صحيفة المثقف

الغوص خارج الدائرة المفرغة .. قراءة في مجموعة الشاعر عباس باني المالكي (التسول في حضرة الملك)

  تنساب نثريته نحو الأكفاء أو الإجازة كما سماها العرب قديما متبرما في الشكل من ضيق القافية حاسبا ثقلها وقيدها وفقر قدرتها التعبيرية واقفا في دائرة الفن ولا أؤيد من يرى أن القافية تعد ثقلا فلها جمالية لاتقل أهمية عن المعطيات الجمالية الأخرى وهي ليست حروفا مهملة مصطنعة كما يظن البعض بل أنها حياة للنص الشعري واجد الشاعر المالكي أباح لنفسه تحررا من القافية والانفعال ومشى في انسيابية عذبة دون أن يسقط في دائرة النموذج الغربي كما يفعلون

 

السؤال كيف يتمرس الشاعر بصنع فكرته ويوصلها الى المتلقي في بداية تقول:

اذهب نحو نزيفي فهذه الشوارع

لاتستوعب صهيل الخيل51

مشيرا الى حضارات مزيفة في فضاءاتها يسميها:

                                    منتظرا انتهاء حضارات الضفادع51

 

ثم يصرخ بصوت عال دون وجل وتردد:

ولصوص بلادي

يكنسون في جيوبهم حتى النفايات78

 

ويبتهل ليوسف عليه السلام مرمزا باحثا عن الخلاص وملل الانتظار:

يوسف رجع إلى أبيه باكيا

                        ينشر قميصه على أبواب مدن غفت88

 

ويتحسر ضجرا حين يرى مدنه قد أينعت أرضها بلون الشرايين من دم الرقاب المذبوحة مشيرا إلى خراب المدينة وتعفنها من لصوص الزمن :

        في مدن صبغت ارض وجهها

بلون الشرايين فأينعت للازهار91

 

كأني أجد الشاعر المالكي عباس باحثا عن لؤلؤة مفقودة في اعماق البحر وهو يتسول في حضرة الملك باحثا عن مهيمنيتن اسميهما الرماد والجياع ,ولا اظنه مشتعلا رماده مهما نفخ وهو القائل بعظمة لسانه:

 فلا نافخ النار

ولا سيف ابن يزن 34

 

ولو تمعنت في دلالة سيف بن يزن لكشفت سرا يدهم عاصفة الرمز التي خلقها الشاعر وقد أقع في الأسف قائلا إن المالكي قد أهدى مجموعته هذه للكثير وقد تصفحوها بعجالة وربما لم يقرأ وها حتى الآن اما أنا وعذرا من ألانا هذه فقد استلمتها من طالبي العزيز الشاعر سراج محمد يعقوب متأخرة منذ مهرجان المربد وحتى يوم 6/6/2009 جاءني بها مراقبا في قاعة الامتحان فاستللت من أوراق الطلبة الزائدة تلك الصفحات وبعجالة كتبت هذه الورقة النقدية وحين وصلت إلى البيت أسرعت للكتابة عنها وأقولها بحق وأترفع عن المبالغة والمديح والنقاد يعرفون قلمي إن انتقاءاتي في مخاض عسير لا اكتب إلا لمن يستحق الكتابة واقسم لكم باني لم أر الشاعر ولا اعرفه شخصا ولأول مرة أهداني مجموعته الشعرية ولكنني عرفته صاحب قول رصين واعتراف شعري لا مهرب منه

 

الغوص في مهيمنات الشعر

الرماد أول قدحة تنبض بالكثير وأقولها- ومع اسفي الشديد ان الشاعر المالكي قد أهدى كتابه للآخرين فمنهم من علقه على رفوف النسيان ومنهم من أعجب وظل ساكتا ومنهم من كتب ولم ينشر وإما انا وأعوذ بالله من أنانيتي قد أسرعت بالكتابة عنه واثقا مما قلته فالشعر الصادق الثائر لا يحتاج الى جواز سفر وبطاقة اذن من الملك الذي تسول في حضرته

 

تعال معي إلى بوابات هذا الاحتراق مهيمنة أولى وابحر معي الى فضاءات نصه مغلقا أو مفتوحا ما عليك الا أن تقرا النقد كيف يقول قولته

 

قال الشاعر المالكي:

ارسم احتراقي عند صدرها

دون التحول إلى رماد 12

 

من هنا جاء الرمز للطفولة مكانا وزمانا والصدر محطة استراحة مؤقتة، بل أعلن عن احجيات خائبة طافحة بالأسى مركزة على الهدف الذي لا يدخل به الشاعر مباشرة الى الهدف بل يأخذك الى مسارات عذاب هاديء لا يفكر بإبعاده المتلقي التعب بل المتلقي المنتقم من فساد وخراب المدينة,ثم يستانف قائلا:   

                            كثر الرماد حولي ولم احترق

                           رميت رماد الارض الى السماء

                                ليتعرى القمر من جسدي 13

 

هنا لعبة الأحجية تكتمل في مستهل غارق بالشجن والشوق إلى صدر طافح والالتجاء إلى موقد نهائي تلك هي الخاتمة ومن هنا بدأت حكايته مع الرماد في احجيات مرمزة بالقلق الكثير والخوف من خراب المدن وقد ألقى ثقلها على امرأة هي إلام وهي ارض وهو يبادلها الاحتراق رفض ام أبى الاقتراب ولم تفلت من بين يديه لعبة الأوزان المتقابلة في استخدام ثنائيات الأسماء ثم الأفعال فلا يكفي الرماد الاسم فانتقل الى الفعل:

حاولت مرة أخرى

رمدت حروفي في وجه الفراغ14

 

من هنا جاء مستهل بحثي الغوص خارج الدائرة المفرغة منطلقا من قضية هامة عند الشاعر المالكي وهي الرماد فما لذي يوحيه الرماد من انطفاء موقد غير مشتعل خفتت فيه أخر جمرة ومات ضوءه نهائيا أليس هذا من تداعيات اليأس واحتراق الذاكرة في متاهات الأشياء

 

فمازال يتعلق بالرماد قضية وهو يعلم بعدم وجود نافخ للنار المطفئة أبدا قائلا:

فلا نافخ للنار

ولا سيف بن يزن34

 

كلنا نعلم برمزه هذا ماذا أشار إلى سيف بن ذي يزن من صمت وهدر للثورة المنتظرة فلا نافخ نار في مدينته وهو يرجع الى تراثنا يستل رؤيا جديدة من حكايات العرب أصحاب دم كليب وكيف دافع الكلب ومات في سبيل أخيه أما العربي فلا ينفخ في نار الغيرة بعد  ولكن ماذا يفعل لدهاليز الإقفال المعتمة المتناسلين من شعائر الرماد قائلا:

فيبحرون في دهاليز الإقفال

يتاسلون من شعائر الرماد39

 

لقد طفح الكيل من رماده وقد استد قوسه وفارت عصبيته بعد هدوء لقد حول الفضاء المتخيل الرماد مكانا الى فضاء ملموس فاشعائر طقوس لها إنسانها ومريدوها ودليل ذلك ان القانون ما يحمي الإنسان قد انتهك في هذا الوطن وهو الثابت وقد تغير وانحرف

فبيوت القضاة تحولت الى رماد 76

 

ويقر ان الكفن لابد منه في رحلة الدنيا في اللحظة الاخيرة التي يكون بها المصير المحتوم:

من مرايا مكفنة برماد النهار 81

 

انظر الى مجريات الانكسار المرايا تكفن فكم من مرايا كثيرة والناس لاترى ولا تسمع فكيف لا تفزع المدن فلا تولد الأشياء مدفونة  بل مرئية كالمرايا تكشف كل شيء والرماد هو النتيجة البائسة

حتى يعطي الرماد فضاءا بعيدا من الإجهاض ثم الطقوس ويلبسها أجنحة انظر قوله

لم يجد غير جسد

تحتضنه أجنحة الرماد 84

 

لقد ابتدأ بالماد بخيال وأحجية ثم حوله الى شعائر وطقوس واخيرا رسم له أجنحة وهذا يدل على ان الشاعر المالكي يؤسس لمفردته قضية شعرية تحتاج الى فكر وتأمل وهو يبحث عن قاريء ومتلق يفه قبل ان يضع له الهوامش

ثم تحولت تلك الطقوس الى طلاسم لامفر منها عوذ تعلق على أكتافنا خلاصا من الشر والخطيئة :

والانسان عاد من رماد الطلاسم الى عرافين 100

لقد قال عباس شعرا صادقا وبنى بناء ا شعريا مكثفا يحتاج الى تامل فكيف يصل الامر بالاغنام ان يصبح صوفها من حجر

حين صار للأغنام

صوف من حجر

واجترت رماد روثها100

 

انها الفجيعة حقا كيف نعذر الزمن من لصوصنا الذين حجروا الغنم في صوفه وهي تنام في مراعي الدراويش ليس تحلم الا بغابات القصابين,

لهذا يحق للشاعر ان يقول

 تسقط جمهورية الانسان 101

 

 فأين الحرية التي يسمون وأين الديمقراطية التي يقلدون وأين الاحلام اليائسة كل يمضي الى حراس الجحيم وأجمل ما يهزني مسك الختام للعبة الرماد ذاك الوصف الرائع حين يقول:

حمل اثواب الغابات الى رماد القرابين 156

هنا تنطفيء المهيمنة الأولى لتشتعل الثانية مهيمنة الجياع

 

المهيمنة الثانية الجياع

الجوع يتحاور في نصوصه متواضعا بلغة متماهية عاصفة في مسارب الجهل واصفا الجوع بمراتب متنوعة:

الذي استدار رغيفا في حلم الجياع37

 فهل صار الرغيف حلما علقه الشاعر على وجوه المدينة الخربة

على أسلاك الجوع تشنق العصافير 38

 

 لقد تحولت الصورة الى فضاءات مرتفعة الاستدارة ثم الأسلاك وبعد إشارات التماهي الجمعي بلغة شعرية تدل على المشاكسة وعدم الصمت بل الثورة والتمرد على من يحرم الرغيف وهو حق ادمي لا مهرب منه صرخ الشاعر من يبكيني 52 انه يصرخ ولا يسمعه احد فماذا يعمل ايظل ساكتا والجوع قد عسكر في جسد الجياع:

في دولة الملك

 والشظايا عسكرت في جسد الجياع 65

 

اقولها شاعرا وناقدا ان المالكي قد وفق في رسم صورته هذه وهو يربط فكرته قائلا/:

حيث يمر الأطفال

إلى خبز الجوع

دون أجساد 76

 

هذه مفارقة تتساءل كيف يمشي الانسان بلا جسد انها تعيش في زمن السلاحف وتشيعها براغيث المكان

قل أن الشاعر يعود بنا إلى الشاعر احمد الصافي النجفي متسائلا عن براغيثه وهي رموزه الطويلة في نقد لاذع

ولكن هل تحتاج هذه الصورة إلى تعليق كم كان يكتب قديما لنا صورة بدون تعليق قوله:

ويأتون من خلف العالم

ليمنحوا الجوع الى الدمار 86

 

 فكفانا جوعا ودمارا ايتها الأرض الخصبة كي يرمموا البلاد من الانقراض وكيف يفعل عندما امسى الجوع مهيمنة تخدش الذاكرة في قوله:

جوع يخدش الذاكرة في العبور 108

واصبح الجوع نزيفا طافحا في قوله:

باعوا أسلحتهم لنزيف الجوع والشوارع 112

 

لذا باتت الأصوات عالية معترضة متمردة ترتفع الى الفضاء البعيد :

أصوات تردد جوع المساء الى القمر 131

 

والى فضاء اقرب قليلا المئذنة التيترتفع فيها الاصوات ليس الاذان بل نداءات الجوع:

في جذور الأشجار

وتلبسنا الخوف من مئذنة الجياع 164

 

وبعد هاتين المهيمنتين قد تركت الكثير الجميل الثائر في شعره ففلوطن حكاية عند الماكي ولكن أي وطن :

كل مانكتب تبقى الكلمات عارية في الفراغ

 اذ ان الوطن يتيم في قلعة المؤتمرات164

وكم ادهشني في نهاية مجموعته قائلا :

فليرسلونا الى المقصلة نحن بلا رؤوس 174

 

واقول أيها المالكي شكرا لقريحتك على هذا البناء الرائد والشعر النابض بالحرية فانت لا تخاف في الحق لومة لائم فمازلت بلا راس لا تخسر شيئا أبدا وستربح الوطن

قل كلمتك الصادقة فسوف يكتبون عنك عراقيا تغني للحقيقة التي متنا من اجلها جميعا وضحينا من اجل حرية وطننا بالكثير الغالي ولكن لا حياة لمن تنادي وأخيرا دعني أسعف مجموعتك بها الإهداء كشاعر لا يملك الا الشعر رغيفا

حتى يئسنا نسمي أرضنا وطنا    واضيعتاه فهل مرت بنا شبقا

  

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1071  الاحد 07/06/2009)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم