صحيفة المثقف

إيحاءات متشظية في توجعات الجسد والروح في شعر المبدع الشاعر الكبير شاكر العاشور

المادة المتغيرة والنفس المتغيرة وكلنا ندرك بان الفكر يصرع الجسد بل يغيره والثاني يحمل رد الفعل وتشعر بتلك التغيرات النفسية على المرء عندما يمرض يذبل الجسد وعندما يخجل يحمر الجسد وعندما يشعر بالحزن تتساقط أمواج عينيه ويزداد توجعه، ولعل دراستي تلك بداية لبحث نفسي حيث يشتعل العاشور في حرائق يبتعد فيها عن غابات معتمة كلما غابت من جسده الراحة وكثر التفكير وشعلت الغربة حرائقها والشعر غير مستعد لإطفاء تلك الحرائق الكثيرة وتلك الأوجاع وكيف يصبر الشاعر ويجد حرائق الزمن تحرق ربيعاته وأحلامه وتطوي صبره وتعلق أحلامه فوق عواصف النسيان

ونجد رأي الدكتور محمد صابر عبيد صائبا وهو يقدم للإعمال الشعرية (يقدم العاشور رؤيته الخاصة كشاعر لمعاينة العصر بآفاقه الزمنية والفكرية والحضارية ليبشر بمستقبل واعد للإنسان الذي أنهكته الفقدانات والحصارات والانتهاكات التي لا تعرف الرحمة ولا تتوقف عند حد)

وهذه العبارة ستكون مدخلا مباشرا لبحثي هذا وأنا اصنع سفينة صغيرة متواضعة أمام هياكله الشعرية المصنوعة من الأوجاع فمن جسد ذابل ضعيف يتحمل أكثر من طاقته إلى روح تنحتها الأوجاع وتزحف فيها الآلام

ومن تلك الأجزاء الصغيرة الى الأكبر منها ضمن تشظيات التعب والقلق والألم،

مفارقات أجزاء جسده أولها الجبهة كلنا نعرف دائرة الشعور ونقطة العرق على هذه الجبهة في قوله:

وتاقت جبهة المحموم

تنهش وحشة القبل

فمريها

على حرق الجبين وذ وبي فيها

أيا ليلا فتصدا جبهة الصحراء

ثمة فرق بين الجبهتين الأولى بشرية ذات وصف خاص والثانية صحراء جافة يمر بها الصدأ فكيف تكون نسبة التحمل بين الجبهتين

ومن الجبهة إلى الأقل ارتفاعا العين وهنا حاسة البصر المهمة وهي حارس الإنسان وفوق مكانها الجفن في قوله"

فقبيل افتح جفني

ابغي رؤاه

يتيه فيطفأ يطفآ

لماذا الانطفاء إلى الجفن، وكأن الشاعر الطبيب شاكر يشرح معادلة طبية من جبهة إلى جفن إلى عين في قوله"

اخرج من شفتي

اخرج من عيني

ولا ينسى ما يحيط بالعين الأجفان في قوله:

حينما نتحسس ليلك يا شرق

يطفو بأهدابنا

وأنت تنزل في مسرح الجسد من الجبهة إلى ما نصل إليه الشفة وهي صغيرة الحدود ولكنها ذات أبعاد واسعة ففيها اللغو وفيها العذوبة إلا نعلم مقتل المرء بين أصغريه قلبه ولسانه ومادامت الشفة ما يرسم لنا الحكي من اللسان فهي وسيلة مهمة ومؤثرة مرة غبراء وأخرى منتزهه للسعادة  انظر قوله:

نعيت الكأس والساقي

وعدت بالشفة الغبراء

ثم يقول في نص آخر:

احترقت بين صمتك

واشتعال شفاهي

انتصبت بي عن مكاني

تلك الشفاه

التي عادت اليوم منتزهاتي وصومي

ولعلنا ننفرد برأينا في هذين النصين المركزين على الشفة فالأول ينعى كأسه وساقيه وفي الثاني تصبح الشفاه متنزها وصوما ولا نريد إلا الأداء التوقعي فالجسد المقتطع بالشفة الصغيرة وهي واجهة تتحمل عبئا في صدمات الشاعر، ومرة أخرى يزرع خريف الشفة وجعا فيقول:

أحس بأرضك الموتا

على شفتين ايبس قيظه الصوتا

وثالثهما العين وكم من أهمية للمرء فهي الباصرة والمفتشة عن الضياع والباحثة عن الفرصة والمتأملة للأشياء انظر قوله:

                               نحن أبحرنا لعينيك مع الموج العتي

نحن أبحرنا بلهفة

نحمل القلب فدى عينيك في الليل شراعا

فثمة تلاصق بين دالة البصر العين وبين المشاعر القلب وهنا يفيد العاشور بقدرته وخبرته الطويلة في تجربته الشعرية الناضجة بدون شك وهنا تتدفق المشاعر بخدمة وتعب الجسد ولكن الرؤى مستقبلة للفعل الحركي والسؤال لماذا يرهق الشاعر هذا الجسد انه حس سقراطي  كما أشار الدكتور علي الوردي في خوارق اللاشعور(ظل سقراط يكافح ويبشر بدعوته في الشوارع والمحافل والأسواق حتى انتهى أمره بان حكم عليه بالموت كما هو معروف في التاريخ )وهكذا يحرق العاشور جسده ويرهقه دون شعور وتخطيط وحين يشتد الأثر يعلق القلب مصدر المشاعر أين:

فأرخيت أشرعة الانتظار

وعلقت قلبي على الصارية

وهنا هروب في النبض الصادق إلى أعلى ما أراد الشاعر فوق الصارية لعله يسمع الرياح صوته حيث يجتمع الثلاثة في قوله:

تدانى المزار

وهذي هيه

عيون وفم

ونهر أغان وصدر لام 

عندما نتوقف هنا قليلا نجد العين والفم والصدر لأنها وسائل يقترب بها إلى هدفه ليحكي عن العاصفات ويثبت فيها شدة الموقف وصعوبة الحدث فالشاعر يبني بيتا شعريا له وسائله ومبرراته

وفي لون آخر يمد أضلاعه جسرا "

ودون عيون أحبابي

أمد اضالعي جسرا

فالشاعر لا يكتفي بعينيه ويجدهما غير كافيتين لصغرهما الجسدي وبما ان الأضلاع أطول منهما مسافة وقوة تتحمل الشدائد فيميل إليهما ليعطي وهنا الشاعر لا يتوسل وصفا دون قصد ورؤيا

وفي قول آخر يبعث دالة الإضلاع برسالة جديدة

فخذينا أضلعا

تعركها الذكرى ويسفيها اشتياق

ومن الإضلاع إلى الزند وهنا دالات التحمل تصعد مع عذابات الشاعر:

كم مدى كابرت

كم مزقت أمواجا بزندي

فالأمواج لا تحتاج ان تمزقها قوة الزند

وفي قول آخر يسرد صورة الفارس المقنع برؤى جديدة في وصف الزند:

يافارسا مر مع الفجر

زنداه غيمتا ندى

وفي جبينه

يظل حيا خالدا ما عاش اسم الله

وان كان الشاعر يختار وجه أبي ذر الغفاري في وصف زنده وكرمه بالغيمة وفي جبينه اللامع تلك العبادة الصادقة وهي قطرة المروءة والإيمان

لكنه يمسرح لنا الوسائل الجسدية شاهدة على التطبيق مع المشاعر المعبرة

مع علمه بان الحقيقة المطلقة غير موجودة في الحياة الاجتماعية على حد تعبير الدكتور الوردي، وفي رؤى جديدة يرسم الكتف قاعدة للتحمل فيقول"

اسندوا الكتف التي تهتز في ابعادهاالراية

وكلنا نعرف أين يحمل الفارس رايته وكم يلوذ الشاعر بالقوة الجسدية والتحمل دالة الرجال فيقول:

عندما أنزلني البدو

عن المهرة

في الليل

تعلمت المسيرا

ولن ينسى حتى الشرايين تتقطع والأعصاب تسحق فهو يعاني من أمراض مستديمة هي الحرمان و القلق والغربة :

تتناثر في جوفي

خطواتك يا يونس

تسحق أعصابي

تمتد على جرحي

تؤذيني

وشرايني

اشعر ان يديك تمزقها

كل الوسائل الجسدية تشترك في حمل همه فالجوف تتناثر فيه الخطوات والسحق المؤلم واضح ثم سحق الأعصاب وهي بعيدة عن المنظور وتمتد إلى الشرايين ورسم صورة الوجع بإصراره المسك باليدين فكان الألم يمسكه والإحزان تقطعه أربا مع سبق الإصرار، وهذا الخيال الشفاف الذي يبسطه الشاعر لمتلقيه من جبهة إلى هدب وعين وقلب فيحصل الصدئ في قوله :

تنشف في صيف الصحارى

غنوتي للحب

يصدا فيها القلب

فما الذي تبقى للشاعر وكذلك الصدر يأتي شاهدا في رسومات شعريته"

ونهرا صاعدا

من عطش الأرض

الى صدرك وعدا وغناءا

وفي القصيدة عن الميلاد والثورة تلتقي الحواس

قدماك الآن لا تعرف للأرض

وإنا من فرحة العينين

تسقط في كفيك

إلى صدرك وعدا وغناءا

ابعدوا وجهك عن ذاكرتي الأولى وقالوا

بعدما أحرقت الخمرة أعصابي

أو تدرين بان الليل

اذ تناين عن صدري

أتشهاك يصير الشعر في خاصرتي

فمن يحدق مليا في هذا النص لوحده يجد القدمين دالة الإقدام والبداية للقاء  ثم النظر بالعينين ثم الكفين والصدر والوجه والمشاعر والأعصاب كلها تتبادل مواقفها في رصف متاعبه، بل اكشف تصويرا رائعا في حضرة المعشوق ولم يلمح إليها أي ناقد قبلي في قوله"

أشرعت وجهي زهرة لمطر الصبح

سحبت أجزائي من العتمة

والروح في الغربة

والصوت في الصحراء

أغريت قلبي بحنين الحب

فهل تتأمل بدقة ذلك الإسفار الرائع في صور العاشور وكأنه ينحت في ضباب الخيال من شراع الوجه إلى سحب الأجزاء الجسد والروح ثم الروح وهي دالته ومتاهته ثم الصوت الذي يدهشه وكل هذه إغراءات للقلب المخدوع التائه ليس إلا، ومن الأجزاء الملصقة في الجسد إلى المتحركة اليدين مثلا يقول:

واسمعني مرة

فيداك ضفاف للبحر الضائع

كل هم عند العاشور خلاصته الأجزاء في قوله:

التحمت أجزائي بالروح

هذا كشفنا عن تلك العلاقة الدافئة بين روحه وجسده شعريا وهو يصر على رسم تلك العلاقة بل يؤكد ذلك قائلا:

توقفت حدقت في الجسد الر وح

وليس لديه من صرخة الا عذابات جسده وروحه

تفرين في اللحظات الأخيرة

تاركة جسدي

ان الشاعر لايحدد لك المناسبة وعليك ان تجهد في تفاصيلها المهم لديه ان يزرع عذاب الجسد وهو يخرج من عذاب السواحل

والشاعر يصر على خطيئة الجسد المغلوب دائما

في حزيران

انبتت الارض في جسدي سروة

ثم راودني

سمك فتآخى على جسدي زمنان

مفارقات جسد الحبيبة والأرض والصحراء

ان المرأة عند العاشور قضية كبيرة فهي إحدى تلك النساء

تبادله في المساء حديث الغرام

وعند الصباح يعانقها الآخرون

هذه معادلة خائبة بين مواعيد عرقوب ومكر النساء فالشاعر في حيرة مع المراة ماذا يفعل "

وجهك لا اعلم ما افعل

فان أنا أسلمته مت

وان أنا طلبته اقتل

هذه معادلة من الحكمة فكيف يفعل أمام تيارات التناقض في مجتمعه إزاء امرأة يحبها، وثم ينتقل للصحراء كيف يعطيها حواسه :

وفاجأت الصحراء تمزق أضلعها

وتضاجع آبار البترول

فان أضلاعه عند الصحراء تكبر مساحتها، ثم تقاطيع وجه الحبيبة في رصف محدد:

تقاطيع وجهك تنحل

تأخذ شكلا يغايرني

 

ولن يترك مساحات وجهها مكررا:

على صفحة الماء

كان لوجهك ظل

ووجهك ينهش ذاكرتي ورؤاي

ولما يصف امرأته لا ينسى شفتيها أيضا في قوله"

يابسة شفتاها وخاوية عند باب البريد

ومن الشفاه الفاعلة إلى اليدين في قوله:

سيل من الدم

في فمها

ويداها تحيطان صوت الحبيب

مفارقات الصفات المارة  لغير العاقل :مثلا البحر فينقل الشفة من العاقل إليه وهذا تجسيد رائع في قوله:

وقفت على شفة البحر نفضت يدي

فتساقط منها الماء

ولم يسقط من بين يدي وطني

وهل من شعر غير هذا الرسم الصادق والانتماء الحقيقي للوطن ثم الشفة من الإنسان مجازا إلى الحاضر في قوله"

ومن ماض يخضر على شفة الحاضر

ومن الحاضر إلى الورد في قوله"

هنا الرمل ينبت في شفة الورد

والذراع من الإنسان إلى الشوق في قوله"

وتمتد اذرعه الشوق

لا وقت للوقت بين الغريق

لقد تلمسنا بدقة ذلك الغوص الدقيق في باطن تجربة الإنسان ورؤيته كما أشار الأستاذ الدكتور محمد صابر عبيد وكان صادقا في رؤيته فهو يشير إلى وجود الفرد في الجماعة ومصير الجماعة في ظل الفرد، وأقولها دون جدل شعري أن العاشور صاحب خبرة وحرفية وناضج التجربة في عمله الشعري كله وقصائده تستحق التأمل والقراءة وما هي كما يكتب البعض بخواطر تأتي على البال وإنما الشعر الخلاق يأتي من شاعر مبدع

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1310 الاحد 07/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم