صحيفة المثقف

بعد تعريات سدرة النبق قراءة نقدية في ديوان ألوان وأقداح للشاعر عبد الرحيم مردان الشاهين

مفادها ينظم إعادة النظر بأشياء الوجود بل ينسف الحدود المكانية بلحظة قاتلة كضربة الساحر بين أركان الماضي والحاضر والمستقبل الخطير

 فالشعر لا يأتي لمن يعرف الخواطر ويجيد النسق النثري بل هو اكبر جدا من مخيلة عجوز تفتح أحلامها على ليل سرمدي

 وارى الشاعر الشاهين تتسكع رؤياه في شوارع الطين والزمن التنين يقتات أفراحه ويحفر في وجهه أخاديد الشيخوخة بلا سبب

وعلى حد تعبير الدكتور زكريا إبراهيم "ليس باستطاعة الإنسان أن يتحجر في صورة واحدة ثابتة من صور الوجود ... إن الوجود الإنساني في جوهره مفارقة واستعلاء، لأن المرء لا يوجد حقاً إلا بقدر ما يعمل على تجاوز موقفه الحاضر وهكذا دواليك ... فالإنسان في عالم التجربة ذلك الموجود الوحيد الذي ينحصر وجوده في حريته ومن هنا افتح باب الحوار في مفارقات بسيطة يزرعها الشاعر عبد الرحيم في صحراء الخوف ليتنفس حريته ضمن سبل عدة منها "الخوف على التراب والأرض قائلا

واحرسي تلك الربايا والسهول

لا تتركي الجرذان تعبث في الحقول

 

من هنا يبدأ الخوف والهم عند الشاعر ثمة قضية وسواد في بقعة الحلم والسؤال يتضح أكثر عمقا وهو يقول"

كيف الغراب الأسود

المهجور يحتل التراب

فوحق من وطأ التراب

حتى الصخور قنابل ترمي الغراب

 

نعم صدق هولدن حين قال (إن إعادة الخلق للعالم يقوم بالكلمة) وهاهي الكلمة تفجر تمردا عند الشاعر لتقف نقيضا لسيمفونية التمزق والموت البطيء فالشاعر لاينسىدوره وحجته في التغيير وهو يناقش بحوارية دافئة أسباب ضياع الإنسان وفقره وحيرته وضياعه قائلا:

تالله من أفنى الحياة

تلك الدراهم أم عيون الناعسات

 

ثم يتساءل بقدرية وإيمان مطلقين ما نهاية الصراع الآدمي النتيجة معروفة لدى الجميع

أناسنا مزوره

حياتنا جميلة

مماتنا بمقبره

قبورنا سوية

أموالنا مبعثره

غنينا مرتهن

بماله قد أثره

فقيرنا مقتنع وكل حال أنكره

 

ماذا يخرج الشاعر بغير هذا النشيد الأزلي فقر وجوع وفرقة وغني وفقير ماذا في الزمن من جديد أما قال الأمام علي عليه السلام قبلنا لو كان الفقر رجلا لقتلته ولكننا في شعرنا في قصائدنا لم نقتل الفقر ولم نحرك ساكنا في السلطة

ومازال الفتى عبد الرحيم ذاك الجنوبي الذي يكتوي بلهيب الصيف ويتدفأ بسعف النخيل ويداوي جرحه بماء الكوز ويتسلى بأحاديث جدته عن شجرة السدر موضوع بحثنا

كم يقف النقد عاجزا ان قراءات روح الشاعر وكتمانه ولماذا يكتم الشاعر ابقي شيء تحت البساط

يا أبا حيدر نحن لم نذق ينبوع السعادة بعد وليس من حقنا هذا وسرعان ما يخفت هذا الإيقاع الجمالي العفوي ويموت مع مواهبنا

وكم لذنا وهربنا من أقدارنا ورجعنا خائبين بلا جدوى فهل نقلع من رؤوسنا جذور رغباتنا المحمومة وهل نزرع فسيلة إن قامت القيامة ونحن ندري أن عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة

ولكننا يا أبا حيدر نهرب إلى قاع بلا قرار وندخل أذواقنا في قمقم مغلق ونصرخ في بوق مثقوب من يسمع من يفهم من يتابع من يحرك ساكنا في لعبة الحياة

بل من سال عنك عندما بعت أشياءك صارخا:

افترشت الأرض

بعت الأشياء الثمينة

في الدار

لم اختزل الصغار

لم أكن مشردا في الديار

لأبيع وطني المبتلى بلعبة زار

 

هذا رائعك تبوح به لست خائفا من احد إنها الحقيقة وقد كان حالي حالك عام 1986 بعت كتبي واخترت عشرة منها فبسطت في خمسه ميل فجاء الأطفال طلبوا سنافر والشباب طلبوا صورا للبنات والبنات طلبن بردى وأخيرا بائعة الحب الشمسي طلبت الكتب لتلف بها الشمسي (الحب) ورجعت خائبا لم أبع شيئا منها لأسد جوع أطفالي من سمعني لما كتبت قصيدتي:

بسطت في الأسواق اقصد بيعها   كي اشتري فيها رغيفا طاهرا

فإذا أتى شاب يريد مجلة                 وإذا أتى طفل يريد سنافرا

حتى أتتني صدفة دلالة                  كانت تبيع ملابسا وسجائرا

قالت فبعني بعضها يا سيدي      اطوي بها الشمسي طويا نادرا

فبكيت ذي كتبي التي جمعتها     كتبي التي تسقي البحار جواهرا

 

دع البكاء على كتبك ولا تراهن على شيء فليس بمقدورك أن تكون كما تحلم بل كما يخططون وكما يحكمون فأنت محكوم عليك بالصمت والخوف والتبعية حتى الموت فماذا تأمل وأبوك الذي تصنع الأسرة وأمك تحوك الرداء ولازالت لا تحتذي النعال نعم هذه الحقيقة المرة والناصعة بدون شك حين تقول:

أبي يصنع الأسرة

وأمي تحوك الرداء

لكنها لا تحتذي النعال

 

ولكنك تحمل الأمل على الأقل وتنتظر وثمة شيء غائب وأنت تحترق كالمدخنة وتموج في بحر الأماني

وتنسل كالمسمار خلسة من جدران الصبر

تتساقط رويدا من سياط أبرهة الحبشي

وأنت سبقك جبران قبل أجيال وقال

قتل أمري في غابة جريمة لا تغتفر        وقتل شعب كامل مسالة فيها نظر

 

ونرى الشاعر نفسيا يفكر بشي جديد شعريا لم سبقه احد إليه وهو الموت المقرر:

اجلس تحت الحيطان المهدمة

لعلها تضربني فأستريح

لأنسى همومي المعلقة

 

وهذا لا يبرر لنا القنوط أبدا فعلينا أن نسقط مرات ونقف أمام العاصفة الم تقرا قول الشاعر قبلنا"

إن الرياح إذا اشتدت عواصفها      فليس ترمي سوى العالي من الشجر

وأنت صاحب شجرة عالية فعليك أن تتحمل سقط الريح وعزف المطر

 

كم أراك مباشرا لا تكتم سرا من غضبك حين تفرش صراحتك شاعرا وأنت تعيش غربة في اليمن  وتقول:

واني بأرض الجود وعمق الحضارة

أجوب الصحارى

أطوف البراري بدون سفارة

 

وكم أراك معزيا السند باد حينما مزق الصمت واكتفى بالبر وق وانبرى محدقا بالعيون بعدما كان عشقه عشق النوارس وخصوصيته الغطس لكن زبد البحر والبجع لا يدركان خفايا الجناة ؟وكم أراك يائسا حين سكتت ربابة روحك فتقول"

تعزف لمن يلحن لها

تنشق عشرين مرة

ولا ترى شحاذا يطوف الشوارع

من اجل كسرة خبز

اطمئن أيها الشاعر أن شوارعنا بعد ألف سنة قادمة بشحاذيها بفقرها

وكم أراك مشرحا بالمشرط الطبي تلك الإشارات القاتلة"

العابدون كثيرون

وشرهم المتزلف

ينسحب بوميض خاطف

مبرقع بالصوفية

وتحت إبطه كيس مليء شرا للبشرية

 

لقد وضعت الشر في مكانه حقا وأنت تتناص معي في قصيدتي "

لا يخد عنك المرء تنظر ثوبه           وتراه يرقص في ثياب حداد

وتراه في ثوب الحسين معمما         وبكفه الأخرى سيوف زياد

 

ولكنك شاعر خلاق في رصف أضلاع سدرتك النبق

أيا  سدرة النبق تعريت قبل النوى

وكان الهزار الكسير

يزف الحنين إليك

تدفأ وقت الغروب يظل هواك

 

هذا شعر كبير وخيال اكبر وكأني أجد شعراء المهجر في أنفاسك وكأني أجد صقر عمر أبي ريشة السوري الكسير حين تقول

تحاصره صقور الجبال

فيأوي إليك كسير الخطى

تعريت يا سدرة النبق

وعاثت فؤوس العدى

 

ولن تعيث الفؤوس أبدا في سدرة نبقنا وسيبقى الهزار طائفا وستبقى ربابتك تغني وتصدح ولكن لأقداحك وألوانك  لون آخر يتنفس الصعداء :

فوجدت العلم المنسي

مشنوقا بألوان وأقداح

معبأة بأرطال من الخمر

 

لا تستغرب من هدير الخراب في الكون فكيف تفسر الزلازل والسيول والنكبات والحروب كلها اشارات الهية واضحة للبشر المسيء وتصرخ لاتلمني يا صديقي فمن الذي قدم لك اللوم ومن عاتبك كلنا نعرف الفضيحة ولكننا ننتظر الفرج القادم وثمة تساؤلات رائعة منك :

حين اهوى الليل فالليل سؤال لجواب

 

هذه صرخة نازكية يا صديقي وعاشقة الليل تعرف سر الظلام قبلنا ولكن صورك الواقعية لا تحتاج إلى تفسير:

قطة في الباب

تبكي الفار وتغازل ألف ناب

سمك في الدار  

مشوي  وعود من ثقاب

وعلى الباب نباح وعواء للكلاب

 

انك نجيب محفوظ عصرك تنقل لنا أحداث واقعك بسرد شعري

 وكم أقف منبهرا في نصك الخطابي لأبي الطيب تقول

حبلى الليالي

والهوى العذري مات

كانت مواويل تدور مع الرعاة

تنساب في قمم الجبال

فتحرقت قدماي

من لهب الحريق

فأشم رائحة التراب المستباح

 

هنيئا لك أن تملك حاسة شم على الأقل وتنظر في عين بآصرة فالحمد لله على كل هذا ولكنك تتعذب من هؤلاء الزرافات في قولك

كل الذين منحتم صدق الطريق

صاروا زرافات بلا صور تدور

 

هنا مربط الفرس كما يقولون من هنا تنطلق أنت يا أستاذ رحيم ومن هنا تتناص مع سيابك الكبير الشاعر الفحل المظلوم في وطنه مثلنا في قولك

أنا يا خليج

عاد

ما عاد سياب ينوح

عاد العراق بالف تموز يفوح

 

وكم تبلغ بك كربلاء أوج صرختها وأنت تنهل من مرا فيء الطف صورة في قولك"

فقل النصير لشعب صبر

ومنا علي ومنا عمر

فقل للغزاة بكل الشموخ

سنمحو الأثر

ويبقى العراق

ويزهو البشر

 

هنا قدحات الثقة بالوطن والمحبة له واراك رائعا في حوارك فالوطن خيمتنا وأمنا وأبونا وأجدادنا لا نتركه بيد الغزاة أريدك ان تقول معي كما قلت:

الله الله ياخوفي على وطني           على اسمه خفت من ترديده بفمي

كم هشموا الرأس بالسندان يا  فرحي    شكرا لقد عطروا سندانهم بدمي

 

أيها الشاعر أن إيماءاتك الشعرية تقوم على عناصر مطهرة ذاتها بنار الصبر وهاجسك يكشف عن عذاب بطيء وبعض أناشيدك تشكل لغزا اتركه للمتذوق الحصيف وهو يبحث عن قدحات مضيئة في الليل والقمقم الضائع المفقود عند الشاعر قد يقترب إليه الناقد مرة يخطئ ويصيب ولكنها محاولة نقدية تحمل معادلة تظل وارفة مثل سدرتك ونبقها -خاصة أن النبق في يومنا هذا أغلى من الطحين-

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1300 الخميس 28/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم