي ساعد الأجهزة الأمنية في الوصول إلى هذه المعلومات".

وأضاف: إن "الإمارات تؤدي دوراً تخريبياً في العراق على مختلف الصعد؛ ومنها دعم قيادات سنية، (ليس من باب الدعم الجاد لحماية التواجد السني في معادلة العراق الطائفية) بل لمواجهة الإخوان المسلمين في العراق وسوريا، ناهيك عن دعم عملية تبييض الأموال التي يهربها الفاسدون من العراق، عن طريق شراء عقارات باهظة الأثمان، خاصة في مشاريع عملاقة يحتفظ عراقيون متهمون بالفساد فيها بأسهم وحصص كبيرة"، مستدركاً بالقول: إن "عدداً من المطلوبين للقضاء بتهم متعلقة بالفساد يقيمون في الإمارات التي توفر لهم ملاذات آمنة".

وليس خافياً على أحد ذلك الوجود الإماراتي في إقليم كردستان شمالي العراق بالتنسيق مع العدو الإسرائيلي في محورين:

المحور العسكري من خلال دعم حزب الحياة الكردي “البيجاك” والذي يضم مقاتلين أكراد مناوئين لإيران وتركيا والحكومة المركزية في بغداد، وتساعد على ترسيخ انفصال إقليم كردستان العراق، ويتخذون من "جبال قنديل" على الحدود العراقية الإيرانية معقلا لهم. ويتحكم قادتهم بالقرار السياسي والعسكري لمنطقة شرق الفرات، ويأتي دعمهم من باب توافق الأجندات الإقليمية من قبل كل من السعودية والإمارات والعدو الإسرائيلي ومن خلفهم أمريكا، كون "البيجاك" تمثل قوة ضاربة في الخاصرتين الإيرانية الغربية، والتركية الجنوبية في منطقة شرق الفرات.

وبهذا يسيطر قادة البيجاك على القرار السياسي والعسكري لمنطقة شرق الفرات، وانطلاقاً من ذلك فإنهم سمحوا للعدو الإسرائيلي باستهداف مراكز الحشد الشعبي في العراق باستخدام الطائرات المسيرة، انطلاقاً من منطقة شرق الفرات، ناهيك عن استهداف أربعة مخازن أسلحة تابعة للحشد الشعبي كان آخرها شمال بغداد، حيث وقع الهجوم، بعد نحو 24 ساعة من تعليقات أدلى بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بشأن قصف معسكرات إيرانية في العراق، إذ قال إن "إيران ليست لها حصانة في أي مكان".

جاءت تعليقات نتانياهو، بعد سلسلة مقالات وتحليلات في الصحافة الإسرائيلية، تشير إلى أن تل أبيب ربما وسّعت رقعة مواجهتها العسكرية مع إيران، لتشمل العراق، بعدما كانت تدور في سوريا ولبنان قبل ذلك. ويسعى العدو الإسرائيلي من ذلك إلى دحر النفوذ الإيراني وإدخال العراق في منظومة الدول المؤيدة لصفقة القرن سعياً منه إلى محاصرة الموقف الإيراني الداعم للمقاومة، ناهيك عن ترسيخ وجوده في إقليم كردستان ودعم المليشيات الكردية المؤيدة لها لتفجير الخاصرة الإيرانية في الوقت المناسب، وخلق الفوضى المستدامة في العراق حتى يظل بعيداً عن دائرة الفعل والنفوذ الإقليمي.

أما المحور الاقتصادي، فقد استثمرت أبو ظبي في خلافات الإقليم مع الحكومة المركزية في بغداد، وأقدمت على بناء نفوذ سياسي لها من خلال استغلال حاجة الإقليم لمستثمرين في قطاع النفط والغاز الذي يعزز آمال الأكراد بالاستقلال عن العراق، بحسب الصحفي العراقي سامان كركوكلي، المختص بالشأن الكردي. حيث قال لـ "الخليج أونلاين": إن "أبو ظبي دفعت بأهم شركاتها نحو الإقليم، مثل شركة دانة غاز، وشركة طاقة التي تستحوذ على 20% من أسهم شركة ويسترن زاكروس الكندية، وشركة الهلال التي تعمل في قطاع استكشاف وإنتاج النفط والغاز بمنطقة الشرق الأوسط".

وتجدر الإشارة إلى أن الإمارات هي التي فتحت المجال لدخول النفوذ السعودي إلى شرق سوريا من بوابة العشائر؛ لتفعيل دورها في سوريا ومواجهة المشروع التركي شرقي الفرات.

وليس مستبعداً أن يكون السلاح المهرب من الإمارات يذهب إلى مليشيا "البيجاك" الكردية وحلفائها، فيما تساعد من جهة أخرى بتسويق النفط المنهوب من قبل المليشيات الكردية في السوق السوداء المزدهرة في الإمارات.

أما السعودية وفي سياق مواجهتها المعلنة للنفوذ الإيراني في العراق فقد ذهبت تحت الضوء إلى بناء علاقة اقتصادية مع العراق لتعزيز وجودها في العراق الذي بات تحت رحمة الحشد الشعبي، والمتغلغل في الوعي العراقي على اعتبار أنه صاحب الفضل في اجتثاث داعش من الخاصرة العراقية، وتثبيت الموقف الرسمي العراقي على الخط الإيراني في كثير من القضايا وأهمها الموقف من صفقة القرن وتأييد الحقوق الفلسطينية خلافاً للموقف السعودي المجير للصفقة المشؤومة.

السعودية من جهتها افتتحت قنصليتها في العاصمة العراقية بغداد، كما منحت العراق مليار دولار لتنفيذ مشاريع تنموية.

كما أشارت مصادر الخارجية العراقية إلى مضي السعودية بإجراءات بناء مدينة الملك سلمان الرياضية في بغداد، بعد تخصيص الأرض من قبل الحكومة العراقية.

وتتودد الرياض إلى بغداد في إطار جهود لكبح النفوذ المتنامي لإيران في المنطقة، في حين يسعى العراق لجني فوائد اقتصادية من توثيق روابطه مع جارته الجنوبية.

طبعاً لا يمكن تبرئة نوايا السعودية من محاولة خلط الأوراق في العراق ولو على حساب أمن الشعب العراقي. واعتماد أجندتها على العناصر الفاسدة التي أدى نفوذها إلى نهب العراق وإغراقه في الفوضى التي تجلت مؤخراً بالمظاهرات العنيفة وما رافقها من تداعيات.

من هنا ننتظر أن يستنهض العراق هممه نحو تطهير البلاد من الطغمة الفاسدة.. واستلهام الجانب الإيجابي من تجربة صدام حسين الذي بنى النهضة الاقتصادية والصناعية والعلمية في العراق، من ذلك مفاعل تموز النووي الذي دمره العدو الإسرائيلي، والمنشآت الصناعية العملاقة، ومنظومة الصواريخ البالستية، وإطلاق أول صاروخ عربي إلى الفضاء انطلاقاً من غانا الفرنسية في أمريكا الجنوبية.. تجربة أجهضتها ذات الدول التي تسعى لتخريب العراق وخاصة العدو الإسرائيلي الذي أوشك على تحقيق حلمه ب "إسرائيل الكبرى" وقد خسئ.. فعودة الأسد العراقي إلى عرينه بات وشيكاً.. فإرادة الشعوب لا تقهر.. "ولا بد للقيد أن ينكسر".

 

بقلم بكر السباتين

8 أكتوبر 2019

 

 

الملاك والموساد.. وحرب أکتوبر

التفاصيل
كتب بواسطة: محمد سعد عبد اللطيف

محمد سعد عبداللطيففى هذا التوقيت من كل عام تحتفل مصر بنصر 6 أكتوبر 1973، بينما تطلق إسرائيل الشائعات وتبث سمومها إما تشكيكا أو تضليلا وتقليلا، وفى هذا العام أطلقت إحدى صحفها هذا العنوان (الجاسوس المصری الذی أنقذ إسراٸیل)۔ وفقا لما نشرته صحیفة (هاآرتس) الإسراٸیلیة، بعد عرض قصة فیلم (الملاك) لضابط الاستخبارات الإسراٸیلی (أوری بار جوزیف)، العميل الذي اعتمدت عليه إسرائيل، أشرف مروان، و(الملاك) هو الاسم الحركي داخل جهاز الموساد، الذى أطلق على (أشرف مروان).

وتعرض معظم رٶساء الموساد السابقین فی لقاء متلفز لفترة حرب أكتوبر 1973، والمعلومات الاستخباراتية عن موعد الحرب، وكانت المفاجأة أنه فجر يوم 4 أكتوبر أرسل أشرف مروان رسالة من لندن إلى رئيس المخابرات الإسرائيلية يطلب مقابلته فورا لإبلاغه عن موعد الحرب، ووصل على الفور في اليوم التالي إلى لندن وتمت المقابلة، والإخبار عن موعد الحرب يوم عيد الغفران قبل غروب شمس 6 أكتوبر، تم إبلاغ رئيس الوزراء جولدا مائير، وموشي ديان وزير الدفاع ورئيس الأركان، وحدث خلاف على كمية الاستدعاء من القوات على كتيبتين، أو استدعاء كامل، في نفس الوقت وصلت معلومة، من عميل آخر يحمل رقم (8200) يفيد قيام الحرب، فتم إعلان حالة (ج)، وهذا ما أكده جمال حماد في مذكراته عن وصول معلومات تؤكد أن مصر سوف تهاجم القوات الإسرائيلية.. وطلبت إسرائيل من الولايات المتحدة، إبلاغ مصر بعدم الهجوم، وبالفعل تم إبلاغ الجانب المصري فی الأمم المتحدة، لكن هناك فرق توقيت، وكانت الحرب قد اندلعت.

نتوقف هنا عند نقاط مهمة بالتحليل،.. هل كان أشرف مروان وطنيا وكان مجندا بالفعل من قبل جهاز الاستخبارات المصرية وحدثت عملية تضليل، من قتل أشرف مروان.. ولماذا تم اغتياله بنفس طريقة اغتيال (سعاد حسني) واللواء (الليثي ناصف)، وفي نفس المدينة لندن وبنفس الطريقة وهى السقوط من أعلى، بعد إعلانه عن كتابة مذكرات.. وما هي حكاية المكالمة التي بثها أحد البرامج التليفزيونية عن دار نشر إسرائيلية، عن صدور مذكراته، ولماذا قال مبارك في كلمة إنه كان وطنيا، وهو يعلم ما لا يعلمه الآخرون؟ علامات استفهام كثيرة تثار ولا إجابة مقنعة أو شافية تأتى من الأجهزة المسئولة.

ولماذا بثت قناة إسرائيلية ليلة الاحتفال بيوم تحرير سيناء العام الماضی أن إسرائيل اعتمدت على (أشرف مروان)، ومن هو (أشرف مروان)، هو صهر الزعيم (جمال عبدالناصر)، زوج ابنته (منى)، وسكرتير (محمد أنور السادات) في المهام الخاصة، ومن المقربين له وحصل علی أعلی وسام فی حرب أکتوبر من (السادات) لدوره فی الحرب، ثم کرمه (مبارك)، وقال عنه أثناء جنازته الرسمیة وکان بجواره (عمر سلیمان) مدیر المخابرات المصریة.. إنه کان وطنیا مخلصا، ونفی کل الاتهامات التى وجهت له بالعمالة، وقال (مبارك).. إنه قام بأعمال وطنیة لم یحن الوقت للکشف عنها.

هل تريد إسرائيل حرق رمزين من رموز مصر، اتفقنا معهما أو اختلفنا.. فلهما ما لهما، وعليهما ما عليهما، وحرق صورهما واتهامهما بالخيانة في صورة (أشرف مروان).. وهل بنهاية (أشرف مروان) المأساوية في عاصمة الضباب تم إغلاق الملف، ليعيش الشعب المصري في ضباب الحقيقة؟! هناك أعمال للجهاز المخابرات المصرية بطولية، في نفس الفترة من اكتشاف عميل آخر داخل القصر الجمهوري، وهو الطبیب علی العطفی، الطبیب الخاص للسادات للعلاج الطبيعي، وکان صدیق (شیمون بیریز)، لماذا تحدث رؤساء أجهزة الاستخبارات الإسراٸیلیة السابقین عن أشرف مروان، ولم یتحدثوا عن شخصیة (هبة سلیم)، العمیلة التی کانت تدرس الأدب الفرنسی فی جامعة السربون واکتشفها جهاز المخابرات المصری هی وخطیبها الراٸد فاروق عبدالحمید الفقی، وتم إعدامهما، وکان سبب سقوط طاٸرة مدنیة مصریة فوق سیناء وإجبارها علی النزول فی تل أبيب، اعتقادا بوجود (هبة سلیم) على متنها بعد استدراجها إلی طرابلس.. رغم كل الاختلاف مع أنظمة الحكم فإن الخيانة لا، فهى الجريمة التى لا يغفر لها أي  قانون، رغم وجود عیوب تاریخیة فی الفیلم من خلاف بین عبدالناصر وأشرف مروان وطلاق ابنته (منى) منه، وعدم حسم کونه عمیلا لإسراٸیل أم عمیلا مزدوجا كما ظهر فی الفیلم.

قبل أکثر من عام وقعت حادثة أثارت العالم (سيرجيه سكريبال)، العميل الروسي المزدوج، الذى تم تسميمه هو وابنته (يوليا) في حديقة عامة في بريطانيا سارعت إلى اتهام روسيا بذلك، و16 دولة، من ضمنها الولايات المتحدة، وطردت من أراضيها عشرات الدبلوماسيين الروس كعقاب على محاولة الاغتيال، الغضب ثار على مجرد محاولة القتل، لكن أكثر من ذلك، أن روسيا تجرأت على تنفيذ ذلك في الأراضي البريطانية.. أين نحن إذا كان (أشرف مروان) وطنيا أو عميلا مزدوجا.. وأين الحقيقة، وکل عام یتم فتح هذا الملف وإطلاق الاتهامات فی احتفالات حرب أکتوبر كجزء مهم من ملفات الحرب ودور الاستخبارات على الجانبين.. هل من حقيقة تضع حدا لهذا الجدل الموروث منذ 46 عاما.. ولماذا لا يتم الإفراج عن أسرار تلك الحرب برغم مرور النصاب القانونى عليها، ومنها... من هو (أشرف مروان)؟!

 

محمد سعد عبد اللطیف

کاتب وباحث فی الجغرافیا السیاسیة

رٸیس القسم السیاسي نیوز العربیة

 

متى يبدأ التنوير؟.. سؤال من قلب المحرقة

التفاصيل
كتب بواسطة: نبيل دبابش

نبيل دبابشفي القرن الثاني عشر للميلاد، كتب ابن رشد كتابا سماه '' فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ‘‘. تضمن الكتاب محاولة تبيان قيمة العقل، والتي – في نظره- لا تقل في الدرجة عن قيمة الشريعة في مقاربة مسائل المعرفة.. بل هي تعادلها. اختار ابن رشد مصطلح '' الحكمة '' وهو المصطلح الوارد في القرآن، بديلا عن مصطلح '' الفلسفة ‘‘. بسبب ما عرفه المفهوم الأخير – في زمنه - من نفور واستهجان لدى الأوساط الفقهية، وذلك بالرغم من انتشار هذا المفهوم واعتماده في الكثير من الرسائل والأعمال التي سبقته تاريخيا.

عربيا وبعد رحلة نابليون الى مصر1798م، لم يكن سؤال التنوير مطروحا لدى كتاب النهضة، بقدر ما انصب الاهتمام عندهم حول كيفيات ترجمة المنتوج الأوروبي والاستفادة منه في تصحيح المسار الاجتماعي والفكري الضعيف، الذي أنتجته سلطة الخلافة. لقد كانوا في حالة انبهار بعدما اكتشفوا أن شعوبا أخرى- لا تقاسمهم المعتقد- تصنع المفاهيم والقيم وتؤسس لجمهوريات جديدة. لقد تبين لهم - فجأة- أن العقل بمفرده في مقدوره أن يؤسس المستقبل انطلاقا من حسن الاستعمال. بتعبير أخر لم يكن لدى كتاب النهضة أدنى شك في الذات المؤسسة للمعنى وغاب عنهم مساءلتها.

ثم حدث أن علقت آمال كبيرة على الاختيارات الايديولوجية في صناعة مستقبل جديد، وكانت الرؤية الشمولية هي المنهج لسنوات طويلة.. قبل أن يصطدم العقل العربي مرة أخرى بالجدار ويكتشف هزل تلك الاختيارات وابتعادها الكبير عن حل المشاكل الفعلية.

التنوير مشروع ضخم ومتشعب، من المستحيل أن تتحمله الرؤية الايديولوجية أو تستطيع أن توفر له ما يحتاجه لارتباطها الشديد بالحاجة لا أكثر. ان أكبر عائقا على أي مشروع تنويري هو في اختزاله ضمن سياج الرؤية الايديولوجية. كونها تتأسس على يقين زائف وعلى الوهم والاقصاء بأنواعه الاكثر تقدما. التنوير قبل كل شيء هو في شرعية السؤال وبلا قيود، هاته الشرعية هي ما لا تقبله الايديولوجية السياسية أو الدينية.

التنوير هو في انتهاء الوصاية على الحرية والاختيار، وفي تفطن الناس الى ما يمتلكون من قدرات نفسية تؤهلهم على تبني ما يحبون من دون وسيط. يبدأَ التنوير عندما يقتنع الجميع، على اختلاف انتماءاتهم الاثنية واللغوية والفكرية أنهم لا يمتلكون كل الفضاء الاجتماعي بل هم ًأجزاء فيه لا أكثر. يبدأ التنوير عندما يعيد الجميع التفكير فيما ورثوه من أحكام وقيم، ظلت مترسبة في عقولهم من دون أدنى حلحلة. يبدأ التنوير عندما يقتنع الجميع بأنه لا يمتلك كل الحقيقة، بل حقيقته هو فقط.

 

اذا كان لوثر في القرن السادس عشر للميلاد قد أسهم في تقويض سلطة البابا على العقل والمعتقد، فإننا عربيا نحتاج الى ألف لوثر لأن حجم مشاكلنا الموروثة عن القرون الوسطى مضاعفة مرات.

يبدأ التنوير عربيا عندما نستطيع التخلص من ثقافة القطيع وتلك الحاجة الملحة الى راع أبله مستبد، يجب الاقتناع بالفردية والاختلاف والحق في الحياة وقدسيتها.. يبدأ التنوير عندما تقتنع الكثير من العقول أنها غير مطالبة في هذا العصر بإعادة انتاج نفس القيم التي أنتجها الناس في القرون الماضية، بل عليها أن تتفتح وبصدق على قيم عصرنا وتعمل على تبنيها بشجاعة كبيرة ودون تردد.

اننا لا نواجه الوصاية على الفكر والمعتقد فحسب، بل كذلك الوصاية على أبسط السلوكيات والتصرفات اليومية من لبس الحذاء الى شرب الماء .. اننا ننتمي الى مجتمعات يؤلمها رؤية الفردية ولا تتقبل الاختلاف اطلاقا، ينظر الى الجديد بحذر وخوف شديد. وغالبا ما يجرّم الافراد لأجل حقوقهم الطبيعية. اننا ننتمي الى مجتمعات لم تعلمها المؤسسات الوطنية في قطاع التعليم او حتى من خلال الاعلام الفرق بين الدين والتديّن الفرق بين الكتاب الديني المقدس والتشريع الديني المؤقت.

هل نحن في الطريق الصحيح نحو أنوار عربية ؟ لا، المسافة لا تزال بعيدة ولا شيء ينذر باقتراب الولوج الى تلك المرحلة.. كثيرة هي المجهودات الفكرية التي كتبت في هذا المجال وفكر أصحابها بصدق في مشروع عربي للأنوار، للأسف هي أعمال يقرأها الأقلية ولا حضور لها الا على الهامش في كل مجتمع.

قبل الحديث عن تجديد البنيات الاجتماعية والسياسية المهترئة ينبغي التفكير وبكثير من الصدق في تجديد العقول ومساءلة الذات وفسح المجال واسعا أمام الحرية، هي أولى الشروط التي من شائنها بناء مجتمع متنور. لقد جرب غيرنا الانغلاق عن العالم ورفض كل دخيل وعرف سلبيات مثل هذا الاختيار على الواقع الاجتماعي ، فلماذا الاصرار على تكرار أخطاء الآخرين.

لا يمكن أبدا أن تسير المجتمعات نحو الأمام وتتفادى الكثير من الأزمات الا في ظل بيئة تتوفر على قدر كبير من الحرية وتفسح المجال واسعا للمبادرات الفردية ولا تميتها باسم المحرم والمنبوذ. مشكلة المجتمعات التي ننتمي اليها أنها ترفض حتى مجرد التفكير في الاختلاف، ولا تقبل بالنجاح، بل ترى فيه تهديدا لكيانها. مجتمعات تفتقد الى الثقة في ذاتها، اعتادت انتظار الحلول الجاهزة ولا تؤمن بقدراتها على الخلق والابداع. مجتمعات تخاف من كل شيء، من الجديد من المحاولة من المغامرة من التميّز.

سيسأل البعض عن وضعية الدين في مجتمع الأنوار وفي ذهنه الصورة التي كونها لنفسه عن تجارب أوروبية بين القرن السابع عشر والقرن التاسع عشر للميلاد.. سيقول أننا سنفتقد الى الاخلاق وسيتمزق المجتمع وتتفكك الأسرة.. وهلم جرا من مفردات صارت مألوفة في أًبجديات خطاب الاسلام السياسي. مشكلتنا أننا نعطي للدين أكثر مما هو مطلوب ونجعل منه كل شيء الا أن يكون دينا. نجعل من الدين حلا اقتصاديا وبرنامجا سياسيا ومشروعا ثقافيا ورياضة جسدية وطريقة في الأكل والزّي .. نجعل منه كل شيء الا أن يكون عبادة خالصة.

من المؤكد أن التنوير لن يكون الا عبر مراحل، للأسف لا تزال الكثير من الأصوات النيرة تخوّن وتقصى وتضرب الرقابة على بيع كتبها.. كنا نعتقد أن محاكمة طه حسين أو علي عبد الرازق قد انتهت في القرن العشرين وانتهت الايديولوجية التي كانت تغذيها.. .و لكننا وبعد مضي كل ذلك الوقت، لا يزال ينظر بحذر كبير الى كتب رشيد ايلال، محمد المسيح، هالة وردي، كمال داود.. وغيرهم.

لا يمكن أن نبني المستقبل باليقين الزائف ولا أن نسير بثبات من دون ممارسة الشك وزعزعة كل اليقينيات بما فيها اليقينيات الدينية. يجب التخلص من ثقافة الغرور.. لسنا أفضل أمة أخرجت للناس ولن نكون كذلك الا بإعادة قراءة مشكلاتنا بكثير من الصدق..

نقدس لغة الفقيه حتى وان كانت تافهة ومن دون جدوى، ونطالب بها لحل ابسط المعضلات. وهو ما أسهم في تضخيمها اجتماعيا وسياسيا لأننا لا نؤمن بأنفسنا، وفي المقابل نستبعد خطاب الباحث النقدي لأنه يؤذي غرورنا ويقيننا ولا نتقبل منه الا ما يرضي الكسل والانغلاق لدينا. لا نريد أن نختبر ذواتنا خارج السياج الذي ورثناه جاهزا.

السؤال حق طبيعي، السؤال هو ما يحقق انسانيتنا ويؤكد وجودنا.. لقد تساءل المعتزلة – في الكوفة والبصرة - بداية من القرن الثامن للميلاد بكثير من الجرأة في مسائل قد تبدو لنا غريبة نحن أبناء هذا العصر.. لقد كانوا أكثر تنويرا منا، ولم يكن حينها أسلوب التكفير غائبا في تلك البيئة التي عرفت بحدة الاقتتال لأجل السلطة.. نسمع بآراء المعتزلة ونعجب لقراءتها ولا نسمع اليوم بمن كفروهم.. في بداية التسعينات من القرن الماضي، عندما كنت أستاذا للفلسفة واجهت الكثير من المتاعب والتعنيف بسبب اصراري على تدريس أراء المعتزلة لطلبة الطور الثانوي، ولم تكن الوزارة الوصية- يومها- توفر أدنى شروط الأمن، خصوصا وان الجزائر في تلك المرحلة كانت تعيش اصعب مراحل تاريخها المعاصر ..

ما هو السؤال؟ السؤال هو قلق يحررنا ويكشف خفايا الخطاب الجاهز الذي يحبه المؤدلج، السؤال هو الانسان فمن منا لا يؤمن بإنسانيته الكاملة. السؤال هو الأداة التي بها نتميَّز عن بعضنا البعض أو نتخاطب، نتفق أو نتخاصم ، نجتمع أو نفترق.. هو ما يجعل وجودنا يتحقق بالفعل. الأنوار هي الخروج من ظلمات القرون الماضية وخطابها المتجمد الذي لا يمكن أبدا تبيّئته.. الأنوار هي حقيقة الانسان الذي كان يعتبر رعية وغلاما ليصبح مواطنا كامل السيادة.

الأنوار هي الابداع والثورة على المألوف والكلاسيكي.. في الفن والفكر والقانون، هي الانقلاب على وضع لم يعد يطاق، وصار لا يمتلك الأجوبة.. هي انفجار كبير ينبع من وسط الصخر ليسقي الأرض العطشان.. هي عقل جديد، ورؤية مختلفة، وصناعة لظروف أكثر ملاءمة وقادرة على تقبل اختلافاتنا من دون ضرر..

ان عقل الأنوار لا ينتظر من السلطة أن توفر له ظروف الكتابة والابداع لينتج ما ينبغي انتاجه.. انه عقل يولد من المآسي وفي خضم الأزمات. يولد ليقول بأنه مختلف وجديد ومبدع وثوري. هل لدى النخبة المثقفة العربية ما يؤهلها لصناعة أنوار؟ نعم، يوجد الكثير من الأقلام والطاقات الممتازة. فقط هي تحتاج الى الايمان بذاتها والى الكثير من الشجاعة. يجب أن ننسى عقدة النموذج الجاهز، ولا نحاول السقوط في لغة التقليد، لأنها قد تعمينا عن رؤية واقعنا بشكل واضح.. نحن لسنا في فرنسا ولا في المانيا ولا حتى في امريكا.. اننا أبناء مجتمع يتوسط كل النماذج ، له خصوصياته الجغرافية، الثقافية والتاريخية.

تبدأ الأنوار عندما تتعلم نفوسنا حب الجمال، وتفكر في تعميم ذلك الحب ونشره. قبل أن نفكر في شكل الأنظمة السياسية والاقتصادية التي تخرجنا من المآزق الكثيرة الذي وقعنا فيها، علينا أن نفكر في خلق عقول جديدة متحررة من العقد والتابوهات المترسبة. الأنوار ثورة والثورة يؤسسها عقل جديد.

 

نبيـل دبابـش - كاتب من الجزائر

 

"ما فياويّة" دونالد ترامب وإرادات الصهيونيه!

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمد مسلم الحسيني

محمد مسلم الحسينييختلف المفسرون في أصل كلمة "ما فيا" ومصدرها كما يختلفون أيضا في معناها الحرفي الأول، غير أن المعنى العام يدور في دائرة مفردات الترهيب والإبتزاز، التلاعب والإتجار غير المشروع، التزوير والخداع والكذب، التفاخر العدواني والتبجح، روح المغامره، مخالفة القوانين والأعراف والتعهدات، التستر والتخفي، عدم الإلتزام بالمعايير والمبادىء والأخلاق الإنسانيّه وغيرها. الذي راقب تصرفات الرئيس الأمريكي الحالي "دونالد ترامب" ومنذ حملته الإنتخابيه للرئاسه والى حد هذا اليوم، وجد أغلب هذه المعاني، إن لم يكن جميعها حاضره في سيرة ونهج هذا الرجل غريب الأطوار !. فالذي يتابع قنوات التلفاز الأجنبيه  وعلى الأخص الأمريكيه منها وكذلك الصحف والمجلات، سوف يجد وفي كل يوم خبر أو حدث صادر عن هذا الرجل يكشف فيه: مخالفه قانونيه أو دستوريه أو دبلوماسيه، فضيحه وخرق أخلاقي، إستفزاز وإهانه بألفاظ نابيه وإستهزاء موجه الى شخصيّه أو عنصر أو لون أو دين أوكيان أو دوله. وقد يسمع أيضا عن: حالة تستر على خبر أو تصرف غير مشروع وخداع فاضح وقلب حقائق، خرق أو إلغاء لمعاهدات ومواثيق دوليه، فرض أوامر أو عقوبات قهريه وغير إنسانيه ضد دول أو منظمات أو مصالح أو أفراد داخل أو خارج أمريكا، وغيرها.

هذه التصرفات غير العاديه وربما الصادمه في كثير من الأحيان، تحصل بشكل دائم ومستمر من خلال تصرفات وأفعال أو تعليمات وتوجيهات أو أحاديث وأقوال مباشره أو غير مباشره مع الصحفيين ووسائل الإعلام أو عن طريق كتابات " تويتريه". هذه الحقيقه تجعل المتابع في حيره وتساؤل: كيف يجوز أن يحكم أقوى دوله في العالم، رجل له صفات مافيويه واضحه وجليّه أمام أنظار العالم !؟.

صفات هذا الرجل وتصرفاته قهرت غالبيه الأمريكيين وخصوصا طبقات المثقفين وأنصار القانون و الديمقراطيه والإنسانيه، وقهرت كذلك بل هددت مصالح غالبية دول العالم وشعوبها، الى الحد الذي أفقدت فيه ثقة العالم وإعتباراته الخاصه لأمريكا وحكامها. بل دخلت هذه الدوله التي تتبجح بالتحضر والديمقراطيه والحريه وحقوق الإنسان وإحترام العهود والمواثيق والحضاره الإنسانيه في قائمة الدول الفاسده في العالم!  لم يعد أحد يثق بعقود وإتفاقات يعقدها مع هذا الرجل وحكومته لأنه قادر على نقضها في اليوم التالي بعد توقيعها. كما لم يعد أحد يصدق ما يقوله ترامب في محافله العلنيه، حيث بلغ عدد كذباته التي أحصتها جريدة الواشنطن بوست الى ما يزيد على 12000 كذبه منذ توليه منصب الرئاسه! لقد تبينت من خلال سياسات ترامب الغريبه حقائق وأسرار كانت خافيه ومستتره على العالم وأهمها هو أن المافيا "الترامبيه" هذه لا تنحصر بشخصيّة ترامب وحده فحسب وإنما هي إمتداد لمافيا سياسيّه مستتره  داخل الكيان السياسي الأمريكي، حيث كشف عن وجهها السيد ترامب. هذا الرجل لوحده لا يمكن أن يبقى في سدة الحكم أسبوعا واحدا لولا اللوبي الصهيوني الذي يدعمه من الخلف! هذا اللوبي الذي يمثله غالبية أعضاء مجلس الكونغرس الأمريكي من الجمهوريين والذين وقفوا ولا زالوا يقفون خلفه رغم الأخطاء والفضائح، لأنه حقق للصهيونيه مالم يحققه أحد من قبل !. الصهيونيه كانت تحكم أمريكا  خلف حجاب، لكنها اليوم وبفضل ترامب نزعت الحجاب وأسفرت عن وجهها !

هذا التوجه الصهيوني في الحكم المباشر لدول العالم وخصوصا الدول المحوريه والهامه سبقه تحضيرات دؤوبه ومدروسه حُضّر لها وخُطط . بدأت هذه التحضيرات في الشرق الأوسط لأنها منطقة القلب حيث بوشر بتنفيذ ما سموه بـ "مشروع الشرق الأوسط الكبير" والذي كان أهم بنوده هو التخلص من الحكام العرب الذين يرفعون شعارات وطنيه ويعادون الصهيونيه. من خلال يافطات الديمقراطيه التي أدخلوها، إستطاعوا أن يدمروا البنية التحتيه والفوقيه لتلك البلدان التي كان يقودها زعماء غير متواطئين مع الصهيونيه، فنشروا الخراب والحروب الأهليه وحالة عدم الإستقرار فيها. هذا الحال إستفادت منه الصهيونيه العالميه بحالتين: الأولى تدمير من كان عقبه أمامها من بلدان وزعماء والى أجل غير مسمّى والحاله الثانيه هي خلق حالة عدم إستقرار دائم في تلك البلدان، مما أدى ذلك الى هجره مليونيه تضررت منها أوربا. هذه الهجرة غيّرت مفاهيم الشعوب الغربيه فراحت مرتبكه تحت تأثير الخوف من الإسلام "الإسلامو فوبيا" الذي عززه الإرهاب من جهة، وتأثيرات الكساد الإقتصادي الملحوظ والذي بدأ منذ عام 2008م بعد إفلاس البنك الأمريكي العالمي العملاق " ليمان براذر".  حالة تخوّف الشعوب الغربيه من زحف اللاجئين لها، فتح الباب على مصراعيه أمام إنتخاب شخصيّات سياسيّه شعبويه عنصريّه أخترقتها اليد الصهيونيه فنجحت في إعتلاء سدات الحكم في بلدانها وكان دونالد ترامب أهمّها!

القاده الشعبويين والعنصريين الغربيين يتشابهون في كثير من الأحيان بصفاتهم وسيرتهم، وهذه الصفات منبعثه غالبا عن حالة خلل مرضي إجتماعي نفسي يعاني منه هؤلاء. صفة النرجسيّه وبكل أنواعها وصنوفها إبتداءا من النرجسيّه البسيطه الى النرجسيّه الخبيثه هي صفه تكاد تكون مشتركه عند هؤلاء الزعماء. حب الذات ونبذ الآخر هو الشعار المشترك بين الشعبويين وهكذا نادى ترامب ومنذ اللحظه الأولى " أمريكا أولا".

شخص بعض أطباء النفس ومنهم البروفسور الأمريكي جون غارتنر والبروفسور البريطاني ألين فرانسيس بأن ترامب مصاب بمرض " النرجسيّه الخبيثه" والتي بدت أعراضه واضحه عليه منذ البدايه. غير أن النرجسيّه الخبيثه قد تكون عارض لمرض أشمل وأكبر الا وهو الـ " السايكوباثيّه" وقد بينت الأحداث والتجارب أن عددا لا يستهان به من السياسيين الشعبويين والعنصريين مصابون بهذا المرض أيضا. السايكوباثيّه هي حالة مرض إجتماعي وراثي على الأرجح يتصف المريض به بصفات خاصه منحرفه غير طبيعيّه أهمها: حب السيطره والسلطه، قهرالأخر، غياب الضمير الإنساني، الكذب والمراوغه، السخريه والإستهزاء بالآخرين، الغطرسه وجنون العظمه، عدم الشعور بالخجل، غياب الأخلاق والعواطف الإنسانيه والمحبه الصادقه. حب الأنا والذات وتسخير كل الأدوات في تحقيق المصلحه والهدف، قوة الشخصيّه وقابلية الإقناع وكسب ود الآخرين. أكثر هذه الصفات السايكوباثيه متوفره بشخصيّة ترامب وتتوفر بزعماء شعبويين مثله جعلتهم قادرين على كسب أصوات الشرائح البسيطه في مجتمعاتهم، أمثال بنيامين نتنياهو رئيس وزراء " إسرائيل" وجايير بولسونارو رئيس البرازيل وبوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا وغيرهم .

التشابه القوي في صفات المافيويين والسايكوباثيين والشعبويين العنصريين تشير الى وجود علاقه جدليه بين  طبائع هؤلاء، هذه الطبائع برمتها إن توفرت في قائد ما ستكون هدفا هاما تبحث عنه الصهيونيّه لخدمة أغراضها ومصالحها، لأن أصحابها لا يترددون في عمل أي فعل منكر أو تصرف شاذ من أجل الوصول الى الهدف والمصلحة الذاتيه الخالصه. وهكذا حقق دونالد ترامب أغراضا للصهيونيه مالم يحققها شخص آخر غيره! ضاربا عرض الحائط كل المواثيق العالميه والأصول والقيم، فعلى سبيل المثال وليس الحصر، نقل السفاره الإسرائيليه من تل أبيب الى القدس دون خجل أو وجل! وهكذا بحث الصهاينه ويبحثون عن أمثال ترامب بين السياسيين من أجل دعمهم ورفعهم الى كراسي السلطه ومن ثم تمرير أجندتها عليهم.

تلخيصا لما سبق نستطيع أن نقول بأن ثالوث المافيويه والسايكوباثيه والعنصريه هو السلاح الذي تشهره الصهيونيه أمام العالم الحر اليوم منذرة بتغيّر ستراتيجي مهم في السياسات العالميه! وهكذا نستطيع أن نقول بأن الصهيونيه عرفت من أين تؤكل الكتف فحضرت الساحه للشعبويين بإعتلاء السلطه داعمة لهم في الخفاء، حتى تحققت القاعده التي تقول: إذا لم يكن العنصري أو المافيوي أو السايكوباثي صهيونيّا فلابد  للصهيوني أن يكون عنصريّا مافيويا سايكوباثيّا، حيث دونالد ترامب نموذجا !

 

د. محمد مسلم الحسيني - بروكسل

 

سحر الدراما في مجموعة: تداعيات من زمن الحب والرصاص

التفاصيل
كتب بواسطة: احمد الشيخاوي

1185 نور الدين ضرارللشاعر نور الدين ضرار

إن الخوض في مراحل المغرب الأكثر حساسية وخطورة، من حيث التقلّبات الإيديولوجية، تبعا لسياقات تاريخية معينة، هو بمثابة توغل في الملغوم، وحين تكون الزاوية التي تتيح محاصرة، كهذه ذاكرة تنزف بمحطات الوجع الإنساني، رافلة بلبوسها التوثيقي الذي تتقاطع لديه المعرفة والثقافة، تكون صفحات التاريخ أكثر عريا وانكشافا.

في مجموعته الصادرة حديثا عن جامعة المبدعين المغاربة، والتي انتقى لها عتبة " تداعيات من زمن الحب والحرب"، الواقعة في ما يربو على المائة وخمسين صفحة من القطع المتوسط، باعتمادها مسرحة الخطاب وتنويعه عبر إيقاعات تستدعي تقنية تجاذب الأضداد، ما منح مثل هذه التجربة، طابع الخصوصية والمغايرة والزيغ عن المنمط في القول الشعري الحديث.

تذود المجموعة عن رؤية إنسانية شاردة في تاريخ شبه منسي، تحاول، في غمرة النضج والاختمار النفسي، الذات الشاعرة استحضار تفاصيل بعيدة، دالة على جرح إنساني عميق، ووجع من طراز خاص، وعلى نحو مترجم لخلل ما في هوية، كان من المفترض بعض الانفتاح على ممكنات الدفء الوطني وموجبات احتواء الكائن، وتلبية مطالبه المنوطة بإملاءات التراكم التقني، وإفرازات العصر الذي يتطور بشكل هيستيري، محموم.

نجد الدكتور محمد عرش، وقد قدّم هذه المجموعة بقوله: [ الشاعر هنا ينقل ما يمور من مآسي جيله، وخيبات زمنه، بما يتجاوز واقعه المحلي، ويشمل واقعه القومي، من منظور تقدمي تحرّري، ولكن دون التنازل عن قيمة الشعر برهانه المتواصل عبر كل نصوص المرحلة على البعد الجمالي في المقام الأول.

إن روعة الصورة والبناء حد الإدهاش، تتجلى في نفض الرماد عن الجمر، ومعايشة لحظات الكتابة من جديد، حيث القصائد هنا عصارة تجربة شعرية حقيقية، على الرغم من حداثة عمرها الفتي، من منظور تواريخ كتابتها.نور الدين ضرار الذي بلغ اليوم مرحلة متقدمة من عمر القصيدة المغربية برصيد إبداعي وترجمي وازن، يرتئي من خلال هذه المجموعة المتقدمة في زمن كتابتها والمتأخرة في زمن نشرها لأسباب ذاتية وموضوعية، أن يعود بنا لعهد الصبا والحلم من خلال اللغة، لغة الشعر التي رافقته، في حله وترحاله، في سعادته وحزنه، في نجاحه ونكوصه، تبعا لفخاخ الواقع في البحت عن جنته الخاصة، وهي بتعبير بروست في"البحت عن الزمن الضائع" تلك الجنة الحقيقية التي أضعناها.].

من هذه الخلفية، يتبدى حجم الخسارة المدوية التي تكبدها جيل بأكمله، يقاربها الشعر، برمزيته المعهودة، ما كانت لتضيع كتلك جنة، تنرسم لها ملامح المشتهى لدى أجيال أخرى تتعاقب لتتمّم الرسالة، بيد أن ذلك الانزلاق، فرض واقعا غير مرغوب فيه، وأسهم في تسلل الخدر والغيبوبة، إلى العقول، كما الإدماء على القلوب، فأتت على مقاسات مختلفة دوخة مركب، ولم يزل كائن ما بعد تلك النكبة، يتخبط في أضرب الخسائر والهزائم والانكسارات.

لو أن الانتقال، حينها، تم بشكل مخملي سلس، من مناخات ضاربة في الفلسفة المحافظة ومنطقها اللعين، باتجاه أفق تقدمي تحرّري منتصر لإنسانية الكائن، ومنطلق مما هو محلي ضيق، مرتقيا السلم الوجودي عبر القومي، كي ينخرط في هوية إنسانية مشتركة، لتفادينا الكثير من طقوس الدراما التي نعيش عروضها المخزية، الآن.

يقول شاعرنا في إحدى مناسبات البناء الدرامي لنصوصه التي تدين زمن الرصاص:

[بيُتم الأغاني

أبكيكِ ككلِّ العائدين

من تُخوم الليل،

وأيُّ ليلٍ ما رشفنا دمعاً

من حزنِكِ الشفيفِ،

ورَفعنَا من كفنكِ رايةً

لِعُبُورنا الأثير؟

في خَتم الأماني

أبكيكِ،

وكَأني وحدي بين الرّاحلين

أبكِيكِ بلوعَةِ طفلٍ

يُودِّعُ أُمُّه الوداعَ الأَخير](1).

هنا جحيمية الزمن والمكان، على حدّ سواء،  تسرق لذة الهوية من الكائن، وتنثال بكامل تلكم السوداوية القاهرة، بحيث لا تبقى البراءة، في عدا تلكم الكوة القادر على خلقها، الشعر وحده، بعد أن خانت الإيديولوجية، الكلّ، كونه، أي الشعر، النابض في وجودنا بسائر ما نشتهيه من قيم ومثالية و جمال.

يحصل ذلك، حتّى وإن نخرتنا المعاناة، بحيث تشحّ وسائل صرفها، ولم تبق من علياء تنفسّ عنا التَّبِعات المسكونة برواسب سنوات الرصاص، سوى القصيدة التي توقف ذلك الزمن، وتعيد صياغته حسب اشتعال الرؤى، والتنبيه إلى ضرورة الاستفادة من دروس التاريخ.

ونقتبس له أيضا قوله :

[ الطائِراتُ

تسُدُّ عينَ الشمسِ،

وتُطبِقُ السّماء..

وطفلُ بِزِيِّهِ المدرسي

جالسٌ في أوّلِ الصفِّ،

شهيدا مرشَّحا للنسفِ،

في حضرة الأقران

يرسُم بالطبشور

على اللّوحِ عذَابَهُ..](2).

تدغدغ المتلقي لوحة البوح هذه، بعوالم الطفولة، مثلما تنتهك أنساق العودة المجروحة إليها فروسية شاعر، يحمل روح ما تبقّى من مناضل، آن له الترجّل، خبر زمن الحب والرصاص، على حدّ تعبير صاحب المجموعة التي بين أيدينا.

نطالع له كذلك:

[ وحده حادي الرواة

في سوق الحي

يبدأ من الختم

وعند منتهاها

يغيبُ في سديمِ الظلام،

ووحدَنَا نصنع من اشتعال الرؤى

في أعيُنِنا حرائقَنا المُشتهاة

حربا وسلاما،

ونعلنُها في الأرض

أسطورةً أو أضغاث منامة،

ولنا بعدها عن ظهر القلب

كأطفال المدارس

أن نحفظَ كلَّ ما جاء فيها

قعودا وقياما..

هنا سيدي عثمان

بمقتضى العادة

يدفع الفقراء دمهم

مقابلَ شواهدِ الفقر والإقامة،

في حمّى الساحات

يتلاطمون حشودا من هتاف

على اللافتات

يرفعون حشره اليوميّ،

فكل يوم موت

وكل موت قيامة..](3).

خلاصة القول أن شاعرنا أبدع في حدود هذه الفسيفساء، وقد حافظ على الوظائف الجمالية، في بناء دراما وثّقت على نحو ما، لحقبة دامية من تاريخ المغرب، صمت عنها كثيرون، ولم يقتحم حماها وينسف حصونها، سوى قلة، وداخل هذه القلة، أسماء معدودة، استطاعت مقاربة الظاهرة بشكل صحيح، معززة الفعل الإبداعي، بعمق وصدق وحرارة التجربة.

علما أن الإدهاش لا يكتمل بغير مقامرة تأجيج الممارسة الإبداعية، إجمالا، عبر توليفة المعرفي والجمالي، مع قوة توظيف قواعد تجاذب الأضداد، مثلما يثري ذلك هذا الديوان، نزوعا إلى البرزخية التي قد تُكسب القصيدة حِلْميَتها، وغواية نقاط المابين، وهي الجنة المفقودة، أو الحياة المنشودة المؤطرة بثقافتين متضاربين : الحب و الرصاص / الموت.

 

احمد الشيخاوي - شاعر وناقد مغربي

........................

هامش:

(1) مقتطف من نص " تذكرة لسفر النسيان " صفحة 59/60.

(2) مقتطف من نص" الطائرات تحجب عين الله" صفحة89.

(3) مقتطف من نص" هنا سيدي عثمان " صفحة 111/112.

 

قراءة في رواية (التشابيه) للكاتب داود سلمان الشويلي

التفاصيل
كتب بواسطة: جمعة عبد الله

جمعة عبد اللهالقدرة المتمكنة في الفن الروائي، في استلهام منصات التاريخ، العابقة في ذاكرة المدينة وحكاياتها ووقائعها على الواقع الفعلي. في لغة سردية متعددة الاساليب والتقنيات، في الدلالة في كيفية استغلال الدين والموروث الديني، وتحويلهما الى قميص عثمان، تتصارع عليه الاطراف المتنازعة، في الاستحواذ والاستيلاء، لتمرير مصالحها الخاصة عبر هذا الميدان الحيوي في حياة الناس، بما يملك من تأثيرات سايكولوجية واسعة المدى. وهذا يدل على ضعف الدين في تحصين نفسه، من تنازع والاستيلاء. لك من يريد استغلاله والادعاء بأنه احق بقميص عثمان من غيره ومن الاخرين. لذلك يستغل الدين بشكل بشع، من اجل خداع الناس في تمرير اغراض ومآرب نفعية خاصة. في حلقة التصارع والتنازع. ويوم الطف في عاشوراء كربلاء في (التشابيه) في معركة كربلاء. كنموذج حي. في النص الروائي. يستلهم حكايات الناس، بالرصد والملاحقة، في كشف المعلوم والمجهول في خفايا الاستغلال الدين وموروثاته. من لب الاحداث الواقعية التي جرت وحدثت على الواقع الفعلي. لذلك ان المتن الروائي وظف اسلوب تقنية (ميتاسردية) اي ماوراء النص ومابعد النص. اي النص والنص الموازي له، من الرؤية الفكرية في تقصي حكايات الناس المتدولة والمنقولة. لذلك يوجه الكاتب اشارة وتنويه مهم لنص الروائي الى القارئ (أليك يا من سألتني - اعزك الله - ما كنت ترغب بمعرفته وقراءته من صفحات الايام الخوالي، ما حدث فيها في مدينتي الجميلة المتشحة بالسواد). بالاحداث وما آلت اليه الاحداث والوقائع. في موضوعة الدين واستغلاله، في موضوعة الاحداث وما جرى بعد ذلك. في موضوعة الاشخاص وما جرى لهم من الاحداث وعواقب الاحداث بعد ذلك. هذا العمود الفقري لنص الروائي ورؤيته الفكرية والتعبيرية الدالة، ضمن واقعية الاحداث بموضوعيتها الجارية، في الماض وما بعد عشرين عاماً انقضت عليها، اي ان منصات الرواية تتناول الفترة ما قبل سقوط الملكية وما بعدها بعشرين عاما، من خلال تقصي الحقائق والوقاع التي جرت فعلاً، لذا فأن الاسلوب الروائي يمتلك الخيال الفني في ترتيب وتنسيق واقعية الاحداث وما آلت اليها، وتقنيات الرواية، هي حصيلة متابعة وملاحقة الشخوص الرئيسية. الاحداث التي استغلت قناع الدين. الوقائع بعد ذلك. اي ان المنصات الحدث الروائي تعتمد على، الراوي الاحداث الجارية، والمروي الاحداث اللاحقة بعد ذلك، والمروي اليه. الرسالة والمضمون التي تدور في استغلال الديني، واستغلال المورث الديني في (التشابيه). وقسم النص الروائي الى قسمين. القسم الاول الاحداث ووقائعها وشخوصها في تفاعلهم الحياتي الجاري. والقسم الثاني: ماذا حدث بعد ذلك وما آلت اليه الامور والنوائب على شخوص الرواية.

 × في القسم الاول استعراض الشخوص والاحداث الجارية لهم

 1 - جاسم الاعور: وجه الشؤم والشر. الخادم المطيع والذليل الى الحاج (فريح). وكل يوم يؤدي قسم الذل والمهانة (كل يوم يهرول مسرعاً الى كف الحاج ويأخذها بين كفيه ويقبلها) ص32. منزوع ومسلوب لارادة، او انه أنسان مسخ لذلك يتندر عليه الحاج (فريح) بأهانته (التقيت بالكثير من الناس، مثل شاكلتك يا أعور الشؤم، انك ابن خنزير ركب أمك فحملت بك) ص34.

2 - الحاج فريح: الرجل الغني المتمكن، بنى مسجداً للقرية، في سبيل اظهار التدين والتقوى في الظاهر، لكنه مخادع في استغلال الدين والناس، في الاحتيال والشيطنة والخداع، وكل عام يقوم بأقامة العزاء والتشابيه في عاشوراء. ويتجول في سيارته (الفورد) مع اعوانه وحاشيته التي ترافقه ’ اينما حلَ ورحل، وهم: جاسم الاعور والشقاة (شرجي القامة) و (حميد الطويل).

3 - الشيخ عبدالكريم: رجل دين بسيط، يكدح من اجل رزقه اليومي، من خلال عمله في المكتبة وبيع القرطاسية. ولا يتدخل في شؤون الناس والاحداث. يحاول ان يبعد ابناءه من السياسة ومصائبها.

4 - (مهدي وهادي): ابناء الشيخ عبدالكريم. الاول انهزم من القرية بعد مطاردة ملاحقة الامن. بعدما انكشف اشتغاله بالسياسة، في انضمامه الى الحزب المعارض للحكومة. والثاني (هادي) طالب في الدراسة الاعدادية، اتخذ طريق شقيقه الاكبر في السياسة والحزبية، ويحاول ان يتقمص دور في مراسيم (التشابيه) من اجل تمرير دعاية حزبه المناوئة للحكومة. في استغلال هذا الموروث الديني لدوافع سياسية. لذلك يحذره أبيه قائلاً: (اذا كانت جماعتكم يعولون على التشابيه، فقل لهم أن هذا اكبر خطأ يرتكبونه.

- أبي. ليس لجماعتنا دور في ذلك، صدقني

- ليكن الله معكم.. ولكن انتبهوا لانفسكم)ص52.

5 - مله (أبو ناجي): جاء الى قرية ولا يعرفه احداً من الاهالي، فهو غريب لايعرف عن ماضيه شيئاً، لا الاهل ولا الفصل والنسب، لكنه حشر نفسه في الدين لخداع الناس. وهو من عناصر الامن مع صديقه (خبالو) بالترصد والتجسس ومراقبة تحركات الناس واقوالهم. وتحركات الشباب واحادثيهم وتطلعاتهم السياسية والحزبية المناهضة للحكومة. ويريد ان يعرف من يروج بالسياسة، وتوزيع المنشورات السياسية المناهضة للحكومة (يجب ان اعرف مصدر هذه المناشير ومن يوزعها) 46.

6 - (الملحة) الفتاة الغريبة التي جاءت الى القرية، ولا يعرف عن ماضيها، واشتغلت خدامة في بيت الحاج فريح. تتطاولها ألالسن بالظنون المريبة والشكوك في علاقتها المشينة مع الحاج فريح وجماعته. وتتطلع اليها العيون بالريبة السيئة، وانها تعتبر عنصر فاسداً في القرية، وخطراً على نساء القرية.

7 - جمال وسليم، اصدقاء (هادي) وهم طلبة في الدراسة الاعدادية، ولهم نفس التطلعات السياسية والحزبية، ويريدون ان يشاركوا في ادوار (التشابيه) وينتظرون اشارة من الحزب، عبر مسؤولهم الحزبي الاستاذ (صبيح) مدرس الرياضة في مدرستهم.

× القسم الثاني: ماذا حدث وما ألت اليه الامور ومصير الشخوص بعد عشرين عاماً. في نشاطاتهم الحياتية والسياسية.

× اخبار هادي: الشاب الطموح، راح ضحية من قبل الامن، قتل قبل قيام الحكم الجمهوري.

× خبار سليم وجمال: اصدقاء هادي. الاول سليم مات في التعذيب، والثاني جمال الوحيد لعائلته بعد اربعة شقيقات، القي عليه القبض من قبل الامن وضاعت اخباره.

× اخبار الملحه: الفتاة الغريبة في القرية، اختلفت حولها الحكايات والروايات في مصيرها واختفائها، بعضهم من يقول أنها هربت مع (مله ابو ناجي) بعدما انكشف أمره بأنه عنصر أمن مع صديقه (خبالو) وبعض الاخر يقول، بأن مله ابو ناجي وشى بها، لانها رفضت الانصياع الى رغباته الجنسية وسجنها في الامن، وبعضهم من يقول بأن عائلتها او اخوها الصغير ذبحها غسلاً للعار.

× اخبار الحاج فريح: بعد الحادثة المشؤومة، في حملة الامن على الشباب في يوم عاشوراء، ايضاً هو اختفى وضاعت اخباره عن القرية.

هذه رؤية النص الرؤائي، في استغلال الدين كقميص عثمان يتنازع عليه الاطراف المتنازعة

 

 جمعة عبدالله

 

 

صور من التطرف داخل البيت السُني

التفاصيل
كتب بواسطة: د. منى زيتون

منى زيتونلم تدر الصراعات الطائفية في تاريخ الإسلام فقط بين أصحاب العقائد المختلفة، بل كانت هناك احترابات وصراعات داخلية، وقد عرضت في مقال "لعبة الدين والسياسة" لأمثلة من تحارب فرق الشيعة فيما بينهم سياسيًا، وكذا كان هناك تطرف بين مذاهب أهل السُنة (الحنفية- الشافعية- المالكية)؛ بسبب قضايا اعتقادية فرعية بين الأشاعرة والماتريدية -على عظم التقارب بين العقيدتين حتى اُعتبرتا أقرب أن تكونا عقيدة واحدة- كمسألة الاستثناء في الإيمان، وبعض الأحكام الفقهية المختلف فيها بين الأئمة، كالبسملة ورفع اليدين في الصلاة عند الركوع عند الشافعية، والنبيذ غير المسكر عند الأحناف، وأحكام الكلاب عند المالكية.

في مقال سابق أيضًا رأينا كيف أفنى الشافعية الحنفية في الريّ، سنة 617هـ، على ما روى ياقوت الحموي في معجمه. وكانت هناك حساسيات بين أهل المذهبين في بلاد فارس بوجه عام؛ كونهما أكثر مذاهب أهل السُنة انتشارًا بها، ووصف ابن الأثير في "الكامل" (ج7، ص400) القاضي أبي علي المحسن التنوخي أنه "كان حنفي المذهب شديد التعصب على الشافعي، يطلق لسانه فيه. قاتله الله". وفي غير بلاد فارس، وخاصة الشام، كان التعصب ماثلًا أيضًا بين المذهبين. يروي الذهبي في "ميزان الاعتدال" (ج4، ص52) عن قاضي دمشق محمد بن موسى البلاساغوني الحنفي، المتوفي سنة 506هـ، قوله: "لو كان لي أمر لأخذت الجزية من الشافعية"!! وربما كان مما أسهم في تقليل التعصب ظاهريًا بين المذهبين أن ملوك السلاجقة كانوا سُنة أحناف، بينما كان وزراؤهم شافعية، وكان الزنكيون عمال السلاجقة في الشام أيضًا سُنة أحناف، وتابعوهم من البيت الأيوبي شافعية؛ فامتنع المتعصبون من كلا الفريقين عن إظهار تعصبهم حرصًا على رءوسهم، ثم عندما ساد الأيوبيون ومن بعدهم المماليك انتشرت الشافعية، وبعد دخول مصر والشام تحت سلطان العثمانيين سادت الحنفية مع عقيدة السُنة –وليس المعتزلة-.

وكانت مسألة الاستثناء في الإيمان من أكثر المسائل التي تثير الفتن بين أهل المذاهب السُنية، خاصة الحنفية والشافعية، مع كون الخلاف فيها يكاد يكون لفظيًا! ولم يتكلم فيه ويعظمه إلا ضعيفيّ الفهم والعلم. يقول الجويني في "الإرشاد" (ص400) "الإيمان ثابت في الحال قطعًا لا شك ‏فيه، ولكن الإيمان الذي هو علم الفوز وآية النجاة، إيمان الموافاة؛ فاعتنى السلف به وقرنوه بالمشيئة، ‏ولم يقصدوا التشكك في الإيمان الناجز"أهـ. فالشافعية الأشاعرة يجوزون أن يقول المسلم "أنا مؤمن إن شاء الله". وكان بعض الأحناف الماتريدية خاصة يكثرون من التشنيع على الشافعية لأجل تلك المسألة، ويصفونهم بالشكوكيين. يقول السيد سابق في "فقه السُنة" (ج1، ص9): ‏"اختلفت الأمة شيعًا وأحزابًا، حتى إنهم اختلفوا في حكم تزوج الحنفية بالشافعي –خطأ واضح، والصحيح الحنفي بالشافعية-، فقال بعضهم: لا يصح؛ لأنها تشك في إيمانها، وقال آخرون: يصح قياسًا على الذمية"أهـ.

كما كان الصراع بين الحنفية والمالكية على أشده في بعض الفترات في المغرب العربي، ولعله بدأ منذ محنة خلق القرآن لأن كثيرًا من الأحناف بالمغرب معتزلة أو مائلين للاعتزال، وليسوا ماتريدية، ووصل الصراع إلى حد أن بيت القضاء المالكي الذي كان الإمام سحنون قد بناه، هدمه قضاة الأحناف، وكان قضاة المالكية يعيدون بناءه عندما يلون القضاء. بل وكان الصراع أحيانًا ينشب داخل المذهب الواحد؛ مثلما حدث بين فرقتيّ المالكية بالقيروان، أتباع سحنون وأتباع ابن عبدوس، منتصف القرن الثالث، بسبب الاعتقاد بالاستثناء في الإيمان وربط الإيمان بالمشيئة، أو نفي ذلك، وكان عامي من أتباع سحنون قد تجرأ وبصق في وجه ابن عبدوس لأنه قال إنه "مؤمن، لكنه لا يقطع بذلك عند الله". وقد روى الذهبي القصة في "السير" في ترجمة ابن عبدوس.

وكذا كثيرًا ما حدث تطرف بين بعض المالكية والحنفية من جهة والشافعية من جهة أخرى؛ بسبب مسألة فقهية فرعية، وهي رفع اليدين عند الركوع في الصلاة، وعند الرفع منه، وهو من سنن الصلاة عند الشافعية. ومن أشهر ما يُروى في هذا ما نقله الذهبي في "السير" (ج13، ص202) في ترجمة الفقيه المالكي أصبغ بن خليل القرطبي، أنه وضع حديثًا على رسول الله في عدم رفع اليدين! أضاف الذهبي "وقد اتُّهم في النقل، ووضع في عدم رفع اليدين –فيما قيل-". وقد فصّل الذهبي في الاتهام في ترجمة أصبغ في "ميزان الاعتدال" (ج1، ص269-270)، فذكر الحديث الموضوع بالإسناد المزعوم الذي لا يستقيم، بسبب ما عُرِف عن أحوال الرواة، وكذا بسبب متن الحديث المليء بالأخطاء التاريخية، ثم قرر الذهبي "فهذا من وضع أصبغ". ويبدو أنه كان شديد التعصب، يقول الذهبي في ترجمته في "السير": "قال قاسم بن أصبغ: هو منعني السماع من بقيّ –بقيّ بن مخلّد-. وسمعته يقول: أحب أن يكون في تابوتي خنزير، ولا يكون فيه مصنف ابن أبي شيبة"أهـ.

ولقد بلغ التعصب ليس فقط درجة وضع أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تعداه إلى واقعة ذُكِر فيها محاولة لتحريف القرآن كي ينتصر صاحبها الفاسق لنفسه، رواها الإمام ابن حزم في "الإحكام" "قال نا محمد بن لبانة قال: أدركت محمد بن يوسف بن مطروح الأعرج يتولى صلاة الجمعة في جامع قرطبة، وكان عديم الورع بعيدًا عن الصلاح. قال: فخطبنا يوم الجمعة، فتلا في خطبته ‏﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾‏‏ [التوبة: 128]، فقرأها بنونين (عننتم). قال: فلما انصرف أتيناه، وكنا نأخذ عنه رأي مالك، فذكرنا له قراءته للآية وأنكرناها، فقال: نعم، هكذا أقرأناها وهكذا هي، فلجّ، فحاكمناه إلى المصحف، فقام ليخرج المصحف، ففتحه في بيته وتأمله، فلمّا وجد الآية بخلاف ما قرأها عليه، أنِف الفاسق من رجوعه إلى الحق، فأخذ القلم وألحق ضرسًا زائدًا –أي أضاف نونًا للكلمة-. قال محمد بن عمر: فوالله لقد خرج إلينا، والنون لم يتم بعد جفوف مدادها"أهـ.

هدانا الله جميعًا سواء السبيل.

 

د. منى زيتون

 

قراءة في كتابنا الجيني

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمد فتحي عبد العال

محمد فتحي عبدالعال1179 منى كبال بالاشتراك مع: د. منی كيال

هل تتحكم الجينات بمصيرنا أم أننا نحن من يتحكم بها؟

هل لنمط حياتنا دور في توجيه كتابنا الوراثي أم أن مصيرنا الصحي قدر محتوم كتبته خريطتنا الجينية؟ 

وهل نستطيع أن نعيد تشكيل الطريقة التي تترجم بها أجسادنا الشفرة الوراثية، وبالتالي نتجنب الاصابة بالأمراض التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا؟

 قبل أن نجيب عن هذه الأسئلة التي تشغل بالنا، يجدر بنا في البداية أن نتعرف عن قرب على الجينات (المورثات). فالجينات الوراثية هي مقاطع صغيرة من شريط الدنا مسؤولة عن توارث صفات معينة كلون الشعر والطول،  وتُحمل الجينات على الكروموسومات (الصبغيات) والتي هي عبارة عن شرائط الدنا وقد التفت في نظمٍ بديع  كبكرة الخيط حول بروتينات قاعدية تدعى الهستونات.

تحتوي الخلية الجسدية على 46 كروموسوماً  نصفها من الأب والنصف الآخر من الأم،  وتشتمل الكرموسومات الست وأربعين على كرموسومين محددين للجنس X و Y. ترث الاناث صبغي X من كلا الوالدين فيما يرث الذكر  صبغي X من الام وصبغي Y من الاب. ويضمن لنا هذا النظام المحكم حفظ كمية المادة الوراثية وسير الوراثة من الآباء للأبناء.

دأب العلماء منذ نهاية القرن العشرين على فك رموز الشفرة الوراثية ودراسة الخريطة الجينية للكائن البشري، حتى أصبح بالإمكان تحليل هذه الخريطة للأشخاص والتنبؤ باحتمال اصابتهم بالأمراض المختلفة، مع دراسة امكانية تعديل بعض هذه الجينات عبر المعالجة الجينية. و رغم ثبات النمط الجيني للمورثات، إلا أن جيناتنا أشبه ما تكون بلوحة البيانو التي تتحكم فيها حركات أصابعنا، حيث يمكننا بأفكارنا وغذائنا وأسلوب حياتنا أن نؤثر في لوحة التعبير الجينيّ  وذلك بتعطيل وتغيير النمط الظاهري للجينات بصورة مكتسبة.

علم ما فوق الجينات (الايبي جينيتيك)

هو علم يربط بين جيناتنا الوراثية والعوامل البيئية الخارجية التي تؤثر عليها، وهو يعبر عن الجزء المتغير والقابل للتعديل.  و يدرس العوامل الخارجية التي تنشط أو تثبط عمل الجينات، وبالتالي تزيد أو تنقص من احتمال الاصابة بالأمراض المختلفة. هذا العلم يبحث التغيرات الوظيفية (وليس التكوينية) التي تحدث للجينات الوراثية والتي لا تتضمّن تغييرا في نوكليوتيدات سلسلة الدنا.

أبحر كاتب الخيال العلمي نيل ستيفنسون عبر أحداث روايته  «سيفن إيفز» نحو المستقبل، وتنبـأ بأن مستقبل البشرية سيكون رهين بعملية فوق جينية، مشيراً إلى ما يمكن أن تسببه  العوامل البيئية الخارجية  كتأثيرات الجوع والصدمات النفسية والتعرض للعوامل المسرطنة و السامة كالتدخين والبلاستيك والكحول والإشعاع. هذه العوامل التي  يمكنها أن تتحكم في عمل جيناتنا وبالتالي بمصير البشرية كلها.

فما الذي يحدد صحتنا و سلوكياتنا ومشاعرنا، هل هي الوراثة أم البيئة؟  سؤال أصبح من الماضي، فاليوم أصبحنا نعرف مدى التداخل والتفاعل بين الوراثة والبيئة وأسلوب الحياة  لإنتاج أنماط السلوك والعاطفة والحالة الصحية.

إن تغييرنا لأنماط حياتنا باستطاعته إحداث تغيير كبير في نشاط جيناتنا. ففي تجارب أجريت على الحيوانات أدى اتباع نظام غذائي غني بالفركتوز إلى تعطيل الذاكرة عند الفئران، بينما اتباع نظام غذائي بديل غني بدهون الاوميغا 3 أدى لاصلاح هذا الأثر الضار للفركتوز. أما عند البشر فمن المعروف أن توقف المرأة الحامل عن تناول الكحول وتناولها لمكملات حمض الفوليك أثناء الحمل بإمكانه وقاية وليدها من تأثير جيناتها السلبي على النمو وتطور الجهاز العصبي للجنين. وفي مرضى بيلة الفينيل كيتون يوريا حيث تتعطل قدرة الجسم على استقلاب الحمض الأميني الفينيل الانين مما قد يؤدي إلي التخلف العقلي، ولكن باتباع نظام غذائي لا يحتوي على هذا الحامض الأميني يمكن للمرضى من العيش بشكل طبيعي.

كما أن الامتناع عن التدخين وانقاص الوزن الزائد يعمل على الوقاية من أمراض القلب والسكري وبعض السرطانات، إضافة إلى التأثير الإيجابي للنوم الجيد وممارسة الرياضة على جيناتنا الوراثية.

ويبقى السؤال: هل يمكننا أن نعيد صياغة كتابنا الجيني؟

 يبدو أننا على أعتاب ثورة بيولوجية قادمة نستطيع أن نسطر جميعاً صفحاتها بمحض إرادتنا

 

د. منی كيال استشاري المختبرات

د.محمد فتحي عبد العال كاتب وباحث مصري

 

حِرَاك بغداد هل هو ثورة أم انقلاب؟

التفاصيل
كتب بواسطة: علجية عيش

علجية عيشما يحدث في العراق هل هو ثورة الرغيف أم ثورة الكرامة؟ أم انتفاضة كانتفاضة أكتوبر الجزائرية؟، أم هي هبّة شعبية؟ أم هي مجرد ريح ثورية عابرة؟ فقد نجحت الشعوب العربية في تصفية الإستعمار العسكري، ولكنها فشلت في تحرير اقتصادها منه وظلت في حدود دفاعية سلبية، فالإحتكارات النفطية ما تزال تنهب ثروات هذه الشعوب وما يزال الغرب بنفوذه مسيطرا على الثروات النفطية العربية، من كان يعتقد أن الشعوب العربية يصل بها الحال أن تعيش مثل هذه الظروف، وهي التي تغنت بالوحدة العربية في الماضي، وتنقسم شيعا وقبائل، ماذا جرى؟ وماذا يحدث في العقول العربية؟ وهل سينجح الحراك الشعبي في البلاد العربية أم أن نضاله سيتحول إل قفزة نحو المجهول؟

يصر المتظاهرون في العراق على مواصلة تحركهم، إلى أن تتحقق مطالبهم في بناء وطن من مستقر، وبناء دولة لا تعتدي على شعبها كما فعلت الحكومة العراقية الحالية، نحن نتعامل بسلمية ولكنهم أطلقوا النار، هذا ما أعرب عنه شباب الحراك في العراق، فمنذ بداية الحراك بدأت تخوفات من تأزم الوضع والدخول في حالة انسداد، بعد ظهور قوات من مليشيات مختلفة لمواجهة المتظاهرين وبإيعاز من الحكومة الحالية، خاصة في بغداد، وسط مطالب برحيل النظام والمتورطين في الفساد، فبالنظر إلى حجم الخسائر فإن الأمور بدأت تنفلت لتتحول إلى ثورة مسلحة بسبب الأضرار التي أصابت اقتصاديات العراق وقادت شعبه إلى الهلاك، إذ تحول الحراك إلى معركة، أبرزت فيه الولايات المتحدة الأمريكية تدخلها عن طريق التحالف، يقول متتبعون للأحداث أن ما يحدث في العراق ليس مشكل طائفي، بل هو صراع طبقي وليد خطة استعمارية بحتة، منذ أن انعزلت العراق عن بقية البلاد العربية، ولم يكن هذا الإنعزال مؤقتا لأنه كان معاكس لمنطق التطور القومي التاريخي والتحرر الإقتصادي، عندما قامت المبادرة لإنشاء حلف اطلنطي للشرق الأوسط سمي بـ: "حلف بغداد" ومنه بدأ النفوذ الأمريكي بالتسلل إلى العراق وإبرام اتفاقية معها، حيث لعبت أمريكا دورها في الكواليس، فما يحدث في العراق الآن حرب سياسية تجاوزت الحرب الباردة التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، ما يجعل العراق تخشى من حركات داخلية مثلما حدث في كوريا، فكل ما يحدث من حروب وثورات وراءه أمريكا، أمريكا التي أرادت أن تكون العراق دولة اشتراكية يقودها الحزب الشيوعي، خاصة بعد إخراج العراق من حلف بغداد، وتحويل الديمقراطية الشعبية إلى حكم دكتاتوري انتهازي فردي يتنكر فيه لعروبة العراق، وإعطاء للجمهورية العراقية طابع متعدد القوميات.

ففي ثورة 14 تموز 1958 في القطر العراقي التي كانت ضد نظام الحكم الملكي وإقامة الجمهورية العراقية الكثير من العبر في قضية التحرر السياسي والإقتصادي ونسف السيطرة الإمبريالية بجميع أشكالها من الجذور، والقضاء كذلك على التجزئة، ووضع حد للصراع الطبقي على المستوى القومي، فضلا عن الخلافات التي كانت قائمة بين مصر والعراق أيام الرئيس جمال عبد الناصر واتصالاته مع تنظيم الضباط في العراق، فبغداد لم تكن يوما بعيدة أو منفصلة عن الأحداث، ولم تتوقف يوما في دعمها للبلدان الشقيقة، وكانت ترد بحزم عل نداءاتها، كما فعلت مع الأردن حينما ردت على نداء الملك حسين وأرسلت له مساعدة عراقية، كانت نتيجتها قيام الإتحاد الهاشمي بين العراق والأردن، والمتتبع يلاحظ أن التحركات لم تمتد إلى المحافظات الغربية والشمالية، خصوصاً المناطق السنية التي دمرتها الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وإقليم كردستان العراق الذي يتمتع بحكم ذاتي، خاصة وأن الاحتجاجات بدأت في العاصمة بغداد والجنوب الذي يغلب عليه الشيعة، ما دفع بالمحللين إلى اعتبار أن ما يقع في العراق الآن هو صراع طائفي بين السنة والشيعة، وبالرغم من أن المتظاهرين لم يستعملوا الشعارات الطائفية، إلا أن الخطوط العرقية والطائفية المتداخلة خَفِيَّة ولا يريد محبكوها أن تظهر إلى السطح، حتى لا يتدخل طرف ثالث قريب منهم وهو إيران.

والسؤال الذي وجب أن يطرح اليوم هو: ماذا بقي من حضارة البابليين؟، فالعراق اليوم الذي أنهكته الحروب، يعاني شعبه الظلم والإضطهاد، يعاني شبابه من البطالة، بسبب مظاهر الفساد، وهو الذي يملك ثروة نفطية غنية، حسب تصريح منظمة الشفافية الدولية، فهل حقيقة أن العراق يحتل اليوم المرتبة الـ: 12 في لائحة الدول الأكثر فساداً في العالم؟، تشير تقارير رسمية إلى أنه منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003، اختفى نحو 450 مليار دولار من الأموال العامة، أي أربعة أضعاف ميزانية الدولة، وأكثر من ضعف الناتج المحلي الإجمالي للعراق، تقارير أخرى تشير أنه منذ عامين من هزيمة تنظيم داعش، يعيش سكان البلاد الذين يقترب عددهم من 40 مليون نسمة في أوضاع متدهورة، والسؤال يلح على الطرح إذا ما كان الحراك الشعبي في العراق هو نموذج لثورة 14 تموز 1958، حاول فيها الجيش التضييق على المعارضة العراقية الممثلة في النخبة المثقفة، عن طريق القمع والإعتقالات السياسية، اجبرت النخبة إلى اللجوء خارج البلاد بسبب القبضة الأمنية للنظام في العراق والتضييق على الحريات والرأي والرأي الآخر والحوارات السياسية داخل مقاهي بغداد، التي كانت في وقت ما عامرة بالنقاشات السياسية.

أكتوبر الجزائر وأكتوبر العراق اتِّحَادٌ أم تحدِّ

من كان يعتقد أن الجزائر او العراق أو باقي الدول التي تعيش الثورات يصل بها الحال أن تعيش مثل هذه الظروف، ويتباغض أبناء الوطن الواحد بعنف لفظي وعملي، وهي (أي الشعوب) التي تغنت بالوحدة العربية في الماضي، قد انقسمت شيعا وقبائل، ماذا جرى؟ وماذا يحدث في العقول العربية؟، فما يحدث في العراق وفي هذا الشهر بالذات (أكتوبر) يعيد للجزائريين الصورة التي عاشوها قبل 31 سنة مضت (أحداث 05 أكتوبر 1988) فيما سميت بربيع الجزائر التي كانت عبارة عن إجهاض ثورة، وهي انتفاضة أنهت الأحادية الحزبية وفتحت الباب الواسع للتعددية السياسية، لكنها لم تغب عن ذاكرة الجزائريين، ففي مثل هذا اليوم عاشت الجزائر نفس الأحداث التي تعيشها العراق اليوم، خرج خلالها الجزائريون إلى الشوارع احتجاجا على واقعهم ومطالبين بإصلاحات اجتماعية وسياسية واقتصادية، وعمّت المظاهرات التراب الوطني استهدف فيها المحتجون كل ما يرمز للدولة الجزائرية من مؤسسات ومقرات حكومية وأمنية، فكان على الجيش إلا التدخل، بأمر من الرئيس الشاذلي بن جديد الذي فرض حظر التجول ليلا، اسفرت الثورة عن مقتل أزيد من 500 شخص، معظمهم لم تكن لهم علاقة بالمظاهرات، السلطة الجزائرية في عهد الشاذلي اعتبرتها مؤامرة وانقلاب على النظام، وقال عنها بوتفليقة أنه ثورة شعبية، وبالرغم من الخسائر البشرية، فالجزائر بفضل هذه الإنتفاضة الشعبية خرجت من الأحادية (الدكتاتورية) ودخلت مرحلة التعددية، فيها تنفست الصحافة الجزائرية، إلا أن هذا الربيع دخل في دوامة الفوضى، فقد ظلت السلطة وحدها مستولية على الحكم ولم تعمل بما جاء به الدستور الذي أقر التعددية وإشراك الشعب في صنع القرار وحرمته من ثمرة كفاحه، وهو الذي أدرك أن الإستقلال السياسي ليس إلا مقدمة لحل مشاكله السياسية والإقتصادية والثقافية وتحرره من التبعية، ومن بيروقراطية المكاتب أي الإدارة.

فبرنامج طرابلس كان يرى أن النمو الإقتصادي ليس مسألة توظيفات فقط، بل تطبيق الديمقراطية التشاركية من أجل التطلع إلا أفق تاريخي اقتصادي صحيح، حتى تكون التربة ملائمة لنشوء حركة الطليعة في بلد لم ينضج إيديولوجيا بعد وتكون لها صلة وثيقة بالجماهير وتعبئتها، الفارق فقط بين انتفاضة الجزائر في أكتوبر 88 وانتفاضة العراق في أكتوبر 2019 هو أن ما وقع في الجزائر لم يكن له علاقة بالطائفية، رغم أن في الجزائر تعددية مذهبية لكنها متخفية أي أنها تنشط في الخفاء ولم تكشف عن نشاطها إلا في السنوات الأخيرة قبل وقوع الحراك الشعبي، أما القاسم المشترك بين انتفاضة الشباب العراقي وانتفاضة الشباب الجزائري فهو إدراك الشباب أو الجماهير إن صح التعبير بأنهم ما يزالوا يعيشون في ركود سياسي وتبيعتهم للدولة وأن كل منجزات الثورة باءت بالفشل، بعدما سرق اللصوص ثرواتها ودمر منجزاتها، فبات من الضروري التحرك وإعادة الأمور إلى مكانها الصحيح، واستكمال التحرر الوطني، لا يمكن المقارنة بين الحراك الشعبي في الجزائر والحراك في العراق، أو في مكان آخر، لأن المطالب متشابهة بل هي المطالب نفسها، تبقى المسؤولية مشتركة والأخطاء يتحملها الطرفان فيما دار من اقتتال، لأن الخطر القادم يهدد وحدة الشعوب، ولذا فقد حان الوقت لوضع حد للنزاعات والمصالح الآنية، وإعادة النظر في الأفكار والسياسات.

 

قراءة علجية عيش بتصرف

 

 

الشعبوية السياسية فی مصر...

التفاصيل
كتب بواسطة: محمد سعد عبد اللطيف

محمد سعد عبداللطيفتعيش الشعوب العربية والإسلامية حالة من حالات سياسية (باثولوجية) من طراز الفوضوية والعدمية .مثل حالات النازية والفاشية التي ظهرت في القرن العشرين، والآن يظهر اللاهوت السیاسي الجدید۔۔

ونتيجة الجهل، الفقر والقهر تنتشر رسالة الشعبويون للتمسح بالشعب، واطلاق اسمة من باب البركة.

عندما يتم تقديس الفوضوية وتحويل الجهل والأمثال الشعبية إلي برامج سياسية، والنعرات الثورية الجوفاء إلي أوهام للشعب ..الشعبوية أهل ثرثرة .وهم يستحلون بمفاهيمهم وحدة الشعوب التي لا تنقسم ولكن تظهر في رؤوس المثقفين. ففی الماضي القریب۔۔ كان شعبويو الأمس رافعي راية الثورة الاجتماعية وشعار لا للرأسمالية والأرجوازية تحولت بهم السبل إلي من قضي نحبه السياسي ومنهم من ينتظر، ومنهم من بدل وتنقل حسب التغيرات السياسية وراء الكراسي.

وهناك فصيل اخر من يلبسون مركبات سياسية من لباس الاسلام، يرددون ما فعل أسلافهم اليساريون من كيل المديح للشعب والظن بسلامة نظرتة ويسر هدايتة من غزوة الصناديق إلي جمعة قندهار.

التحريض والتجييش ليغيروا بذلك انتاج مأزق السياسة نفسه حقاً مسكين هذا الشعب .

كان الله في عون هذا الشعب، مع هذا الحب القاتل .من الشعبوية السياسية.

 مثلت اللحظة التأسيسية لمرحلة ما بعد الاخوان المسلمين وتكوين تحالفات 30 يونيو صيغة شمولية لعلاقة الدولة بالمواطنين، متبنية خطابًا سلطويًا تحتكر فيه السلطة التمثيل السياسى والمجتمعى الوحيد للمواطنين، واستخدمت في ذلك شعارات ومعاني مرتبطة بالخيال الجمعي، وعلى رأسها شعارات الإنقاذ من الحرب الإهلية، والتخلي عن الوصاية الأجنبية، والحرب على الإرهاب. وقد مهدت هذه اللحظة لنظام يضع السياسات الأمنية والعسكرية على رأس أولويات السلطة الحاكمة، ويروج لخطاب الإجماع والاصطفاف الوطني وتخوين أي معارض ينشق عن هذا الشعار. وتقید حریة الرآي الأخر وأغلاق المجال العام وسیاسة التخوین۔ لذلك کان ظهور بضع فیدیوهات شعبویة من مقاول فنان ۔۔حدث ارتباك فی المشهد السیاسي ۔وفی غیاب معارضة وطنیة وأحزاب لها نشاط فی الشارع ۔ تکون البدیل المتجدد فی حالة انتقال السلطة وعدم وجود زعامة وکریزما تقود العمل السیاسي یکون البدیل ۔هی السلطة الحالیة خوفا من الانفلات الأمني ۔۔لذلك  فشلت القوي الثوریةوالمدنیة فی تآسس نظام مدنی قاٸم علی التعددیة والمواطنة ۔وحقوق الأنسان وعجزت کل القوي عن مطالب الجماهیر، فصدر قرار بإنشاء وزارة العدالة الانتقالیة وزیر بلا وزارة للإستخفاف بالعقول والأکتفاء بشعارات عیش، حریة، وعدالة اجتماعیة۔۔

اثناء الثورة عام 2011م عجزت عن تكوين تنظيمات سياسية قوية، واستبدلت روح المبادرة بردود الأفعال، مما جعلهم مجرد أداة فى المباراة الصفرية ما بين الحركات الإسلامية والمؤسسة العسكرية متمثلة فى كيان الدولة. وفى لحظة 30 يونيو تحديدًا، لجأت القوى المدنية (جبهة الإنقاذ) إلى تحكيم المؤسسة العسكرية والتحالف مع الدولة العميقة، من أجل حسم المعركة لصالحها، فى محاولة منهم لإستعادة الدولة من جماعة (الإخوان المسلمين) وليس من أجل إصلاح النظام السياسى، فلم تختر أغلبية القوى المدنية أو لم تكن هناك فرصة لإختيار مسار سياسى ملائم للإصلاح كالانتخابات المبكرة أو الاستفتاء على وجود السلطة الحاكمة. ۔۔

تزامنت هذه التحركات مع صعود فكر شعبوي وسلطوى عالمى، فى الولايات المتحدة الإمريكية ودول الاتحاد الأوروبي؛ مما أعطى فرصة لتقوية موقف السلطة المصرية فى مرحلة ما بعد الإخوان. فلم يكن يتصور أن يكون موقف السلطة الحالية بهذه القوة لولا سياق النظام الدولى الذى ساعدها على الاستمرار، فصعود ترامب لرئاسة البيت الأبيض كان فرصة جوهرية لجميع النظم التى لا تؤمن بالديمقراطية وبحقوق الإنسان، بإعتبار أن ترامب يرى أن مثل هذه القيم ليست على رأس أولوياته، وذلك على عكس سياسات بوش وأوباما، الذين رأوا أن التحول الديمقراطى لابد أن يكون على رأس أجندة المجتمع الدولى، وأتخذوا خطوات جادة لتحقيق ذلك.

 رفض (أوباما) كافة الترتيبيات التى حدثت بعد 3 يوليو 2013، وأوقف شحنات السلاح المتفق عليها مسبقًا مع السلطات المصرية، كما عطل المعونة العسكرية السنوية للقوات المسلحة المصرية، فى محاولة منه لفرض عقوبات على النظام السياسى وتقويضه دوليًا. وهذا ما تراجعت عنه كليًا الادارة الجديدة فى (عهد ترامب.) وبالتوازي مع ذلك، تحفظت العديد من الحكومات الأوروبية على خارطة الطريق التى أعلنت فى بيان 3 يوليو 2013، والأحداث الدامية التى تلته، إلا انها وضعت الأولوية لتحقيق الاستقرار الأمني والعسكري فى البلاد، خاصة فى ظل العمليات الإرهابية التى شهدتها مصر وبعض دول المنطقة والعالم، بالإضافة إلى وجود أدراك عام بأن التجربة السياسية بعد وصول جماعة الاخوان المسلمين إلى الحكم فى مصر، أثبتت أن التيار الإسلامى غير قابل للدمج في إطار نظام سياسي ديمقراطي. وأنة قاٸم علی جماعة فقط ۔۔

استخدمت السلطة وأجهزتها الإعلامية خطابا ترهيبيا، معتمدة فيه على المقارنة بالأوضاع فى سوريا والیمن والعراق وليبيا، الامر الذي كان له الأثر الكبير على قطاعات واسعة من المجتمع المصرى بقبول الوضع الراهن،

لم تكن الدولة المصرية بمعزل عن الموجة الشعبوية، التى يشهدها العالم مؤخرًا، ورغم أن الشعبوية كسلوك فى الحكم ومنطوق الخطاب له سمات معينة فى الدول الغربية وفقًا للسياق التى ظهرت فيه، مثل وجود أطروحة العدو الخارجي والصراع الوجودى بين أهل الخير وأهل الشر، وغياب البرامج المحددة، وسيادة الخطاب العاطفي بدل العقلاني، والادعاء الدائم بأن الحكم للشعب، والترويج للزعيم المنقذ، وكراهية النظم والنخب التقليدية؛ إلا أن الشعبوية الجديدة فى مصر لها ملامح مختلفة تبعًا للسياق الذي ظهرت فيه

في حين اهتمت الحكومات الرأسمالية بإعلاء قيم الليبرالية الاقتصادية وحرية التجارة والعولمة وحقوق المهاجرين والانسان بشكل عام، ظهرت في المجتمعات الغربية حركات شعبوية احتجاجًا على هذه السياسات التي أدت إلى تفاقم المشكلات ونجاح الیمین المتطرف فی الأنتخابات فی بعض البلدان الأوروبیة ۔۔وکان فوز ترامب مرحلة جدیدة من ظهور شعبویة تسود الان العالم ۔۔۔

 

محمد سعد عبد اللطیف

باحث فی الجغرافیا السیاسیة

رٸیس القسم السیاسي نیوز العربیة

 

عز الدين مصطفى رسول.. وداعا

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ضياء نافع

ضياء نافعحملت لنا الانباء قبل ايام رحيل الاستاذ الدكتور عز الدين مصطفى رسول . أثارت هذه الانباء حزني وذكرياتي، اذ اننا تعارفنا في موسكو عام 1960، عندما كنّا ندرس اللغة الروسية، كي نلتحق بكلياتنا لاحقا، انا في الدراسات الاولية وهو في الدراسات العليا . كان كاكا عزي (هكذا كنّا نناديه) أكبر منّا عمرا ومعرفة وخبرة وتجربة في الحياة، ولهذا كنّا نكنّ له كل الاحترام وكنّا نتحفّظ في علاقاتنا معه، ولكننا (اكتشفنا!) بساطته وطيبته المتناهية ومرحه الطبيعي الجميل اثناء الاختلاط معه، وهكذا اصبحنا – وبسرعة – اصدقاء قريبين معه . تعمقت العلاقات، رغم انه سافر الى باكو لاكمال الدراسة، وكان غالبا ما يزور موسكو، وكان يزور الجميع ويختلط مع الجميع، ويجد المواضيع التي يتحدث حولها مع الجميع . لقد تحدث معي مثلا حول المواد الدراسية في كليتنا، وعندما اخبرته، ان هناك مادة اسمها – (مدخل في علم الادب). أثارت هذه المادة  انتباهه، وطلب منّي ان اشرح له تفاصيل اكثر عن طبيعة هذه المادة، ثم طلب ان يتعرّف على الكتاب المنهجي المقرر، وبعد ان تصفّحه، طلب منّي ان احصل له على نسخة منه، وقال، ان هذا الكتاب يستحق الترجمة الى العربية . حصلت على هذا الكتاب لاحقا، وارسلته اليه فعلا، وكان ذلك في حدود بداية الستينات على ما اذكر، ومرّت عشرات السنين، والتقينا في بغداد، وكان عز الدين مفصولا من الخدمة في الجامعة نتيجة الوضع السياسي والموقف تجاه القضية الكردية، ففال لي، انه الان يستطيع ان يتفرّغ للترجمة عن الروسية، ويخطط ان يترجم كتابين لنشرها ضمن منشورات وزارة الاعلام، وانه سيقترح اسمي، كي تحيل الوزارة لي  ترجماته للمراجعة، لانه يعرف موقفي تجاهه . وافقت انا طبعا، وكدت انسى الموضوع ، واذا بالوزارة ترسل لي فعلا - بعد فترة - مسودات كتاب ضخم عن  وقائع مؤتمر حول الآداب الشرقية بترجمته، وقد ظهر هذا الكتاب فعلا بترجمته ومراجعتي . ولازلت اتذكر اهمية ذلك الكتاب حول الاداب الشرقية، اذ انه يتناول بالعرض آراء ومناقشات باحثين متخصصين في الادب الصيني والفيتنامي وغيرها من الاداب شبه المجهولة للقارئ العربي، والتي لا توجد حولها مصادر بالعربية ولحد الان . ان هذا الكتاب، الذي ترجمه عز الدين عن الروسية يعدّ اضافة نوعية جديدة الى مصادر المكتبة العربية، ولازال يمتلك اهميته العلمية في وقتنا الحاضر . اما الكتاب الثاني، فقد كان عن علم الادب المقارن، وهو الموضوع الذي دردشنا حوله في تلك السنين الخوالي بموسكو آنذاك . ان هذين الكتابين بترجمة أ. د. عز الدين مصطفى رسول عن الروسية هما برهان ساطع على امكانياته ومهارته واستاذيته في مجال الترجمة عن الروسية،  رغم انه لم يكن يتكلم عن ذلك بتاتا، ولم اسمع منه ابدا يوما، انه يتكلم عن امكانياته الادبية والفكرية عموما، وهي طبعا صفات العلماء وتواضعهم الاصيل، وكم أتمنى ان يقوم أحد طلبة الماجستير في قسم اللغة الروسية بكلية اللغات في جامعة بغداد بكتابة رسالة ماجستير، تدرس هذين الكتابين بترجمته، اذ ان هذا موضوع يستحق الدراسة فعلا عن مسيرة الترجمة عن الروسية  و تاريخها في العراق.

اختتم هذه السطور عن المرحوم عزي بالاشارة الى انه حاصل على شهادة دكتوراه علوم (بالروسية – دوكتور ناؤوك، والتي أسماها الجهاز الاداري العراقي - ما بعد الدكتوراه) من اكاديمية العلوم السوفيتية في اواسط السبعينات، وهي اعلى شهادة علمية يمكن الحصول عليها في الاتحاد السوفيتي آنذاك، وفي روسيا الاتحادية الحالية ايضا، والتي لم يحصل عليها من العراقيين سوى بعض افراد ليس الا، منهم الدكتور كمال مظهر في التاريخ، والدكتور عز الدين رسول في الاداب، والدكتور ميثم الجنابي في الفلسفة . لقد بلغ تواضع أ.د. عز الدين درجة متناهية فعلا، اذ انه عاد الى العراق، ولم يستلم شهادته تلك، وكنت انا اتهيأ للسفر الى موسكو للمشاركة في الندوة العالمية لمدرّسي اللغة الروسية، فطلب مني ان استلم شهادته، واعطاني تخويلا بذلك. راجعت الجهات المختصة في موسكو طبعا من اجل استلام الشهادة، وبعد التي واللتيا (في صراعي مع البيروقراطية الروسية) استطعت استلامها، واتذكر، ان الموظفة الروسية قالت لزميلتها، ان العراقيين يسمون شهادة الكانديدات دكتوراه، ولهذا ابحثي في سجل آخر، رغم انه يقول (اي انا) غير ذلك. قلت لها، ان صاحبي حاصل على شهادة دكتوراه علوم من اكاديمية العلوم السوفيتية، فقالت بحدّة، كيف حصل صاحبك العراقي على هذه الشهادة التي نحن الروس نحصل عليها بصعوبة بالغة، ولكنها اعتذرت لي بعد ان وجدوا، ان شهادة عز الدين مصطفى رسول هي حقا كما قلت لهم . ولازلت اتذكر حالة الزهو والفخر بعراقيتي، التي شعرت بها في تلك اللحظة، وهي حالة نادرة في تلك الاجواء.

الرحمة والسكينة  لروحك ايها المفكّر والعلاّمة العراقي الحقيقي والاصيل الاستاذ الدكتور عز الدين مصطفى رسول ...

 

 

الخلفية السايكو اجتماعية والأقتصادية لأنتفاضة أكتوبر العراقية

التفاصيل
كتب بواسطة: د. عامر صالح

عامر صالحعمت اغلب محافظات الوسط والجنوب العراقية احتجاجات سلمية عارمة انطلقت بتاريخ 2019ـ10ـ01 مطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية العامة عبر التغير الجذري للنظام، استخدم فيها العنف المفرط وغير المبرر من قبل الأجهزة الأمنية، مما ادى الى عشرات من الشهداء وجرحى تجاوزت اعدادهم الألف جريح، ولازالت الأحتجاجات مستمرة حتى هذه اللحظات، ومما يميزها هذه المرة أنها خرجت عن الأطر الحزبية والتكتيكات السياسية للقوى المساهمة في العملية السياسية وتتمتع بزخم جماهيري ومؤازرة من الداخل والخارج. 

لم تكن الأنتفاضة عملا عبثيا او نزهة استعراضية أريد بها أراقة دماء الشباب، بل هي تراكم كمي لمجمل أزمة نطام الحكم المحصصاتي الطائفي والأثني السيئ الذي لم يعمل شيئ ايجابي خلال عقد ونصف من الزمن، بل انه نظام منتج للأزمات واعادة تدوريها انطلاقا من طبيعته المافوية والمؤسسة اصلا على الأستئثار بالسلطة وتقاسمها والمبني على اساس المحاصصة المذهبية السياسية والعرقية المتخلفة التي تشتغل على اضعاف وتفكيك الوطن والمواطنة والأكتفاء في التمترس في الأطر الجغروطائفية والاثنية في فهم مريض منها ان ذلك يكفي لنيل الحقوق والاستئثار بالثروات الوطنية والافساد فيها. أن هذه الأنتفاضة  هي تجسيد حي وانعكاس لأزمة الحكم الخانقة والتي لم توفر الحد الأدنى الانساني من الحقوق المشروعة والتي عكستها الحاجة الى الماء والكهرباء والصحة والتعليم الصالح وعدم ايجاد فرص عمل لحملة الشهادات الجامعية والعليا وغيرها من مسلمات ومطالب العيش المعاصر والكريم.

أن تجربة عقد ونصف من الزمن في الاخفاق المزمن للمطاليب العادلة للمنتفضين تعكس بشكل واضح انها ازمة نظام متآكل وليست أزمة تلبية خدمات عامة كان يفترض على النظام تلبيتها في السنوات الأولى من الحكم، أنها أزمة فساد نظام الحكم المتهرئ الذي لا يمتلك أي شرعية للبقاء، وأن شعارات اهلنا في المحافظات التي اندلعت فيها والمطالبة بالحقوق الأساسية ما هي إلا مدخل للمطالبة بتغير النظام المحصصاتي، واهلنا هناك يعرفون تماما فلا كهرباء تأتي ولا ماء صافي سيشرب في ظل نظام معوق وكسيح لا يستطيع تقديم الحد الادنى من مسلمات الحاجات الانسانية، في ظل نظام فاسد لا يتورع عن سرقة لقمة العيش.

 أن نظام المحاصصة عرقل خلال عقد ونصف من الزمن جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي، وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد،بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك، أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة ،بل تؤسس إلى " إفساد للتنمية "، وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف، والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع، أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل، وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف دينه ومذهبه وطائفته وعرقه.

أن منظمة هيومن رايتس ووتش والمعنية بحقوق الأنسان تعرض جزء من مأساة الشعب العراقي خلال الأربعة عشر عاما الماضية، والتي من خلالها على الأقل لايمكن القبول بالعملية السياسية وبأحزابها الفاسدة التي اسهمت بتبديد الثروات الطبيعيةة منها والبشرية، وتؤكد المنظمة: أن هناك ثلاثة ملايين وأربعمائة ألف مهجر موزعون على أربع وستين دولة. أربعة ملايين ومائة ألف نازح داخل العراق. مليون وسبعمائة ألف يعيشون في مخيمات مختلفة. خمسة ملايين وستمائة ألف يتيم" تتراوح اعمارهم ما بين شهر و17 عام ". مليونا أرملة" اعمارهن ما بين 15 و25 عاما". ستة ملايين عراقي لا يجيدون القراءة والكتابة" تتصدرهم البصرة وبغداد والنجف وواسط والأنبار ".بلغت نسبة البطالة 31%" الأنبار والمثنى وديالى وبابل في الصدارة تليها بغداد وكربلاء ونينوى". 35% من العراقيين تحت خط الفقر" اقل من خمسة دولارات". 6% معدل تعاطي الحشيش والمواد المخدرة" بغداد في الصدارة تليها البصرة والنجف وديالى وبابل وواسط". 9% نسبة عمالة الأطفال دون 15 عاما. انتشار 39 مرضا ووباء، أبرزها الكوليرا وشلل الأطفال والكبد الفيروسي وارتفاع نسبة الأصابة بالسرطان والتشوهات الخلقية. توقف 13 ألف و328 معملا ومصنعا ومؤسسة انتاجية.  تراجع مساحة الأراضي المزروعة من 48 مليون دونم الى 12 مليون دونم. استيراد. استيراد 75% من المواد الغذائية و 91% من المواد الأخرى. التعليم الأساسي في أسوأ حالاته: 14 ألف و658 مدرسة، تسعة آلاف منها متضررة، و800 طينية، والحاجة الى 11 ألف مدرسة جديدة. الديون العراقية 124 مليار دولار من 29 دولة. واردات النفط للفترة 2003ـ2014 بلغت ألف مليار دولار، لم تسهم هذه الاموال الطائلة في حل مشكلات الحياة الاساسية، بل ذهب معظمها في عمليات الفساد ونهب المال العام.

أما على المستوى السايكولوجي فأن سياسات الإقصاء والتهميش والمحاصصات وما يرافقها من تدهور مستمر لحياة المواطنين قادرة على حرف حالات المساهمة السياسية من أجل تثبيت النظام" الديمقراطي" إلى حالات عداء سياسي للنظام وأركانه، باعتباره يجسد حالة الاغتراب السياسي بينه وبين المواطن، وهي نتاج طبيعي لحالة عدم الثقة والشك في القيادات السياسية ونواياها، متزامنا ذلك مع اتساع وتعمق دائرة الفئات الاجتماعية المهمشة والتي تقدر بالملايين جراء ظروف العراق التاريخية والحالية، ومن شأن ذلك أن يخلق ما يسمى " بالفجوات النفسية المدمرة"، حيث تنشأ هذه الفجوات على خلفية الشعور بالإحباط الناتج من التدهور المستديم لظروف العيش الحر والآمن، وهي شروط مواتية ولازمة لخلق وإعادة توليد سلوك العنف والعدوان باعتباره نتيجة للشعور الشديد بالإحباط، وعلى خلفية اتساع الهوة بين النظام والشعب وتعزيز حالة عدم الاكتراث تجري الاستفادة الكاملة من قبل المجاميع السياسية وفلول الإجرام والمرتزقة الغير مؤمنة أصلا بالديمقراطية السياسية للتمترس في النظام السياسي والتأثير على قراراته السياسية، وعلى عدم تغييره،مستغلة الفساد والعبث بالمال العام وسرقته كوسائل سهلة في الإغراء والتمويل وشراء الذمم.

وتعكس انتفاضة اكتوبر العراقية الحالة المتقدمة والأيجابية للتعبير عن حالة الأغتراب بين النظام السياسي والشعب من حيث مطالبها العادلة واساليبها النضالية المتقدمة ودعواها الواضحة في تغيير الأوضاع القائمة عبر فهم الأسباب، والتي تكمن في أسس نظام المحاصصة الطائفية السياسية والأثنية المنتج لعدم الاستقرار والعاجز عن معالجة الأزمات، وأن الدعوى لتغير أسس النظام وبنيته المؤسساتية هي دعوى لتثبيت الديمقراطية بأطرها المعاصرة وفسح المجال للقوى المؤمنة حقا بالديمقراطية والتدوال السلمي للسلطة والخلاص النهائي من افرازات ما أتى به الاحتلال الامريكي بعد سقوط الديكتاتورية.

أن انتفاضة اكتوبر 2019 الحالية هي انتفاضة تغير النظام بعد كل هذه المعاناة وبعد كل هذا التراكم الكمي من الأزمات في ظل نظام عاجز عن الايفاء بمطالب العيش الكريم ولا يمكن للمرء ان يلدغ من جحر مرتين، ولكي تفضي الانتفاضة الى مرتجاها يجب الانتقال من القيادات المناطقية والتجمعات المتفرقة المتباعدة الى القيادة المدنية التنويرية حفاظا على الاىنتفاضة من المنعطفات الصعبة والتي قد تقوم بها السلطة المحصصاتية في شراء الذمم وترويض بعض القيادات غير المتمرسة لأختراق الانتفاضة واسكاتها، كما أن الاحزاب ذات الصبغة المدنية مطالبة اليوم بالتضامن والتكاتف الواضح مع المنتفضين، فتلك هي لحظات حرجة في حياة شعبنا ومختبر للمواقف بعيدا عن ضيق الأفق أو بانتظار صفقات سياسية سيئة لأحتواء الانتفاضة حفاظا على مصالح انانية ضيقة في طريقها الى الزوال السريع. المجد والخلود لشهداء الأنتفاضة الأبطال والنصر المؤزر لشعبنا المناضل في انتزاع حقوقه المشروعة في بناء حياة حرة كريمة نليق بأنسانيته عبر الخلاص الكامل من نظام المحاصصة وبناء دولة المواطنة الحرة الكريمة.

 

د.عامر صالح

 

القيم الجمالية في الظاهر والباطن (2)

التفاصيل
كتب بواسطة: د. كاظم شمهود

1182 شمهود 1الظاهر والباطن هما وجهان لحقيقة واحدة حيث تلتقي الصورة الظاهرة مع الصورة الداخلية الخفية لتكتمل انسانية الشخص .

وفي تراثنا الديني بان الظاهر ينبغي ان يكون صورة معكوسة ومعبرة عن الداخل وهو ما يصطلح عليه اليوم بالشفافية وان انفراد الباطن عن الظاهر يعد نفاقا او رياءا وبالتالي يفسد الحياة ويربك العلاقات الاجتماعية (قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا اسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم ..)، احيانا يتنازل الانسان عن الظاهر لظروف معينة وقاهرة او مصلحة اجتماعية ولكنه يبقى محتفظا بانسانيته وايمانه او معتقده حيث يبقى سليما غير مخدوش، وسيكون في هذه الحالة الباطن مقدما على الظاهر .

اليوم نحن نعيش فترة كارثية سواء كان ذلك في الحقل السياسي او الثقافي او الفني، حيث نعيش نفاقا ورياءا وجهلا بامتياز، وغالبية هؤلاء يركبون تيار النفاق والفساد سواء عن قصد او جهل، فهم يظهرون شيئا ويخفونا شيئا آخر خاصة في المجال السياسي ومع ذلك تجدهم يتظاهرون بالوطنية والثقافة والفن، جهلا وخداعا وما يخدعون الا بانفسهم وسوف يلعنهم الناس ولن يرحمهم التاريخ .

1182 شمهود 2

في الفنون التشكيلية

في الفنون التشكيلية فان الظاهر والباطن يقابله الشكل والمضمون، فالشكل هو الهيئة المرئية والمحسوسة . فعندما نتحدث عن عمل فني ما سنجد هناك اكثر من شكل في اللوحة مجتمعة مع بعضها لتصنع نسقا مرئيا، وحينما يكون هناك شكل فني يكون هناك خلفه فكرة وانفعالات وجماليات تتسرب هذه كلها من اللوحة الى المتلقي فيتفاعل معها ويتمتع بها. بعض المفكرين يذكرون بان الظاهر والباطن اعم من الشكل والمضمون، فالظاهر هو كل شئ مكشوف وتدركه الحواس من ماديات محسوسة ومسموعة وغيرها، اما الشكل في الفن فيعني الصورة المحسوسة او المتوهمة. اما الباطن فيعني كل ما اخفي وغير منظور، وقد يكون في النية والمعنى او الباعث، (انما الاعمال بالنيات)، بينما المضمون في الفن يعني ما حوته اللوحة او الكتاب، وبالتالي فالباطن اعم واشمل من المضمون .

كما ان الظاهر يرمز الى العقل الواعي وقدرته على التمييز والتحليل والحكم وتحويل التخيلات الى تصورات والادراكات المعرفية . اما الباطن فيرمز ايضا الى العقل الباطني او اللاواعي، وحسب بعض المحللين بانه هو مستودع الضمير والذوق والوجدان والبصيرة، وقد قامت عليه اليوم مدرسة فنية حديثة هي المدرسة السريالية. وهناك عقل ثالث يذكره بعض المفكرين وهو العقل الابداعي، وفيه كلام كثير .و نجد ذلك في كتاب – المدخل الى فلسفة الجمال – للدكتور مصطفى عبده .

1182 شمهود 3

ويمكن تحليل العمل الفني من خلال عناصره الفيزيقية الموجودة في الصورة، ثم نتأمل هذه العناصر في حالة ارتباطها فيما بعضها في تناسق وجمال، وربما كانت ابرز العناصر في العمل الفني هي: ايقاع الخط، وحجم الشكل، والفراغ، والضوء والظل، واللون . فالشكل لابد له ان يتحدد عن طريق خط معين ينتج ايقاع خاص به، وقد استخدمه رسام الكهوف القديمة، ولازال يستخدم من قبل بعض الفنانين المعاصرين المعروفين مثل جماعة المدرسة الوحشية وكذلك الفنان الصيني لما للخط من قيمة روحية وجمالية.. ولكن الفنان الحديث تخلى عن الظل والضوء والبعد الثالث وغيرها، واصبح همه البحث عن ما وراء الاشكال من مضامين اي البحث عن الباطن . وقد اكد الفيلسوف الصوفي ابن الرومي. بان الصورة الظاهرة تقودك الى صورة باطنة.. وهناك من يقول انه اذا كانت الفنون المرئية عاجزة احيانا عن نقل المشاعر والاحاسيس الى الجمهور فهناك وسيلة اخرى للتعبير عن تلك المشاعر والافكار وهي اللغة التي تتزين بجمال البلاغة والشعر والادب الساحر والمؤثر (رب كلمة جلبت نقمة وازالت نعمة) . والى جانب القيم الشكلية توجد هناك قيم فكرية ووجدانية، وقد اكد الفلاسفة القداما على ان لكل شئ في الحياة هناك تستقر في باطنه روح، وبالتالي فهي حية وليس جامدة او ميتة كما يتبادر الى ذهن الآخرين . (لو انزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله).. وقد انتبه الفنان الصيني الى القيمة الجمالية في جوهر الطبيعة وروحها، فرسمها بقدسية واجلال . وبالتالي فان القيم الجمالية موجودة في الكون وفي كل شئ، في الشكل والمضمون وفي الظاهر والباطن ..

 

د. كاظم شمهود

 

الصفحة 143 من 171

  • 138
  • ...
  • 140
  • 141
  • 142
  • 143
  • 144
  • ...
  • 146
  • 147

hewar2(207)،(208)،(209)،(210)

84 mahmod mohamad ali200

اقرا ايضا

  • مجدي إبراهيم: نقائض التصوف.. الفقهاء والصوفية (4)
  • محمد العباسي: المدينة الفاضلة في القرن 21
  • ضياء نافع: تحية لروّاد الادب الروسي بالعراق في مئوية الدولة العراقية
  • علي رسول الربيعي: الشر والغرض الكوني لله (3)
  • جيوفانا ليلي: المعرفة والجمال في الإسلام الكلاسيكي.. قراءة جمالية لمقدمة ابن خلدون
  • صلاح حزام: القوائم الشخصية للمفاهيم والتعاريف
  • علي رسول الربيعي: السـؤال: الدين ودستور الدولة والعلمانية السـؤال (4)
  • هاشم عبود الموسوي: دعوة غريبة ابتدعها بعض مشاهير الأدب
  • هشام بن الشاوي: مسلسل القاهرة كابول وجبة دسمة من الفكر والمتعة والجمال الجارح!
  • صادق السامرائي: قس بن ساعدة الإيادي!!

القائمة البريدية



العدد: 5339 المصادف: الاحد 18 - 04 - 2021م


العودة لأعلى

تابعونا على:

الحقوق محفوظة صحيفة المثقف 2006 - 2021 ©

تابعونا على: