صحيفة المثقف

رواية (لورا) لفلاديمير نابوكوف .. لماذا يفكر الانسان في تدمير ذاته؟

 ( 1899 - 1977 ) يفكر في حرق نتاجه الروائي الرائع بعد ان سكب على الورق ولسنوات طويلة، من عرقه وجهده وعصارة فكره، ولو أردنا ان نبحر في ايامه ولياليه وتواريخ حياته لم نجد سببا واحدا يقنعنا انه فكر في يوم من الأيام ان يحرق إرثه الأدبي، وتبقى تلك أحجية بالرغم من ان نابوكوف كتب "لوليتا" من قبل في المقعد الخلفي من السيارة العائلية السوداء نوع أولدزموبيل موديل 1946 وكان يقول دائما انها البقعة الوحيدة في الولايات المتحدة التي لا أعاني فيها من الضجيج .

 

اما " ورا" فبعد 32 عاما من وفاته هاهو ابنه والوريث الوحيد بعد وفاة والدته يوافق على طبعها وستصدر الترجمة الفرنسية لدى دار نشر غاليمار في ابريل / نيسان المقبل، لكن الناشر الامريكي المعاصر لافريد كنوف أصدرها في كل من اميركا وبريطانيا بعنوان النسخة الأصلية للورا .

 

والرواية التي كتبها نابوكوف وهو في الثامنة والسبعين من عمره كانت في صورة بطاقات بلغ عددها 138 قطعة، كان يفكر في احراقها ثم عدل عن ذلك وعهد بها الى زوجته فيرا التي جمعتها في صندوق لم يعثر عليه الا بعد وفاتها عام 1991 ولم تجرؤ على احراقها كما طلب منها الكاتب .

 

وقصة الرواية تدور حول الشخصية الرئيسية " لورا " التي اقبلت على الإنتحار والخلاص من حياتها رغم ان زوجها كان طبيبا للأعصاب فشلت في العيش معه ولجأت الى الإنتحار وظل الطبيب حائرا في الكشف عن السؤال : لماذا يفكر الإنسان في تدمير ذاته ؟

 

هذا السؤال الكبير وضعه نابوكوف لكي يكون محور ذهولنا ونحن نقرأ الرواية ونحاول ان نقارن بينها وبين حياته، ولماذا هذا الإصرار على حرق ذلك العمل موصيا به زوجته بعد مماته ؟ أهو الخوف من " لورا " كنتاج اخير له قد لايوازي في إبداعه ما تركه لنا من روائع كرواياته: (دعوة الى قطع الرأس) التي اصدرها عام 1938 أو (حياة سبيستيان نايث الحقيقية) عام 1941 أو (لوليتا) عام 1955 أو (الحريق الشاحب) عام 1962 واعمال أخرى، أم انه تركها على بطاقات بلغت اعدادها 138 بطاقة مفهرسة لكنه لم يكملها بسبب مرضه ووفاته بعد ذلك ؟ فحتى بمعايير العبقرية التي يتصف بها هؤلاء الكُتاب الكبار ومنهم نابوكوف فهي لاتسمح له ان يصدر امرا بذلك إلا اذا كان قد وقع تحت طائلة ضغط نفسي لم يستطع مقاومته أو شيئ آخر لايمكن فك طلسمه، لكن " ليف جروسمان " الكاتب والناقد الامريكي يحاول ان يعطي تفسيرا لهذا اللغز يقول: (صحيح ان لورا صنيعة نابوكوف ولكنها من حركت كل هذا الشعور بالحنق على كل ماهو سيئ خاصة اذا كان حبا محرما، فلورا هي الموت والمتعة كما يعبر عنها في روايته، وهكذا يصبح من حقه ان يدع أحد الزوجين ان يقررا مصير حياتهما، فيختار لزوجها الإنتحار ويختارللورا ان تحرق).

 

ديمتري الأبن افصح عن احداث الرواية التي تدور حول اختصاصي في الجهاز العصبي يفكر بالإنتحار بعد الإحباط الذي يصاب به جراء شكله الخارجي غير الجذاب وخيانة زوجته الشابة، اما عن مسألة الجنس فقال ديمتري: (لا .. ليس كثيرا،فهذا ليس الهدف من الرواية)، غير انه في الوقت الذي ادلى بقوله هذا احتج وبشدة على الصحفي في " نيويورك اوبزرفر " روزنبيرغ لنشره مقالا توقع فيه نقلا عن عائلة المؤلف ان يكون الأخير حقق ثورة في الشكل الادبي في المسودة الاولية لهذه الرواية،متخوفا في الوقت نفسه من حرقها كما تسرب ذلك من وسط العائلة، وكانت صحيفة " واشنطن بوست " كشفت عام 1989 ان نابوكوف كان ينوي ان يجعل منها رواية قصيرة، أما نابوكوف نفسه فلم يتحدث عنها، وربما كانت المرة الوحيدة التي نوّه بها الى احد كتابة عندما بعث رسالة الى صديق قبل موته بثمانية أشهر قال فيها: (بدأت اكتب " ذي اوريجينال اوف لورا " قبل مرضي، وهي مكتملة تماما في رأسي وربما راجعتها خمسين مرة وقرأتها بصوت عال على جمهور حالم محدود في حديقتي المسورة، وكان جمهوري يتألف من طواويس وحمام ومن والدي ّ المتوفين منذ دهر، وممرضات شابات يتحركن من حولي، اضافة الى طبيب للأسرة طاعن في السن الى حد انه يكون غير مرئي) .

 

هذا الإحتجاج كما سبق من ديمتري على الصحفي دفعت به الى نشر مقال تراجع فيه عن ترجمته للرسالة والتي فهم منها ان ديمتري سيدمر المخطوطة فهو قد قال " قد " أتخلص منها ولم يقل " سأتخلص " وهذا التوضيح من الابن اراح كاتب المقال وآخرين، ويعتقد روزنبيرغ ان الخطأ الذي وقع فيه وردود الافعال عليه ربما اراحت ديمتري من ذرع الأرض جيئة وذهابا، ازاء القرار الذي يجب عليه ان يتخذه، فأعين العالم موجهة اليه وربما ساهمت تلك الفرصة بتقدم بعض المؤسسات البحثية او المتاحف بطلب حفظ تلك المخطوطة وصيانتها، وتوفيرها لبعض الباحثين من دون السماح بطباعتها او اتاحتها للعامة تنفيذا لرغبة الكاتب الذي لايريد لنص غير مكتمل له ان ينشر بعد رحيله، وهذا الحل سيكون افضل من حفظ المخطوطة في مصرف سويسري، فقد يضيع اثرها ولايمكن للدارسين تتبعها وفق قانون سرية المصارف .

 

الا ان الصراع الذي يعيشه ديمتري يتمثل في المواقف المتناقضة لمحبي اعمال والده، فقد كتب له أحد المعجبين قائلا : " احرقها يا ديمتري " منطلقا من ان رغبة الكاتب الاصلية هي التي يجب ان تسود، بينما يحاجج آخرون بأن النص أكثر أهمية من الكاتب نفسه، ويجب على ديمتري ان يحفظ مخطوطة لورا .

 

ويستشهد روزنبيرغ برد وصله من البروفيسور ابراهام سوشر أوف اوبرلين الذي ارسل له فقرة من اولى روايات نابوكوف التي كتبها بالإنكليزية وكانت بعنوان " الحياة الحقيقية لسباستيان نايت " وفي الفقرة المقتطعة يستعرض السارد بطل الرواية اغراض شقيقه الكاتب المتوفي بعد ما ترك له وصية مكتوبة يطالبه فيها بحرق بعض الاوراق لانه يؤمن بأن ما يجب ان يترك بعد الكاتب هو الإنجازات المكتملة وليس الناقصة سواء كانت قيمة الإنجاز معنوية او تجارية، ويتساءل روزنبيرغ :

 

" بمن كان ناباكوف يفكر عندما قدم شخصية الكاتب في تلك الرواية " ؟

الكاتب في الاوبزرفر اللندنية وليام جيه المح في مقال له نشره مؤخرا ان ما يجري حول لورا هو نوع من الشعوذة الادبية وخدعة نحن مدعوّون لأن نصدقها، فقد قيل ان القصة مختلفة وهي جذء من شريحة الحياة الحقيقية قبل ان تصقل وتتحول الى خيال، لكن بطبيعة الحال هذا هراء لأن العمل الذي نحن بصدد قراءته يفترض ان يستند الى اصول نابوكوف التي عرف بها ويمكن ان تمتد الى ما لانهاية .

 

وليس هناك شيئ رائع اكثر من هذه الكرة التي قذفها المؤلف في الهواء - اقصد لورا - التي وضعها بلا مبالاة ويبدو انه انتهى منها، وهو عمل هام ان لم يكن بالضرورة تحفة، وحتى اذا لم يكن قد أكملها فالصعوبات التي واجهته في محنة مرضه وتقرحات قدميه والآمه المتكررة بالإضافة الى امراض الشعب الهوائية التي ادت اخيرا الى مقتله لم تمنع ان يكون هذا العمل عملا ابداعيا وذلك لأن السرد الأولي امتزج مع النص وتحور الى شيئ مبهر مع ان المنولوج الداخلي للرواية يبقى مكلوما وهذا هو سر الإبداع عند نابوكوف.

 

أحمد فاضل

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1304 الاثنين 01/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم