صحيفة المثقف
  • مدخل
  • الاولى
  • مقالات
    • أقلام حرة
    • آراء
    • أقلام ثقافية
    • قضايا
    • أقلام فكرية
    • شهادات ومذكرات
    • كتب واصدارات
    • علوم
    • دراسات وبحوث
    • ثقافة صحية
    • تنوير واصلاح
  • أدب
    • نصوص
    • ترجمات
    • هايكو
    • روافد
    • قراءات نقدية
  • حوارات
    • حوارات عامة
    • مدارات حوارية
    • نص وحوار
    • مرايا حوارية
    • حوار مفتوح
  • تقارير
    • تقارير وتحقيقات
    • أوركسترا
    • يوتيوب المثقف
    • اخبار ثقافية
  • استفهامات
    • مواربات
    • استطلاع
  • فنون
    • مقاربات فنية وحضارية
    • لوحات فنية
    • معارض تشكيلية
  • ملفات
    • المرأة في أسر العبودية
    • المرأة والسياسة
    • مستقبل الديمقراطية
    • المثقف والانتخابات
    • ملف: المثقف 10 سنوات عطاء زاخر
    • ملفات سابقة
  • تكريم
    • يحيى السماوي
    • وفاء عبد الرزاق
    • عبد الرضا علي
    • شوكت الربيعي
    • فرج ياسين
  • المؤسسة
    • رئيس التحرير
    • إصدارات المثقف
    • كتب ماجد الغرباوي
    • نشاطات المثقف
    • مناسبات المثقف
    • جوائز وشهادات
    • جائزة الابداع
    • ملتقى المثقف
    • ساهم معنا
  • كتّاب مشاركون
  • اتصل بنا

سهام الشجيري تبني نموذجا تفسيريا لتحيزات وسائل الإعلام

التفاصيل
كتب بواسطة: هادي جلو مرعي

886 سهام الشجيريإنشغلت زميلتي الدكتورة سهام الشجيري بقضية إعلامية مهمة تعنى بانحياز وسائل الإعلام، ورصدت هذا الأمر لسنوات، خرجت منها بملاحظات مهمة، طالما أرقتها في ترتيب أولويات الموضوعات الإعلامية المختلفة، وها هو  كتابها (التحيز في التناول الإعلامي/ بناء نموذج تفسيري لتحيزات وسائل الإعلام) الذي صدر عن دار حميثرى للترجمة والنشر في مصر، 2019، بأكثر من 575 صفحة، قد أسست فيه الافكار المتعلقة بالتحيز، واستطاعت بناء نموذج تفسيري لتحيزات الخطاب الإعلامي.

في هذا الكتاب رصدت الشجيري ظاهرة التحيز الإدراكي للتناول الإعلامي، من أجل التعرف على خصائص موضوعة التحيز الادراكي وعلاقته بمنظومة القيم المهنية، ووصف ظاهرة التحيز من خلال جمع المعلومات عنها بدقة، إذ تشير الدراسات في مجال الإعلام، إلى غياب المعايير الموضوعية لقياس الأداء المهني للإعلاميين والصحفيين في معظم المؤسسات الإعلامية والصحفية، فضلاً عن عدم توافر ضمانات ممارسة المهنة من خلال تفعيل التشريعات التي تحقق الحماية المهنية للصحفيين، وهو ما دعانا لطرح مفهوم التحيز في التناول الإعلامي، ومحاولة بناء نموذج تفسيري لتحيزات وسائل الإعلام، إذ أن إشكالية التحيز الإعلامي وخاصة التحيز الادراكي منه تتمحور في علاقتها بمنظومة القيم المهنية وفق مجموعة من المعايير المتعلقة بهذه القيم، وقدرة الوسيلة الإعلامية على التلاعب والتزوير، وقابلية بعض المحطات الإعلامية على شنق الحقيقة، ورفع السوط الإعلامي عالياً بوجه الضحية أكثر من أي جلاد سياسي آخر، ومحاولة تبشيع الخصم وأبلسته، إلى الحد الذي يصبح الإعلامي معه مثل المفتي الذي يشرعن قتل الشعوب وإبادتها، لكن الافتقار إلى الكفاءة والخبرة، بل وغياب المهنية التي تتعلق بمهارات الصحافيين عموماً، هو من جعل التحيز يأخذ دوره الكبير في التناول الإعلامي، وثمة أيضا غياب التخطيط الاستراتيجي، المتخصص بالعملية الإعلامية، مع غياب واضح لمعايير الجودة، التي يمكن من خلالها تأشير أطر التحيز الإعلامي، وتصحيحها من أجل حماية المنتَج الإعلامي، من الانزلاق في متاهات الفوضى، فالوظيفة الإخبارية لوسائل الإعلام تستهدف إحاطة الجمهور علماً بالأحداث بطريقة موضوعية ونزيهة تعاونه على تكوين رأي عام متبصر، إلا أن الممارسات الإخبارية تكشف عن صعوبة الفصل بين الرأي وبين الحقيقة حيث تستخدم وسائل الإعلام كل وسيلة ممكنة لتبدو الآراء وكأنها حقائق، كما ان انخفاض مصداقية وسائل الإعلام أصبح يشكل قلقاً متزايداً للمهتمين بأخلاقيات الإعلام وللمهنيين على وجه السواء، إذ أن تحيز القائمين بالاتصال يؤثر على شكل ومضمون التغطية للقضايا المثارة، علاوة على ذلك تلجأ وسائل الإعلام إلى الإفراط في نشر الأخبار السيئة وقصص الإثارة من أجل زيادة التوزيع، فضلا من أن الصحفيين يدركون بشكل مقصود أم غير مقصود التحيز تجاه هذا الطرف او ذاك ممن ينصب التناول الإعلامي على أحداثهم ووقائعهم، وعدم التقيد بالضوابط، والمعايير، والجدوى، والتخطيط الاستراتيجي، والمهنية، التي تتعلق بنقل الخبر، أو التقرير، أو التحقيق، أو المقال، أو الفيلم الوثائقي، أو غيره مما ينتمي إلى الفنون الإعلامية المختلفة، التقليدية منها والالكترونية، بصورة موضوعية وبحياد تام، فالتعتيم على مصدر الخبر، مثلا، ودرجة الوثوق منه، لا تزال واضحة في المشهد، وربما تحدث بصورة متواصلة، والسبب كما هو واضح، غياب المهنية، والاحتراف في العمل الصحفي واستسهاله، بعدم التزام الإعلام بنقل الأحداث بحيادية أقرب ما يمكن للواقع بسبب الميول السياسية أو الإيديولوجية، وتكريس التحيز وفق هذه الإيديولوجيا، والقبول بفكرة الرأي والرأي الآخر، واحترام الرأي الآخر، لأن دور الإعلام عموماً، ليس التحيز بإدراك تام ولا تشويش ولا تلوين ولا التشويه، ولكن نقل الصورة بـكافة جوانبها، وهو ما تفتقده، لأنها تتحرك وفق غايات القائمين عليها، وآراءهم وتوجهاتهم، وتأكيد دور الإعلام في تنمية فكر المتلقي وتعريفه بما يدور حوله من أحداث، دون أن يكون الإعلام طرفاً في الصراع، فمن المفترض أن الصحافي يقوم بعرض وجهات النظر المطروحة دون أن يعبر عن وجهة  نظره الشخصية، لكن ما يحدث في وسائل الإعلام تجاه مختلف الأحداث، هو أن كثيرا من الصحافيين يقدم نفسه لخدمة فصيل سياسي أو أيديولوجي معين، فيعمل كل ما يستطيع فعله ليكون في مصلحة هذا الفصيل، وغالبا تكون مقابل ثمن وهذا سبب ما نحن فيه من خلل في المنظومة المهنية للإعلام، لذلك فأن التناول الصحفي كثيرا ما يكون تناولا شديد التحيز وبعيد عن الدقة والموضوعية، والنزاهة، ووفق هذه المعطيات فمن الضروري إدراج قضية التحيز والموضوعية والحياد في الدراسات والأداء الإعلامي ضمن أولويات التناول الصحفي، فضلا عن إنشاء مراكز بحوث خاصة بمراقبة الأداء الإعلامي، ومعنية بوضع ضوابط علمية، يمكن قياس أثرها للتعاطي مع المنتج الإعلامي، بشكل يراعي أهمية الضوابط، ويستفيد من الخبرات، ويتوافق مع خصوصية ومتطلبات البيئة ويستجيب لرغبات وحاجات الجمهور ويحقق إشباعاتهم، ولذلك لا تتطلب الصحافة من أبناء المهنة أن يكونوا مجرد حرفيين مهرة أو خبراء متمكنين من أدوات المعرفة فحسب، بل تحتم عليهم التمسك بالضمير المهني والالتزام الذاتي بالصدق والموضوعية والأمانة، وبشفافية عالية، وحيادية تامة والتفريط فيها يعرض جوهر المهنة إلى الفوضى.

ونبهت الشجيري الى إن الخطأ الذي تقع فيه بعض وسائل الإعلام أن موادها موجهة أما للموالين  لها ليزدادوا ولاء، أو للرافضين لها ليزدادوا رفضا، فيما ينبغي أن تكرس جهدها لاجتذاب القطاع المحايد والذي لايزال لم يشكل موقفا أو رؤية، إذ أن بعض وسائل  الإعلام على اختلافها (المقروءة والمسموعة والمرئية، والالكترونية) تتصور أن متبنياتها بما إنها صحيحة فلا تكرس إلا رؤيتها، ولا تفرد مجالاً واسعاً  للرأي والرأي الآخر أو على الأقل التظاهر بالحيادية، لكي لا تخسر المزيد من  جمهورها، متجاهلة حقيقة أن لكل فكرة جانبي الصحة والصلاحية، كما أن الإعلام لم يعد يتوجه إلى كتلة بشرية أو شريحة معينة، بل صار محددا وموجها، وقد أظهرت دراسات عديدة تحيزاً في الأخبار، وهذا التحيز مهما كان دافعه يشوه صورة الواقع، وبعض الباحثين والمختصين عد التحيز وهم وآخر عده تهمة فيما تساءل آخرون عن ماهية المفهوم من تهمة "تحيّز الإعلام" فيما أنكر غيرهم أن يكون هناك حياداً تجاه قضايا مهمة كالأمن القومي والوطني مثلا فلا حياد مع المخاطر الذي يتعرض لها أمن البلد، كما لا حياد مع خطاب المصالح والمنافع، وتلعب وسائل الإعلام دوراً رئيساً وفاعلاً في تشكيل سياق التحول الديمقراطي والإصلاح السياسي في المجتمعات المختلفة، حيث تعكس طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين النخبة والجماهير، ويتوقف إسهام ودور وسائل الإعلام في عملية الإصلاح السياسي الديمقراطي على شكل ووظيفة تلك الوسائل في المجتمع وحجم الحريات، وتعدد الآراء والاتجاهات داخل هذه المؤسسات، بجانب طبيعة العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية المتأصلة في المجتمع، فطبيعة ودور وسائل الإعلام في تدعيم الديمقراطية، وتعزيز قيم المشاركة السياسية وصنع القرار السياسي، يرتبط بفلسفة النظام السياسي الذي تعمل في ظله، ودرجة الحرية التي تتمتع بها داخل البناء الاجتماعي، وأصبح الاهتمام بوسائل الإعلام ومضمونها أمراً بالغ الأهمية، وإذا ما سلمنا بأن الإعلام بحد ذاته هو عملية تزويد الناس بالأخبار والمعلومات والحقائق الثابتة، فكيف يمكن الحكم على صحة وثبوت حقيقة معينة من جهتين متناقضتين؟ فكل جهة تنظر إلى الأشياء بمنظورها الخاص المتطابق مع مصالحها الاقتصادية والسياسية!

ويهدف الكتاب إلى معرفة التحيز الذي ولد مصطلحه على يد المفكر الكبير الدكتور عبدالوهاب المسيري، كما افردت الشجيري فصلا كاملا عن توضيح ذلك، ودور المسيري في التركيز على كل ما يتعلق بالتحيز، وأنواعه وأنماطه وسماته في وسائل الإعلام المختلفة، والوقوف على حقيقة أداء وسائل الإعلام، وتعريف وسائل الإعلام بآراء الجماهير فيها، بحيث لا تحيد عن الشفافية والحيادية، والقضاء على العقبات التي تعرقل أداءها، وإتاحة حرية تداول المعلومات، ويكفل للإعلاميين الحصول عليها بشكل مباشر ومن مصادرها الشرعية، وإشاعة قيم الشفافية والحيادية في التعامل مع الأحداث، فالإعلام ليس مجرد ناقل محايد، بل يؤثر ويتأثر في ظل سياق تساهم الأحداث المهمة في دفعه للأمام لأجل الاستجابة للمتغيرات بمرونة تامة، وعبر العصور الزمنية نلاحظ توثق العلاقة بين الفعل الثقافي والنشاط الإعلامي، وهو ما اهتمت به الشجيري في محاولتها لبناء نموذج للتفسير ولفهم التناول الإعلامي بغية الخلاص من التحيز تجاه هذا الطرف أو ذاك، ودعت إلى تكوين هيئات رقابية من الناس تراقب وسائل الإعلام وتنشر تقاريرها عن المغالطات والتحيزات فيها شبيهة بهيئة الصدق والدقة في التقارير الإخبارية في بعض وسائل الإعلام الأمريكية، ويتألف الكتاب من تسعة فصول، تناول الفصل الأول تأصيل لمفهوم التحيز، وتخصص الفصل الثاني بالتحيز كمقاربة أولية، فيما تناول الفصل الثالث التحيز أنواعه وأنماطه وسماته، أما الفصل الرابع فتحدث عن القيم المهنية ذات العلاقة بالتحيز الإعلامي، وكان الفصل الخامس قد تطرق إلى التحيز في التغطية الإعلامية، وتناول الفصل السادس التحيزات الشخصية للإعلاميين، اما الفصل السابع فقد تناول التحيز في الخطاب الإعلامي، فيما تناول الفصل الثامن التحيز اللغوي، والفصل التاسع تناول تحيز الصورة والصورة المتحيزة، التوفيق لزميلتي المبدعة وبانتظار صدور كتابها المهم، عن النظرية الفرعونية في وسائل الإعلام.

 

هادي جلو مرعي

 

الماهية في الوجودية والفينامينالوجيا

التفاصيل
كتب بواسطة: علي محمد اليوسف

علي محمد اليوسفتعريف اولي: لمعرفة مفهوم الماهية فلسفيا في عنونة المقال، يتوجب معرفة الخصائص الفلسفية لكل من الوجودية والفينامينالوجيا في تعالقهما المشترك في التعبير عن موضوعة الماهية والوجود، أذ تذهب الوجودية، بأن الوجود سابق على الماهية، على العكس (من الفينامينالوجيا التي تعتبر نفسها فلسفة ماهيات وليس فلسفة وجود).(1)

كما أنه من المهم التنبيه منذ الآن الى أن الوجودية، (تعتبر الانسان لا يمتلك وجوده لأنه هو هو وجوده) في أبعاده المتعددة. عليه تكون أنسانية الانسان هي ماهيته أذا جاز لنا فصل ماهية الانسان عن وجوده، والانسان أكتفاء متحقق في وجود يعي أناه ويعي المحيط ويمتلك ماهية يدركها لوحده، ولا يحتاج بخلاف جميع الكائنات بالطبيعة لوجود آخر مغاير له في رغبته أثبات وجوده المعطى له طبيعيا سلفا والمجرّد منه فلسفيا بأستثناء علاقته النوعية الاجتماعية بغيره . كما أن الذي لا يمتلك وجودا لا يمتلك ماهية، والماهية قرينة الوجود المدرك الثابت والمتغير على السواء، ولا يمكن معرفة ماهية شيء غير مدرك وجودا لا في الانسان ولا في غيره من موجودات الطبيعة.

لذا تكون كل موجودات الطبيعة عدا الانسان لا تمتلك وجودا حقيقيا، وهي بحاجة غير مدركة ولا واعية منها، الى وجود ثان مغاير يدرك وجودها الماهوي. ويكون الانسان الذي يمتلك ذاته في وجوده يمتلك ماهيته غير المفصح عنها غير المدركة من غيره، والانسان يتحّكم بوعي أناه وماهيته بخلاف الكائنات الاخرى بالطبيعة التي لا تعي وجودها الموضوعي، ولا تعي ذاتها وتكون ماهيتها ليست ملكها.

وتعتبر الوجودية الانسان يصنع وجوده التنموي الماهوي بنفسه بمرور الزمن.لذا يكون الانسان وجودا متغيرا على الدوام في ثبات موجودات الطبيعة ظاهريا وماهويا لعدم أمتلاكها ديناميكية فيزيائية تطورية غير بايولوجية تحكمها مثلما هو الحال مع الانسان.

أن مقولة الوجودية الوجود يسبق الماهية يحمل تناقضا مبطّنا ليس سهلا الأخذ والتسليم به ليس من حيث غموض الادراك الكيفي الذي يكتنفه الالتباس في عدم أمتلاك الوجودية آلية فلسفية تنفيذية مقنعة تبين الادراك العقلي أو المعرفي للماهية وحسب، بل في وجود مناوئة فلسفية مادية تنكرعلى الوجودية تلك المقولة من أساسها كموضوع قابل للادراك او مهمّا الخوض به كمبحث فلسفي، بل وتذهب الفلسفة المادية الى أكثر من ذلك أنها لا تعتبر هناك ماهية في الوجود المادي الخارجي للاشياء في الطبيعة، وأنما الموجود هو ظواهر الاشياء فقط، وتنكر أن يكون للماهية خاصّية وجودية أدراكية منفردة توجب على العقل الفلسفي التثّبت منها، غير تلك الصفات البائنة الواضحة للشيء في وجوده المادي وكينونته الموحدة بالعالم الخارجي والطبيعة التي تكون تلك الظاهرات ومعرفتها كافية بما يغني البحث عن الماهيات للاشياء الموجودة أو غير الموجودة خارج معرفة صفات الشيء المدرك خارجيا.

من جهة مناوئة أخرى للوجودية في مقولتها الوجود يسبق الماهية، أن الفلسفة المثالية بطروحاتها المعروفة تقّر بوجود ماهيات للاشياء، لكنها لا تربطها بالوعي  في عدم الادراك العقلي اليقيني لها، بغير آلية التبسيط الميكانيكي الذي تعتمده الفلسفة المادية في معرفة الماهية أنه كلما تمّكنا من أدراك صفات الشيء وخصائصه البائنة تكون الحصيلة هي أدراك ماهيته المتغيرة المصنّعة في تبديل ظواهرها المدركة أو بعضها كملازم لوجود أدراك الشيء في ظواهره وصفاته.

الفلسفة المثالية التي تفهم الوجود وأدراكه فعالية ذهنية فكرية صرف لا علاقة لها بالوجود الخارجي المستقل للاشياء لا تعنى بما يسمى ماهية ولا وجود خارج فعالية الذهن والفكر...بمعنى أدراك ماهية الشيء لا تختلف عن آلية أدراك الوجود على صعيد وسيلة التفكير العقلي الادراكي فقط...لذا يكون وجود الشيء المدرك مثاليا يساوي وجوده الماهوي غير المدرك ذهنيا وفكريا مثاليا أيضا.

كما أن هناك فلاسفة عديدون لا يصّنفون على الفلسفتين المادية والمثالية، يرون أن الماهية ليست خاصّية نوعية مميزة ملازمة بالضرورة لوجود جميع الموجودات والاشياء في الطبيعة، أذ يكون هناك موجودات لا تمتلك ماهية محتجبة خلف الادراك المباشر لصفاتها وأدراك ظواهرها التي تكون هي مجمل صفاتها المدركة ظاهراتيا التي تكوّن هي ماهيتها المستنبطة... وهي وجهة نظر تقترب من المادية أكثر منها الى المثالية.

كما أن الفكر الديني واللاهوتي يقرّان بأسبقية الماهية على الوجود من حيث أن الخالق(الله) يعرف ويستدل عليه بخواصه الماهوية في الطبيعة، وليس بوجوده غير المدرك بأية آلية عقلية مادية، ولا بآلية مدركة حدسية خيالية خاصة في منهج مدارس وحدة الوجود وبعض الطرق الصوفية..التي ترى أيضا لا وجود لشيء في الطبيعة أوفي ما ورائها غيبيا ميتافيزيقيا من غير ماهية قبلية له تلازمه وهي مجمل خصائصه وصفاته التي تجعل من الوجود مدركا بالعقل بظواهره وليس بماهيته....

بينما تذهب الفلسفة المثالية كما ذكرنا بمختلف تياراتها أن ماهية الشيء تسبق وجوده، والماهية تتشكل بسبق زمني تركيبي ذهني قبل وجود الشيء كواقعة يمكن أدراكها أو معرفتها في عالم الاشياء. والوجودية نبذت( المذهب التجريبي، بل وكذلك الفكرة الاساسية لدى كانط في مذهبه التصوري الذي ينكر وجود ماهيات مادية في الوجود الخارجي معنى العقل بأدراكها)(2).

كيف يدرك العقل الماهية؟

أود هنا الاستطراد التوضيحي لما ذكرته سريعا قبل سطرين في أمكانية تخليق العقل لماهية الشيء المطلوب أدراكه وجودا. كي لا نقع في ألتباس أكبر من عملية تخليق ماهية الشيء قبل أدراك وجوده، ولا بد لنا من تفريق نوعية الشيء المدرك، فالمدركات الوجودية العقلية هي وجودات ومواضيع مختلفة بما لاحصر له في الطبيعة ولتوضيح كيفية أدراك ماهياتها فلسفيا وليس بايولوجيا فيزيائيا أصّنفها كالتالي:

- هناك وجود مادي لأشياء مستقلة في الطبيعة لا دخل للانسان بها لا في صفاتها ولا في ماهياتها بالفهم الفلسفي للعلاقة التي تربطه بها، وليس بالعلاقة البيولوجية التي تربط الانسان بها في الطبيعة، وهذه الموجودات الطبيعية تبدأ من الانسان الى الحيوان الى النبات والى الجمادات وغيرها، فهذه الموجودات ليس هناك تداخل للانسان معها أكثر من رابطة البايولوجيا فقط في أعتماده على تلك الكائنات في مشاركتها الطبيعة معه.

وليس مهمّا أن يتعرف الانسان لا في تغييروجودها الطبيعي المستقل بل في تغيير صفاتها الخارجية المدركة فقط بما يخدم تعالقه الوجودي معها والاستفادة منها، وليس في ماهياتها المحتجبة عنه خلف ظواهرها، وتكون حاجة الانسان لها في تلبية رغائبه وتأمين وجوده وبقائه بالحياة.وليس بالتداخل الفلسفي الوجودي او الماهوي معها.

فهي أشياء الطبيعة ومكوناتها المتنوعة المعطاة للانسان والعيش معها بما يحقق منفعته منها في تأمين غذائه، ولا يستطيع الاستغناء عنها وعلّة وجوده بينها أنّه جزء منها أي جزء من مكونات الطبيعة، التي هي نفسها علّة ولغز وجود الطبيعة في جميع مكوناتها.

لذا عندما يلجأنا التفكير في معرفة ماهيات موجودات الطبيعة علينا البدء بمعرفة ماهية الانسان ذاته في وجوده الطبيعي كنوع من بين أشياء وموجودات الطبيعة. وهذا يقودنا الاقرار بأن ماهيات تلك الموجودات والاشياء بالطبيعة لا تدرك للوهلة الاولى حسّيا الا في ظواهرها الطبيعية فقط التي تكون كافية لمعرفة الانسان بها وليس هناك من حاجة لمعرفة ماهيات تلك الاشياء الا في مسائل موجبة وضرورة الانسان أن يعرفها.

- النوع الثاني من الموجودات، في علاقتها ومشاركتها الانسان في الطبيعة، وفي محاولة معرفة ماهياتها، في وجودها وظواهرها، هي التي ينطبق عليها القول الحاجة أم الاختراع، فهذه الموجودات تتشّكل ماهيتها قبل وجودها المادي الخارجي من قبل الانسان نفسه، ويعرف الانسان ماهياتها في عجزها هي أدراك ذواتها وماهياتها... أي أنها حاجات وأشياء لا وجود لها في عالم الاشياء الطبيعي المادي قبل أختراع الانسان لها ماهويا و– وجودا- أشياء أخترعها عقل الانسان وأوجدها ماديا لحاجته لها في حياته، ونوضّح كيف؟؟

عندما يفّكرالانسان بصنع سيارة أو منضدة أو كرسي مثلا أو أية حاجة قبل أن تكون متعينا وجودا ماديا مخترعا بعد أن لم يكن موجودا بشكله المادي في عالم الاشياء لولا أختراع الانسان له في سد حاجته له، وهنا تكون ماهية الشيء بجميع مواصفاتها واستعمالاتها ووظائفها سابقة على وجود الشيء المادي المتعين كرسيا أو سيارة أو أي شيء آخر يخترعه الانسان مدركا في عالم الاشياء يحتاجه في حياته. وبهذا النوع من الاشياء التي يقوم الانسان المخترع بوضع ماهياتها، ومعرفة خصائصها الماهوية قبل معرفة وأدراك وجودها التخليقي لها من قبل الانسان في أختراعه لها ماهويا/ وجوديا في عالم الاشياء.أي لا يكون الانسان بحاجة معرفة ماهيتها التي أكسبها أياها أختراعه لوجودها واقعا ماديا من ضمن مكوّنات الطبيعة.

- النوع الثالث من الموجودات هي أيضا الموضوعات التي يخترعها الذهن خياليا، أي الموضوعات المخترعة بالفكر المجرد قبل أن تتحول من أفكار مجردة في التفكير الذهني العقلي، الى وقائع موجودة ومدركة من ضمن أشياء العالم الخارجي المادي، فهذه الاشياء أيضا يقوم الانسان بصنع ماهياتها قبل تعيين وجودها المادي الخارجي متمثلا بشكلها الخارجي المدرك بظواهره فقط، ويتم ذلك في تداخل ماهية الشيء مع ظواهره الخارجية التي ستكون متعيّنا وجودا بفضل الذهن وأختراعه لها ولم تكن شيئا موجودا لا في ماهيتها ولا في وجودها قبل تخليق ذهن الانسان لها في الماهية وفي شكل الوجود في عالم الاشياء....فمثلا ماهية أختراع تأليف كتاب في الذهن،فأن العقل يقوم أبتداءا بتخليق وخلق ماهية الكتاب في مضمونه ومحتواه قبل طرحه وجودا في شكل كتاب أنيق مطبوع يعرف وجوده بعنوانه على غلافه وليس بماهيته كمحتوى.

الماهية والادراك الكلّي

أن الماهية غير الموجودة في الوجود المادي الخارجي أو التي يبتدعها العقل في مخيلته، من المتعذر أن توجد كمدرك ماهوي داخل العقل، كما لا يمكن التعبير عنها كوجود متعيّن في صفاته وظواهره حتى التخييلية التي يكسبها العقل للاشياء مالم تكن وجودا ماديا مدركا في عالم الاشياء...كما أن ماهيات الاشياء التي أعتبرها كانط ثابتة في وجودها غير المدرك ظاهريا (وأنها لا تتغير ولا توجد علاقة تبادلية بين الماهيات والظواهر)(3)، هي على خلاف مع الفينامينالوجيا التي تعتبر الماهيات متغيّرة لأنها تكون أحيانا غير موجودة خارج صفاتها الماهوية التكوينية لها في تداخلها مع ظواهرها وصفاتها المدركة، في وجودها الشكلي المستقل كمدرك في العالم الخارجي. بل وأكثر من هذا سنرى في سطور لاحقة كيف أن الفينامينالوجيا تعتبر الماهية موجودا من أنتاجية (الوعي)، وليس كما ذهبنا له في تصنيفنا الاشياء المدركة من حيث علاقة وجودها بماهيتها في السطور السابقة.

الفكر المجرد هو أنعكاس للوجود المدرك كاملا أي كوحدة واحدة في أدراكه، وليس لماهيته فقط ولا لظواهره فقط، من غير أفتعال فصل بين صفات الشيء البائنة المحسوسة المنعزلة عن ماهيتها خلف مدرك ظواهرها، ولا يمكن للفكر أن يخلق ماهية ولا وجود ولا مدركات داخل العقل قبل وجودها الادراكي خارج العقل بأستثناء ما يختلقه خياليا من الذاكرة كما ألمحنا له، ويكون التعبير الفكري اللغوي لا يعبرّ عن الوجود الخارجي غير المدرك للعقل ولا الغير المبتدع من الذاكرة، أي أنهما(الفكر واللغة) لا يعبّران عن ماهيات الاشياء في الوجود الخارجي في حال عجز الذهن العقلي أدراك ماهية الشيء داخل العقل.

وكل تغيير في أشياء الوجود الخارجي أنما يتم بعاملين هما تخليق العقل بالاسهام التغييري لظواهره، والثاني هو العلاقات المتبادلة في التأثر والتأثير بين ظواهر الوجود وماهيته بمعزل عن أرادة الانسان. وكلا العاملين أنما هما نتاج عقلي أولا واخيرا. لذا يكون أي تخليق جديد أو تغيير يطال الوجود لا يتم من غير أرادة انسانية تهتدي بالتصورات العقلية، التي هي حصيلة التأثر والتأثير المتبادل في تخليق العقل للموجودات وليس أمكانية أعادة خلقها كوجود مادي مغاير لوجودها.

كذلك فأن الوجود بذاته الذي يسميه سارتر وجود (مافي ذاته) وأنه (ليس فاعلا ولا منفعلا، ولا هو ثبات، ولا هو نفي أنما هو وجود يقوم معتمدا على ذاته لا أكثر مصمت، جامد، وليس له علاقة مع الموجودات الاخرى بل هو خارج أطار الزمن)(4)،هنا نستطيع القول أن الوجود بذاته حسب توصيف سارتر، وجود مكثّف ومكتف بذاته ولا يعي ذاته ولا المحيط من حوله لأنه وجود جامد خارج فاعلية الزمن التغييرية. والذي لا يدركه الزمن لا يدركه العقل وجودا في استحالة ادراكه مكانيا بمعزل عن الزمن.

أنه لمن المهم التنبيه الى أستحالة أدراك العقل للاشياء والوجود خارج الزمن مكانيا. من ضمنه الوجود بذاته المدرك مكانا وزمانا في تعطيل وعطالة تحقق وجوده الفاعل، فالزمن يدرك الموجودات في وجودها المتعين أدراكيا في الزمان والمكان في ثبات الاشياء وفي حركتها على السواء. بمعنى العقل لا أدراك فاعل له خارج الزمن، كما أن الادراك الزمني يدرك الوجود المتعيّن ولا يدرك العدم أو الشيء الذي هو بحكم العدم الذي هو الوجود بذاته فهو ليس عدما ولكنه وجود محكوم بعدم قبل غيره من الموجودات الطبيعية التي يحكمها العدم في دورة حياة مثلما يساير العدم الوجود الانساني مالم يفنى بالموت.

المفارقة بين العقل والزمن أنهما كليهما لا يتبادلان الادراك الحسي ولا المادي بينهما،أي لا يدرك أحدهما الآخر، بل يتوّحدان في أدراكهما الاشياء والطبيعة معا في تداخل غير مدرك ولا منظور .هذه هي العلاقة الوحيدة التي توحد العقل بالزمن بفاعليتهما المتداخلة في أدراك الاشياء.

والعقل لا يدرك الفراغ الوجودي (العدم) زمانا، والزمن يعي ذاته في أدراكه المدرك من قبله زمانيا، لأن الوجود خارج الزمن وما لا يدركه الزمان لا يدركه العقل مكانا مجردا عن زمن أدراكه، وهوأستحالة أدراكية لا يعيها العقل . كما أن من المهم ذكره أنه حسب سارتر الوجود بذاته لا يمّثل ماهية الشيء كما لايمّثل أحدى خصائص الماهية المتكوّنة من مجموع خصائصها وصفاتها،... المفارقة هنا أن العقل يمكنه أحيانا أدراك الماهية لكنه يعجز عن أدراك الوجود بذاته رغم التداخل القوي بين الماهية والوجود بذاته في الشيء غير المدرك. والوجودية تفهم الذات بمعناها الخلاّق والانسان يخلق نفسه بنفسه ويكّون حريته التي هي اسمى التحقق الوجودي بحسب سارتر.

هيدجر والوجود

لابد لنا من المرور على بعض آراء أبرز فلاسفة الوجودية هو مارتن هيجر كيف يعبّر عن الماهية والوجود معا بنوع من المصطلحات الغامضة التي تقود الى تشتيت ذهني غير متماسك نستعرض بعضها في فقرات متقافزة يصعب الربط المنطقي بينها:

- الموجود هناك ليس له عمق، بل يأتي من جوف هاوية بلا نهاية من العدم، والموجود هناك نهايته الموت وهي هاوية اخرى للعدم.(5) .

- ان محض وجود (الموجود هناك) الانسان هو ركض نحو الموت الى العدم. فهو محمول بذاته في داخله نحو العدم. ويمكن أن يقال بوجه عام، أنه من العدم يأتي كل موجود من حيث هو موجود.

- ويأخذ بعض دارسي فلسفة هيدجر قولهم (كان يمكن قول هيدجر، العدم موجود) بدلا من عبارته (العدم يتعادم) وهو تعبير جلب له سخرية العديدين.(4) حسب رأي بعض المهتمين بالفلسفة.

الفينامينولوجيا والماهية

أما عن المذهب الفلسفي الفينامينالوجي فهو يحصر أهتمامه في وصفه ظواهرالاشياء، أي أنه يهتم بما هو معطى واقعي مباشرمدرك في ظاهرياته، وتغّض الفينامينالوجيا النظر عن العلوم الطبيعية وتعارض المذهب التجريبي، فهي فلسفة ماهيات وليس فلسفة وجود.(6)

وتعتبر الفينامينالوجيا (الماهية هي المضمون العقلي المثالي للظواهر، التي تدرك  رؤية الماهيات مباشرة، والهدف الفينامينالوجي هو الوصول الى الماهيات ليس عن طريق الشك الديكارتي وأنما تعمد الى مذهب تعليق الحكم)(7)

ومبدأ تعليق الحكم في الفلسفة معناه اللاادرية في الحكم على الشيء الذي يحتمل قطبي الصح والخطأ، وليس الشك الديكارتي في الحكم على الشيء من منطلق اليقين المسّبق الدوغمائي في تخطئة المشكوك به، وتعليق الحكم لا ينفي طرفي السلب والايجاب أو الانحياز لأحدهما في الوصول الى حقيقة الشيء أو صحة منطلقات قضية ما، أي تعليق الحكم لايبّت في صحة الاثبات للشيء على أمكانية نفيه، وأنما يلجأ الى تأجيل الحكم في التخلص من الوقوع في حكم الخطأ بالقرار بين أحتمالين.

هذا الفهم في تعليق الحكم لا تعمل به الفينامينالوجيا ولها أجتهادها الفلسفي الخاص بها في تعليق الحكم حسب تفسير هوسرل..ويعتبر هوسرل فيلسوف الفينامينالوجيا (الاختزال التراسندتالي – التعالي- هو تطبيق منهج الفينامينالوجيا على الذات نفسها وعلى أفعالها، معتبرا أهم منطقة في الوجود هي (الوعي الخالص) الذي يقوم على مبدأ القصدية الذي أستمده هوسرل من أستاذه برنتانو).(8)

أن من أهم الاخفاقات التي قاد هوسرل الفينامينالوجيا لها هي أنه وضع (الوعي) فوق العقل والطبيعة، وبديلا عنهما، والصحيح في ما نراه أن كل الامتيازات التي هي من صميم أهتمامات العقل وخاصيّاته، والتي خلعها هوسرل كامكانيات للوعي وليس العقل لا تمنع مرجعية الوعي الذاتي الموضوعي ولا الوعي الذاتي السايكولوجي من مرجعية العقل  لكليهما.

مثال ذلك أن هوسرل يعتبر(عملية الادراك الحسي للاشياء لا يلزم عنها أن يكون المحسوس حقيقيا) على أعتبار الحواس خادعة  من جهة، والطعن بصوابية أمكانية الادراك عن طريق العقل بدلا من الوعي حسب هوسرل من جهة اخرى.. الوعي في مفهوم هوسرل هو عقل فلسفي ثان غير العقل الطبيعي المدرك للاشياء، ويعتبر آلية ادراك الوعي للاشياء هي سابقة وأهم من أدراكات العقل ضمن سياقاتها العلمية والتجريبية.علما هناك بديهة في علم وظائف اعضاء الانسان ان الوعي هو نتاج العقل وليس العكس، فالعقل ينتج وعيا، لكن الوعي يعجز عن أنتاج عقل.

ونمشي مع هوسرل أكثر في التباس أكبر أن ليس كل مدرك محسوس هو حقيقيا، مقولة صحيحة تنطبق على عوالم مدركات الذاكرة والخيال فقط، ولا تنطبق أطلاقا على الواقع المادي لعالم الاشياء المحسوسة في الطبيعة.

من نافل القول أن مصطلح الوعي الخالص (الأنا المطلق) أمكانية مقعدة بمعنى أنها وهم تخييلي ومصطلح عائم تستخدمه الفلسفة في مجال أهمال معالجة الكليات، والوعي الخالص أنكره كل من هيدجر وسارتر، وأعتبرا كلاهما (قصدية) هوسرل هي وعي الذات (حقيقة) متجاوزة الخروج على كوجيتو ديكارت الذي جعل من وعي الذات تفكيرا مثاليا سلبيا أنعزاليا، وأضاف هيدجر أن الوجود الحقيقي هو في دينامية فاعلة يمليها الوجود الحقيقي الذي هو، الوجود – في – عالم...وأضاف سارتر أنه ليس هناك من (وعي خالص) يمكننا الاهتمام به.وسارتر محق بهذا لأنه لا يرغب التقاطع والوقوع في متناقضات أفكاره فلسفيا، فهو يرفض الوعي الخالص كونه نسخة كاربونية عن (الوجود بذاته) الذي أعتبره وهما غير متحقق.

(المعرفة تبدأ بالخبرة ولا تنشأ عنها) هوسرل

ولا بد لنا من الاشارة الى جوهر منهج الفينامينالوجيا عند هوسرل في مقولته (المعرفة تبدأ بالخبرة لكنها لا تنشأ عنها) وهو يلتقي بكانط في هذه المعلومة الاستنباطية الفلسفية، الذي ذهب الى أن جميع المعارف مرتبطة بالعقل والتجربة التي تقوم على أصل (قبلي) في الوعي وليس بعدي بالعقل... وقبل مناقشة هذه الأحجية اللغز أقول أن الوعي في جميع أشتمالاته المعرفية المنوعة هي نتاج وتخليق عقلي لمدركات أشياء الطبيعة،.. والوعي لا يكون وعيا أدراكيا ما لم يقم على مرجعية العقل ومراكمة المعارف والخبرات التجريبية المكتسبة فيه.

ونتساءل هل المعرفة خبرة جديدة مضافة مكتسبة أم هي خبرة قبلية أيضا متجانسة مع خبرات سابقة عليها يمتلكها الوعي ولا يكتسبها خارجيا؟؟

يوجد أكثر من قراءة واحدة لهذه العبارة الملغّزة،: (المعرفة تبدأ بالخبرة ولا تنشأ عنها) عبارة فلسفية حمّالة تأويلات عديدة، ومن المؤكد أنها نوقشت من قبل فلاسفة أكفاء، وأود تسجيل ملاحظاتي غير النقدية والمحايدة عنها:

- الاولى أن جميع المعارف المكتسبة أنما هي خبرات تضاف للوعي والعقل ولا يوجد فروقات بين المعرفة في مصدرها الخارجي، والخبرة القبلية من حيث هي مدركات متجانسة في الماهية مما يتعذّر الفصل بينهما ولا نعرف من يعطي لمن، لآخر يأخذ ممّن ؟؟.

- القراءة الثانية أن المعارف الجديدة التي تبدأ بالخبرة ولا تنشأ عنها حسب هوسرل، هي مغايرة تجمع نقيضين بسببية تعالقية هما المعرفة والخبرة القبلية، ولا ينشأ عن أرتباطهما أية معرفة أو معارف جديدة. والمحايث الذي لا تنشأ عنه معرفة لا يمكن الغاؤه أن لا يكون سببا حتميا في أنتاجه معرفة.

- القراءة الثالثة أنه لاتوجد معرفة ولا توجد خبرة قبلية تهضمها وتستقبلها، فالمعرفة التي تبدأ بالخبرة ولا تنشأ عنها أنما هو نوع من الاستدلال المفروض قسرا الذي لا يريد تعالق المعارف وأدراكاتها بعلاقة سببية تعطي لهما مشروعية القبول المنطقي والعقلي لها. (عملا بفلسفة ديفيد هيوم الذي ينكر وجود سببية، وكل ماهو موجود تكرار لحالات معينة تصبح (عادة) فقط وليست سببية).

أن المعرفة التي تكون سببا محايثا للخبرة ولا تنشأ عنها، عبارة تحتاج تأويل منطقي فلسفي مقنع، من حيث أن المعرفة هي فعل مكتسب بغيره في محايثات الادراك الخارجي له، ويبطل أكتساب المعرفة بالخبرة القبلية التي لا تنشأ عنها.فالمعرفة التي تكون مكتفية بالخبرة الذاتية لها كمعرفة لا تحتاج الى محايثة تنتج عنها، ولا محايثة تحفيزية سببية لها، يصبح من المتعذر أكتساب المعرفة بغير أرتباطها بمحايث لها تنتج عنه أو تنشأ بغيره... أن المعرفة لا تنتج وتكتسب بالوعي الذاتي لها، وأنما تكتسب بالوعي المفارق لها، والوعي المتخارج مع من يمتلكها خارجيا.

القصدية

القصدية مذهب فلسفي أرتبط بهوسرل في ردّه وأدانته كوجيتو ديكارت أنا أفكر، وأعطاه هوسرل أبعادا فلسفية طلسمية مبهمة أخرى لها عديدة نستعرضها سريعا بقدر علاقتها بمفهوم الماهية في الفينامينالوجيا .

ينسب لهوسرل قوله (أن ظهور الموضوعات في الوعي ليس تلقيا واستقبالا سلبيا لها من الخارج، ذلك لأن الوعي ليس وعاءا يتم جمع فيه ما تتحصّل عليه الحواس، والوعي القصدي، وعي هادف، أنه هو، يذهب نحو أدراك مواضيعه ليس بهدف أدراكها بل من أجل الحكم عليها). المصدر موقع انترنيت ويكيبيديا الموسوعية.

والقصدية عند برنتانو أستاذ هوسرل (تشير الى أن الوعي يمتلك موضوعاته القصدية في داخله). في الاقتباسين اللذين مررنا بهما يظهر لنا أن الوعي مفهوم فلسفي عند هوسرل لا يشبهه لدى استاذه برينتانو، فالوعي عند هوسرل هو الوعي القصدي الذي يبحث عن موضوعاته ليس لأدراكها ولكن لقصدية هادفة من أجل الحكم عليها كمدركات، وعند برينتانو أنه وعي يمتلك موضوعاته في داخله !!.لا نعرف أيهما أصح بالفهم الفلسفي والتعبير الاستاذ أم الطالب؟؟

أن الوعي الذي يصفه برينتانو بأنه يمتلك موضوعاته القصدية في داخله، أنما يكون وعيا ذاتيا مثاليا فاقدا قصديته التي هي بالضرورة يجب أن تكون موضوعا محايثا للوعي في أدراكه (الأنا) والوجود من حوله، والمعنى الذي ذكره برينتانو يشير بوضوح الى أن الوعي في أمتلاكه موضوعاته في ملازمة غيرمتعالقة بالوقع ولا مدركة خارجيا في عالم الاشياء، يكون وعيا مثاليا زائفا غير متحقق في وجوده لا في وعي أناه أي ذاتيته ولا في وعيه الاشياء موضوعيا من حوله.

أعود الى التأكيد ما سبق لي ذكره في سطور سابقة من هذه المقالة، أن الفينامينالوجيا تلجأ الى مغالطة لا يمكن تبريرها هي في أحلال الوعي بديلا عن العقل والموضوع من غير مرجعية لهما. وأكثر من ذلك أن الوعي عندها  هو أقرب لعلم النفس منه للعقل في المعرفة والماهية، وبعيدا عن علم وفلسفة أدراك الوجود والماهيات أدراكا فلسفيا منظمّا منطقيا... كما أخذ هوسرل أيضا عن أستاذه برينتانو معلومة فلسفية أكثر لبسا ابتذاليا مثاليا قوله (القصدية هي نتاج الوعي) وليست شيئا محايثا مغايرا خارجيا يمكن للوعي أدراكه أو الاستدلال الفلسفي به.

القصدية هنا بمفهوم هوسرل عندما تكون نتاج الوعي وليس نتاج الواقع المادي الطبيعي للاشياء، أنما يجعل الفينامينالوجيا مفهوما فلسفيا مثاليا أبتذاليا في المعرفة. فالوعي الحقيقي لا يتحقق أدراكه من غير أرتباطه بالعالم المادي وليس بالفكر المجرد ولا بالافتراض الفلسفي التعسفي في تطويع المفاهيم للرغبة الشخصية وليس للموضوعية في الاستقراء المنطقي الفلسفي المجرد.

والفهم الصحيح أن القصدية هي محايث وعي الذات وعيا حقيقيا في تعالقها الادراكي مع هدف خارجي مغايرعنها يكسب الذات وجودها الفاعل في عالم متغير من حولها، ويكتسب هو وعيه الذاتي والموضوعي الحقيقي.

هذا هو الفهم الذي ذهب له كل من هيدجر وسارترفي أدانتهم مثالية ديكارت المنغلقة في وعي ألأنا، وليس فهم هوسرل الذي جعل من القصدية نتاج وعي الذات ولم يقل وعي الذات بماذا؟ يعني أننا عدنا الى كوجيتو ديكارت عندما قال أنا أفكر ولم يكمل يفكر بماذا!! أن تحقق الذات قرين الموضوع وليس قرين الفكر.

في الوقت الذي كنا نترجّى من القصدية أدراكا حقيقيا للذات في تعديل الفهم المثالي المنحرف عند ديكارت المغرق في الذاتية والتجريد في فهم الوعي على صعيد الفكرفقط، نجد هوسرل يذهب الى أن القصدية معطى قبلي (ينتجه الوعي) وليس موضوعا محايثا للوعي في أدراك ذاته والوجود وأشياء الطبيعة. بل يذهب هوسرل أن الوعي يبحث عن موضوع يدركه من (أجل الحكم عليه). عليه يكون الموضوع القصدي منتوجا للوعي، مدين بوجوده وخلقه الى الوعي الادراكي له !!!. دائرة مغلقة من التهويم الفلسفي التجريدي الذي يجعل اللغة طلاسم لا معنى منطقي مترابط لها.

 

الباحث الفلسفي علي محمد اليوسف /الموصل

...............................

الهوامش:

1- أ.م. بوشنكي/ الفلسفة المعاصرة في اوربا/ سلسلة عالم المعرفة/ ترجمة عزت قرني ص 210

2- نفس المصدر السابق ص 206

3- نفس المصدر السابق ص 238

4- نفس المصدر السابق ص 241

5- نفس المصدر السابق ص 232

6- نفس المصدر السابق ص 251

7- نفس المصدر السابق ص 257

8- نفس المصدر السابق ص 263

 

حول صحيفة (ليتيراتورنايا غازيتا) الروسية

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ضياء نافع

ضياء نافعصورة بوشكين وغوركي على صفحتها الاولى دائما، جنبا لجنب مع تسميتها، وذلك لان بوشكين اقترح اصدارها آنذاك، وصدرت فعلا عام 1830 وكان بوشكين محرر صفحة الشعر فيها، الا انها توقفت عن الصدور عام 1831، أما غوركي فقد اقترح اعادة اصدارها عام 1929 في الاتحاد السوفيتي باعتبارها صحيفة ترتبط باسم بوشكين، وعادت فعلا للصدور حسب اقتراح غوركي، ولم تتوقف منذ ذلك الحين ولحد الوقت الحاضر. الحديث يدور هنا طبعا وحسب عنوان مقالتنا عن صحيفة (ليتيراتورنايا غازيتا) الروسية الاسبوعية، والتي يعرفها القارئ العربي جيدا الان، بحيث لم نعد نكتب له ترجمة تسميتها الى العربية - (الجريدة او الصحيفة الادبية) كما كنا نفعل سابقا، عندما نكتب عنها او نترجم من موادها الثقافية المتنوعة . وتعميقا لمعرفة القارئ العربي بهذه الصحيفة وتاريخها، نحاول هنا ان نقدّم بعض الملاحظات عنها، والتي نرى – من وجهة نظرنا - انها طريفة ومهمة اولا، ونظن، ثانيا، ان القارئ العربي لا يعرفها عن هذه الصحيفة، ونعتقد بشكل عام، ان هذه الملاحظات تزيد من معرفة القارئ بالثقافة الروسية ومصادرها . 

نتوقف عند نقطة ترتبط بعدد النسخ التي تطبعها هذه الصحيفة، اذ توجد ارقام طريفة حول ذلك، وهذه الارقام هي مؤشّر لا يقبل الشك على نجاح او فشل تلك الصحيفة . كان العدد في عام 1930 هو 60 الف نسخة، وفي عام 1962 اصبح 300 الف، وفي عام1973 ارتفع الى مليون ونصف مليون نسخة، وفي عام 1982 اصبح 3 ملايين، وفي عام 1989 اصبح 6 ملايين ونصف المليون، وفي عام 1991 انخفض الى مليون ونصف، وفي عام 1993 اصبح 2 مليون، وفي عام 2010 تراجع الى150 الف فقط، وفي عام 2013 اصبح 148 الف نسخة .

ان النظرة التحليلية البسيطة على هذه الارقام ترسم لنا صورة ناطقة (ان صحّ التعبير) لهذه الصحيفة . لقد بدأت الصحيفة برقم معقول ومتواضع بالنسبة لبلد مثل الاتحاد السوفيتي في الثلاثينات - (60) الف نسخة، وتحوله الى (300) الف نسخة في الستينات ايضا رقم منطقي ومفهوم، اذ اصبح الاتحاد السوفيتي اكثر استقرارا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية والتغيرات المعروفة بعد وفاة ستالين والتي تسمى مرحلة ذوبان الجليد، ولكن هناك طفرة مدهشة وغريبة حدثت في السبعينات، عندما وصل الرقم الى (مليون ونصف) نسخة، وتضاعف الرقم في الثمانينات – (3 ملايين) نسخة، وفي نهاية الثمانينات اصبح (6 ملايين ونصف)، وهي ارقام ضخمة وكبيرة جدا بالنسبة لصحيفة تعنى بالادب والفن، وتعتبر لسان حال اتحاد الادباء السوفييت ليس الا. صحيح ان الصحيفة اصبحت اوسع من الاهتمام بقضايا الادب فقط، وأخذت تتناول مواضيع حادة مطروحة امام المجتمع، بما فيها السياسة والاقتصاد، الا ان الاهم، هو ان (ليتيراتورنايا غازيتا) قد تحولت الى منبر للتعبير عن تطلعات المواطن السوفيتي نحو التعايش الفكري والحضاري مع العالم المحيط به خارج مفاهيم الشعارات المعلبة والجاهزة، التي كانت (تخنقه!)، والتي ضجر منها حد القرف. اكرر الارقام مرة اخرى – في السبعينات مليون ونصف، في بداية الثمانينات 3 ملايين، في نهاية الثمانينات 6 ملايين ونصف، واذكّر القارئ، ان انهيار الاتحاد السوفيتي حدث عام 1991 . لقد استطاعت هذه الصحيفة ان تعكس كل تلك التغييرات الجذرية التي حدثت في المجتمع السوفيتي دون ان تتحول الى صحيفة سياسية تتابع الاحداث وتلهث خلفها ليس الا، وقد كنت شاهدا، عند زياراتي المتكررة اثناء العطل الصيفية في السبعينات والثمانينات الى روسيا، كيف كان القراء السوفييت يحصلون على اعداد تلك الصحيفة بصعوبة، وكيف يتجمعون عند اكشاك الصحف للحصول عليها قبل نفاذها، وقد اضطررت انا للاشتراك بها، اذ لم يكن بمقدوري ان اتنافس مع السوفييت للحصول عليها، وقد استفدت من ذلك الاشتراك بها كثيرا، لأني كنت اترجم مقالاتها اول باول في العراق، واختتم هذه الملاحظات عن الصحيفة بالاشارة الى بعض المقالات، التي لازلت اتذكر عناوينها، والتي ترجمتها من تلك الصحيفة ونشرتها في صفحة (آفاق) بجريدة الجمهورية البغدادية عندما كان الصحافي العراقي الكبير محمد كامل عارف يديرها، ومنها – (دالي يقول للحقيقة – كش ملك) و(نقاش مثل حبل طويل مع رسول حمزاتوف) و(حوار بين طبيب روسي وطبيب امريكي حول قول الحقيقة للمريض) و(الحرية – يا لها من كلمة حلوة) ..الخ، وكنت حتى اعطي بعض تلك المقالات لزملائي كي يترجموها وينشروها باسمهم لأنه لم يكن باستطاعتي القيام بكل ذلك بمفردي .

صحيفة ليتيراتورنايا غازيتا الان اصبحت واحدة من الصحف الروسية الاعتيادية، ولم تعد تطبع اعدادها بتلك النسخ الهائلة طبعا، ولكنها لازالت تمتلك بريقها العتيق ومجدها التليد ...  

 

ا. د. ضياء نافع

 

وهم الدولة الاسلامية في اذهان الدعاة.. العراق نموذجا

التفاصيل
كتب بواسطة: احمد راضي الشمري

احمد راضي الشمريالمقال تضمنته مقدمة كتاب: "الحقيقة المرة" للدكتور مهدي الحسني، الذي صدر سنة 2017. وقد اشتمل ضمنيا، على حقيقة مرة اهتدى اليها الكاتب بعد عناء طويل في المسير نحو تحقيقي "حلم" الدولة الاسلامية التي يعتقد دعاة الاسلام السياسي بوجوبها.

في ظل تراكم التجارب الدينية في حكم المجتمعات المسلمة، وعدم انبثاق اي نموذج يشار اليه بالبنان باعتباره نموذجا يحاكي عظمة الإسلام وروح القرآن، ستظل الحركات الاسلامية تدور في دوامة الشعارات والتمنيات وامجاد الماضي الفارغةيحدوها بصيص امل،  ولكن تفصل بينهما فجوة تبعدها عن القيم والمبادي القرآنية والاسلامية الحقيقية.

ان الكثير من هذه الحركات الاسلامية تعتقد انها غيورة جدا على دين الله، وهي صادقة كل الصدق في اعتقادها وتسعى جاهدة لتطبيق شريعة الله بكل اخلاص، حتى لو كلفها ذلك احراق الشعوب في أتون الحروب. ولكن شدة غيرتها تفقدها صوابها وتجعلها فاقدة لمدى الرؤية واتجاه البوصلة في آن واحد. اذ انها تعتقد جازمة ان تطبيق شريعة الله هي في تطبيق حدوده وعقوباته؛ فهي لا تلتفت الى ان الإخلاص والحرقة وكل العواطف ليست لا تجدي نفعا وحسب،  بل لا تقل خطرا عن الفوضى إذا تفردت بالحل دون ان تسعى الى خلق او اكتشاف الحواضن والممهدات والاسس التي اشار اليها الكاتب في ثنايا هذا الكتاب. ومن هنا فانها تقع في الخطأ والظلم في آن واحد، فهذه الحركات تخطأ في فهم المغزى الحقيقي للاسلام والرسالات التي تسعى الى تطبيق العدل، على ما في تطبيق العدل من تعقيد. وتظلم حين تسعى الى تطبيق الحدود والعقوبات والفرائض الاخرى، دون الالتفات الى توفير البيئة الحاضنة وسد حاجات الانسان المادية والمعنوية الاساسية.

ان العدل الالهي هو عدل بكل ما تعنيه كلمة عدل، فهو عدل وموازينه ربانية. اذ انه لا يطلب من الانسان طلبا ولا واجبا دون ان يقابله حق على الطرف الاخر. فقطع يد السارق،  لمن يريد تطبيقه، يقابله ضمان كرامة ذلك الرجل وعدم دفعه الى السرقة؛ وتوفير حاجاته وحاجات عياله المادية (الاكل والملجأ والملبس والدواء) والمعنوية (الامن والامان والسلامة والاستقرار الاجتماعي). وهكذا في كل الحدود والعقوبات والواجبات والفرائض. وهذا ما أشار اليه الكاتب متبنى الدولة المدنية، التي تختلف كثيرا عن الدولة الإسلامية؛ ولكنها تحقق ما تحققه الدولة الاسلامية. واترك التفاصيل الى القارئ المحترم ليطلع عليها بنفسه. وقد يكون القصد من قطع يد السارق ليس قطعها بالسكين؛ بل هو البحث عن دوافع السرقة واستئصالها من اخلاق ومتبنيات السارق. قد تكون الأسباب الكامنة وراء السرقة هي شذوذ نفسي او حاجة حقيقية او لأطماع سياسية لتشويه سمة طرف او فئة وحرمان الامة من توجيهاتهم. ولذلك فان طموحات الأحزاب او الحركات الاسلامية التي تريد اعادة المجد المحمدي هي طموحات لا تتوج بالنجاح ولا تتحقق الا بان تضمن تحقيق شيئين:

- على المستوى العملي: تأهيل وتدريب وصقل المهارات؛ وبناء الاستعدادات لخلق الشخصية القيادية والربانية التي تتمتع بالإمكانات القيادية الاساسية كالرؤية البعيدة والصحيحة واستشراف المستقبل والشجاعة الكافية والمرونة في التفاوض ... الخ، وعند غياب هذه المهارات ستتشتت ولاءات المجتمع هنا وهناك ولا يمكن توجيه طاقاته وارادته باتجاه رؤية القائد واهداف حركته.

- على المستوى النفسي: ان الاستعداد النفسي للقائد؛ واخذه الوقت الكافي للتأمل والنظر بعين البصيرة بعيدا عن ضوضاء الحياة وصخبها؛ من شأنه ان يصقل الرؤية ويضمن القدرة على ملاحظة ومراقبة تفاصيل الحياة صغيرها وكبيرها. مثل ما كان يفعله النبي (ص) من خلال مراقبة الحركة حول مكة وشعابها من غار حراء، وان تتشرب قناعاته بالرضا والتسليم؛ اذ ان هذه الفترة، كما نستوحي منها، انها ساعدت النبي (ص) على توفير صورة واضحة صادقة مكتظة بالتفاصيل مفعمة بالأحداث مليئة بالوقائع. هذه الصورة الغنية ساهمت في توضيح حقيقة المجتمع القرشي بعد ان درسه النبي (ص) بكل امعان ودقة.

ان ايا من قادة اليوم لم يتضور ابدا جوعا للمأكل والمشرب،  بل للعلم والمعرفة لأسباب عديدة منها شحة الدراسات الاجتماعية والنفسية ذات البعد التحليلي للمجتمع العراقي؛ وانشغال معظم القيادات الحالية طيلة ايام المعارضة بأمور تبدو جانبية إذا ما قورنت بعدم التفات هذه القيادات لهذه الدراسات اصلا حتى وان وجدت. وقد تتوسع اسباب تعثر تنفيذ هذا "الحلم" لتشمل:

- اختلاف الزمان والمكان: الخطاب الديني المتخشب لا يحفل ولا يهتم بالأبداع في الوسائل؛ ابتكار الاليات الجديدة التي تتلاءم وثقافات وقيم المجتمع المعاصرة. مثلما جاء النبي (ص) الى قريش وهو عالم بمجموعة القيم الاجتماعية التي يريد التخلص منها،  وكذلك بالقيم التي يريد الابقاء عليها. خدمة لمشروعه التغيري. وبهذا فان قراءته الزمكانية آنذاك كانت قراءة ملائمة لعصره وواقعه. ان القراءة الزمكانية تختص بزمكانيتها ولا تمتد عبر الازمان والقارات. (كل يوم هو في شأن).

- لم تأت الحركات الاسلامية الى المسرح السياسي العراقي برغبة الجماهير الخالصة، وانما اتت اليه بمساعدة فرصة ساقتها الاحداث فركبت هذه الاحزاب تلك الموجة. ولهذا فان التفويض الاساسي لتطبيق احكام الشريعة لم يعلن عنه الجمهور بوضوح ولم يدعيه السياسيون بجرأة. علما ان تطبيق احكام الشريعة ليس بمقدور تلك الاحزاب أصلا لأسباب يحتاج سردها الى موسوعات.

وربما يعترض معترض بالقول ان هذه الاحزاب وصلت للحكم عن طريق الانتخابات. وهذا وان صح الا ان الجماهير لم توصل هذه الاحزاب الى السلطة قناعة منها بمشروعها الديني الاسلامي التغييري؛ كما اعطت جماهير يثرب محمدا ذلك التفويض. فقد كانت جماهير يثرب مطلعة وعن كثب بالمشروع النبوي وبتفاصيله؛ وان لم تكن بالدقة المطلوبة. وبهذا فان تطبيق النبي (ص) لشريعته الاسلامية كان مدعوما بالتفويض الشعبي شبه المطلق بعد ان وصل الى دفة الحكم. بينما لم تكن جماهيرنا متصلة ومتعايشة مع هذه الاحزاب وغير مطلعة على مشاريعها السياسية اوالمدنية،  ان وجدت.

كما ان الجماهير العراقية،  على مايبدو،  اعطت اصواتها للأحزاب الدينية الاسلامية ليس ايمانا بمشروع الدولة الاسلامية في الفكر الاسلامي،  بل رغبة منها في ارجاع الحقوق المسلوبة وايقاف الاضطهاد المذهبي وتحقيق العدالة الاجتماعية وانشاء المشاريع التنموية الي قد تعوض خسائر القمع والاضطهاد وتعيد توزيع الثروات والسلطات من جديد... الخ. وكل هذه المنطلقات والتصورات هي اجتماعية بالدرجة الاولى ولم تكن دينية بالضرورة، ولذلك فان عمل هذه الاحزاب على تطبيق احكام الشريعة الاسلامية كان عملا غير موفق بلحاظ الواقع العراقي. 

واليوم،  يبدو ان إخفاق معظم التجارب الدينية في الحكم، اعطى انطباعا شبه حقيقي للمجتمعات والجماهير المسلمة بصعوبة تطبيق المشروع الاسلامي لأسباب عديدة منها: القراءات الناقصة للقرآن،  ولمعظم الحركات الاسلامية، الاضطراب او عدم الاستقرار الذي يصاحب هذه الحكومات، انتشار الفساد الاداري والمالي الاخلاقي في هذه الحكومات مما يسلبها انتمائها الحقيقي للمشروع الاسلامي.

- الانفتاح المعرفي والتواصلي: ان امورا مهمة مثل العولمة وثورة المعلومات جعلت من العالم قرية واحدة سهلت العيش فيه امر مهمة اذ باتت معظم شعوب الارض تعيش ثقافة متقاربة نوعا ما في المظاهر العامة. وهذا بدوره يجعل من الصعب تطبيق الافكار السياسية والدينية في أي مجتمع ولا نستثني مجتمعنا منها. خصوصا إذا كانت افكارنا تتعارض وجوهر الافكار العالمية السائدة، والتي اثبتت صلاحيتها وفاعليتها وتوائمها مع المجتمعات الانسانية. وأعني بذلك حقوق الانسان وحرية التعبير وحرية المعتقد والفكر والحريات الاخرى. وهناك اسباب اخرى لا يتسع لها الحديث ربما نتعرض لها لاحقا.

وفي خضم هذا الارتباك الحركي المتواصل للحركات الاسلامية وضعف قدرتها على انتشال نفسها من وحل التيه الفكري يبقى اصرارها على رفع شعار (الإسلام هو الحل) او تطبيق احكام الشريعة الجريء، تبقى هذه الاشياء كما يقول المثل الإنكليزي: طعنات في ظلام الليل؛ إذا انها طعنات عمياء عشوائية في الهواء بلا هدف كـ (تشريع منع الخمر) الذي شرعه البرلمان العراقي والذي جاء في غير محلهولا اوانه.

ولا حل كما يبدو في الافق القريب ولا حتى المتوسط الا بدراسة الواقع بظروفه المحيطة والعمل على تطبيق الإسلام العملي من خلال سد حاجات المواطن في الأرض، لا من خلال فرض النظريات التي مازالت حبرا على ورق حتى يؤذن لها برؤية النور في تجربة ناصعة لاتحتاج بعدها الى حديث. ذلك النور الذي لا يرى له شعاع في الامد القريب.

ان الأفكار التي وضعت بين دفتي الكتاب انما ولدت من رحم التجارب الفكرية والواقعية المدركة لعقبات وصعوبات الواقع والمنتبهة جيدا لتعقيدات الفرق بين النظرية والتطبيق. انها عصارة افكار منبثقة من الخزين الفكري النظري والعملي الذي اثرته مسيرة الدراسة والهجرة والمعارضة والغربة ومن ثم الحكم. ويبدو، من خلال مايبثه الكاتب من لوعات واهات بين اسطر الكتاب، ان هذه المسيرة الشاقة الطويلة قد كتبت اثارها بالمسامير لا بالأقلام.

والكتاب، وهو لأحد ابناء هذه الحركة، لا يعوزه الدليل على وجود خلل واضح وفجوة كبيرة في فهم هذه الحركات للتوجيهات القرآنية وفي فلسفتها لحركة التغيير والإصلاح. فتجارب اليوم في اغلب المجتمعات التي يتنفذ فيها الحكم الديني قد بررت اشكالاتنا على مسارات الحركات الإسلامية وطريقة تعاطيها مع تجربة الحكم بالاضافة الى اخفاقاتها في تحقيق أدنى مستويات الرفاهية لشعوبها.

وتبقى هذه الاشكالات مستمرة متواصلة تلاحق النخب الاسلامية الحاكمة التي اعتلت منصة الحكم بدون استحقاق مهاراتي او وتفوق علمي يميزها كنخبة مستقلة عن باقي نخب المجتمع. وكيف تستحق الطبقة الحاكمة ان تحكم وهي ورعيتها سواء من ناحية الفكر والمعرفة والعلم او الثقافة او الرؤية في الميدان؟

املنا كبير في ان المرحلة المقبلة هي مرحلة ممازجة الافكار الاسلامية مع الافكار الليبرالية التي تهتم بمنح الحرية الشخصية للفرد. اذ ان بين هذين الفكرين مشتركات في طريقة واسلوب العيش المشترك؛ وقد ينكرها او يستنكرها بعض الاخوة. الا ان املنا كبير أيضا في قدرة المفكرين الاسلاميين على فك الاشتباك بين الدين والعلمانية من خلال ابراز الجانب المدني في الاحكام الإسلامية وفي وتوضيح المنهج القرآني في الاعتراف بحق الانسان في اختيار معتقداته وافكاره ورفض مالا يحلو له من الامور الشخصية. ذلك لان الاسلام نظام حياة أكثر مما هو دين تعبد.

 

احمد راضي - ملبورن/ استراليا

.............................

المقال كتب في 08/02/2017 وعُدّل بشكل طفيف جدا في 03/05/2019

 

الكاتبة ريم أبو عيد والمعادلات الصعبة في رواية: سان استيفانو

التفاصيل
كتب بواسطة: السيد الزرقاني

السيد الزرقاني"أن تكون مختلفًا عن الآخرين يعني أن تدفع ثمن اختلافك في كل لحظة من لحظات حياتك.. حتى وإن كان الثمن هو شعورك بالغربة عن الزمان والمكان.. وأن تشعر بالغربة يعني أن تنصهر في بوتقة المعاناة الأبدية ولا تجد الخلاص إلا بخلاص روحك من أغلالها المادية المتمثلة في ذلك الجسد الذي تسكنه دون اختيار منها والذي يلزمها أن تستكمل دوره على خشبة ذلك المسرح العبثي المسمى بالحياة "

- هكذا جاءت رواية "سان استيفانو" للكاتبة "ريم أبو عيد" الصادرة عن دار "جولدن بوك" في 269 صفحة لتطرح علينا العديد من المعادلات الصعبة في العلاقات الإنسانية والاجتماعية عبر انطلاقة من نهايات أزمنه متعددة ، حاملة بداخلها أطروحات متعددة وتدفع القارئ إلي حلة من حالات التخيل البصري والزمني عند الانخراط في تلك الرواية التي تعد علامة متميزة في البناء الأدبي والفني بما تحمله من رؤى متعددة ،وصراع مشوق بين شخوص أراها قد أحسنت الاختيار في المسميات الزمنية والمكانية لتحريكها لهم علي مسرح الرواية من خلال تبني نظرية سردية في غاية الجمال حتى أن القارئ لا يمكن الهروب فيما بين السطور بما تحمله من إسقاطات  رمزية أضافت إلي النص الأدبي الكثير من القيم الأدبية التي تتميز بها الكاتبة ،فهي تعشق عبق الماضي بكل مؤثراته الزمنية والمكانية وتنسج حكايات مترابطة المضمون والأفكار والرؤى تأسر القارئ داخل مكنون اللغة الجميلة بأفكار وصراعات تحلق فيها بكل استمالة وإثارة ثم تهبط في نهايات منطقية ليولد عالم جديد في واقع حياتي جديد حيث نجدها تواصل المسيرة في نص أدبي جديد الذي يعد استكمالا لروايتها السابقة " متروبول "والتي أشارت إليها في اكثر من موضع بالرواية حتي في نهاية الرواية أن الكثير من القصص حول الإسكندرية مازالت ممتدة في المستقبل فهي تعتمد دائما علي إنهاء حدث ليبدأ بداخلها حدث جديد وأقصوصة جديدة وبطل جديد في حس روائي جديد وهذا ما نراه في ص 62 (اتجه ناحية باب الشقة بخطوات أثقلها الألم وغادر غير آسف عليها وصفع الباب بقوة وقسوة وكأنه يصفع ذلك الماضي الذي جمعهما يومًا ما.. ارتج جسدها في تلك اللحظة وهي تجلس على طرف فراشها ثم انكفأت تبكي كما لم تبكِ من قبل.. لم تكن تبكيه أو تبكي صورتها التي أضرمت فيها النيران عمدًا في مخيلته.. ولكنها كانت تغسل نفسها من كل أدرانها التي علقت بها.. أغمضت عينيها بارتياح..)

- فالرؤية الروائية عند الكاتبة ذلك النهر الجاري الذي يشق الغابة، ويأخذ من خصائص الطبيعة نكهة الحياة وتعدد المشارب وأخيلة الظلال وحواراتها مع زهرة النور، ومجسات الرواة وفي أياديهم عصيّ التنقل من مسرح إلي أخر ، وعلى رؤوسهم يحطّ طائر الأفكار المتولدة والمتداخلة ، ليستمر النهر في الجريان عبر الزمن وصولاً إلى بداية الشلال قبل أن تقول المؤلفة كلمتها، وأبطال الرواية الذين يتشابكون في صراعاتهم هم من يحددون طبيعة الأحداث التي تشق مجرى النهر مُوْدِعَةً حكاياتِها المتوالدة وجدان المتلقي، الذي سيغوص عبر الصور الشعرية التي تشكل تيارات الوعي فنزبد عند جوانب الضفتين، قبل أن يتكون السؤال في ذروة الشلال المعربد بقلق شديد حيث تكمن في طياته الدهشة.. والأحداث المتداعية تنثال حتى أعماق المعنى كالسؤال الذي سينتهي به المطاف ليذوب في بحر النهاية ممتداً حتى آخر الأفق الذي لا بد ويستيقظ على الخاتمة،لتؤكد لتا إيمانها التام بفكرة تناسخ الروح ما بين الحاضر والماضي "سارة سمعان – سارة رياض " أفكار تتوالد علي مسرح الكاتبة وان اختلفت العتابات باختلاف الزمن ومع تطور أحداث الرواية مابين الزمن الماضي والحاضر والربط بين الأحداث نجد أنفسنا بين تاريخيين متباعدين في العادات والتقاليد والأعراف والأحداث السياسية حيث استغلت الكاتبة إحداث الحرب العالمية الثانية لتضع القارئ في بؤرة الحدث التاريخي من حيث المنطق والايدولوجيا السياسية وتخطي بعدها الدرامي إلي ما

هو ابعد من ذالك في تناول الجنسيات المختلفة وإثرها في الحدث الدرامي بطريقة الفلاش باك في لحظة التذكر ،إلا أن الكاتبة تتمتع برؤية عاشق صوفي يتحاشى حديث الجسد ويعظم أشجان الروح وسماء العاطفة، ويرصع ذلك بألفاظ هي الجواهر في عقد المحبة، برغم لهيبها الذي يكوي الوجوه والقلوب.

- تلك الرواية تحتوي على العديد من القصص كلها معزوفة على وتريات الرجل والمرأة في علاقات متعددة تختلف باختلاف الزمن ومرور العلاقة بينهما، وتطورها سواء بالشكل السلبي أو الإيجابي، إلا أنها كانت حريصة كل الحرص على إظهار هذه العلاقات في شكلها المرضي لها ولثقافتها الممزوجة بين الحاضر بكل أبجدياته المعلوماتية وتقنياته الحديثة والماضي بكل مفرداته المكانية والزمنية ومسماياتة اليومية ، حيث تقر بان اللذة والألم وجهان لعملة واحدة، تربط بينهما نهايات أعصاب لا تفرق بين هذا الشعور وذاك، حين يصل أيهما إلى ذلك العمق، فيمتزج الشعوران ليصنعا معا تلك النشوة باللذة أو النشوة بالألم.حيث نجدها تسطر في بداية الفصل 22 (إن الحب لا يأتينا.. ولكننا نحن من نذهب إليه حيث ينتظرنا.. إنه يبحث عنّا كما نبحث عنه.. ينادي علينا لنتبعه.. يضع لنا ورودًا على دربنا نستدل بها على الطريق الصحيح.. يمد لنا يدًا حانية تأخذنا إلى عالم لا يشبه سواه.. يمنحنا تذكرة عبور إلى جنة لم يطأها إنس ولا جان قلبنا.. جنة أحلامنا.. ويمنح من نحب جواز مرور أبدي إلى عالمنا.. إنه تلك العصا السحرية التي تحيلنا إلى مخلوقات نورانية تسبغ على الكون وهجًا وحياة.. ربما كانت قد نسيت الحب في زحام تلك الأحداث الغريبة التي تمر بها منذ فترة ليست بالقصيرة.. وربما تكون قد تناسته متعمدة بعدما خط الفراق كلمته الأخيرة في قصتها هي وعمر.. كل ما أصبح يشغل بالها الآن أن تتمكن من الخروج من تلك المتاهة التي تبتلع أيامها..)

لتعبر لنا عن فلسفتها في الحب وهو محور تلك العلاقات المتابينة التي تزخر بها الرواية منذ الانطلاقة الأولي في إحداث الرواية وتطورها حتي النهاية إلا أننا يمكن أن نزيح الستار عن عدة محاور للرواية وهي:

1- المحور الوصفي والتحليلي:

- حيث لجاءت الكاتبة إلي إتباع الأسلوب الوصفي والتحليلي للاماكن المعنية بالحدث في الرواية معتمدة علي تلك النقاط المتعددة لتتخذ منها مسرحا للانطلاق أو إدارة حوار بين شخوص الرواية أو للتذكر لمشاهد تفصح عنها لتأكيد حدث آني سيأتي وقد نجحت في الربط بين المكان والزمان الوصفي،حيث اهتمت بالوصف التفصيلي للاماكن المختلفة ومسميتها ومدلولها وعلاقتها بالاحداث داخل الرواية ، كما انها اهتمت بالتحليل الوصفي في معظم المشاهد والحوارات داخل متن الرواية كما جاء في ص 34 (كارلوس جريجوري.. شاب وسيم في أواخر العشرينات من العمر.. من عائلة يونانية مكونة من خمسة أفراد.. الأب كان يمتلك متجرًا لبيع الحلوى والخمور.. والأم ربة منزل.. وشقيق يكبره كان يعمل نادلًا أيضًا في فندق سان ستيفانو الذي كان يعمل به كارلوس في ذات المهنة.. أقامت أسرته فترة طويلة في الإسكندرية ولكنهم غادروها إلى اليونان حين اشتدت الغارات عليها أثناء الحرب.. عرض على إيفيلين أن ترحل معهم ولكنها رفضت مغادرة بيتها ومدينتها التي نشأت فيها بالرغم من مقتل شقيقها الوحيد في إحدى الغارات.. لم يستطع هو البقاء فغادر على وعد لها بالعودة مرة أخرى بعدما تهدأ الأمور في المدينة.. فكر مليًا وهو يستعيد تلك الذكريات.. أتراها ستوافق هذه المرة على الرحيل معه أم أنها ما زالت تتمسك بالبقاء في مدينة لم تمنحها سوى الألم.)

2- محور التناقض:

- احتوت الرواية علي العيد من حالا ت التناقض الزمني حيث احتوت علي عناصر زمنية متانقضة ما بين الحاضر بكل ما يحمله من عناصر تكنولوجية متطورة وماضي سحيق ابان قيام الحري العالمية الثانية حيث نجد محور درامي يدور بين ايفلين وكارلوس وانطونيو في مكان وزمان انقضي ومحور درامي أخر علي النقيض تماما بين "عمر وسارة وغادة وياسر زهران "بتقنيات حديثة ومسرح الإحداث ألان ان الكاتبة نجحت في الربض الروحي والمعنوي بين اختلاف الزمن في كلا المحورين وأضافت عنصر يعيش الواقع ويحرص علي بقاء الماضي بكل جماله متمثلا في شخصية يحي غريب الذي جعل الحفاظ علي التراث المعماري القديم قضيته الأبدية وكان حريص علي التقاط صورا لجميع المناطق قبل إزالتها بشكل عشوائي

- احتوت الرواية أيضا علي هذا التناقض الاجتماعي مابين التعايش السلمي مابين جميع الإفراد في الماضي بين كل من (كارلوس وايفيلن) رغم اختلاف الديانات والجنسية وحتي النسب الذي لم تعرفه ايفيلين لنفسها حيث انها لا تعرف لها أب ولكن تعرف الأخ وإلام فقط وتطور علاقة حب وزواج جديد بين ايفيلين وانطونيو وتطورها الي شكل اجتماعي مستقر من خلال علاقة زوجية ناضجة والتناقض التام الذي صحب المجتمع في العصر الحديث في تلك العلاقة مابين (إسماعيل ومريم) التي ورفضتها أسرته وأجبرته علي الزواج من شقيقة زوج أخته وتقسي الشواطئ إلي خاص بالرجال وأخر بالنساء في شكل من إشكال التفرقة والتميز حيث تحاول كل طبقة ان تتمسك بما اكتسبته من عادات وتقاليد اجتماعية وتجلي ذالك في موقف إسماعيل داخل المطعم في الفصل11("لمح إسماعيل ذلك الرجل الذي كانت تتحدث فتاة أحلامه إليه.. كان يقف عند مدخل المطعم يرحب بالنزلاء الذين توافدوا على المطعم لتناول طعام إفطارهم.. هب إسماعيل من مقعده وجرى نحو الرجل قبل أن يفقد أثره مرة ثانية.. تبادل جميع أفراد أسرته النظرات باندهاش الذي سرعان ما تحول لغضب مكتوم من ذلك التصرف الأهوج الذي قام به إسماعيل والذي تسبب في إحراجهم أمام جميع من كانوا في المطعم.. كاد الأب يلحق بابنه ويعنفه إلا أن الأم أمسكت بذراعه ناهية إياه عن معالجة حماقة ابنهما بحماقة أكبر.. ظل فخر الدين يتابع ابنه بعينيه وبدت عليه الدهشة وهو يراه يقف مع عامل الفندق ويبدو أن حديثًا ما مطولًا يجري بينهما بود غير مفهوم.)

3- محور التضحية:

- وتجلي هذا لمحور المهم في تلك الرواية في مشاهد عدة وبصور متعددة ربما كان أصعبها هو انتحار مريم وإسماعيل فداء للحب الذي ولد بينهما وتطور تلك العلاقة الي الحد الذي جعل "إسماعيل يغير اسمه الي "ميلاد" من اجل عيون حبيبته المسيحية وعندما يتم اكتشاف تلك العلاقة عن طريق زوج أخته فاطمة التي تقوم هي الاخري بتوبيخ "مريم" وكشف النقاب عن حقيقة ميلاد وبأنه مسلم وليس مسيحي وتقدم علي الانتحار لأنها بالفعل كانت تحبه بصدق وتفاني رغم ظروفها الصعبة وتترك أمها الكفيفة تواجه الحياة بالا عين تبصر بها، وكذالك قيام "انطونيو" بتغير أسمة إلي إسماعيل من اجل الفوز بمن أحبته هذا جزء من التضحية لانتصار الحب “) دق باب بيتها وقلبه يدق بلهفة ووجل.. فتحت له امرأة ضريرة عرف على الفور أنها أمها.. تلجلج ثم استجمع شجاعته وادعى أن العم إيليا قد أرسله ببعض المال.. منحها النقود.. وسألها عن مريم.. أبلغته أنها ذهبت لإحضار بعض الطعام.. فانصرف محبطًا.. لم يرها كما تمنى.. سار بضعة خطوات مبتدعًا عن البيت.. رآها آتية من بعيد.. حث خطاه نحوها.. أصابتها الدهشة لوجوده بالقرب من منزلها.. همت بسؤاله عن سبب مجيئه ولكنها أحجمت عن الكلام خجلًا.. ابتسم لها وكأنه قرأ ما يدور برأسها وأجابها دون أن تسأل بأن العم إيليا أرسله للاطمئنان عليهما هي وأمها.. لم يذكر لها أمر المال الذي أعطاه لأمها.. تحدثا قليلًا وشعرا وكأنهما يستكملان حديثًا قديمًا لا يعرفان متى وأين بدأ أول مرة.. وقبل أن يرحل عنها سألته عن اسمه.. أجابها (ميلاد)..

4- محور التخطيط:

- من المؤكد ان الكاتبة وضعت مخطط زمني ومكاني وحركي لكل فصول الرواية التي بلغ عددهم 40 فصل وارها قد برعت في الخريطة في إدارة عنصري الزمان والمكان داخل فصول الرواية وإنها نجحت في الربط المباشر والغير مباشر بين المجموعات الثلاث التي أدارت بهم متن الرواية حيث نجد المجموعة الأولي تنطلق من الإسكندرية القديمة أبان الحرب العالمية الثانية وما صاحبها من تغيرات ديمغرافية وجغرافية وشملت " ايفلين وانطونيو كارلوس وسيف "أما المجموعة الثانية التي انطلقت من الإسكندرية إلي القاهرة في صراع اجتماعي وسيكولوجي وضمت " سارة وعمر وياسر ويحيي غريب " إما المجموعة الثالثة والتي انطلق من فندق سان ستيفانو في لقاء عابر بين بطل تلك المجموعة والذي اثأر انتباه القارئ منذ الحدث الخاطف في لقاء عابر بين " إسماعيل – مريم " وضمت تلك المجموعة بجانب هؤلاء كا أفراد الأسرة "الوالد والوالدة وفاطمة الأخت وزوجها " وكان لهما دورا مخطط لتطور الحدث داخل تلك المجموعة واري أن الكاتبة نجحت في خلق حلقة اتصال روحي ونفسي بين تلك المجموعات الثلاث من خلال الزمان والمكان ولم يخل ذلك بعنصر الترابط والبناء الفني والأدبي للرواية وفق هذ المخطط المسبق

5- المحور التراثي:

- كانت الكاتبة حريصة علي إحياء الذاكرة بكل التراث القديم في شكل أراه متعمدا منها لعشقها إلي الطراز المعماري في الأحياء والميادين في مدينة الإسكندرية وتجلت عبقريتها في تحريك إبطالها واختيار الأسماء القديمة والعمل علي الربط فيما بين الماضي والحاضر من خلال هذا المصور الذي جعل رساله في محور الرواية هو الحفاظ علي كل التراث المعماري القديم الذي يعد علامة مميزة لمدينة الإسكندرية ممثلا في شخصية "يحيي غريب " واختيار الاسم كان إسقاط علي الإحياء المعماري الذي ينم عن عبقرية المكان في الإسكندرية التي كانت قبلة لكثير من العناصر البشرية الوافدة ال مصر وحملت كل المعالم المعمارية المتنوعة التي أضافت تاريخا عظيما لتك المدينة وهذا الشعور الذي تملكه من جراء تلك العشوائية التي تحاول القضاء علي كل ما هو تراثي فأحس بالغربة في زمن يناضل وبنور الأجيال القديمة بأهمية تلك الأطر المعمارية التي يحاول الآخرين القضاء عليها بدون تخطيط او حتى الاستفادة من المختصين في هذا المجال مما حول المدينة إلي مدينة بلا هوية معمارية علي هؤلاء الجدد الذين لا يعلمون كارثة ما يقومون به ولذالك حرصت الكاتبة علي ان يكون الفصل الأخير هو حوار الذكريات لتجعل النهاية مفتوحة حول أسرار أخري لدي "يحيي غريب " حين نجدها في صفحة 257تقول (كانت تزداد إعجابًا به كلما زادها من حديثه.. كان يتحدث عن مدينته وكأنه عاشق متيم.. تعددت لقاءتهما.. وفي كل مرة تلتقيه كانت تغوص أكثر وأكثر في عالمه الساحر وترى الإسكندرية وكأنها لم ترها من قبل.. كان يبهرها دائمًا بما يرويه لها من حكايات عن هذه المدينة وعن عشاقها الكثر.. حكى لها عن المعماري أنطونيو لا شاك.. وأراها ما تبقى من المعمار الذي شيده ذلك العاشق للإسكندرية.. المدينة التي أصبحت قضيته الوحيدة في الحياة وشغله الشاغل وعشقه الأبدي الذي توارثه عن جده..

طاف بها في كل شبر منها والتقط لها صورًا تذكارية أمام كل بناية جميلة باقية.. أخبرها أنها المرة الأولى التي يشرك فيها فتاة أو امرأة في صوره التي يتلقطها لمعمار الإسكندرية التاريخي.. ابتسمت له ممتنة.. كانت عيناه تنطقان بما لم يبح به من مشاعر.. واكتفت هي بما قرأته من سطور في كتاب عينيه..)

6- المحور الروحي والسيكولوجي:

- حرصت الكاتبة علي اربط المباشر والغير مباشر بين نهج روايتها السابقة " متروبول " وروايتها الحالية "سان ستيفانو "من خلال تالف الأرواح ما بين شخصيات الرواية وهذا خلق حالة من حالات التشابك الوجداني بينهم والصراع النفسي خاصة شخصية ياسر زهران ومليكة وسارة وتحول العلاقة إلي صراع وشك خاصة بين سارة وياسر الذي أدركت انه يراقبها من خلال تلك الروح الهائمة حيث تقول في ص 79( أنهى ياسر المكالمة.. بينما ظلت سارة تحدق في الفراغ وهي ذاهلة.. إنه على علم تام بكل تحركاتها.. كما أنه يعرف أن عمر لم يفق بعد من غيبوبته.. أي شيطان مريد هذا.. شعرت بخوف حقيقي يسري في جميع أوصالها.. أحست برغبة في البكاء ولكنها تماسكت في النهاية)

ونجحت الكاتبة في رسم تلك الصور الروحية بعبقرية والتصاعد الوجداني بين مجموعات الرواية في مشاهد رومانسية رائعة كانت حريصة فيها علي التصاعد الحسي والوجداني بين كل عنصرين من خلال تالف الأرواح رغم بعد عنصري الزمان والمكان حين إذا وضعت تلك المشاهد نج ان التالف والتوحد هو العامل المشترك بينهما نفس الحس والرؤى هنا في الإسكندرية القديمة و هناك في القاهرة الحديثة إلا أن الرابط المشترك هو المكان الذي ربط بينهما حيث حرس عمر علي إقامة حفل زواجه في فندق سان استيفانو (أخرج عمر علبة قطيفة صغيرة لونها أحمر ومد يده بها إلى غادة.. نظرت إليه مستفهمة.. فتحها وأخرج منها سلسلة ذهبية يتوسطها اسم eve.. ابتسمت له بحب.. ألبسها إياها.. تحسستها على عنقها وهي مغمضة العينين ما زالت ابتسامتها الرائقة ترتسم على شفتيها.. أمسك كف يدها وطبع قبلة حانية على باطنه ونظر إلى خطوطه المتوازية 111 وابتسم ثم أغلقه على قبلته.. فتحت عينيها واحتضنته بهما وهي تسأله..

- أكنت تعرف إذن؟

- عرفت أثناء الغيبوبة..

- ولماذا لم تخبرني أنك عرفت بعدما أفقت مباشرة؟

- لم أشأ أن أفسد المفاجأة..

طوقت عنقه بذراعيها وأمطرت وجهه بقبلاتها.. أطل في عينيها المتوهجتين وهو يخبرها بالمفاجأة الثانية التي أعدها لها..

- سنقيم حفل زفافنا أيضًا في فندق سان ستيفانو..

ثم اقترب من أذنها وهمس بدفىء..

- ما رأيك في اسم سيف لو رزقنا الله بصبي..)

وفي الجانب الآخر ما بين "انطونيو وايفلين "حيث تقو ل

(ظل أنطونيو ينظر إلى إيفيلين بعينين ملؤهما الامتنان.. أرخت جفنيها وأحست بدقات قلبها تكاد ترقص فرحًا.. إنه يعرف إذن ما قامت به من أجله.. ارتبكت قليلًا أتراه يعرف أيضًا عن كل ما كانت تقصه عليه وهو في غيبوبته.. اتسعت ابتسامة أنطونيو وهو ينظر إليها وتكلم لأول مرة..

- هل بإمكانك أن تخرجيني من هنا؟

غمرتها سعادة بالغة.. إنها المرة الأولى التي تسمع فيها صوته.. كم هومفعم بالرجولة كملامحه تمامًا.. احتضنته بعينيها وهي تجيب سؤاله..

- بكل تأكيد.. إن سمح لك الطبيب بالمغادرة..

- لا يا إيفيلين.. أرغب في مغادرة هذا المكان الآن..

أصابها الذهول..

- أتعرف اسمي؟

- نعم.. لقد أخبرتني به من قبل حين كنتِ تقصين عليّ حكايتك ذات مرة..

شعرت بالخجل والارتباك.. أدركت أنه كان يسمع كل ما تحكيه له من تفاصيل عن حياتها.. إذن فهو يعرف كل شيء.. سيهجرها بلا شك بعد كل ما عرفه عن حياتها.. بدا عليها الوجوم وهي تتحدث إليه..) " جاء التناول من خلال التحليل النفسي لكل منها مؤثرا في نمو الحدث حم خلال الانطواء –الحزن – السعادة - الحب الكراهية المتعة الجسدية والنفسية الإمتاع – الإحساس بالذنب – الخيانة تلك هي المفردات النفسية والسيكولوجية التي اعتمدت عليها الكاتبة في البناء النفسي للشخصيات وهذا المحور في الرواية أحيته الكاتبة في براعة من خلال مجموعة من المتناقضات اللغوية والحسية لتبرز لنا التحليل النفسي لكل منها في إطار من الفلسفة والمنطق وربما كان تأثرها بالنظريات النفسية هو الغالب علي تناول قضايا المرأة من خلال هذا المنظور النفسي الذي دمر حياة تلك الشخصيات رغم تباين الأحداث لدي كل منهن و وتجلي ذالك في صراع نفسي يعكس الرغبة في التحرر والحب رغم قيود مجتمع يكبل الخطوات ،عبرت عنه مرادفات موحية و أشارات ، وحالة الانتظار المستمرة للتغيير مع الاستمرار في ملاحقة الأمل.

7- محور السرد الأدبي:

حيث نجد الكتابة تميل في السرد الأدبي لديها إلي الاعتماد علي الجمل السهلة البسيطة التي توظفها في تناول وتصاعد الحدث وهذا أضاف إلي النص الروائي لغة جديدة لم تستخدم كثيرا لدي الروائيين فمعظم الكتاب لا يعتمدون علي تلك الجمل الشاعرية القصيرة والبليغة وإنما تعتمد معظم السرد لديهم علي الجمل الطويلة ذات التفاصيل المكانية والجغرافية بعيد عن تلك المناطق الشعورية التي ركزت فيها الكاتبة "ريم ابو عيد " في تناولها للحدث إلى استخدام لغة الفصحى القريبة من لغة الصحافة والشارع، الاحتفاظ الذكي بالكلمات الكبرى التي يستخدمها بعض في

صيغة الراوي المشارك؛ لتجعل لغة في متناول فهم الجميع بلا أي تعقيدات او ملل

8- البناء الفني للرواية:

- هذه الرواية تحتوي عبي ما يميزها عن غيرها من الروايات من حيث الانتماءات الواقعية والاجتماعية والنفسية ، وتتميز بقوة بنائها الفني ونجحت الكاتبة " ريم أبو عيد" في الإمساك ببراعة بعناصرها الفنية سواء المكانية أو الزمنية ، واحتوت علي عنصر التشويق بشكل دائم ومستمر و ظهور الشخصيات بشكل مرحلي حافظ علي البناء الدرامي للرواية دون أخلال وان الكاتبة سارت علي نفس النهج الأدبي المتدرج والرابط بين عنصري الإبداع ألابتكاري في القصة العمق الفلسفي ونجحت " ريم أبو عيد " في توظيف الشخصيات في خدمة الصراع الدرامي المتصاعد حيث عرض كل الأنماط البشرية بتوازن، مما أضاف متعة للقارئ من خلال تلك الجمل السردية السهلة والبسيطة وتلك العقد وتصاعدها وحلها في حالة من حالات الابتكار والإبداع الأدبي .

- وأخير علينا أن نقر أن الكاتبة "ريم أبو عيد" تمتلك من الثراء الإبداعي والثقافي مما يجعل، تلك الرواية تتميز بثراء مضمونها، وتعدد مشاربها، وانتماءاتها ما بين الواقعية والرومانسية والاجتماعية والنفسية؛ فهي مجموعة تنتمي لكل هذه التصنيفات، الأمر الذي يمكن معه أن نطلق عليها الرواية الشاملة المتحررة من التصنيف التقليدي لكثير من المجموعات النمطية ، أضف إلى ذلك قوة بنائها الفني؛ والإمساك ببراعة بعنصري الزمان والمكان، والابتكار في تعدد المكان ورحابته، وتعدد العقد والإشاعات بشكل مرحلي بنائي؛ يسهم في تكوين العقدة الرئيسة والحل، والمحافظة على عناصر التشويق بشكل دائم ومستمر، مع نوع من التوتر الشيق، ورسم الشخصيات بهدوء دون إخلال في البناء الفني والدرامي

 

السيد الزرقاني

كاتب وناقد أدبي – مصر

 

 

الحزب الشيوعي.. اول من خان قضيته وأشد من خانها!

التفاصيل
كتب بواسطة: صائب خليل

صائب خليللو أراد حزب إسلامي أن يخون قضيته بشدة خيانة الحزب الشيوعي لقضيته، لتوجب ان يخرج ممثليه في التلفزيون ويعلنوا أنهم لا يؤمنون بوجود الله وأنهم قرروا العودة لعبادة "هبل"! فهذا هو المقابل لموقف الحزب الشيوعي حين يتغنى ممثلوه في مجلس النواب وفي التلفزيون باقتصاد السوق!

ثم تخيلوا ان "الحزب الإسلامي" هذا يتجرأ على الاحتفاظ باسمه بعد هذا الإعلان! 

لا عجب أن الحزب الذي تؤمن قيادته باقتصاد السوق، لم يبذل أي جهد على الإطلاق للترويج لا للمبادئ الماركسية ولا حتى الاشتراكية، وترك الساحة ليلعب بها الاعلام الأمريكي الرأسمالي ليزيف الاقتصاد ويزور حتى التاريخ بدون أي رد يساري أو ماركسي. بل اني سمعت قياديا شيوعياً مرة يقول بشكل عابر "..إحنا الليبراليين"! فلا غرابة أن نلاحظ اليوم جهل ثقافي سياسي مطبق على المنتمين للحزب الشيوعي، فيما يختص بالاشتراكية والماركسية، خاصة الجدد منهم.

ولعل معظمهم لا يدرك الفرق بين الماركسية والليبرالية، فربما كان كل ما يعرفه معظم شيوعيو الزمن الأخير، انهم هم والليبراليون ضد الإسلام. لذلك فهم يهتمون ويحتفلون بأياد جمال الدين وأحمد القبانجي، اكبر بكثير من اهتمامهم بماركس وكل نظرياته، فهذان المحتالان يرفعان علماً مزيفاً مثل "الشيوعيين الجدد": هما ايضاً يكفران ويبقيان عمامتهما فوق رأسيهما!

وهكذا تركت الساحة الاقتصادية والثقافية لليبرالية الجديدة واكاذيبها لتسرح بها، أما الماركسية وملحقاتها، وكل الجهد العلمي الهائل الذي بذل فيها، فتنضوي في الزاوية كاليتامى بعد موت أهلهم!

يمكنني ان أقول بكل ثقة ان هناك العديد من الناشطين اليساريين قاموا كل بمفرده بأكثر مما قام به الحزب كله في هذا المجال! واتحدى الحزب ان يكون قد غطى اية قضية أو تابع تطورات أي بلد، من وجهة نظر يسارية، حتى العراق!

هذه خيانة وليست تغيير وجهة نظر، مادمت تحمل ذات الإسم. وهي خيانة جذرية لأن تلك المبادئ هي سبب وجود الحزب ومعناه، مثلما الانقلاب على الأصنام معنى الإسلام ووجوده.

موقف الحزب من الاحتلال، لا يقل خيانة ولا يختلف عن مواقف البعض من اشد الذيول الأمريكية المعروفة. فالموقف الذي عبر عنه رائد فهمي بـ "ضرورة استكمال تجهيز القوات المسلحة" قبل اخراج القوات الامريكية، هو ذات موقف عمار الحكيم، ولن يمانع حتى مسعود البرزاني أو صالح المطلك من تبنيه. فكل ما على الامريكان ان يفعلوه لكي يبقوا، هو ان لا يسمحوا بـ "استكمال استعداد القوات المسلحة العراقية"، وما أسهل ذلك!

هيفاء الأمين، التي يدور زوجها في صفحات الفيسبوك باحثاً عن فرصة للدفاع عن إسرائيل، تورطت أمس حين اندفعت لتتغزل بحضارة كردستان وتؤكد تخلف الجنوب، متجاهلة أن كردستان استولت على أراض وحقول نفط وحصلت على موازنة تعطي الفرد ضعف ما تعطيه بقية انحاء العراق، بفضل تواطئ الحزب الشيوعي قبل غيره. وتناست فوق ذلك ان كردستان المتحضرة بقي رئيسها فوق فترته الدستورية طويلا وانها منعت رئيس برلمانها من دخول أربيل وان فيها اعلى نسبة جرائم شرف في العالم، وان ثرواتها النفطية تسرق بالتواطؤ مع بغداد وأن الحزب هو من يوزع الدخل.. الخ!

وطبعا لا حاجة لهيفاء للاعتذار أن تفسيرها لـ "التخلف" لم يكن مادياً، يرجع الأمر الى انعدام الخدمات المقصود من قبل الطبقة السياسية الأمريكية التي تشكل هي اليوم جزءاً منها وتمتدحها، بل اعادتها فقط الى "الموروث"، وكأن التخلف لا يقاس بعدد المدارس والمستشفيات قبل كل شيء.

ونذكر أن الأمين أحدثت ضجة كبيرة في أول ظهور لها على التلفزيون بعد انتخابها، حيث استضافتها قناة "الحرة" الأمريكية، فصرحت بأنها بصدد تشكيل تجمع سياسي "واسع" لأن "الجميع يضع العراق فوق كل شيء"! والصدمة في هذا التصريح هو أن "سائرون" وصل الى مقاعده عن طريق اتهام كل الطبقة السياسية بالفساد، وتوعد بـ "شلعهم" و "قلعهم" جميعاً، ولكن ما ان انتهت الانتخابات حتى صار "الجميع يضع العراق فوق كل شيء"! كيف؟ وكيف تحولت السعودية، "المليئة بالموروث المتخلف" واداة الإرهاب الأمريكية والقتل والحكومة العشائرية الأكثر تخلفا ووحشية في العالم، حيث لا يستطيع ملوكها "فك الخط"، إلى موضوع امتداح وغزل لـ "النائبة" الشيوعية الجديدة؟ وكيف صار "الموقف الأميركي" داعماً لاستقلال العراق، حسب هذرها؟!! إن أعضاء الحزب الشيوعي "المؤمنين" بقيادتهم، لم ولن يطرحوا مثل تلك الأسئلة المزعجة.

جماهير الحزب لا تهتم هي الأخرى بمبادئ الحزب. لذلك نرى همهمات الاعتراض تقتصر على التحالف مع الإسلاميين ولا أثر للاعتراض على "حرية السوق" أو الانتماء الى تجمعات إسرائيلية، أو بقاء القوات الامريكية المحتلة!

إهمال الشيوعيين الجدد للمبادئ الاقتصادية والسيادية جعل اخلاصهم ينصب على الشخص الذي يقود الحزب، فصار رمزاً تعتبر اية محاسبة له هجوماً على "الحزب". لقد صرحت هيفاء قبل فترة وجيزة أن الحزب الشيوعي "لم يعد حزبا للعقيدة"(1) وكانت صادقة تماما هذه المرة. لكنها كان يجب ان تكمل انه لم يعد "شيوعيا" أيضا، بل ربما لم يعد حزباً بالمعنى السليم للحزب.

فقد كشفت خلافات بين الدكتور حسان عاكف وقيادة الحزب وجود خلل خطير في التزام قيادته بالمعايير الحزبية مثل الشفافية والصدق والديمقراطية والنظام الداخلي للحزب.

فبين عاكف ان جاسم الحلفي قد ادخل الحزب في عضوية تحالف " بدون قرار من اي جهة حزبية"!(2) وفي مقالة أخرى أوضح أنه "جرى التنازل عن رئاسة التحالف...لان السيد مقتدى الصدر اصر على ذلك كما اشار الرفيق السكرتير." متسائلا: "أليس غريبا ان يقرر حزب عمره اربعة وثمانون عاما، الدخول في تحالف سياسي وتسليم قيادة هذا التحالف الى حزب عمره شهرين؟" مبينا أن التنازل عن القيادة بصراحة لم يتم ابداً في تاريخ الحزب.

وأوضح "انفراد الرفيق (السكرتير) بالتوقيع على التحالف قبل الحصول على موافقة اللجنة المركزية، ناهيك عن اخذ راي رفاق الحزب ومنظماته." إضافة الى تنازلات كثيرة.(3)

ولو كانت كوادر وجماهير الحزب حريصة على حزبها، لشعرت بخطورة الخلل عليه، ولكانت ممنونة لمن كشفه، ولهبت لحماية حزبها، ولأصرت على معرفة ما جرى والضغط لإجبار القيادة على معاقبة المخالفين وضمان عدم تكرار ذلك.

لكن ما حدث كان العكس وكان الشيوعيون أحرص على اسكات من يتكلم واتهامه بالتخريب، من حرصهم على اصلاح الخلل وشكر من كشفه. فمن الواضح أن ما يمثل الحزب عندهم ليس المبادئ الماركسية والأنظمة الأساسية والتاريخ العريق، بل يختصر في من يجلس على أعلى كرسي في الحزب، ويصبح رمزاً يجب حمايته بغض النظر عما فعل ويفعل.

لم يكن الحزب اشد من خان مبادئه فقط، بل كان ايضاً عملياً أول الخونة بعد 2003، حين سارع في اول حكومة، لتحالف يقوده أخسأ بعثي متوفر في الساحة، أحد جلادي قصر النهاية، واحد عملاء السي آي أي والعديد من المخابرات الغربية (ولا شك الإسرائيلية) حسب اعترافه بفخر!

في وقتها فسرنا الأمر على انه "حماقة عجيبة"، لكن فيما بعد تبين اننا نحن الحمقى. فقد تابع "الشيوعيون الجدد" مسيرة “مبادئهم الجديدة” بالتحالف مع البوق الإسرائيلي الصريح مثال الآلوسي .. وكائن مشبوه ومثير للاشمئزاز هو فائق الشيخ علي..  واحتفظ الحزب على طول الخط بعلاقة تبعية قبيحة مع الإقطاعي الكردي، وجحش صدام السابق، الذي مكن الأخير من اغتيال كوادر الحزب في أربيل، مسعود البرزاني.

وبقي الحزب يدافع عن مسعود بكل صلافة بحجة "القضية الكردية" رغم ان كردستان تحت سلطته، هدمت قرى عربية، ونهبت نفطا وتوسعت ضعف مساحتها على حساب عرب العراق، والحزب ثابت في دعمه لـ "القضية الكردية". لكن الكذب افتضح حين اختلف مسعود مع "القضية الكردية" وحطم ديمقراطيتها ودستورها وسرق نفطها، ولم نر الحزب يقف معها! فمثلما فضل الحزب الشيوعي تبعيته لمسعود على العراق والعرب والعدالة والإنسانية وعلى كرامته، فضلها على "القضية الكردية" أيضا.

وإذا كان فساد الأحزاب الدينية يتركز في القمة مع جمهور محتج ولكن يسير وراءها كالقطيع، فأن جمهور ومثقفي الحزب الشيوعي منسجمين بشكل عام مع هذا الانحدار المخجل. وقد كتبت عن أحد المحسوبين على مثقفي "اليسار الجديد"، الذي هب منتفضاً على تهديد هادي العامري بأنهم سيسقطون أية حكومة تفرضها اميركا (صدقنا حينها، فلم يكن هادي العامري قد حول نفسه إلى نكتة بعد) فكتب حسين كركوش مقالة نارية محتجاً بشدة على هذا التصريح، وكأنه السفير الأمريكي ذاته، طالباً من قرائه "أن يتوقفوا مليا عند دلالات هذا التحذير المثير للفزع"! وبالطبع لاقت المقالة استحسان "الرفاق"! 

حسين كركوش، مثال جيد لمن مازالوا يسمون انفسهم "مثقفين يساريين" وفي كتاباته نجد كل الأحاييل التي يسوقها راس مراوغ لتمويه تراجع جبان واظهاره على أنه "تطور" و"فهم جديد" للعالم. وفي كل مناوراته تلك، فهو لا يفقد بوصلته التي تتجه في النهاية لما يخدم تبريره لضرورة التخاذل للمشروع الأمريكي.

فعلى العكس من الموقف المتناهي في تخاذله أعلاه، يمكن لكركوش ان يصبح اكثر ثورية وشراسة من المقاومة اللبنانية ذاتها، مادام بالإمكان تحويل هذه الشراسة في النهاية لتوجيه صفعة للمقاومة على تخاذلها في اتفاق الجرود! لمن يريد المزيد من مهزلة مثقفي "اليساريين الجدد" التي يمثلها كركوش، هذا الرابط الذي يحتوي قائمة ببعض مقالاته(4)

من مقالة لي في العام الماضي: " في مناقشاتي مع العديد من الشيوعيين – واقصد هنا المنتمين للحزب على وجه التحديد، لم اشعر بوجود أي اعتراض على تحالف حزبهم (مع ذيول إسرائيل وعملاء السي آي أي)! فأين وكيف ومتى فقد هؤلاء الشيوعيون احساسهم بالظلم والخطر الإسرائيلي والامريكي؟ هل هو موقع "الحوار المتمدن" الذي شخصته منذ سنوات كموقع إسرائيلي بحت – منذ العدوان على لبنان 2006 و الحرب على غزة 2008، حيث وقف الموقع بشكل واضح تماما مع إسرائيل ومع من يحظى برضا إسرائيل من العرب، وانهى الموقع الشك، بإعلانه تلفون الموساد لمن يعرف اية معلومات عن الجندي الإسرائيلي الأسير شاليط! هذا الموقع كان قد صمم حسب ما لاحظت نحو هدفين: الأول تحويل بوصلة العداء والخطر، من اميركا وإسرائيل إلى الإسلام وخاصة ايران، وجعل هذا العداء تهويشياً وليس جدليا قدر الإمكان. والهدف الثاني هو الإساءة إلى مبادئ الشيوعية واليسار تحت حجة "تطويرها". وقد كان للموقع كتابه المتخصصون في هذين الاتجاهين."(5)

وهنا أيضا، ورغم كل ما كشفناه عن حقيقة هذا الموقع، فقد استمر الشيوعيون بمتابعته وكأن شيئا لم يكن!

في 2013 كان الحزب يستعد لتحالفه مع مثال الآلوسي فكتبت محذراً، وكأنني اتحدث مع أطفال لا يعرفون أبسط المبادئ واي شيء عن التاريخ، وليس مع أعضاء حزب سياسي عريق:

"ألا تحتل إسرائيل اراض عربية؟ ألا توجه إسرائيل الإهانة والتمييز العنصري والقتل ضد العرب؟ ألا تحتقرهم علناً وتعمل على إبعادهم عن أرضهم؟ لو كانت تلك الدولة العنصرية موجهة ضد السود أو ضد الكرد، اما كنتم ستملؤون الدنيا ضجيجاً ضدها؟ فلماذا عندما تكون ضد أهلكم يصبح التعامل معها ومع عملائها “طبيعياً” لا يثير شعوراً لديكم؟

دعونا من فلسطين، وهي مأساة إنسانية كبرى، وانظروا إلى بلادكم. هل تأمنون أن تدخل إسرائيل هذه البلاد؟ أنظروا إلى مصر التي تنازلت وقبلت صداقتها وصداقة أميركا لعقود طويلة، ما هي نتيجة تلك الصداقة غير الخراب التام والاختراق التام وتحطيم بنية المجتمع؟ ألم يكن عداء إسرائيل والحروب معها، أقل كلفة على مصر من صداقة إسرائيل وأميركا؟ هل تدخل هاتان الدولتان بلداً ولا تسيطران على مقاليد السلطات فيه في كل شيء؟

ولماذا تتصورون أن إسرائيل ستعامل العراقي بأفضل مما عاملت المصري أو الفلسطيني؟" (6)

لكن ما كان قد كان، والاختراق اكبر مما تخيلنا وأعمق بكثير. 

آخر خيانات "الشيوعيون الجدد" لقضيتهم، تطل برأسها هذه الأيام، فقد سارع الحزب الى تحالف جديد يضم اهم الشخصيات الإسرائيلية في العراق(7)، وعلى رأسها مثال الآلوسي طبعا. فقد تبرع الحزب العريق بإنقاذ هذا المنبوذ الذي عجز حزبه ان يحصل على مقعد واحد، ليعود في الدورة التالية بأصوات الشيوعيين، تماما مثل الكائن المدعو فائق الشيخ علي. ولم يتردد مثال الآلوسي بإعلان مشاريعه لدفع العراق الى إسرائيل، ولا دعوته لترامب ليتحالف معه، حتى حين كان الأخير يصرح بعزمه محاصرة نفط العراق وسلبه. وقد كرر الآلوسي قبل فترة قصيرة من تأسيس التجمع دفاعه عن إسرائيل والدعوة للتطبيع معها سخر من القدس وفلسطين واعتبرهما "أكذوبة عروبية وإسلاموية"!(8)

ما موقف الحزب من هذا؟ لا موقف للحزب من هذا! فلم يعرقل هذا الكلام الترحيب بمثال في التحالف الجديد، مما يشير إلى ان الحزب يراه منسجماً معه.

بقية أعضاء التجمع ليسوا أفضل من الشيوعي او الآلوسي، فـ "الطيور" على اشكالها تقع. فإضافة إلى البرزاني المعروف بعلاقاته الإسرائيلية وبيعه ثلاثة ارباع حاجة إسرائيل من النفط العراقي المسروق لها، هناك "الاتحاد الوطني الكردستاني"، الذي تديره بالوراثة، هيرو الطالباني صديقة تسيبي ليفني، وهي تعد ابنها “قباد” المعروف بعلاقاته باللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، لوراثته.

وهناك المزيد من "المفاجآت" في هذا التجمع. هذا حزب "التجمع الجمهوري العراقي" بقيادة زوج ابنة الجنرال الأمريكي جي كارنر! "سعد عاصم الجنابي"(9) ، احد اساطين المال المنهوب والمقاولات التي حصل عليها من والد زوجته، وأخطبوط مد اذرعه باتجاهات مختلفة حيثما يوجد المال. إنه صاحب قناة الرشيد التلفزيونية والمتهم بسرقة أرشيف الإذاعة والتلفزيون وتسليمه لكردستان ومنها الى إسرائيل ويقال انه كان شريكا تجاريا لحسين كامل قبل هرب الأخير من صدام، وأترك البحث عنه أكثر لمن يشاء على النت.

ترى ما الذي كان سيحدث لشهداء الحزب مثل فهد أو سلام عادل لو راوا نتيجة تضحياتهم، وتأملوا إنجازات حزبهم و"العز" الذي يرفل فيه في عيده الـ 85؟

لا ندري، ولا ندري ما هي المهمة الموكلة إلى أعضاء هذا التجمع من قبل من يحرك الخيوط من بعيد. لكن دعونا نتفاءل لعل معجزة تحدث ويصحو ضمير مازال حتى اليوم ينام نومة أهل الكهف. قولوا معي: "اللهم اجعلها آخر الخيانات".

 

صائب خليل

.......................

(1) هيفاء الأمين: لم يعد حزبا للعقيدة

https://www.facebook.com/haifa.alamin11/posts/377732989488551

(2) حسان عاكف: "جوانب من المسار"

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=587740

(3) حسان عاكف:" الانعطافة المفاجئة "

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=589894

(4) صائب خليل - اليسار في يومه العاشر... 1- ما الذي أرعب حسين كركوش

 https://www.facebook.com/saiebkhalil/posts/1980352675355125/

(5) صائب خليل - متى وكيف فقد الشيوعي العراقي الإحساس بظلم وخطر أميركا إسرائيل؟

https://www.facebook.com/saiebkhalil/posts/1859010107489383

(6) القوى الديمقراطية والآلوسي .. تحالف إنتحاري جديد؟

http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=81692

(7) الإعلان عن انبثاق "تجمع القوى المدنية الوطنية"

https://www.iraqicp.com/index.php/sections/orbits/19345-2019-04-27-20-28-43

(8) مثال الالوسي يصف القدس بـ (الكذبة الكبرى) ويعتبر نفسه جسراً بين العراق واسرائيل...!

https://www.youtube.com/watch?v=IUxi0yPtAkk

(9) سعد عاصم الجنابي رئيس التجمع الجمهوري العراقي -

https://www.youtube.com/watch?v=V3N68aSebz8

علاء اللامي: التحالف الجديد مع حزب المتصهين مثال الآلوسي لطخة عار على جباه مَن تحالفوا معه!

 http://www.albadeeliraq.com/ar/node/1957?fbclid=IwAR16W-QqKKcO3OB7dZDa0PqnVtXKCof80vCpid0vzBvJSKoPnRbsGaR2Yg8

 

 

 

محمد حسيني أبو سعده: مُعلم المنهجيات في الفلسفة الإسلامية

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمود محمد علي

محمود محمد عليهناك رواد تنحسر عنهم أضواء الشهرة من أساتذة الفلسفة الإسلامية؛ وبالأخص في مصر بسرعة لافتة للنظر، مع  أنهم أسهموا قدر استطاعتهم في الارتقاء بالبحث والدرس في مجالها، وعملوا قدر طاقتهم علي أن ينقلوا ما عرفوه إلي تلاميذهم، وعلي أن يبدعوا في أكثر من مجال مثل أقرانهم الأكثر شهرة الذين كان عليهم الإسهام في كل مجال من مجالات الفلسفة الإسلامية المختلفة (سواء في علم الكلام أو في التصوف أو الحكماء العرب)، استجابة إلي تحديات الركود الفكري في مجتمعهم ورغبة في الوقت نفسه في الارتقاء بهذا المجتمع من خلال نشر التنوير.

ويعد الأستاذ الدكتور محمد حسيني أبو سعده (أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب – جامعة حلوان بجمهورية مصر العربية)، واحداً من رواد الفلسفة الإسلامية الذين انحسرت عنهم أضواء الشهرة ؛ حيث أنه قلما يذكر اسمه في المؤتمرات والمحافل التي تهتم بالفلسفة الإسلامية في مصر وفي العالم العربي، مع العلم بأن هذا الرجل كان واحداً من الأساتذة الجامعيين الذين يقومون بتدريس الفلسفة الإسلامية من وجهة نظر إسلامية خالصة، بعد أن كانت تُدرس من خلال الدرس الإستشراقي الذي ربط الفلسفة الإسلامية بالتراث اليوناني، وأهم من نادوا بالبحث عن أوجه الأصالة والابتكار في الفلسفة الإسلامية، وهو بالإضافة إلي ذلك نموذج للأستاذ الجامعي كما ينبغي أن يكون سواء في التزامه بأداء واجباته الوظيفية الاكاديمية علي أحسن ما يكون الأداء، أو في ارتباطه بطلابه في علاقة إنسانية رفيعة المستوي في هدي من التقاليد الجامعية التي يحرص عليها كل الحرص، إذ هي دستوره في كل معاملاته مع كل من هو في الوسط الجامعي .

كما كان واحداً من كبار الرواد في دراسة الفلسفة الإسلامية في مصر، والعالم العربي الذين استطاعوا بحوثهم ومؤلفاتهم أن ينقلوا البحث في الفلسفة الإسلامية من مجرد التعريف العام بها، أو الحديث الخطابي عنها – إلي مستوي دراستها دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارمة إلي أبعد حد: فالنص الفلسفي لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.

يشهد علي ذلك زملاؤه بكلية الآداب فرع سوهاج جامعة أسيوط (سابقاً) التي شهدت مولده الوظيفي في أواخر ثمانينيات القرن الماضي (قبل أن ينتقل إلي مثل وظيفته بكلية الآداب– جامعة حلوان)، بل ويشهد علي ذلك طلابه الذين أشرف عليهم وأزعم (ولي الشرف في ذلك) أنني واحداً منهم .

نعم لقد كنا نري في الدكتور أبو سعده نعم الرجل المتوحد الشامخ: سراجاً هادياً، عالياً كالمنار، وارفاً كالظل، زاخراً كالنهر، عميقاً كالبحر، رحباً كالأفق، خصيباً كالوادي، مهيأ كالعلم، لا يرجو ولا يخشي، طاقته لا تنضب، كأن وراءها مدداً يرفدها من سر الخلود .

والدكتور أبو سعده من مواليد 1943 بمحافظة القاهرة – المرج – الخصوص، حيث تم تعيينه مدرساً للفلسفة الإسلامية سنة 1988 بكلية الآداب بسوهاج – جامعة أسيوط (سابقاً)، وترقي لدرجة أستاذ مساعد سنة 1992، ونقل إلي مثل وظيفته إلي كلية الآداب بجامعة حلون سنة 1994، ثم حصل علي درجة الأستاذية سنة 1995، وعين رئيساً لقسم الفلسفة سنة 1996، وأخيراً قد وافته المنية في صيف عام 2003 بسبب مرض انتشر في ظهره .

وللدكتور أبو سعدة كتابات كثيرة في الفلسفة الإسلامية، نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر: كتاب "الله والعالم بين الاتجاه المشائي والاتجاه الإشراقي عند مفكري الإسلام : دراسة مقارنة، وكتاب الوجود والخلود في فلسفة أبي البركات البغدادي، وكتاب الآثار السينوية في مذهب الغزالي في النفس الإنسانية، وكتاب الإستشراق والفلسفة الإسلامية، وكتاب المنهج النقدي عند الباقلاني، وكتاب الشهرستاني ومنهجه النقدي دراسة مقارنة مع آراء الفلاسفة والمتكلمين،  وكتاب النفس وخلودها عند فخر الدين الرازي ... الخ.

كانت أول بداية علاقتي بالدكتور أبو سعد سنة 1992، حين أشرف علي رسالتي للدكتوراه، والتي كانت بعنوان " المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة "، حيث كان مشرفاً مشاركاً مع أستاذنا الدكتور عاطف العراقي (رحمة الله عليه)، وكان دخوله علي في الإشراف من خلال الدكتور عاطف العراقي الذي أخبرني أنه سيفيدني كثيراً، وبالفعل ذهبت لمقابلته بمكتبة بقسم الفلسفة بكلية الآداب بسوهاج، حيث كان سيادته آنذاك أستاذاً مساعدا ً للفلسفة الإسلامية، وحين قابلت وتحدثت معه أدركت للمرة الأولي أنني أمام شخصية متميزة لأستاذ أكاديمي، تختلف عن شخصيات كثيرين غيره من الأساتذة، شخصية تتوفر علي سمات ومقومات وأبعاد، تنتزع بذاتها الاحترام وتفرضه، وتستأهل التقدير وتثير الإعجاب، وتغرس في النفوس حبا تخامره رهبة، وأملا يواكبه شعور بالتفائل، وانتماءً بصاحبه شعور بالزهو بالإشراف علي يديه .

كثرت لقاءاتي به خلال إشرافه علي رسالتي للدكتوراه، وهنا اكتشفت بعداً آخر في شخصية الدكتور أبو سعده، حيث كنت أشعر في حضرته دون ثالث لنا بالأب الحاني والأستاذ القدير، الناصح والموجه والمرشد، لا يفرض توجهاً معيناً، ولا يستبد برأي، ولا يلزمني بوجهة نظر خاصة، وإنما يحاور ويناقش ويوجه، ويفتح أمامي أفاقاً جديدة، ويعرض آراءه وافكاره ورؤاه، ثم يترك لي حرية الاختيار .

لقد كان له فوق ذلك ومعه، تواضع وحنو يذهبان عني كل رهبة دون افتقاد الاحترام والهيبة ويشجعاني علي طرح المزيد من الاستفسارات والتساؤلات، مما يطيل الحوار معه، ولم ألحظ منه قط ضيقاً أو امتعاضاً أو مللاً، ولا استعلاء وتكبراً، ولا أسمع منه إلا كلمات التشجيع بما يعزز الأمل عندي ويبعثني علي مضاعفة الجهد وبذل أقصي ما في الوسع عن رضي واقتناع .

ومما جذبني في الدكتور أبو سعده حبه العميق للغة العربية، فقد كان عاشقاً لها، غيوراً عليها، حفياً بها – وقد انعكس ذلك كله علي أسلوبه في كتاباته؛ حيث كان أسلوبه جذلاً، فيه رصانة وطراوة، وإغداق وإثمار، وفيه عذوبة تشد الآذان إليه لسهولته، وإن تكن من نوع السهل الممتنع . فعباراته قصيرة، لكنها واضحة الدلالة؛ وتنتظم في حلقات من سلسلة تشبه جواهر منظومة في عقد، تجسد الفكرة، وتقدمها للمتلقي في سياق يصعب أن تحذف منه كلمة، أو تضيف إليه كلمات، وتكاد تشعر أنك مع شاعر مبدع يعزف علي أوتار كلماته لحناً عذباً رائعاً يستلب القلوب، ويأخذ بمجامع العقول، فيشيع فيها امتاعاً  وأنساً مع شئ من الحماسة تضطرم به الأفكار، غير أنك لا تكاد تسمع منها في الأعماق إلا همساً . ومع هذا أسلوب علمي يتضمن صياغات في ثوب أدبي - رفيع - قشيب.

إن الدكتور أبو سعد حين تقرأ له أي كتاب من كتاباته في الفلسفة الإسلامية،  يشعرك بالمتعة، وأقصد بالمتعة متعة الأفكار، وهي تغزو عقلك في زحف هادئ، لكنه معزز بالدليل والبرهان، فيرغمك علي تقبلها باقتناع، ومتعة الروح التي تتسرب إلي كيانك من رقة الأسلوب وعذوبة الكلمات وسلاسة العبارات . كل ذلك يعكس مدي قدرة الأستاذ علي توظيف قدراته اللغوية وثقافته الوسيعة لخدمة أغراضه العلمية التي تجسدها بحوثه ودراساته .

وثمة بعد آخر في شخصية الدكتور أبو سعده العلمية، ويتمثل في منهجيته في البحث، تلك المنهجية التي تكشف عن اقتدار وكفاءة عالية في الالتزام لقواعد المنهج العلمي وضوابطه، لا حظت ذلك بجلاء خلال فترة الإشراف علي في الدكتوراه في طرحه للموضوعات وإثارة المشكلات وطريقة تناولها ومعالجتها . فهو قد علمني كيف أفصل المجمل، وأكشف عن المستور من المعاني التي تخفيها ظواهر النصوص، وأُوضح الغامض من الأفكار، كما علمني بألا أترك شاردة ولا واردة تتصل اتصالاً وثيقاً بالموضوع إلا ويجب علي أن أذكرها أو أشير إليها في بحثي .

كما علمني أيضاً كيف أعُول علي أمهات المصادر والمراجع، ثم أدلي بدلوي في الموضوع، مدعماً آرائي وأفكاري بمنطق البرهان، وكيف أكون حريصاً علي أن أنتقد بعض وجهات النظر من منظور النقد، بحيث لا أقتصر علي بيان السلبيات والعورات، وإنما علي أن أتوسع ليشمل أيضاً تبيان الإيجابيات التي تتضمنها مشيداً بصاحبها، فلا أبخسه حقه في الابتكار والإبداع، التزاماً من جانبي بالموضوعية والتجرد، بحيث أجعل العقل يعمل وطأته منفصلاً عن بقية النوازع الإنسانية.

وثمة بعد آخر علمني إياه الدكتور أبو سعدة وهو كيف يتسني لي أن أحدد موضوع البحث تحديداً دقيقاً، وأن أعمد إلي إبراز أهم عناصره ومحاوره وأبعاده،  ثم أستعرض الآراء  التي قيلت بخصوص كل عنصر، وأن أردها إلي أصولها ومصادرها الأصلية، بحيث أكشف  بهذا عن مدي تأثر اللاحق بالسابق من الفلاسفة والمفكرين والباحثين؛  ثم أتابع الفكرة في تناميها وتطورها منذ نشأتها، حتي تصل إلي منتهي ما وصلت إليه لدي من تناولوها بالدراسة؛ بحيث أكشف عما طرأ علي الفكرة أو النظرية من انتكاسة، أو إضافة، أو تجلية، أو دعم، أو هجوم نقدي، أو تأصيل عقلي وفكري، وأن أضع ذلك كله في منظومة علمية تبث الروح في النظرية، وأن تثير في القارئ ميلاً عقلياً إلي احتضانها أو النفور منها، بمبررات عقلية – منطقية في كلتا الحالتين، بحيث تفرض عليَ أن أتخذ موقفاً ما، دون الاقتصار علي مجرد التلقي أو السرد والحكاية . فأين من هذا كله أساتذة هذه الأيام (وأخص بالذكر الأساتذة غير الشرفاء الذين لا يخافون الله ولا يحترمون أنفسهم) هؤلاء الذين يريدون أن يحلبوا الباحث حلباً ليعطيهم الدرهم والدينار نظير أن يكتبوا له رسالته ويناقشوه (ماجستير أو دكتوراه) نظير مبلغ كبير من المال !!

وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة، وهي أنني قد تعلمت علي يد الدكتور أبو سعدة الكثير من قضايا المنهج العلمي، ومنها قوله لي (الذي لا أنساه) بأن علة ضحالة وهشاشة معظم الكتابات الفلسفية في ثقافتنا العربية المعاصرة ترجع في المقام الأول إلي افتقار أصحابها المنهج – أي – ذلك الطريق الواضح والخطوات المنظمة التي يخطوها الكاتب في التصنيف والتأليف والترجمة والتحقيق. وتعلمت منه أيضاً أن مثل هاتيك الكتابات غالباً ما تتسم بالغموض في الأسلوب والركاكة في الصياغة والاضطراب في عرض الأفكار، والتناقض في الاستنتاج، وذلك لأن صاحبها غير مؤهل للكتابة لكونه من أشباه الدارسين وأنصاف الباحثين الذين حرموا من ملكة الابداع والنزعة النقدية . والسمات الذاتية التي تميز أصحاب الأقلام عن دونهم من المقلدين ومنتحلي الأفكار والآراء.

كما لا أنسي قوله لي كثيراً ومراراً بأن الكاتب الذي لا يعي منهجه ولا يستطيع قراؤه التمييز بين أسلوبه وأسلوب غيره من الكتاب يجب أن يتوقف عن الكتابة لأنه من لم ينتقل بعد من طور التتلمذ، فعليه أن ينتظر حتي تكتمل شخصيته وينفرد قلمه وينضج ذهنه.

علي كل حال لسنا نستطيع في مقال كهذا، أن نزعم بأننا قادرون علي تقديم رؤية ضافية شاملة ومستوعبة لكل مقدمات شخصية الأستاذ الدكتور محمد حسيني أبو سعده بأبعادها الثرية، وحسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة علي الجانبين الإنساني والعلمي لمفكر فلسفي وعالم لغوي، ونموذج متفرد لأستاذ جامعي نذر حياته بطولها وعرضها لخدمة الفلسفة واللغة والثقافة العربية، وأثري حياتنا الفكرية بكل ما قدمه من جهود، وما تركه من آثار تجعله الحاضر بيننا رغم رحيله عنا، الغائب في عنا رغم تواجده وحضوره في عقولنا وقلوبنا. وبين حضوره وغيابه درجات لا تكاد تبين، فهو لم يغب عنا ولن يغيب.

رحم الله الدكتور أبو سعده، الذي صدق فيه قول الشاعر: وليس موت امرئ شاعت فضائله كموت من لا له فضل وعرفان.. والموت حق ولكن ليس كل فتى يبكي عليه.. إذا يعزوه فقدان في كل يوم .. ترى أهل الفضائل في نقصان عد وللجهال رجحان.

 

د. محمود محمد علي

مركز دراسات المستقبل : جامعة أسيوط

 

 

قصيدة قارئة الفنجان للشاعر نزار قباني بين التطريب والمأساة قراءة في المسكوت عنه

التفاصيل
كتب بواسطة: د. رحيم الغرباوي

رحيم الغرباويإن المتلقي على وفق نظرية القراءة والتلقي له الأسبقية في الفهم التأويل؛ كون النص أُنشئ من أجله، لذا فمن البديهي أن يحمل في ذاته محتوىً دالاً، فلابدّ من فهم ذلك النص الذي يتفرج عليه سواء أكان نصاً شعريا أم تمثيلياً، فيكون التفاعل بين صاحب النص أو الممثل ومتلقيه، ولعل العمل الفني لايحقق مؤداه مالم يخضع للقراءة المتأنية؛ ليتمكن النص من طرح مافيه من دلالات خبيئة يضمرها في طبقاته العميقة .

والتأويل في طروحات غادامير (1900)، هو عملية فهم النصوص من خلال قراءة ما " حدث في التاريخ، يتمُّ فيه تفاعل النص والمؤول والذات والموضوع تفاعلاً مُتبادلاً في كل عملية فهم، وهو المسار الطبيعي نحو إطلاق العنان لسيرورة التأويل، لابدَّ في ذلك من استحضار قوانين النص وقوانين السياق، وفي هذه السيرورة يكون للأحكام المسبقة دور رئيسي؛ كونها تشكل الكون الوحيد الذي يجعلنا منفتحين على العالم والنص " (1)، إذ تدور عملية التأويل بين ثلاثة أقطاب: " المؤلف التاريخي، والمؤول الذاتي، والنص في معناه الكلي، وهي دائرة يؤطرها السياق التاريخي والثقافي " (2) .

ولعل التجربة الفنية لدى صاحب النص مستقاة من تجربته الشعورية  والسياق الخاص، ففي أحيان كثيرة يرجع الشاعر إلى ما ينعكس في شعوره تجاه الواقع المشوب بالفرح أو الحزن، العلو أو الانتكاسة، ولعل الرمز الشعري في النص يحقق مؤداه، لكن على الرغم من سعة دلالته، فهو مشدود إلى واقع تاريخي يقرره السياق والتجربة الشعرية التي يعبر بها صاحب النص عن أحاسيسه وأفكاره، فالرمز "الشعري مرتبط كل الارتباط بالتجربة الشعورية التي يعانيها الشاعر والتي تمنح الأشياء مغزىً خاصاً " (3)

وشاعرنا الراحل نزار قباني الذي كتب أشعاره بروح شفافة صدحت بالكثير منها حناجرُ المطربين العرب بوصف نزار شاعر المرأة والحب في مفهوم معظم المعجبين به من متذوقين أو وآلهين و محبِّين لكن، في قصائد له نستمري للنص وجهاً آخر، فقد وجدناه قد كتب من أجل قضايا العرب المصيرية، منها قضية العرب الكبرى فلسطين . ويبدو أنَّ قصيدة قارئة الفنجان النبوئية، هي من أكثر قصائده المؤلمة التي ترك نهايتها المأساوية مفتوحة ومتعددة القراءات، فمنها وما تعارف الناس عليه أنها كُتِبتْ للمحب الوامق المفتون الذي لم يهنأ بحبيبته للنهاية المأساوية التي أنبأته العرَّافة قارئة الفنجان، إذ لامناص من نهاية حبِّه الذي سيؤول إلى فراق حتمي لامحالة، فنرى نزار يصف قارئة الفنجان ونبوءتها، وهو يقول بلسانها وبإسلوب قصصي:

جلستْ والخوفُ بعينيها

تتأملُ فنجاني المقلوب

قالت يا ولدي لاتحزنْ

فالحبُّ عليكَ هو المكتوبْ

يا ولدي قد ماتَ شهيداً

من ماتَ على دينِ المحبوب

...

فنجانُكَ دنيا مُرعبةٌ

وحياتكَ أسفارٌ وحروبْ

ستحبُّ كثيراً وكثيراً

وتموتُ كثيراً وكثيراً

وتعشقُ كلَّ نساء الأرض

وترجعُ كالملكِ المغلوبْ .

فنراه في المعنى المباشر كأنَّ قارئة الفنجان تخاطب رجلاً طلب منها مصيره مما يتلجلج في دواخله، لكنها لم تؤمِّله بما يروم أو يطمح، فتنبئه أنه سيعشق ولا يفلح في نيل معشوقته  مستقبلاً على الرغم من تعلّقه فيكرر كثرة الحب مرات ومرَّات، لكنه إزاء ذلك الحب يموت مرَّاتٍ ومرات أيضاً، ثم أنها تصف فنجانه الذي تقرأه له: من أنه سيعيش دنيا مرعبة، وأسفاراً، وحروب؛ لكنَّ على الرغم من محاولاته في نيل حبيبته إلا أنه سيعود منها كالملك المغلوب الذي يذهب من سوح الوغى، ولا يجد أمامه سوى الخسران .

ولو قرأنا لا وعي الشاعر والظروف التي أحاطت بالنص لاسيما انتكاسة العرب في حزيران 1967م، فقد كان الشباب العربي متعطشاً قبل النكسة أنْ تتحرر فلسطين وهو الحلم الأكبر، لكنهم صُدِموا بالخسارة الفادحة أمام الكيان الصهيوني، والتي عصفت بالشباب وبمثقفي الأمة وشعرائها، فبرز جيل من الشعراء ينعى مأساة العرب، ويهجو الحكام الذين تسببوا في هزيمتهم الكبرى، ومن بينهم نزار قباني الذي استوقفته " ظاهرة الإدانة التامة لكلِّ ماهو شرقي وأنَّ تبخيسه قدر الشعب المتخلف لم يمنعه من إدانة كل الملوك والرؤساء يومذاك... فقصائده لم تستثنِ أحداً من مسؤولية العار العربي" (4)، ولعل هذا الحدث الكبير هو ما جعل نزار قباني يكتب قصيدته قارئة الفنجان وغيرها، ويتنبأ بما ستؤول إليه القضية الفلسطينية، لكنه لم يبح بذلك، بل كتب نصه؛ كي تقرأه الأجيال اللاحقة، ولو أنَّه عُرِف عنه بأنَّه شاعر الحب والمرأة، ولقد أدين لكتابة شعر الحب والغزل، من لدن الكثيرين الذي لم يدققوا بالمعاني المستبطنة التي لم يكونوا  يتمتعون بالدراية الكاملة لما تحمله القصيدة في إتونها من معانٍ مُغيَّبة، لكنه عُرف بشاعر الشباب، فآثر أنْ يكتب بروحهم من دون أن يبث في دواخلهم لواعج اليأس و مرارة الهزيمة، بل بثَّ في أرواحهم معاني الجمال والإنسانية؛ لذلك لم نسمع له تصريحاً يفتي بمعنى القصيدة المضمر بوصفها قيلتْ كذلك للأجيال اللاحقة لأنها تخاطب كذلك القادمين الذين سيعشقون بلدهم المضاع ويقاتلون من أجله .

ولعل فلسطين لما حملته من وسامة وجمال وما فيها من أمنيات للقاء بها والعيش في ظلالها راح يتغزل بها كما يتغزل بفتاة يافعة الجمال، فنراه يصفها على لسان قارئة الفنجان بسرد قصصي، يقول فيها:

بحياتكَ يا ولدي امرأةٌ

عيناها سبحانَ المعبودْ

فمها مرسوم كالعنقود

ضحكتها موسيقى وورود

لكنَّ سماءكَ ممطرةٌ

وطريقكَ مسدودٌ مسدودْ.

فهي أجمل النساء؛ لكن لا يمكن الوصول إليها لأن طريقها بات مسدودا، وكأنه يخاطب الشباب العربي على الرغم من أمانيهم الكثار ممن سيتعلقون بحسنها وجمالها إلا أنَّ أنها صعبة المنال وعلى الرغم من أنَّ سماءهم ممطرة إشارة إلى الأمل المعقود لديهم لكن الطوفان هو أعلى منهم كما يرى الشاعر.

ثم نراه يعرض الأسباب التي تحول دون الوصول لتلك الحبيبة النائمة في القصر المرصود من قبل آسريها:

فحبيبةُ قلبكَ يا ولدي

نائمةٌ في قصرٍ مرصودْ

والقصرُ كبيرٌ يا ولدي

وكلابٌ تحرسهُ وجنود

وأميرة قلبك نائمةٌ

من يدخل حجرتها مفقودْ

من يطلب يدها ... من يدنو

من سورِ حديقتها مفقودْ

من حاول فكّ ضفائرها

يا ولدي مفقودٌ ... مفقودْ .

ولعل الحبيبة فلسطين هي من وقعت أسيرة المحتل، وفي قصر كبير تحرسه كلاب وجنود مدججون بالسلاح، فالدخول إلى غرفتها بات مستحيلاً وحتى الوصول إلى حديقتها مفقود، ويبدو تكرار لفظة (مفقود) في بعض مقاطع النص، هو توكيد لما ستؤول إليه الأمور، وأنَّ تحريرها أشبه بالمستحيل في عصرنا حسب نبوءة الشاعر، بينما صوَّر فلسطين امرأة في قصر مشيراً إلى أنَّ لها حديقة ل اهتمام المحتل واعتناءهم بها؛ لما يدَّعون أنها الوطن الموعود، ومن أجله سُبيتْ واتُّخذتْ وطناً وموئلاً لهم، فلذلك أُسِرتْ من دون أن يمنحوا أصحابها الشرعيين فرصة استردادها، وعلى الرغم من تضحيات واستشهاد الكثير من أبنائها الأصليين، لكن من دون أمل لإنقاذها حسب رؤيا الشاعر .

ثمَّ يختم بقوله عن لسان قارئة الفنجان:

مقدوركَ أنْ تمشي أبداً

في الحبِّ على حدِّ الخنجر

وتظلّ وحيداً كالأصداف

وتظلّ حزيناً كالصفصاف

مقدوركَ أنْ تمضي أبداً

في بحرِ الحبِّ بغير ِ قلوعْ

وتحبُّ ملايين المراتْ

وترجع ... كالملك المخلوعْ .

وبهذا نرى أنَّ القصيدة قد استنبطت من أحداث تاريخها موضوعاً لها، لكن الشاعر غلَّفه بما عُرف عنه من أنه شاعر الحب، ومازالت حناجر المغنين وأوتار الملحنين تغرِّد وتعزف، وما زالت فلسطين حكراً على غير أبنائها الأصليين على الرغم من المقاومة الشرسة التي تتعرض كلَّ يوم لِلإجهاض على الرغم من أشتد أوارها، فظل الحبيب وحيداً من غير مناصرٍ بل وقضيته أضحت غريبة كالصفصاف، فهو المُحبُّ لأرضه،  لكن كمن يبحر للحبيبة من غير قلوع، فآل حسب نبوءة القباني عائداً يجرُّ الحسرات والانكسارات كالملك المخلوع ... .

لكننا نرى جذوةً في الأفق من أن المسار الحقيقي لاسترداد فلسطين، هو النضال من أجل الله والحب، وخير الجهاد هو الجهاد في سبيل الله من أجل تراب الوطن المغتصب .

 

بقلم د. رحيم عبد علي الغرباوي

......................................

الهوامش:

(1) الفلسفة الغربية المعاصرة، إشراف د. علي المحمداوي:2/ 1189

(2) المصدر نفسه: 1190

(3) الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، د. عز الدين إسماعيل: 198 .

(4) النرجسية في أدب نزار قباني، د. خريتو نجم: 382

 

قراءة في كتاب: التغيير والإصلاح.. مطالعة في التأسيسات والإشكاليات والمعوّقات

التفاصيل
كتب بواسطة: ألباب الخليفة

881 ايمان شمس الدينلمؤلفته: إيمان شمس الدين.

"حاجة الإنسان إلى الدين كضرورة لا تنفك عن وجوده، فالإنسان بفطرته ينزع نحو المقدس، ويسكن إليه، المقدس للإنسان هو مصدر طمأنينته وسعادته"

مقدمة

من المؤلفات الهامّة للغاية الصادرة حديثًا، في مجال التغيير والإصلاح، وقراءة مسارات النهضة في تقاطعاتها بالمعرفة، والمجتمع، وقضايا النكوص ومعارك الوعي في أطوار استكمال مهامه نحو التجديد، كتاب الباحثة إيمان شمس الدين، "التغيير والإصلاح.. مطالعة في التأسيسات والإشكاليات والمعوّقات"..

من اللحظة الراهنة في الواقع العربي والإسلامي، بتداعياتها المشوّشة، في ظلّ الاستبداد الممارس على الشعوب، والصورة المشوّهة في فهم الدين الإسلامي لدى الذاكرة الجمعية المجتمعية، ما أدىّ لظهور دعوات لتحييده، والتنازل عنه، بوصفه مادة وفعل عنفي خطير، واستحضار صراعات العولمة والنظام العالمي الجديد، في ظل الهيمنة، بدت لنا أهمية قراءة المادة المعرفية التي تضّمنها هذا الكتاب، لفهم ما يجري من انتكاسات في ذواتنا التاريخية والحاضرة، بالوقوف على أهم محاوره الفكرية والنقدية، وآليات اشتغاله في دراسة موضوعة الإصلاح، وتشابكاتها مع أنماط السلطات والنخب والجماهير، وبالصورة الحقيقية لخطاب الخالق، ودلالاته.

يأتي هذا المؤلَّف من باحثة متخصصة في العلوم الإنسانية، لها أعمال وكتابات كثيرة منشورة، ومشاركات بحثية في مؤتمرات عديدة، فوجدت أهمية في دراسة "طبيعة التغيرات الاجتماعية المتفاعلة مع البعدين الديني والسياسي" وسط "ظروف سياسية ودينية يُحيط بها لغة الحروب العسكرية والباردة، وتسلّط أنظمة مستبدة، وتآمر خارجي، للإفقار والتدمير وتغيير معالم الهويات الإسلامية والحضارية" لتأسيس وصياغة مشروع الإصلاح والحفر في طبقاته وتحديد أسباب اخفاقاته ومآلات نجاحاته، لنقف على أهم المميزّات في الرؤية المطروحة، التي يُراد بها انتشالنا من حالات التشظيّ والانقسامات.

والباحثة "إيمان شمس الدين" مثلما يُلمح في مقدّمتها، تؤمن بوظيفة المثقّف في تجاوز دائرة التخصّص الأكاديمي المحدود، للتفاعل مع سائر قضايا عصره، وإن أفدنا من عتبة عنوان الكتاب "التغيير والإصلاح.. مطالعة في التأسيسات والإشكاليات والمعوّقات" اتساع الموضوعة المقاربة عن تخصصها، لأن الإصلاح لا يمكن أن يقف عند ممارسات معينة وإنما هو مفهوم يتجسّد في مجالات معرفية متنوعة، دينية، فكرية، إنسانية، إعلامية، سياسية، مما يجعلها تنتصر في رهان المعالجة والمواجهة، في تعميق اشتغالها، وصلاته بواقع يرزح بأثقال الألم والوهن، لتحويله لمصدر فيض مُنتج للمعنى الإنساني في مستوى القيم المعرفية والحضارية.

بنية الكتاب

جاء الكتاب الصادر عن مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ط1، 2019م. مشتملاً على 266 صفحة من الحجم الكبير، موّزعًا على ثلاثة فصول متماسكة ومتفرّعة إلى مباحث متعددة، اقتضتها طبيعة التناول وتشابك قضاياه، فخصّصت أولها لبحث "عناصر التغيير الداخلي والخارجي، وأهمّ معوّقات التغيير" و خصّصت الفصل الثاني "للإصلاح ومعوّقات النهوض"، أما الثالث " الإعلام ودوره في التغيير وحركة الإصلاح" فأحاطت الباحثة فيه بالمكوّن الإعلامي والخاصيّة الاتصاليّة على مستوى الأدوار والوظائف المتفاعلة مع الإصلاح. وبمنهجية متكاملة وجامعة، قاربت موضوعة البحث، بالتأصيل لعمليّة التغيير، ووضع روابط ارتكازية جامعة للبعدين السماويّ والأرضي، من أجل الكشف عن جوهر الإصلاح المبتغى، المراهن على دور الشعوب وحراكها أولاً، دون إغفال الدور الفكري المتحقق بالنظريات ومعالمها، وجماعة النخب والقادة المؤثرين بصورة خاصة في تغذية أي مشروع حضاري ودفعه.

مع الكتاب

قسمّت المؤلفة الفصل الأول إلى محورين: في الأول تطرّقت إلى عناصر التغيير الداخلي، والثاني عناصر التغيير الخارجي، كمنطلقات وعوامل مولّدة لشرارة العمليّة التغييرية، وموقدة لجذوتها وحاملة لشعلتها الإصلاحية، وفق خطّة طريق واضحة المعالم يسيرة الأسس، رفيعة الأهداف والغايات..

وتنطلّق في معالجتها للمحور الأول من فكرة انبعاث أي عملية تغييرية ينبغي أن تنبثق من الذات، على مستوى الفرد، ومقوّماته الداخلية، فتحت عناصر التغيير الداخلي، تفرّق الباحثة "شمس الدين" بين مفهوم التفكير المرتبط بنشاط العقل، أو ببحثه عن إجابات لتساؤلات أو حل مشكلات، والإدراك كحاضنة أوسع في شموله لعمليات عقلية عديدة، والوعي المستلزم حضوراً لانتباه الفرد والتفاتته لاشتغالاته العقلية، في إطار الخصائص النوعية المائزة للعمليات الذهنية. وتنطلّق، من تلك العمليات لتعدد تأثيراتها ومردوداتها، كمداخل متنوعة وأساسيّة تصب في سنخ عملية التغيير، بمقدار وظائفها وعلائقها بنظم التصوّرات، والصراعات الناتجة عنها، وما يستتبعها من تبنّي للمواقف والسلوكيات، وتقول "منطقة الذهن الحية، تعتبر منطقة حيوية خطرة في نشاطها وتحاج إلى تشريعات ضابطة، لانعكاس هذا الضبط تلقائيا على الفرد" وتعتبر "الأفكار إمامًا للعقل، والعقل بدوره إمامًا للقلب، والأخير بدوره إمامًا للجوارح والسلوك الإنساني".

وترى أهمية العقل وفعاليته في إصابة الحقيقة، وضمان سيره باتجاهات سليمة، تتمثل في إضاءة سؤال" كيف وبماذا نفكر؟" فحدوث الاستيعاب له، شديد الارتباط "في بناء مرجعية معيارية وقيمية للفرد والمجتمع" وتُعدّ "شمس الدين" "ضبط المجال الإدراكي للإنسان ونظم عملية التفكير ومنهجيتها"، وطرق استخدامها وتوظيفها، من المداميك الرئيسية في تفعيل الدور القيادي الذاتي لعملية التغيير، والمادّة الخام لتجاوز حالة العشوائية الاجتماعية المهيمنة على مشهد التثقيف والتعليم، التي قادت إلى ما اسمته اليوم ب فوضى المعرفة، تقول "يتداخل في الفوضى المعرفية ما هو حقيقي واقعي مع ما هو موهوم"

وتعيّن "شمس الدين" مراحل عملية التفكير، الماثلة في: "مرحلة التكوين، مرحلة الربط والتوسع، مرحلة التطوير والنمو، وينضاف للأخيرة التفكير النقدي" فيمكن للفرد أن يخطيء بصدد المحسوسات والمعقولات، في تفسير الأخبار، في تشخيص العدو من الصديق، وفي التشخيص الصائب للفهم النظري والعملي للموضوعات، داخل هذا الإطار تضعنا أمام بوصلة التفكير النقدي، وتجد فيها "مرحلة متحركة، ذات مراتب مشككة، تعتمد على سير الإنسان في طريق تكامله العقلي والفكري، ومراكماته المفهمية، حول ذاته، ومحيطها، ومع السعي المنهجي السليم تريه الأمور أكثر قربًا من واقعها، الذي غالباً ما يصنعه عوام الناس من العادات دون مراجعة فاحصة" وما يترتّب على النخبة المتقدّمة، في مد جسور التواصل والانصهار الإنساني والتصويب والمساهمة في تعميق التجارب العامة وتطوير المعارف لدى الفئات المراوحة في نموها عند أولى المراحل، والانطلاق بهم إلى مدارج جديدة.

وتُجمل "الباحثة" العوامل المؤثرة في عملية التفكير وتشكيل الأفكار، في "التأثر بالبيئة الأسرية المحيطة، البيئة المدرسية والعناصر المكونة لها ببعديها الإيجابي والسلبي، البيئة الاجتماعية ومكوناتها، السلطة السياسية والدينية. وعن وظائف الدولة والأسرة ومحورية التربية والتعليم في تشكيل بنية الأفكار، المساهمة في بناء العقل فكريًا ومعرفيًا وفلسفيًّا، وصناعة الوعي، وتوجيه السلوك." وفق منحىً تبادلي قادر على تشخيص الاحتياجات الفردية والمجتمعية وتبنّي المشاريع التوعوية في إطار البيت والمدرسة ومؤسسات الدولة، بوضع البرامج الجادة المواكبة للعصر، وتأهيل مدخلات العمليّة التعليمية، بإدراج الفلسفة كمنهج يهيئ الفرد لينخرط في البحث عن أجوبة الأسئلة التي تفرضها الماهيّة الجدلية المتُحرّرة لها، لتؤمن له طموحات النهضة.

وفيما يتعلّق بواقع الأنظمة والنظرية التعليمية، تصف "شمس الدين" واقعهما المنهجي بالمفلس والقديم، العاجز عن أداء مهمّاته الضرورية لتحقيق مخرجات متكاملة في جوانبها العقلية. وترجع سبب القصور الناتج بصفته مظهراً من مظاهر شكل الدولة فيما يخصّ الفضاء الجغرافي العربي والإسلامي، التي لم تستجب بحكم نظامها الوراثي أو الاستبدادي للشروط الموضوعيّة لخلق العقل النقدي، المُهدّد لبقائها واستمراريتها، وإن فعلت فلأجل جماعات انتقائية منحتها أفضل الفرص التعليمية؛ لتكون قوة تعبوية مجنّدة في أقصى تمثلاتها، لإدارة الصراعات المتخلّقة ضد الدولة، بتشريع من فقهاء مأجورين، أو بتغذية مقصودة للطائفية المفتتة لنسيج المجتمعات. وتقدّم صورتين مغايرتين للدولة إما حضارية، تُقرّ بالرأسمال البشري، أو سياسية تتقوّم بإكراهات ترافق الشعب، في وضع مُثقل بالظلم.

التفكير بين العقل الفلسفي والتلقين:

تتحدّث "شمس الدين" عن ضرورة تأسيس تصوّر لا ينظر لأدمغة الأفراد كأوعية للملء والتخزين، وكأن العقل مادة محدودة، ومعلوم أنه مجرّد وطليق، ميّزة العقل هذه يمكن استثمارها كفضيلة ونعمة، بإعادة الاعتبار للفلسفة وتضمينها في المناهج الدراسيّة، تقول "الفلسفة تبني ذهنية برهانية قادرة على النقد ورافضة للحشو والتلقين وتبدأ بالسؤال والشك، لا بالمسلمات واليقينيات والاتباع دون وعي"

وإن ثورات ومناهضة الأفراد والجماعات، لأنظمة الحكم، ليست مجرد وسيلة ابتداعية للخروج من حالة هضم حقوقها، بل يتعيّن لإحراز نجاحاتها، اعتبارها، سببًا ووسيلة ومقصدًا، "وهو ما يتطلب من الشعوب الراغبة في التغيير ونخبها أن ترسم استيراتيجية بناء جديدة للدولة تكون التربية والتعليم مرتكزا أساسيا فيها وهي الثورة الحقيقية التي تنتج واقعًا جديدًا".

التربية والتعليم وهدف التوحيد

وتلفتْ "شمس الدين" لموضوعة التوحيد ذي الدينامية المؤثرة، في تأسيس أفراد محكومين في مدى سيرورتهم وتطوّرهم، للخالق، لا للمخلوق، بإبراز وتعميق العقل الواعي بالوجود، الناشد ضمن حريته ووعيه وفطرته المجبولة لله تعالى وكماله، وتقول بأن "الاستبداد يقوم على ركيزتين معاكستين لميزتي النفس الإنسانية الحرية والوعي وهما القمع والجهل" وتضيف "التربية وسيلة لتحقيق الربوبية التامة، من خلال تقليل فرص هيمنة المستكبرين واتخاذهم ارباباً، وتمكين سلطة الله ومحوريته في الحياة" وترى افتقار عقل الفرد للنضج، بحيث لايوازي حجم صراعاته الداخلية، وشيوع التعبّد السلبي كان متجذّرًا عبر التاريخ، ولايفتأ يغذّي الانحرافات والجرائم بضراوة.

مصادر المعرفة ودورها في تشكيل بنية التفكير

وفق منطق تحليلي وتصنيفي تعدّد، "مصادر المعرفة في المدرستين الإسلامية والغربية، والأدوات الفاعلة في ترويجها، وهي، العولمة والتكنولوجيا والإعلام والتراث والتاريخ بكل مصادره، تؤطر البناءات الفكرية للأفراد وتنسحب على القطاعات السلوكية والمجتمعية، وخطوات ضبطها وتصويبها وغربلتها تُلزمهم بعمليّة التغيير بمعناها المشترك.

وتعرض الباحثة، "لأنساق الدين، الاعتقادي، والطقوسي، والمجتمعي"، وتقول "إن الشكل والوظيفة الاجتماعية للدين، مرتبطان بفهم شكل المجتمع وتطوره التاريخي، فدراسة الدين من خلال المحتوى التاريخي تساعدنا على رؤية وظائف الدين، إما على أنها عوامل مساعدة لتماسك المجتمع وإما عوامل مثيرة للصراع وذلك تحت تأثير الدين كاتجاه محافظ أو ثوري وهكذا"

من جهة ثانية تبيّن صور التناقض المرئية، في مفهوم الدين وتطبيقاته، العاكسة لقراءة بعض المرجعيّات الفقهية المُراد منها تطويع النصوص، واحتكار الفهم، لتسير بإتجاه تأكيد رغبات السلطة، ومصادرة أفهام الأفراد وتساؤلاتهم، حتى ليبدون غائبين عنها حتى الإمحّاء، فتمثيل الدين كجوهر البناء المجتمعي المطلوب، يقتضي الاعتراف بحق الآخر في طرح الأسئلة والمناقشة والاختلاف، وإن انتمى لخارج المؤسسة الدينية في تخصصه الأكاديمي، وتشجيع مسيرة المتعلمين الجدد، وعدم الوقوف على الماضي كمقدس ومعيق في مجمل الميادين الفقهية. وتقول "الدين كمحتوى إلهي معصوم لا إشكالية حقيقية فيه، لأن أصل وجود الدين وتشريعاته، جاء لخدمة الإنسانية وإرساء العدالة"

الدين وظمأ الإنسان إلى المعرفة:

تطرح "شمس الدين" سؤالاً محوريًا، "ما هي حقيقة المعرفة، أي معرفة تلك التي تنظم حياة الإنسان وترشده للعيش الكريم؟" وتنتقد طرح "العلمانية" لدى بعض المنتمين للأوساط الفكرية النظرية، باعتبارها حلاًّ، لأنهم مدفوعين من تصوّر ضيّق يُخفي الآثار السيئة، إلى تلمسها بحمولاتها الثقافية والرمزية والهوياتية، دون مراعاة الفروق والخصوصيّة المميّزين لشعوبنا، وتعزو السبب "للتداخلات والتعقيدات المتشابكة والمتراكمة للمشكلات التي تداخل فيها السياسي بالمعرفي بالديني ليخنق الإنسان لا ليخدمه" وبالدراسة المتأنية المفصليّة لواقع تلك الميادين المتداخلة، المتكئة على فصلها وتمريرها في مصفاة النظر، لتبيين معايبها، واختراق أقنعتها، واعتبار الحقيقة مرهمًا لمداواة أمراضها لاحقًا، تقول "في ظل الفوضى وادعاء امتلاك الحقيقة لايمكننا زعم استحالة معرفة الحقيقة والحق، بل علينا امتلاك الجرأة والقدرة على مواجهة التحديات لمعرفة الحقيقة بقدر ما نمتلك من ادوات منهجية، فلن أدعي قدرتنا على امتلاك كل الحقيقة ولكنني اقول يمكننا الحصول على جزء كبير منها إذا قررنا ذلك" أما جماعات النخبة الدينية والفكرية فلاجتذابهم نحو رغباتهم، يمكنهم الحياد بمعارفهم لحساب مصالحهم الخاصة. بحسب رؤية "شمس الدين".

وتضع الباحثة مواجهة الذات كخطوة أولى للتشخيص وكشف الميولات والمحفزِّات والتأثيرات ومتعلقاتها، لتكييفها بحيث تتوافق مع النموذج الفطري الأخلاقي. وتوسّل أفراد مستقيمين "تتقدم معارفهم ومصلحة الإنسان على مصالحهم" لخوض معترك "المواجهة والإصلاح. وتحملّ جميع التبعات على المستويات كافة." وتُعلّق "شمس الدين" امتلاك تلك القدرة بدرجة واضحة، تعين في الإجابة عن السؤال المحوري المطروح. والحقيقة التي تؤكد عليها باستمرار "حاجة الإنسان إلى الدين كضرورة لا تنفك عن وجوده، فالإنسان بفطرته ينزع نحو المقدس، ويسكن إليه، المقدس للإنسان هو مصدر طمأنينته وسعادته"

الادراك المعرفي وأدواته:

تشير إلى ضرورة العلم بمناهج التفكير، أو بما اسمته العلم الطريقي، "الذي يدرس مناهج الفهم ويوضح العلاقة فيما بينها وبين تأسيساتها القبلية، ومن ثم بين هذه التأسيسات وبين الفهم" الناظم لطريقة فهم النص الديني، في العالم الإسلامي، الذي أفرز مدارس "كداعش" في تعاملها الحرفي المتحجّر مع المصدر الديني، "دون مدخلية للعقل أو للزمان والمكان، ومداورة لتلك النصوص وإعادة موضعتها فيما يتناسب مع معطيات الحاضر".

وفيما يتعلّق بعناصر التغيير الخارجي، توّضح شمس الدين أن "المرجعية المعيارية التي ينطلق منها صاحب المشروع، الخطوة الأهم في بناء أي رؤية ومنظومة، وتقصد بها مجموعة المعايير والضوابط التي تشكل مرجعية معرفية له على ضوء منظومته الفكرية وتؤسس لمشروعه لتشكيل البنى الأساسية التحتية التي سينطلق منها للبناء الفوقي."

ووفق ذلك تحدد مدرستين متغايريتن تتصدّران المشهد وتشكلاّن شرائح عريضة من الأفراد في كنه العولمة وتداعياتها المؤثرة في تشكيل مفاهيمنا ومنظومتنا المرجعية. وهما، المدرسة الغربية والإسلامية، وتقول "هناك اختلاف كبير جدا بين الحضارتين أو المدرستين وهذه الفروق تكمن في القاعدة والبنية الفكرية والفلسفية لكليهما، والتي على أساسها يتم البناء الفوق والانطلاق نحو كل العلوم والمعارف الفوقية."

وتستلهم "شمس الدين" أطروحة الشهيد محمد باقر الصدر؛ لارتباطها بالرسالة الحضارية، لتقرّر أن الصدر يكشف لنا في معالجته المجتمعية المتسمة بالأصالة والإبداع، عن جانب هام بالقياس إلى عمليّة التغيير الاجتماعي، فيقارن من أوجه متعددة مكونات المجتمع وعناصره، لدى المدرسة الغربية الثلاثية الأطراف الرائية للإنسان والطبيعة والعلاقة بينهما، والمدرسة الإسلامية التي تضيف بعدًا رابعاً وهو الخالق. ويحلل القواعد الفكرية التي تنطلق منها المدرسة الغربية، الحريات في مجالاتها الفكرية والدينية والسياسية والاقتصادية، ومعرفتها المادية المنشأ في الحس والتجربة، هذا التصور يتعارض مع المدرسة الإسلامية التي تضيف العقل والنص لمصادرها المعرفية، فيختلف المثل الأعلى بالتبع لدى كل منهما، ففي الحضارة الإسلامية، يكون الخالق هو المثل الأعلى.

تقول "شمس الدين" "يرتبط المجتمع ذو التركيبة الرباعية كله معرفيًا ومنهجيًا بالله وصفاته ومنهجه، فيكون هو الأصيل والإنسان هو الوكيل، أي خليفة ترشح عنه الأصول، ومستخلفًا يتلقى الأصول ويستخدم عقله وتجربته في قراءة تلك الأصول" وتضيف عن المجتمع ذو التركيبة الثلاثية " غيّب الله، فالإنسان هو محورها، ومصادر معرفته محصورة بالحس والتجربة، وهو مثل منخفض؛ لأنه هو من يضع المرجعية المعيارية فلا يمكننا الوثوق بموضوعيته، وتجرده، وصراعاته الداخلية، وتغليبه لمنافعه وعدم شمول رؤيته"

التعاطي مع مخرجات الحضارة الغربية

وترسم أطر التعاملات مع الحضارة الغربية، بما يوجب الحذر والتدقيق في معطياتها، وما يتدفّق عنها، فيما يتقاطع مع الأس الأهم وهو الخالق وتعاليمه. وقبول غيره فيما يسقط في خانة التبادلات العلمية، والانطلاق من الاحترام، والمماثلة المستقلّة لوجودنا، في مقابل وجودهم.

وتنتقل "شمس الدين" من إطار التشخيص المفهومي لمرتكزات الحضارتين، إلى مستوى البحث في عينات ونماذج حية، أي من البحث في تفاعلات "مفكرين غربيين منذ القرن السادس عشر حتى الثامن عشر، بدأت إزاء جبروت العهد الكنسي، وتملّك الإقطاعيين ومنها حركة الإصلاح الديني وحركة التنوير، والحركة العلمية والثورات الصناعية والسياسية، فهيمنت الفلسفة الإنسانية، لاستعادة دور الإنسان الذي تم تجاهله طوال العصور الماضية"

وحول تحقيق القانون هدف الاستقرار الاجتماعي المستديم، تقول "جوهر الاستدامة في الاستقرار الاجتماعي هو إحراز القانون للعدالة الاجتماعية، والعدالة لاتعتمد في تحقيقها على القانون والانضباط الاجتماعي فقط، بل تحتاج إلى الانضباط القيمي والمعياري والأخلاقي على مستوى الذات وهو ما يمكن تحقيقه من خلال بوابة التقوى"

وتحت مصادر التقنين، تقول "المرجعية الإلهية تنظم القوانين وفق أسس ثابتة وأخرى متغيرة وفق الزمان والمكان، تكون فيها الثوابت مرجعية لتلك المتغيرات، بحيث تشكل قواعد صالحة لكل زمان ومكان، وتكون المتغيرات في مصاديق تحقيق تلك القواعد الثابتة، وإن كانت كليات ثابتة مع تفاصيلها، فإن المحرك العملي هنا، قواعد كلية مرنة منتزعة من الشريعة، تعمل كمفصل مرن يجعل من هذه الثوابت صالحة لكل زمان ومكان، كقاعدة "لاضرر ولاضرار" على سبيل المثال"

وعن معيار الاستفادة من تجارب الآخرين البشرية الاجتماعية وما يتعلق بالتقنين، تشترط "عدم تعارضها مع القواعد الكلية للشريعة، ومع مقاصد الإسلام العليا، وتحقيقها لجوهرة القيم "العدالة" وعدم امتهانها لكرامة الإنسان ودوره الخلافي في الأرض"

وتعود إلى الشهيد الصدر من خلال السنن الاجتماعية وضوابطها، وتفصّل في أنواعها وتبيين مدخليتها في عمليات التغيير الاجتماعي، وتقول "تقدم السنن قوانين عامة تحكم مسارات التغيير، لكن حكمها ليس حكمًا جبريًا، بل إرشاديًا وقانونيًا، لكن القانون يعتبر قانونًا تكوينيًا، وليس تشريعيًا".

وتتعرض عند الحديث عن التغيير بين الفرد والمجتمع، إلى آراء المفكرين والمدارس العريضة حول أصالة الفرد أو المجتمع، وتنتهي إلى نقد دوركايم ورؤيته المتطرفة تجاه أصالة المجتمع، وتخلص إلى كون "المنطلق من الداخل النفسي الفردي، ومن ثم تتسع دائرة النفس لتبدأ تأثيرها، في الأسرة ومن الأسرة تتسع لتنطلق إلى المجتمع" وتقول "إذا غير في نفسه ولم يستطع التغيير في اسرته، ولا مجتمعه، للتضاد في الأفكار والاهداف والقيم والمنطلقات، فإنه يركز على اسرته، وإن لم ينجح فهو مسؤول هنا عن النأي بنفسه، ويكون عمل ذا بعدين لايخضع لسنن التاريخ التي تتطلب توافر بعد ثالث وهو الساحة الاجتماعية".

وتوّجه بشأن معوّقات عملية التغيير الاجتماعي، من "غياب الأسئلة الكبرى المشكلة للتفكير، وحب الذات من زاوية النظر لمعنى الخير والشر للأفراد، وموروثات الآباء والأجداد، والتنميط الاجتماعي للجماعات والأحزاب، وثقافة التقليد، وعدم وعي ضرورة التغيير."

وتستدعي للإجابة عن سؤال محوري مطروح سلفًا، أي معرفة للأختيار؟. حواضن المعرفة وفوارقها المدرسية المتواجدة، في، المذهب العقلي، التجريبي، الإخباري، الإشراقي، والاصولي، وترصد أدوات المعرفة وسبلها، وحقيقتها، وتحدد معالم المنهج السليم لإرادة المعرفة القائم على أسس: البحث عن المعارف على قاعدة الدليل والبرهان، التسليم بوجود ثوابت حقيقية واقعية وفهمنا لها ليس كاملاً، أو مطابقا للواقع بل تتغير الأفهام بتطور أدوات المعرفة وتكامل القدرات العقلية البشرية مع التقادم، ضرورة معرفة وظيفة العقل وقدرته والإيمان بالذات وقدراتها، ومعرفتها، والتعامل مع الآخر بغض النظر عن الظروف الخارجية، يتم التعامل معه من موقع الندية المعرفية لا الذوبان المعرفي."

وتبيّن أن "تحقيق الهدف من وجود الإنسان لا يتم إلا عن معرفة صحيحة، تدفعه لاختيار المنهج الاصلح، هذه المعرفة تطرح له عدة مناهج وطرق وأهداف، بالتالي يشخص هو بعد هذه المعرفة الأصلح من الأفسد ومن ثم تنبعث إرادته لاختيار السلوك المناسب وتطبيقه في الواقع الخارجي، لتحقيق هدفه والوصول إليه" وتحذّر قائلة "الاتباع والتقليد القائمين على المألوف الاجتماعي أو جبره على الانتماءات العصبوية بكل أشكالها، يحولان الإنسان إلى مقلد فاقد للاختيار، وهو ما يجسد يوم القيامة بقانون البراءة، حيث تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا، ولا يبقى آصرة حقيقية تربط الإنسان بالآخر إلا آصرة المعرفة المرتبطة بالنوعية والأدوات"

الفصل الثاني: الإصلاح ومعوّقات النهوض

تكشف "شمس الدين" عمّا يصاحب الحراك التغييري في تاريخ البشرية الطويل، من "إشكاليات تتمثّل في: غياب النزعة النقدية، والتخلف والاستبداد، والارتهان السياسي واعتبارات القداسة" ومن بداهة حدوث التغيير المعبّر عن إمكانات لامتناهية لمسيرة العقل الإنساني، نضير الحياة المتجددة، وتطوّراتها، توضّح الأبعاد الثلاثة التي تتموضع عليها حركة الإصلاح، "البعد الذهني الذي تتشكل فيه الأفكار المرتبطة بغايات الإنسان، والواقع ومتغيراته وأحداثه، والسلطة (دينية، سياسية، ثقافية، فكرية) ودخالتها في تشكيل الواقع".

ويكتسب النقد لدى "شمس الدين" دلالات متعددة، منها ما يحمل "دلالة إيجابية، تنزع للوصول إلى الإصلاح في المنظومة الفكرية والمعيارية والقيمية للفرد والمجتمع، والمنهج والأدوات وآليات القيادة، الأفراد والجماعات والمجتمع، والقيادة بكل مصاديقها" كما يدل على "السلب" عندما يُراد به استعمال الوسائل النقدية الممكنة لمجابهة الحركة الإصلاحية، فالاستقلال والتمتع بحرية الفكر والخروج من حالة القصور والعجز عن استعمال الفهم، هو المعنى القوي الذي تلمح إليه كظاهرة في "المجتمعات الإسلامية، وخاصّة العربية والخليجية"

وتقرن في حديثها عن "الاحتياجات الفطرية للانتماء للجماعة" في المجتمع العربي والإسلامي، بمسائل "الأحزاب والقبليّات والسلطات" التي تقع في صلب رهانات "العنصريات" بإعتبارها مشغلاً مؤججًّا بالصراعات الصعبة، في مدار السياسة والدين والأعراف، لتدّعم وجود الأمة منطلقة من" فكرة التوحيد القرآنية، وتوسعتها، لتعميق مفهوم التعددية المذهبية، تحت شعار ومحور التوحيد "لله تعالى" وبدورها تخرجنا في مجتمع تعددي من المظلة الأيديولوجية المذهبية، إلى المظلة التوحيدية التي تتناسب وعالمية الامة الإسلامية" وترى ضرورة الطرح التكاملي في توجهات الأحزاب الإسلامية، بحيث تنبني في أدائها ومناشطها، على إلغاء الحدود الموضوعة لاكتساح السياسي للشأن العام، بتفعيل الثقافة والفكر المؤديان للتكوين الشخصي والتشكيل المعرفي للقدرات الشمولية.

وبعد توصيفها لأشكال الحكومات وما ينبغي مأسستها عليه، تنبّه فيما يخص "الإصلاح بين الأنظمة السلطوية وشبه السلطوية"، على وجود نظام يضمن للسلطة مجالات من الحظر، لايجوِّز مسّ مكانته، وتقول "إن الدول التي اقرت دساتير في منطقتنا هي دول شبه سلطوية، يتطلّب التغيير السياسي فيها للعبور نحو الديمقراطية المحققة للعدالة، والمناسبة لقيمنا وثوابتنا، فحركة الإصلاح مقدمتها الطبيعية، خضوع تلك السلطة للنقد والتقويم، وهو ما لا يتحقق إلا إذا امتلك أفراد المجتمع والشعب وعيًا بمنظومة المعايير والحقوق"

وتحدد ملامح "المنهج التعطيلي التوقيفي" في الخصوصيّة المشهدية للمجتمعات العربية والإسلامية، السائد أمام حركات الإصلاح، في "التربية على تقديس الرموز بطريقة غير عقلية، تمنع الفرد المستهدف من توظيف قواه العقلية بطريقة سليمة، ومنع النقد وتعطيله بحجة التكليف والقداسة، التي تمنع كل محاولة تقويم، ولا أنكر وجود التكليف في كثير من المسارات، ولكن أنكر توظيفه بما يشل قدرة الإنسان على التفكير والاستقلال في القرارات المتعلقة بمصيره وعلاقته بالله، ومنع التدوير الوظيفي والموقعي، فتعطّل طاقات الشباب، أو توظف بطرق غير سليمة وتبدأ عملية الانتكاس العكسي، وهنا يأتي دور النخب في قيادة المجتمع نحو حراك وعي"

أما "منهج النقد" المعادٍ للوثوقية المعلّبة، والمناويء للاستبداد بشتّى صنوفه، اجترحت ممارسته عند البعض مسالك خاطئة، تمثلّها "شمس الدين" ب "الصدامية من خلال الألفاظ المستخدمة، والتخوين الممارس بحق الآخر، ونقد من قال وليس ما قاله، وعملية النقد للرأي غالبًا شعبوية، لا تحمل مقومات النقد العملي، وتصدي من ليس أهلاً للنقد، والاسقاط الاجتماعي إما للناقد وإما لصاحب الفكرة"

وتُبيّن مظاهر الاستبداد في سلب الحرية تكون "على مستوى الدولة، و في الأسرة بفرض رأي الوالدين على الأبناء، وقمع آراءهم، وفي المجتمع، عندما يحاول الفرد ليصبح مستقيما فيما توارثه من عادات تخالف الدين والعقل، لينتهي معزولاً بسلطة القوانين الجائرة، و بإشاعة الخوف عبر الاعتقالات التعسفية، وبخروجه عن الثقافة التلقينية، وبتحكم السلطات بجهاز الإعلام لإشاعة وعي زائف يعارض صحوة الأفراد و بإهمال العلوم الإنسانية والفلسفية والمنطقية ذات المنزع العقلي الناهض، و بإدماج مؤسسات المجتمع المدني بما يخدم أجندات السلطة، و بتشويه جماعة المعارضة على مستوى الإعلام والقضاء، و بمشاريع تجارية ذات أهداف موهومة لاستنزاف أموال الأفراد، و بتطويع المناهج التعليمية في جانب العواطف غير المتزنة مع معايير التفكير".

وتُشير إلى المجتمع المقهور ومواجهة التجديد، هذه الصورة الجامحة "للمجتمع المقهور" لتفادي حالة الإنفصال، التي بررّت الاتصال مع "الواقع الاستبدادي الخارج"، فتتخذ ولافتكاك المسلوب منها، الوجهة التعويضية، بما يهيأ لها الانتماءات الواهمة، من شأنها أن تبرز خاصيّة أساسيّة، في التعاطي السلبي مع المشاريع التجديدية، فإذا كان الانفصال يحقق الدلالة الثورية في مجاوزة الحالة التقليدية نحو نظام تقدمي، فإن تماهي تلك المجتمعات مع الاستبداد ، يشكّل شرخ مباغت، وطفرة عليلة في جسد الحراكات، "من خلال عدة طرق أهمها: انشائها شبكة علاقات مع المتنفذين في السلطة ومع المستبد لضمان تحقيق حاجاتها الخاصة، تدفع بعض أفرادها للانخراط في السلطة، لتحقق بنفوذهم ما تريد، المصاهرة وخلق شبكة أنساب مع المستبد ومحيطه واستغلال ذلك لتحقيق نفوذ أو مطالب معينة. هذه طرق يمكن من خلالها للجماعات المنكفئة على ذاتها تحقيق وجودها بشكل محاصّة قبلية لاتمت إلى الدولة وبنيتها بصلة"

تطلّ "شمس الدين" في "التقليد ودوره في صناعة التخلف والاستبداد" على القناعات المثبتة والعادات المتوارثة، فمن شأن الاشتغال على التربية المتسلطة كبت الإرادات وحجرها، في القلاع الأبوية المحصنّة، ليصبح الأبناء وعلى قدر اتساع تلك العلاقة، في تقلّص للمساحات الفردية، فخطاب الطاعة العمياء، يسلب الأبناء حقهم في تكوين وعي مفارق لإملاءات جماعة الآباء، فيُغبنون، في النماذج والمفاهيم المؤولة بما يتماشى، والمطابقة مع رمزية الأب، تقول "فيصبح من مقومات العيش الكريم، امتلاك الأموال، مقابل الولاء الكامل للمستبد، وامتلاك الأموال والرفاه المبني على العطاء المشروط، وإحراز منصب متقدم في السلطة، شريطة القبول بها، حتى لو كانت متعسفة، والحصول على مميزات وظيفية مقابل التعامل مع المستبد، وإمرار مشاريع فاسدة له من قبل هذا الشخص، من موقعه الوظيفي لتنفيع أصدقاء له بصفقات غير مشروعة"

في البدء والمنطلق

تُجسّد رؤية "شمس الدين" للبداية الإصلاحية، لحظة لقاء بين عالمين، عالم القول، وعالم الفعل، ففكرة المزواجة بينهما تبقى واسطة عقد في اختبار صدقية المصلحين، وجدوى دعواهم، في ردم فجوة التقابلات الحادة بين ما يدعون الغير إليه، وحقيقة امتثالهم له، فنبرة إصلاح الخارج يتعذّر تحصيله دون البدء من الداخل، حاضرة بكثافة في تنظير "شمس الدين" في هذا الكتاب. وتربط بين خطين متوازيين في المنهج النهضوي الإصلاحي، "الأول، البناء الداخلي للإسلام وسبر أغوار الإشكاليات التي اعاقت إبرازه كحضارة ونهضة مستديمة، في سيرورتها التاريخية واكتشاف نقاط الضعف ونقد الذات من موقع المتمكن، والمعتز بهويته الإسلامية، لا من موقع التابع والمنهزم، ومستفيدا من الحضارات الأخرى، وتجاربها في النهضة والإحياء، ويتطلب ذلك تفكيكا بنيويا داخل ديني ابستمولوجيا، نشخص من خلاله أهم مكامن الخلل المعرفية في إبراز معالم النهضة الإسلامية، بالاعتماد على قراءة تجارب مصلحين سابقين، والثاني، البناء الخارجي المتعلق بالحضارة الغربية والعوامل الخارجية، المؤثرة في عملية التغيير والاطلاع على كل اسهاماتها، وثمارها اطلاعًا علميًا لا تابعًا، ناقدًا لا مستسلمًا، مستفيدًا لا مستنكفًا، مدركا الفروق الجوهرية ومكامن خلل الاسقاطات والمقايسات بينه وبين حضارات أخرى" .

وتتعرّض لمفهوم الإصلاح، بمعنى "التنظيم والترتيب، وهو حركة تحدث تغييراً نحو الأكمل، أي حركة ديناميكية مستمرة، والمصلح هو الشخص أو المجموعة التي تقوم بعملية التغيير نحو الأكمل" وبعد معالجة أسباب "عدم التناغم بين عدد الشعارات الإصلاحية المرفوعة ضمن المطالب النهضوية، وبين غاياتها على ارض الواقع"، وعدم وضوح العلاقة التلازمية بينهما، بحيث يؤسس الشعار لمفهوم النمط الإصلاحي المُراد، ويدل تمتع الأفراد بهذا الفهم على نجاح الشعارات المرفوعة، تبيّن اختلاف أهداف حامليها، بين الذاتي، والسياسي، واختلاف مدارسهم المنتمين إليها.

وبعد مناقشة "دور القداسة الشخصية واعتباراتها الدينية والفكرية، في دفع مسيرة الإصلاح أو منعها" تنتهي إلى اعتباريّة تأثيرها، لتضع اتجاهات لمعالجة جذور تلك المشكلة: الأول "تفكيك الخطاب الديني، لإعادة بنائه دون التنازل عن ثوابته، ثم صياغة خطاب ديني تعايشي ليس تساهليًا، يضع الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على حروف مقتضيات الزمان والمكان، وجعل الفتوى، في خدمة البحث الفكري ومواجهة الشبهات القادمة مع العولمة، وإنكار سلطة استخدامها بما يجعلها نوع من الإرهاب الفكري المؤسس على تقديس التراث والنص دون إعمال العقل" و الثاني "إعادة إنقاذ النزعة الإنسانية للدين"، و الثالث "إعادة إنتاج خطاب الإعلام، على ضوء ما سبق ليتخلص من رواسب التعصب باسم الدين"

ترصد "شمس الدين" حركة الإصلاح في إنتاج المعرفة الدينية، من تجارب المصلحين، وتأثيراتهم في مجال الحياة الواقعية في سياق تصدّيهم للإصلاح وبناء أشكال مختلفة من تجليات الوعي الديني، وتُعّدد أبرزهم "الشيخ النائيني، والسيد محسن الأمين، والشهيد الشيخ مرتضى مطهري، والشهيد السيد محمد باقر الصدر، والإمام الخميني، ومحمد عبده، وحسن البنا، ومحمد اقبال، وجمال الدين الأفغاني، ورشيد رضا، وآخرين." و"دور الوعي بالفارق، حافزا للسؤال عن سر التقدم الغربي كما عند رفاعة الطهطاوي، ودور الهجرات من الشرق إلى الغرب" الذي أوقف بعض الاعلام الوافدة، على إطار التحديث والمعاينة المبهرة المتفّوقة بأشواط عن محيطهم العربي، وكانت بمثابة محّركات للإعجاب وبواعث لمحاكاة الغرب، ولا تحصر قيام حركات التجديد على تخوم تلك الفترات التاريخية، بل ظلّت دائرة ومتعاقبة تحت مسميّات عديدة.

وتذهب "للمدارس التي برزت في الساحة المعرفية كردود أفعال في التعامل مع الثقافة الغربية: المدرسة السلفية، والحداثية، والتجديدية، والترقيعية، نتيجة للجدلية التي نشأت بين ما هو عليه راهن المسلمين وفهم الدين وبين المطالبين بالتجديد" وفي الحقل الديني، استعان المنادون بالتغيير، لإجلاء الدين من الفضاء التقليدي المتصلّب، وإعادة ترتيبه وعصرنته، بما يستجيب للتحديّات، عبر "مناهج المؤسسات الدينية، وبلورة رؤية إصلاحية، تحاكي الماضي، وتراكم عليه بالجديد والأصيل، وآليات التدريس الديني، وتطوير النظم الدراسية، وإعادة النظر في طرق الاستنباط الفقهي، وتجديد الاجتهاد لكي يغطي أكبر مساحة من الحياة بجميع مصاديقها، والفهم وأثره في بلورة الفكر الديني والنظرية الإسلامية"

الجبهات التي واجهها الإصلاحيون

وبقدر ما تشكّل التحولاّت والنقلات المعرفية، لحظات في مؤشر التميّز والانعتاق، وعلامة اعترافية على التقدّم في البصيرة، المغيّرة في مدى النظر ومألوفاته، فإنه يطرح في الوقت نفسه مشكلات ليس اقلّها تحدّي جبهات، تصدّ الوصول بإتجاه نجاح المشاريع التجديدية، ولا يغيب عن "شمس الدين" توصيفها، "جبهة داخلية تمثلّت في اختلاف الرؤى المطروحة، للإصلاح، لاختلاف الاهداف والغايات، والآليات، ودخول جدلية الأنا على خط الخلافات. وخارجية تمثلت في جهتين، التقليديون من العلماء والمتدينين الإسلاميين والمثقفين، والأكاديميين، والجماهير والعوام من الناس، وتحول الطرح العلمي إلى احتراب شخصاني، أطاح النظريات والحوارات العلمية من خلال قتل طارحيها اجتماعيًا، وفي داخل المؤسسة الدينية وإقصائه عن دائرة الحضور الاجتماعي والعلمي، مما أثّر على عملية الارتقاء العملي والفكري، ونشر ثقافة الخوف بين صفوف المصلحين وحدا بتخلف الكثيرين عن ثقافة الاختلاف والرأي الآخر، وإحلال بديل له وهو الإرهاب الفكري".

وتشكّل سمات "المشروع الناشد للتجديد والإصلاح الديني" واحتياجاته ب "مشروع توعوي يركز على جانبي الفكر والعاطفة، ويعالج المغالطات بطريقة مرحلية ومنطقية، مع طرح بدائل، والارتقاء التدريجي بوعي الجماهير، وطرح الإصلاحات خصوصًا، فيما يتعلق بالشعائر الدينية، مع تقديم البدائل، وتبسيط اللغة في الخطاب، والابتعاد عن الشخصانية في الطرح العلمي الجاد، وإصلاح الأفكار لا الأشخاص، وفصل السياسي عن السلطة ونخبها وفقهائها، ومشروع إعلامي قادر على محاكاة الجماهير، وفق خطة فكرية مدروسة تستطيع إحداث تغيير مفاهيمي، والتنسيق الفعلي بين المطالبين بالإصلاح في الفكر الديني والاصلاحيين الحقيقيين المنطلقين من فهم واع يحافظ على عنصري الأصالة والخلود"

وتطرح "شمس الدين" سؤالاً "هل الحاجة إلى التجديد في الفكر الديني تعني وجود نقص في الدين؟" لتجيب، بقصور العقل من ناحية النظر في وصوله إلى جميع الحقائق والمسائل وإدراكها، ودلّلت على صور التباساته، ومحدويته، بالاكتشافات والنظريات العلمية التي يتم التخلي عنها لاحقًا، لتبيان خطأها وعدم جدوها، بعد عمل العقل عليها وإقرارها مسبقًا، وبالتالي هو محتاج إلى خالقه لقدرة أحكامه ووصاياه في تحقيق السلامة النفسية والمعيشية، وضمان سيره بالاتجاه الصحيح، مما يعني أنّ "القصور ليس في الدين كتشريع وكأفكار واقعية." وتؤكد الحاجة لتجديد الفكر الديني، بالوسائل الخادمة لمجرى الزمن، ومقاصدها النهضوية، الصادرة عن إرادة لتحرير العقل من الانصهار التام في الحضارة الغربية، لتكوين الذات المتوازنة المستقلة المقيّمة لما يُطرح من الأفكار الوافدة.

وفي الفصل الثالث، حول الإعلام ودوره في التغيير وحركة الإصلاح

تعتقد "شمس الدين" بدور الإعلام الإيجابي في عملية الإصلاح والتغيير، كما عرفته أقطار الربيع العربي من ثورات، ومع ذلك فهو مرتبط بالعناصر القيادية والأبنية والتفاعلات السياسية، والغرب بوصفه مصدر القوة الإعلامية، فقد شكّل عقبة في نجاح الثورات والتخلّص من السلطات المستبدّة لتحقيق الممارسة الحقوقية العادلة على أرض الواقع.

ومن مداخل نظرية عديدة مُفسِّرة لنشاط التأثير الإعلامي على الأفراد، مثل وسائل الاتصال كإمتداد للحواس، بإعتمادها ثلاث مقدمات، الوسيلة هي الرسالة، والحتمية التقنية، وتقسيم وسائل الإعلام إلى باردة وساخنة، الوسيلة هنا هي الأصل، ومن يتحكّم بوسائل العصر، يهيمن على كل ما تحتها، و"نظريات التأثير القوي، واجتياز المجتمع التقليدي، والتقمّص الوجداني" تنفذ "الباحثة" إلى علاقته القوية الإيجابية أو السلبية في عملية التغيير.

وتطوّر قطاع الاتصالات والإعلام في النظام العالمي، ذو علاقة وثيقة، مع أهدافه وغاياته، في تعزيز الهيمنة، وتدجين الوعي، تكشف "شمس الدين" عن محددات نفوذها وتغلغلها، على مراحل وهي: مرحلة التمكين، وتقول "عبر بناء جسور الثقة بين السلطة والجمهور بالتركيز على صدقية الحدث، ومن ثم احتكار الحدث والخبر والإعلانات، من خلال المنظومة الرأسمالية" وتسلّط واحتكار فئات محدودة على التكتلات والمؤسسات والرساميل العملاقة، داخل الحوزة الأمريكية، على السوق العالمية، لأهداف تخدم الاستعمار الجديد بناتج الاتصالات الثقافية.

وتضيف "ورسم شخصية نمطية مدروسة، كمنوذج تُحاك وفقه الشخصية الغربية دون وعيها، بما يتناسب وثقافة الاستهلاك وتشيّء الإنسان؛ ليتناسب مع خطتها التسويقية، فأنتجت له حاجات وهمية وقدمتها كحاجات ضرورية وحولت نمط حياته الخلاق بالفكرة، إلى شخصية ذات بعد واحد لاتفكر، بقدر ما هي تنكفيء على ذاتها، ورسخت في ذهنه ثقافة الغلبة والاستعلاء على الشعوب الأخرى، وحق قيادتها تحت شعارات الديمقراطية والحرية الزائفين"

و"مرحلة الاستيلاء"، وفيها امتدت البنية الاستعمارية بفعل العولمة الإعلامية، إلى المناطق الإسلامية، وخططت لنسخ النموذج الغربي وتطبيقه على الشخصية الإسلامية، بتنميط وسائل الحياة وطرقها، وفق مصادر الاستغلال القائمة، على هدم جميع تركات الشخصية المسلمة، عقيدتها ومقاومتها وحضارتها، وتصف "شمس الدين" واقع أغلب المجتمعات المسلمة بالرثّ، ومعتقداتهم بالهشّة، في ترسيخ مفهوم ثقافة العيب والحرام دون دليل وثقافة الجبر العقدي والمسلمات غير المنطقية، وبدعم من التحالفات المستبدة.

وعن تأثيراتها التضليلية في المصطلحات، التي واكبت أحداث سبتمبر، والحملة على الإرهاب دون توضيح ماهيته، تجد "شمس الدين" استعداء واضح لثقافة الرفض والممانعة، بخلطها بمفهوم الإرهاب، وتقسيم العالم إلى محورين، محور الاعتدال ومحور الشر وخلطه بدول وحركات المقاومة.

وحول "مرحلة التجهيل بصناعة الوعي"، تقول "شمس الدين" "تحت ضربات العلمنة، تم بناء وعي جديد تحولت معه أغلب المجتمعات العربية إلى ما يشبه المجتمعات الغربية، بعد تكريس ثقافة الانهزام النفسي في وعي العربي، وغلبة الغرب كفهم قهري غير قابل للنقاش، واستيراد مفاهيمهم حول الدين ونظام الحكم لتلبسيها لعالمنا المختلف الهوية، بأنماط متنوعة من وسائل الترفيه التلفزيوني والسينمائي المؤدلجة" وتُرجع سبب ظهور مشكلات معقّدة تكتنف الهوية الإسلامية من غياب ملامحها، وتسطيح أبعادها الثقافية، وانكفاءاتها، وتوجيه بؤرة الاهتمام للصراعات الطائفية، وفتاوى التكفير واللغط الكلامي، لأثر طويل الأمد من التلقين المعرفي المدبّر.

وتقارب التأثيرات الإعلامية في هذا الفصل من منظورات كثيرة، وتقدّم قراءة في واقع الخطاب، وتضع في النهاية الحلول المرجوّة فيما يتعلق بعلاقة الإصلاح والتجديد بالمتغيّر الإعلامي، بصورة مفصلة نستخلص منها:

"مواجهة الذات ونقدها داخليًا وخارجيًا، بناء منظومة معرفية منتجة، على مستوى الواقع والفعل الاجتماعي وساحات العقل، خطاب استقطابي مؤسس لثقافة المقاومة، مظلة المقاومة الجامعة التي تعمق من حالة الرفض للعبودية والهيمنة وتؤسس لقيمة الحرية كقيمة غائية تحقق قيمتي العدالة والكرامة، اختراق ساحات الغرب إعلاميًا عبر الأدوات والمنهج نفسيهما ولكن وفق مبدأ الصدق ونقل الواقع كما هو وكشف الحقيقة بلغة المجتمع الغرب وأدواته، المهنية العالية في أداء المهمة الإعلامية، تطوير فقه للإعلام والسينما، وجعله أولوية ضمن قائمة الأولويات في التشريع المعاصر".

نتائج وتقويم:

- قيمة الكتاب تظلّ في كونه يُعالج منظومة التغيير والإصلاح، في أفقها الواسع من حيث تحليل المشكلات وماهيّتها  وتفكيك العوائق ووضع الحلول الجذرية لها، وتتبنى الباحثة من خلاله ضرورة التجديد في المجالات الدينية والسياسية والإعلامية، بما يتوافق مع القيم والثوابت.

- تؤكد الباحثة على كون التغيير والتجديد ينطلق من الذات والإرادة، ويبدأ بالفرد ليكمل مساراته في المجتمع، وارتباطه بجهات مستهدفة سياسية، دينية، فكرية، إعلامية، تحدد الآلية الخاصّة الملائمة لكل جانب.

- الروح الرساليّة والإرادية ل "شمس الدين"، تجعلها تميّز بين التغيير كنهضة حقيقية منبعثة في البنيات الذاتية والخارجية، أو كردود أفعال على الرغم مما ينطوي عليه الأخير بالضرورة، من تجديد وقلب ولعله قلب للأشخاص مثلما أشارت، لا للمنظومة المعيارية القيمية ككل، فحيثما يكون أتباع التغيير الموضوي والعشوائي مدموغين بالشعور بالظلم والحراك ضدّه، فإن الثورة لديها ليست مسألة شعور بالحاضر المرّ المنفلت في تراجيديته، وإنما مشروع له أصوليته وعوامله ومنطلقاته.

- تبدع الباحثة في الغوص الاستقصائي الدقيق، بمجهود تؤسس فيه لمشروعها النهضوي النابع من رؤية عميقة، وبإعتماد عدد هائل من العناوين العديدة الأصلية والفرعية.

- قدرة الباحثة وفطنتها السيسولوجية، في تحليل الحركات الإصلاحية بتناولها لعيّنات من المصلحين وتفصيل أسباب الإخفاق وسبل النجاح، مما يجعلها ملامسة للوقائع، في مقاربة تنزّلت بها من فضاء المفاهيم الجافّ نحو تلمّس جوهر الظاهرة بواقعية.

- تشتغل الباحثة، بالحسّ النقدي التحليلي، في مواجهة معوّقات التغيير، وجبهات الصدّ في جذور المسارين الديني والسياسي الاستبدادي.

- تميّز "شمس الدين" بين اتجاهات عديدة للمدارس الفكرية والدينية، وتجعل للمعرفة والمناهج السليمة الدور الأساس في الانتخاب الصحيح بينهم، أي في الاعتماد على الوعي والنقد والتحليل والمقارنة وقراءة الحاضر، الأمر الذي يُحسب لها في جعل الحرية الفكرية للفرد أساسًا في ذلك، ويُبرز في تصورّاتها ذاك القدر الكبير من الحجية البرهانية.

- تنبّه "شمس الدين" في التعاطي مع الحضارة الغربية، بعدم الغفلة عن الاختلافات المرجعية، وتباين الهويات، وخصوصية الثقافات والمجتمعات، والوقوف إزائها من منطلق القوة، والاستقلال، والإفادة منها ومن التجارب البشرية الكونية، بشرط عدم مخالفتها مع القواعد الكلية للشريعة وكرامة الإنسان.

- وتؤكد "حاجة الإنسان إلى الدين كضرورة لا تنفك عن وجوده، فالإنسان بفطرته ينزع نحو المقدس، ويسكن إليه، المقدس للإنسان هو مصدر طمأنينته وسعادته".

 

قراءة وتقويم: ألباب الخليفة

  

فوضى الحياة في: مدينة.. تأكل أولادها

التفاصيل
كتب بواسطة: رحمن خضير عباس

رحمن خضير عباسعن مؤسسة الرحاب الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع في بيروت. صدر للكاتب المغربي شكيب أريج كتابٌ بعنوان مدينة تأكل أولادها. وقد وُصِفَ المؤٓلَّف ب " الكائنات القصصية" وكأنما أُريد من ذلك إعفاء الكاتب عن مهمة التصنيف من الناحية الفنية، وترك ذلك للمتلقي، ليتلمسَ بنفسه هوية العمل وتصنيفه، على أساس السؤال الذي يُلّح على القارئ:

هل (مدينة تأكل أولادها) مجموعة قصص قصيرة خضعت لهذا العنوان ؟ أم أنها فصول مجتمعة تكوّن بمجملها رواية تحت هذا الاسم الذي أشرنا إليه ؟

لذلك فحينما تتصفح الكتاب، نقع في حَيْرة التجنيس، بين الرواية أو القصص القصيرة.

وذلك يرجِع إلى الشروط المتعارف عليها في العمل الروائي، الذي يتكوّن عادةً من مجموعة من الفصول، تساهم في نمو الاحداث وتناسقها أو ترابطها. وهذا ما لم نتلمسه في هذا العمل. وذلك لأن قصة (الحلقة) منفصلة عن السياق العام للمجموعة، لها بناؤها القصصي المستقل عن بقية متون النص. وكذلك يمكن القول عن قصة (رجل الجريدة والعمود).

فاذا افترضنا أنها مجموعة قصصية. فينبغي أنّ كل قصة منها تكتفي بذاتها ومضمونها وأبطالها ولا تترك النتائج للقصص الموالية، لذا فمفهوم المجموعة القصصية لم يتوفر في بعض النصوص التي أكمل بعضُها بعضا، من حيث العقدة والشخوص. وكأنها فصول لرواية واحدة. وذلك لنمو الفعل الروائي من فصل لآخر، وإعادة نفس الاسماء مثل عبيقة وعبيروش ومبروك وعلال التنس.

يبدو أنّ هذا العمل الأدبي اعتمد على ترك الاحداث والشخوص تتحرك وتتجول بين متون النص، تحت فضاء مدينة هائلة وقاسية تعتصر أبناءها في لوحات سردية، تقرّبنا من أسلوب (الكولاج) القصصي، والذي يعني عملية انتزاع بعض الحوادث السردية، والتي يُفترض أن تكون في هذا الفصل / القصة، ولصقها في قصة أخرى. أو محاولة توزيع المتن القصصي بنصوص مجتزأة، كي تتبعثر الصور الحكائية في مساحة اللوحة. ولكنها تبقى ضمن إطارها العام. وقد شاع أسلوب الكولاج في الفن التشكيلي. وأعتبر في وقته نوعا من التجديد للفن الكلاسيكي الذي عرف فترةً من الركود في بداية القرن العشرين.

وكان من رواد الكولاج والتجديد في قواعد بناء اللون الفنان المعروف بيكاسو. ولكن أسلوب الكولاج الذي أدهش المتلقّى وأثرى الفنون التشكيلية، قد لا يكونٓ ملائما للرواية أو القصة، اللهم الا في حالات معيّنة، يصل فيها الكاتبُ إلى التخمة في الكتابة التقليدية، فيضطر إلى كسر القواعد المعمول بها. وانتهاج أساليب روائية أكثر حداثة.

لكنّ التحرر من السياقات المألوفة، قد يجعل الكاتب في مواجهة مغامرة فنية غير محسوبة النتائج في التجربة الإبداعية.

في قصة الحلقة يتألق الكاتب شكيب أريج. فيصف لنا حلقات الحكواتي. مركّزا على عنصر التشويق لمعرفة السر الذي طرحه في حلقته. والذي يتمثّل في تحويل الحمار إلى حرير، لقد استطاع الحكواتي أنْ يصنع هالةً من التشويق والفضول بين الناس الذين تجمهروا لمعرفة نتيجة هذه المعجزة. ولكنّ صاحب الحمار وضع شروطا لهذا التحوّل المستحيل. هذه الشروط تتمثل بمحاولة تجسيد المدينة، ووصفها وتأمل زواياها وأسرارها، ومعرفة أهلها وطبائعهم.

فيبدأ بالحديث عن الناس الذين يؤمّونَ المدينةَ ويفترشون طرقاتها واسواقها، للبحث عن العيش والعمل. يتحدث عن بنية المدينة وما تحتويه من مستشفيات بائسة، يتحدث عن شوارعها وأرصفتها وشبابها الذين يعانون من الفراغ والبطالة. يتحدث عن طقوس أهل المدينة في أفراحهم ومناسباتهم، عن وسائل نقلهم ولهوهم، عن طوابيرهم المصلوبة على شبابيك الانتظار في مراكز البريد والمصارف والشرطة والصيدليات. يتحدث عن الأبخرة والسيارات والدراجات الهوائية، عن المتسولين والسكارى والعمال والفلاحين وبائعات الهوى.

وبعد أن يتحدث الحلايقي عن كل زاويةٍ من زوايا المدينة، وعن أغلب مظاهرها.

يستخلص نتيجةً مفادها:

" ها هو الحمار صدقوا أو لا تُصدقوا.. صبركم وحده لو تدرون كفيلٌ بتحويله إلى ذهب " وهذا يعني أن التحوّل، هو أن لا يرى الانسان الأشياء بعيون غبية،غير قادرة على التحليل والتشخيص، وإنّما بعين الوعي والإدراك.

لقد استطاع الكاتب أنْ يشحن هذه القصة بطاقة هائلة من التشفير اللذيذ، والرموز الثرية التي تمتلك كمّا هائلا من القدرة على إدراك الواقع وتشخيص عاهاته.

واختزل المدينة كلها ككيان اجتماعي واقتصادي في حلقة للفرجة التي يمتزج فيها الجدّ بالهزل، وحيث تتكون المدينة/ الحلقة من زحام بشري، (يُمغنطه) الفضول والإنصات وانتظار الإعجاز. دون أن تساهم هذه الوجوه المزدحمة والساعية إلى الفرجة المجّانية، الوجوه الخاملة والكسولة، غير القادرة على رفض الخرافة، أو السعي إلى الاحتجاج على منطقها المنحرف. تظلّ هذه الوجوه متلونةً بفداحة جهلها، حتى تجعل من هذا الحكواتي الذي استطاع أن يستقطب فضولهم أن يعلن لهم:

أن عمل المستحيل (تحويل الحمار إلى حرير) يكمن في وعيهم وبصيرتهم وإدراك حجم المخاطر التي تحيط بهم. هذا الوعي والقدرة على التمييز،هو المعجزة الحقيقية.

لقد استخدم الكاتب تقنية قصصية متداخلة ومتشعبة. من حيث ثنائية السرد، الذي يأتي مرّة على لسان الحكواتي ومرّة على لسان السارد، وتداخل الأصوات بينهما، حتى يجد القارئ نفسه أمام رؤيتين لمشهد واحد.

كما نجح في تسخير كل أدواته الكتابية، لينفذ إلى روح الحلقة كتراث حكائي فولكلوري، تمتزج فيه أنواع متناقضة، كتجسيد العبر من التراث. وبثّ الحكمة والموعظة. وتلفيق الحكايات الماضية ومحاولة مسرحتها، وتقديم الطرائف والألغاز والأحاجي التي يمتزج فيها الواقع بالخيال كما تمتزج الحقائق بالأكاذيب، ويستلّ منها جملة من الرؤى والأفكاروالمفاهيم والقيم، ليبثها في هذه القصة الجميلة فنيا والثرية فكريا.

قصة (رجل الجريدة والعمود) ذات بعد تجريدي بالمعنى الفني، بمعنى تجريد ما هو محيط بِنَا عن واقعه وإعادة صياغته برؤية فنية. تتداخل فيها الالوان والمشاعر والرؤى المختلفة. الرجل كان مريبا بالنسبة للآخرين، غير منسجم مع المشهد المحيط به وكأنه توأم للعمود الذي يضيء العتمة في الليل، ويبقى دون إضاءة طيلة النهار، والرجل شبيه بالعمود، من حيث السكون وعدم الفعل الحقيقي.

فهذا الرجل الغامض، والذي يجلس وحيدا كل يوم وفي نفس المكان، يقرأ الجريدة ويراقب حركة الشارع. بشكل لا يختلف عن عمود الضوء في سكونيته. هذا الرجل كان يعيد المشهد وفق رؤاه وكأنه يمتلك المكان. حتى ظنّ الناس بأنه مخبرٌ يتجسس على أفعالهم. لكنّ هذه الرجل الذي يجاور العمود ويشابهه. قد اندمج كليا معه في لقطة فنية تجريدية. ترمز الى الخواء الروحي الذي يعتري بعض النماذج في المدينة، ليتحولوا إلى دمى وبيادق. لا تعي الحركة. إنه الخمول الحقيقي وعدم القدرة على الفعل.

موت رجل الجريدة بفعل سقوط العمود عليه، لم يُشكِّل ضمن سياق القصة، سوى البعد عما هو واقعي، وتجريده من مضمونه كحادثة موت. لقد ورد في القصة وكأنه حالة اتحاد بين كائنين عبثيين ؛

الرجل الفائض عن حاجة المدينة، والعمود الذي تقادم بفعل الزمن.

وبدلا من ردود الفعل التي تندهش وتُصدم لحالة موت مفاجئ، تحولت إلى مشهد لوني لا يكترث للموت كفاجعة، وإنّما كحالة تجريدية:

" سائل القهوة السوداء اختلط بسائل أحمر بأعقاب سجائر والعمود يجثم على وجه الرجل المُهشّم "

قصة الخم التي تتحدث عن أنواع الدجاج وطبقاته، والتفاوت بين أنواع الدجاج، لا قيمة لها من الناحية الفنية. فهي ترديد لرموز حيوانية وردت في أزمنة غابرة،مثل كليلة ودمنة التي أصبحت مُتَجاوزة و مُستهلكة.واعتقد بأنّ ذهنية الكاتب شكيب أريج وثقافته قادرة على استنباط ما هو جديد من واقعنا المُعاش، ومحاولة رفده بالرؤى والأساليب الفنية والإبداعية، دون الحاجة إلى الإطلالة على التراث، وتكرار بعض مضامينه.

في القصص الأخرى، ثمة أبطال التقطهم الكاتب من قاع الحياة. واستطاع أن ينفذ إلى علّة ضياعهم. جسّدهم لنا وهم يصارعون وجودهم القلق على حافة الهاوية.

هؤلاء (الأولاد) الذين يعيشونها بكيفية أقرب إلى الموت البطيء، ومنهم (عبيروش) ماسح الاحذية، الذي وجد نفسه على أرصفة التشرد والفقر والاهمال في هذه المدينة المزدحمة بالبشر. ولكنه يقاوم شظف اللحظة بالعمل الذي لا يقدّم له سوى مسخ إنسانيته، وبحكم عمله كماسح أحذية، يقيم علاقات جنسية شاذة مع سائح مأبون، طمعا في المال وليس كحاجة جنسية. ولكنّه يُدرك فداحة ما يقوم به، ويكره ذلك. وحينما يقوم بسرقة ممتلكات السائح يتعرض لاستجواب من قبل الشرطة، التي تقف مع السائح. كما يطرح النص شخصية (عبيقة) الذي يعيش على جمع أعقاب السجائر ومخلفاتها، والذي يشارك عبيروش في نفس الجنحة التي ارتكبت للسائح المأبون. وقد استطاع الكاتب بطرف خفي أن ْ يُلمّح إلى قسوة الحاجة والتشرد التي يعيشها هؤلاء في مدن الفاقة، ويقارنها بترف أبناء مجتمعات الوفرة الذين يأتون من أوربا، وهم محمّلون بتخمة العيش وتمظهراتها من شذوذ جنسي وجنوح أخلاقي. كما يشيرإلى غياب القوانين التي تحمي الطفولة المشردة، والتي تسقط في فخ الانحراف الاخلاقي، بسبب الحاجة الملحة، لأطفال لا يجدون سوى شوارع مدينة لا تكترث لأبنائها، بل أنها تسعى لتدميرهم واستهلاك جذوة طفولتهم.

واذا كان عبيقة وعبيروش يجسدان بؤس الطفولة، فشخصية مبروك وعلال التنس تمثّل الازدواجية في السلوك، ما بين التقوى الظاهرية وما بين الفعل الحقيقي القائم على الغش. ومحاولة استغلال سذاجة الناس وبيعهم ماء زمزم مثلا. وقد أورد الكثير من الحكايات التي تدلّ على نوع من الانحرافات العقيدية.

ولكن ثمة صور أخرى تتحرك في اللوحة السردية، ومنها علاقة خندوشة بحبيبها العاطل عن العمل،والذي يمتلك الوعي بحالته المزرية فيسقط ضحية لطموحاته غير المتحققة. وحينما يلتقي بخديجة في موعد عاطفي على أسوار مدينتهم، يتعرضان إلى تحريم السلطة لسلوكهما المحظور، والذي تمثٌل في لقطة تجريدية بصعود الشرطي إليهما، وربط وثاقهما بأغلاله، ولكنّ الشرطي يسقط من السور ويموت. ويجدان أنّ انقاذهما وكسر الأغلال يكون بيد رجل دين. الذي يحاول أن يكسر القيود بسيفه، في مشهد يثير الرعب فيهما.

في هذه القصة يحاول الكاتب أن يقدّم لنا صورة تجريدية، يمتزج فيها المُتخيل بالممكن. ومزج الوهم بالواقع، ويتصاعد الموقف إلى ذروته، رعب اللحظة في التخلص من الأغلال والذي يحتمل المخاطر والاحتمالات. ولكنّ هذه المواقف تنطفئ في النص دون إشارات واضحة ومقنعة.

تحتوي هذه المجموعة القصصية ايضا، على الكثير من الصور والمواقف والبشر. والذين قدمهم الكاتب وهم يمارسون طقوسهم الحياتية، تحت وطأة ظروف ومُناخات مختلفة. إنه الصراع المحموم من أجل البقاء، ضمن مساحة جغرافية مسوّرة بالأضداد والمفارقات التي لا ترحم أحدا.

الكائنات القصصية التي قدّمها شكيب أريج، كأول عملٍ إبداعي له، جديرة بالتأمل والتحليل، وجديرة بالاحتفاء.

لقد كان أنيقا في أسلوبه، بليغا في لغته، لا يتردد في استخدام اللهجة المحكية وفق مقتضيات الأحداث وضروراتها، فقدم لنا مدينة مهيبة حافلة بعبء ابنائها. من خلال سيل من الحكايات التي شحنها بجملة من المفاهيم والأفعال. كما قدّم تصوراته عن مدينة يعشقها ويهيم بها. وما هذه الكائنات التي جسدها على هيئة قصص واحداث سوى تعبير عن حالة الذوبان في مدينة يسعى ويتمنى أنْ لا (تأكل أولادها).

 

رحمن خضير عباس

 

أطبّاء فوق العادة.. مهاتير محمّد نموذجا

التفاصيل
كتب بواسطة: د. منير لطفي

منير لطفيمهما كانت التحدِّيات والعراقيل التي تقف حجر عثرةٍ أمام تقدُّم الدول ورِفعتها، فإنّ بعض التجارب الواقعية والحديثة تُبرْهن على أنّ الفارق بين الخيال والواقع وبين الحلم والحقيقة، ليس سوى قيادة تتَّصِف بالمسئولية وتتحلَّى بالصدق وتتّسِم بالإخلاص وتَتبنّى  شعار "القيادة بالقدوة"..فما أرخص القيادة إذا كانت شعارات، وما أغلاها إذا كانت عملًا بالغَدَوات والعَشِيّات.

في الجنوب الشرقي الآسيوي، وفي مدينة ألور سِتار عاصمة ولاية قِدَح الواقعة على الحدود الماليزية التايلاندية، وُلِد مهاتير محمد في عام 1925م لأبَويْن مُسْلمَيْن متوسِّطِي الحال، وبعد إتمام دراسته الأوَّلية وبموجب منحة دراسية، التحق بكلية الملك إدوارد السابع الطبيّة في سنغافورة، مخالِفا بذلك نصيحة أمِّه الحنون في أن لا يكون شُرطيا أو طبيبا حتى لا يَعتاد السَّهر ويُحرَم النّوم، ومخالفا أيضا لعزمه على دراسة الحقوق التي يجيد لها مهارة النقاش والحوار، وهو ما علّق عليه قائلا: لم أفكّر جديًّا من قبل في دراسة الطب، لكنّ قدري قرّر مصيري، وقد سعدتُ بقدَري كثيرا، لأنه تبيَّن أنّ الطبّ مجال تعليميّ مناسب على نحو غريب لمسيرة سياسية.

 وبعد تخرّجه، مارس مهنة الطبّ عبر المستشفيات الحكوميّة، وأجرى بها العديد من المهام الطبية في تخصّص الجراحة الذي شُغِف به أيَّما شَغف، وذلك قبل أن يستقيل ويفتتح بمسقط رأسه (ألور ستار) عيادة خاصة ذاع صيتُها وعمّ نفعُها وامتدّ عطاؤُها، إلى أنْ اختِير وزيرا وشُغِل عن علاج المواطن بمداواة الوطن. والواقع أنّه كان سياسيا منذ نعومة أظفاره، حتى ذَكر أنّه سياسيٌّ تحوَّل إلى طبيب، وكأنّ الطبّ كان جسرًا أطلّ منه على أعالي السياسة، ومنبرا بسط له الطريق لمخاطبة عموم الناس والوقوف على همومهم وطموحاتهم.

أربعين عاما أمضاها الرجل في دهاليز السياسة؛ بدَأها بالانضمام إلى حزب منظمة الملايو الوطنية المتحدة (أمْنو) الذي تأسَّس في أواخر الأربعينيات، وتبوّأ الصدارة كحزب حاكم منذ الاستقلال حتى قبل سنوات. ثمَّ خاض غمارها وامتطى صهوتها وسط حلبة مليئة بالأشواك، فكان عضوا برلمانيا، ووزيرا للتعليم، ووزيرا للتجارة والصناعة، ونائبا لرئيس الوزراء. وذلك قبل أن يتقلَّد في عام 1981م رئاسة الوزراء، ويصبح رابع رئيس وزراءٍ لماليزيا بعد استقلالها في عام 1957م وتأسيس الدولة المَلَكيّة الدستوريّة التي يملِك فيها الملِك ولا يَحكُم.

 وبهذا التكليف والتشريف، كان قدَرُه أن يحمِل على عاتقِه إشكالية أمَّةٍ تتعدَّد في ربوعها العِرْقيَّات المَلَوية (61%) والصينية (24%) والهندية (7%)، وتتجاور فيها الديانات الإسلامية (61%) والبوذية (19%) والمسيحية (9%) والهندوسية (6%) والكونفوشية (3%)، ويستشري في جنَباتها رثاثة الفقر وآفة البطالة. إضافة إلى معضلة السكّان الأصليين التي سطّر فيها عام 1970م كتابا بعنوان (معضلة الملايو) أغضب به السلطات الحاكمة آنذاك وتمّ مصادرته، حيث حمَل فيه بشدّة على الكسل الذي انتاب هؤلاء السكّان الأصليين ومهّدَ لسيطرة الصينيين والهنود على مفاصل النشاط الاقتصادي، وانتقد السلطةَ الحاكمة جرّاء تخلِّيها عن دعمهم ومساهمتها في تهميشهم حتى باتوا مواطنين من الدرجة الثانية، وهو ما عمل بجدّ على معالجته عندما دانت له السلطة على اعتبار أنّ وعدَ الحُرّ ديْن وكلمة الصادق سيف، فانتهج حيالهم سياسة التمييز الإيجابي المقنَّن دستوريا.

وعلى مدار الاثنين والعشرين عاما التى تقلّد فيها رئاسة الوزراء، عكَف علَى بناء النهضة الماليزية الحديثة، مِن خلال رؤية مدروسة وخطّة طَموحة وإدارة رشيدة، تحوّلتْ بموجبِها ماليزيا من حَمَلٍ إلى نَمِر، ومِن اقتصادٍ زراعيّ إلى اقتصادٍ صناعيّ يدعمه نهضةٌ معرِفيّة قائمة على تعليمٍ حديث وصناعةٍ تكنولوجيةٍ متطوِّرة، بالإضافة إلى بُنية تحتيَّة شاملة. فكان أن تدفَّقتْ الاستثمارات كالشلّال في شرايين الاقتصاد، وتوافَد السيّاح للتنزّه وحدانا وزرافات، وتقاطَر الطُلّاب للدراسة من كلّ حدب وصوب، فارتفع الناتج القومي وتضاعَفَ الدّخل الفردي وانخفضتْ البطالة وانتحر الفقر، كما وُلِدت (بوتراجايا) كعاصمة إدارية جديدة، وحلَّق برجا (بتروناس) في سماء العاصمة كوالا لامبور كأطول ناطحة سحاب في العالم آنئذ. وكأنه بذلك يعيد إنتاج التجربة اليابانية المعجِزة، ولكن بمرجعية ثقافية إسلامية.

ومن مواقفه التي تُكتب بماء العين وتُنقش على جدار القلب، ذلك الموقف الذي  حدث في العام الثامن من تولّيه رئاسة الوزراء، حين داهمته أزمة قلبية بعد تناوله لوجبة دسمة، نُقل جرّاءها على عجل إلى المستشفى، وتقرّر إجراء عملية قلب مفتوح يتمّ فيها استبدال شرايين القلب التاجية المعطوبة بأوردة مِن الساق، وخُيِّر في السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإجراء الجراحة هناك على عادة الوزراء والحكام، ولكنّه قرّر بلا تردّد إجراء الجراحة في كوالالمبور، مبرّرا ذلك بقوله: كان عليّ الوثوق بأطبائنا الماليزيين، وعرفت أنّه إذا لم أجعل من نفسي قدوة في ذلك، فلن يثق أحدٌ بخدماتنا الطبية.

لم يكن غريبًا إذنْ بعد كلّ هذه الإنجازات أن يُوصف مهاتير محمد بأنّه أبو النهضة الماليزية، كما لم يكن عجيبا أن يبكيه الماليزيون عندما قرَّر التقاعد واعتزال السياسة طوْعِيًّا في عام 2003م بعد أطول فترة حكمٍ لرئيس وزراءٍ ماليزي، ولم يكن كثيرا عليه أن يمنحه المَلِك أعلى تكريم لشخصيّة مدَنيَّة فينال لقب (تون)، وذلك بعد أن كرَّمته المحافل الدولية وأهدتْه العديد من الأوسمة والجوائز، كجائزة الملك فيصل العالمية في خدمة الإسلام عام 1997م، وجائزة جواهر لال نهرو للتفاهم الدولي عام 1994م. ولكن العجيب والغريب أن لا يحذو حذْوَه مَنْ تقلَّدوا السُّلْطة في دول أخرى مماثلة للظرف الماليزي، فكانوا وبالا على شعوبهم، وما زادوا الزّبَدَ إلَّا زَبَدا ولا الغَثَّ إلّا غثّا ولا الخَبَثَ إلّا خبَثا.

 وقد تنادَى السياسيّون وهرول الاقتصاديون ليغرِفوا مِن معِين الدَّرْس الماليزي، وجَدَّ الباحثون فألَّفوا  وكتَبوا عن إنجازات الرجل الفريدة، ولكنَّه بتواضع الطبيب وخبرة السياسي  وحكمة الإنسان، يرى ما لا يراه الكثيرون مِن القادة فيقول: "أعظمُ ثروةٍ في أيّة دولة هي شعبُها". وهو ما باح به للدكتور أحمد زويل فضمّنه كتابه (عصر العلم)، وذلك عندما استفسر منه عن سرّ نجاحه في النهضة الماليزية فأجاب: "جعلتُ الشعبَ كلّه يفكّر في المستقبل".

ولأنّه من طراز فريد لا يسلِّم سلاحَ العمل إلّا لمَلَك الموت؛ فقد واصل عطاءه بعد الاعتزال، فأسّس في عام 2005م منظمة بيردانا للسلام العالمي التي كرَّست رسالتَه في نبذ الحروب والانحياز لخيار السلام، وقام بدورٍ بارز في إعادة إعمار البوسنة والهرسك التي أنهكتها الحرب الطائفية حتى تسامعَت بجهوده إدارة جائزة نوبل فرشّحتْه لنيل الجائزة عام 2007م. ثمّ حبّرتْ أناملُه في عام 2011م مذكّراتِه التي قارَبت الألف صفحة في نسختها العربية، فضمَّنها وجبة دسمة في السياسة والإدارة والاقتصاد والتاريخ، وأثنى فيها على الطبّ الذي أفاده في ممارسة السياسة؛ وذلك حين أَكسَبه فضيلة الإنصات، وميزة القرب من الناس وتحسُّس معاناتهم، وفرصة معايشة الموت الذي تراءى له دوما كسوْطٍ يَردعه وزاجرٍ يَعصمه من إساءة استعمال السُّلْطة.

وكالبدر الذي يُفتقد في الليلة الظلماء، وعلى خلفيّة ما رآه من انحراف حزب (أمنو) عن الجادّة، وما لمسه من تباطؤ القطار الماليزي في مسار الحداثة والتنمية التي كرّس حياتَه من أجلها؛ أنشأ حزبا جديدا خاض به الانتخابات البرلمانية، ففاز بأغلبية المقاعد وتقلَّد رئاسة الوزراء في عمر الثانية والتسعين، ليصبح بذلك سابع رئيس وزراءٍ لماليزيا وعميدًا لحكّام العالم باعتباره الأقدم سنًّا بينهم، وليصحّح ما اعتبره خطأ جسيما حين اعتزل السياسة وترك مقدّرات البلد في يدٍ لم تكن جديرة بها.

ورغم الهدوء الذي يبدو على محيّاه، وابتسامته الودودة التي تجد طريقها ممهَّدا إلى القلوب، وقيمة التسامح التي تسلَّح بها واعتبرها أكبر قيمة إسلامية؛ إلّا أنّ مواقفه تنمّ عن أسدٍ هصورٍ في مواجهة ما أسماء بالنفاق الغربي، فناصر القضية الفلسطينية بحزم، وأدان احتلال أفغانستان بأعلى صوت، وشدّ على يد المقاومة العراقية في مواجهة جنود الاحتلال الأمريكي البريطاني قائلا: "أعيدوهم بالأكفان"، بل طالب بمحاكمة بوش وبلير كمجرمي حرب ومسعِّري نار. كما أبى الانصياع لعصا العولمة وذراعها الطويلة المسمَّاة صندوق النقد الدولي، وذلك حين رفض تعويم العملة الماليزية إبّان الأزمة المالية التي عصفَت بجنوب شرق آسيا عام 1997م، وخرج منها سالما دون تنفيذ روشتة البنك التي طالما أغرقت دولًا في بحر من القروض والديون.

***

بقلم: د. منير لطفي

طبيب وكاتب - مصر

 

بغداد في أخاديد الذاكرة

التفاصيل
كتب بواسطة: عدنان حسين احمد

879 بغدادصدرت عن دار "ألكا" في بروكسل الطبعة الثانية من كتاب "بغداد في حداثة الستينات" للكاتب والمترجم العراقي جمال حيدر. وهي طبعة مزيدة ومُنقّحة استدرك فيها المعلومات التي غابت عن الذاكرة بفعل تقادم السنوات لكنه استرجع بعضها في أثناء زيارته الأولى لبغداد عام 2004 بعد أن تمثّلها برؤية مغايرة تتقصّى الأمكنة، وتفحص الأحداث بعين واقعية مُحايدة تتفادى قدر الإمكان المبالغات السمجة أو التقزيم المُتعمِّد.

يتألف الكتاب من سبعة فصول إضافة إلى مقدّمة مُركّزة يؤكد فيها المؤلف بأنّ هذا الكتاب ليس سيرة ذاتية، وإنما هو محاولة لرسم ملامح مدينة بغداد، وتدوين لسيرة أمكنتها الشاخصة أو المطمورة التي استقرت في الذاكرة الجمعية للناس. ينطوي الكتاب على كمٍ وافر من المعلومات والأرقام والتواريخ والتسميات "الإشكالية" التي تتضح معانيها كلّما توغّل المتلقي في ثنايا هذا الكتاب الممتع، وقلّب المزيد من صفحاته الشيّقة. لا يمكن الإحاطة بكل الأحداث والمعلومات التاريخية لمدينة بغداد، فالكاتب ينتقل بسلاسة من بين الأزمنة المختلفة التي مرّت على مدينة بغداد، فتارة يعود إلى زمن إلى أبي جعفر المنصور الذي بنى بغداد المدوّرة، وتارة يعود إلى سقوطها على يد هولاكو عام 1258م. أو ينتقل حينًا إلى العهد العثماني، ثم يتراجع حينًا آخرَ إلى الاحتلال البريطاني الذي قسّم المدينة إلى أحياء ومحلات أخذت أسماء الشخصيات والعوائل التي عاشت فيها ويُورد قرابة 70 حيًّا أو منطقة تبدأ بباب المعظّم والميدان وتنتهي بالسيد عبدالله والعيواضية. وفي كل انتقالة يزوّدنا الكاتب ببعض المعلومات التأريخية مثل نزوح الأرمن إلى العراق بعد الحرب العالمية الثانية واستقرارهم في الموصل وبغداد ومزاولتهم لمهنة التصوير التي اقتصرت على الرجال تحديدًا إلى أن جاءت المصوّرة الأرمنية ليليان التي أخذت على عاتقها تصوير العوائل البغدادية المحافظة. يتقصى المؤلف المعاني اللغوية للعديد من الكلمات والاصطلاحات الأجنبية التي دخلت إلى قاموس المحكيّة العراقية مثل "الكلجيّة" التي تعني بالمنغولية "موضع الرؤوس" حيث كان يقف هولاكو ويعدّ الرؤوس المحزوزة للعراقيين و"كَوك نزر"، المُحرّفة عن العبارة التركية "كَوزيل نزر" وتعني "المنظر الجميل"، و"السِنك" التي تعني بالتركية أيضًا "الذباب" وما سواها من المفردات المنغولية والتركية والفارسية والأنجليزية التي وفدت إلى لغتنا العربية وأصبحت جزءًا من نسيجها المحلي. وفي السياق ذاته يذْكر المؤلف بأن ظاهرة "الأشقياء" قد برزت إلى السطح بعد سقوط بغداد عام 1258م ولم تنتهِ إلاّ في أواخر الستينات من القرن الماضي حيث خيّرهم النظام القمعي السابق بين القتل أو العمل لمصلحة الأجهزة الأمنية ففضّل معظمهم الخيار الثاني.

يعود بنا المؤلف في الفصل الثاني إلى الأسواق التي ازدهرت في زمن المنصور مثل سوق الفاكهة، والقماش، والورّاقين، والعطّارين، والصيارفة، والأغنام، ثم ينتقل إلى زمن مدحت باشا الذي رمّم الأسواق القديمة، وشيّد أخرى جديدة، ثم يتوقف عند أسواق أخرى راسخة في ذاكرة العراقيين مثل سوق "الشورجة" وسوق "السراي"، وسوق "الصفافير"، وسوق "الجبوقجية"، أي الغلايين، وسوق "الهرج" و"الثلاثاء" و"اللنكَة"، و"حنّون" و"حمادة" وغيرها من الأسواق التي تماهت مع مسمياتها أو مع مهنها أو مع الأماكن التي انبثقت منها وصارت جزءًا من تكوينها الجسدي والروحي.

يخصص المؤلف الفصل الثالث من الكتاب لأشهر شوارع بغداد وميادينها مثل شارع الرشيد، والسعدون، والنهر، وأبي نواس، والبنوك، والقصر الأبيض، والمشجّر، والكفاح. وعلى الرغم من أهمية هذه الشوارع ودورها في الحياة الاجتماعية البغدادية إلاّ أن بعض المواقع والأمكنة لعبت دورًا مهمًا في تنوير العقل العراقي مثل مكتبة "مكنزي" التي كانت تبيع الكتب الإنجليزية والأميركية في بغداد، وكيف ساهم دونالد مكنزي في ترويج الكُتب الاشتراكية واليسارية في العراق. أو جامع الحيدرخانة الذي اجتمعت فيه الحلقة الماركسية الأولى بمبادرة من محمود أحمد السيد، نجل إمام الجامع وخطيبه في مفارقة غريبة للترويج للفكر اليساري من الجوامع التي تناصب اليسار عداءً مستحكمًا في العراق والدول العربية والإسلامية. ثمة محلات شهيرة ذاع صيتها بين خاصة الناس وعامتهم مثل "شربت زبالة" و"كعك السيد". وأساطير انتشرت كانتشار العطر في الهواء مثل أسطورة "طوب أبو خزّامة" الذي يعتقد البغداديون أنه هبط من السماء لمؤازرة الجيش العثماني في حروبه المتواصلة. يكتظ هذا الفصل بالحديث عن نُصب وتماثيل عديدة زيّنت شوارع بغداد وميادينها العامة مثل "نُصب الحرية" لجواد سليم، و"الجندي المجهول" الذي صممه رفعة الجادرجي، و"كهرمانة" لمحمد غني حكمت، وتماثيل متعددة للسعدون، والرصافي، وأبي نواس وسواهم من الرموز السياسية والثقافية في العراق.

يتضمّن الفصل الرابع نبذة توثيقية عن تاريخ المقاهي في العراق، ومعلومات عن أول مقهى نُظم بشكل عصري، وأول من جلب الشاي إلى العراق، وكيف أصبح مشروبهم اليومي المفضّل. وثمة أرقام متفاوتة لعدد المقاهي في بغداد خلال القرنين الأخيرين. وقد تضمّن الدليل الرسمي العراقي لسنة 1936 جدولاً بلغ فيه عدد المقاهي بشارع الرشيد لوحده 62 مقهى مسجّلة بأسماء أصحابها، وعناوين مقاهيهم. وفي مطلع الأربعينات عرفت بغداد المقاهي العصرية مثل مقهى "بلقيس" الذي كان يقدّم الشاي بالحليب على الطريقة الأوروبية. يصف المؤلف شارع الرشيد بالإمبراطورية التي تعجُّ بالمقاهي، فمقهى "البلدية" رأسها، و"أم كلثوم" و"الزهاوي"، و"حسن عجمي"، و"البرلمان"، و"الشابندر" و"الشط"، و"التجّار" جسدها، , "شطّ العرب"، و"البرازيلية" و"سمر" أطرافها. يتردد المثقفون العراقيون على مقاهي بعينها مثل "حسن عجمي"، فيما كانت "الشابندر" تحتضن قارئ المقام العراقي رشيد القندرجي، والسيّاب، أما "البرازيلية" فكان يتردد إليها الباحثون عن الهدوء والسكينة أمثال عبد الوهاب البياتي، بلند الحيدري، فؤاد التكرلي، عبد الملك نوري وغيرهم من أبناء الطبقة المتوسطة العليا. ثمة مقاهٍ معادية للثقافة الرسمية السائدة مثل مقهى "مجيد" الذي يُطلق عليه مقهى "المعقدين" أو مقهى "العباقرة" الذي لا يخلو من العناصر الأمنية التي تحصي على الأدباء والفنانين أنفاسهم.

يرصد المؤلف في الفصل الخامس نهر دجلة بجسوره الثمانية، "وشرايعه" المتعددة على ضفتي الرصافة والكرخ، وفيضاناته التي بلغت 18 فيضانًا، أولها سنة 1356 وآخرها سنة 1954، كما يتوقف عند وصف الرحالة الإنجليزي جيمس ريموند وليستيد، والأب أنستاس ماري الكرملي، وعبد العزيز القصاب لبعض هذه الفيضانات.

أما الفصل السادس "طقوس" فقد قسّمه المؤلف إلى تسعة عناوين وهي "رمضان"، "المحْية"، "العيد"، "عاشوراء"، "مدارس"، "شموع الخضر"، "صيام زكريا"، "الكَسْلة" و"الخِتان"، وهي جميعًا طقوس محلية معروفة باستثناء "مدارس" التي يجب أن تندرج خارج هذا الإطار، وتنضاف إلى الفصول الخمسة الأولى مع شيء من التوسّع خصوصًا وأنّ الإعدادية المركزية قد ضمت شخصيات سياسية وثقافية مهمة. فيما ضمّ الفصل الأخير "فوتوغراف" 57 صورة فوتوغرافية لأبرز معالم بغداد الحضارية والثقافية والفنية.

ما يلفت الانتباه في هذا الكتاب أنه مدوّن بلغة أدبية رشيقة هي أقرب إلى لغة القصة والرواية منها إلى السرد التقريري، فثمة مشاعر قوية طافحة على مدار النص السردي تؤرخ للفتى النابه منذ دخوله إلى الصف الأول حتى مغادرته العراق في منتصف السبعينات حين اقتلعه البعث من جذوره ورمى به إلى المنافي الأوروبية النائية.

 

لندن: عدنان حسين أحمد

 

مفارقات زينون.. لامحدودية المكان والزمان

التفاصيل
كتب بواسطة: حاتم حميد محسن

حاتم حميد محسنطبقا لزينون "اذا كان كل شيء في الوجود له مكان، فان هذا المكان هو ايضا له مكان، وهذا الاخير ايضا يحتاج الى مكان وهكذا تستمر السلسلة الى مالانهاية. "(الفيزياء، أرسطو قسم 208).

 قبل التطرق الى مفارقات زينون الفلسفية نحتاج الى نبذة تاريخية عن المدرسة الايلية. تأسست مدرسة ايليا الفلسفية على يد كزينوفانيس Xenophanes ( ولد عام 570 قبل الميلاد) والذي اكّد على وحدة الله والكون وعدم التغيير فيهما "الكل هو واحد والواحد هو الله". تأسست مستوطنة ايليا على يد مجموعة من الايونيين الاغريق الذين حوصروا عام 545 قبل الميلاد في مينائهم البحري بمدينة فوكايا بعد غزو الجيش الفارسي،  لكنهم في النهاية اُجبروا على الخروج عبر البحر. بعدها أبحروا الى جزيرة كورسيكا واستوطنوا فيها بعد معركة بحرية ضارية مع الاسطول البحري لقرطاج.  وبعد عشر سنوات اي في عام 535 قبل الميلاد، استرد القرطاجيون الجزيرة فأحالوا الفوكانيين الى لاجئين في البحر مرة اخرى. هذه المرة حطوا الرحال في الساحل الجنوبي الغربي لإيطاليا وأسسوا مستوطنة ايليا بعد انتصارهم على المواطنين الاصليين . كل هذا حدث اثناء حياة كزينوفانيس الذي هو ذاته كان منفيا من مدينته الاصلية كولوفون في ايونيا عندما اُضطر الى الفرار منها عام 545 ق. م. هو عاش في سيسلي ومن ثم في كاتانا قبل ان يلتحق اخيرا في مستوطنة ايليا. من المفيد التأمل بالكيفية التي اثّرت بها هذه الأحداث سايكولوجيا على عقيدة المدرسة الايلية في الواحدية الدائمة غير المتغيرة. أعظم الفلاسفة الايليين كان بارمنديس (539 قبل الميلاد) الذي طور فكرة الواحدية اللامتغيرة ووسّعها الى كل الوجود. هو جادل بان التعددية والحركة والتغيير هي مجرد مظاهر. ايضا عُرف عنه استخدامه الاصلي للجدال المنطقي في الفلسفة. عاداته كانت ان يرفق كل بيان عقيدي بنوع من الحجة المنطقية تبيّن سبب ذلك. هذا كان يشكل ابداعا فكريا ولهذا اُعتبر ابو الميتافيزيقا وكمساهم اساسي في تطور الفكر العلمي. عقيدة بارمنديس في الوحدة المطلقة واستمرارية الواقع هي حقا راديكالية ، حتى وفق المستويات الحديثة. هو أكّد بان الكون في الاصل واحد ولا يتغير. غير ان عقلانيته اجبرته للاعتراف بان المظاهر هي عكس ذلك، حيث انه انكر بوضوح وجود التعددية والتغيير، هو اعترف بمظهرية هذه الاشياء. اصر بان هذه هي مجرد تصورات وافكار، يجب ان لاتلتبس مع "ما هو كائن". ولا غرابة في ان بارمنديس نال السخرية على معتقداته. احد طلاب بارمنديس كان زينون الذي اشتهر بسلسلة من الحجج في الدفاع عن الفلسفة الايلية باستخدامه وسائل منطقية في اثبات ان الحركة والتغيير والتعدد هي مستحيلة. ينبغي الاشارة ان لا شيء من كتابات زينون بقيت حية، كل ما وصلنا جاء بشكل غير مباشر من خلال افلاطون وارسطو و سمبليكس و بروكلس والذين لم يكن اي منهم متحمسا لأفكار زينون الفلسفية.

من بين اربعين جدالا نُسبت الى زينون كانت هناك اربع مفارقات هامة تتعلق بموضوع الحركة وهي:

1- مفارقة السباق: وتؤكد ان ليس هناك اي حركة، لأن من يتحرك يجب ان يصل الى المنتصف قبل الوصول الى النهاية، وهكذا الى ما لا نهاية. في هذه المفارقة يبيّن زينون ان الحركة ليست الاّ وهما. هو يقول لنفترض انك كنت في سباق، انت ترى نهاية خط السباق امامك، لكي تصل الى نهاية الخط لابد ان تصل اولا الى نقطة المنتصف. ولكن قبل وصولك الى نقطة المنتصف، عليك ان تصل الى منتصف نقطة المنتصف، وهذه النقطة الاخيرة لا يمكنك بلوغها قبل الوصول الى منتصف منتصف النقطة الاولى وهكذا الى مالانهاية. زينون يعتقد بوجود عدد لامتناهي من نقاط الوسط بين اي موقعين. قبل امكانية ان تصل الى موقع معين عليك ان تصل الى منتصف المسافة اولاً. ولكن اذا كانت هناك اعداد لا متناهية من نقاط الوسط ، كيف يمكن لنا عبور الأعداد اللامتناهية للمواقع، وبهذا الحركة اذاً مستحيلة.

2- مفارقة اخيل Achilles paradox: وهي تشبه المفارقة الاولى من بعض الوجوه ، الأسرع في السباق لا يمكن ان يتغلب علي الأبطأ لأن المتسابق يجب اولاً ان يصل الى النقطة التي بدأ منها الآخر بالسباق، وبهذا فان الابطأ يجب ان يكون دائما متقدما بمسافة الى الامام. طبقا لزينون، اخيل (بطل اليونان في اليادة هوميروس) يتسابق ليمسك متسابق بطيء كالسلحفاة التي تزحف في خط بعيد عنه. السلحفاة مُنحت مسافة في الامام(لنقل 100 متر) ، لذا اذا كان اخيل يأمل بالفوز في السباق يجب عليه الركض الى المكان الذي فيه السلحفاة حاليا، ولكن في الوقت الذي يصل فيه الى هناك تكون السلحفاة قد زحفت الى مكان آخر جديد، وبهذا يجب على اخيل الركض الى هذا المكان الجديد، لكن السلحفاة تكون زحفت الى الامام وهكذا، اخيل سوف لن يتمكن ابدا من الامساك بالسلحفاة حسب زينون، اي ان المتسابق الأسرع لا يمكنه غلبة المتسابق الأبطأ وهو ما يعني عدم حدوث اي نوع من الحركة. زينون هنا يدافع عن استاذه بارميندس القائل بان الحركة ليست الاّ وهما.

3- مفارقة السهم : هذه المفارقة وردت في فيزياء ارسطو، V1: 9, 239b5

يرى زينون لكي تحدث الحركة يجب على الشيء ان يغيّر الموقع الذي يشغله. هو يعطي مثالا عن السهم.  يذكر انه في اي لحظة محددة من الزمن، السهم لا يتحرك الى المكان الذي هو فيه، ولا الى المكان الذي هو ليس فيه. هو لا يمكنه التحرك الى المكان الذي هو ليس فيه لأنه لن يمر وقت بعد لكي ينتقل الى هناك، وهو لا يمكنه الحركة الى المكان الذي هو فيه لأنه هو موجود فيه سلفا. بكلمة اخرى، في اي لحظة من الزمن لا وجود لأي حركة هناك . اذا كان كل شيء ساكنا في اي لحظة، والزمن مؤلف كليا من لحظات، عندئذ تكون الحركة مستحيلة. اذا كانت المفارقة الاولى تقوم على تجزئة المكان فان هذه المفارقة تعتمد على تجزئة الزمان.

4- مفارقة المكان

مفارقة زينون في المكان تجعلنا نتسائل كم عدد الاشياء التي تشكل الكون. يبدأ زينون بالقول ان كل ما موجود في العالم مثل الكلب او الكرسي او غيره يشغل حيزا. اذا كانت تلك الاشياء تشغل حيزا فلابد ان تكون في مكان. هذا يعني ان المكان هو ايضا شيء يأخذ حيزا، والذي يجب ايضا ان يكون في مكانه الخاص الذي يأخذ حيزا وهكذا . ولذلك، طبقا لزينون يجب ان يكون هناك عدد لا متناهي من الاشياء والامكنة والفضاءات. هذا المفهوم لـ اللانهائية كان يصعب فهمه في اليونان القديمة.

المفارقتان الاولى والثانية جسدتا نقدا لفكرة الحركة المستمرة في مكان وزمان منقسم الى ما لانهاية. في هاتين الحجتين كان هناك تقليدا بين مدرّسي التفاضل والتكامل في المدارس الثانوية لعرض هاتين الحجتين لزينون ومن ثم العمل على حلّهما طبقا للافتراض بان السلسلة اللامتناهية يمكن ان يكون لها مجموع متناهي. هذه قد تكون وسيلة تعليمية مفيدة لطلاب الرياضيات المبتدئين لكنها تتناسى النقطة الفلسفية الهامة والأكثر اثارة في مفارقات زينون هذه.

نقد ارسطو لمفارقات زينون

آراء ارسطو حول مفارقات زينون وردت في الفيزياء، الكتاب الرابع، الفصل الثاني، وفي الكتاب السادس الفصلين الثاني والتاسع. في نقده لزينون يرى ارسطو انه لا يجب على زينون ان يفترض ان مسار المتسابق يعتمد على اجزائه، بدلا من ذلك، المسار هو موجود سلفاً، والاجزاء تأسست من جانب الملاحظ. كذلك هو يرى ان زينون يجب ان لا يفترض ان الخط يحتوي على نقاط غير قابلة للقسمة. كذلك أنكر ارسطو وجود لانهائية حقيقية actual infinity لا في عالم المادة ولا في الرياضيات، بل انه اعتقد بلانهائية ممكنة Potential infinity. فكرة اللانهائية الممكنة لأرسطو ظلت مهيمنة طوال 1500 عام وبدعم من الكنيسة التي ترى اللانهائية الحقيقية هي للّه وحده وليس للاشياء.

غير ان نقد ارسطو لزينون تعرّض للنقد ايضا لكونه غير منسجم مع المستويات الحالية للتحليل المرتكزة على نظرية zermelo fraenkel وفرضياتها في اللانهائية الحقيقية. 

ومنذ ارسطو حاول كل الفلاسفة والرياضيون توضيح هذه المفارقات، هيوم كتب بان وحدات العالم المادي غير قابلة للقسمة، لكنه تردد في تفسيره لأسباب اللاقسمة هذه. الانسكلوبيديات المعاصرة حققت في تفكير هيوم ، والادّعاء بان الخط لا يتألف من نقاط لا متناهية وانما من نقاط متناهية منضغطة بقوة لدرجة تكون فيها المسافة بين واحدة واخرى غير موجودة. هذا التوضيح الذي صاغه سلفا بعض اتباع افلاطون هو مضلل: الافتراض بان هناك وحدات لاتقبل القسمة في العالم المادي وان المسافة بين نقطتين ستختفي في لحظة معينة غير مقنع للعقل. زينون يدعونا لإعادة انتاج لانهائي لهذا التقدم الرياضي. المكان منقسم الى اجزاء جديدة دون توقف. اذا كان فهمنا يتطابق مع العالم الملموس، فان السلحفاة ستبقى متفوقة بلانهاية والسباق سوف لن ينتهي.

غير ان المشكلة قد تُحل لو اختزلنا اللانهائي الى مجرد انتظام في فهمنا. كانط افترض هذا واقتنع بان المكان والزمان ليسا كينونات مادية وانما مبادئ عالمية لبداهتنا. هدفه كان توجيه تأملاتنا نحو الظاهرة المتناهية والفورية، رافضا الاستنتاج الميتافيزيقي لإفلاطون. لسوء الحظ ان كانط في محاولته اعطاء تماسك لأفكاره، أخضع الواقع لفهمنا. نحن لا نعرف الشيء ذاته وانما فقط تجسيداته الظاهرية. تناقض كانط واضح، كما يشير هيجل: كانط يؤكد لنا اننا لا نستطيع مناقشة وجود الاشياء خارج حدود تفكيرنا، لكنه يذهب فوراً لإفتراض وجود مثل هذه الاشياء.

مشكلة زينون تحدث في العالم المحدود المتناهي الذي نتصوره. اللانهائية عُرّفت وتجسدت في فهمنا. بمحاولته نفي الحركة، اثبت زينون أبدية المكان والزمان. 

 

حاتم حميد محسن

 

اللغة وعلاقتها بالمعارف الثقافية

التفاصيل
كتب بواسطة: مالكة عسال

مالكة عسال(بحث تدفق من خلال السم الذي شكته مهزلة المقررات في جسدي حول اللغة العربية، وهو موضوع شائك حاولت التطرق إلى بعض نقاطه بشكل متواضع، مستندة على بعض المراجع الورقية والإلكترونية، لملامسة أهمية اللغة العربية عبر التاريخ.. وسأذيل نهاية المقال بالمراجع والمصادر التي أثرَت بحثي ..أتمنى أن يدغدغ المقال فضول الجميع)..

وسينشر على مراحل ...

ـ فتح مبين

نظرا لما يلحق اللغة العربية من تهميش وتحقير من قبل بعض الناطقين بها من جهة، ومن أعدائها من جهة أخرى، أبذلتُ ما في وسعي لأبين نشأة اللغة العربية، ومراحل تطورها، ومدى أهميتها بالنسبة للشعوب العربية، وعلاقتها ببعض المعارف، وكيف تعامل معها بعض العلماء والمهتمين منذ نشأتها إلى اليوم .. وماذا علينا فعله نحو اللغة العربية لتنمو وتتطور وفق العصور، باعتبار اللغة العربية هي الهوية، والرافعة الأساسية للنمو والتنمية؟ هل ندرك على وجه التحديد ماهية اللغة العربية؟؟ وهل من تعريف مستقل يميزها عن باقي اللغات؟؟..وما علاقتها بالمعارف الأخرى؟

1) هل من تعريف محدد للغة العربية؟؟

اللغة العربية هي مجموعة من النظم والعلامات والطرق المصاحبة، التي يستخدمها الفرد في الكلام للتواصل والإبلاغ والشرح والتفسير، من عناصرها:

الصوتي، والهمس والصرفي والنحوي، والإشاري والتلميحي والترميز والملغز والمباشر والمعبر وغيرها، لإيصال المعنى بغرض الإفهام، وهذه النظم المتماسكة المتضافرة، سواء كانت مكتوبة، أو مسجلة، أو محفوظة أو مفهومة، صالحة للتطبيق الكلامي، فهي إذا جهاز من الحروف والعلامات والصيغ، والأساليب والطرق، والعلاقات النحوية والصرفية والتركيبية في المجتمع العربي، يتعلمها الفرد اكتسابا، وليس غريزيا أو بالفطرة،  ليدخل بها في زمالة اجتماعية، ويمكن القول بصيغة أخرى: اللغة العربية هي مجموعة من عناصر منسجمة ترتبط علاماتها بالمعاني والدلالات وما توحي إليه، ارتباطا اعتباطيا كجسد لنقل الأفكار، تضم في دائرتها حمولات ووحدات ذهنية، يستطيع المتكلم بمساعدتها، أن يستعمل علامات الكلمات في كل أوضاعها للتعبير، أو للتوضيح، أو لنقل الأفكار ..

وعموما فالتعريف للغة العربية على هذا المنوال: أنه طريقة إنسانية مكتسبة وغير غريزية لنقل الأفكار، والتعبير عن العواطف والرغبات، بواسطة نظام من رموز وعلامات تستعمل حسب الإرادة، قد ينطبق بصورة مثلى على أية لغة، وفي أي مجتمع آخر..

2) تضارب الآراء حول نشأة اللغة العربية..

كيف نشأت اللغة العربية، وكيف تطورت؟؟ وهل سارت على نفس الدرب مع أخواتها اللغات؟؟ أم انفردت بطريقة خاصة؟؟ وكيف حالها اليوم؟؟ جملة من الأسئلة تتشابك في أذهان اللغويين والباحثين والمهتمين، ومن لهم غيرة على اللغة العربية كهوية، وكرافعة أساسية للنمو والتنمية ..لا أحد يستطيع على وجه التحديد أن يحدد كيفية نشأة اللغة العربية خصوصا، ولا اللغات عموما؛ في خضم النظريات التحليلية المتناسلة منها ما هو أقرب نسبيا إلى الموضوعية، ومنها الخرافية السطحية غير منطقية، اختلاف وتنوع واسع في الرؤى والأفكار والتنظيرات حول مسألة نشوء اللغة، واللغة العربية حصريا على امتداد الحضارات القديمة والحديثة..

لقد أجمع البعض على أن الفضل في إنشاء اللغة العربية كما الشأن في جميع اللغات، يعود إلى المجتمع نفسه، وإلى الحياة الاجتماعية، حيث اجتماع الأفراد بعضهم ببعض، يحتاج إلى التعاون والتشاور والتفاهم وتبادل الأفكار وإبداء الرأي، والحُكم واتخاذ القرارات، والتعبير عما يجول في الخاطر؛ تنظير أقرب نوعا ما إلى المنطق .. وعلى غرار هذه  النظرية تناسلت آراء وأفكار وبحوث أخرى، تدلي بدلوها حول أسباب نشوء اللغة العربية وأصلها، والعوامل المساهمة في تطورها ونموها كما سأوضح:

ـ أفكار ترى في نشأة اللغة العربية هبة من الله، أي توفيقية من وحي إلهي، حيث علّم الله الإنسان النطق بالأشياء، معتمدين في ذلك على بعض الآيات القرآنية (علم آدم الأسماء كلها)، وإذا رجعنا إلى النص القرآني والتراث القديم، وكيفية خلق آدم، وما يمتاز به عن غيره من البشر من قدرات عقلية، تمكنه من اضطلاع بالأمانة الربانية، وما تمتلكه اللغة العربية من أسرار، وهندسة لغوية متينة على جميع المستويات، نخلُص إلى أن اللغة العربية نشأت بتعليم رباني، يتجلى ذلك في ما تملكه حمولتها من خيال وإدراك، وذكر وتداعٍ وتعبير وآفاق ممتدة لا حصر لها، تستدعي نشاطا عقليا مكتملا؛ يلزم التعمق فيها، وما هيأه سبحانه من أعضاء وجينات، قادرة على النطق بها .. ومصطلح التوفيق كما تستدعيه هذه النظرية يعتمد على مسلمات مطلقة /ثابتة /مقدسة، لا يمكن الخوض في نقاشها، ولا التغيير في نصوصها بالزيادة أو النقصان .. بل تبقى على حالها، أو قد تتطور تدريجيا حسب الظاهرة الإنسانية دون المساس بجوهرها ..

ـ وبحوث ترى أن اللغة العربية قديمة قدم الإنسان نفسه، أم اللغات إن صح التعبير، وأعلى وأرقى لغة سامية عرفتها الإنسانية، تستوعب التراث العربي القديم، وما في رحمه من حقائق علمية؛ بل وكانت اللبنة الأولى لأغلب الحضارات..

ـ ونظريات ترى أن اللغة العربية كما سائر اللغات،  ابتُدعت واستُحدثت بالتواضع والاتفاق، أي بارتجال ألفاظها بالمواضعة، وبوضع أسماء للأشياء بالإجماع.. وبالتداول لهذه الألفاظ والأسماء نشأت اللغة العربية كما اللغات الأخرى...

ـ وغيرها ترى أن اللغة العربية فرع كما اللغات الأخرى نشأت وتطورت عن اللغة الأم الأولى أثناء الخلق، عن طريق التقليد ومحاكاة الإنسان لأصوات الطبيعة على اختلافها، من حفيف أوراق الشجر، وخرير المياه، وشدو العصافير، وأصوات الحيوانات، فسارت في سبيل الرقي شيئا فشيئا، مع ارتقاء العقلية الإنسانية وتقدم الحضارة، وتعدد حاجات الإنسان، واتساع نظام الحياة

ـ وآخرون يرجحون أن إنشاء اللغة العربية مثل كل اللغات، يعود إلى تعلم الإنسان والاكتساب، انطلاقا من المحيط /من الجماعة، للتعبير عن انفعالاته بإشارات، وتغيير ملامح، وحركات جسمية وأصوات بطيئة، وعن طريق الدربة والمراس، بدأت اللغة تتطور وتتنوع باكتساب مفردات جديدة، فاهتدى الإنسان إلى أساليب أخرى في تركيبها واستعمالها بالقدرة عن الكلام..

كانت جل هذه النظريات والبحوث والآراء تتقاطع أحيانا في بعض النقاط، وتختلف أحيانا أخرى، فمهما كان الترجيح صحيحا لأية نظرية، تبقى هذه مجرد خطوط ضيقة حول نشأة اللغة العربية، لكن الموضوع المثار هنا، هو كيف كانت اللغة العربية وعاء لاستيعاب الفكر الإنساني، وهل هي فعلا وعاء نصُبّ فيه الأفكار، كما نصب الزيت في جرة؟؟ أم أنها كائن حي تتفاعل وتتنامى وتتطور وتواكب؟؟ وكيف استطاعت التفاعل مع المعارف الإنسانية في مختلف المجالات الاقتصادية والعلمية والديداكتيكية؟؟وهل استطاعت اللغة العربية أن تواكب التجديد في هذه المعارف؟؟؟ وما هي أوجه التعثرات؟؟وهل وضْعُها حاليا على أحسن ما يرام؟؟ وهل تزاول وظائفها باقتدار؟؟

3ـ مواكبة اللغة العربية للظاهرة الإنسانية في تطورها

اللغة العربية شأنها شأن أي عمل فني، وأي عمل إبداعي، خاضعة للسيرورة التاريخية، وقابلة للتجدد حسب العصر بطرح شوائب تخلق تشويشا على مسارها، أو بإضافات تثريها وتغنيها ولا تُقِلّ من شأنها، أو تدني من قيمتها؛ وجاهزة لأن تستوعب أية حمولة ثقافية بكل مصطلحاتها ومفاهيمها ومعانيها ودلالاتها، ومهما منطق العرب اللغة العربية بالحيطة والحذر باعتبارها لغة القرآن المقدسة المتكاملة، التي لا يجوز المساس بها حماية لجهازها من تسرب بعض الدخائل الأجنبية إليها، أو الحيلولة دون تدفق مالم يطبع بطابع الفصحى، فاللغة العربية عبر تاريخها تنصلت من هذا القيد الجبار، ورمت عنها غلالة الحصار، وتفاعلت واحتكت، واكتسبت أشياء أثرتها وأغنتها، وطرحت أخرى زائدة لم تضف إليها أية أهمية، مما يبين بجلاء أن اللغة العربية ليست عذراء يُخشى افتضاضُ بكارتها، ولا بناؤها وتشكيلُها حسب المواضيع المطروحة وما يجوش في الخاطر، قد يخلخل قصدها ويضلل معناها؛ والدليل على ذلك أنها عبر التاريخ تلبست حللا فلسفية وميتافيزيقية وسريالية وصوفية ودينية وعلمية حسب المرامي والغايات، وتشكلت وتوشحت بالإضافات أو النقصان من عصر إلى آخر بشكل هادف ومتميز؛ وإن إعلاء الأسوار حول اللغة العربية، وإغلاق جميع الشرفات عليها من أجل تحصينها، لم يمنعها من مواكبة الظاهرة الإنسانية في تطورها وسيرها التاريخي كما سيأتي لاحقا ...

ـ اللغة العربية والتعاليم الدينية والإسلامية

إن انتقاء خالق العالمين اللغة العربية للوحي، كخاتمة لرسائله إلى البشرية، يعني أنها كانت أفصح وأشد اللغات وأرقاها، وأكثرها قدرة على استيعاب تعاليم أحاديث الوحي، بما تمتلكه من خصائص ومميزات، وتمتاز به من ثراء ومقومات، وأنها أقرب إلى أذهان المسلمين للفهم والتلقي والاستيعاب والتأثير. لتبقى خالدة بخلود القرآن للأجيال البشرية اللاحقة، فيلتموا تحت لوائها كلغة عالمية شاملة لكل المقاصد، تجمع شملهم وتشد أزرهم، والقرآن الكريم وصف نفسه بأنه عربي، وأكد ذلك في أكثر من آية وسورة (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين)، وقد اختار الله تعالى أن يخاطب البشرية خطابه الأخير باللغة العربية، التي هي لسان الرسول العربي الخاتم الأصيل، لتصبح لسانا ثقافيا عالميا للخاص والعام ولجميع الشرائح البشرية وعلى مر العصور ...إذا اللغة العربية جزء من الإسلام، وكانت السبيل الأقوى لنهضة المسلمين ورقيهم في صدر الإسلام، مما ساعد على ذيوعها وسيادتها في جميع الأقطار العربية و الأعجمية.. والفهم السليم والإدراك الصحيح للقرآن، واستيعاب مقاصده و أحكامه، والتشبع بتعاليمه وقيمه، لا يتأتى إلا بتعلم لغته العربية الأصلية التي نزل بها بكافة عناصرها ومكوناتها وعلى جميع الأصعدة، ولا يمكن لأي كان أن يستوعب معاني القرآن ودلالاته، إلا إذا أحكم القبض على اللغة العربية بكل أطيافها؛ وعلى الذين يحثون على إدراك القرآن، وتجديد الفهم لـه على ضوء الدراسات اللسانية الحديثة، أن يتقنوا أولا اللغة العربية التي هي لغة القرآن؛ وغير ذلك لا فائدة ترجى، بل على العكس قد تطبعها الفوضى وعدم الإتقان، ولا تعبر التعبير الحق عن كنهه وأسراره، ولا تتوغل في أعماق القارئ بما يقوى إيمانه،  ويحبب إليه الدين الإسلامي، فاللغة العربية لها دور أساسي في استنباط ما ترمز إليه الأحكام الشرعية والحقائق العلمية من النصوص القرآنية، لذا لِفهم الخطاب الإلهي يجب إتقان اللغة العربية صَرفا وتحويلا ومعنى، ومن لا يملك ناصية متينة لهذه للعلوم، لن يستوعب البتة ما في القرآن من مقاصد ..

ـ اللغة العربية والاحتكاك بالفلسفة والمنطق الأرسطي

لقد عاصرت اللغة العربية في البلاد الإسلامية تدفق سيول خصبة من الأنشطة العلمية المتعددة، سهلت الترجمة من اللغات الأجنبية لبعض فروع الثقافة والمعارف التي تخدم اللغة العربية كالفلك والرياضيات؛ فأصبحت العقلية العربية في احتكاك مباشر بالأمم والديانات الأخرى، مما أذكى شرارة تأثر العرب بهذه الأمم، والتشبع بالثقافة اليونانية، والارتواء من معينها، حيث كان لأرسطو نصيبُ الأسد في سيادة منطقه في البلاد الإسلامية إبان العصر العباسي ـ الذي كان عصر ازدهار العلوم ـ عن طريق الكتب المترجمة إلى اللغة العربية، كما كان الدور أشد وأقوى بشكل ملموس، احتكاك اللغة العربية بالتفكير الأرسطوطاليسي الذي يخلط بين المنطق والميتافيزيقا، فيظهر ذلك واضحا في الدراسات اللغوية عند العرب .. إذا فاحتكاك العرب بالإغريق، وتواصل المسلمين برجال الدين من المسيحيين الذين أغلبهم من الدولة الإسلامية، والذين كانوا يتقنون أكثر من لغة، كانا الحافز الأقوى على خلق علم الكلام، والأدلة التي كانت تستمد بالطبع من منطق أرسطو كمرجعية، والذي لم تتخلص اللغة العربية من قبضته السحرية، بل وامتد المنطق الأرسطي حتى إلى الفقه الإسلامي، وبذلك يتضح بجلاء، أن النفوذ الإغريقي بفلسفته وما يطبعها من علل وأقيسة ظل مهيمنا على اللغة العربية ...

ـ اللغة العربية والأجناس الأدبية

كما كانت للغة العربية علاقة بالفلسفة والمنطق، فقد كان لها حراك قوي في مجال الأدب على اختلاف أجناسه، فتنقلت وتشكلت حسب الظواهر الأدبية على امتداد العصور، حيث حرصت اللغة الكلاسيكية على جودة الصياغة اللغوية وفصاحة التعبير، والقرائن التقليدية، معتمدة في ذلك على العقل الواقعي، وما تراه العين بالمباشرة، وفق معنى واحد وواضح لا اختلاف فيه لدى الجميع، تنتهي صلاحيته بمجرد فهمه،  معنى، يلتقي فيه التفكير والإحساس.. الاهتمام كل الاهتمام بالتنميق اللغوي والزخرف اللفظي، فتعددت المحسنات البديعية، وترادفت الأجناس، وتتالت الاستعارات، و تقافزت التشبيهات، حيث وجهت العناية الكبرى إلى الشكل على حساب المضمون.. ثم خطت اللغة العربية خطوة أخرى أرقى لتسمو بنفسها، فاقتحمت المذهب الرومانسي، بقفزة نوعية ملموسة من الواقع إلى الخيال، اقتصرت على مناجاة الطبيعة بكل تلاوين الفلسفة والميتافيزيقا، في صياغات فنية وتركيبات دلالية، بكل ما تعنيه الكلمة من إيحاء وترميز، جاوزت تماما أسلوب المباشرة المنصرم، والحس الواقعي إلى عالم الحدس والتأمل ... والمتمعن في تاريخ الأدب، سيلمس بالمباشر أن قاموس اللغة اليوم، ليس هو ما كان عليه سابقا في العصر العباسي، أو الأموي أو الجاهلي، لأن حياة اليوم أدخلت إلى معجمها مفردات جديدة أنبتتها حقول العصر، وزخِرت بها الهموم اليومية؛فخلعت اللغة العربية أذيالها القديمة المبنية على المباشرة والوضوح، لترفل في المجازي والإيحائي بشكل جديد، يستعصى معه استيعاب المعنى من قبل القارئ، مما يبين أن اللغة العربية قد تحررت تدريجيا من قيود الاستعمال البسيط المتداول، كظاهرة من ظواهر الحياة الإنسانية، ليصيبها التغيير مختارة ألفاظا للحياة الجديدة، وإن كانت بعض الخيوط مازالت لحد الآن، تشد بحنين قوي إلى الماضي، عن طريق القوالب السحرية المتمكنة من العروض والقافية، والموسيقى الخارجية؛ ومن هنا نستخلص أن اللغة العربية ليست جامدة وثابتة ومطلقة كما يبدو للبعض، يستحيل إضافة إليها أشياء أو حذف منها أخرى، كما يقول: ميخائيل نعيمة (فتحسبها واقية كاملة وليس لمستزيد في دقتها زيادة)..

وعليه نجد المبدع في مادته الإبداعية في قلق وانفعال دائمين مع اللغة، فإما أن تكون مطواعة، يكيّفها حسب مستجدات العصر ومتطلباته، فيرقى بالأدب إلى أعلى مستوى، أو تعاسره وتستعصي عليه، فيخونه التعبير مما يؤدي بها إلى الجمود والتردي ...فمبدعو الحداثة من شعراء وقصاصين وروائيين، يتولون اللغة العربية بعد كتابة نصوصهم بالقص والتشذيب، والحذف والإضافة والتغيير،  في ما يسمى بالنقد الذاتي، للتمكن من النصوص قبل تقديمها للقراء، أو بغربلة التراث، وانتشال الألفاظ البليغة المعقدة والغريبة، لإبراز إشعاعها وتقريبها من مفاهيمها بصياغة أخرى، تكون مرآة للعصر، بمعجم جديد مناسب للتجربة الحداثية، ضمن قوالبَ وصيغ جديدة نابضة باليومي على حد قول محمد مندور (وإن ما يعيب الأسلوب عدم التجديد) ..

وهكذا نخلُص بوضوح، إلى أن لغة الأدب هي النبض الحقيقي للحياة، تتطور تبَعاً لتطورها، مترجمة سلوك ومواقف وتخمينات المبدع، وأحلامه وطموحاته، في صراع محتد ودائم مع ما يأمله، وما تعتريه من عراقيل لتحقيقه.. وبهذه المواجهة من قبل المبدع للحياة، تستجيب اللغة لكل ما يروج في خلد الذات المبدعة، فتحمل الجديد من الهزات التعبيرية المدهشة، بشكل حداثي صرف يتوخى جزالة اللفظ، واتساع المعنى، وفخامة الدلالة، في لغة متينة مكثفة وموحية وممتعة في آن واحد..

وهذه اللغة هي المناسبة والقابلة لتشخيص قضايا العصر الملتبسة، التي تغوص هي الأخرى في إبهام صرف، وهكذا تلامس فكر القارئ، وتدغدغ أفقه المعرفي، وتثير بركان وجدانه، مخاطبة فيه جانبه الرمزي والانفعالي، مستنهضة ذكرياته وأحلامه وآماله وتجاربه، كل ذلك في قالب لغوي رمزي إيحائي تلميحي دلالي متين، يبعث الهزة ويحدث الربكة ...

وما يجري على الشعر يجري على القصة والرواية، حيث اكتست اللغة فيها حللا جديدة مناسبة للظرفية، وهكذا تُخيِّب اللغة أمل مَن اتهموها بالقصر، ورأوا فيها الجمود، فهمشوها بحجة أنها غير مطواعة، ولا يمكن أن تتكيف مع أحداث العصر، والهدف من ذلك تكسير رقبتها لغرض في نفس يعقوب..

ـ اللغة العربية ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة 

لقد كانت اللغة العربية سابقا، تُستَخدَم للأخبار شفويا عن طريق حفظ الرسائل، أو مكتوبةً عبر الورق، أو في خطبة يجهر بها الخطيب وسط حشد من الناس في المساجد، أو الساحات العمومية، وهذه الطريقة اندثرت اليوم، بفضل تعدد وسائل التبليغ والإبلاغ بطرق مختلفة ومتعددة، من ندوات ومحاضرات، ولقاءات، وملتقيات، ومهرجانات ثقافية، بالإضافة إلى الكتب والمجلات والجرائد، والقنوات الإذاعية والتلفزية، وأجهزة الحواسيب، والهواتف العادية والذكية وغيرها، حيث ساهمت هذه الآليات المتنوعة والمتطورة في استيعاب اللغة العربية، وتوسيعها وانتشارها على المدى الرحب بما يتدفق من مصطلحات أدبية، وعلمية، وسياسية، وفنيةن ورياضية، الشيء الذي يكسبها صياغات فنية متنوعة، إن على مستوى الثروة المعجمية، أو على مستوى تركيب الألفاظ، وتنظيمها في سلاسل من الجمل والفقرات، أو على مستوى اختيار النسيج الأسلوبي، أضف إلى ذلك ما لعبته القنوات الفضائية من دور في انتشار وتنوع البرامج باللغة العربية، حيث استطاعت اختراق الجدار العربي إلى دول الغرب، لتنفذ في أعماق الجالية العربية، بما تملكه هذه الأجهزة من قدرات توصيلية محكمة وهائلة، في مجال استخدام اللغة العربية الفصحى، وتقديم أصناف المعرفة بلسانها ..لكن ما يلاحظ في هذا الشأن هو أن دودة ناخرة، أخذت تتغلغل في جسد اللغة العربية، لتسيء إليها وتنحو بها نحو الضعف والتردي، ألا وهو تطعيم اللغة العربية بالدارجة، تحت ذريعة إيصال المعنى للفهم إلى الذين لم يساورهم الحظ في القراءة والكتابة.. بينما العكس هو الحاصل، أن هؤلاء المشار إليهم بالبنان يتابعون المسلسلات المكسيكية والتركية والهندية المدبلجة باللغة العربية ويفهمون، بل يستوعبون الأحداث حدثا حدثا دون عسر في الهضم، ويتشبعون بمصطلحات عربية محضة، وكذلك الأطفال في بعض الرسوم المتحركة، فنجد هذه الشريحة قد تمكنت من اكتساب رصيد هائل باللغة العربية، ويوظفونها بسهولة أثناء اللعب مع بعضهم البعض (كريندايز ..مثلا) (أنا الرمح الصاعد) (أنا الرشاش) وغيرها .. إذا فذرائع الفهم لا أساس لها من الصحة جملة وتفصيلا، بل انسياق بعض وسائل الإعلام إلى العامية، ومعارضة الفصحى خاصة في بعض البرامج الإذاعية والتلفزية، هو موقف ناخر للغة العربية، ويدعو بالمباشر إلى تخريبها، والنزوع بها إلى الدونية ..من هذا المنطلق فأنا لست ضد بعض الجمل بالعامية، التي قد لا يوجد لها مكانا في اللغة العربية، أو حشر بعض المصطلحات الصعبة غير مفهومة، لتقريبها من المتلقي للتوضيح، ولكن أن تندس اللغة العامية غازية، لتتبوأ عرشها على حساب اللغة العربية، وتحل بدلها الشيء الذي يساهم في قتلها، فهذا مرفوض تماما، لذا فمن واجب المسؤولين على وسائل الإعلام، حماية اللغة العربية، وذلك بإعداد أعمالهم إعدادا متينا، بكل ما تستدعيه السبل والأدوات، من منطلق إحساس قوي بأهمية اللغة العربية، كوسيط للتفكير والتعبير والوحدة القومية والتنمية، وأن يقدموا لها من خلال برامجهم ما يجعلها في القمة ...

ـ اللغة العربية كعمود فقري للاقتصاد

إذا تصفحنا تاريخ اللغة العربية في هذا الجانب، نجد أن اللغة العربية نشأت وترعرعت، بين أحضان التجارة عن طريق القوافل العربية، والتجارة في الأسواق لتلمس الرزق، أو بين القبائل من بقاع مختلفة، وهذه العوامل أفسحت المجال لتحريك اللغة العربية كرافعة أساسية في العمليات التجارية، وبالتالي تنتشر انتشارا واسعا بتنمية ألفاظها، وتعدُّد مفرداتها، وتنوعها تبعا لهذا الميدان، وبالتوازي كان العرب إلى جانب عرض البضائع في الأسواق للبيع والشراء، يعقدون محافل أدبية وفنية كتقليد، تتشكل من عدة فقرات متنوعة ومتكاملة، مثل مبارزة فنون القول بكل أشكالها وألوانها، إما عن طريق المدح، أو الذود عن القبيلة التي ينتمي إليها الشاعر،  أو عرض مواد أدبية ولغوية للتنافس والتباحث لحل إشكالها، للحكم على جودتها من رداءتها؛ فينساق أهل اللغة إلى عرض خزانهم اللغوي بكل أجناسه على المتلقي.. ومن هنا يتضح، أن اللغة العربية كانت هي الوسيلة الأساسية في المجالات التجارية والاقتصادية، إن على مستوى ترويج الأدب أو ترويج السلع والبضائع، أو على مستوى التفاخر والمبارزة،  لكن والحال اليوم حيث الثورة المعلوماتية متدفقة، والانفجار التكنولوجي ينتشر جارا وراءه وابلَ الاستثمار، ووباء الخوصصة، أصبحت اللغة العربية كعنصر أساسي وهام من عناصر الاقتصاد والتنمية مجرد صورة نمطية، وغُيِّبَ دورُها بتسرب المصطلحات الغربية، وهنا أفتح قوسين: لا أقصد اندساس بعض المفردات الأجنبية والتصاقها بجذع اللغة العربية، فهذا لا يضير في الأمر شيئا إن حصل من أجل التكملة، لكن أعني هيمنة اللغة الأجنبية، وخاصة الفرنسية والإنجليزية، واحتكارهما للبحوث والدراسات والإعلانات واللافتات واللوائح الإشهارية، بالتلفزة أو معلقة على الجدران، وتداول اللغتين نطقا، وكتابة في بعض المؤسسات، مما يشكل باعثا حقيقيا على زحزحة اللغة العربية من مكانتها إلى الهامش، ومصادرة هويتها .. والأخطر من ذلك هو إقصاء اللغة العربية تحت يافطة ضعفها، والحكم عليها بعقم رحمها من استعداد حمل جينات المصطلحات الاقتصادية ...

وعليه مادامت اللغة العربية هي الوسيلة المثلى للنهوض بالمجتمع، والسير به نحو التنمية، وبما أنها ظاهرة اجتماعية تتبادل التأثر والتأثير بالاقتصاد، إن لم نقل هي المحرك الأساسي له، وجب أن نرقى بها عن طريق النفخ في صورها، وضخ دماء جديدة في جسدها بحوسبتها وإدخالها إلى عالم الكمبيوتر، وتزويدها بالتقنيات، وتوجيه الاستثمار نحو مشاريع، تعالج اللغة العربية بتطويعها على استيعاب هذه التقنيات، وبناء معاجم في هذا الشأن بكل تجلياته ومصطلحاته، مع تشكيل برامج الترجمة وإعادة الهيكلة، لخلق منها حقلا للدراسات التنظيرية اللغوية، مما يساعد على ترويجها وانتشارها في الحركات التجارية، وتخصيص لها حيزا في الاقتصاد قد تكون له أهلا،  لكن لا بلوغ هذه الغاية دون تحسين اللغة العربية، وتطويرها وتجديدها حسب ما يستدعيه العصر ...

ـ اللغة العربية والحوسبة وعالم الكمبيوتر

حيث أن العولمة احتكرت كل بقاع العالم، وتدفقت الثورة المعلوماتية بغزارتها المعرفية وتنوعها، وأصبحت بلمسة أيقونة يصبح العالم بين يديك، من خلال شاشة صغيرة لا تتعدى مساحتها شبرا، أصبح لزاما على اللغة العربية كجهاز للتنمية، أن تمْتَثل لهذه الثورة، وأن تدخل المغامرة للتفاعل والتطور والتجديد، لتواكب مستجدات العصر وتدفقاته وتعبر عن كل ماجد في هذا العالم، فتدخل للمعركة في صميم هذه التقنيات، وتؤكد قدراتها في أن تكون أداه للتخاطب والتواصل في جميع القطاعات، وعبر كل الآليات لتُستَثمر كأي سلعة اقتصادية، تستفيد منها التنمية باعتبارها عنصرا من عناصر التنمية، إضافة إلى كونها وسيلة لحمل المعارف، واللغة العربية قادرة على أن تستقبل هذه التقنيات بكل مصطلحاتها، وأن تسير في الركب الحضاري باستيعاب المصطلحات الحسوبية، وتدخلَ غمار البحث العلمي على اوسع نطاق، كلبنة أساسية لبناء الأمة العربية والنهوض بها .. يكفي من القيمين على الإعلام أن يتداولوا ما عربته مجامعنا العربية ..غير أنه يلاحظ مؤخرا تهجين اللغة العربية وتدنيها وتهميشها، بالانسياق وراء لغتين مهيمنتين، هما اللغة الفرنسية والإنجليزية وما جاورهما، تحت رؤية هشة جاهلة، تقصي، وتستثني قدرة اللغة العربية عن استخدام المصطلحات التقنية العلمية الحديثة، والتأكيد على عجزها في ذلك، رغم أنه يتضح لنا وبيقين تام، أن اللغة العربية قادرة على التطور واستيعاب الرموز والعلامات العلمية، شأنها شأن أية لغة أخرى، مادامت هذه المصطلحات غريبة كليا عن جميع اللغات؛ وإذا جارينا تاريخ اللغة العربية، يثبت لنا أن اللغة العربية على مرّ العصور، ومنذ ان خرجت من أفواه أهل البدو، قد أثبتت حيويتها وتفاعلها، وقدرتها على التطور والتجديد، ومواكبة مستجدات العصر على اختلاف ينابيعها:علم فلك /طب /رموز رياضية/فلسفة منطقية / أو إسلامية، وأنها قابلة لتبادل التأثر والتأثير في أي مجال، وعلى أي مستوى، وفي أي عصر، وما يجري في ميدان الاقتصاد، إذا من خلال النظرة الدونية إلى اللغة العربية كيف يمكن حماية اللغة العربية وبالتالي كيف نرتقي بها؟؟

4) تحقير اللغة العربية من قبل خصوم الإسلام

خصوم الإسلام وأعداؤه أدركوا الترابط الوثيق، والأواصر المحكمة بعهودها ومواثيقها بين الإسلام واللغة العربية، وتيقنوا من مدى تمسك المسلمين بعقيدتهم بما تحمله من شعائر وطقوس، وعبـادات عميقة نابعة من الإيمان الراسخ كدين متماسك الحلقات، فسعوا إلى إضعاف اللغة العربية، والتقليل من أهميتها والإطاحة من شأنها، مع تحقير واسع للمسلمين، والمتشبثين بدينهم الحنيف، فأشاعوا أن اللغة العربية، ليست لغة العلوم العصرية الحضارية، من هندسة ورياضيات وفيزياء وطب وغيرها، ولا لغة العقل والفكر والثقافة والحضارة، وإنما هي لغة العبادات والطقوس الدينيـة، لغة الزوايا والأولياء، والكتاتيب القرآنية، فكرة استعمارية دخيلة حقيرة سياسيا، رُوِّجَ لها ليظل النهج الاستعماري اللغوي والثقافي مهيمنا على الحياة الفكرية والعلمية، وتمرير ثقافة الإحساس بأن اللغة العربية ليست لغة علوم وفنون، بقدر ماهي لغة شعائر دين، وفقه وعبادات، أسلوب خطير في توجيه الأنظار والأفهام إلى اللغة العربية، على أنها مجرد لغة الكهنة والخرافات والقصص والأساطير؛ متناسين التلاقح الفكري الثقافي، والتفاعل الحضاري عبر التاريخ، وأنها من اللغات العريقة، حيث خصّها بعض العلماء (أولستهوزن) بدراسة خاصة، كلغة سامية ..

انطلاقا من هذه النقطة بالذات، وجه العرب أصابع الاتهام بدقة إلى أعداء اللغة العربية، الذين يريدون الإطاحة بقيمتها، وزعزعة كيانها، كحبل متين يعتصمون به للحفاظ على هويتهم، وكرافعة أساسية للتنمية كباقي اللغات، فتضافرت الجهود، وانطلقت المساعي لحمياتها...

5) حماية اللغة العربية من قبل الغيورين عليها

وبتظافر جهود بعض العلماء والمثقفين، والمتعاطفين الغيورين على اللغة العربية تعددت الأفكار، وتتالت النظريات، وأُنشِأت آراء متكاملة ومتناسقة لحمياتها، والذود عنها من الأيادي الآثمة التي تسعى لإلحاق الضرر بها ..

 ـ فهناك من اكتفى بحظ قليل من فصاحة القول وبلاغة التعبير تبعا للتقاليد وموروثاتها الخاصة، وبيئاتها الجغرافية المحدودة في صياغة جملها، وتركيب مفرداتها وفق قرائن متداولة لا يمكن البتة الخروج عن إطارها ..

ـ وهناك من تطلّع إلى صقل اللغة العربية وتحسينها، لتسمو في تعابيرها إلى مستوى أرقى من مستوى التخاطب العادي، باعتبارها أقدم اللغات السامية، فنمقوها بالمحسنات البديعية، وعمقوها بالمجازي والإيحائي والتلميحي ..

ـ وهناك من انشغل بها كلغة فصحى نزل بها القرآن، تستند دراستهم على منهج علمي دقيق، ينبني على الملاحظة والاستقراء، مع الإفراط في الحيطة والحذر، حتى تبقى اللغة العربية محضة لا يشوبها شائب، يمكن إفساح المجال لتطويرها وتجديدها، لكن دون الخروج عن الحدود ..

لكن ما ينبغي التأكيد عليه، هو أن اللغة العربية مهما حصّنّاها وأحطناها بأسوار فاصلة بينها وبين اللغات الأخرى، لابد من تبادل التأثر والتأثير، شأنُها شأن لغات العالم كلها، التي تتفاعل وتتلاقح ألفاظها مع بعضها البعض، فتندس في هيكل كل لغة .. وحصر اللغة العربية في حدود الفصحى، وإقفال جميع الشبابيك عن تعريب بعض المصطلحات الحضارية في حدود المعقول، وتطعيمها به، يوجه السداد لقتل اللغة العربية، والتوجه بها نحو الانقراض، إذا علينا حماية لغتنا العربية، ولكن بطرق حضارية تقوي جسدها، وتُمتّن ألفاظها، وتمكن من تعددها وتناسلها، وضخ دماء جديدة في أوردتها، لتحيا وتنمو،  ولا نحرمها من سيرورتها التاريخية التي تزحف بها لغة التعامل والجوار، الشيء الذي لا يستطيع أحد منا أن يوقفه أو يتصدى له..

لذا على المثقفين أن يهتموا باللغة العربية، شكلا ومضمونا وقيمة وتطويرا، من حيث الخاصية النحوية الصرفية والتركيبية، وتنامي ألفاظها وتطويعها حسب لغة العصر، وإبعادها عن القنوات التي قد تجرفها نحو التدني، كالانعطاف نحو العامية، والتصدي لتحريض الغزاة على إهمالها، باعتبارها ليست أهلا للعلم؛ وإغلاق المجال في وجه سطْو اللغات الأجنبية على المؤسسات، والتفاعل معها كأساسيات، مع تهميش وإقصاء اللغة العربية ..

6) التوصيات الضرورية لحماية اللغة العربية

اتخذت تدابير إجرائية سياسية وميدانية وإعلامية توصيات ضرورية يجب العمل بها لحماية اللغة العربية من ضمنها:

ـ أن ينهض الكوادر من لهم باع طويل في أمهات المعارف للنهوض بحماية اللغة العربية والعمل على تطويرها ..

ـ نهج سياسة تعليمية تستند على اللغة العربية، ونشر ثقافتها في المعاهد والجامعات، والمدارس والبرامج التلفزية والإذاعية والإدارات والمؤسسات العمومية ..

ـ تنقية اللغة العربية من شوائب العامية، اللهم ما تستدعيه الضرورة للإفهام عند مصادفة أشكال، لا مخرج لها غير توظيف العامية، أو توظيفها للتزين أو التنميق ليس بشكل أساسي ..

ـ التصدي للألفاظ الأجنبية بوضعها في قوالب عربية متينة، لا تساهم إلا بتكسير جذع اللغة العربية، أما إذا كانت مكملة ومغنية ومفسرة لإبهام ما، فلا ضير في ذلك ..

ـ العمل على توظيف المصطلحات العلمية والبحوث والتقنيات باللغة العربية، خاصة وأن اللغة العربية طيعة وتحمل في رحمها بذور النماء والتجديد، وقادرة على احتضان المستجدات..

ـ تفعيل مجامع اللغات العربية في الميدان العلمي، والتصدي بشدة لهيمنة اللغات الأجنبية واحتكارها الميادين ..

ـ هدم جدار الاختلاف السياسي بين الدول العربية، وتفرد كل واحدة بتوجهاتها وغاياتها من منظورها الشخصي، وتوحيد الرأي في تطبيق هذه المجامع خاصة وأن اللغة العربية هي لغة الكل ..

ـ التنسيق بغض النظر عن الاختلاف في مجال اللغة العربية لتكوين رؤية قومية واحدة، تشد عضد اللغة العربية لمواجهة التحديات وفق نهج مُحكَم للنهوض بها وتطويرها ..

* الخلاصة:  

وحتى تصبح اللغة العربية أكثر إشعاعا من أي وقت مضى، وتؤدي دورها المنوط بها حسب العصر، تحتاج إلى تجديد منهجي وإغناء معرفي، يقومان على أسس علمية بكل ما تحمله الكلمة من طرائق وأساليب حضارية سليمة، تستند على المنطق كالملاحظة والتجريب والتحليل والتطبيق،  مع الانفتاح على المنهجيات الغربية المتقدمة في البحث وتعليم اللغات، واتباع المنهج العلمي الذي يُستَعمل في دراسة العلوم، كالمنهج التجريبي وعلم الأصوات، والتصدي للتحقير الصارخ بنظرة التمييز التي تُعلِي من شأن اللغات الأجنبية، وتُدنِي من قدرات اللغة العربية، وكسر وتحطيم الجدار الشاهق بين اللغة العربية والعلوم، الذي هو في حد ذاته تحقير ملموس للعرب والمسلمين، بنظرة دونية افتقد فيها الإنسان العربي المسلم الإحساس بالكرامة والعزة والقوة، ترتبت عنها هزائم نفسية أضعفت الشخصية العربية في إحدى مقوماتها التي هي اللغة، وحطت من قدرها. وخلَقَ شروخا واسعة في جذعها، لكن بما أن اللغة العربية هي القاسم المشترك بين الشعوب العربية، والإسلام هو الجناح الدافئ الذي يحمي بفيئه الكل،  سيظلان دون شك الرابطين أشد توحيدا بين مكونات الأمة العربية وشعوبها ومجتمعاتها، لِلَمّ شتاتها وبناء وحدتها، والوعي بلغتها أنها لغة عربية لها مقومات وأسس غير قابلة للاختزال، وأنها السلاح الأوحد للتعبير عن مشاعر هذه الأمة العربية، وأحاسيسها، وأفكارها وأهدافها، ويدركوا عن وعي أن اللغة العربية ليست وعاء أو قالبا تصب فيه المعاني والأفكار فقط، وإنما هي محور للتفكير وقطب للتعبير، بينهما ترابط متين، بفضلهما يبقى التفكير سليما معبرا عما يحسه العمق، ويدور في الخلد، و يختلج في النفس، مما يعني أن سبيل وحدة هذه الأمة، يبدأ بتوحيد لغتها وثقافتها واستراتيجيتها المعرفية، والحط منها معناه المس بكرامة الناطقين بها ..

من خلال ما سبق نلاحظ أن اللغة العربية أقوى الروابط التاريخية التي تشد أواصر الأجيال في الشعب الواحد، ضمن وحدة ملموسة رغم اختلاف العصور، لكونها سجلا يختزل تجاربهم، وأرشيفا يحتفظ بمكوناتهم الثقافية: من عادات وتقاليد وعقائد التي يتوارثها الأجيال، مما يضمن الاستمرارية لهذه الثقافة؛ وإحساس الخلف بأهمية ما تركه السلف لا يتأتى إلا بتقاسم اللغة بينهما، والكل يعي أن اللغة العربية أقوى حافز، له الكثير من الفضل على تشبث العرب بعروبتهم في أنسابهم ودمائهم، والعلاقات الرابطة في ما بينهم،  وتعد أقوى سلاح للسيطرة على الأفكار والأشياء، الناقلة للقيم النبيلة، خاصة وأنها نابعة من جذور عربية أصلية؛ والأسف كل الأسف حين نصادف آراء مغلوطة من أطراف خارجية وداخلية، تنعتها باللغة الجامدة التي لا حركة فيها، أو ترى فيها اللغة العقيمة العاقر، التي لا تنجب بحوثا علمية، أو التي ترى في العامية أفضل منها لتقريب المفاهيم إلى المواطنين، أو التي أغلقت أبواب الاجتهاد، باعتبار أن الأجداد أتوا بالكمال الذي لا يمكن خلخلته بالحذف منه أو الإضافة إليه، أو التي ترى وجوب احترامها وتقديسها لأنها مرتبطة بالقرآن، مما أدى إلى تحريم الترخيص جملة وتفصيلا بالزيادة أو التوليد.. وحتى أنهي أوجه ندائي إلى الغيورين على اللغة العربية، أن يعتنوا بها، ويتصدوا لمن يحاول العبث بها ..

مالكة عسال

10/09/2018

..............................

المراجع والمصادر

ـ مناهج البحث في اللغة /للدكتور تمام حسان

ـ مباحث في النظرية الألسنية وتعليم اللغة للدكتور مشال زكريا

ـ بنية الشعر الجديد للمؤلف محمد عزام

ـ لغة الشعر العربي الحديث للدكتور السعيد الورقي

ـ بعض أقوال الأديب ميخائيل نعيمة

ـ بعض أقوال الأديب محمد مندور

ـ آيات من الذكر الحكيم (سورة البقرة)

ـ علم اللغة للدكتور علي عبد الواحد وافي

ـ دراسات في فقه اللغة للدكتور صبحي صالح

ـ البنيوية في اللسانيات للدكتور محمد الحناش

ـ واقع اللغة العربية بين المتفائلين والمتشائمين للدكتور عبد العزيز مقالح ..

ـ وسائل الإعلام والفصحى والمعاصرة للدكتور عبد العزيز مقالح ..

ـ اللغة العربية والنشاط الاقتصادي للدكتور سعيد بيومي

عناصر البحث في اللغة العربية

* فتح مبين

1) هل من تعريف محدد للغة العربية؟؟

2)تضارب الآراء حول نشأة اللغة العربية

3ـ مواكبة اللغة العربية للظاهرة الإنسانية في تطورها

ـ اللغة العربية والتعاليم الدينية والإسلامية

ـ اللغة العربية والاحتكاك بالفلسفة والمنطق الأرسطي

ـ اللغة العربية والأجناس الأدبية

ـ اللغة العربية ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة

ـ اللغة العربية كعمود فقري للاقتصاد

ـ اللغة العربية والحوسبة وعالم الكمبيوتر

4) تحقير اللغة العربية من قبل خصوم الإسلام

5) حماية اللغة العربية من قبل الغيورين عليها

6) التوصيات الضرورية لحماية اللغة العربية

* الخلاصة

 

 

عن البروفيسور ستروفه الفرنسي الروسي

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ضياء نافع

ضياء نافع(ستروفه) كان لقبا غريبا بالنسبة لنا، نحن الطلبة الاجانب بموسكو في ستينات القرن العشرين، اذ انه لا يتناسب ولا يتناسق ولا ينسجم مع الالقاب الروسية التي كانت سائدة حولنا، والتي تنتهي عادة بحرفي الواو والفاء مثل ليرمنتوف او تشيخوف ...الخ، او التي تنتهي بحرفي الياء والنون مثل بوشكين او بونين ...الخ، او التي تنتهي بحروف السين والكاف والياء مثل دستويفسكي او بيلينسكي ...الخ، ولهذا اعتبرنا (ستروفه) لقب شخص اجنبي لا علاقة له بروسيا، ولكن، وبعد ان تعمّقت معارفنا بتاريخ الثقافة الروسية (اكتشفّنا !)، ان بيوتر ستروفة (1870 – 1944) وفلاديمر لينين كانا رفيقين معا في الحركة الاشتراكية الروسية، ولكنهما اختلفا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بشكل جذري حول مسيرة الافكار الاشتراكية ومستقبلها في روسيا، ولهذا انفصلا بعضهما عن البعض، وسار كل واحد منهما في طريقه الخاص. وهكذا عرفنا، ان ستروفه هو فيلسوف روسي واقتصادي ومؤرخ وشخصية سياسية مرموقة في الحياة الفكرية والسياسية الروسية، وكان مؤثرا في مسيرة التاريخ السياسي واحداثه، وكل ذلك طبعا يرتبط بتاريخ الفكر الروسي بشكل عام، وتاريخ الحركة السياسية الروسية قبيل ثورة اكتوبر 1917 وما أعقبها من أحداث، وهي بعيدة عن موضوعنا، الذي نود ان نتكلم عنه في مقالتنا هذه، رغم انها مقدمة ضرورية جدا، اذ ان مقالتنا تدور حول حفيد ستروفه هذا، وهو مواطن فرنسي (ولد في فرنسا من أب روسي وام روسية ايضا، وهو بالتالي فرنسي من اصول روسية)، واصبح البروفيسور نيكيتا ستروفه (1931 – 2016) – استاذ الادب الروسي في جامعة باريس، والشخصية التي لعبت دورا (مع اللاجئين الروس الاخرين طبعا) في تعزيز التعاون الثقافي بين روسيا وفرنسا (بعد انهيار الاتحاد السوفيتي طبعا)، وقد تم منحه مدالية بوشكين لتعزيز التعاون الروسي – الفرنسي في مجال الثقافة والتعليم، ومدالية الدولة الروسية للحفاظ على الثقافة الروسية وتراثها خارج روسيا، ومدالية (اسرعوا لعمل الخير) الروسية في مجال حقوق الانسان.

غالبا ما كنا نلتقي طبعا، نيكيتا ستروفه وانا في القسم الروسي بجامعة باريس نهاية الستينات من القرن الماضي عندما كنت طالب دراسات عليا هناك، وكان هو آنذاك تدريسيّا في القسم المذكور، ويكتب ايضا اطروحة دكتوراه دولة حول الشاعر ماندلشتام، والذي كان شبه ممنوع آنذاك في الاتحاد السوفيتي (أصدر ستروفه بعدئذ كتابا ضخما عن ماندلشتام، ويعدّ الان واحدا من المصادر المهمة لدراسة حياة ماندلشتام وابداعه)، وغالبا ما كنّا نتحدث سوية، وسألني ستروفه مرة عن انطباعاتي حول موسكو والاتحاد السوفيتي بشكل عام باعتباري درست وتخرجت هناك، وقد تكلمت عن الجوانب الايجابية، التي رأيتها شخصيا رغم بعض السلبيات التي كانت موجودة فعلا في الحياة السوفيتية، ولكنه قال لي، انهم ( وكان يتحدث باسم اللاجئين الروس في فرنسا) يعتقدون، ان دولة الاتحاد السوفيتي ستنهار في نهاية القرن العشرين او، كحد اعلى، في بداية القرن الحادي والعشرين، ولم اتفق معه مطلقا وكليّا حول ذلك، وقلت له، ان الدولة السوفيتية قوية جدا بجيشها ومؤسساتها الامنية وتنظيماتها الحزبية، وانني لم أجد اي معارضة في تلك الدولة، عدا النكات السياسية التي كانت سائدة بين اوساط الطلبة بالاساس، وان قضية باسترناك وجائزة نوبل التي اضطر باسترناك ان يرفضها هي ليست قضية كبيرة يمكن ان تؤثر على مسيرة تلك الدولة، وقد استمع ستروفه اليّ بكل أدب، وقال لي مختتما هذا الحديث بمثل روسي هو – (نعيش ونرى) (وهو يذكّر طبعا بالمثل بلهجتنا العراقية – نعيش ونشوف) . لقد تذكرت وقائع حديثنا هذا عندما انهار الاتحاد السوفيتي طبعا في بداية التسعينات، وقلت بيني وبين نفسي، كم كان ستروفه على حق بكلامه آنذاك حول ذلك . لقد رويت هذه الحادثة مرة في مؤتمر علمي بجامعة قازان عام 2006، وقد علّق بروفيسور روسي من جامعة موسكو (كان يشارك في اعمال المؤتمر المذكور) قائلا، ان اللاجئين الروس كانوا يحللون بعمق واهتمام حقيقي كل صغيرة وكبيرة تحدث في الحياة السوفيتية، وكان لديهم الوقت الكافي لمتابعة ذلك بدقة ودراسته، بينما لم يكن لدينا نحن السوفييت سوى التأييد المطلق لكل خطوة يتخذها الحزب الشيوعي السوفيتي دون اي تحليل وتمحيص ونقاش موضوعي متفتح لدرجة، اننا نسينا حتى معنى التحليل والتدقيق والنقاشات المعمقة والعلمية حول تلك الخطوات وقيمتها وجدواها في مسيرة حياتنا اليومية آنذاك...

نيكيتا ستروفه اسم كبير في دنيا الادب الروسي، وله عشرات المؤلفات المنشورة باللغتين الفرنسية والروسية، ولديه مئات المقالات والدراسات والبحوث حول هذا الادب باللغتين ايضا، ولا مجال هنا حتى للتعريف بها، ويؤسفني الاشارة في الختام، الى ان ستروفه يكاد ان يكون مجهولا تقريبا للقارئ العربي...

 

أ.د. ضياء نافع

 

ابتهالات الحاج والكوندي لوكانور للمترجم والروائي عبد الهادي سعدون

التفاصيل
كتب بواسطة: د. كاظم شمهود

876 عبدالهادي سعدونقرأت في الايام الاخيرة كتابين مترجمين من الاسبانية الى العربية للدكتور عبد الهادي سعدون وهما – ابتهالات الحاج – و– الكوندي لوكانور - وعبد الهادي عراقي مقيم في اسبانيا منذ مطلع التسعينات ويعتبر من القامات الثقافية العربية الساطعة في مجال التأليف والترجمة في اسبانيا، وهو نشط ومبدع ويتسابق في عمله مع الزمن، وهو ايضا كهف حصين في ثقافته وجذوره العربية ، وكذلك رحالة يقيم المحاضرات هنا وهناك باللغتين الاسبانية والعربية وقد قامت عدت دور للنشر عربية واسبانية بطبع ونشر مؤلفاته وحاز على الكثير من الجوائز التقديرية في اسبانيا وخارجها منها جائزة الابداع الادبي الشعري جائزة انطونيو ما تشادو العالمية عام 2009 عن ديوانه الشعري – دائما – وهو مدير دار نشر الفالفا للاصدارات الادبية الاسبانية وعضو جمعية المتاسبنين الدولية AHI.. .. والقارئ الى ترجماته يجد قوة في النص واللغة وتماسك وحبكة في سياقها ومعانيها وبنائها الفني بحيث تشعرك ان المترجم استاذ وصاحب خبرة وتجربة عميقة ومسيطر على اللغة فلا تفوته شاردة او واردة، ولهذا فان ترجماته الى العربية فيها عذوبة غنائية ورومانسية جذابة وطروبة ...

ابتهالات الحاج

كتاب ابتهالات الحاج هي عبارة عن قصيدة طويلة لرحالة موريسكي مسلم الى مكة المكرمة مكتوبة بلغة يطلق عليها اسم - الالخميادية – اي الاعجمية ويمكن من خلالها معرف تدني مستوى آداب الرحاله في ذلك الوقت بعدما خسر المسلمون دولتهم واصبحوا في تخفي ومطاردة من قبل محاكم التفتيش و رحمة الدولة الكاتوليكية . هؤلاء المسلمون اظطرهم الواقع المزري في ذلك الوقت لاختراع كتابة لا يفهمها احد الا هم، يكتبون فيها آدابهم وتفاسيرهم وفقههم وعلومهم وغيرها وهي عبارة عن لغة اسبانية تكتب بحروف عربية. .. وقد اشارة احد الروائيين الاسبان المعاصرين وهو خوان غويستولوا بان على الادباء والدارسين ان يهتموا بهذا اللون من الآداب لانها جزءا لا يتجزءا من الآداب الاسبانية ..

ابتهالات الحاج لا يعرف مؤلفها وهي مجهولة كتبها احد الموريسكيين من منطقة اراغون من مدينة موريسكية تسمى- بوي مونثون- في نهاية القرن السادس عشر او بداية القرن السابع عشر بعض الدارسين للرحلة يضعون تاريخ احتمالي لعام 1603 قبل قانون الطرد الذي شرع عام 1609 من قبل الملك النمساوي فيليب الثالث والذي احدث صاعقة مأساوية للمجتمع الاسباني ... وقد خرج الحاج من بلدتهي على تخفي وحذر وابحر من مدينة بلنسية الى شواطئ شمال افريقيا ومدنها حتى وصوله الى مكة المكرمة ثم عاد الى مدينته من نفس الطريق .. وفي اناشيده او قصيدته يصف لنا رحلته بالتفاصيل عن ما شاهده من المدن الاسلامية والمجتمعات العربية وتقاليدها وعاداتها وما عاناه خلال ابحاره ومخاطر البحر... وتعد هذه الرحلة وثيقة حية لذلك الزمان . مثل رحلة ابن جبير 1145-1217 ورحلة ابو حامد الغرناطي 1080-1169 وغيرهم

876 2

اكتشاف اللغة الالخميادية:

في عام 1884 كان هناك عدد من العمال يقومون بتهديم بيوت عتيقة تعود الى ازمنة سحيقة في قرية- الموناثيد دي لا سيرا- من مدينة سرقسطة حيث كانوا يهمون بنقل حجارتها لبناء بيوت جديدة، وفي هذه الاثناء انهار جدار وسطي متكون من جدارين متلاصقين وقد وجدوا بينهما كما هائلا من المخطوطة القديمة وقد عمد اصحابها دفنها بين جدارين خوفا من اكتشافها من قبل محاكم التفتيش ... هذه الكتب تعرضت للرمي مع الانقاض وبعضها مزقه الاولاد .. وفي الاثناء كان هناك راهبا مارا فشاهد ذلك المشهد فقرر شراء الكتب من العمال مما حدى بهم الى الانتباه الى قيمتها التاريخية فاخذوا يبحثون اكثر عنها فوجدوا كميات اخرى من المخطوطات .. ولما علم بعض المهتمين بالتاريخ في سرقسطة توجه الى المكان واشترى كل ما وجد من مخطوطات وبعد حوالي 27 عاما من الدراسة والتدقيق لها استطاعوا من معرفة قرائتها وحل رموزها وهذه الكتب مكتوبة باللغة الالخميادية الموريسكية . وربما لازالت لحد اليوم هناك كنوز علمية وثقافية تعود للموريسكيين مخفية بين البيوت القديمة .

الكوندي لوكانور:

يعود الكتاب الى الامير دون خوان مانويل وهو يتضمن مجموعة من الحكايات والمواعظ الشعبية والامثال والتي جمعها وصاغها وانتهى من كتابتها عام 1335 م وبطلي هذه الحكايات هما الكونت لوكانور ومستشاره باترونيو والكتاب يتألف من خمسة اجزاء . علما ان الامير قضى ردحا من الزمن مع العرب المسلمين لقضايا شخصية ضد الممالك النصرانية وتعلم الثقافة العربية وتشبع بها و ربما حتى اللغة العربية ولكنه ما برح ان عاد الى اصله وانظم الى ابناء جلدته في الشمال ضد العرب .. ولد دون خوان في مدينة اسكالونا التابعة الى طليطلة عام 1282 وتوفى في قرطبة عام 1348 م ورغم انشغالاته السياسية الا انه كان اديبا بارعا وكان عاشقا للادب العربي ويرى ان اندحار العرب امام الكاثوليك ليس عيبا يحط من قدرهم فقد تركوا حضارة قامت عليها لاحقا الحضارة الاوربية .. وفي هذه الحكايات تأثيرات واضحة من كتاب كليلة ودمنة والف ليلة وليلة .. مثلا عندما قرأت بعض حكاياته وجدت واحد منها وهي . ان رجلا خرج مع ولده وخلفهما دابة فعندما مر عليه جمع من الناس قالوا كيف يسير الاثنان ولم يمتطي احدهما الدابة.. فامتطى الرجل الدابة، وعندما مر عليهما جمع آخر قالوا مسكين الشاب والده على الدابة وهو يسيرمتعبا، فنزل الرجل وركب الولد، فمر عليهما جمع آخر فلاموهما، فركب الاثنان على الدابة فمر ايضا عليهما جمع آخر وقالوا مسكينة الدابة كيف لهؤلاء ضمير ان يحملوها اكثر من طاقتها ... هذا اللون من الحكايات قرأتها في اكثر من الكتاب العربية ومنها قصص جحا ..

طبع هذا الكتاب لاول مرة في اشبيلية عام 1575 ثم اعيد طبعه عام 1642 وبالتالي فقد قراه كل كتاب القرن السابع عشر ثم طبع عدة مرات خلال القرن التاسع عشر وترجم الى اللغات الاخرى ولازال العمل حيا حيث اصبح تراثا حاضرا لما يحمل من قيم ثقافية وجمالية وانسانية ..

 

د. كاظم شمهود

 

 

شعرة معاوية أفضل من العداوة والانفصال

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ابراهيم أبراش

ابراهيم أبراشيأخذ علينا البعض أننا متفائلون دائما بالرغم من المشهد السوداوي للوضع الفلسطيني، وأننا نبدو وسطيين أحيانا في انتقادنا لطرفي المعادلة الفلسطينية –منظمة التحرير الفلسطينية وحماس- وتحبيذنا لعدم قطع شعرة معاوية ما بين حماس والمنظمة وما بين غزة والضفة وما بين الداخل والخارج، بالرغم من انتمائنا ودفاعنا عن المشروع الوطني .

لسنا هنا في وارد الدفاع عن موقفنا الشخصي، ولكن يهمنا توضيح طريقة مقاربتنا السياسية لبعض الأمور التي يختلط ويلتبس فهمها عند البعض، وهي مقاربة تستلهم التجربة التاريخية للشعوب ومبادئ المدرسة العقلانية في علم السياسة مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية الحالة الفلسطينية، كما تنطلق من المصلحة الوطنية العامة والتي لا تتطابق دوما مع المصالح الحزبية حتى وإن ادعت الأحزاب أنها تعبر وتمثل المصلحة الوطنية .

1- بالنسبة للتفاؤل السياسي

كتَبنا وتحدثنا كثيرا عن أن حالة التراجع وتراكم أزمات واستعصاءات القضية الوطنية لا يعود لنقص في عدالة القضية في مقابل عدالة المشروع الصهيوني، فهذا الأخير يمر بمفارقة أنه يعيش في أزهى مراحله من التفوق العسكري في مقابل أضعف مراحله من فقدان الشرعية وانكشافه عند الرأي العام العالمي، كما لا تعود لتقصير من الشعب واستسلامه للأمر الواقع، بل لخلل في أداء النخب الفلسطينية وانهيار النظام الإقليمي العربي ومتغيرات النظام الدولي واختلال في موازين القوى لصالح إسرائيل، وهذه كلها أمور واقعة ولا شك ولكنها مؤقتة وليست قدرا أو حتمية تاريخية، خصوصا أن القضية الوطنية لا تخص الجيل الحالي لوحده بل مِلك للأجيال القادمة كما أن مصيرها غير مرتبط بالنخب السياسية الراهنة .

وعليه فالمثقف أو رجل الدولة الذي يريد أن يشتغل بالسياسة من موقع المسؤولية الوطنية، عليه أن يتعامل مع القضية الوطنية برؤية تاريخية استراتيجية لا أن ينهار ويستسلم أمام أحداث عابرة، وعليه أن يكون دوما متفائلا مبشرا بغد أفضل، مقاوِما لحالة الاحباط واليأس، وألا يُخضع مقارباته الفكرية أو نهجه السياسي لحسابات المصلحة الشخصية أو الحزبية .

في هذا السياق تحضرني مقولة المفكر الايطالي أنطونيو غرامشي (تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة) فإذا كان الواقع يدعوا لليأس وخصوصا عند العامة فإن مسؤولية المثقفين والنخب الوطنية الواعية تبديد هذه الحالة بتوعية الشعب بأن الواقع حالة غير ثابتة، ومن هنا يأتي دور الإرادة في تغيير هذا الواقع، والإرادة متوفرة عند الشعب الفلسطيني وعند أحرار العالم .

2- أما بالنسبة لما تبدو أنها وسطية في الموقف .

بالرغم من أننا عبرنا، فكرا وممارسة، عن انتمائنا الوطني لمنظمة التحرير وللمشروع الوطني وهو انتماء يَحَتم علينا وعلى كل فلسطيني اتخاذ موقف معادي لإسرائيل و لكل من يؤيدها ويدعمها في سياساتها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني وحقوق المشروعة، إلا أن الأمر يختلف نسبيا في الموقف من الخلافات الداخلية، فحركة حماس مثلا لا تعتبر عدوا لمنظمة التحرير بل خصما حتى وإن اشتدت خصومته وشارفت تخوم العداوة .

في حالة كالحالة الفلسطينية حيث الاحتلال يهدد الكل الوطني وحيث كلا طرفي المعادلة الفلسطينية – المنظمة وحركة حماس - في حالة هدنة والبحث عن تسويات سياسية مع إسرائيل، فإنه من الجريمة أن يدعو البعض لحرب أهلية أو اللجوء للسلاح في حسم الخصومات الداخلية .

نقول هذا مع معرفتنا بالدور الذي تلعبه حركة حماس خارج سياق المشروع الوطني وما ألحقته من خراب في الساحة الفلسطينية وخصوصا بعد أن تورطت الحركة بالمشروع الإسلاموي العالمي الذي فشل على مستوى العالم العربي وأصبحت تتصرف بردود فعل استفزازية وتمارس الهروب إلى الأمام، بالإضافة إلى دورها في تمرير مخطط فصل غزة .

بالرغم من كل ذلك، فإن المصلحة الوطنية من وجهة نظرنا تتطلب التعامل بعقلانية والبحث عن مخارج وحلول سياسية على قاعدة الالتقاء وسط الطريق ومبدأ لا غالب ولا مغلوب، حتى نجنب الشعب الانزلاق نحو حرب أهلية مع حركة حماس المدججة بالسلاح والمسنودة من شبه تحالف إقليمي ودولي بما فيه إسرائيل يريد استمرارها في حكم قطاع غزة ليس حبا بحركة حماس أو بالشعب الفلسطيني بل رغبة في تدمير المشروع الوطني وتكريس فصل غزة عن الضفة .

3- صعوبة إقصاء طرف للطرف الآخر

 من الصعب في الوقت الراهن إقصاء طرف للطرف الآخر بالقوة، وليس من المصلحة الوطنية محاولة ذلك، فلا منظمة التحرير تستطيع الآن الإقصاء التام لحركة حماس من المشهد، ليس بسبب العوامل المُشار إليها أعلاه فقط بل أيضا لأن حماس تمثل أيديولوجيا دينية ما زالت فاعلة في المجتمع ولها مؤيدين وأنصار داخل الوطن وخارجه يؤمنون بها وهؤلاء لا يمكن تجاوزهم بسهولة .أيضا لا تستطيع حركة حماس إقصاء منظمة التحرير لأن لهذه الأخيرة تاريخها النضالي ويعترف بها الشعب وكل دول العالم بأنها تمثل الشعب الفلسطيني، ولأن حركة حماس فشلت في أن تكون البديل لا على مستوى البرنامج الوطني ولا على مستوى النهج والسلوك السياسي .

الطريقة الوحيدة لانتصار طرف على آخر لا تتأتى إلا من خلال صناديق الانتخابات، وحتى في هذه الحالة فالانتصار يُحسب للشعب عامة أكثر مما يُحسب للحزب الفائز .

4- الحفاظ على شعرة معاوية

لكل ما سبق فإننا أمام خيارين :إما الاستسلام للتشاؤم والإحباط والاستسلام لواقع الانقسام وفصل غزة عن الضفة وتجاهل أهلنا في الشتات وربما الانزلاق نحو حرب أهلية، أو رفض ذلك وتفعيل الإرادة الوطنية ونشر روح التفاؤل بالمستقبل والحفاظ على شعرة معاوية ما بين الطرفين، وخصوصا أننا نسمع أخيرا تصريحات من الطرفين تدعو للتفاؤل . أيضا كيف تستقيم دعوة البعض وتحريضهم على قطع شعرة معاوية مع الخصم السياسي الداخلي فيما الطرفان يربطهما بإسرائيل (حبل من مَسَد) .

وأخيرا، هناك دوما ما يمكن عمله للخروج من المطبات والمنعطفات المصيرية الصعبة، ومما يمكن عمله للحفاظ على ما هو أكثر وأمتن من شعرة معاوية في العلاقة ما بين غزة والضفة، وفي هذا السياق ندعو للتفكير جديا بما طرحناه سابقا وهو فلسطين دولة اتحادية، وهذا أفضل من الفصل النهائي ومن بقاء الأمور على حالها من علاقة عدائية بين كيانين فلسطينيين متعاديين، وربما كيان واحد في غزة تتصارع على حكمه كل القوى السياسية .

 

د/ إبراهيم ابراش

 

الأزمة القطرية وآفاق الحل!

التفاصيل
كتب بواسطة: ساهر عريبي

بذلت السعودية ومنذ إعلانها فرض الحصار على قطر في شهر يونيو من العام 2017، بذلت جهودا محمومة لحمل الدوحة على رفع راية الإستسلام والرضوخ لمطالب دول الحصار بعد أن قررت معاقبة قطر لدورها الكبير في وقوع ماعرف بثورات الربيع العربي. وبعد مرور قرابة العامين فإن آفاق حل هذه الأزمة تبدو قاتمة اليوم أكثر من أي وقت مضى بعد أن حققت السعودية مكاسب في الأونة الأخيره وعلى حساب قطر . ويعود هذا التشاؤم الى ان السعودية والإمارات ألقت بكامل ثقلهما لحسم هذا الملف لصالحهما مستخدمة كافة الأوراق ومنها ورقة تحجيم الدور القطري في منطقة الشمال الأفريقي بعد أن  فشلت فشلا ذريعا على هذا الصعيد  وحتى الأمس القريب، نظرا لأن دول الشمال الأفريقي إختارت الوقوف على الحياد في الأزمة التي اندلعت بين كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر من جهة وقطر من جهة أخرى على خلفية إتهام السعودية لقطر بدعم الإرهاب وزعزعة استقرار المنطقة والعالم العربي!

فشل سعودي

ففي ذلك العام  أكدت الحكومة التونسية  على حيادية البلاد في الأزمة الخليجية،  رافضة عرضا استثماريا سعوديا يقدر بـ 800 مليون دولار بالرغم من الظروف الإقتصادية الصعبة التي تمر بها تونس. وفي ليبيا بقيت الهيمنة لحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا والتي تحتفظ بعلاقات وثيقة مع قطر وتركيا، فيما تنامت العلاقة بين الجزائر وقطر بعد أن استثمرت الدوحة أكثر من ملياري دولار في مشروع للحديد في الجزائر. وفيما يتعلق بالسودان فقد سعت قطر الى توثيق علاقاتها من خلال ضخ استثمارات ضخمة فيها وإقامة  مشاريع كبيرة في ميناء بورتسودان.

نجاح سعودي

لكن هذا الصورة إنقلبت مؤخرا وبشكل متسارع  بعد أن بذلت  السعودية والإمارات جهودا ضنية لتغيير المعادلات السياسية والعسكرية في تلك البلدن بعد ان نجحتا في قلب المعادلة على حكومة الأخوان في مصر والذي شكل ضربة موجعة لقطر منذ الإطاحة بحكم الرئيس محمد مرسي وتولي عبدالفتاح السيسي مقاليد الحكم ليصبح ركنا أساسيا في التحالف السعودي الإماراتي، وليلعب دورا في دول الجوار وخاصة ليبيا والسودان وبما يصب في مصلحة هذين البلدين وبما يحجم الدور القطري.

فقد نجح  التحالف السعودي الإماراتي في قلب المعادلة السياسية في تونس التي تراجع فيها دور حركة النهضة، فيما ثبتت السعودية أقدامها فيها مستغلة المتاعب الإقتصادية التي تعاني منها تونس التي تعرض إقتصادها الذي يعتمد على القطاع السياحي الى ضربة موجعة من الجماعات الإرهابية في العام 2013 ولم يتماثل الى الشفاء حتى اليوم.  وجاءت زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الى تونس عقب وقوع جريمة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في اسطنبول، وتبعتها زيارة الملك السعودي سلمان بن عبدالعزيز، لتعزز من النفوذ السعودي في البلاد وعلى حساب النفوذ القطري المتمثل بحركة النهضة.

وأما في ليبيا فإن خليفة حفتر الذي يقود قطعات من الجيش في الشرق الليبي نجح وبفضل الدعم الإماراتي والمصري من توسيع رقعة سيطرته على ليبيا لتمتد الى سبها جنوبا ولترنو عيونه نحو الغرب وخاصة العاصمة طرابلس ليصبح حاكم ليبيا الأوحد في حال نجاح عملياته العسكرية للسيطرة على العاصمة. ولم يكن لحفتر أن ينجح في السيطرة على بنغازي وسبها والهلال النفطي والتقدم نحو العاصمة لولا الدعم الإماراتي والسعودي.

وفي السودان فإن تطورات الأوضاع فيها استثمرتها دول الحصار   خير استثمار إذ وقفت الى جانب المجلس العسكري الذي أطاح بالرئيس السابق عمر البشير راكبا موجة التظاهرات الشعبية، فقد  تبرعت له الإمارات ب 250 مليون دولار مما يوحي بان السودان هي الأخرى سقطت في قبضة التحالف الإماراتي السعودي. ومع إندلاع التظاهرات الشعبية في الجزائر واستقالة بوتفليقه، فيبدو أن الأمور تتجه فيها لصالح السعودية خاصة وان المال السعودي هو أمضى سلاح بيد المملكة التي تكسب بها رضا الكبار وتشتري به الحلفاء.

 ويبدو اليوم أن غبرة الصراع مع قطر قد اوشكت على الإنجلاء ولم يعد لقطر من حليف سوى تركيا، التي تراجع فيها الحزب الحاكم امام المعارضة خلال الإنتخابات البلدية الأخيرة وهو تطور مثير لقلق الدوحه، ولايستبعد ان المال السعودي لعب دورا في ذلك لأن التحالف السعودي الإماراتي لايرغب برؤية أردوغان وحزبه القريب من جماعة الأخوان المسلمين  على سدة الحكم في بلد مهم ومؤثر في المنطقة كتركيا، القادره على قلب معادلة الصراع لصالح قطر او على الأقل عدم استسلام الأخيره.

الدوافع

وهنا لابد من الإشارة الى الدوافع الكامنة وراء هذا التحرك السعودي في منطقة الشمال الأفريقي واولها ان السعودية بصدد تعويض خسائرها في منطقة شرق السويس، فقد منيت سياساتها بهزائم ذريعة في كل من سوريا ولبنان والعراق، بعد ان فشلت في قلب المعادلة لصالحها في تلك البلدان، كما وان الحرب في اليمن هي الأخرى منيت بفشل كبير ولم تحقق أهدافها المعلنة بالرغم من انها كلفت السعودية عشرات المليارات من الدولارات لكنها ظلت عاجزة عن حسم المعركة لصالحها بالرغم من تفوقها العسكري على اليمن.

وأما الدافع الثاني فهو هاجس جماعة الأخوان المسلمين الذي يشكل أكبر مصدر قلق لحكام الإمارات الذي وضعوا استراتيجية لإستئصال هذه الجماعة من المنطقة، وعدم ترك مساحة لعملها سوى في السجون وإلا فإن المقابر نصيب أعضائها. ويلاحظ بان معظم دول الشمال الأفريقي التي استهدفتها السعودية والإمارات كانت ولازال بعضها يخضع لحكم جماعات قريبة من الإخوان المسلمين . وفي حال بسط تحالف الحصار هيمنته على تلك البلدان وبانتظار حسم الصراع في الجزائر، فإن الأوضاع في المنطقة تتجه نحو القضاء على جماعة الأخوان التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع الدوحة.

 وأما الدافع الثالث فهو محاصرة قطر وتحجيمها ولربما ابتلاعها بعد القضاء على عناصر قوتها الخارجية.  وتبدو العقبة الوحيدة اليوم امام التحالف السعودي الإماراتي هي تركيا، الحليف الكبر للسعودية، التي أصبحت هدفا للسعودية بسبب تحالفها مع قطر ولهيمنة حزب العدالة والتنمية  المرتبط بجماعة الأخوان على حكومتها، ولكونها أضرت بسمعة السعودية كثيرة خلال ازمة خاشقجي. ولا شك بان السعودية تراهن على الإنتخابات التركية المقبلة  لإحداث تغيير في البلاد، لكن هذا الهدف يبدو بعيد المدى، فالأنتخابات المقبلة ستجرى في العام 2023  ولايعتقد بان السعودية ستنتظر حتى ذلك العام، بل ستبذل مافي وسعها لضرب الإقتصاد التركي الذي بدا بالترنح إثر العقوبات الإقتصادية التي فرضتها إدارة الرئيس ترامب.

الخيارات القطرية

إن مما لا شك فيه ان  هذه التطورات  تثير قلق قطر بشكل كبير، التي لن تقف مكتوفة الأيدي وهي تخسر قلاعها في المنطقة واحدة تلو الأخرى، فيما تتمدد السعودية في المنطقة وعلى حساب النفوذ القطري في الوقت الذي تسعى فيه  أيضا لترميم علاقاتها مع الجارة الشمالية العراق.  ولاتبدو الخيارات أمام قطر واعدة، فهي لايمكن أن تعول على تركيا التي قد تتدهور فيها الأوضاع في أي لحظة كما وان الحليف الأمريكي لايبدو انه موثوق به في ظل هذه الإدارة التي لا يهمها سوى المال السعودي!

واما ايران المحاصرة بالعقوبات الإقتصادية وتواجه شبح الحرب فلن تربط قطر مصيرها بها.

وهكذا تبدو الصورة واضحة وهي أن التحالف السعودي الإماراتي يسعى الى تركيع قطر للقبول بشروطه التي وضعها لرفع الحصار وإنهاء الأزمة، ويتسلح هذا التحالف بدعم الإدارة الامريكية وبالعلاقة الوثيقة مع اسرائيل والتي قد تصل الى مستوى التحالف غير المعلن. ولذا فإن قطر تقف أمام خيارات صعبة تبدو فيها قاتمة أكثر من أي وقت مضى، فالإستسلام للسعودية يعني تحول قطر الى تابع لها وكما هو عليه الحال مع البحرين بل وأسوأ بكثير. واما استمرار صمودها ومع الأخذ بعين الإعتبار هذه التطورات فلايبدو أنه سيكون لصالح قطر، التي قد تغري هذه الإنتصارات السعودية  باجتياح قطر وبضوء أخضر امريكي مماثل لتحرك حفتر في ليبيا او بإحداث انقلاب فيها.

أوراق خاسره

وفي هذا الخضم فإن أبواب المجتمع الدولي  اغلقت بوجه قطر للتوصل الى حل دبلوماسي للأزمة نظرا لأن هذا المجتمع وخاصة الولايات المتحدة اتخذت قرارا بالوقوف الى جانب السعودية، التي قدمت لترامب 460 مليار دولار طالما افتخر ترامب بأخذها باعتبارها حقا امريكيا مقابل الحماية الأمريكية للسعودية!  وحتى لو قدمت قطر للأدارة الأمريكية مبلغا أكبر منه فإن امريكا لن تتخلى عن أكبر بلد منتج للنفط في العالم. واما الخيار العسكري فيبدو بعيدا جدا وخاصة فيما يتعلق بالورقة الروسية، إذ لايمكن لقطر ان تستعين بروسيا كما فعلت سوريا، مع وجود قاعدة العيديد الأمريكية في البلاد. وأما الورقة الإسرائيلية فلم تعد مؤثرة بعد أن وصلت العلاقات بين دول الحصار والدولة العبرية الى حد التحالف غير المعلن تحت ذريعة مواجهة الخطر الإيراني المزعوم.

أوراق قطرية رابحة

إلا انه وبرغم كل ذلك فإن هناك اوراقا رابحة مازالت بيد قطر واولها  ورقة إنسحابها من مجلس التعاون الخليجي وهي ورقة ذهبية ستثير حفيظة السعودية والإمارات اللتان تقودان المجلس وقد تفضي الى إنفراط عقد هذه المنظومة، خاصة وان هناك دولا مستاءة من الهيمنة السعودية الإماراتية على المجلس مثل الكويت وعمان إضافة الى ان هذه المنظومة ابتعدت عن الهدف الذي أسست من اجله وتحولت الى منظمة للعدوان وحصار احد أعضائها وليس للتعاون. وأما  الورقة الأخرى الرابحة بيد قطر فهي الورقة العراقية. فهذه الجارة الشمالية   سارعت  السعودية الى تغيير  سياساتها إتجاهها بعد أن بدا وبشكل جلي أن الأوضاع داخل العراق قد تغيرت  وبما يبشر بان بلاد الرافدين بدات تستعيد عافيتها وموقعها الطبيعي في المنطقة.

إن الإنسحاب القطري من مجلس التعاون وتقوية العلاقات مع العراق سيسهم في ولادة منظومة خليجية جديدة يقودها العراق وقطر ولاشك بان مجرد التلويح بهذه الورقة سيثير قلق السعودية والإمارات ويدفعهما الى إعادة النظر في حساباتهما فيما يتعلق باستمرار محاصرة قطر الذي قد يقوض الهيمنة السعودية على دول الخليج العربية فضلا عن أنه مكلف إقتصاديا للسعودية، إذ ان ديمومة النفوذ السعودي في منطقة الشمال الأفريقي وتحجيم الدور القطري مرهون بتدفق المال السعودي الى تلك المنطقة وبغير ذلك فستنقلب دول تلك المنطقة على السعودية بين ليلة وضحاها وتذهب جهود السعودية وحلفاؤها ادراج الرياح!

 

ساهر عريبي

 

المثقف النقدي واسئلة العصر

التفاصيل
كتب بواسطة: نبيل دبابش

نبيل دبابشلقد كنا بالأمس ونحن طلبة جامعيون نميز بين نوعين من المثقفين، مثقف عضوي راديكالي بسبب انتماءه إلى النشاط النضالي الحزبي وتمسكه بأبجديات الممارسة السياسية المنصوص عليها في المنشورات الثورية – وفق تصنيف غرامشي-، وبين مثقف السلطة الذي اختار أن ينتسب إلى مشروع المؤسسة الحاكمة ليكون صوتها لدى الجماهير في مجال الكتابة وإنتاج المعنى وفق أجندة مناسباتية...لم يكن حينها التميّز بين المثقف السلطوي والمثقف الأصولي قائما بشكل واضح .بل هما – في الغالب – يحملان نفس الرؤية وينتجان نفس الخطاب بأسلوبين مختلفين.

غالبا ما كان مثقف السلطة هو من يحتكر إلى جانب الفضاءات العمومية ، قيم المواطنة والوفاء وشرعية الخطاب، في مقابل المثقف العضوي الذي لم يلق إلا التخوين والإقصاء بسبب عداءه لأيديولوجية الدولة الوطنية وأساليبها في معالجة الانشغالات الاجتماعية، بعد أن كان في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي هو من يمثل الخطاب الشرعي. نعم تغيرت الأحكام والمراتب بتغير موازين القوى.

سؤالنا اليوم، هل تغير الوضع كثيرا ؟

 وهل التصنيف السابق يصدق على واقعنا المعاصر بعد انتهاء عصر الإيديولوجيات وتراجع الأصوليات المختلفة، وبعد أن ساهمت الانتفاضات الشعبية بدءا من 2010م في زعزعة مصداقية الدولة الوطنية وما تركته من منظومة معرفية كبيرة لا تزال تتحكم في كتابة برامج التعليم والإعلام؟... اننا نظن بأن تلك الثنائية لم تعد تملك حظوظا كبيرة في تفسير الواقع في هذا الظرف التاريخي، وأن ذلك التصنيف لن يكون صادقا بما فيه الكفاية لو اخترنا الاعتماد عليه.

ربما نفضل– اليوم- تصنيفا أخر نظنه اقرب إلى الواقع. يتمثل في الفصل بين مثقف في التاريخ ومثقف خارج التاريخ، بين مثقف نقدي يعيش مشكلات زمانه المعرفية أو الاجتماعية بوعي ومشاركة، يسعى إلى الكشف عن الآليات الخفية التي تتحكم في إنتاج المعنى في واقعنا، وبين مثقف أصولي يرى في اسئلة الواقع المتغير اختبار لوجوده الراكد والحالم، ولا يرى في حركية التاريخ إلا ذبابة تريد أن توقظه من نعاسه الجميل...

صار عندنا اليوم مثقف نقدي يعمل على تفكيك مجموعة كبيرة من المعطيات الفكرية والاجتماعية في سبيل تقديم قراءة أكثر وضوحا، ومثقف يتقمص دور الداعية ليعتقد في نفسه المسؤول الأول عن الغنم الضالة، ولا يرى في الوجود الاجتماعي إلا أخطاء تنتظر منه الوصاية. إن الاختلاف هو بين من يبحث عن الحقيقة ولا يدعي أبدا بأنه قد أدركها وبين من يرى الشيطان في كل شيء وهو وحده من يمتلك خاتم سليمان لتطويع ذلك الجن المارد، ثم يقر – ضمنيا - بعجزه على المواجهة في غياب القاموس الجاهز الذي ورثه عن القرون الماضية.

ليس بالضرورة أن يمثل دور الداعية ذلك المتدين الكلاسيكي– دائما -، بل قد يكون من بين المثقفين المحسوبين على التيار التقدمي أو ضمن الذين لم يفهموا الديموقراطية إلا بعد تجويفها من معانيها التاريخية. المشكلة هي في اسلوب الرؤية وفي مسافة التموقع من الحقيقة. الدوغمائية والتعصب إلى الرأي وتعظيم الخطأ كلها معايير تتنافى والموقف النقدي.

يردد الكثير من الباحثين في – أيامنا - عبارة عودة الديني إلى الفضاء العام بعد غياب طويل، والمقصود هو عودة الخطاب الديني وانتشاره بين الفئات الاجتماعية. نحن لا نوافق على هذا التصور، ربما لقصوره الواضح في مقاربة الواقع. بل نقول بوجود مراحل عرفها الخطاب الديني وصورا متعددة تميز بها خلال التاريخ فليس هناك غياب أو حضور، بل كل ما في الأمر هو انتقال من حالة إلى أخرى ومن وضع إلى آخر.

هي نفسها الحالة التي تميز بها الخطاب النقدي، فهو يتغير بتغير موازين القوى. قد يكون هو الخطاب السائد في مرحلة من التاريخ، أو عكس ذلك هو الخطاب المضطهد. لقد عرفت بغداد وقرطبة لحظات تاريخية عظيمة تعالت فيها أصوات العقل والإبداع لتشكل نموذجا لا يزال يلقى الإعجاب إلى يومنا هذا، ونقلت الينا المدونات اخبار ما كان يحدث من لقاء ونقاش بين الطوائف والملل في بيئة اتسمت بتغليب لغة المنطق والعقل، لتأتي بعدها مراحل الردة وانتشار كبير لمجالس التفتيش وحلقات التكفير.

المثقف النقدي هو صاحب رسالة من نوع خاص، ليس من الضروري أن يستمر التعامل معها بمعايير المنفعة التي نستعملها مع السياسي او كل نشاط ذو طبيعة إجرائية...للمثقف أسئلته وهواجسه فليس من المعقول أن نرى فيه بائعا للحلول أو ننتظر منه الحضور في كل مناسبة...يجب أن يعاد ترتيب المقاييس. رسالة المثقف لم تعد النهي عن المنكر والأمر بالمعروف...اذ قد يسهم بقلمه في تقديم تصورات حول مشكل اجتماعي أو سياسي ولكنها ليست رسالته الوحيدة.

قبل أن يحدثك عن فوضى المجتمع وتناقضات النشاط السياسي ، فان المثقف النقدي يبدأ - اليوم - بالحديث عن فوضى التفكير والحدود المنهجية لبعض الأنساق المعرفية والتصورات. هو لن يحدثك عن الواجبات والأحكام بقدر ما يشد بيدك للتفكير سويا في سياق عقلي أنجع يتجاوز الاختزالية المتوارثة عن المعطيات الأيديولوجية. هو لا يرى في السلوكيات الممنوع والمحرم بل التعدد والاختلاف، ولا يفكر ضمن الجاهز كما يريد له الاصولي، بل هو من يعلن الثورة على الجاهز ويسعى الى تفكيك اصوله وكشف المسكوت عنه. ليس في نية المثقف النقدي تأسيس خطاب منتهي او التشريع لبرنامج حياة، بقدر ما يهدف الى تقديم صورة اوضح عن المجال المعرفي والسوسيولوجي بعدما يقوم بتنقيتها.

ان صورة الاب والنموذج الناجح الجاثمة في ذواتنا هي نقطة انطلاق المثقف النقدي، الذي سيجد نفسه بسببها امام تحد كبير. القبول بها يعني السقوط في التفاصيل، رفضها يعني الدخول في صراع مع المحيط، وهنا يكمن سر معاناته.

ان نكون مثقفين اليوم يعني ان تكون لنا مواقف وليس مهن نتعلمها لنسترزق منها. من المؤسف ان الكثير من المثقفين الاكاديميين اختاروا الابتعاد عن الكتابة النقدية لأجل الاهتمام بمقتضيات الدرس والمحاضرة اي الانغماس في التفاصيل، وهو ما يميز الكثير من الاقسام الجامعية في المنطقة العربية، ويؤهل نسبة معتبرة من المتخرجين الى تبني الخطاب الدوغمائي...اننا في امس الحاجة الى فئة طلائعية، تؤسس لفكر نقدي جديد وتؤمن بضرورة احداث القطيعة الفكرية مع المنهجية التقليدية. لا نعتقد ان المؤسسة الجامعية في منطقتنا العربية تتوفر على الامكانات الكافية لصنع هذا النوع من النخبة في الظرف الحالي.

اذا كان خطاب المثقف التقليدي يتميز بالثبات، معتمدا على منهجية السلف دون اي تحيّين منهجي لمعطياتها بما يتطلبه الراهن او لأن معطياتها تحكمها الضرورة التاريخية ولذا يصعب كثيرا الاحتفاظ بها كاملة. فان المثقف النقدي لن يكون إلا بإحداث القطيعة مع اجيال من التصورات، من خلال انتاج خطاب يكشف المسكوت عنه ولا يتوقف عند الاسس والاصول بسبب قداستها بل يسعى الى اعادة قراءتها وتبيان الخلل الذي اراد المؤرخ ان يخفيه عنا . وفي هاته الحالة لا بأس ان نشيد بجهود الدكتور محمد المسيح في كتابه الصادر سنة 2018 م '' مخطوطات القرآن. مدخل لدراسة المخطوطات القديمة '' وجهود الباحث المغربي رشيد ايلال '' صحيح البخاري نهاية اسطورة ''. لما لهاته البحوث من قيمة في كونها كانت السباقة الى اعادة قراءة ما اصطلح على تسميته بالأصول والثوابت.

و نحن نتعمد اختيار النموذج من بيئتنا حتى لا يقال اننا ننسخ افكار الغرب لندمر بها دار الاسلام ونزيل بها مجد المسلمين وعزهم. الاسئلة التي ورثناها كثيرة ويصعب تعدادها، ولكن المشكلة التي نواجهها هي في قلة الجرأة وضعف الادوات.

كثيرا ما يرتدي المثقف التقليدي ثوب المثقف الحداثي والنقدي ليخفي اهدافه الايديولوجية او احيانا العنصرية والاقصائية ، وهي ليست ميزة التقليدي – عندنا – فحسب بل موجودة وبكثرة في بلدان اوروبا ..و لا بأس ان نشير الى كتابات اودون لافونتان Odon lafontaine حول الرسول (ص)، او منشورات سامي الذيب... فبالرغم من ان هؤلاء الباحثين يّدعون الانتساب الى الرؤية العلمية والنقدية فهم لم يعيدوا سوى انتاج خطاب القرون الوسطى، الذي تميّز بتفضيل ثقافة المنتصر واعلاء شأنها.

آن الوقت لفتح قارات جديدة من الاسئلة يساهم المثقف العربي فيها لأجل اعادة الاعتبار لوجوده المهدد بالزوال على حد تعبير ادونيس، مهدد بالانقراض لأنه عجز عن المشاركة في صنع تاريخه الراهن والمساهمة في انتاج المعنى الذي غالبا ما يلجأ الى استيراده جاهزا من مجتمعات اخرى.

مشكلة المثقف في المنطقة العربية واحدة، الانتظار المستمر ان توفر له السلطة كل ما يحتاجه وتهيئ له المناخ والامكانات. وكأنه لا يعلم لأي سلطة ينتمي؟...لا نريد السقوط في ابجديات خطاب الاسلام السياسي بتعداد مواصفات الزامية يتحلى بها المثقف النقدي، كأن نبدأ بجرد الخصال اللائقة والمباحة وتجنب المشبوهة او المكروهة. ولكننا نسعى – بكل بساطة – الى تقريب صورة النموذج الحي بوضعه بين هلالين.

فشلت الكثير من موجات الانتفاضة الشعبية في المنطقة العربية بسبب غياب المثقف النقدي الذي يعطيها معنى، ويخرجها من سياج العاطفة والحاجة لتصبح مشروع مجتمع جديد...ربما لان الظرف التاريخي وتسلسل الاحداث لم يوفر الوقت او الفرص التي قد يحتاجها المثقف لإبداء رأيه بكل حرية، ورغم ذلك نعتقد انه لا يزال في وسعه ان يقدم الكثير .هذا هو عصرنا ولا خيار امامنا ان اردنا ان نعيشه برؤوس عالية وبحضور حقيقي،علينا ان نمارس وجودنا ثقافيا هو اهم ما نحتاج اليه.

هل يمتلك المثقف العربي مشروع معرفي بمعزل عن الخطاب الايديولوجي المتداول منذ خمسينيات القرن الماضي او قبلها بقليل ؟ لا اعتقد ذلك ولا نتفق مع الدكتور على حرب عندما ذهب الى القول باننا نساهم في صنع الحداثة من خلال مناقشة قضاياها عربيا. اظنه فرق كبير بين أن تترجم مفاهيم كبيرة َأنتجها عقل غريب وبين أن نكون السباقين الى توليدها من رحم بيئتنا.

ذلك هو ما يجعل من المثقف نقديا. أن يمتلك مشروعا لمجتمع ومشروعا للعقل.

 

نبيَــــل دبابـــــش.

 كاتب من الجزائر

 

(باشو ماتسويو) رحلة من الهوكو الى الهايكو

التفاصيل
كتب بواسطة: علي محمد القيسي

علي محمد القيسيما زلنا في ذات العقدة العصية على منشار الهايكو العربي الشعري والذي يبدو أن أسنانه كلت أن تعبرها وهي خصائص الهايكو الياباني بين من يراه في التراث الياباني وبين المنتج العربي للصورة الحالية (كنص نثري قصير) قابلة للتأقلم مع الشذرة والومضة .. بحسب المدارس التي تستهل هذا أو ذاك من النصوص ولعل ما فتح شهيتي للخوض بهذا الجدال الذي أصبح ازليًا هي العودة لنصوص التراث الياباني قبل 1868 م وخصوصًا لمؤسس الهايكو الياباني (باشو ماتسويو1644-1694) والذي صنف كأعظم شاعر هايكاي وهوكو الذي لم تخلُ بعض نصوصه من المجاز والأنسنة وانفلات عن خصائص ونصوص بعد نهاية القرن 18 الميلادي ولكي نمرّ نحو الهايكو وخصائصه بسلاسة علينا أن نعرف التسلسل الأدبي للقصيدة اليابانية وكيف تطورت إلى أن وصلت لباشو ..

انبثقت من تقليد شعري آخر كان سائدًا وهو الرينغا الذي وظف المثال والحكمة والقول المأثور والمقابل الادبي لها بهذه الخصائص هي الشذرة إلا أن الرينغا كانت تكتب باجتماع عدد من الشعراء ويصل طول القصيدة إلى 100 بيت شعري حيث كان الشعراء بالتناوب يكتبون قصائدًا من 17 مقطعًا صوتيًا أو 14 مقطعًا صوتيًّا وكانت الرينغا جنسًا أدبيًا رفيع المستوى * يصف القرون الوسطى في اليابان مستظهرين كلاسيكيات الشعر الياباني .. ازدهرت في القرن 15 الميلادي و في القرن 16 أصبحت الشعبية أكثر لقصيدة الهايكاي * إلا أنه مختلفٌ تمامًا عن الرينغا لقصر النص والمفارقة التي فيه استخدم فيها الشعراء التلاعب بالكلمات التي لم تكن موجودة سابقًا فضلاً عن لغته الشعبية نوعًا ما .

كان مطلع نص الهايكاي يسمى الهوكو والذي كان يتألف من 17 صوتًا حيث كان الشعراء يستخدمون المطلع كقصائد منفصلة وهي النواة الأولى للهايكو من ناحية البناء الشكلي للقصيدة والوزن الصوتي .

ويقول ريو يوتوسيا : اشتهر باشو أيام شبابه بقصائد هزلية والتلاعب بالكلمات في مطلع قصائد الهايكاي حتى عام 1680 حيث أصبحت نصوصه (الهوكو) مشحونة بالفلسفة بعد تأثره بالشاعر الصيني بتشوانغ تسو الفيلسوف الصيني في القرن 14 والذي كان يكتب ببساطة ولم يعر أهمية لزخرف الكلام (المجاز) وأنكر القصدية (التاويل) ولم يعطي قيمة للذكاء بالنص (الفلسفة) وأن قيمة الأشياء الحقيقية تظهر بالواقع بلا جدوى بعدم مخالفة الطبيعة .. إلا أن باشو رغم تأثره بتشوانغ بدأ بمخالفته لبعض قصائده والتلاعب بها عكسيّا أي أنه انتهج منهج عكسيا بالمجاز والتاويل والفلسفة وتغير طبيعة الأشياء ببعض قصائده

من هنا نعلم سر تلك القصائد للمعلم الأول التي شحنت بأبعاد فلسفية تاويلية مجازية لا بل وردت بأنسنة مفرطة .. إضافة الى قصائد أخرى كانت مشهدية تمامًا .. فقد جسد ريح فوجي وأجلسها على مروحته وهو يشير الى ايدو طوكيو اليوم وأطال سيقان البلشوم والكثير من القصائد التي يستغلها البعض اليوم كتورية للتحايل على الخصائص الكلاسيكية .. وانتشرت تلك النصوص وملأت الآفاق على أنها قصائد هوكو إذ لم يعرف وقتها (الهايكو) من هنا نفهم أن باشو انتهج الهوكو وليس الهايكو ولا يمكن أن نتعتمد بعض نصوصه التي أشرت لها آنفا أنها هايكو بصورته وخصائصه عام 1867 وما مكنه من مسيرته الشعرية استقبال الغالب الأعم لهذه النصوص كونها أصبحت سائدة لصعوبة الرينغا والهايكاي واستسهال الهوكو 17 مقطعا صوتيا كبديل عنها بلغة اخف (شعبية) ومفارقة ..

اذ بعد 1867 ظهر مجدد الهايكو شيكي ماسوكا الذي انتقد (مختارات باشو 1893في كتاب باشو زاتسيدان) لم يدحض كل الأعمال بالمجمل لكنه أخذ عليها خلوها من الصفاء الشعري كونها تتضمن عناصر تفسيرية ونثرية (تأويل ومجاز) وأثنى على قصائد بوسون يوسا (1716-1783) معتمدا تكاملها وصفاؤها الشعري علما ان بوسون كان مغمورًا بتلك الفترة .

من هنا نفهم الفرق بين الفترات الشعرية التي مرت بها قصيدة الهايكو من الهوكو واعتماد شيكي لتسمية الهايكو كي يستطيع فصل تلك الحقبة 1680-1867 كي تكون إرثا للهايكو وليس ارتكازا كونها خرجت من التجريب الى قصيدة متكاملة بخصائص منفصلة عن باقي الاجناس اليابانية

وبعد كل ما قيل يعتبر الشاعر الياباني ماتسويو باشو «1644- 1694»، أثره الكبير في حركة وتاريخ الشعر الياباني، فهو يعتبر من أبرز شعراء اليابان، واسمه الأصلي «ماتسوو مانوفوسا»، برع بشكل كبير، بداية، في الشعر النثري الذي كان يطلق عليه اسم «هايبون»، وهو جنس إبداعي يجمع في تأليفه بين النثر الشعبي والهايكو، وكانت له وظائف محددة مثل القصص الخيالية أو الحقيقية التي تفرزها واقعة ما، أو حدث ذو دوي، ومنها نصوص ملحمية طويلة وأخرى قصيرة، ليصبح فيما بعد ماتسو باشو أكبر معلم في مجال شعر الهايكو إلى جانب عدد من شعراء اليابان الكبار في فترة زمنية متقاربة، عرفت ب «قرن أوساكا الذهبي». -

خاتمة القول:

ما اريده فعلا هو لفت عناية المتلقي / المتصيد / ان باشو كونه شاعر مفصلي في الادب الياباني كتب الكثير قبل 1680 من القصائد التي ممكن ان تكون قصائد رينغا او هايكاي او هوكو مطلع للهايكاي او الرينغا .. يمكن معرفتها بخصائص تلك النصوص ولا يمكن ان نعدها هايكو بالخصائص التي اعتمدت فيما بعد كهايكو بالتالي ما ورد في هذا المقال ليس انتقاص من الشاعر بقدر النهل من تجربته المنوعة بالادب الياباني حتى بلوغ ذروته الشاعرية في الهوكو واستخلاص تجربة فريدة منها استمرت لليوم لذا المتلقي المطلع على تلك الرؤى الشعرية يستطيع ان يميز نصوص باشو من خصائصها الى اي الاجناس الادبية السابقة للهايكو ينتمي ذلك النص ولا يصنف كل ما كتب باشو انها هوكو/ هايكو ..

باشو || خمس قصائد هايكو

الغُيُومُ السّانِحَة

تُضْفِي بَعْضَ الرّاحَة،

مِنَ تَعَبِ النَّظَر للقَمَر.

*

العَناكِبُ - هَلْ تَبْكِي؟

حَسنًا، مَنْ ذا يُوَلْوِلُ

رِيَاحَ الخَرِيف؟

*

جَرَسُ المَعْبَدِ قَدْ تَوَقَّف.

غَيْرَ أنّ الصْوتَ، لا يَنِي يَأْتِي

مِنَ الزُّهُور.

*

زَهْرَةٌ غَرِيبَة،

لِلطُّيُورِ والفَرَاشات،

سَماءُ الخَرِيف.

*

عَلِيلٌ فِي رِحْلَتِي

فقط أحْلامِي تُواصِلُ التّجوال

في السُّهُوب الخاوِيَة.

*

ترجمة: سلمان مصالحة

......

شيكي ماساوكا / Shiki Masaoka

يسقط المطر الدافيء

على الأجَمَة

العارة

*

الغدير ذاب عنه الجليد.

الجمبري يتحرك

في طحالب قديمة.

*

المدفع يدحرج

زمجراته.

براعمُ شجرة.

*

يا له من نسيم عليل.

سرطان صغير، تحت المطر،

يتسلق شجرة صنوبر

*

أوراق اللوتس في الجدول

تتحرك فوق الماء.

أمطار حزيران.

*

الدخان يستدير

بعد مرور القطار.

وُرَيْقات

*

العاصفة

التي دامت نصف يوم

كسرت ساق الخُبَّيْز

*

لا يظهر القمر.

فارتفعت

أمواج عاتية.

*

فوق نقْر صخرة

تَدلّى لْبلابٌ.

مَعبدٌ صغير.

ترجمة: عبد النبي ذاكر

***

علي محمد القيسي/ العراق

....................

* تاريخ الهايكو الياباني ريو يوتوسيا / ترجمة سعيد بو كرامي

نفس المصدر

 

رسالة الى الله في رمضان

التفاصيل
كتب بواسطة: د. توفيق التونجي

873 توفيقلا لا تقاوم صدا عقول البعض فهي متحجرة

تقاوم حتى الزمن.

تجمع مجموعة من الشباب حول شاب قصير القامة اسمر. كان قد زار بعض المدارس ليعرف من يحب ان يسجل اسمه في فرقة مسرحية طلابية. عرفت لاحقا بانه المخرج. كنت انا وزميلي في الصف سمير المسيحي من رفعنا أصبعنا يحذونا أمل ان نصبح من الممثلين الكبار وهذا على الأقل كان في مخيلتنا ونحن نصعد خشبة المسرح لأول مرة في يوم رمضاني في إعدادية كركوك للبنين عام ١٩٦٨على ما اتذكر صحح لي صديقي الأستاذ والاديب فهمي الكاكائي التاريخ لانه كان معنا ومثل دور الحارس الليلي في المسرحية. عرض المسرحية في ثلاث عروض وشارك الفرقة الموسيقية للنشاط المدرسي في عزف الموسيقى..

الخيال اجمل ما منحه الخالق للإنسان بواسطته تمكن من اكتشاف جميع الاكتشافات العلمية وصولا الى عالم المعلوماتية وعصر غزو الفضاء.

طبعا لم أتحول الى ممثل رغم أني قدمت فقط الى أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد قسم الفن التشكيلي وأخذت تايد من مدرس الرسم الأستاذ خالد بعد نجاحي في الامتحانات النهائية (الباكالوريا ) في الإعدادية الشرقية في بغداد صيف عام ١٩٧٢ قبل ان يقرر الوالد رحمة الله عليه ورضوانه إرسالي الى الدراسة في الخارج لعلي اصبح طبيبا. حيث كان اخي الكبير علي قد سبقني ويدرس في كلية الهندسة. كانت الفترة بين إنهائي الامتحان والحصول على موافقة السفر من دائرة البعثات من الفترات الصعبة من حياتي لانها صادفت تأميم النفط وإغلاق الحدود ومنع السفر الى خارج العراق الا انه في نهاية الأمر حصلت على الأوراق الأزمة وفيزا لتركيا وركبت قطار الشرق في المحطة العالمية في بغداد متوجها الى تركيا وبعد ثلاثة ايام وصلت انقرة تعبا وحين نزلت من القطار لم اجد اخي في انتظاري.

انتظرت عند احد المصطبات وقلت لعله يأتي بعد حين فشاهدت شابين وفي يدهم صورة فوتغرافية وينظرون الى وجوه المسافرين. لم عا يلاحظوا وجودي لكن بعد ان فرغ المكان عادوا وفجأة شاهدوني من بعد فعرفني احدهم ومناداتي باسمي توفيق قلت نعم فقدم نفسه نامق فوجه قصاب رحمة الله عليه ورضوانه اما الاخر فقال عثمان اوچمان وعرفت من حديثه انه تركي كان يعيش معنا ابو عمر في نفس الشقة ويدرس في الجامعة قسم الآثار اصبح لاحقا مديرا لمتحف مدينة مرسين وانقطع أخباره. 

كل عام لي في العاصمة انقرة كنت أعيش في خيال دائم وادرس في الجامعة اللغة التركية. من الغرائب ان الجامعات كانت تقبل الطلاب الأجانب بدون امتحان ولكن حظي جاء مع قرار وزاري بإجراء امتحانات للطلاب الأجانب . بدأت في انقرة من جامعة الى اخرى حصلت على قبول في جامعة انقرة اولا في قسم السومريات.

كنت في محطة القطار انتظر قدوم احدهم من العراق لكنه لم يكن لين المسافرين وبعد انتظار طويل وجدت اخد الوجوه شاب في مقتبل العمر ينتظر وحيدا فعرفته اذ كان يدرس معي وفي نفس الصف في الإعدادية وكانت شعبانا دال فإذا به يطير من الفرح للقائي. هذا الصديق هاجر بعد اشهر الى الولايات المتحدة وهومن المسيحيين كان يحلم ان يكون صيدليا ويشتري سيارة كاديلاك. المهم بعد دقائق جاء صديقه الذي كان من المفروض ان يكون في انتظاره ذهبنا سويا الى شقتي وبقى معنا ولكننا عدنا بعد بضعة اشهر الى الوطن بعد ان أخذ الحنين بنا. عند زيارتي لصديقي وجدت مدى انزعاج عائلته من عودته على عكس ما كان اهلي وبعد سنوات فهمت ان قصده كان الهجرة. سافرت الى إستانبول لإجراء امتحان في كلية المعمار سنان على ساحل المضيق. اليوم الأول امتحنا في الرسم وكان السؤال تخيل كوب قهوة مقلوبة على طرف الماعون. تذكرت الوالد حين كان يراني حالما مع خيالي وانا يقظ يقول:

اترك الخيال وارجع الى الواقع يا بني. 

ما احوجي الى الخيال اليوم وانا اودي الامتحان كي اصبح معماريا ولو في الخيال. كنت كممثل للطلبة عام ١٩٨٨ في الجامعة الشعبية في مدينة يڤله السويدية وحضرت مؤتمرا في مدينة اوسا قرب القطب المتجمد الشمالي وكانت المحاضرة تردد قائلة:

شجعوا الطلاب على الخيال

ان الخيال سيودي الى النجاح

لا تنهروا الطلبة قط حين تجدونهم لأهون في أحلام اليقظة.

بعد الظهر كان امتحان التحريري وجاء السؤال حول قول احد الفلاسفة الإغريق

لا اتذكر النص الان ولكن مرة اخرى احتجت الى الخيال كي اعود آلاف السنين وأتخيل عالم ذلك الفيلسوف واكتب الإنشاء.

عدت الى الفندق الصغير في احدى ازقة بي اوغلو لأنام .

دق جرس التلفون في منتصف الليل فاستقضت فزعا لأسمع صوت اخي الكبير علي في الطرف الاخر ليخبرني باني حصلت على مقعد دراسي في كلية طب الأسنان في انقرة وعلي ان احضر غدا صباحا الى الكلية.

تركت إستانبول ليلا وتوجهت الى محطة آلحافلات متوجها الى العاصمة انقرة تاركا الامتحان حيث كان الجزء الثاني عبارة عن مقابلة شفهية لمعرفة مدى معرفتي للتركية.

لا اعرف طبعا نتيجة الامتحان لحد اليوم لكني بعد حوالي ٤٥ عاما وحدت نفسي مع زوجتي أمام بناية الكلية فحددثها عن تلك الأيام الخوالي.

المسرحية كانت من ضمن فعاليات جمع معونة الشتاء اخرجها سلمان فائق وشارك فرقة الموسيقية للمدينة في العزف. عرضت فيما اتذكر ثلاث مرات وفي شهر رمضان كان معظم الممثلين من الطبقة الفقيرة.

تدور حوادث المسرحية حول طفل يتيم مثل الدور صديقي سمير يذهب لكاتب العرائض كي يكتب له وسأله يشكوا فيها الخالق نفسه لانه أفقده أمه العزيزة.

اما انا فذهبت الى الكلية كي أدوم في اليوم التالي وإذا ب السكرتيرة تقول بان متقدما اخر باسم قاسم قلنجي قد سجل مكاني واني في الاحتياط. كانت العلاقات السياسية قد فعلت فعلتها و خسرت مقعدي في العاصمة انقرة وفي إستانبول.. 

كنت وعلى حالتي هذا أتمشى في الشارع الرئيسي للمدينة وإذا بأحد الأصدقاء وهو قريبين المرحوم الدكتور اكرم بامبوغجي  يضربني على كتفي من الخلف التفت اليه وعانقته. سالني عن حالي فرويت له ما حصل معي واني الان ممطر للعودة الى العراق بعد ان فقدت كل الامل بالحصول على مقعد دراسي.

قال تعال معي وبعد دقائق كنا امام بناية ليست بعيدة عن ميدان الهلال الأحمر وسط العاصمة. دخل الى غرفة العميد بهيبته وحقيبته الدبلوماسية ثم خرج بعد عدد دقائق ليصحبني معه الى غرفة العميد حيدر قرال الذي تحدث معي وسألني بعض الأسئلة فأجبت عليها ثم قال تعال في اليوم الفلاني سيكون هناك امتحان لان هناك العديد ممن قدموا للكلية. ذكرت ذلك لرفاقه في البيت فما كان من احدهم الا ان طلب الذهاب الى الكلية كي يقدم أيضا طلبا لان حالته كانت مشابه لما كنت انا عليه ذهبنا في اليوم المحدد للامتحان وبعد اجتيازنا بقينا معا اربع سنوات ولا زال صداقتنا مستمرة رغم كونه يعيش الان في جزيرة قبرص.

أودعنا تلكم الأيام ولم تكن القادمات احسن.

لنا عودة للموضوع لاحقا

 

توفيق التونجي

 ......................

من صفحات ( 3) ئالتون نامة- سيرة ذاتية

 

خَمرةُ المتنبي

التفاصيل
كتب بواسطة: د. عدنان الظاهر

عدنان الظاهرمُدخل: قال المتنبي بيتين من الشعر تحت عنوان "نالَ الشرابُ منّي" ثم أضاف: سقاهُ بدر ليلةً فأخذ الشرابُ منه ثم أراد الإنصراف فلم يقدرْ على الكلام فقال هذين البيتين [أكتفي بواحدٍ منهما]:

نالَ الذي نِلتُ منه منّي

للّهِ ما تصنعُ الخمورُ

ثم قال المتنبي وكان على ما يبدو ما زال حاضراً في مجلس بدر بن عمّار الأسدي زمانَ كان (يتولى حربَ طَبَريّة من قِبَل أبي بَكْر محمد بن رائق المَوصلي سنة 328 هجريّة 939 ميلاديّة):

وَجدتُ المُدامةَ غلاّبةً

تُهيّجُ للقلبِ أشواقَهُ

تُسئُ من المرءِ تأديبَهُ

ولكنْ تُحسّنُ أخلاقَهُ

......

"للهِ ما تصنعُ الخمورُ" ... كلام بليغ لا يقوله إلاّ مَنْ تعاطى الخمور وعرف أو عانى مما تفعل بصاحبها. إذاً تعاطى المتنبي الخمرة ولكن تحت ظروف خاصة أجبرته على تناولها كما سنرى. لم يتناولها تناول المدمنين عليها كأبي نؤاس مثلاً إنما من باب المجاملة أو الإكراه. قال أبو نؤاس في الخمرة بيته الشعري الشهير:

ألا فاسقني خمراً وقُلْ لي هيَ الخمرُ

ولا تسقني سِرّاً إذا أمكنَ الجهرُ

الأطرف والأكثر غرابةً هو قول الشاعر المتنبي [تُسئُ من المرءِ تأديبَهُ ولكنْ تُحسّنُ أخلاقَهُ] ! كيف فرّق بين أدب المرء وأخلاقه؟ أيكون المرء خلوقاً لكنه سيّء الأدب؟

هل نلتمس الإجابة عند علماء النفس والإجتماع والفلاسفة؟ كيف يُسئُ شاربُ الخمرة الأدبَ ويبقى خَلوقاً؟ قيل إنَّ الخمرةَ تكشف طبع ومعدن شاربها وهذا صحيح، فلقد رأيت في حياتي سُكارى يميلون للصمت والعزلة والهدوء كما رأيت غيرهم يغلب عليهم الطبع الشرس وسوء الأدب والنزعة العدوانية حدَّ الإستعداد لممارسة جريمة القتل وقد حصل هذا الأمر بضعة مرات في حياتي ولم أكن بعيداً عن مسرح الأحداث. سيء الأخلاق هو سيء الأدب في عين الوقت والعكس صحيح ... سيء الأدب هو سيء الخُلق معاً. لا أحسب المتنبي صائباً فيما قال. المهم، لنتابع أحوال المتنبي مع الخمرة ومجالسته لبعض متعاطيها إدماناً من كبار وعليّة القوم يومذاك.

على الصفحة 154 من ديوانه قال المتنبي " وسقاهُ بدر ولم يكنْ له رغبة في الشرب فقال "

لمْ ترَ مَنْ نادمتُ إلاّكا

لا لسوى وُدّكَ لي ذاكا

ولا لحُبيّها ولكنني

أمسيتُ أرجوكَ وأخشاكا

كما قال على نفس الصفحة 154:

عَذَلتْ مُنادمةَ الأميرِ عواذلي

في شُربها وكَفَتْ جوابَ السائلِ

يلي هذا البيت بيتان إثنان لا علاقةَ لهما بالخمر والمنادمة فصرفت النظر عنهما.

وطبيعي أنْ يتأثرمّن ينادم الخمّارة لأوقات طويلة وأنْ تؤثّر فيه طقوس إعدادها وتناولها وما يُعد معها من أطعمة وغناء وربما راقصات فيحلو السمر ويطيب السهر حتى ينخرط المنادم ويستسلم لهذه الأجواء التي تحرّك الصخر كما تحرك البشر لذا لا نُدهش أنْ نجد المتنبي المتعفف والزاهد في الخمور يلين ويُجامل فيتناول شيئاً منها بل وأكثر يوماً منها حتى فقد القدرة على الكلام ! مع ذلك إنه ليس شروباً أو شرّيباً وليس مُدمناً كصاحبه الأمير بدر بن عمّار الأسدي. جاء في الصفحة 155 كلام طريف أنقله حرفيّاً فيه دلالة قوية على شدّة تعلق الأمير بدر بالخمرة أي إدمانه عليها:

(وكان بدر قد تاب من الشراب مرةً بعد أخرى ثم رآهُ أبو الطيب يشرب فقال ارتجالاً ثلاثة أبيات أقتبس منها عجز البيت الأخير:

أَمن الشرابِ تتوبُ أم من تركهِ؟

معروف على أوسع نطاق كيف يتوب الخمّارون ومدمنو المخدّرات والمدخنون والمقامرون ثم يعودون على ما كانوا عليه من الإدمان بعد حين. صوّر المتنبي هذه الظاهرة أبلغ وأبدع تصوير [أَمِنَ الشرابِ تتوبُ أم من تركه؟].

نقرأ على الصفحة 158 كلاماً ذا علاقة بما نحن فيه . " نال الشرابُ منّي " عنوان بيتين قالهما المتنبي مع شرح فيه شئ من الطول:

(سقاه بدرٌ ليلةً فأخذ الشرابُ منه ثم أراد الإنصراف فلم يقدر على الكلام فقال هذين البيتين وهو لا يدري فأنشده إياهما ابنُ الخراساني وهما قوله:

نالَ الذي نِلتُ منه منّي

للهِ ما تصنعُ الخمورُ

وفي انصرافي إلى مَحلّي

أآذِنٌ أيها الأميرُ؟)

سؤال: إذا عجز المتنبي عن الكلام تحت تأثير الشراب فكيف ارتجل بيتين من الشعر قرأهما على الجميع في مجلس ابن عمّار ثم ضاعا عليه فأنشدهما أحد حضور ذلك المجلس؟

في مقطوعات شعرية قصيرة ثلاث يصف المتنبي فيها لُعبة على هيئة فتاة تدورعلى لولب فإذا " وقفت حِذاءَ الإنسان نقرها فدارت فقال أبو الطيّب فيها ارتجالاً ":

فإنْ أسكَرَتنا ففي جهلها

بما فعلتهُ بنا عُذرُها

وقال في مقطوعة تالية وقد " أُديرتْ فوقفت حِذاءَ أبي الطيّب فقال ":

سأشربُ الكأسَ عن إشارتها

ودمعُ عينيَ في الخدِّ مسفوحُ

وقال يُمهّدُ للمقطوعة الثالثة " وشربَ وأدارها فوقفتْ حِذاءَ بدر فقال" .....

سهرة طريفة في أحد مجالس منادمة أمير نُسرُّ بها حتى لكأنا كنا حاضرين هناك نشرب معهم ونلهو ونضحك ونسكر ! بدر بن عمّار رجل ذكي خبير بنفوس البشر وبالشعراء خاصةً لذا كان يُلح على نديمه المتنبي في أنْ يشرب ما يقدم له من الخمور فالكحول يُلهب حماس الشعراء ويقدح في قرائحهم ويغيّر من أمزجتهم وبعض طبائعهم ويهيج فيهم دواعي الخفة والطرب .... هذا الأمير داهية فارس قائد يلعب الشطرنج ويصيد أو يصارع الأسود فضلاً عن تعاطيه الخمرة والحرص على إقامة مجالس المنادمة والشراب . لشديد الأسف لا نعرف الكثير عن هذا الشخص فهل أرّخَ له أحدٌ وضاع ما قد ألّفَ وأرّخ؟ في إحدى قصائد مديحه له جمعه المتنبي في بيت واحد مع ابن رائق وخليفة بغداد حينذاك المُتّقي وكانت المرة الوحيدة التي ذكر المتنبي فيها اسم أحد خلفاء بني العباس. قال في قصيدة " ومَنْ يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ ":

حُسامٌ لأبنِ رائقٍ المُرّجى

حُسامُ المتّقي أيامَ صالا

آخر ما قال المتنبي (الصفحة 163) في السكر ومتعاطيه الأمير بدر بن عمّار بضعة أبيات أقتبس منها بيتين فقط جديرين بالذِكْر هما:

فَخَرَ الزجاجُ بأنْ شَرِبتَ بهِ

وَزَرتْ على مَنْ عافها الخمرُ

وسَلِمتَ منها وهي تُسكرنا

حتّى كأنكَ هابكَ السُكْرُ

فيهما مبالغة في تعظيم الممدوح من أنَّ كؤوس الخمر تفتخر أنَّ الأميرَ يشرب بها الخمر ... ثمَّ إنَّ ابن عمّار لا يتأثر بمفعول الخمر ولا تًسكره هذه الخمرة في حين تُسكرُ سواه (وسَلِمتَ منها وهي تُسكرنا) ... هل قال شاعر غير المتنبي شعراً في ممدوح مثل هذا الكلام المفرط في المجاملة والمبالغة؟ حقيقة معروفة أنَّ المدمن على تناول الكحول يكتشف ذات يوم أنَّ الخمرة لا تُسكره ! قد يكون هذا هو حال ابن عمّار.

في ديوان المتنبي مقطوعات أخرى صغيرة يحكي في بعضها تناوله كؤوس الخمر في مجالس أناس آخرين لا علاقة لهم ببدر بن عمار المعاقر الدائم للخمرة . كتب المتنبي في الصفحة 212 من ديوانه بيتين من الشعر قدّمَ لهما بقوله (سقاني الخمر... وسأله أبو محمد أنْ يشربَ فامتنع، فقال له بحقّي عليكَ إلاّ شربتَ فقال):

سقاني الخمرَ قولُكَ لي بحقّي

وودٌّ لم تشُبْهُ لي بِمَذْقِ

يميناً لو حَلفتَ وأنت تأتي

على قتلي بها لَضربتُ عُنْقي

ملاحظة: أبو محمد هذا هو [الأمير أبو محمد الحسن بن عُبيد الله بن طَغَج بالرملة].

يشرب المتنبي الخمر ولكن تحت ظروف لا يستطيع التملّص والهروب منها فهذا يحلف عليه بحقه عليه وآخر يُقسم بالطلاق وثالث يُلح وكلهم ذوو فضل عليه.

تلا هذين البيتين بيتان آخران قال المتنبي فيها " ثم أخذ الكأس منه وقال ":

حُييتَ من قَسَمٍ وأفدي مُقسِما

أمسى الأنامُ له مُجلِاًّ مُعظِما

وإذا طلبتُ رِضى الأميرِ بشُرْبِها

وأخذتُها فلقدْ تركتُ الأحرَما

أخيراً قال في بيت من ثلاثة أبيات (وهمَّ بالنهوض فأقعده أبو محمد فقال):

...

مالَ عليَّ الشرابُ جِدّا

وأنت للمكرماتِ أهدى

فإنْ تفضّلتَ بانصرافي

عَدَدْتهُ من لّدْنُكَ رِفْدا

مال عليَّ الشرابُ ... تعبير بليغ ينمُّ عن شدّة السكر وتمكّن الخمرة من أعصاب شاربها وصعوبة سيطرته على حركاته خاصة حركة القدمين .

هل أضيف دليلاً قوياً آخرَ على تعاطي المتنبي للكحول وحنينه بين حين وآخر له تبعاً لحالاته النفسية ، ففي قصيدته الأكثر شهرة " عيدٌ بأية حالٍ عُدتَ يا عيدُ " التي هجا فيها إخشيد مصر كافوراً بعد أنْ ضاق به الحال في مصر وبث الإخشيد جواسيسه يترصدون أقواله وأفعاله ولم يفِ بما وعد المتنبي من منحه إقطاعاً أو إمارةً فقال ما قال:

يقولُ لي الطبيبُ أكلتَ شيئاً

وداؤكَ فبي شرابكَ والطعامِ

وما في طبّهِ أني جوادٌ

أضرَّ به بجسمهِ طولُ الجَمامِ

فليس يُطالُ له فيرعى

ولا هو في العليقِ أو اللجامِ

وقال:

أمسيتُ أروحَ مُثرٍ خازناً ويَداً

أنا الغنيُّ وأموالي المواعيدُ

وقال في قصيدة أخرى يمدح كافوراً بها:

وغيرُ كثيرٍ أنْ يزوركَ راجلٌ

فيرجعَ مَلْكاً للعراقينِ واليا

وقال في أخرى مادحاً كافورَ وفاضحاً نواياه:

أبا المسكِ هل في الكأسِ فضلٌ أنالُهُ

فإني أُغنّي منذُ حينٍ وتشربُ

وهبتَ على مقدارِ كفْيْ زماننا

ونفسي على مِقدارِ كفيكَ تطلبُ

إذا لم تَنُطْ بي ضيعةً أو ولايةً

فجودكَ يكسوني وشُغلُكَ يسلبُ

هذه نماذج من معاناة المتنبي مع كافور في فسطاط مصر .

أخلص من كل هذا الكلام إلى القول إنَّ المتنبي المتأزم جداً جداً لجأ نفسيّاً إلى الخمرة التي تذكّرها إذْ لم يجدها فقال وقد ترك فسطاط مصر هارباً:

إذا أردتُ كُميتَ اللونِ صافيةً

وجدتها، وحبيبُ القلبِ مفقودُ !

 

عدنان الظاهر

مايس 2019

.........................

ديوان المتنبي. دار بيروت للطباعة والنشر. بيروت 1980 .

 

رمضان الصباغ.. أديباً وفيلسوفاً

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمود محمد علي

محمود محمد عليأن ترحل قامة علمية مثل الدكتور "رمضان صالح الصباغ"، (أستاذ فلسفة الفن والجمال بكلية الآداب – جامعة سوهاج بجمهورية مصر العربية)، دون كلمة رثاء فى الإعلام المصري والعربي، فتلك علامة من علامات التردي، ودليل من أدلة الرداءة والعشوائية، فهذا الرجل كان من أولئك الرجال الذين يعيشون وفق ما يكتبون، ويظهرون ما يضمرون، ويعلمون بما يؤمنون، ولذلك أقول أي الكلمات لديها القدرة أن ترثى مفكراً وكاتباً بالغ الصدق والنبل والنقاء مثل رمضان الصباغ ؟! أي الكلمات لديها القدرة ؟!، فالذين يتسمون بالصدق والنبل في مهنة الفلسفة قليلون، وقد ازدادوا برحيله قلة!.. لا أظن أنه من قبيل المبالغة أن أقول إنه من أكثر الذين قدر لي أن أعرفهم من أستاذة الفلسفة بعداً عن المداهنة أو المتاجرة بالمهنة لحساب أي سلطة من السلطات بما في ذلك سلطة الرأي العام ذاته الذى كثيراً ما يغازله بعض الكتاب على حساب الحقيقة الموضوعية!.

والحقيقة التي لا يعرفها الكثيرون وهي أن الدكتور رمضان الصباغ هو واحداً من كبار الرواد في دراسة علم الجمال الماركسي بمصر والعالم العربي، وقد استطاع من خلال بحوثه ومؤلفاته أن ينقل البحث في علم الجمال الماركسي من مجرد التعريف العام به، أو الحديث الخطابي عنه – إلي مستوي دراسته دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارماً إلي أبعد حد: فالنص الفلسفي لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.

فلقد  أقبل رمضان الصباغ علي الدرس الفلسفي في شوق ورغبة وتأمل وعناية، وانتهي به ذلك إلي إنتاج له وزنه - بحثاً – وتأليفا- أو تعليقاً وترجمة ؛ حيث يجمع رمضان الصباغ بين الدراسات الأكاديمية المتخصصة في الفلسفة المعاصرة وجه عام؛ وفى مجال علم الجمال بوجه خاص، وبين الإبداع الشعرى، والروائى، والنقدى المتميز، ولعل نظرة واحدة إلى سيرته الذاتية كفيلة بأن تعطى فكرة واضحة عن مدى خصب تجربته سواء على المستوى الإبداعي فى مجال الشعر بوجه خاص من خلال ستة دواويين شعر نشرت متفرقة على مراحل زمنية مختلفة هى: مجموعة:"معذرة يا قمري"، ومجموعة "مكابدات السندباد"، ومجموعة "حين انكسر"، ومجموعة " من مفكرة الحب الضائع"، ومجموعة "ايقاعات الحب والموت"، وأخيراً مجموعة النورس وأنت":  ثم نشرت بعد ذلك تلك المجموعات  في مجلد واحد تحت عنوان: الاعمال الشعرية، التى تضم بين دفتيها الأعمال سالفة.

وبالإضافة إلى الأعمال الشعرية للدكتور رمضان الصباغ ، فقد أضاف إلى سجله الأدبي روايته المتميزة : " ليلة رأس السنة ".  أما فى مجال النقد، فقد قدم عدداً  من الدراسات النقدية التطبيقية التي نشرها في عدد من المجلات الأدبية والفكرية المتخصصة، وأما على مستوى الدراسة الأكاديمية الخالصة، فقد قدم عددا من الدراسات التي تقع على خط التماس بين الفلسفة والأدب، ومن أهمها دراسته عن جماليات الشعر المعاصر، والذى يتضمن تأصيلاً للجماليات الشعرية، وتطبيقاً لها عند الشعراء المحدثين والمعاصرين؛ وبوجه خاص عند الشاعر السورى المجدد – ادونيس  والشاعرين المصريين الكبيرين– صلاح عبد الصبور –  وأحمد عبد المعطى حجازي، بالإضافة إلى الشاعر العراقي "عبد الوهاب البياتي"، وذلك جنباً إلى جنب مع دراسته التطبيقية لجماليات الشعر عند  الشاعر الإنجليزى ت س . إليوت .

هذا بالإضافة إلي الكتابات العديدة في مجال الفلسفة ومنها: جماليات الشعر العربي- وفلسفة الفن عند سارتر وتأثير الماركسية عليها – والأحكام التقويمية في الجمال والأخلاق - وعناصر العمل الفني دراسة جمالية - وجماليات الفن- والنظرية الجمالية السياقية عند ستيفن بيبر- والفن والأخلاق عند جاك ماريتان- والفن والقيم الجمالية بين المثالية والمادية – وفلسفة عند زكي نجيب محمود- والفن والايديولوجيا- وفيلسوف الموسيقي(فاجنر)...الخ

وقد علمتنا قراءة تاريخ الأعلام أن الشخصية العظيمة هي التي تختلف آراء الناس حولها اختلافاً كبيراً، وكلما كانت الشخصية أشد لمعاناً كان الاختلاف بشأنها أكثر حدة . والواقع أنني لم أكن أتصور في يوم في من الأيام أن ألتقي في حركة الحياة الجارية، بمثل هذه الشخصية، حتي وضعتني الظروف في طريق الدكتور رمضان الصباغ .

كان رمضان الصباغ رجلاً وهبه الله خلقة حسنة، فهو معتدل الطول، ليس باليدين المفرطح، ولا القصير المنكدر، له عينان يشع منهما بريق حاد يدل علي ذكاء متقد  ويوحي بشخصية قوية . ملبسه أميل إلي الأناقة، ولكنها الأناقة التي لا يبدو منها تكلف ولا يظهر عليها استعلاء . كان متحفظاً في حركاته، وقوراً في مشيته . أما مجلسه فغاية في الاحترام الذي لا يخلو أحياناً من تبسط، ولكنه لا يشجع الثرثارين والمتفيقهين، ويستبعد تماماً النمامين والوشاة .

عايشت رمضان الصباغ، ما يقرب من أكثر من عشرين عاماً، لم أره فيها ينحني أمام أحد من رؤسائه، أو يتملقه، أو يداهنه، وكان شديد الاعتزاز بنفسه، معتمداً علي قدراته الخاصة، وكفاحه الشخصي، ولم يكن يفخر بجاه ولا مال، وإنما كان موضع فخره الدائم : انجازه العلمي الذي حققه بالعمل الدؤوب، والجهد المتواصل.

كان رمضان الصباغ يجيد اللغة الإنجليزية تماما وترجم منها العديد من المؤلفات في فلسفة الجمال، كما كان متزوجا من سيدة فاضلة وهي الدكتورة سناء خضر (أستاذ فلسفة القيم المساعد بكلية الآداب جامعة جنوب الوادي) وقد أنجبت له سمر ورنا  .

كما كان يحب الشعر وفي نفس الوقت؛ كان اهتمامه بالفلسفة، والنقد الأدبي، والسياسة، وغيرها من المجالات، وقد ظل اهتمامه بها جميعاً، حتى وفاته المنية، وكان الشعر عنده متنوعاً؛ ففيه الشعر السياسي، والفلسفي، والغزل، وغير ذلك، والشعر، بالنسبة له كان تعبير عما يجول في خاطره ونفسه، وقد درس رمضان الصباغ مدارس الشعر والفن؛ خاصة الشعر الغربي (الإنجليزي والأمريكي والفرنسي والألماني)، بالإضافة إلى الشعر الروسي والعربي بالطبع؛ فاستفاد  كثيراً من اطلاعه على هذه المدارس المختلفة، وقد قدم في ذلك ست دواوين من الشعر الحر (شعر التفعيلة)؛ أحدها من قصائد النثر سريالى الطابع، كما قدم دراسة مستفيضة عن الشعر العربى المعاصر (الشعر الحر)، درس فيها، بالتفصيل، مفهوم الشعر وتطوره، والتجربة الشعرية، واللغة الشعرية، وموسيقى الشعر، والمؤثرات الغربية على الشعر، والإيقاع، والتضمين، والتدوير، والتكرار، كما درس الخيال والصورة وتطورهما، والتناص مع الأسطورة والتراث، هذا بالإضافة إلى كتابة روايتين؛ إحداهما منشورة، وعدداً من الدراسات عن الرواية، وهو، بشكل عام، في الشعر والرواية، أميل إلى التجديد، وذلك من خلال متابعته للأدب الغربي المعاصر، كما أنه مهتم بالفنون التشكيلية، والموسيقى الكلاسيكية، والأوبرا، والباليه، ولكنه على مستوى الدراسة والنقد والتذوق.

وبجانب اهتمامه بالشعر كان رمضان الصباغ مهتماً بالفلسفة الحديثة؛ حيث كان يعتبرها بأنها  فلسفات نسقية، بمعنى؛ أن كل فيلسوف يشكل مذهباً بعينه، وعلى سبيل المثال؛ هناك المذاهب المادية، أو أنساق الفلسفة المادية؛ التي أسس لها هوبز وهولباخ، مثلاً، وهناك المذهب العقلي؛ الذي أسس له ديكارت، وهناك المذهب المثالي؛ الذي أسس له كانط وهيجل، على سبيل المثال، أما الفلسفات المعاصرة؛ فهي فلسفات لا نسقية، وقد غاب عنها البعد (الشمولي)؛ الذي كانت تتسم به الفلسفة الكلاسيكية والحديثة؛ فظهرت نزاعات، وتيارات، واتجاهات. فالفلسفة الوجودية، مثلاً، هي: اتجاه فلسفي، وليست مذهباً بالمعنى الدقيق، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الفلسفات الوضعية، والبراجماتية، والتحليلية؛ فهي أقرب ما تكون إلى النزاعات والتيارات الفلسفية، منها إلى المذاهب والأنساق الفلسفية الشاملة.

وثمة نقطة جديرة بالإشارة وهي أن الدكتور رمضان الصباغ كان ينظر للفلسفة علي أنها تمثل رؤية للعالم الذى نعيش فيه، ومحاولة لتقديم معرفة منظمة عن عالم مشوش وغير منظم، وتقوم الفلسفة بتنظيم رؤية الفيلسوف أو المفكر في نسق عقلي منطقي متماسك، وتتم صياغته في عبارات لغوية منضبطة، وبذلك، يسهل التعامل مع الواقع والتأثير فيه، وعندما تتبنى طبقة معينة، أو فئة، أو جماعة، فلسفة معينة، وتجعلها برنامجاً للممارسة العملية تنتج الإيديولوجيا؛ فالإيديولوجيا: هي التعبير عن الانتقال من عالم الفلسفة المجرد، إلى الواقع والممارسة العملية، ويتم التأثير المادي على وقائع الحياة، وشروطها، وتغييرها. وبما أن الإيديولوجيا تُعَدُّ تعبيراً عن طبقة أو فئة أو جماعة، لذا؛ فهي انتقال من التعبير عن الرؤية الفردية (الفلسفة)، إلى التعبير الجماعي أو عن الجماعة، وتعتبر الفلسفة الماركسية، عندما تتبناها طبقة البروليتاريا: هي التعبير الإيديولوجي عن مصالح وتطلعات هذه الطبقة، وكذلك، تعدّ الفلسفة الليبرالية تعبيراً عن الحرية الفردية، والمصالح الإيديولوجية للطبقة البورجوازية، وبذلك؛ تعتبر الإيديولوجيا: تطبيقاً خاصاً لفلسفة أو فكر محدد. وتنبع مشكلة الصراع بين الفلسفة والإيديولوجيا، أساساً، من محاولة تحريف الفلسفة أو الفكر، وفقاً لمصالح وتطلعات الفئة أو الجماعة، مما يجعلها تخرج عن إطار النسق الفلسفي أو تتعارض معه، وذلك يكون وفقًا لتفسير محدد لهذه الفلسفة أو ذلك الفكر، يراه آخرون تحريفاً، ويقوم على تنفيذ الإيديولوجيا جماعة سياسية، تعتقد بها، وتعمل من أجل ترسيخها في الواقع، ويشعر جميع المنضوين تحت لوائها، أن مصالحهم المباشرة ورغباتهم، سيتم تحقيقها ضمن الممارسة العملية للأهداف التى تنطوي عليها الإيديولوجيا، وكل إيديولوجيا تحاول إلغاء التناقضات الفردية، وتوحيد الأفراد المنضوين تحتها، في سياق عملية الاندماج ضمن شعاراتها العامة؛ فالإيديولوجيا تجيد الإيهام في أنها هي فقط: الحق، والحقيقة، والخير، والأخلاق، وأنها بعيدة عن التطلعات الأنانية؛ بل لابد أن نضع في اعتبارنا، القائمين عليها ومصالحهم؛ فقد تكون الشعارات زائفة، وتتناقض مع الممارسة العملية.

وأما عن نظرته لمستقبل الدراسات الفلسفية في عالمنا العربي، فهي نظرة قاتمة؛ حيث يري أنه بعد جيل من المؤسسين للفلسفة في العالم العربي، أخص بالذكر "على عبد الرازق" و"طه حسين"، ثم جيل الرواد، مثل: "عبد الرحمن بدوي"، و"توفيق الطويل"، و"يوسف كرم"، و"زكريا إبراهيم"، و"عاطف العراقي و" حسن حنفي" و" محمد علي أبو ريان"، وغيرهم، نلاحظ اضمحلال في حركة الفلسفة في الوطن العربي. وتواجه دراسة الفلسفة في العالم العربي مشكلات كثيرة، لعل أهمها؛ مشكلة انغلاق الباحث على تخصصه، وفي كثير من الأحيان، تقوقعه على كتابات فيلسوف أو اثنين فقط، هذا يؤدى إلى تحجر الفكر والفلسفة وموت الإبداع.

تحية طيبة للدكتور رمضان الصباغ التي كان وما يزال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

فتنة الزعامات وإشكالية الإبادة من أجل القيادة

التفاصيل
كتب بواسطة: د. رائد عبيس

رائد عبيسيحدثنا التاريخ البشري عن صراعات محتدمة، ومعارك شرسة، وحروب طاحنة، خلفت ملايين البشر قتلاً، وسبياً، وحبساً، وتعذيباً، وإبادة، وذلك من أجل القيادة، وبما أن رمزية الدول من رمزية حاكمها وسيادتها من سلامته، تبقى الشعوب تنصاع الى هذه الفكرة السائدة في أوساطهم الاجتماعية، حتى أصبحت عقيدة عند كثير منهم وهم الأكثر استعداد معها لحمل السلاح للدفاع عن دولتهم، وحاكمهم، وفكرتهم، اي أن الأمر لم يعد بطاعة حاكم فقط، وان كانت طاعته مفروضة وواجبة إلا أن هناك التزامات ذاتية، هي من تدفع هذا المجتمع المؤمن بذلك الى تبني فكرة التصدي لأي دفاع وان غاب الحاكم. هذه الفكرة كانت موجودة في التراث الاسطوري، انتقلت إلى الفكر الشعبي الفلكلوري، وبعدها اقتربت من الفكر السياسي الثوري، وبعدها اصحبت جزء من عقيدة الدولة ودينها. حتى باتت الدولة وحكوماتها هي من تدافع عنها، وتقنع من ليس له قناعة بها، بل أصبحت جزء من سياساتها الإعلامية في التحشيد لأي معركة أو حرب.

فالزعامات لها عدة أشكال منها الزعامة الدينية، والزعامة العشائرية، والزعامة السياسية، والزعامة العسكرية. إذ أن ما هو غائب عن هذا التصنيف هو الزعامة الثقافية أو الزعامة العلمية، فالمجتمعات لا تعير اي اهتمام لهذه الزعامات في الغالب، وان كان تأثيرها محدود على المجتمعات وتوجيهاتهم، بمعنى أنها ليس محرك فاعل على الدوام كما في الزعامات التي ذكرنا.

تقدير قوة المجتمعات يأتي من تماسك هذه الزعامات مع بعضها للحافظ على الدولة وكيانها، إذ أن لا مجتمع يخلوا من هذا التصنيف للزعامات وان كانت تسيطر أحدهما على الأخريات وتغلب عليها الا أن أي صراع بينهما يهدد استقرار الدولة. ولكن لابد من اتفاق، وان كان اتفاقهم على مصلحة أو مفسدة وهو بالنتيجة يجب أن يكون كذلك.

كل الدول التي نالت استقرارها مدة من الزمن كان اما بسيطرة واحدة من الزعامات وسكوت الأخرى اختياراً أو اجباراً، أو كانت هناك مشاركة في السلطة بينهما، وعندما تضعف الدول، وتبدأ بالتلاشي، والانهيار، والانحلال، فإن هذا يعني أن هناك علاقة متخلخلة ومتقاطعة بين هذه الزعامات وجمهورها.

هذا الكلام ينصرف على كل الأنظمة الحاكمة ودولها، والاستشهاد بها يطيل المقال وكلنا نملك أدلة على ذلك، فيبقى أن نستشهد بالعراق كمثل حاضر في همنا اليومي ونحن نرى كل زعامة تريد أن تقود الدولة بطرف ما، ويبدأ هذا الأمر من التصريحات الإعلامية وحتى فكرة الانفصال بتأسيس أقاليم، إذ بات العراق بسبب ذلك دولة باهتة المواقف بسبب حرية التصريحات الشخصية من هذه الزعامات، وتطبيل اتباعها لها مشجعة على ذلك. فمرة تصريح رجل دين من على خطبة جمعة، أو منبر ما، ومرة شيخ عشيرة يهدد بغلق آبار النفط، ومرة بسياسي يختزل مكونة ليتحدث باسمه، ومرة مسؤول في الدولة و الحكومة يصرح خارج صلاحياته، محدثين بذلك أزمات داخلية وخارجية العراق في غنى عنها والسبب ؛ هو ضعف سلطة الدولة، وعدم اتفاق هذا الزعمات على إدارة موحدة بموقف موحد، لإدارة الدولة بطريقة تحفظ سيادة العراق واستقراره الداخلي والخارجي.

ونحن نشهد تتصارع هذه الزعامات على إدارة الدولة، وتنافس الحكومة في اتخاذ مواقفها إزاء الأحداث، حتى باتت كلمة الدولة الفصل غائبة عن المشهد وان كانت فلا احد يعترف بها،فأصوات الزعامات التي قوتها الدولة في يوم ما من أجل حماية الدولة والحكومة، لا تستطيع بعد أن تضعفها أو تخضعها لسيطرتها أو إسكاتها على أقل تقدير، وهذا هو الضعف بعينة.هذا الضعف ينتج عنه ما أسميناه "فتنة الزعامات المتحاربة والمتصارعة" ونرى أن الديمقراطية كنظام يوفر هذا الجو من الاختلاف الذي يطول السجال فيه، فتبقى البلدان في حالة من اللا استقرار الداخلي نتيجة ضعف سلطتها، ونحن نرى كيف اثرت الزعامات الجاهلة التي لا تكترث لمصلحة البلد وأهله على استقرار العراق منذ عقود مضت، حتى بات الأمر ببعض هذه الزعامات البحث عن اتفاقيات مع دول الجوار من أجل تقوية قراراتها ومواقفها الداخلية، او التفكير بالانفصال الجغرافي، كما في قضية كردستان، أو فكرة إقليم البصرة التي كثر الحديث بها والدعوة اليه، أو طرحة فكرة إقليم الفرات الأوسط، ومثل هذه الأفكار والمشاريع طرحت كثيراً بدفع وتشجيع من زعماء الأحزاب، أو العشائر، أو رجال دين، أو تأثير دول إقليمية.

ومن اجل تنفيذ هذا الطموح وتحويله إلى واقع لبعض الزعامات فلا تترد في اعلان رغبة الإقتتال و الحرب، بل واحداث كوارث وإبادة مع شرائح المجتمع المعارضة لهذه الفكرة،لا سيما إن كان بها طاعة لهذا الزعيم الذي يأمر بذلك. ففكرة الإبادة من أجل القيادة حاضرة عند أتابع هذه الزعامات، وهنا تكمن خطورة اختزال المجتمع بزعيم أو الزعيم بمجتمع بمعنى إحداث تأثير مغناطيسي بينهم وبين الزعيم اين ما يتجه أو يأمر أو يقود .فالمجتمع واستقراره مهدد متى ما تهدد وجود هذه الزعامات وكرامتها و رمزيتها.

 

الدكتور رائد عبيس

 

عدالة حكم العدالة

التفاصيل
كتب بواسطة: ضياء الحكيم

ضياء الحكيمغنى وفقر العدالة المهزوزة في عالم تعرض لهزات دنيوية جعل العدالة الحقيقية في مأزق ووضع قضاة تطبيقها في مواقف تعمُها فوضى الإقرار والخوف من إصدار الأحكام الصحيحة. 

التسويف والتأجيل والقسوة والتحقيق قبل الإحالة والأعفاء والأفراج والأقرار وإسقاط التهم مازالت من أُسس العدالة التي أُدخلت الى المجتمعات في عالم مشوه بالأطماع والمصالح الشخصية.   فمن خنق العدالة الإنسانية؟ 

لنرجع الى الوراء تاريخياً نجد أن خنق العدالة  لم يبدأ بسلطة واحدة . ونجد بإختبار ماقاله بن خلدون " العدل أساس المُلك " وأقوال أخرى تعود بنا الى معرفة عميقة عن أسس الحكم العادل والحكم الجائر والساكت عن الحق شيطان أخرس ؟ فسلطة القاضي هي إمتلاك تصحيح الأمور المعوجة وتخويله بقوانين قيادة بسط حكمه في القضايا الإجرامية منها والسياسية والأجتماعية . العدالة والمحاكم العليا وسلطات برلمانات الدول والمحاكم العسكرية المقامة بعد الإنقلابات العسكرية والمحاكم الشعبية وأحكامها العرفية  كلها تداخلت في تقييم الأدلة الباطلة  بتدخل البرج الأعلى للحاكم وبلاطه الملكي ومستشاريه وتسفيه التحقيق وخنقه والتفريط بالحقوق المدنية. ومختصرها كما نرى اليوم أن كل السلطات القانونية مُخترقة .

 تسميم أجواء العدالة تراه في دولة الديمقراطية أمريكا حيث معظم القضاة يخدمون الرجل المهيمن على البيت الأبيض ومن يعارض يتم عزله . وفي صراع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وتشهيره بسلطة مجلس النواب والمحكمة العليا وعزله للمدعي العام الأمريكي والقضاة ورئيس مكتب التحقيقات الفدرالي ووضع محاميه الشخصي مايكل كوهين في السجن يعطيك الفكرة عن مجرى العدالة البائسة . 

الترابط التاريخي للعدالة يشهدها العالم بسيكولوجية الأقوى وتوزيع فهمه الشخصي والطبقي والعنصري والقومي لها عند إنزال العقوبة بأفراد. بكلمة أخرى " العدالة محاصرة " والقضاة بجببهم وصداريهم وقبعاتهم يتنفسون بصعوبة بسبب العطل الذي أصاب روح العدالة كما قال بعض السياسيين في الكونجرس الأمريكي . وسجن العدالة في دولة كإسرائيل مثلاً وضع الشعب الفلسطيني محاط بالجدران وخنقه  داخل ممتلكات أرضه.   

في العراق ظهرت  شخصيات معوجة الفكر والقرار ولم تفهم من العدالة إلا أسوأ مضامينها كالأعدام والرمي بالرصاص وجز الرؤوس دون محاكمة. أحدهم البغدادي و مؤخراً "واثق البطاط ومليشياته المسماة جيش المختار" وتهديده بهمجية لأي معارض بقلع عيونه وقطع جماجم معارضيه . أهي قراءة مستقاة من أقول الحجاج؟ فالحجاح بن يوسف الثقفي (41 - 95 هـ) وفي خطبة محببة للبعض قال لأهل العراق نصاً " إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لقاطفها " كما أشار إلى سيفه وقال: والله لآخذن صغيركم بكبيركم، والحرُ بعبدكم، ثم لأرصعنكم رصع الحداد الحديدة، والخباز العجينة ".

مخاطر حقيقية تعصف بشرعية العدالة  في عالم مشوه بالأطماع والمصالح الشخصية وقبول البعض إنفرادية حكم البلاط الملكي وعدم الإصطدام بالملك أو الرئيس . والنقد الحالي هو وضع سلطة الرجل القابض للحكم نفسه في موضع القضاة. وبموجب هذه الفهم  بدأ القضاة رحلة العدالة  بفردية لاتستسيغها إلا المواقع السلطوية للسياسي والحاكم والقاضي، ولعبه كل أدوار (عدالة حكم العدالة). والملاحظ علاقة السلطة القضائية ووزارات العدل انها تشهد إضطراباً في أداء قسم الولاء للعدل وإبداء الرفض القاطع لتدخل السلطة الفردية وتسببها في سحق حقوق الأنسان التي أقرتها له منظمة حقوق الانسان الدولية عام 1948 .

حصار السلطة العليا في الدولة وقبضتها على القضاء الماثل للأنحناء والخوف من قسوة الطبقة السائدة المتنفذة وبطشها  يصبح (العدل أساس الحكم) مجرد شعار .

 

ضياء الحكيم - كاتب وباحث سياسي

 

ماكس شيلر.. العقل والمعرفة

التفاصيل
كتب بواسطة: علي محمد اليوسف

علي محمد اليوسف(الانسان هو المكان الوحيد الذي يتجمّع فيه الأله) ماكس شيلر

تعريف: ماكس شيلر (1874 – 1928) أحد فلاسفة الحياة في بداية نشأته، وفي مرحلة لاحقة أشتغل على فلسفة فينومينالوجيا هوسرل محاولا تطويرها بمفهومه الفلسفي الخاص به. وفي سنوات شبابه وقع شلر تحت تأثير أستاذه (أيكن) أحد فلاسفة الحياة الذي كان أهتمامه منصّبا حول حياة العقل، بأختلاف عن فلاسفة الحياة مؤكدا على مركزية العقل ومحوريته في الفهم المعرفي والوجود الذي ينكرونه عليه فلاسفة الحياة. كما تأثر شيلر لاحقا بكل من نيتشة ودلتاي وبرجسون، ما جعل (ترولتش) ينعته ب (نيتشة الكاثوليكي) فقد كان شيلر أحد المتأثرين بالقديس أوغسطين أيضا. وبحسب المعنيين بتاريخ الفلسفة الاوربية الحديثة في القرن العشرين، فهم يرونه يستحق الاهتمام الخاص به لأنه أهتم بقوة وحماسة على كينونة الشخص والعودة الى الانسان والاهتمام بقضاياه.(1)

وما يهمنا في هذه المداخلة السريعة هو التعريف بمفهوم شيلر عن العقل والمعرفة بمسح أجتزائي مقتضب غير مخّل، من حيث أن شيلر لديه أهتمامات فلسفية عديدة، يحتاج كل مبحث منها الى دراسات مستفيضة معمّقة، فمثلا هو أهتم بعلم الرياضيات وله كتاب فيه، وأهتم بالمنطق ايضا، وبمثالية كانط وكتب فيها، وكتب في الاخلاق، والفينامينالوجيا، وكذا في موضوعة الحب، وفي المعرفة، والبنية الماهوية لكل ماهو موجود منتقدا كانط فهمه الادراك العقلي للوجود، في وجوب معرفة (ما) الاشياء قبل تساؤلنا كيف نعرف الاشياء كما ذهب له كانط وفلاسفة الحياة.

شلر والعقل

قبل دخولنا معترك بعض أفكار شلر لا بد لنا من عرض بعض تحقير فلاسفة الحياة للعقل فقد ورد على لسان كلاجز:(أن العقل خصم للنفس وخصم للطبيعة وخصم للاخلاص ولكل ماله قيمة، لذا علينا رفض العقل وأن نعود الى تصور العالم على ما كان عليه عند البلاجيين، أي الى الحياة المتحررة من العقل تماما التي تتمتع بالروح البدائية بغير وعي منها)(2)

ينتقد ماكس شيلر كانط في منهجه الاستقرائي في المعرفة قوله :(أن ميدان القبليات- البديهية لا علاقة لها على أي نحو مع ما هو صوري، كما كان يرى كانط. فهناك – والقول لشيلر- ما هو مادي، وهي مضمونات مستقلة عن الخبرة وعن الاستقراء، ويرفض شيلر بشدة متكافئة كلا من الاتجاهين التصوري، والاتجاه الاسمي الوصفي) (3)، هذا التوصيف لايمّثل سوى أتجاه مثالي واحد هو قابلية العقل التجريدية في التعبير عن الوجود بالفكر واللغة، ولا يمثل أية آلية جديدة غيرها في تعبير العقل عن مدركاته وعن المعرفة أيضا.

وأن مثالية شيلر هنا هي نسخة متقدمة عن مثالية كانط، والاثنتان تدوران في حلقة مثالية دائرية واحدة في فهم الوجود والمعرفة. كونهما يفترضان وجود مدركات قبلية بديهية معطاة للعقل. وهذا مايرفضه جون لوك صاحب الوضعية المنطقية التجريبية الجديدة وفلاسفة آخرين تماما معتبرا أن الخبرات القبلية العقلية أن وجدت فهي تكون مكتسبة بالتجربة العملية والخبرة المتراكمة، وليس بالمعطى الفطري الجيني الوراثي لها، والخبرات العقلية لا يكون مصدرها سوى التجارب الحياتية و العلمية، وبغير ذلك فلا وجود حقيقي لها.

فهي أي الخبرات القبلية مكتسبة وليست خبرات جينية بيولوجية موروثة تولد مع الانسان مزوّدا بها. وفي عبارة جون لوك الشهيرة أن الانسان يولد طفلا وعقله صفحة بيضاء، هو رد مباشر شبه يقيني في دحض الخبرات القبلية عند الانسان.

ومن الجدير ذكره أن من بين المنادين بالخبرات القبلية ديكارت وهيوم وجون ديوي وغيرهم من فلاسفة الخبرات القبلية الموجودة في عقل الانسان بالفطرة كمعطى تتشارك به بيولوجيا الجينات الوراثية مع هبة الخالق لها للانسان..

كما أن التفريق بين ما هو مدرك تصوري مثالي وما هو أسمي وضعي وعلاقة العقل بهما مسألة محسومة تماما في صالح العقل وليس في صالح التجزيءلادراكات لا تحصى فهي تكون جميعا مصدرها الادراك العقلي الواحد، وليس معنى هذا أن العقل يدرك المعطيات المادية والمعرفية والانطباعلت النفسية، والحب، والعواطف والاخلاق والجمال والقيم وغيرها بآلية أدراكية واحدة يقوم بها العقل...وأنما تقوم بهذا التنوع الكثيرجدا من المدركات الواردة بشكل حزم لا نهائية ترد العقل وتستقبلها وتعالجها مليارات الخلايا العصبية الموزعة في القشرة الدماغية، وفي تخصصات غاية في التعقيد والتنظيم والاعجاز التنفيذي لمخرجات العقل في جدلها التخليقي مع العالم الخارجي ومع موضوعات الذاكرة أيضا.أي الموضوعات التي تستحدثها الذاكرة التخييلية وتضعها أمام العقل للنظر بها وأعطائه ردود الافعال عنها.

ثم أن حصيلة أدراك الواقع المادي، هي ذاتها حصيلة العقل الذي يخلق التصورات العملية المادية لها، والتصورات المثالية التجريدية الصورية.فكلتا الفعاليتين هما أدراك عقلي واحد في تخليقه وتعبيره عن المدركات والوجود كوحدة واحدة يقوم العقل بالبت في أمر أصدار الايعازات الانعكاسية الجوابية الارادية منها وغير الارادية المتنوعة العديدة بشأنها...ولا مجال في الفرز والتفريق لوظائف العقل الادراكية من خلال تجزئتها الى مادية أو مثالية تجريدية أو غيرهما في أكتساب المعرفة. لأن مثل هذا التجزيء في وظائف العقل يقودنا الى ما لا يمكن حصره من أنواع الادراكات التي يستلمها دماغ الانسان من الطبيعة والمحيط والاجابة عنها خلال ساعات فكيف يكون الحال مع الايام والاسابيع والشهور والسنين الخ.؟؟

ويرى شيلر:(أن الذي يمّيز العقل الانساني تمييزا قاطعا هو نشاط الافكار التصورية، أي ملكة فصل الماهية عن الوجود، وبالتالي فأن العقل موضوعي، وأمكانية يحددها شكل او هيئة الاشياء ذاتها) (4)

أن عبارة شيلرهذه التي مررنا عليها، هي أن العقل يتميز تمييزا قاطعا في نشاط الافكار التصورية صحيحة لكنها لا تقوم على فصل الماهية عن الوجود بل لأن قدرة العقل تقف عند حدود معرفته ظواهر الوجود الذي يمكن التعبير عنها تصوريا باللغة، أي في تعبير العقل عن مدركات الظواهر بالفكر التجريدي واللغة، وما لا يمكن التعبير عنه بالفكر واللغة الصورية غير موجود، بمعنى غير مدرك عقليا لأن العقل عاجز عن أدراك ماهيات الاشياء ولا متاح للعقل التعبير عنها بنشاط صوري كما في التعبير عن الاشياء في ظواهرها.، لذا يكون العقل في حّل من أمر فصل الماهية عن الوجود للاشياء.وليس كل الاشياء في العالم الخارجي تمتلك ماهيات هي غيرها المدركة في صفاتها وظواهرها الخارجية المدركة.

وهي مسألة غاية في الدقة وصواب التعبيرفي توصيف ظواهر الاشياء التي يتعذر على العقل التعبير عن ماهياتها، من حيث أن وسيلة العقل في أدراك الاشياء في الطبيعة وعالم الموضوعات الخارجية المستقلة منها في وجودها الطبيعي، أو الموضوعات التي تبتدعها الذاكرة المخيلة العقلية في الذهن والتفكير العقلي الصامت ومعالجتها، أنما تكون غاية العقل من ذلك ليس الاقتصار على فهم الظواهر وتفسيرها أو تحليلها فقط، بل أن فاعلية ونشاط الافكار الصورية أي التعبير بالفكر واللغة عن مواضيع الادراك العقلي، أنما هي في حقيقتها تخليق العقل للاشياء المدركة ومحاولة تغييرها نحو الافضل، وبما يخدم حياة الانسان وليس الاكتفاء بمعرفتها تجريدا سلبيا.

ولو نحن أقتصرنا على أدراك العقل للاشياء من أجل معرفتها وتفسيرها فقط وليس من أجل خدمة حياة الانسان نحو الافضل لكنا الى يومنا هذا نعيش في عصور الكهوف البدائية.

أن أدراك الاشياء في الطبيعة هو قوة مادية يمتلكها الانسان من أجل سد حاجاته وليس من أجل التعبير المجرد عنها كمدركات لا أهمية لها في حياته. كما أن الافكار التصورية للعقل، أنما هي أنعكاس جدلي حيوي غير ميكانيكي في تعالق المادة والفكر على مستوى الادراك العقلي للاشياء وأدامة حيوية تطورها.

والافكار التصورية في التعبير عن الوجود، أنما هي تمثل مرحلة ثانية تلي مرحلة الادراك العقلي للاشياء من حيث أهمية أجراء عملية تحليلها وتخليقها في الذهن أولا... فالعقل يدرك مواضيع الوجود المادي والخيالي معا في كل تنوعاتهما واختلافاتهما كحزم لا تحصى من الادراكات التي ترد العقل عن طريق الحواس والذاكرة، بعدها يقوم العقل بتخليق دينامي حيوي لها قبل التعبير عن مواضيع الادراك بالفكر واللغة التجريدية الصورية داخل وخارج العقل في مجمل موضوعات الادراك وتنوعاتها وتوقيتاتها الزمنية في وصولها كمعطيات ادراكية للعقل... وبهذا يكون العقل (موضوعيا) كما يصفه شلر وليس ذاتيا فقط، بمعنى أنه مادي فاعل ومؤثر بالوجود وليس مدركا هامشيا محايدا ذاتيا في تدبيره حياة الانسان...

والعقل في الوقت الذي يعي نفسه أو ذاته، هو عقل موضوعي في مهمته أدراك عالم الاشياء الخارجي أيضا. والعقل يدرك وجود الاشياء ومحاولة أعطائه الفهم التحليلي والتفسيري لها بالفكرالجدلي، قبل أهتمام العقل التعبير عنها صوريا تجريديا باللغة. أما الشيء الذي نجده يستحق فعلا الاهتمام الجاد والكبير به ومناقشته هو أعتبار شيلر أن العقل يمتلك (ملكة) فطرية يستطيع تمييزه بها نوعية الشيء المدرك من حيث امكانية العقل فصل ماهيته عن مظاهره وظواهره الخارجية.وبذلك يسبغ شلر على العقل أمكانية لا يمارسها العقل وعاجز عنها ولا هي من اختصاصه القيام بها ونعني بها قيام العقل فصل الماهية عن الوجود كما يرغب شلر.

كما نجد أن تخطئة كانط في أصراره عدم امكانية العقل فصل ماهيات الاشياء عن ظواهرها الخارجية المدركة، أن تكون مصادرة رأيه بهذا المعنى والتعبير الفلسفي الاجتهادي المقبول، هو في مصادرته دونما أعطائنا شيلر بديلا فلسفيا مقنعا في كيفية أمكانية العقل فصل الماهية عن الوجود وكيف؟

بالحقيقة أن وجود الاشياء والمواضيع المستقلة في الطبيعة، وتمايز ماهياتها عن ظواهرها أو ظاهرياتها، هو في تعبير الوجود عن ذاتيته المستقلة بالطبيعة (ذاتها) كماهية غير مدركة وظواهر متعالقة بها قابلة هي وحدها لادراك العقل لها...، والعقل في أدراكه الشيء يدركه كوحدة واحدة من المكونات الظاهرية والماهيات المغلقة غير البائنة ادراكيا، ولا يستطيع العقل فصل معرفة ماهية الشيء عن ظواهره الخارجية لا في أدراكه ولا في أعادة تخليقه له.، فماهية الاشياء وعدم أدراكها حدسا عقليا أو تجريبيا أنما هي من خصائص الطبيعة غير العاقلة وليس من مهامها البيولوجية وظائفيا، التي هي الاخرى كما العقل لا تستطيع فرز ظواهر الاشياء عن ماهياتها بالادراك المباشرلها.

فالطبيعة هي موضوعات أدراكية للعقل لكنها لا تمتلك أدراكا ذاتيا ولا موضوعيا جدليا متخارجا كما هو عند الانسان... وليس من مهمة العقل المدرك للطبيعة والاشياء في ظواهرها البادية للمعطيات الادراكية الحسّية فقط التعبير عما يعجز عن أدراكه وهو ماهيات الاشياء وكيفياتها...الماهيات ألعصيّة على ألادراك العقلي وليست ظواهر الاشياء...

فالعقل يعجز فصل الماهية عن الوجود مثلما تعجز الطبيعة فعل ذلك أيضا، لكن بفارق جوهري كبير هو أن العقل يدرك عجزه كونه يعي ذاته والموضوع، بينما الطبيعة لا تدرك هذا العجز لعدم توافر الادراكين الذاتي والموضوعي عندها ناهيك عن أنعدام امتلاك الطبيعة خاصيتي الفكر واللغة اللتين يتمايز بهما الانسان عن الطبيعة في التعبير عن ادراك الاشياء ذاتيا وموضوعيا معا..

والحقيقة أن الادراك العقلي المادي للاشياء لا يدرك ماهياتها منعزلة كما لا يدرك ظواهراها ألبادية منعزلة عن أرتباطها الوثيق بجواهرها الكامنة فيها، ولا ينفصل العقل عن أدراكه الاشياء في ظواهرها من حيث أن المدرك الظاهري للشيء هوغير مدرك في ماهيته، ليس بالمعنى النوعي للادراك، بل بالقياس الكمّي الذي لا تنفصل فيه ملازمة ظواهر الاشياء المدركة عقليا بكيفياتها غير المنكشفة لادراك العقل، كما هو الحال مع الظواهرالمتعالقة مع كيفياتها الماهوية في غالبية الموجودات.بتعبير آخر فان الماهيات تتعالق في تبعيتها أدراك العقل لظواهرها، أي أن ظواهر الشيء المدرك تبقى في ملازمتها ماهيتها غير المدركة وترافقها معها، العقل وأن كان يدرك ظواهر الاشياء فهذا لا يعني مكنة وقدرة العقل التمييز الادراكي بين الظواهر والماهية في أدراك الوجود.

لكن تبقى محدودية ألادراك العقلي في عدم معرفة ألماهيات، وفي قدرته تفسير ظواهر الاشياء فقط ليست حيادية عقلية بل في تداخل وتفاعل تخليقي متجانس ومنظّم للظواهر وليس الماهيات، العقل لا يعرف ماهية الشيء المدرك في ظواهره، كي يتمكن فصل الماهية عن ظواهرها كما يرغب شيلر.

وليس في قدرة العقل الادراكي القيام بمهمة الفصل تلك، لذا عمدت الفلسفتان المادية والمثالية في أعتبارهما أدراك الاشياء في ظواهرها المادية الوجودية المستقلة، هو أدراك كاف للعقل في معرفة الاشياء من حيث هي موجودات الطبيعة...وأن مجموع الصفات والظواهر للشيء هي ماهيته غير المنظورة للحواس ولا المدركة للعقل، وكل تغيير في الظواهر والصفات الخارجية المدركة للاشياء، أنما يستتبعها تغيرات جوهرية في حقيقة الاشياء كيفيا ماهويا رغم ألزعم القائل أن الماهيات جواهر ثابتة لا يمكن تغييرها.فالتغيير في صفات الشيء يقود حتما الى تغيير بعض ماهياته الثابتة التي في حقيقتها غير ثابتة وانما تعيش حركة تضاد حركي بداخلها، وتعيش جدل متخارج مع صفاتها.أضافة الى أن ماهية الشيء هي في مجموع صفاته وظواهره المدركة حسيا وعقليا ومعرفتها في خواصه هذه يعني معرفة ماهيته.

الماهية البيولوجية والماهية الرياضية

ونجد هنا أهمية التفريق مابين معرفة ماهية الشيء رياضيا علميا عنها في معرفته البيولوجية الطبيعية عقليا، أن الادراك في كلتا الحالتين واحدا في الاحتكام النهائي لمرجعية العقل، أذ لا يمكن ادراك أو معرفة ماهية شيء بغير العقل. لكن أدراك ماهية الشيء رياضيا، أي معرفة حقيقتة الرياضية أنما تتم باعتماد رموز المعادلات الحسابية المختبرية التجريدية، وهو ما لا يتوفر عليه العقل أدراكه ماهيات الاشياء في وجودها البايولوجي الحي في الطبيعة التي تفترض معرفة ماهيتها حدسا أدراكيا مباشرا من العقل القاصر معرفتها حسيّا، ولا يحتاج العقل مرموزات المعادلات الرياضية، بل يحتاج أفكار اللغة في التعبير عن معرفة كيفيات الاشياء في حال أمكانية كشفها ومعرفتها.

كما تذهب فينامينالوجيا هوسرل أنها تلتقي بالعلوم الرياضية في معرفة الماهية لكن بطريقة الحدس العقلي، اذ حسب زعمهم أن الفينامينالوجيا هي مثل علوم الرياضيت لا تعالج وقائع عابرة، أي لا تعالج موجودات الاشياء في الطبيعة، وانما تهتم بماهياتها فقط، ولكن بأسلوب غير منطق الرياضيات في المعادلات، بل في أسلوب الحدس العقلي للماهيات.

من الواضح أن خطأ الفينامينالوجيا زعمها أنها تلتقي مع علوم الرياضيات في معرفة ماهيات وحقائق الاشياء غير ممكنة، فالمنهج المنطقي الرياضي الذي يعتمد معادلات تجريدية في الوصول الى حقائق وماهيات المواضيع، لا تتوفرعليها الفلسفة الفينامينالوجية في أعتمادها الاستدلال الحدسي العقلي غير اليقيني الثابت في الوصول الى ماهيات الاشياء في حال أفتراض وجودها الثابت...ولا يمكن معرفة الماهيات في حدسها عقليا ظاهريا، لأنه في حالة افتراض التسليم بهذه الامكانية الفينامينالوجية في الحدس العقلي، فأن هذا الحدس يستلزم خبرة أدراكية قبلية موجودة في العقل عن الشيء المراد معرفة ماهيته حدسيا.ثم والأهم من هذا أن المواضيع المراد معرفة ماهياتها رياضيا مختلفة جدا عن مواضيع معرفة ماهيات الاشياء فينامينالوجيا.

أذا ما أخذنا بالاعتبار أن ماهيات الاشياء البايولوجية في الطبيعة هي في حالة من الاحتجاب الكامن خلف ظواهرها، ولا يمكن للعقل أدراكها أو معرفتها بالمباشر الحسي أو الحدسي. نجد ومن هنا نقول أن الشيء الذي يعجز العقل عن أدراكه ماهويا لا يمكن التعبير عن ماهيته بأي نوع من التعبير الذي يمكننا فهمه.

أن عبقرية العقل وأعجازه تتمثل في أن أدراكه الاشياء ليس فقط لفهمها، بل في وجوب القيام بمهمة تفسير الادراكات بهدفية قصدية تغييرية للاشياء في ظواهرها فقط أي في تخليقها وتجديدها وتغييرها وليس في خلقها.

أما أن يتداخل ما هو ظاهري مدرك عقليا للشيء في جدل متخارج مع ماهو ماهوي كيفي غير مدرك لنفس الشيء، فلا يكون هذا من مهمة العقل وأنما من مهمة الطبيعة المحكومة بالجدل وبالحركة الدائمية والتغييرالمستمر في الزمان والمكان....تغييرات الاشياء في الطبيعة أنما يحكمها قانون الطبيعة في الديالكتيك الذي يعمل باستقلالية تامة عن أدراك أو تدّخل عقل الانسان بها ولا تستجيب لرغائب الانسان...الانسان منذ وجوده في الطبيعة يشكل جزءا متمايزا عنها فهو يقوم فقط بمعرفة ظواهر الاشياء فيها ولا يتدخل بقوانين الطبيعة سوى فقط التي يجري اكتشافها من قبله، أما القوانين الطبيعية التي لم يكتشفها الانسان لحد الآن فلا سيطرة له عليها ولا معرفة له بها ولا تداخل معها لا بالحواس ولا بالعقل...لذا تكون قوانين الانسان المخترعة عقليا تسري على الطبيعة في الظواهر المكتشفة منها فقط ولا تسري على قوانين الطبيعة غير المكتشفة للانسان من ضمنها قانون كيف يدرك العقل الانساني الوجود في كيفيته وجوهره.

كانط وشيلر والمعرفة العقلية

أن فصل الادراك الماهوي للشيء عن وجوده الظاهري المادي المستقل في الطبيعة، كان أشار له كانط في أن العقل عاجز عن معرفة ماهيات الاشياء، في نفس وقت وآنية أدراكه المادي لها في ظواهرها فقط. والعقل لا يمكنه التمييز بين الشيء في ماهيته والشيء في ظاهرياته. وكما ذكرنا سابقا أن العقل يدرك الاشياء في وحدة وجودية ويتعامل مع ظواهرها تخليقيا جدليا، ولا يخلق وجودها المستقل من جديد، فالافكار لا تخلق الوجود بل الوجود هو مصدر خلق الافكار.

ويبقى أدراك الماهويات عقليا مرتهن بمدى تعالقها مع أدراك العقل لظواهرها، والتخليق العقلي لا يمس كيفيات أو ماهويات تلك الاشياء لأنه لا يدركها، لذا نؤكد أن كل تغيير يطال الاشياء في ظواهرها لا يحتّم بالضرورة تغييرا ملازما في كيفياتها وماهياتها الثابتة، بنفس وقت أمكانية حصول تغيير في كيفية ما عند تغيير العقل ظواهر ذلك المدرك أو غيره...أذ ربما يحصل نوع من التبادل الجدلي التغييري في الشيء المدرك ظواهريا مع ماهيته التي تكون في حكم الثبات بالنسبة لأدراك العقل لها في وجودها الطبيعي المستقل، لكن بعد تدّخل العقل معالجة ظواهرها ربما يستتبع هذا تغيير في كيفياتها غير المكشوفة للعقل.

من جهة أخرى نجد شيلر في معرض أدانته لكانط في منهج الاستقراء المعرفي، وأتهامه له بالخلط ما بين العقلي والقبلي، وهو خلاف ما سعى له كانط أنه أراد تأكيد تداخل العقلي والقبلي بما لا يمكن للعقل الفصل بينهما، فكل ما هو عقلي يصبح قبلي في المراكمة من الخبرات، عليه يكون العقل قسمة مشتركة بين المفهومين في أدراك المعرفة، كما لا يوجد خبرات قبلية ولا ماهيات يختزنها العقل كمعطى ألهي أو هبة طبيعية في العقل. وأنما كل الخبرات تصبح بديهيات وحقائق عقلية بالتراكم المعرفي التجريبي، التي مصدرها الوجود، ويعجز العقل تخليقه الوجود وأن يجعل من الخبرات القبلية غير الموجودة في حقيقتها بديهيات مسّلم الأخذ بها.

قوانين الطبيعة وقوانين العقل

يذهب ماكس شيلر الى أنه ( لا يوجد عقل يفرض قوانينه على الطبيعة، واننا لا نستطيع أن نثبت الا ما يعتمد على الاتفاق والاصطلاح، أما القوانين فلا أحد يستطيع فرضها) (5) لم يوضح لنا ماكس شيلر لماذا لا يستطيع العقل فرض قوانينه على الطبيعة التي نحاولها في توضيحنا التالي، على حد فهمنا لعبارات شيلر الغامضة خاصة قوله ما يعتمد على الاتفاق والاصطلاح وما المقصود منهما:

- أن العقل الانساني محدود جدا في فهمه لا متناهي قوانين الطبيعة وقدراتها الفائقة التي تحكم الوجود الانساني بما لا يعرفه الانسان عنها الا في القليل منها، والقول بأن الانسان سيد الطبيعة مصطلح غائم غير صحيح بالنسبة للطبيعة وقوانينها، لكنه ربما يرضي غرور الانسان في محاولته وطموحه السيطرة على الطبيعة في أكتشافه قوانينها الثابتة كاملة...الطبيعة هي مرضعة الانسان والحيوان والنبات وجميع الموجودات في تأمين بقائها وأدامة حياتها في توفير الغذاء لها، وأن كانت لا تعي ذاتها لكنها لا تسّلم قيادها بيد الانسان، لأن ذلك خارج عن أرادتها الصماء الثابتة أيضا...والطبيعة تعرف بقوانينها التي تحكم الوجود الطبيعي بضمنه الوجود البشري، وليس فقط بالاشياء المادية الظاهرة والبائنة لادراك الحواس والعقل المباشرمن كائنات حية وغير حية تشاركه الطبيعة.

الانسان بقدر أحساسه الكبير جدا أنّه لا يستطيع الاستغناء عن الطبيعة، ألا أن الطبيعة لا تدرك حاجة الانسان لها ولا تستجيب هي لرغائبه أكثر مما تجود به هي على الانسان والحيوان والنبات من أسباب البقاء والحياة بلا ادراك منها.

- إن الطبيعة هي مصدر خلق قوانين العقل وليس العكس. بمعنى عجز العقل أن يكون مصدرا مهيمنا باختراعه قوانين تمكنه من هيمنته على الطبيعة، فالوجود الطبيعي للاشياء هو الذي يخلق قوانين العقل، وبقوانين الطبيعة القبلية الثابتة التي تمتلكها الموجودات والتي يفتقد العقل أمتلاكها أو بعضها هي التي تحكم الوجود.

وقوانين الطبيعة قبلية متعالية على الوجود والانسان في غموضها وعدم قابلية العقل البشري أدراكها أو أكتشافها كاملة الا في بعضها، وليس بمقدور العقل أختراع قوانينه ذاتيا، قوانين يحكم بها الطبيعة ألا في أضيق نطاق ومجال هو ما يخص الطبيعة في ظواهرها وبعض القوانين المكتشفة من قبل الانسان عنها...لذا يتعذّر على الطبيعة أستقبالها قوانين العقل التي تكون هي مصدرها الحقيقي وليس العقل.القوانين الطبيعية المكتشفة منها وغير المكتشفة، هي التي تحكم الوجود، وقوانين الانسان المخترعة لا تحكم الطبيعة ولا الوجود بقدر تاثيرها الضئيل في تسخيرها الطبيعة لصالح بقاء الانسان وادامة حياته على الارض ومعه جميع الكائنات الحية.

- قوانين الطبيعة لا تستمد مشروعية قبولها من وعي الانسان بها أو حاجته لها، ولا تعمل أو تعي تلبية رغائب الانسان منها، ويمكن لموجودات الطبيعة أن تتقبل قوانين العقل التي تتدخل في ظواهر الاشياء فقط وليس بماهياتها التي يعجز العقل ادراكها.كما أن أختراع العقل لبعض قوانينه، فهو لا يمتلك بها أمكانية ابطال فاعلية قوانين الطبيعة الثابتة أو تحكمّه بها..

- ان القانون المستمد عقليا من أدراك الطبيعة لا يتعامل بحيادية التعبير عن تلك الادراكات بلغة التصورات المثالية التجريدية في حيادية زائفة تنسب للعقل، بل أن العقل يتداخل بالفكر والتجربة العلمية في تخليق مدركاته المادية والمثالية على السواء ليس من أجل معرفتها وتفسيرها المجرد، بل من أجل تطويعها لخدمة الوجود الانساني... أن ملكة العقل الادراكية النقدية تتداخل حتما في تعديل واكتشاف العلل السببية السلبية التي تعمل بالضد من تسهيل حياة الانسان وصعوباتها، والا فلا معنى أن يدرك العقل الانساني الطبيعة واكتشاف قوانينها الثابتة الفاعلة من أجل فهمها وليس من أجل تسخيرها في خدمة الحياة والوجود الانساني.

لذا فأن الطبيعة في الوقت الذي تكون أرهاصا أوليا للعقل في أدراكه الموجودات واكتشافه بعض قوانين الطبيعة، فهي عاجزة غير مكترثة عن أستقبال رغبة العقل الانساني فرض قوانينه المخترعة على الطبيعة ذاتها. وأن ملكة العقل الاعجازية تكمن في أكتشافه قوانين الطبيعة الثابتة التي تعمل بمعزل عن أرادة الانسان، بنفس وقت أن العقل يخلق قوانينه الجدلية الخلاقة التي يتبادلها في التأثير والتأثر بالطبيعة من جانب أحادي فقط هو الانسان.

الطبيعة في الوقت الذي تحكم الوجود الانساني بقوانين ثابتة مستقلة عن وعي وادراك ورغبة الانسان، رغم كل هذا فالطبيعة لا تعي استقبالها القوانين الانسانية المخترعة في تطويعها لرغائب الانسان وحتى العبث بها.

 

الباحث علي محمد اليوسف/الموصل

.......................

الهوامش:

1- أ.م. بوشنكي، الفلسفة المعاصرة في اوربا، سلسلة عالم المعرفة، ترجمة د. عزت قرني ص 192-193

2- نفس المصدر ص 196

3- نفس المصدر ص 197

4- المصدر نفسه ص 198

5- المصر نفسه ص 199

 

دستويفسكي وغوغول

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ضياء نافع

ضياء نافعيربط القارئ العربي غالبا هذين الاسمين الكبيرين في الادب الروسي بالقول الشائع، الذي ينسبونه لدستويفسكي – (كلنا خرجنا من معطف غوغول)، وهو تبسيط التبسيط للحديث عن علاقة هذين الكاتبين في اطار علم الادب المقارن، ويذكرني بما قاله لي مرة احد معارفي، عندما سألته عن انطباعاته حول العاصمة النمساوية فيينا التي زارها،  والذي أجابني قائلا – (ليالي الانس في فيينا // سمعها الطير بكى وغنّى)، وقد قهقهت عندها، وقلت له، انه من المؤكد، ان اسمهان نفسها تعرف جيدا، ان الطير لا يبكي ولا يغنّي اولا، و تعرف ثانيا، ان الطير ينام طوال الليالي بغض النظر عن اي انس يجري في زوايا تلك الليالي و شعابها.

لقد كتبت مقالة قبل سنوات طويلة بعنوان – (هل خرج دستويفسكي من معطف غوغول؟) ويمكن الرجوع اليها طبعا، وتحدثت فيها بالتفصيل عن ذلك القول، و ذكرت في نهاية المقالة المذكورة كيف اني استمعت الى محاضرة ألقاها بروفيسور سوفيتي في باريس نهاية ستينات القرن العشرين عن هذا القول، بعد بحث وتمحيص طويلين له حول اوليّات ذلك، وكيف فنّد الرأي القائل، ان دستويفسكي كتب هذا القول. استجدت بعد ذلك عناصر جديدة اخرى باللغة الروسية حول هذا الموضوع، منها ما نشرته مجلة (قضايا الادب) الروسية، وما تم نشره في المعجم الكبير للتعابير والاقوال المتداولة تحت جملة – (كلنا خرجنا من معطف غوغول) ...الخ، وكل هذه المصادر تشير بالاجماع الى ان دستويفسكي لم يكتب هذه الجملة، وانها وردت في كتاب أحد الباحثين الفرنسيين حول الادب الروسي ليس الا، ولا مجال هنا للحديث التفصيلي عن كل ذلك طبعا .

دستويفسكي وغوغول والمقارنة بينهما – موضوع عميق جدا في تاريخ الادب الروسي (يكفي فقط ان نشير مثلا الى موضوعة مدينة بطرسبورغ وانعكاساتها في نتاجاتهما الادبية) ، وهو موضوع عميق ايضا في تاريخ الفلسفة الروسية  (ويكفي فقط ان نشير مثلا الى موضوعة الكنيسة الارثذوكسية الروسية في مفاهيمهما ودورها الذي ينبغي ان تؤديه في المجتمع حسب رأيهما) . لقد ابتدأ موضوع المقارنة بينهما واقعيا منذ ظهور دستويفسكي في دنيا الادب الروسي، اذ أسماه الشاعر والصحافي الروسي الكبير نكراسوف (غوغول الجديد) عندما تكلم عنه مع بيلينسكي، أما بيلينسكي نفسه، فقال، ان (غوغول هو الاب لدستويفسكي)، وكل ذلك طبعا في بداية ظهور دستويفسكي، اي قبل اعتقاله من قبل السلطة القيصرية والحكم عليه بالاعدام، ثم الغاء هذا الحكم ونفيه الى سيبيريا بدلا عن الاعدام، وهي وقائع معلومة في تاريخ روسيا وادبها، اما دستويفسكي بعد العودة من سيبيريا، ومسيرته الادبية الجديدة، ووصوله الى القمة والعالمية، فان الامر يختلف طبعا، اذ يدأ النقاد والباحثون يتناولون مبدأ المقارنة بين دستويفسكي وغوغول  باعتبارهما  قمتين من  قمم الادب الروسي والعالمي ايضا، وهناك مجموعة من الدراسات المعمّقة في هذا الخصوص، منها على سبيل المثل وليس الحصر كتاب كامل صدر عام  1921 في روسيا بعنوان – (دستويفسكي وغوغول) من تأليف تينيانوف (تأملوا سنة اصدار الكتاب، عندما كانت روسيا تتبلور لتوّها بعد ثورة اكتوبر 1917 وتتحول الى دولة الاتحاد السوفيتي)، ومؤلف الكتاب تينيانوف هو احد الادباء الروس واحد  نقاد الادب البارزين في مسيرة الادب الروسي آنذاك، وتعدّ كتبه – ولحد الان - مصادرمعتمدة للباحثين، وخصوصا عن اعلام الادب الروسي في القرن التاسع عشر مثل بوشكين وغريبويديف وغيرهم . من الممكن طبعا الاشارة الى مصادر روسية اخرى تناولت موضوع المقارنة بين غوغول ودستويفسكي من مختلف الجوانب، منها ان دستويفسكي حاول ان يحاكي غوغول (وفق اساليب مخفيّة وغير مباشرة) كي يقارعه فنيّا ويصبح بنفس مستواه، مثلما حاول غوغول ان يحاكي بوشكين (وفق تلك الاساليب ايضا) كي يصبح بنفس مستواه، ولكن هذا الجانب غير الواضح وغير المباشر يحتاج الى اثباتات وبراهين عميقة و موضوعية، ويخضع كل ذلك طبعا الى وجهات نظر شخصية للباحثين مختلفة و متباينة، بل وحتى متناقضة بعض الاحيان . اختتم العرض الوجيز لهذا الموضوع المهم في علم الادب المقارن بالاشارة الى وجود فلم وثائقي روسي بعنوان – (غوغول و دستويفسكي)، وهذه ظاهرة نادرة في الدراسات المقارنة .

دستويفسكي وغوغول – موضوع كبير ومهم في تاريخ الادب الروسي وفي علم الادب المقارن، وقد انعكس باشكال مختلفة في مسيرة النقد الادبي الروسي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وفي النقد الادبي السوفيتي، ولازال مطروحا لحد الان، وكم نحتاج – نحن العرب – الى متابعة هذا الموضوع وغيره من اجل ان نتفهم تاريخ الادب الروسي وخصائصه ...

 

أ. د. ضياء نافع

 

أوركسترا: الأحجـار الكريمـة

التفاصيل
كتب بواسطة: خليل ابراهيم الحلي

869 خليل 1منذ اقدم العصور جذبت الاحجار الكريمة الانسان واستخدمها في بادىء الامر لابعاد الحيوانات المفترسة وقد صنع بعض اسلحته منها كذلك كان يثقبها بشكل بدائى ويلبسلها على شكل قلادة في رقبته او يثقبها في اي جزء اخر من جسمه وفي مراحل اخرى من التاريخ برز استخدامها عند الانسان لسببين لصياغة الحُلى الذهبية كزينة والسبب الاخر لاعتقاده منها بطرد الارواح الشريرة وكذلك الشفاء من الامراض فمثلا استخدمت الاحجار الحمراء لوقف نزيف الدم من الجروح، والاحجار الصفراء للشفاء من امراض الكبد والبيضاء لحماية النظر والسوداء لازالة الاكتئاب. كذلك اعتبر القدماء بان حجر العقيق يطيل عمر حامله والماس يحمي من التسمم والياقوت يحمي من مرض الطاعون . الخ.

وقد زخرت اكبر متاحف العالم بأنواع التحف المصاغة من الذهب الخالص والفضة المطعمة بالاحجار الكريمة المنوعة الالوان، منلاحظ استخدامها البابليون والفراعنة والاغريق على شكل مصوغات ذهبية ابدع صانوعها بشكل متقن في الدقة والجمال يبهر من ينظر اليها بزخرفتها والوانها وبقى الانسان منذ القدم وحتى عصرنا هذا ملازما استخدم الاحجار الكريمة في صناعة الحُلى لجماليتها اولا واعتقاده ثانيةً بأن لها تأثير نفسي على حياته من اقتنائها واستخدامها.

869 خليل 3

rings stones

ان مايميز الاحجار الكريمة عن الاخرى هو ندرتها ولونها وصلابتها هذه هي مقاييس تأكيد جودة الحجر. وعملية صقل الحجر له اهمية كبيرة من حيث جماله ودرجة نقائه من حيث امتصاصه لاكبر قدر من الاشعة الضوئية وكلما زادت عدد اضلاع الحجر (التراش) ازداد بريقه ولمعانه ففي بعض الاحيان تصل اضلاع الحجر المصنع الى 58 وجه. وقد اثبت بشكل علمي بان حجر الفيروز الازرق له قابليه على امتصاص اشعاعات الطاقة الصادرة من بعض الاشخاص وقد عزز هذا الاعتقاد السابق بان حجر الفيروز الازرق يبعد الحسد والعين عن حامله وكذلك حجر الماس يبعث في حامله الثقة بالنفس والسرور لان بريقه الحاد والخاطف للبصر يجلي النفس من الهموم، كذلك حجر الزمرد يعطي لحامله الراحة النفسية ويزيل الهم ولا اريد ان اخوض في غمار هذا الموضوع عن الاحجار الكريمة لانه شائك ومعقد.ويعتقد القدماء بوجود علاقة بين الاحجار الكريمة وشهور السنة.

اريد ان اوضح للقارىء الكريم وبشكل بسيط عن بعض انواع الاحجار الكريمة في بلداننا وتقسم الى ثلاث انواع من حيث تواجدها في الطبيعة وهي:

869 خليل 2

1- الاحجار المستخرجة من باطن الارض وتشمل:

أ- الماس: يعتبر هذا النوع من الحجر هو الاثمن من بينها ويختلف الماس حسب نوعية نقاءه من الشوائب الكاربونية كذلك يختلف ثمنه حسب حجمه ولونه فهناك اللون الشفاف المائل للصفرة او المائل للزرقة ويعتبر الماس من اصلد انواع الاحجار ولهذا يتم سقله بأسلوب خاص ومتقن ويعتمد ثمنه ايضا على نعومة اضلاعه وعددها.

ب- الزمرد: يتمتع الزمرد بمكانة عالية بين الاحجار الكريمة لما يتمتع به من جمالية في اللون وتنسب بلورة الزمرد الى النظام السداسي (اي انها ذات ستة اضلاع او زوايا. وتتفاوت درجة صلابة الزمرد من 7.5-8، ويعتبر من الجواهر الصلبة. وتختلف انواعه من حيث درجة شفافيته ويثمن على اساس حجمه ودرجة نقاوته ومن الوانه الاخضر والازرق والاحمر والوردي وراقى انواعه الاخضر الشفاف.

ج- الفيروز: له مايميزه من الاحجار الكريمة بجماليته ولونه الخاطف للانتباه ويعتمد ايضا على درجة نقائه من الشوائب والوانه الازرق الغامق والازرق المائل للاخضر الغير الشفاف.

د- الزفاير: هو ايضا من انواع الحجر الثمين ويكون لونه ازرق شفاف ويعتمد ثمنه على درجة نقاوته وطريقة تصنيعه وهناك الوان عدة منه اللون الوردي واللون الاخضر واللون البنفسجي واللون الاصفر .

هـ - العقيق: يعتبر العقيق من الاحجار الكريمة الاكثر استخداما في مناطق الشرق الاوسط لكثرة تواجده هناك. يختلف العقيق تبعا لطريقة استخراجه وطريقة سقله واشهر انواع العقيق هو اليماني لما له من ميزات خاصة يأتي بالمرتبة الثانية العقيق الهندي وتصنف انواع العقيق حسب لونه فمنه الاسود ويسمى (الاونكس) وكذلك الاحمر الداكن والشفاف ويسمى(الروبي) والنوع الاخر منه العقيق الابيض النصف شفاف ويسمى (السليماني)نسبةً الى منطقة استخراجه من محافظة السليمانية في شمال العراق.

869 خليل 4

2- الاحجار المستخرجة من اعماق المياه:

ان هذا النوع من الاحجار الكريمة متواجد في قاع البحار والمحيطات وهو يشمل على:

أ- اللؤلؤ: ويتم استخراجه من المحار من مياه المحيطات، وقد برع الخليجيون في صيد اللؤلؤ منذ القدم وستخدموه في صناعة الحُلي الذهبيه لما له من الالوان الجذابة. ويختلف اللؤلؤ من حيث حجمه وشكله فهناك لؤلؤ مائل للحمرة او مائل للصفرة والابيض وكلما كبر حجم اللؤلؤه ازداد ثمنها ويعتبر اللؤلؤ الاسود من اغلاها.

ب- المرجان: يعتبر المرجان من الاحجار الكريمة المستخرجة من اعماق البحار ويستخدم في صناعة الحُلى الذهبية ويستخدم على شكل قلائد واساور .

وتخلف انواعه والوانه فمنه الابيض المائل للصفرة او الابيض المائل للحمرة ومن اثمن انواعه ذو اللون الاحمر القاني ويسمى (دم الطير) وهناك نوع اخر ذو لون وردي.

ج- الدر: وهو ايضا نوع من الاحجار الكريمة النادرة ويكون لونه شفافا ويستخرج من منطقة صحراوية في العراق وتسمى (بحر النجف)ويستخدم في صناعة الخواتم الرجالية المصنعة من الفضة حيث له قدسيه دينية خاصة.

3- الاحجار الكريمة المستخرجة من النباتات:

حيث تقوم بعض الاشجار بفرز مادة صمغية خاصة وعندما تجف وتتصلب تشكل نوع من انواع الاحجار الكريمة وهو (الكهرب). ويقسم الكهرب الى عدة انواع منه الكهرب الشفاف المائل للصفرة والنوع الاخر الكهرب الحشري، حيث توجد داخل هذه الاحجار نوع من الحشرات . اما اثمن انواع الكهرب فهو الكهرب الالماني (الحجري) ذو اللون الاصفر وغير شفاف ويستخدم في صناعة بعض الحُلى والمسبحات وعند دلكه تنبعث منه رائحة زكية. مهما اختلفت الثقافات ومفاهيم الانسان تبقى الاحجار الكريمة بالوانها الزاهية واشكالها تبهر الانسان وتاسر لبهِ وتجعله يعيش في احلام السعادة والنشوة عند النظر اليها.

869 خليل 5

التأثير النفسي للاحجار الكريمة

أن الأحجار الكريمة تمنح الأنثى طلة واشراقة أحلى، وتضفي عليها مزيدا من الأنوثة والجاذبية، لذلك تحرص على ارتدائها إما على شكل سلسلة أو خاتم او اساور أو اقراط، لتضفي المزيد من معاني الأناقة على طلتها. والأحجارالكريمة، وفق علماء البيولوجيا، عرفها البشر منذ 40 ألف عام، ومنذ ذلك الحين تعد الأحجار الكريمة رمزا من رموز السحر والجمال والبهاء. ومؤخرا تم التوصل إلى حقائق جديدة ومذهلة عن الأحجار الكريمة؛ إذ لم يعد دورها يقتصر على الزينة والتعبير عن الثروة، وتحديد مكانة مالكيها في مجتمعاتهم وحسب، بل أكدت دراسات أن لها تأثيرا على شخصية ومزاج وصحة من يحملها، وفقا لنوع الحجر ولونه ويذكر أن الاهتمام بالأحجار الكريمة وتأثيراتها كان واضحا على مر العصور، فالفراعنة، مثلا، آمنوا بأن للحلي قوة سحرية إلى جوار وظيفتها في الزينة، وبذلك اتخذوا من الحلي تمائم علقوها على مختلف أجزاء أجسادهم، لأغراض متنوعة تكمن منافع الأحجار، وفقا لطبيعتها، ويقول المختصون في علم الاحجار ان أكثر تأثيرا وفائدة إذا كانت طبيعته تتوافق مع طبيعة وشخصية مرتديه.

وحول طاقة الأحجار، يقولعلماء الاحجار “أثبتت الدراسات والأبحاث التي أجريت من قبل خبراء الهندسة الحيوية وعلماء الطاقة الذاتية أن لبعض الأحجار الكريمة أثرا قويا على تغيير مسار الطاقة المنبعثة من الجسم والقادمة إليه، وبالتالي يمكن الاستفادة من تلك الخاصية الفريدة في تفادي الكثير من الأضرار”. ويبين الاختصاصيون أن لكل حجر كريم تأثيرا مختلفا، وأن للأحجار علما خاصا بها، وقد نال هذا العلم في الفترة الأخيرة شهرة واسعة، فأصبح يدرس في المعاهد التي تعنى بطاقة الإنسان، وقد اعتمد العلاج بالأحجار الكريمة كأحد فروع الطب البديل. وعن التأثير الذي يمكن أن يلاحظه الشخص عند ارتداء أو اقتناء حجر كريم على اختلافه، وأن الألماس سيد الأحجار، كما يطلق عليه، فهو الأجمل والأغلى والأكثر صلابة، ويوجد منه الأبيض والشفاف والأسود والأصفر وله تأثير فعال في زيادة نشاط الجسم وتألقه، وفي تقوية المناعة ضد شتى الأمراض، وفي الحد من الشعور بالغيرة، ويمنح مرتديه لمحة من البراءة والشفافية.

أما الياقوت، كما تقول، فإن أجود أنواعه الأحمر والأرجواني. ويعمل الأحمر منه على تهدئة المخاوف ويمنح الشجاعة، وينشط الذاكرة، ويسكن الألم، ويقوي أداء القلب والأوعية الدموية. وأما حجر الزمرد فيمتاز بلونه الأخضر الذي يمنح العين الراحة، ويُعتقد أنه يمتلك القدرة على إبعاد الحشرات السامة عن مرتديه. في حين يتميز حجر الزفير، وفق خضر، بقدرته الفائقة على امتصاص الأشعة الضارة التي تؤثر في الإنسان؛ إذ يمكن الاستعانة به كمهدئ للأعصاب المضطربة، فيبث لونه الأزرق الجميل الراحة في النفس. وأما العقيق فأفضل أنواعه العقيق اليماني؛ إذ يحمل حجر العقيق ألوانا مختلفة، فمنه الأحمر، والبنين والأخضر، والأبيض، ولكل لون تأثير مختلف، فالأحمر يزيل الضيق ويبعد الهم، والأبيض يزيد من إدرار الحليب لدى المرضعات، والأخضر فعال لوقف النزيف. وبوجه عام يفيد العقيق في تسكين الألم، خاصة آلام الولادة.

وتبين خضر أن حجر الفيروز شاع منذ القدم، وبخاصة في الحضارة المصرية القديمة. فهو يجلب الرزق، ويصد العيون الحاسدة، ولذا فهو من أكثر الأحجار انتشارا، وأكثر رواجا من الأنواع كافة.

وعن حجر الأوبال، أو ما يسمى بحجر “عين النمر”، إن الذي يميز هذا الحجر تناثر الذرات البرونزية التي تتخلل لونه البني.

وقد أطلق عليه “عين النمر” لأنه يلمع في كل الأوقات، ليضفي على مرتديه مظهرا خلابا. ومن أفضل فوائده تنشيط الجسم، وتقوية العظام.

 

خليل الحلي/ سيدني

 

شرخ إنساني.. مقطوعة سردية

التفاصيل
كتب بواسطة: عبد الرزاق عودة الغالبي

عبد الرزاق عودة الغالبيالمغالاة بالشيء تفقده قيمته.. وحتى في الإحساس، فيصبح خُنوعًا وانكسارًا... معاملة ملوك القرون الوسطى لا تجدي نفعًا في زمن الانهيار، هي تجربة مني، إظهار منزلة لعزيز عندي، أدهشتني فيها عكسية في الرد، حرّكت رأس قلمي في الجريان بعد ما كان ماسكًا لزمام أمره، زادت في نفسي قلقًا واحتمالية للفقدان، ربما هو نكران لجزالتي في الإتيان، أو عطاء لطوبائية كينونتي، صار اندهاشي فائضًا عن قيمة الاستجابة، فترك فيها خضوعًا للمحفز، في حضرة تشومسكي و توليديّته أمام أعين خاطري، أظن أني أخطأت في تقويتها حين أعطيت عطيّتي لأزيدها حممها أوارًا، بتكرار الملاحقة لتقوية جذورها في طبع غير قنوع، فزاد كينونته معاندة وتضاد.. هي قاعدة من قواعد وسنن الوجود، ونحن أغبياء لا نتعلم أبدًا حتى نصطدم في نتائج غير محسوبة سلفًا...!!؟؟

وأكملتها بالاستماع، هي نصيحة الصدفة أفضل من درس أُعدّ له مسبقًا، وأدهشتني حين صارت جوابًا كافيًا لجميع تساؤلاتي، وحلًّا منطقيًّا لحيرتي مع سرٍّ من أسرار الله في هذه الأرض أزفت الظروف أن أفقده.. تفضي النصيحة بنسبة العشرين لكل مئة في سلم الاهتمام، فالعطاء لمن تجلّه، هو الأيسر، والزيادة عن ذلك تفضي إلى الخراب والتدمير والفقدان، و قد يفسد الخير فيه حين ينغمس في سوداوية اللامبالاة، وإن زيادتها تفضي إلى البطر بعينه، والتصور بالاعتبار نحو سلبية الخنوع، فتتجه إيجابية المغالاة سلبًا، ويصلب العطاء بكل درجاته النسبية على عمود المغالاة، باتجاه خجل يفضي لخدش في الكرامة .....

الكرامة هبة وثنائية للضمير، وهي عطية الخالق للمخلوق، جوهر في احترام النفس ،فحين ينحصر الضمير في زاوية حرجة عند محاسبة النفس في الأخطاء، تبرز الكرامة بحيثيّاتها للدفاع عن استمرارية العلائق بين مكونات الوعي لدى الإنسان نفسه لاتخاذ القرار الصائب وحل الإشكال، ويخرج هذا الكيان خارج تكوين العقل أحيانًا نحو كينونة أخرى خارج تكويننا الإنساني، ليعلن الإنسان إنسانيته كتميز له عن بقية مخلوقات الله، وبشكل موازي للنفس، فإذا لم يكن الإنسان أنانيًّا لنفسه ستصيبه الأنانية في غيره، فيخرج الإحساس بفعل الأنانية الخارجة عن الحدّ المألوف لتلتصق في ذات أخرى، تختارها رغبته الجامحة في سلوك الثنائيات ...

وتواجهت القوى المالكة لزمام الخير عندي: الضمير مع الكرامة ضدًا في البطر عند مدار مبحثي، وكان التوازن في الانفراج، فالإشكال متأتي من منزع سهم أُطلق يحمل نصيحة فادحة بالثمن والنتائج، لم يصب الهدف لحد الآن.. واستمر فكري في الغوص في أعماق أعماقه، وأطلقت العنان، وقلت في نفسي - حتى كادت كلماتي تداعب أذني- حين أختلط عندي الوعي باللاوعي: مرّت بي السنوات وكأني ما مررتُ بها، فلا أزال جاهلًا... فلا استفدت من رحلتي ولا من سجني.!؟.... ما أتفه الإنسان، فعلًا جعله الله أضعف مخلوقاته.. فكيف يبطر الآخرون بالتظاهر والتفاخر بزيادة في حفنة من معلومات...؟ ألا يعرف هذا أنه حبة رمل فوق ساحل محيط في كون يسع السموات والأرض، محيط لمعرفة لا حدود فيه...ومفاتيحها عند الله... وهذا المخلوق التافه حين يفهم ذرّة يصيبه جنون العظمة، وأدركت مرض الإنسان الدائم، و المتجذّر في كينونته بالأصل، وعرفت توًّا أن الإنسان يخلق جاهلًا ويموت جاهلًا مهما أوتي من علم كما يعتقد هو، أو كما ينعته الآخرون...!؟ فهو لا يفقه إلا ومضة من علم لا تساوي في المقدار حرفًا من حروف اسمه في جهة من ملايين الجهات في تلك الدنيا....

 وأدركت حقيقة أخرى غفل عنها ذهني ستين سنة، سجن الإنسان بين جدارين لا يملك اقتحامهما، جدار الولادة وجدار الموت، يولد  ويموت بمشيئة الخالق، مصيره عند الله في الاثنين، فلا يخلق الإنسان حرًّا، بل يخلق سجينًا بينهما، مقيدًا بالموت الذي لا يعرف موعده، والحياة التي يعيشها كسفينة في بحر هائج لا يدرك متى تغرق،  يعيش وهو يقتات نفسه، يتغذّى جسده من مخلوقات الله، ونفسه تقتات هذا الجسد حتى يذوي ويملّ منه سر الله، الروح، فيأمرها الخالق بالخروج لتسكن جسدًا آخر، حين ينتهي مخزونه في الحد المعقول الذي حدّده الله وأسماه(أرذل العمر) لا يقوى على حمل جسده، يسترد الله ما يملك ويسترد التراب ما يملك، ويعاد هذا المخلوق لطينته ونحن نقولها دومًا وأظننا لا نفهم معناها بالفلسفي- إنّا لله وإنّا إليه راجعون-... وتبدأ تلك العودة منذ يوم الولادة وكأننا نولد سعيًا للموت...

 يبدأ كل شيء في أجسادنا جميلًا، ثم يبدأ بالزوال التدريجي، فتذهب نضارته وجماله وقوته ويصبح مقذوفًا من مقذوفات الحياة في مزبلتها، لا من فائدة ولا من قيمة، فكيف يبطر أحدنا إذًا...إلّا إذا كان متخلفًا...؟ يقسّم الله فترة سجن الإنسان إلى مراحل : طفولة و شباب وشيخوخة وبعدها.. من هو هذا المخلوق المنسي والمحكوم سلفًا بسجن أبدي اسمه الحياة.!؟، ترى، هذا الغبي-بل الموغل في الغباء - يبحث عن السعادة..!، أية سعادة أيها السجين التافه...!  أن تضحك ثوان على مزحة، أن تشرب شايًا في مقهى، أم تأكل وجبة طعام في مطعم فاخر، أم تساكن امرأة في مكان منعزل منعك الله منه بمحدّدات دين...!؟ كن عاقلًا، وانهِ سجنك دون مشاكل...

أليست تلك سخافات لو فكرت في نفسك؟...كن حكيمَا أيها الإنسان ولو مرة، وعش سجنك بهدوء، فالسجين الهادئ لا يملي على سجانه شروطًا... فكيف وسجانك خالقك .... لك جائزة في ساعة الانعتاق، قد تكون الجنة مثلًا...ربما، وأنا واثق لا يدخلها أحد منا في حكم الله، ولسبب بسيط، أننا خلقنا فقط في غرائز الله، وتجاوزنا بها حدود الله، أعطانا الله الكثير من النعم وعصيناه، وها نحن نقتل بعضنا بعضًا ونسرق، وباسمه.... أي تحدّ هذا في معصية الله.... تبًّا لنا من مخلوقات وقحة.... تكفر وتبطر ولا تشكر!.... الجنة لمن يفرش الأرض بالعلم والنماء، وليس بالبطر والعصيان ...ولا دخل للدين في زراعة الخير- الشجر لا يصلي والأنعام لا تسجد وهي تعطي الخير لك بمشيئة الله....فمتى تفهم أيها المارق لحدود الكون وخالقه....!!؟؟ أسأل نفسك ماذا أعطيت....!؟ حكمة الخالق تكمن في خلقنا سجناء في الحياة حتى نعتق أنفسنا بأعمالنا التي تحيي الأرض، لنكسبها في حياتنا و الجنة في الممات، نحن لا ندرك حكمة الله، فتفكيرنا مشغول في الدنيا وملاحقة النفعية فيها، أيها الإنسان تريدها دون مقابل.... أن تكوي جبهتك، وترتدي خواتم بأصابعك، و تصلي ليل نهار لتدخل الجنة، وتلك هي مزحة الزمن فيك، وتظل متعلقًأ في الخطأ والطمع فيما لا تملك، اعقل وانهِ محكوميّتك بهدوء.... جزاك الله خيرًا....!!

 

عبد الرزاق عوده الغالبي

بارناول- روسيا- 26/4/2019

 

سلف السلفية

التفاصيل
كتب بواسطة: د. منى زيتون

منى زيتوننظرًا لارتباط العقيدة السلفية بالنسبة الأكبر من الفتن في تاريخ الإسلام القديم والحديث، فما انتشرت عقيدتهم في مكان إلا كثُرت فيه الفتن، وما خبا ذكرهم في موضع إلا واستراح أهله من الفتن؛ فيلزمنا مراجعة مصدر الأصل الأساسي في تلك العقيدة الخاص بصفات الله تعالى، الذي يوحدونه على أساسها؛ لأنه السبب الأول لتكفيرهم باقي فرق المسلمين، ومن ثم فهو أساس من أسس نشأة شجرة التطرف وتناميها؛ فقد تفرد السلفيون بعقيدة من بين هذه الأمة حول صفات الله تعالى، نتيجة طريقتهم الحروفية في الفهم والاستدلال من نصوص الكتاب والسُنة. وسنعرض لتلك المراجعة بالدرجة التي تكفينا لفهم ما يصدر عن تلك الجماعة، فليس الهدف من بحثنا نقد العقيدة السلفية بذاتها، وهناك من كتب القدماء والمحدثين الكثير مما تصدى تفصيليًا لذلك الموضوع.

وأول المراجعة يجب أن تكون للمسمى. للشهيد الدكتور/ محمد سعيد رمضان البوطي كتاب صادر عن دار الفكر بدمشق بعنوان "السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي". يحاول فيه تصحيح التلبيس الذي وقع على عوام الأمة، بإيهامهم أن تلك الفئة المحددة من المسلمين هي المتمسكة بما كان عليه السلف الصالح للأمة في القرون الثلاثة الأولى، وأنهم المتّبِعون لمنهاج السنة النبوية.

هذا التلبيس الحادث مصدره حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ‏روى الإمام البخاري في صحيحه (3650)، عن عمران بن ‏حصين، يقول:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم - قال عمران: فلا أدري أذكر بعد ‏قرنه قرنين أو ثلاثًا - ثم إن بعدكم قومًا يشهدون ولا يُستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويَنذُرون ولا يَوفون، ‏ويظهر فيهم السمَن".‏ وأطرافه بالبخاري [2651-6428-6695]. وعلّق مصطفى البغا شارحًا الحديث "أنهم يحبون التوسع في المآكل والمشارب التي هي أسباب السمن، وقيل غير ذلك".

‏         وروى البخاري، (3651) حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله رضي الله عنه،‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم ‏يمينه، ويمينه شهادته".‏ قال إبراهيم: وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار.‏ وأطرافه بالبخاري [2652 -6429-6658]. وعلّق مصطفى البغا، أن "هذا كناية عن التسرع في الشهادة والحلف والحرص عليها ولو لم يُطلب إليها، وهو عنوان قلة الورع والمبالاة في الدين".

وأخرج الإمام مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، روايات كثيرة مشابهة. ورواه الإمام الترمذي في سننه (2221- 2222-2302-2303-3859).

فبداية المراجعة أن من يُطلقون على أنفسهم مسمى السلفيين، يستغلِّون ذلك المسمى عن طريق ربطه بفكرة الخيرية المُطْلَقة في السلف الصالح، والمتمثل وفقًا للحديث في الصحابة والتابعين ثم من تلاهم من التابعين. ولهذه الفِرقة ادعاءات تطول عن موافقة عقيدتهم وفقههم لعقيدة السلف، علمًا بأنهم لا يكادون يستشهدون بكلمة من المرويات عن الصحابة والتابعين وأئمة السلف، بل يُكثرون النقل من ابن تيمية وغيره من مشائخهم، والتي قد يكون فيها بعض النقول عن السلف، ولا يعودون مباشرة لكتب السلف إلا ما ندر؛ ومن ثم فإنهم في الحقيقة يأخذون برأي مشايخهم الذي غالبًا لا يكون أمينًا في النقل عن السلف، فلا يعرض الخلافات بين الأئمة. والشائع عن مشايخهم حكايتهم الإجماع على ما يلائمهم من آراء، ونقلها لهم على هذا النحو، أو على الأقل تصويب الرأي الذي يوافقهم مهما كان شاذًا، وعوام الفِرقة يُسارعون للأخذ عنهم ظنًا منهم أن هذا ما كان عليه السلف.

وقد عمل هذا الارتباط بين تلك الفئة من المتشددين المتطرفين وبين السلف على تغيير جوهر الإسلام في أذهان العوام من المسلمين وغير المسلمين، فصارت صورة الدين الإسلامي أبعد ما تكون عن كونه رسالة الرحمة التي أرادها الله له، وصار التطرف مرادفًا للتدين لدى كثيرين.

ولن أسرف في ذكر تصنيفات أتباع ذلك المذهب لأعلام الأمة ممن عاشوا في تلك القرون، ومن يعتبرونه ومن لا يعتبرونه من السلف الصالح لسبب بسيط أن هذه تنظيرات لا قيمة لها على أرض الواقع، فحقيقة الأمر أن هؤلاء لا يتبّعون أي من كبار أئمة السلف –على كثرة الاختلافات بينهم في الفروع- ممن عاشوا في القرون الأولى، بما فيهم أئمة المذاهب الأربعة، ولا حتى يتبّعون الإمام أحمد بن حنبل صاحب المذهب الذي يدّعون انتماء فكرهم إليه عقديًا وفقهيًا، فسلفهم الذي يتبعونه في أصولهم العقدية هما المجسمان مقاتل بن سليمان البلخي، ومحمد بن كرام السجستاني‏.

سلفهم الأول، مقاتل بن سليمان

أما مقاتل بن سليمان المتوفي سنة 150هـ، فكان معاصرًا للإمام أبي حنيفة، ويُقال أن أبا حنيفة كتب "الفقه الأكبر" يشرح فيه عقيدة المسلمين لمّا رأى عقيدة مقاتل المجسمة بدأت تنتشر بين أهل العراق. ذكر الذهبي في كتابه "العرش" (ج1، ص125)‏ "نُسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر أنه من المشبّهة، وذكروا أنه هو الذي قال فيه الإمام أبو حنيفة: "أتانا من المشرق رأيان خبيثان، جهم مُعطِّل، ومُقاتل مشبِّه". وقال ابن حبّان عن مقاتل: "كان يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي وافق كتبهم، وكان يُشبِّه الرب بالمخلوقات، وكان يكذب في الحديث""أهـ. فبينما غالى جهم في التنزيه حتى عطّل ونفى كل الصفات عنه تعالى، غالى مقاتل في إثبات كل ما اعتقده صفات للباري حتى شبّه.

يقول عنه علي سامي النشار في "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام" (ج1، ص289): "قد اختلفت الأنظار فيه: فذُكر أنه كان مفسرًا سنيًا، وقيل إنه مفسر زيدي، واعتبره الشافعي أكبر مفسر، وأن الناس عيال في التفسير عليه، ولعنه أبو حنيفة. وأجمعت الكتب على أنه كان مشبهًا ومجسمًا، وأنه أخذ من علم اليهود والنصارى ما يوافقه لتدعيم تفسيره المشبهي والمجسمي للقرآن، وأنه كان ضعيفًا في الحديث، وأنه قبِل الحشو وضمّنه مذهبه"أهـ.

كما ترجم له الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (ج7، ص201-202) "قال ابن المبارك: ما أحسن تفسيره لو كان ثقة! وقال وكيع: كان كذابًا. قال البخاري: مُقاتل لا شيء البتة. وقال الذهبي: أجمعوا على تركه"أهـ. بينما رآه ابن تيمية في "منهاج السنة" (ج1، ص56) يصلح للاعتضاد والمتابعة!

يذكر النشار في "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام" (ج1، ص290-291) "وموجز القول في مقاتل بن سليمان أنه كان مشبهًا ومجسمًا. وقد احتفظ لنا التاريخ بقطع من تفسيره تثبت تمام الإثبات تشبيهه وتجسيمه، ولا شك أن مضر وكَهْمَس وأحمد الهجيمي –مشبهة الحشوية الذين قالوا أن الله جسم لا كالأجسام، وهو مركب من لحم ودم لا كاللحوم والدماء، وله الأعضاء والجوارح- قد سبقوه أو عاصروه في اعتناق التشبيه، ولكن المذهب يُرد إليه ويُنسب إليه في الأكثر. كانت المقاتلية مدرسة تفسير كبرى برعت بلا شك في التفسير، وقد كان التفسير فنًا جديدًا، ومجالًا للأخذ من مختلف الثقافات. ويبدو أن مقاتلًا كان على معرفة دقيقة بكل ما حوله من تراث، فأخذ ما يوافقه، فتأثر بالديصانية والمرقونية والمزدكية، كما تأثر بالإسرائيليات والمسيحيات، وضمّن كل هذا تفسيره. وهنا نتساءل هل كان تجسيمه فلسفيًا استند على رأي فلسفي؟ أو بمعنى أدق هل تأثر مقاتل بالرواقية، وهي أيضًا تقول أن الوجود جسم، وأن الله جسم؟ إننا نعلم أن الرواقية كانت منتشرة في الفلسفيات الثنوية وبخاصة الديصانية، فهل وصلت إلى أعماق تفسير مقاتل خلال الديصانية أو المزدكية؟ من المحتمل أن هذا قد حدث، ومن المحتمل أن الرجل قد وصل إلى التجسيم خلال تفسير قرآني بحت، مستندًا على الثقافة العامة المنتشرة في خراسان إبان ذلك الوقت وهو يفسر العرشية والكرسية، وأن الله استوى على العرش استواءً ماديًا، واستقر استقرارًا محسوسًا"أهـ. وألفت إلى أن ابن تيمية قد عدّ كَهْمَس من السلف الصالحين في مجموع الفتاوى (ج16، ص35)، كما روى عنه الإمام البخاري حديث (4473) بواسطة أحمد بن الحسن، وهو آخر حديث في كتاب المغازي بصحيحه.

وقد انتقلت مقالات مقاتل للحنابلة عن طريق أبي عاصم خشيش بن أصرم، المتوفي سنة 254هـ، بعد وفاة الإمام أحمد بثلاث عشرة سنة. يذكر الكوثري في مقدمة تحقيقه لـ "التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع" للملطي (ص5) "أبو عاصم خشيش بن أصرم النسائي –وهو غير الإمام المحدث النسائي- من شيوخ أبي داود وابنه والعسال. كتب كتاب "الاستقامة". وكان ممن سطع نجمه بعد رفع المحنة في فتنة القول بخلق القرآن عند تقريب المتوكل العباسي النقلة. وهو يُعَدّ عندهم ثقة في الرواية، ولكنه متخبط في مسائل الدراية. فيفوه بما ينبذه البرهان الصحيح غير ساكت عما لا يعنيه"أهـ. وابن تيمية ينقل عن أبي عاصم في "منهاج السنة"، ولأن أبا عاصم كان من شيوخ أبي بكر بن أبي داود الناصبي الكذاب الذي تحنبل أواخر القرن الثالث الهجري، وكان سببًا رئيسيًا في محنة الإمام الطبري مع الحنابلة، التي خصصنا لها مقالًا كاملًا، فقد ساهم هذا في نقل مقالات مقاتل التجسيمية إلى من عُرفوا بالحنابلة.

كما ساهم في انتقال اعتقادات مقاتل للحنابلة، روايات نُعيم بن حمَّاد الخزاعي صاحب كتاب "الفتن" المليء بالعجائب والمناكير على حد وصف الذهبي، والذي تربى على يد نوح بن أبي مريم ربيب مقاتل بن سليمان –ونوح أيضًا تتلمذ على أبي حنيفة-. ذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (ج10، ص597) نقلًا عن "تاريخ بغداد" "أن نُعيمًا كان كاتبًا لأبي عصمة –يعني نوحًا-، وكان شديد الرد على الجهمية وأهل الأهواء، ومنه تعلَّم نُعيم، وأن نعيمًا قال: كنتُ جهميًا، فلذلك عرفت كلامهم، فلمّا طلبت الحديث، عرفت أن أمرهم يرجع إلى التعطيل"أهـ. فكأن الرجل قد انتقل من الحال إلى نقيضه، فمن نفي وتعطيل الصفات الثابتة عن الله تعالى كما هو حال الجهمية، إلى إثبات كل ما يجد أمامه في حق الله، والادعاء أنها صفات دون تنزيه كما هو حال المشبِّهة.

ينقل عنه ابن كثير –وهو سلفي العقيدة- في تفسيره لآية الاستواء عن العرش بسورة الأعراف (ج3، ص426-427) "بل الأمر كما قال الأئمة -منهم نُعَيْم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري-: "من شبّه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر". ثم يزيد ابن كثير: "وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى، ونفى عن الله تعالى النقائص، فقد سلك سبيل الهدى"أهـ. وهذا النفي للتجسيم معتاد ممن يثبتون الأبعاض والجوارح وغيرها بعد أن يُثبتوها! ولا يغني مع فساد عقيدتهم شيئًا. والذهبي يثبت في ترجمة نُعيم بالسير (ص610) عقيدته في إثبات ما يُعرف بالصفات الخبرية التجسيمية، ويثني على ذلك، ولا يُستغرب ذلك من الذهبي كونه حنبلي العقيدة مع ميل للتفويض أحيانًا.

ولكن الذهبي يثبت عنه أنه مُختَلف في توثيقه، وقد اتهمه يحيى بن معين عندما كان يحضر مجلسه في مصر بالكذب على ابن المبارك، وترجمته عند الذهبي محشوة بأقوال كثيرين ممن لم يعدّلوه، وكذا يثبت الذهبي في ترجمته لنُعيم في "ميزان الاعتدال" قول أئمة المحدثين فيه أنه كثير التفرد بروايات، وأهم ما ذكره الذهبي في ذلك (ج4، ص269) "قال الأزدي: كان نُعيم ممن يضع الحديث في تقوية السُنة، وحكايات مزورة في ثلب النعمان كلها كذب"أهـ. فالرجل اُتُهِم صراحة بأنه كاذب، يضع الأحاديث التي يُقوي بها ما يعتقده، إضافة إلى كذبه واختراعه حكايات من كيسه عن الإمام أبي حنيفة النعمان ليس لها أصل. ومنها الحديث غير الصحيح الذي أورده أبو عمر ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (ج2، ص891) (1673)، وذكر أنه لم يصححه أحد، وهو "تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها على أمتي فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم، يُحرِّمون ما أحل الله، ويُحلُّون ما حرم الله"أهـ.

وكان نُعيم قد حُمل من مصر إلى بغداد؛ ليُمتحن في فتنة خلق القرآن، ومات مسجونًا. ورغم أنه ومن المؤكد أنه ليس بمنزلة الإمام أحمد بن حنبل، إلا أن موقفه في المحنة، ورفضه الإجابة إلى خلق القرآن قد أعلوا منزلة ما نقله من اعتقادات مقاتل التجسيمية لدى حنابلة بغداد، حتى صارت اعتقاداتهم، والتي نسبوها زورًا للإمام أحمد.

ويروي الذهبي عن ابن تيمية في كتابه "العرش" (ج1، ص126)‏ مدافعًا عن بعض ما ذكروا من مقالات مقاتل الشاذة؛ ولإعجابه حتمًا بباقي المقالات التجسيمية، "قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما مقاتل فالله أعلم بحقيقة حاله. والأشعري ينقل هذه المقالات من كتب المعتزلة، وفيهم انحراف على مقاتل بن سليمان، فلعلهم زادوا في النقل عنه، أو نقلوا عنه، أو نقلوا عن غير ثقة، وإلا فما أظنه يصل إلى هذا الحد. وقد قال الشافعي: من أراد التفسير فهو عيال على مقاتل، ومن أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة. ومقاتل بن سليمان وإن لم يكن ممن يُحتج به في الحديث -بخلاف مقاتل بن حيان فإنه ثقة- لكن لا ريب في علمه في التفسير وغيره وإطلاعه، كما أن أبا حنيفة وإن كان الناس خالفوه في أشياء وأنكروها عليه، فلا يستريب أحد في فقهه وفهمه وعلمه، وقد نقلوا عنه أشياء يقصدون بها الشناعة عليه، وهي كذب عليه قطعًا، وما يبعد أن  يكون النقل عن مقاتل من هذا الباب"أهـ.

سلفهم الثاني، محمد بن كرام السجستاني

أما الكرامية، فهم أتباع محمد بن كرام بن عراق بن حزبة السجستاني، المتوفي سنة 255هـ. ذكر الشهرستاني في "الملل والنحل" (ج1، ص99) "كان ممن يثبت الصفات، إلا أنه ينتهي فيها إلى التجسيم والتشبيه. نصّ على أن معبوده على العرش استقرارًا، وعلى أنه بجهة فوق ذاتًا، وأطلق عليه اسم الجوهر، فقال في كتابه المسمى "عذاب القبر" أنه أحدي الذات أحدي الجوهر، وأنه مماس للعرش من الصفحة العليا، وجوَّز الانتقال والتحول والنزول، ومنهم من قال أنه على بعض أجزاء العرش، وقال بعضهم امتلأ العرش به، وصار المتأخرون منهم إلى أنه تعالى بجهة فوق ومحاذ للعرش، ثم اختلفوا ......"أهـ.

فاعتقاد الكرامية في صفات الله تعالى يشابه اعتقاد الحنابلة القدماء، غير أنهم خالفوهم في مسألتين، ذكرهما الذهبي في كتابه "العرش" (ج1، ص123)، يقول: "المسألة الأولى: أنهم يبالغون في إثبات الصفات –يعني الجوارح التي أثبتها السلفية في حق الله تعالى-، ويخوضون في شأن الكيفية، ودخل عليهم ذلك من جهة إطلاقهم لألفاظ مبتدعة كلفظ (الجسم) و (المماسة). قالوا عنه تعالى: جسم لكن لا كالأجسام. والمسألة الثانية: أنهم يثبتون الصفات بما فيها أن الله تعالى تقوم به الأمور التي تتعلق بمشيئته وقدرته، ولكن ذلك عندهم حادث بعد أن لم يكن"أهـ.

يوضح الشهرستاني في "الملل والنحل" (ج1، ص100) في شأن المسألة الأولى "أطلق أكثرهم لفظ الجسم عليه تعالى، والمقاربون منهم قالوا: يعني بكونه جسمًا أنه قائم بذاته، وهذا هو حد الجسم عندهم"أهـ. وأما المسألة الثانية، فقد ذهب الكرامية –متشبهين بالمجوس- إلى تجويز قيام الحوادث بذات الله تعالى. قال الشهرستاني (ج1، ص101) "ومن مذهبهم جميعًا قيام كثير من الحوادث بذات الباري تعالى، ومن أصلهم أن ما يحدث في ذاته إنما يحدث بقدرته"أهـ. وقد ردّ عليهم الإمام الجويني والإمام الفخر الرازي، وذكر المؤرخون أن مناظرات الرازي معهم وإثباته استحالة قيام الحوادث بذاته تعالى هي سبب سمّ الكرامية له.

وقد أثبت ابن تيمية في كتابه "منهاج السنة" تقارب الكرامية في العقيدة من السلفية المنتسبة زورًا إلى أحمد بن حنبل، ودافع عنهم، بل وكتب كتابًا أسماه "نقض أساس التقديس"، يرد فيه على الإمام الفخر الرازي! كما ثبت عن ابن تيمية عدم إنكار لفظ الجسمية في حقه تعالى، وأنه لا يمتنع عن وصف الله بأنه يمس ما شاء من خلقه. يقول في "منهاج السُنة" (ج2، ص134): ‏"‏وقد يُراد بالجسم ما يُشار إليه، أو ما يُرى، أو ما تقوم به الصفات؛ والله تعالى يُرى في الآخرة، وتقوم به الصفات، ويُشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم قلوبهم ووجوههم وأعينهم، فإن أراد شخص بقوله: "ليس بجسم" هذا المعنى. قيل له: "هذا المعنى الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول، وأنت لم تُقم دليلًا على نفيه"أهـ‏. وأساس الكذبة التي ادّعاها هو ربط مصطلح الجسم لغويًا بما يُخالف المعروف عنه في لسان العرب، وهذا الربط من ابتكار ابن تيمية. وكان اعتراض ابن تيمية الوحيد على استخدام مصطلح "الجسم" في حق الله تعالى (نفيًا وإثباتًا)، ما ادّعاه من أن ذلك بدعة، ورفض تنزيه الله بنفي أن يكون جسمًا!

ذكر الكوثري في حاشية تحقيقه لـ "التبصير" لأبي المظفر الإسفراييني (ص134) "ابن تيمية يقول في رده على "أساس التقديس" للرازي: "فمن المعلوم أن الكتاب والسُنة والإجماع لم تنطق بأن الأجسام كلها محدثة، وأن الله ليس بجسم، ولا قال ذلك إمام من أئمة المسلمين، فليس في تركي لهذا القول خروج عن الفطرة ولا عن الشريعة"أهـ. ويزيد الكوثري (ص135) "وقال المنبجي صاحب ابن القيم في إثبات المماسة: "قال ابن تيمية: والمعروف عند أئمة أهل السُنة وعلماء أهل الحديث أنهم لا يمتنعون عن وصف الله بأنه يمس ما شاء من خلقه، بل يروون في ذلك الآثار، ويردون على من نفاه". ذكره في الأجوبة المصرية"أهـ. وكما نرى فابن تيمية لا يكتفي بالاتفاق مع معتقد الكرامية، بل ويكذب على أئمة المسلمين.

كذا ثبت عن ابن تيمية تجويزه قيام الحوادث بذات الله. يقول في "منهاج السُنة" (ج2، ص380): "فإن قلتم لنا: قد قلتم بقيام الحوادث بالرب. قالوا لكم: نعم، وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل"أهـ. وهو في هذا الموضع يقرر عقيدته لا عقيدة غيره. ويضيف (ص381) "فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به. قلنا: ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسُنة تتضمن ذلك مع صريح العقل، وهو قول لازم لجميع الطوائف، ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته. ولفظ الحوادث مجمل فقد يُراد به الأمراض والنقائص، والله تعالى منزَّه عن ذلك، كما نزَّه نفسه عن السِنة والنوم واللُغوب، وعن أن يؤوده حفظ السماوات والأرض، وغير ذلك مما هو منزّه عنه بالنص والإجماع. ثم إن كثيرًا من نُفاة الصفات -المعتزلة وغيرهم- يجعلون مثل هذا حجة في نفي قيام الصفات أو قيام الحوادث به مطلقًا، وهو غلط منهم، فإنّ نفي الخاص لا يستلزم نفي العام، ولا يجب إذا نفيت عنه النقائص والعيوب أن ينتفي عنه ما هو من صفات الكمال ونعوت الجلال"أهـ. ومرة أخرى يكذب على أئمة المسلمين بادّعاء أن لا أحد منهم أنكر قيام الحوادث به سبحانه! بينما لم يثبت ذلك إلا سلفه ابن كرام.

والسلفية المعاصرون كإمامهم ابن تيمية، يعتقدون معتقديه الشاذين؛ فهم أقرب للكرامية منهم إلى عقيدة حنابلة بغداد.

ترجم لابن كرام الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (ج11، ص523) قال: ‏"خُذل حتى التقط من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أوهاها، ثم جالس الجُوَيْباري وابن تميم، ولعلهما قد وضعا مئة ألف حديث". كما ترجم له في "ميزان الاعتدال" (ج4، ص21) قال: "وقد سُجِن بنيسابور لأجل بدعته ثمانية أعوام، ثم أُخرج وسار إلى بيت المقدس، ومات بالشام في سنة خمس وخمسين ومائتين، وعكف أصحابه على قبره مدة"أهـ. ومن هنا يتبين لنا كيف وصلت اعتقاداته لبلاد الشام، فالتقطها المقدسيون والدمشقيون، ومنهم ابن تيمية وتلاميذه، وعبد الغني المقدسي، وغيرهم.

***

كان مقاتل بن سليمان بلخيًا؛ من مدينة بلخ، وتقع حاليًا في حدود أفغانستان، ورغم أصوله الأزدية، والأزد كما هو معروف كانوا من أفصح الناس لسانًا، وأعذبهم بيانًا، إلا أن نشأته في بلاد لا يتكلم أهلها بالعربية لن تتيح له اكتساب تلك الفصاحة وذاك البيان. وكذا فإن ابن كرام نشأ بساجستان، وهي منطقة تاريخية تقع في شرق إيران، وقسم منها يقع جنوب أفغانستان. فالفكر التجسيمي الذي أخذ به من سمّوا أنفسهم بالحنابلة أولًا، ثم سمّاهم ابن تيمية بالسلفية، ونسبهم إلى السلف، إنما ورد على الإسلام من تفسير اثنين من مفسريّ القرآن من وراء بلاد فارس، وربما كان لفهمهما الحرفي للغة العربية –كونهما لم ينشآ على العربية- الدور الأساسي في تفسيرهما لآيات القرآن الذي هو أشبه بالترجمة الحرفية، فالمراد بوجه الله عندهما هو وجه، وكأني بهما لو كانا ينطقان بالإنجليزية لترجماها "the face of Allah". إضافة إلى تأثرهما بالثقافة العامة في بلاد فارس المشبعة بالفلسفات الثنوية والإسرائيليات. وفرق كبير بين تفسير مقاتل وابن كرام، وبين تفسير الطبري والزمخشري –وهو معتزلي- والفخر الرازي للقرآن، وهم أيضًا فُرس، وكذا تفسير القرطبي وهو أندلسي، ولكن الأخيرين أتقنوا اللغة، وتسلّحوا بالبيان، وعرضوا لتفسيرات اللغويين، ونقلوا الشعر لتقرير المعنى، مع العلم بأقوال الصحابة والتابعين، وشتان بين الفريقين.

فهذان هما سلفهما القديم عقديًا، أما سياسيًا فهم أمويو الهوى والمشرب، ونصبهم وكراهيتهم لآل البيت لا تخفى على أحد، حتى وصل الحال بابن تيمية أن يفتي بحرمة شد الرحال لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحكي كذبًا إجماع أئمة المسلمين على هذا، وكان سبب سجنه الأخير الذي مات فيه. ولعل من أوجه التشابه بينهم وبين الأمويين لجوئهم إلى سمْ مخالفيهم، والتشنيع بالأكاذيب عليهم، وسنرى من ذلك الكثير عند مراجعة فتنهم عبر التاريخ.

والسلفية أيضًا إضافة إلى تجسيم وتشبيه الله سبحانه بخلقه بنسبة الجوارح إليه، هم أتباع وتلاميذ مدرسة ابن تيمية وابن عبد الوهاب التي كانت لها مخالفات لجموع المسلمين وأهمها، تقسيم التوحيد وما يقولونه في الألوهية والربوبية، وعدم توقير النبي صلى الله عليه وسلم، وتكفير وتضليل المسلمين ممن لا يتبعون عقيدتهم في الله سبحانه وتعالى، ومن يريد الوقوف على حقيقة ما يعتقدون فعليه بهذين الشيخين فهما إماما المذهب الحقيقيين.

جذور الفكر التجسيمي في الإسلام

ينبغي مع ذلك أن نلفت أن مقاتلًا وابن كرام ليسا أول من قالا بالتجسيم والتشبيه. يذكر النشار في "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام" (ج2، ص173) "أجمع مؤرخو الفكر الإسلامي القدامى، شيعة، وسُنة، ومعتزلة، على أن هشام بن الحكم هو أول من قال إن "الله جسم"، وأن مقالة التجسيم في الإسلام إنما تُنسب إليه، فهو أول من أدخلها أو ابتدعها، كما نُسب إليه التشبيه أيضًا. وثمة خلاف بين التجسيم والتشبيه. ونحن نعلم أن مقاتل بن سُليمان نادى أيضًا بالتجسيم، كما نادى بالتشبيه، غير أن مقاتلًا وصل إلى آرائه خلال تفسير القرآن –أي خلال طريق نقلي-، فقد حشا تفسيره بإسرائيليات ومسيحيات وثنويات، انتهى منها إلى تجسيم وتشبيه غليظين. وهذا ما لم يفعله، فيما يبدو، هشام بن الحكم، بل يكاد يكون طريقه في إثبات الجسمية لله طريقًا عقليًا بحتًا"أهـ.

ولهذا الفارق الذي ذكره النشار، إضافة إلى أن هشام كان رأسًا من رءوس الشيعة الإمامية من المعتقدين بعصمة الأئمة وغيرها من اعتقادات الشيعة، أرى أنه لا مجمل اعتقاداته، ولا طريقته الكلامية الفلسفية في إثبات التجسيم ترشحانه ليُعدّ سلفًا للسلفية.

مصطلحات تشنيعية متبادلة!

يدّعي السلفية أنهم يثبتون ما أثبت الله تعالى لنفسه من صفات، علمًا بأنه تعالى لم يثبت ما ادعوا، ويبدو أنهم لا يدركون معنى صفة في اللغة؛ فهل إذا قال الله تعالى "عين الله" هل عينٌ هنا هي صفة؟، وهل كل مضاف صفة؟!، ومن هنا فهم يُطلقون على كل من لا يثبت لله تعالى ما يعتقدون أنها صفات، مصطلح "المُعطِّلة" أو "الجهمية"، كتعريض بهم. والتعطيل هو عدم إثبات الصفات التي وصف الله تعالى بها نفسه، ورائده الجهم بن صفوان الترمذي، من ترمذ والتي تقع حاليًا في أوزباكستان على الحدود الأفغانية. وُلد ونشأ في الكوفة. وكان الجهم قد تفرّد باعتقاد مُنكر؛ إذ يقول بنفي صفات الله الأزلية، كالقدرة والإرادة والعلم، لاعتقاده أن الخالق لا تُدرِك صفته العقول من جهة ذاته وإنما يُدرك من جهة آثاره.

والعجيب أن جهم فيما نقله عنه الإمام الأشعري في "مقالات الإسلاميين" (ج2، ص167) قال: "إن الجنة والنار تفنيان وتبيدان، ويفنى من فيهما، حتى لا يبقى إلا الله وحده، كما كان وحده لا شيء معه"أهـ. وأثبت له الشهرستاني نفس هذا الاعتقاد الشاذ، والذي أخذه عنه ابن تيمية، وكان مما أُنكِر عليه. وكان جهم أيضًا أول من قال بخلق القرآن، وهي من عقائد ابن تيمية التي استتيب بسببها في مصر عام 707هـ. فجهم الذي لا يفتر ابن تيمية ومن تلاه من الوهابية عن التعريض به، هو سلف لابن تيمية في بعض عقائده، وإن لم تأخذ عنه الوهابية هذه العقائد.

ولأن السلفية اختلفوا مع الأشاعرة في صفات الله تعالى وإثبات الجوارح إليه، وكذا في إثباتهم جلوس الله ‏على العرش والنزول وغيرها، فمن هنا أسماهم الأشاعرة بالمجسِّمة والمشبِّهة، كعادة أصحاب العقائد الإسلامية فكل فرقة ‏تناكف الفرق الأخرى بإطلاق أسماء مزرية توضح رأيهم في اعتقاداتهم، والتشبيه والتجسيم يعنيان أن يُشبّه الله سبحانه وتعالى بأحد من خلقه، وتُنسب له الجوارح الدالة على الجسمية؛ ذلك أن تُقاس صفات الله على صفات الخلق.

كما يوجد اسم آخر يُطلقه ‏الأشاعرة والماتريدية –بل والمعتزلة- على السلفية وهو: الحشويون. ورُوي في أصل تلك التسمية أن الحشويين هم مجموعة من المسلمين من المتأثرين بعقائد أهل الكتاب، وقد كان هناك عرب في نجد وشمال جزيرة العرب على النصرانية قبل الإسلام، كما تأثر البعض بروايات الأحبار والرهبان الذين أسلموا، وكان جماعة منهم قد قدموا إلى حلقة الحسن البصري، فلمّا رأى منهم خوضهم في أقوال وعقائد أهل الكتاب أجلسهم في حشا الحلقة المتطرف –أي في ناحية بعيدة بطرفها-، كي لا يُفتتن بهم من بالمجلس، فشاع المصطلح، وأصبح يدل على كل من في اعتقاده شيء من عقائد أهل الكتاب من التجسيم والتشبيه. قال الإمام الكوثري في مقدمة تحقيقه لـ "تبيين كذب المفتري" لابن عساكر (ص20): "كان الحسن البصري من جلة التابعين، وممن استمر سنين ينشر العلم في البصرة، ويلازم مجلسه نبلاء أهل العلم، وقد حضر مجلسه يومًا أناس من رعاع الرواة، ولمّا تكلموا بالسقط عنده، قال: رُدّوا هؤلاء إلى حشا الحلقة، أي جانبها، فسُموا الحشوية، ومنهم أصناف المجسمة والمشبهة"أهـ. ومن أمثلة ذلك أن اعتقاد السلفية التجسيمي لله بأنه جالس على العرش –وحاشاه- إنما هو من عقائد أهل الكتاب.

عقيدتهم المختلطة بعقيدة أهل الكتاب

وقد دخلت عقيدة أهل الكتاب على عقائد بعض المسلمين من خلال سماعهم من الأحبار الذين أسلموا. يقول الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (ج3، ص489) في ترجمته لكعب الأحبار: "إنه كان يهوديًا فأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر رضي الله عنه، فجالس أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فكان يُحدثهم عن الكتب الإسرائيلية، ويحفظ عجائب، ويأخذ السنن عن الصحابة. وكان حسن الإسلام، متين الديانة، من نبلاء العلماء"أهـ. وقد نقل الذهبي –وهو حنبلي العقيدة- في كتاب "العلو" الكثير من العقائد عن كعب الأحبار وعبد الله بن سلام الصحابي الجليل الحبر الذي أسلم على عهد النبي.

لكن لم يكن جميع من أظهر الإسلام من أصحاب الديانات القديمة حريصًا على تعلم الإسلام بقدر ما أثّروا سلبًا في عقيدة المسلمين؛ فعلّموهم عقيدتهم. ذكر الكوثري في مقدمة تحقيقه لـ "تبيين كذب المفتري" لابن عساكر (ص19) "وكان عدة من أحبار اليهود ورهبان النصارى وموابذة المجوس أظهروا الإسلام في عهد الراشدين، ثم أخذوا بعدهم في بث ما عندهم من الأساطير بين من تروج عليهم ممن لم يتهذب بالعلم من أعراب الرواة وبسطاء مواليهم، فتلقفوها منهم ورووها لآخرين بسلامة باطن معتقدين ما في أخبارهم في جانب الله من التجسيم والتشبيه، ومستأنسين بما كانوا عليه من الاعتقاد في جاهليتهم، وقد يرفعونها افتراء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أو خطأ، فأخذ التشبيه يتسرب إلى معتقد الطوائف، ويشيع شيوع الفاحشة"أهـ.

يقول الإمام تقي الدين الحصني في "دفع شبه من شبّه وتمرد" (ص15): "والحاصل من كلام ابن حامد والقاضي –يعني أبا يعلى- وابن الزاغوني –وهم من أشهر الحنابلة الأوائل- من التشبيه والصفات التي لا تليق بجناب الحق سبحانه وتعالى هي نزعة سامرية في التجسيم، ونزعة يهودية في التشبيه، وكذا نزعة نصرانية؛ فإنه لمّا قيل عن عيسى عليه السلام أنه روح الله سبحانه وتعالى، اعتقدت النصارى أن لله صفة هي روح ولجت في مريم عليها السلام، وهؤلاء وقع لهم الغلط من سوء فهمهم، وما ذاك إلا أنهم سمّوا الأخبار أخبار صفات، وإنما هي إضافات وليس كل مضاف صفة"أهـ.

مراحل دخول التجسيم في عقيدة المسلمين

يلخص الشهرستاني في "المِلل والنِحل" (ج1، ص79-80) تطور ومراحل دخول التجسيم في عقيدة المسلمين. يقول: "اعلم أن جماعة كثيرة من السلف كانوا يثُبتون لله تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام، والجلال والإكرام والجود والإنعام والعزة والعظمة، ولا يفرّقون بين صفات الذات وصفات الفعل، بل يسوقون الكلام سوقًا واحدًا، وكذلك يثبتون صفات جبرية –لعله يقصد خبرية-، مثل اليدين والرجلين والوجه، ولا يؤولون ذلك، إلا أنهم يقولون بتسميتها صفات جبرية، ولمّا كانت المعتزلة ينفون الصفات، والسلف يثبتون، سُمي السلف صفاتية، والمعتزلة مُعطِّلة، فبلغ بعض السلف في إثبات الصفات إلى حد التشبيه بصفات المحدثات، واقتصر بعضهم على صفات دلت الأفعال عليها وما ورد به الخبر، فافترقوا فيه فرقتين، منهم من أوّلها على وجه يحتمل اللفظ ذلك، ومنهم من توقف في التأويل، وقال: عرفنا بمقتضى العقل أن الله تعالى ‏﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏‏﴾‏‏ ‏[الشورى:11]، فلا يشبه شيئًا من المخلوقات، ولا يشبهه شيء منها، وقطعنا بذلك إلا أنّا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه مثل قوله تعالى: ‏﴿الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى‏‏﴾‏‏ [طه:5]، ومثل قوله: ‏﴿خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏‏﴾ [ص:75]، ومثل قوله: ‏﴿وَجَاءَ رَبُّكَ‏‏﴾ [الفجر:22]، إلى غير ذلك، ولسنا مُكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها، بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنه لا شريك له وليس كمثله شيء، وذلك قد أثبتناه يقينًا، ثم إن جماعة من المتأخرين –يعني المجسمة والمشبهة- زادوا على ما قاله السلف، فقالوا: لا بد من إجرائها على ظاهرها، والقول بتفسيرها كما وردت، من غير تعرض للتأويل ولا توقف في الظاهر، فوقعا في التشبيه الصِرف، وذلك على خلاف ما اعتقده السلف، ولقد كان التشبيه صرفًا خالصًا في اليهود، لا في كلهم، بل في القرائين منهم؛ إذ أوجدوا في التوراة ألفاظًا تدل على ذلك، ثم الشيعة في هذه الشريعة وقعوا في غلو وتقصير، أما الغلو فتشبيه بعض أئمتهم بالإله، تعالى الله وتقدس، وأما التقصير فتشبيه الإله بواحد من الخلق، ولما ظهرت المعتزلة والمتكلمون من السلف رجعت بعض الروافض عن الغلو والتقصير، ووقعت في الاعتزال، وتخطّت جماعة من السلف إلى التفسير الظاهر، فوقعت في التشبيه"أهـ.

والشهرستاني هنا يؤكد أن عقيدة الشيعة الأوائل كانت تجسيمية قبل أن تتحول للاعتزال، وأن عقيدة أهل السُنة والحديث كانت التأويل أو التفويض، ثم وقعت جماعة منهم في التشبيه والتجسيم بسبب التفسير بظاهر النصوص.

وقد أُطلق اسم الحنابلة، ثم اسم السلفية، على هؤلاء ممن خرجوا على عقيدة ‏الإمام ابن حنبل، وادّعوا أنهم على العقيدة والمذهب الحنبلي، وظهروا دونًا عن أتباع باقي الأئمة ‏بدءًا من القرن الرابع الهجري. فإن كان أهل العصر الأول والعصر الثاني والعصر الثالث هي القرون التي ‏أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فهولاء هم من ظهروا بعدهم، فأحاديث القرون الثلاث ‏الأولى أراها عليهم لا لهم.

 

د. منى زيتون

 

جمال حمدان.. فيلسوف الجيوبوليتيكا

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمود محمد علي

محمود محمد علييعد الدكتور جمال حمدان أحد أعلام الجغرافيا المصريين الأفذاذ، والذى حلت ذكرى رحيله السادسة والعشرين قبل أيام، فقد تفرد بلا منافس في علوم الجغرافيا وفلسفات الشعوب، ولطالما ظل اسمه مدونًا في كل المراجع العالمية بلا استثناء، بل ترجمت كتبه العظيمة لمختلف اللغات، واعتبره البعض حالة متميزة جادت بإبداعاتها بكل تفانٍ وإخلاص، ولم لا، فقد كان راهب الجغرافيا والوطن والعروبة بامتياز، جمع بين العلم والفن والفلسفة، كما عُد أحد أعلام الجغرافيا المصريين، ولكنه كما قيل، لم يكن مجرَّد أستاذٍ للجغرافيا في جامعة القاهرة، بل كان مفكِّرًا وعالِمًا، أفنى عمره كلَّه باحثًا عن ينابيع العبقرية في الشخصية المصرية، محلِّلاً للزمان والمكان والتاريخ الذي أدى إلى حفاظ تلك الشخصية على مقوماتها.

فمثلا نجد أنه شكل بمفرده مدرسة راقية في التفكير الاستراتيجي المنظم، مزج فيها بطريقة غير مسبوقة ما بين علم الجغرافيا الذي لا يتعدى مفهومه لدى البعض نطاق الموقع والتضاريس، وعلوم التاريخ والاقتصاد والسياسة، ليخرج لنا مكون جديد أسماه “جغرافيا الحياة”. وأوضح “حمدان” في مقدمة كتابه الموسوعي “شخصية مصر” المقصود بتلك الجغرافيا مشيرًا إلى أنها: “علم بمادتها، وفن بمعالجتها، وفلسفة بنظراتها.. وهذه الرؤية ثلاثية الأبعاد في التعاطي مع الظاهرة الجغرافية تنقل عالم الجغرافيا من مرحلة المعرفة إلى مرحلة التفكير، ومن جغرافية الحقائق المرصوصة إلى جغرافية الأفكار الرفيعة.

ولم تكن الجغرافيا هم “جمال حمدان” الوحيد، لكنه أراد أن يجعل منها مركزًا لكل العلوم، فكان لكل وادٍ عنده نظرية، ولكل بحر دلالة وأهمية، ليصيغ من خلال ذلك نظرية استراتيجية كاملة في عبقرية المكان، ويحلل من خلال تلك النظرية التاريخ والحاضر والمستقبل.

وُلد جمال حمدان في العام 4 فبراير 1928م ، وحصل على الشهادة الابتدائية عام 1939، وقد اهتم والده بتحفيظه القرآن الكريم، وكذلك تجويده وتلاوته؛ مما كان له أثر بالغ على شخصيته، وعلى امتلاكه نواصي اللغة العربية، وقد ظهر ذلك جلياً في كتاباته التي تميزت بأسلوب أدبي مبدع.

وبعد المرحلة الابتدائية التحق بالمدرسة “التوفيقية الثانوية” وحصل على شهادة الثقافة عام 1943، ثم حصل على التوجيهية الثانوية عام 1944، وكان ترتيبه السادس على القطر المصري، ثم التحق بكلية الآداب قسم الجغرافيا.

تخرج من كليته في عام 1948، وتم تعيينه معيداً بها، ثم أوفدته الجامعة في بعثة إلى بريطانيا سنة 1949، حصل خلالها على الدكتوراه في فلسفة الجغرافيا من “جامعة ريدنج” عام 1953، وكان موضوع رسالته: “سكان وسط الدلتا قديما وحديثاً”.

كان الدكتور جمال حمدان يرى أن مصر تحوَّلت من أول أمّة في التاريخ إلى أول دولة، ثم أول إمبراطورية، وتوصل إلى تلك الحقائق من خلال دراسات جادة وأبحاث متعمقة، درس في كلية الآداب- قسم الجغرافيا، وتخرَّج منها في العام 1948 ليعُيِّن معيدًا بها، ثم يسافر إلى بريطانيا في بعثةٍ لدراسة الدكتوراه في العام 1953، وكانت أطروحته بعنوان “سكان الدلتا قديمًا وحديثًا”.

ولا شك في أن كتاباه “دراسات عن العالم العربي” و”جغرافيا المدن”، كانا أول ما سلّط الضوء على عمله المتميز، ليحصل على جائزة الدولة التشجيعية وعمره حينها لم يتجاوز31 سنة.

والناظر بإمعان إلى كتابات حمدان ومنهجه ونظمه الجغرافي؛ يجد أنه كان قد حلَّق بعلم الجغرافيا إلى آفاق بعيدة، لم يستشعر بها أحد من أقرانه الجغرافيين قبله، فحمدان هو روح الجغرافيا الجديدة المتجددة دائمًا وأبدًا، مع أن كتاباته تميل إلى النسق العلمي المتسق بالأدب.

ترك جمال حمدان إرثاً عظيماً نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر: (دراسات في العالم العربي، القاهرة، 1958) و(أنماط من البيئات، القاهرة، 1958) و(دراسة في جغرافيا المدن، القاهرة، 1958) و(المدينة العربية، القاهرة، 1964) و(بترول العرب، القاهرة، 1964) و(الاستعمار والتحرير في العالم العربي، القاهرة، 1964) و(اليهود أنثروبولوجيا، كتاب الهلال، 1967) و(شخصية مصر، كتاب الهلال، 1967) و(استراتيجية الاستعمار والتحرير، القاهرة، 1968) و (مقدمة كتاب (القاهرة) لديزموند ستيوارت، ترجمة يحيى حقي، 1969) و(العالم الإسلامي المعاصر، القاهرة 1971) و(بين أوروبا وآسيا، دراسة في النظائر الجغرافية، القاهرة، 1972) و(الجمهورية العربية الليبية، دراسة في الجغرافيا السياسية، القاهرة، 1973) و(6 أكتوبر في الاستراتيجية العالمية، القاهرة، 1974) و(قناة السويس، القاهرة، 1975) و(إفريقيا الجديدة، القاهرة، 1975) و(موسوعة شخصية مصر ـ دراسة في عبقرية المكان من 4 أجزاء، القاهرة، 1975 – 1984).

ولم يكتف جمال حمدان بذلك بل كتب عشرات الصفحات من خواطره، أتوقف أمام بعض منها، متأملا ومتعلما، حيث يقول، العرب بغير مصر "كهاملت" بغير الأمير، سيناء ليست مجرد صندوق من الرمال كما يتوهم البعض، وإنما صندوق من الذهب الأسود. مصر كانت دائما شعبا محاربا، ولكن دون أن تكون دولة محترفة حرب، لأنها محارب مدافع أساسا لا محارب معتد.

وعن إسرائيل يقول : إسرائيل ليست عنكبوتا، ولكنها بناء ملئ بالثقوب، يقوم علي أرض أكثر امتلاء بالحفر، والعلل الأصيلة في مجتمعها هي نقاط قوة لنا في صراعنا ضدها، ونقاط ضعف محققة لها، غير أن إسرائيل، لن تهزم بالنقاط كما يقولون في عالم الرياضة، وإنما تهزم بالضربة القاضية. علي المسلم الذي يكتب عن العالم الإسلامي، أن يضع نفسه في مكان غير المسلم، خاصة الأوروبي المسيحي، ليس فقط ليكون موضوعيا، وإنما، ليستوعب وجهة نظر الآخر. نحن والأقباط شركاء، وإنهم أقرب المسيحيين في العالم، إلي الإسلام بمعني أو بآخر. .

ولم يكتف بذلك بل وينسف بكل ثقة ويقين ادعاءات إسرائيل بأحقيته المزعومة  في أراضي ومقدسات فلسطين، وكذا يستشرف مبكرًا باقتدار مآلات واحتمالات الصدام والتصدع المبكر بين القوى العالمية المهيمنة على إدارة المشهد الدولي حينها ولكن قبل حدوثها بسنوات.

ومن الرؤى المستقبلية التي طرحها وتبدو في طريقها إلى التحقيق تلك النبوءة الخاصة بانهيار الولايات المتحدة، حيث كتب “حمدان” في بداية التسعينيات يقول: “‏أصبح من الواضح تمامًا أن العالم كله وأمريكا يتـبادلان الحقد والكراهيـة علنًا، والعالم الذي لا يخفي كـرهه لها ينتظر بفارغ الصبر لحظة الشماتة العظمى فيها حين تسقط وتتدحرج، وعندئذ ستتصرف أمريكـا ضد العالم كالحيوان الكاسر الجريح”.

كذلك كان أول من أشار إلى مدى تأثير البترول ليس فقط على المجال الاقتصادي، ولكن على المجال السياسي والاستراتيجي أيضًا، وذلك في كتابه “بترول العرب”، وبالفعل ثبت كلامه، فكان البترول وسيلة ضغط فعالة استفاد منها القادة العرب خلال حرب أكتوبر 1973.

كما تنبأ بانهيار الاتحاد السوفيتي في كتابه “استراتيجية الاستعمار والتحرير” عام 1968، وبالفعل انهار الاتحاد السوفيتي عام 1991، كما قام في كتابه الشهير “اليهود أنثروبولوجيًا” بإثبات أن يهود إسرائيل ليسوا أحفادًا لليهود الذين خرجوا من فلسطين قبل الميلاد، وإنما ينتمون إلى إمبراطورية “الخزر التترية” التي قامت بين بحر قزوين والبحر الأسود، واعتنقت اليهودية في القرن الثامن الميلادي، هذا الأمر الذي أكده بعد ذلك “آرثر بونيسلر” مؤلف كتاب “القبيلة الثالثة عشر” الصادر عام 1976.

وذكر الأستاذ إبراهيم النجار (في مقاله الذي نشره بجريدة الأهرام "جمال حمدان.. درس في عشق مصر) أن جمال حمدان المؤرخ المصري، في (17 أبريل 1993م)  قد اغتيل ، عقب احتراق شقته في القاهرة، ووجد وقد احترق نصف جسمه، إثر تسرب غاز حسب الرواية الرسمية آنذاك، إلا أن شقيقه قال، إنه رأى أثار ضربة بأداة حادة في رأس جثة جمال، فيما لم تتجاوز الحروق منطقة الصدر.

كما ذكر شهود عيان، أن ثلاثة كتب انتهى حمدان من تأليفها اختفت من البيت، أهمها "اليهود والصهيونية وبنو إسرائيل"، كما اختفى أجنبيان أقاما شهرين ونصف في شقة تقع فوق شقة حمدان. فهل قتل حرقا أم بضربة على الرأس؟!

ونحن في رحاب الذكري السادسة والعشرين لرحيله، مازال السؤال يتردد، ومازالت هناك علامات استفهام كبيرة لا تنتهي، لا زالت قائمة حتى اليوم، ولم تجد من يفك ألغازها ويجيب علي طلاسمها، حول رحيل واحد من المع وأنبل الظواهر المعرفية في تاريخنا المعاصر، وسط إهمال يعكس جهلا مطلقا بقيمته العلمية والأدبية، ووسط ضياع للإجابة عن سؤال يتعلق بكراسات موسوعته العملاقة، "جغرافيا العالم الإسلامي". وكراسات كتابة المهم "اليهودية والصهيونية"، وهو السؤال الذي لم يجب عنة أحد حتى الآن، ولم يقل لنا أحد أين توجد كراسات الموسوعة والكتاب؟.

وفي نهاية مقالي لا أملك إلا أن أقول رحم الله جمال حمدان، الذي صدق فيه قول الشاعر: وليس موت امرئ شاعت فضائله كموت من لا له فضل وعرفان والموت حق ولكن ليس كل فتى يبكي عليه إذا يعروه فقدان في كل يوم ترى أهل الفضائل في نقصان عد وللجهال رجحان.

 

د. محمود محمد علي

مركز دراسات المستقبل : جامعة أسيوط

 

 

 

علي الشوك والادب الروسي

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ضياء نافع

ضياء نافعورد اسم علي الشوك في كتاب المستعربة الاذربيجانية الروسية الدكتورة الميرا علي- زادة الموسوم (الادب الروسي والعالم العربي) والصادر عام 2014عن معهد الاستشراق التابع لاكاديمية العلوم الروسية . لقد ذكرته المستعربة علي – زادة ضمن اسماء الادباء والباحثين العراقيين، الذين ساهموا بالكتابة عن الادب الروسي، وقد أشرت اليهم جميعا في مقالاتي عن هذا الكتاب الروسي المهم في تاريخ العلاقات الادبية العربية - الروسية (انظر مقالاتنا بعنوان – العراقيون في كتاب الادب الروسي والعالم العربي 1،2،3،4،5)، وتوقفت في تلك المقالات عند بعض الاسماء، وناقشت مؤلفة الكتاب بشأن ما ورد عنهم في كتابها، ولكني لم استطع طبعا ان اتوقف بالتفصيل عند كل الاسماء العراقية هناك ومن جملتهم علي الشوك، هذا الكاتب المتميّز في دنيا الادب والفكر في العراق المعاصر، والذي ذكرته د. الميرا علي- زاده باعتباره مترجما لمقالتين ليس الا حول الادب الروسي منشورتين في مجلتين عراقيتين هما الاقلام والثقافة الجديدة، وهذا طبعا لا يتناسب بتاتا ومكانة علي الشوك في هذا المجال . لقد أشرت بشكل عابر جدا الى ان الشوك قدّم مساهمات عميقة حول عدة اسماء كبيرة في الادب الروسي، ومن جملتهم أخماتوفا، واريد هنا ان اتحدث حول مقالته عن الشاعرة الروسية آنّا أخماتوفا فقط، والتي جاءت بعنوان – (كنت امتلك كل شئ / نموذج عن معاناة اديب زمن الدكتاتورية)، اذ ان هذه المقالة بحد ذاتها تستحق ان نتوقف عندها فعلا بعمق وتأمّل لتحديد موقف علي الشوك ليس فقط بالنسبة للشاعرة أخماتوفا وحسب، وانما بالنسبة لمجمل الادب الروسي في القرن العشرين، او بتعبير أدق، الادب الروسي في الفترة السوفيتية بالذات . 

يجب الاشارة قبل كل شئ، ان هذه المقالة تحدثت عن أخماتوفا وما حولها من ظواهر تتعلق بالادب الروسي عامة، وقد تطرق الشوك الى تلك الظواهر بقلمه الساحر الرقيق والدقيق والواضح، وبالتالي، فانه يمكن القول، ان هذه المقالة هي صورة قلمية شجاعة رسمتها ريشة يساري عراقي (وهو يسمّي نفسه هكذا في تلك المقالة) عن كل الادب الروسي في القرن العشرين منطلقا من افكاره الذاتية البحتة فقط، ودون ان يأخذ بنظر الاعتبار الآراء الفكرية التقليدية (الراسخة !!!) في حركة اليسار العراقي والعربي عموما . يتناول الشوك في مقالته تلك مفهوم (الحزبية في الادب)، وهو المبدأ الذي كان سائدا طوال الفترة السوفيتية، ويذكر الشوك بصراحة دقيقة ومتناهية، ان لينين نفسه قد طرح هذا المبدأ، ويشير الى مقالة لينين المحددة بشأن هذا المفهوم، ويذكر(ان لينين كتب في 1905 مقالا بعنوان (التنظيم الحزبي وادب الحزب) . اصبح هذا المقال وثيقة (مقدّسة)، جاء فيها، ان الادب ينبغي ان يخضع بالكامل للاهداف السياسية، ويصبح اداة للدعاية الثورية، الادب ينبغي ان يخضع للايديولوجيا الثورية . أنا كيساري احزنني جدا ما لقيه المثقفون الروس من معاملة ..) . لقد كان الشوك رقيقا ومؤدبا جدا ومتواضعا، ولم يقل بشكل مباشر، انه لا يتفق مع لينين في طرحه لتلك المفاهيم، ولكنه قال – (انا كيساري احزنني جدا ما لقيه المثقفون الروس من معاملة ..)، ويتحدث الشوك في مقالته تلك عن مواضيع انبثقت بالذات من سيطرة هذا المفهوم على مسيرة الادب الروسي، ويذكر مثلا موقف ماياكوفسكي، وهو شاعر الثورة الاشتراكية كما هو معروف في الاوساط اليسارية، ويقول الشوك عنه، ان (ماياكوفسكي المسكين انتحر لانه لم يتحمل وضعه كمصفق للنظام)، وهي جملة عابرة جاءت في ثنايا تلك المقالة، لكن تسمية ماياكوفسكي ب (المسكين!!!) وربط انتحاره برفضه ان يكون (مصفقا للنظام)، تعبّر بلا شك عن رأي جرئ جدا وواضح المعالم حول انتحار ماياكوفسكي، وهذا رأي لم يتقبله النظام السوفيتي وايديولجيوه، ولم يعترفوا به ابدا، ولم يعترف به اليسار العربي ايضا (نتيجة لذلك الموقف السوفيتي طبعا)، ولكن الشوك يشير اليه بوضوح وبساطة ودقة ودون اي صيغة شك او تردد او عدم قناعة، وهذه كلها كلمات شجاعة وحقيقية يكتبها الشوك بموضوعية هادئة، ويشير بعد الجملة عن ماياكوفسكي الى انتحار الشاعر يسينين ورئيس اتحاد الادباء السوفيت فادييف .

ان مقالة الشوك هي عن أخماتوفا كما ذكرنا أعلاه، ولكن الشوك استطاع بمهنية ومهارة عالية جدا (دون ان يثير أحدا ضده !) ان يعبّر عن آرائه بالنسبة لكل سمات الادب الروسي في تلك المرحلة، أما عن أخماتوفا، فقد أشار الى وضعها الصعب ايضا، وقال انه لم يقرأ بما فيه الكفاية شعرها، وبالتالي لم يتكلم عنه، ولكنه تكلم عن تلك القسوة التي تعامل معها النظام السوفيتي آنذاك، وخصوصا في زمن ستالين، واكرر- ختاما - هنا الجملة التي استشهدت بها، وهي التي عبّر فيها الشوك عن حزنه، اذ قال (أنا كيساري أحزنني جدا ما لقيه المثقفون الروس من معاملة، مثل أخماتوفا وزملائها ...).

ان الخطوط العامة لافكار علي الشوك هذه تتناسب مع السمات العامة السائدة في روسيا المعاصرة حول تلك الفترة المحددة لمسيرة الادب الروسي بعد أكثر من ربع قرن من انتهاء الاتحاد السوفيتي وايديولوجيته، ولهذا، يمكن القول، ان افكار علي الشوك حول الادب الروسي تلك كانت تنبؤية بشكل عام، وذلك شئ يثير الاعتزاز والفخر بهذا المثقف والكاتب العراقي الكبير... 

 

أ. د. ضياء نافع

 

صوت الحكمة في الشعر الجاهلي

التفاصيل
كتب بواسطة: د. معراج احمد الندوي

معراج احمد الندويالشعر مرآة آداب الناس وصحیفة أخلاقهم ودیوان أخبارهم وسجل عقائدهم. وذلک لأن نفس الإنسان وقلبه تحرکّا وارتقیا قبل أن یرتقي عقله وتتهذّب مدارکه، فتکلّم بالشعر قبل أن تکلّم في العلم، ولذلک کانت أقدم أخبار الأمم والشعوب من قبیل الخیال، وأقدم المحفوظ من مدوّناتها کتب الشعر، وهو أمر طبیعي لأن الشعر لغة النفس تعبّر من خلاله عن انفعالاتها وأحاسیسها ومشاعرها.

إن الشعر الجاهلي شعر الأصالة والفطرة، وأن الحكمة الجاهلية من أنقى ما لهجت به ألسنة العقلاء، وتلجلجت به صدور الحكماء عبر السنين حيث الحياة صافية صفاء الصحراء النقية، والفطرة سليمة لا تشوبها شائبة من ثقافة وافدة. ومن المعروف أن العرب في الجاهلية لم يعرفوا العلم والفلسفة لأن الحياة البداوة لم تتيح لأصحابها بأن يكون لهم علم منظم. فالعلم وليد الاستقرار والحضارة. قام الشعراء بهذه المهمة ورسموا للناس المثل العليا وفتحوا أعينهم على الحقيقة الباهرة. حاول الشعراء في حلها ونشر الخير والأمن والسلام في ربوع بلاد العرب. ومن هؤلاء نذكر الشاعر الذي عاصر حرب داحس والغبراء. وكان له مشاركة فعالة في دعوة القوة إلى التخلي عن الحرب والعودة إلى الود والسلام، وذلك هو الشاعر زهير بن أبي سلمى. إن طبيعة البيئة الشعرية التي عاش فيها زهير قد أكسبته مكانة لائقة داخل القبيلة. وهذه البيئة الشعرية أمكنته من الوصول إلى منزلة الكمال الفني في النظم بين شعراء عصره. وكذلك هذه الوراثة الشعرية أثرت في تكوين شخصية زهير إنسانا وشاعرا.

فالحكمة في الشعر الجاهلي كلام يشير إلى خيارات الشاعر الخلقية معتمداً على تجربته الحياتية. ‏والحكمة في الشعر هي القول الذي يدعو إلى تقرير قيمة متبناة من التأمل أو من تجارب الحياة، فتشيع بين الناس ويحفظونها، وهي ترد في الشعر وفي النثر. ‏إن بعض الأشعار أصبحت، لقوة انتشارها، أمثالاً شائعة وفي معلقة يا دار مية التي يمدح النابغة فيها النعمان ويعتذر إليه. وفي غيرها نجد طائفة من الأمثال:

أنبئت أن أبا قابوس أوعدني ‏

ولا قرار على زأر من الأسد ‏

وبيت آخر من قصيدة للنابغة: ‏

فاستعجمت دار نعم ما تكلمنا ‏

والدار لو كلمتنا ذات أخبار ‏

ومن الحكم الرائعة ذات المدلول الأخلاقي: ‏

لا تظهرن ذم امرئ قبل خبرة ‏

وبعد بلاء المرء فاذمم أو احمدِ ‏

وفي الكرم: ‏

ولا أشتري مالاً بغدر علمته ‏

ألا كل مال خالط الغدر أنكد ‏

كان زهير بن أبي سلمى شاعر السلم والسلام، ومبدع الحكمة والتجربة من فحول الشعراء في الجاهلية. كان العصر الجاهلي عصر حرب وغزو ونهب. وكان زهير خبيرا بأحوال الناس ونزعات طبائعهم، وهو يحسن التفهّم لمعنى الإستقامة والإعوجاج، ومعنى الرذيلة والفضيلة، وذلك أن الرجل جاهلي وهو يخاطب مجتمعاً جاهليا. لقد كان زهير داعية للسلام، ومصلحــاً اجتماعياً، وحكيماً ينصح الناس ويرشدهم، ويدعوهم إلى العمل الصالح. ضمّن شعره نظرات تأملية في الحياة والموت والإنسان، وکان زهیر یمیل في أشعاره إلی الحکمة وبیان مکارم الأخلاق وخاصة في خواتیمها ، وهي حکم متفرّقة ضمّنها في تضاعیف شعره ،

وعلى الرغم من نزعة هذه الحرب بين عبس وذبيان فقد برزت في مواجهتها نزعة سلمية كان صوت العقل فيها يعلو على صوت العاطفة ليسفه العنف وينبذه ويدعو إلى السلم وينفر من الحرب وشرورها. ‏وكان زهير بن أبي سلمى ممثلاً لهذا الاتجاه وصاحب صوت التعقل؛ ذلك الشاعر الذي أحاطت به ظروف متعددة جعلت منه داعية للسلام: فقد مات أبوه وهو طفل فتزوجت أمه الشاعر المعروف أوس بن حجر فعاش بين قبيلة أخواله بني غطفان بعيداً عن قبيلته: وقد آمن زهير بمبدأ القوة الذي كان سائداً في مجتمعه وعصره حيث لم يكن للضعيف في ذلك المجتمع مكان لأنه مسحوق مظلوم من الأقوياء الظالمين كما يقول:

ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ‏

يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم ‏

ويبدو زهير حليماً تجاوز عصره، ورجل سلم، يحكم العقل في حل المنازعات، ويدعو إلى تجنب الحرب وهي غاية الغايات في الحكمة: ‏

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ‏

وما هو عنها بالحديث المرجم ‏

ولم يعرف عن زهير شرب الخمرة، ولا حتى وصفها "كالأعشى" و"طرفة"، ولم يتبذل حين كان يتغزل غزلاً تقليدياً وهو الذي جعل إنفاق المال في الخمر مفسدة لا مفخرة كما ورد في مديحه حصن بن بدر سيد غطفان إذ يقول: ‏

أخي ثقة لا تهلك الخمر ماله ‏

ولكنه قد يهلك المال نائله ‏

ومن أشهر حكم زهير المتناسبة مع عدم شربه الخمرة إيمانه المطلق بالله ‏

فلا تكتمنّ الله ما في نفوسكم ‏

ليخفى ومهما تكتم الله يعلم ‏

يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ‏

ليوم الحساب أويعجّل فينقم ‏

ولشعر الحكمة الجاهلي إيمانه بالله والقسم به والاعتقاد بالآخرة والحساب والإيمان بالقضاء والقدر والتزوّد بالعمل الصالح. إن الشعر في العصر الجاهلي کان قد بلغ الغایة في البلاغة ، وکان العرب یطلقون علی الشاعر آنذاک مصطلح "العالم الحکیم"، فیفضّلونه في حلّ النزاعات ویحتکمون إلیه في الأمور الخطیرة والقرارات الحاسمة. وکانت العرب تُقِیم الشعر مقام الحکمة وغزارة العلم.

 

الدكتور معراج أحمد معراج الندوي

جامعة عالية- كولكاتا- الهند

 

الرفض ليس دوما موقفا وطنيا أو بطوليا

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ابراهيم أبراش

ابراهيم أبراشمن موروثات الثقافة السياسية العربية وإلى وقت قريب أن موقف الرفض، بكل أشكال حمولته الأيديولوجية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، يتضمن حكم قيمة إيجابي يصنف صاحبه كرجل المبدأ والمدافع عن الشعب وقضاياه، إلا أنه ثَبُت بالممارسة أن خطاب الرفض لا يعبر عن موقف وطني أو بطولي إن لم يكن مصحوبا بإستراتيجية وطنية لمواجهة ما يتم رفضه، وهذا ينطبق على الذين يرفضون صفقة القرن قولا وينفذونها سلوكا.

يبدو أن كثيرا من الأنظمة والأحزاب الفلسطينية والعربية التي تعلن رفضها لصفقة القرن تمارس عمليا ما يساعد على تنفيذها، وبالتالي يصبح خطاب الرفض أداة تضليل لتمرير الصفقة القرن ما دام الرفض غير مصحوب بما يَعيق التنفيذ الفعلي للصفقة وهو جار منذ سنوات، بل يمكن القول إن كلا من السلطة الفلسطينية وحركة حماس ساعدتا، يوعي أو بدون وعي، في التأسيس للصفقة .

النخب السياسية من خلال مواقفها المتوقفة عند تخوم الرفض اللفظي لصفقة القرن دون أن تُجهد نفسها بإبداع طرق ووسائل خلاقة لمواجهتها تتحول إلى شاهد زور وتُعيد انتاج الفشل، معتقدة أن التمترس وراء خطاب الرفض سيمنحها شهادة بالوطنية وسيبرئها من المسؤولية .

هذه المواقف والسلوكيات البائسة للنخب ليس سببها أن الطريق مغلقة وليس بالإمكان أبدع مما كان كما تُرَوِج وتبرر موقفها ونهجها، بل لأنها تعلم بأن أي نهج وطني حقيقي سيفتح المجال للمراجعة والمحاسبة وإعادة النظر في شبكة المصالح الشخصية والحزبية التي تراكمت طوال سنوات من وجودها في السلطة، وهذا قد يهدد وجودها في السلطة سواء في الضفة أو غزة .

استمرار النخب السياسية في الحديث عن التمسك بالثوابت وعدم التنازل عنها وتأكيدها على رفض صفقة القرن، لا يُسقط المسؤولية عنها ويجب عدم السماح لهذه النخب بإدعاء البطولة لمجرد أنها تقول بتمسكها بالثوابت وعدم التنازل وتزعم رفض الصفقة، فالشعب لم ينتخبها أو يقبل بتسيدها عليه لأنها تقول بالتمسك بالثوابت وبالحقوق الوطنية أو ترفع شعار المقاومة والرفض، بل لاستعادة هذه الحقوق وإفشال صفقة القرن بفعل مقاوِم على الأرض، وفي هذا السياق يمكن فهم لماذا واشنطن وتل ابيب استبقتا الأمر وفرضتا الهدنة مع فصائل المقاومة في قطاع غزة قبل طرح صفقة القرن .

نعلم أن البعض سيقول ليس هذا وقت إثارة المشاكل الداخلية وأن المطالبة بالتغيير الآن قد يُضعف القيادة الفلسطينية أو يشكك بها ويشكك بالمقاومة وفصائلها كما سيُبعِد الأنظار عن المخاطر التي تهدد القدس ومجمل القضية، وبالتالي المطلوب الآن من وجهة نظر هؤلاء أن يتوحد الفلسطينيون لمواجهة صفقة القرن، وهذا كلام صحيح وطنيا ويندرج في سياق ما يجب أن يكون .

ولكن، لسنوات والشعب صابر وصامت على الوضع الداخلي حتى لا تنزلق الأمور لفتنة داخلية توظفها إسرائيل، كما أنه دائما يجد أعذارا للسلطتين أو يقنع نفسه بهذه الاعذار .لكن دعونا نتساءل بصدق : هل النخب السياسية الراهنة مؤهلة لإحداث اختراق، سواء في مجال التسوية السياسية وخصوصا بعد أن صرح الرئيس أبو مازن قبل أيام في اجتماع وزراء الخارجية العرب 21 أبريل الحالي أن إسرائيل لم تلتزم بأي اتفاق سلام وأن نتنياهو لا يريد السلام مع الفلسطينيين ؟أو اختراق في مجال المقاومة وقد وقَّعت فصائل المقاومة في غزة هدنة طويلة المدى مع إسرائيل ؟أو اختراق في مجال المصالحة الوطنية وقد استمرت حوارات المصالحة كحوار الطرشان طوال عقد من الزمن ؟ .

أيضا كيف تتوحد هذه القوى دون أن تبدأ عملية تغيير ومراجعة داخلها كخطوة أولى، مثلا أن تُعيد منظمة التحرير ترتيب وضعها الداخلي حتى بدون ممن هم خارجها من الفصائل، وتعمل على تنفيذ قرارات المجلس المركزي بشأن إعادة النظر بالاعتراف بإسرائيل وبالتنسيق الأمني، أيضا أن تعيد حركة حماس حساباتها في المراهنة على الإخوان المسلمين والدعم الخارجي وبمخططها لصناعة دولة غزة، ومراهنتها على استمرارية الدور الوظيفي المسنود لها إلى ما لا نهاية . ومن جهة أخرى، هل توحيد حالات مأزومة داخليا ومتعادية مع بعضها البعض سيُنتج حالة وطنية قادرة على مواجهة تحديات المرحلة ؟.

إن استمر حال النظام السياسي على ما هو عليه من انقسام وتشرذم، وحتى تحافظ النخب الحاكمة على وجودها في المشهد السياسي، وحتى لا تخسر مصالحها ... لا نستبعد في هذه الحالة أن تجد بعض المكونات السياسية تبريرا لقبولها لأية تسوية جديدة سواء كانت صفقة القرن أو غيرها دون شروط، تحت ذريعة منح فرصة جديدة للسلام أو محاولة تَجَنُب ما هو أسوء ! أو تحت عنوان التكتيك والمناورة .

إن أخشى ما نخشاه في هذا السياق أن يحدث تواطؤ ضمني بحيث تستمر واشنطن في تأجيل الإعلان عن صفقة القرن –وقد لا يتم طرحها بالفعل بعد رمضان - مع استمرار تنفيذ الصفقة على أرض الواقع كما هو جاري، في المقابل تستمر النخب السياسية الفلسطينية في إعلان رفضها لصفقة القرن أو الهروب نحو تشكيل هيئات ولجان لمواجهتها وكأن الصفقة مشروع مستقبلي وليس واقعا يتم تنفيذه منذ سنوات، وفي هذه الحالة تحقق واشنطن مخططها عمليا وتستمر النخب السياسية الحاكمة الفلسطينية والعربية في إدعاء البطولة من خلال إعلان رفضها للصفقة .

 

د. إبراهيم ابراش

 

رحيل مُنَظِّرْ المشكلات التربوية في البلاد الإسلامية

التفاصيل
كتب بواسطة: علجية عيش

علجية عيشهكذا انقلب قادة الفيس FIS على زعيمهم الشيخ عباسي مدني

كانت كلماته مثل الرصاص تتسلل إلى القلب في صمت، وقد خاطب مرة رافقه قائلا : "ليست مشكلة أن يموت الشيخ بعد أن يكون قد ولد أبناءً صالحين، ولكن المشكلة أن لا يلد أو يلد أبناءً فاسدين"، وإن كان عباسي مدني قد واجه صراعا عنيفا مع اليساريين، فقد تعرض لإنقلاب شديد على يد رفقاء دربه في الحزب حين غازلوا السلطة من أجل اعتماد حزبهم مقابل إقالته هو وعلي بن حاج، فكانت نهاية مطافه المنفى الذي توفي فيه اليوم عن عمر يناهز 88 سنة

غادر زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ الشيخ عباسي مدني ومؤسسها الحياة إلى الأبد تاركا وراءة إرثا سياسيا ضخما مُحَمَّلاً بالأثقال والتبعات والغموض أيضا، هذا الرجل الذي طبع أول حزب إسلامي في الجزائر، ينحدر من مدينة سيدي عقبة ولاية بسكرة، فهو من مواليد 28 فيفري 1931 بمدينة سيدي عقبة، وهي السنة التي تأسست فيها جمعية العلماء الجزائريين على يد رائد النهضة الإسلامية العلامة عبد الحميد ابن باديس، تلقى الشيخ عباسي مدني داخل الزوايا والكتاتيب، ثم واصل دراسته بجمعية العلماء المسلمين، قبل ان ينتقل إلى المدارس الفرنسي، وكان الفقيد أن صرح أنه تلقى تعليمه الديني على يد الشيخ نعيم النعيمي ببسكرة وتلقى دروسا في القرآن والسنة والفقه، حسب الشهادات اقتحم عباسي مدني المعترك السياسي وعمره لا يتجاوز 20 سنة، حيث انخرط في حركة الإنتصار من أجل الحريات الديمقراطية وليدة نجم شمال افريقيا وحزب الشعب، وكانت هذه الحركتين معروف عنها أنهما حركاتن ثوريتان ذات طابع شعبوي.

كان عباسي مدني يرى أن الكفاح المسلح هو الطريق الصحيح لمواجهة الإستعمار الفرنسي، فكان من بين مجموعة حركة الإنتصار التي أسست تنظيما شبه عسكريا وهم: أحمد بن بلة، أحمد محساس، بن بوالعيد، كريم بلقاسم، عمر أوعمران، لخضر بن طوبال، محمد خيضر، محمد بوضياف وحسين آيت أحمد)، وعرف عن عباسي مدني أنه من أبرز النشطاء في هذا التنظيم السرّي، ألقي عليه القبض في عملية الهجوم على مكتب بريد وهران عام 1949، ودخل السجن، فدفعه ذلك إلى المشاركة في عمليات أول نوفمبر 1954 بعد خروجه من السجن، ليلقى على القبض من جديد، فكان مثل الرحّالة من سجن لآخر ( بين سركاجي، سجن بربروس، وسجن الحراش) ولم ير النور إلا بعد الإستقلال، يكشف عباسي مدني في تصريحات ألقاها أن عدم اتفاقه مع جبهة التحرير الوطني هو لأنها انحرفت عن المبادئ الثورية التي كانت عليها من قبل، بل انحرفت عن الإسلام وهو طبعا تصريح خطير من رجل يعرف كيف يداعب المصطلحات السياسية ويلونها باللون الذي تليق بجبهة التحرير الوطني، لم يكن عباسي مدني على وفاق مع الأفلان لأن هذا الأخير أبعد رجاله الحقيقيين وعوضهم بانتهازيين وتينى إيديولوجية دخيلة، وكان في خطاباته يردد عبارة: نحن لسنا تجار مبادئ"، وكان يخشى أن تقع للجبهة الإسلامية للإنقاذ ما وقعت فيه جبهة التحرير الوطني.

وهو يدرس الفلسفة بالجامعة تعرف عباسي مدني على وجوه فكرية وعلمية، من بينهم الهاشمي تيجاني، الشيخ أحمد سحنون، والشيخ العرباوي وعبد اللطيف سلطاني، واتفقوا على تاسيس جمعية سموها جمعية القيم، مهمتها الدفاع عن القيم الروحية والحضارية للجزائر، لكن سرعان ما تعرضت للمضايقات في عهد أحمد بن بلة، ثم حلت نهائيا في عهد بومدين في سنة 1966، كانت المشكلات التربوية في البلاد الإسلامية واحدة من القضايا التي عكف عباسي مدني على دراستها ومعالجتها، وقد حصر هذه الإشكالية في إبراز حجم الإصلاحات التي تعرضت لها النظم التربوية في البلدان الإسلامية وانعكاساتها الثقافية والحضارية، وجعل من النظرية التربوية الحديثة محور اهتماماته مركزا في ذلك على الجانب النهضوي والحداثي، الأول يمثله جمال الدين ألأفغاني ومحمد عبده وابن باديس، والثاني كمال اتاتورك وغيرهم، حسب الكتابات كان الشيخ عباسي مدني يتخذ من مسجد أبو بكر الصديق زاوية لتقذيم دروسه، وكان المسحد عبارة عن كنيسة.

بدأ صراع عباسي مدني مع اليساريين إلى مشادات بين الإسلاميين بالجامعة المركزية بابن عكنون بسبب انتخاب لجنة حرة للطلبة، حيث حاولت مجم وعة من اليساريين يمثلون "المنظمة الثورية "  حسب الكتابات فهذه المنظمة خرج منرحمها حزب العمال الذي تراسه لويزة حنون ومجموعة أخرىتمثل الأفافاس وألأرسيدي، أراد هؤلاء ان ينزعوا لجنة الحي من جماعة مسجد ابن عكنون، ووقعت مشادات عنيفة ذهب ضحيتها احذد الطلبة، وهو المدعو كمال أمزال طالب بمعهد اللغات الأجنبية، المصادر تشير ان ما وقع في تلك الفترة من تخطيط الشيوعية العالمية والماسونية الهدف منها توريط الدولة واصطدامها مع الشعب وضرب الدين الإسلامي والأمة ورجالها، رغم مواقفه، فقد تعرض عباسي مدني ويده اليمنى المتمثلة في علي بن حاج إلى الإنقلاب على يد رفقاء النضال في الفيس، وهم رابح كبير رئيس الهيئة التنفيذية الذي كان في المنف في ألمانيا والشيخ مدني مزراق قائد الجيش الإسلامي للإنقاذ الذان قدما للسلطات تعهدات بإقالة زعيم الجبهة عباسي مدني ونائبه علي بلحاج في حال السماح للحزب بالعودة إلى النشاط أو تأسيس حزب جديد، وأعلن رابح كبير عن تاسيس حزب جديد يختلف في منهجه وإيديولوجيته عن الفيس، هل يمكن القول أن الفيس بوفاة عباسي مدني انتهى إلى الأبد أم أن عناصره سيتحركون من جديد في ظل الضبابية التي تشهدها الساحة السياسية في الجزائر وما يرافقها من مسيرات شعبية يطالب أصحابها برحيل النظام وإحداث تغيير جذري في كل المجالات.

 

قراءة علجية عيش

 

سجون، إغتراب، نضال.. قراءة في محطات حياته

التفاصيل
كتب بواسطة: محمد السعدي

محمد السعديهذا عنوان الكتاب الذي أهدانياه الدكتور خليل عبد العزيز المثقف والسياسي والمناضل، والذي ولج طريق السياسة منذ نعومة أظافره . حيث واكب الحياة السياسية العراقية في مدينته (الموصل) . منذ بدايات أرهاصاتها السياسية الاولى في الصراع التاريخي بين القوميين والشيوعيين والتي تفجرت بحركة الشواف الانقلابية عام ١٩٥. عندما كان خليل عبد العزيز شاباً في بداية منعطفه السياسي متصدراً مشاريع اليسار والحزب الشيوعي العراقي ليحمل لوائه في الدفاع عن أهدافه ومنجزات ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ . كانت تلك البداية في الانطلاق لتستمر مسيرة طويلة وحافلة من النضال والصعاب والغربة والموقف والتحدي بين شتى بلدان عديدة تقاذفته مناحي الحياة لتجمعه برؤساء دول وقادة أحزاب وسياسيين . بلغ من العمر عتياً، لكنه غزير الابداع والانتاج والذاكرة ومازال يضحي بوقته الثمين في العاصمة السويدية (أستوكهولم)، يرفد الثقافة الوطنية بنشاط يومي وفعال في الدفاع عن وجه العراق الناصع وتاريخ الشيوعيين الوطني .

عن دار (سطور) للنشر والتوزيع في العاصمة بغداد صدر كتابه في طبعته الأولى عام ٢٠١٨ . عن ٣٢٤ صفحة من حجم الورق الكبير، والذي ضم بين جنباته تاريخ حافل بالاحداث منذ مطلع الخمسينيات الى يومنا هذا . محطات تستحق الذكر والقراءة والدراسة لاستخلاص المواقف والتحديات لمواجهة أزمات الواقع الحالي . 

جاء في مقدمة كتابه (محطات من حياتي) بخط قلم صديقه ورفيقه كاظم حبيب .. سيرة ذاتية ديناميكية بين الموصل . بغداد . موسكو . عدن . ستوكهولم . لكل واحدة من تلك المدن، كان للدكتور خليل محطات نضالية ومواقف أنسانية تركت أثرها الواضح في معطيات تلك المدن وسيرة أحداثها من خلال دوره وموقعه في قلب الحدث حاملاً فكره وأيمانه بنصرة الانسان ودوره في بناء صرحاً أنسانياً يليق بآدمية الانسان على الارض .

الكتاب (محطات من حياتي) . كل فصل فيه يحتاج الى كتاب مستقل بما يحمل من أحداث أرتبطت وأنطلقت من أرض العراق ليجوب العالم بها ومؤمناً بحتمية التاريخ في صراع الارادات والمواقف والافكار .

قرأت الكتاب بتمعن وحرص شديدين حرصاً مني على سبر أغوار التاريخ المنسي أحداث ومواقف تلقفناه كأي تلاميذ أبتدائية في مقتبل مشوارنا السياسي ولضعف قدراتنا الفكرية في التحليل والقراءة لنبني رؤى عليها بشدة بساطتها لم يرحمنا الزمن بعمق معانيها . أرادة الدكتور خليل عبد العزيز في فك مفاصلها العقدية من خلال كتابه الذي جاء تتويجاً لمسيرة نضالية قاسية كان أحد مناضليها المهميين في تجسيد تلك المعاني النضالية وروايتها بلغة صادقة وجريئة في تعاقب أحداثها، وهذا ما يميز منجزه الفكري والسياسي في صفحات كتابه محطات من حياتي .

وقفت متأملاً بعد أن أنهيت صفحات كتابه الثمين من أي باب سوف أدخل ؟. وأي موضوعه سوف أختارها في شهادته التاريخية عن حقبات مهمة في تاريخنا العراقي ؟. والتي شدتني حقاً في تتبع تفاصيلها برؤية وطنية بعيداً عن أجندات لقد أخرتنا زمناً طويلا ًفي بداية مشوارنا النضالي وحددت أطر التحليل والتجديد والفهم الواقعي برؤية نقدية من منظور ماركسي لينيني حول حركة المجتمع ومستقبله .

تعرض خليل عبد العزيز الى الملاحقة والاعتقال والحكم عليه بعد أحداث الشواف، دارت به الدنيا وتقاذفته السجون من سجن بعقوبة المركزي وأنتهت بأبعاده الى مدينة (بدرة) الحدودية التابعة للواء الكوت، كان في طليعة المقاومين لمؤامرة الشواف في الموصل بأعتباره أبن المدينة وعضو في الحزب الشيوعي العراقي ومن المتمسكين بأهداف ثورة تموز ومنجزاتها، ومن المساهمين في تأسيس أتحاد الطلبة العراقي العام ١٩٥٢ في مدينة الموصل .

قضى ردحاً من الزمن الطويل في الاتحاد السوفيتي، وبات من الوجوه البارزة والمألوفة في معهد الاستشراق ومن خلال فضاءات تلك المعهد تعرف وأطلع على شخصيات وأحداث مهمة في العلاقات الدولية ومن خلال تلك العلاقات تسنى له أن يحدد ويتخذ مواقف بما يمليه عليه أنتمائه الوطني، وهذا الكم الهائل من الرؤى والمواقف والتجارب في كتابه تجرك الى أحداث مشوقة ومهمة في رسم سياسات العالم .

فصول الكتاب المتعاقبة زمنياً في الحدث والمكان والتاريخ دعنا أنها مشوقة ولكنها لا تخلوا من المتعة ولهفة المتابعة وسرد للتاريخ، بتنا اليوم وبما يمر به بلدنا العراق والمنطقة من ويلات وأرباك في الشأن الوطني والانتماء القومي ففصول الكتاب وأحداثه التوثيقية تقربك من عمق وخفايا تلك الاحداث .

توقفت عند كل فصل من تلك الفصول، وبتقديري كانت مهمة جداً لانها تدخل ضمن العلاقات الدولية ومصالحها الخاصة وغلبتها على القييم والمباديء والانتماءات المشتركة .

واحد من تلك المداخل ، والذي يبدأ بوصول البعثي ورجل المخابرات (فاضل البراك) الى معقل الشيوعية وهو من المعادين لها فكراً وممارسة، وأصبح نائب الملحق العسكري في السفارة العراقية ومسؤول محطة المخابرات العراقية في موسكو، قدم أطروحته حول حركة رشيد عالي الكيلاني عام ١٩٤١ والتي تدخل ضمن الدراسات القومية وفي الوقت الذي يعتمد ضمن نهج وسياسة المعهد هو الاهتمام وأعطاء الاولوية للدراسات الماركسية اللينينية، والشيوعيين أولى بمقاعدها .

يتضمن كتاب (محطات من حياتي) للدكتور خليل عبد العزيز مداخيل عدة ومهمة وغير مطروقة سابقاً في أسرار وبروتوكولات في العلاقات الدولية ونمط تحديدها من أحمد حسن البكر الى ملك حسين الى محمد سياد بري الى حافط الاسد الى عبد الفتاح أسماعيل، وأنتهاءاً بجمال عبد الناصر . ووجهة السياسة السوفيتية في التعامل مع وجهات نظر ونمط حكم ورؤية هؤلاء الرؤساء مع حركات شعوبهم وعلاقاتهم بقوى المعارضة الشيوعية في بلدانهم . عكس الدكتور خليل في متون كتابه تلك الوقائع بأعتباره شاهد وباحث وسياسي وأعلامي .

خصص الدكتور خليل في كتابه فصل كامل ومهم للقاريء العربي من وجهة نظر سياسية (يسارية) .

السياسة السوفيتية وعلاقتها بالاحزاب الشيوعية العربية، والتي مازالت الى يومنا هذا تتصدر المشهد السياسي العربي (الشيوعي)، في تداعياته المتشظية في اللوم والنقد وعدم الرضا تجاه مصير أحزاب وشعوب وحركات وأحداث .

البلاشفة في ثورتهم التاريخية ٦ أكتوبر ١٩١٧ بقيادة زعيمهم فلاديمير إيليتش لينين، أستلهم الدروس الأولى في تطبيقاتها على أرض الواقع بدكتاتورية البروليتاريا وسلطة العمال في البناء الاشتراكي من تعاليم كارل ماركس ورفيقه فردريك أنجلس، لكن بعد موت لينين العام ١٩٢٤ ترك فراغاً كبيراً في قيادة دفة الحزب وفي عملية بناء النظام الاشتراكي بصعود قيادات متهورة بأمكانيات محدودة ومحصورة في النظرية والتطبيق والممارسة . ستالين وصحبه وخطابهم الايديولوجي الجديد الذي يتقاطع تماماً مع خطوات الزعيم الشيوعي لينين، والذين تمسكوا بخطواته في بدايات مسيرة الثورة وعملية البناء تمت أزاحتهم من قيادات الحزب الشيوعي السوفيتي، بوخارين، زينوفيف، كامينيف، تروتسكي، وتعرضوا الى سلسلة أنتهاكات، سلسلة عمليات تطهير كاملة شملت أهم قيادات الحزب الشيوعي، ولم تنتهي الا بسقوط النظام الشيوعي والذي أعتبر زلزالاً هز العالم، مثلما أعتبر الامريكي اليساري (جون ريد) في كتابه حول يوميات ثورة أكتوبر (عشرة أيام هزت العالم)، قبل سبعة عقود مضت.

تضمن الكتاب حوارات صحفية أجراها الصحفي فرات المحسن مع مؤلف الكتاب الدكتور خليل عبد العزيز ومن أهمها حول علاقة السوفيت بالاحزاب الشيوعية العربية، حيث أنها يصفها علاقات بين تابع ومتبوع من خلال موظف حكومي وحزبي صغير يشغل مكاناً متواضعاً في جهاز المخابرات يدعى (نيجكين) يقبل الهدايا ويطالب بالرشاوي من قادة تلك الاحزاب لتمشية معاملة لقاء مسؤول أو مكاناً في منتجع على شواطيء البحر الأسود . يذكر عبد العزيز في كتابه عندما وصل الى موسكو ألتقاه الشهيد سلام عادل ونبه بعدم قبوله الذهاب الى تلك المنتجعات لو عرض عليه من خلال يومياته التي قضاه في تلك المنتجعات والأساليب المتبعة والمعمول بها والهدف من ورائها . تعامل القادة الشيوعيين السوفيت مع ملفات الاحزاب الشيوعية العربية بالضد من أرادة جماهير هذه الاحزاب بالتنسيق مع قادتها في أجهاض أي مشروع ثوري يؤدي الى ثورة وطنية من خلال أستلام السلطة في بلدانهم أي كان هناك إذعان وخضوع كامل لوصايا اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي السوفيتي من خلال ممثل لجنة العلاقات الخارجية الرفيق (بوناماريوف)، والذي كان يصغى بشكل طوعي الى معلومات (يفغيني بريماكوف)، الذي بدوره يقدم معلومات سيئة وصورة غير واضحة عن سياسات ومواقف الاحزاب الشيوعية العربية ومحاولات لوي ذراع لسياسة الاحزاب الشيوعية العربية التي لا تتماشى مع وصايا القادة السوفيت وخير مثال الحزب الشيوعي السوداني أيام عبد الخالق محجوب الذي كان يعارض علناً السياسة السوفيتية مما مورست عليه ضغوطات كبيرة وحصار سياسي وفكري لتحيده عن مواقفه، بل تعدى الأمر الى أبعد من ذلك بمنعه من حضور أجتماعات الاحزاب الشيوعية العربية لمواقفه الصريحة والعلنية في أنتقاد السياسة السوفيتية تجاه شعوب المنطقة وأحزابها الوطنية، في الوقت الي كان مدير معهد الاستشراق (غفوروف)، له رأي أخر تجاه السياسة السوفيتية أكثر واقعية وتطلعاً مشرقاً لنضالات تلك الاحزاب نحو الحرية والاشتراكية كما أكد الدكتور خليل عبد العزيز في كتابه (محطات من حياتي) .

مارس الشيوعيين السوفيت ضغوطات كبيرة على قيادة الحزب الشيوعي المصري للانضمام الى مشروع الاتحاد الاشتراكي العربي بقيادة جمال عبد الناصر الذي أسسه بتوجيهات من السوفيت بعد مشروع السد العالي، بل ذهب السوفيت الى أكثر من ذلك بمطالبتهم للحزب الشيوعي المصري بحل تنظيماته وألغاء كيانه السياسي والتخلي عن مشروع الثورة والسلطة، ولم يستطيع ذلك الحزب العريق في مقاومة الضغوطات السوفيتية بسبب ضعف أمكانياته على المستوى العام، فاندحر مستسلماً صاغياً، أزاء أدعاء عبد الناصر السياسي نحو بناء نظام أشتراكي عربي وبدعم سوفيتي واضح، وفي الوقت الذي كانت السجون المصرية تغص بالشيوعيين المصريين والتقدميين .

موضوعة التطور اللارأسمالي والانتقال الى السلطة سلمياً وتسويقها أيدلوجيا منذ نهاية الخمسينيات لأطفاء شعلة الثورة بين صفوف الشيوعيين في العالم، أعتمدها السوفيت في علاقاتهم الخارجية تجاه الدول النامية، على حساب مصلحة ومصير القوى اليسارية والديمقراطية في ذلك البلاد .

العراق والحزب الشيوعي العراقي من أكبر ضحايا السياسة السوفيتية في تضييع فرصته التاريخية في أخذ السلطة من مجموعة من العسكر المتهورين الزعيم عبد الكريم قاسم ورهطه . وفي فترة حكم الزعيم قاسم طالب عزيز محمد بحل التنظيم الحزبي داخل الجيش العراقي وأثنى عليه عامر عبدالله لعدم أزعاج الزعيم وتبديد خوفه من تطلع الشيوعيين الى السلطة وتماشياً مع الموقف السوفيتي تجاه العراق .

وعلى غرار ما حدث في مصر . أراد السوفيت أن يعيدوا التجربة السيئة في العراق، فبعد أنقلاب عبد السلام عارف على سلطة البعثيين في ١٨ تشرين الثاني العام ١٩٦٣ والاعلان عن الاتحاد الاشتراكي العربي، ضغط السوفيت على قادة الحزب الشيوعي العراقي بأتجاه حل تنظيمات الحزب والانصهار في بوتقة الاتحاد الاشتراكي العربي، هنا برز خط (آب) في تبني هذه السياسة بالتناغم مع موقف السياسة السوفيتية حول رؤيتها بمصير الاحزاب الشيوعية العربية، والشك بقدراتها على تعبئة الجماهير وقيادتها نحو البناء الاشتراكي .

وقد أقر خط آب في أجتماع اللجنة المركزية عام ١٩٦٤ المنعقد في العاصمة (براغ) بالاغلبية فقط أعترض عزيز الحاج عليه وتحفظ أراخاجادور على التصويت، وخط أب هو أمتداد للنهج الستاليني اليميني وتعزيز للسياسة السوفيتية باتجاه تهميش دور الحزب الشيوعي العراقي في قدرته على تعبئة الجماهير وقيادته على العمل الثوري في البناء الاشتراكي من خلال مفهوم التطور اللارأسمالي والذي أعتمده الحزب الشيوعي في سياسته العامة في مؤتمره الثالث العام ١٩٧٦ المنعقد في بغداد تحت شعار (من أجل ترسيخ وتعميق المسيرة الثورية وتوجه العراق صوب الاشتراكية) . وفي إجتماع اللجنة المركزية المنعقد في بغداد نيسان العام ١٩٦٥ أثير نقاشاً حاداً حول خط آب وتداعياته السلبية بين الناس وجماهير الحزب فتم رفضه بالكامل من قبل المجتمعين ورميت كل قراراته السابقه في سلة المهملات، وأنتهجوا سياسة جديدة وصدروا بياناً ضد حكومة عبد السلام عارف ودعوا الى أسقاطه . وحاول عزيز محمد بعد عودته من موسكو بأعتماد سياسة خط أب بصيغة التطور اللارأسمالي، وفي الأخير نجح بعقد جبهة وطنية وقومية مع البعثيين في تموز عام ١٩٧٣ .

الدكتور خليل عبد العزيز في كتابه سلط الضوء على أحداث مهمة مقتطعة أو مجزء من التاريخ فعادها الى مكانها المفترض من خلال تجربته النضالية والاعلامية والسياسية .

 

محمد السعدي

مالمو / أبريل ٢٠١٩

 

الصفحة 145 من 157

  • 140
  • 141
  • 142
  • 143
  • ...
  • 145
  • 146
  • 147
  • 148
  • 149

hewar2(201)،(202)،(203)،(204)

84 mahmod mohamad ali200

اقرا ايضا

  • الأخلاق والمعايير.. نابي بوعلي يحاور علي رسول الربيعي (2)
  • دايوجانس.. فيلسوف ضد المألوف
  • دانيليفسكي وقضية الفكرة السلافية السياسية الثقافية (7)
  • جبرا إبراهيم جبرا.. الشاعر والأديب والفنان (2)
  • أول دراسة نقدية موسّعة لرواية "مستر نوركَه" لنوزت شمدين
  • الانترنيت الضوئي
  • قطرب!!
  • اعادة التدوير، توفير وليس تقتيرا !
  • ليتعلّم المؤمنون بالعراق محاربة الفساد من فرنسا
  • مبدعات عربيات بالمهجر في رحاب المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح

القائمة البريدية



العدد: 5293 المصادف: الاربعاء 03 - 03 - 2021م


العودة لأعلى

تابعونا على:

الحقوق محفوظة صحيفة المثقف 2006 - 2021 ©

تابعونا على: