صحيفة المثقف

دراسة عن التضمين في شعر الجواهري

هنا أقصد التضمين في الشعر، وأرى انه: وضعُ أو إدراج أو زج أو وصل شعر من نتاج آخرين يعمد إليه شاعر، ويـُحتمل أن يكون بيتا كاملا أو جزءا منه  شطرا أو عجزا، ويمكن ان يكون أكثرمن بيت .

التضمين يفترض ان يسير على وزن القصيدة العمودية نفسها، ويجري على قافيتها ورويها، وربما يعمد المضمن ُ إلى التقديم والتأخير لكي ينسجم ذاك ويتجانس مع القصيد .

إن اختيار البيت المضَمن يدل على  ســَعة قراءات، وحفظ الشاعر لشعر السابقين، وفهمه لأفكارهم ومقاصدهم، ولذلك هو يفلح إذا كان الشعر المضمن قد جاء لسد ثغرة وفجوة تجري مجرى أفكاره، ورؤيته، ولا تشذ عنها في قصيده، إنما هي أفضل مما لو أراد هو الإتيان به، لسبقها، ومتانة سبكها، فهو بخبرتة وحرفته يحس بفضلها و أصيل صورتها، فتكون حلـْقة في حلقات السلسلة التي يصنع ُدون أن يستشعر انها ناشزة عنها، وهنا تظهر مقدرة الشاعر وحسن إختياره .

أنا شخصيا أعمد إلى تجربة:  أستلُ البيتَ المضمن من القصيد، فإذا اختلت القصيد معنى ورؤية وفكرا،فإن الشاعر قد أفلح في تضمينه وإلا فالبيت المضمن زائد، فائض، فاقد وظيفته .

الجواهري شاعر عملاق، وكبير، والتجول في حدائق شعره يفصح عن عظمته،ويجد القاريء المتفحص والطالب والدارس  الكثيرمما ينشد .

 في هذه الدراسة نتجول معا لندرس تضميناته الرائعة:

 

تضمين جزء من بيت

في قصيدة الشاعر السليب قال:

(بلينا وما تبلى النجوم) الرواكد  رسوم عفت منها العلا والمحامد .

والبيت للشاعر لبيد وهو:

بلينا وما تبلى النجوم الطوالع  وتبقى الجبال بعدنا والمصانع .

 

وقال الجواهري في القصيدة نفسها:

أراكم (حسبتم كل بيضاء شحمة) من الناس أو ضاقت عليكم فدافد .

وهذا من مثل، فيقال:

ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة . والتقدير كما يقول سيبويه،- ولا كل بيضاء شحمة -، راجع كتاب نزع الخافض في الدرس النحوي لحسين بن علوي بن سالم الحبشي .

في قصيدة تذكر العهود قال الجواهري:

ودام مقامك في الوافدين (كالركن ما مسح الماسح).

وهي من قصيدة لعمر بن أبي ربيعة:

ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح .

في قصيدة الأحاديث شجون:

دجلة والنيل والشام معا (والصفا) تندب شجوا (والحجون).

وهذا من بيت أصله:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر.

بلى نحن كنا أهلها فأبادنا صروف الليالي والجدود العواثر.

و هو للحرث الجرهمي – راجع لسان العرب لإبن منظور –

أو أن التضمين يكون من قول الأعشى:

فما أنت من أهل الحجون ولا الصفا ولا لك حق الشرب في ماء زمزم .

فنحن مذبذبين في تضمين الجواهري بينهما .

وقد ضمن الأول شهاب الدين بن عبد الرحمن بقوله:

فقلت ولي في رسيس صبابة وفي القلب مني لوعة وغرام

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم تهرق هناك مدام .

راجع نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة للمحبي

في قصيدة الى الرصافي:

وإلا فأنت المانع الصغر (عن يد أبت ان تحلى في الجنان أساورا) .

ربما من قوله تعالى فقد وردت في الكهف 31:

(يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا)

ووردت في الحج 23 و فاطر33:

(يحلون فيها من أساورمن ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير) .

 

وربما من قول البحتري يوم أنشد في حضرة أبي تمام  ومنها قوله:

لبس الحديد أساورا و خلاخلا  فكفيته التسوير والتطويقا .

في قصيدة  وفى الربيع قال:

الله يشهد انني القى الهوى (بلسان فاسقه وقلب عفيفه) .

وأصل الشعر لمحمد سعيد الحبوبي:

إن لي من شرفي بردا ضفا هو من دون الهوى مرتهني

غير اني رمت نهج الظرفا عفة النفس وفسق الألسن .

 

وفيها أيضا ضمن الجواهري:

قلم سقاه فيض كفك فالتقت (بيض الأماني بين سود حروفه)

هذا من قول الشاعر:

لما فضضت ختامه فتبلجت بيض الأماني من سواد الأسطر

- راجع خريدة القصر وجريدة العصر للعماد الأصبهاني - .

 

في قصيدة في الأربعين:

أو تحتقر (و سيوف الهند مغمدة فقد نظرتم اليها والسيوف دم)

وهذا من بيت المتنبي:

قد زرته وسيوف الهند مغمدة وقد نظرت إليه والسيوف دم .

ملاحظة: يعني المتنبي أنه زاره وقت السلم ووقت الحرب، فعبر عن وقت السلم بالسيوف المغمدة، وعن وقت الحرب بالسيوف دم .

في قصيدة علي الخالصي:

خطي على صفحته (هكذا يرفع من مات شهيد الإبا)

لم أجدها وربما يعني موسى الرضى عليه السلام من القول:

طوبى لموسى من فتى شهيد .

في قصيدة اي طرطرا:

خلا لك الجو وقد طاب (فبيضي واصفري)

ونقري من بعدهم (ما شئت أن تنقري) .

والشعر مشهور وجرى مجرى المثل ويقال ان أول من قاله طرفة بن العبد:

يالك من قبرة بمعمر خلا لك الجو فبيضي واصفري

ونقري ما شئت ان تنقري قد رحل الصياد عنك فابشري

ورفع الفخ فماذا تحذري لا بد من صيدك يوما فاحذري .

وفي قصيدة ذكرى وعد بلفور:

 (نطوف مانطوف ثم نأوي الى بيت) اقيم على (اقتراح)

وهذا من بيت عمرو بن شاس:

نطوف ما نطوف ثم يأوي  ذوو الأموال منا والعديم

وفي قصيدة ذكريات:

وكأنما انشق الضريح له بـ (رعى السحاب ضريحه وسقى) .

وهذا ربما أصله من قول عمر بن عبد العزيز الديلي:

فسقى الإله ضريحه متهللا سحا يسلسل من متون غمام .

راجع كتاب جمهرة نسب قريش وأخبارها للزبير بن بكار .

وبما أصله من شعر أبي منصور الحلاب:

سقى الله صوب الغاديات ضريحه وأكرم من دار البقاء مآبه .

- راجع يتيمة الدهر للثعالبي - .

و ربما أصله من النثر (مات فلان رحمه الله،وتغمده الله برحمته،وأفرغ عليه سحائب رحمته،و جاد بالرحمة ثراه، وبل بصيب الرحمة ترابه، وأمطر على ضريحه سحائب الرضوان،)  من كتاب نجعة الرائد وشرعة الوارد في المترادف والمتوارد لليازجي .

 

تضمين نصف بيت

في قصيدة فطار الحمام:

تزاحمت فيك أماني الورى (والمورد العذب كثير الزحام)

وأصل البيت للشاعر المشهوربشار بن برد، وهو:

يزدحم الناس على بابه والمنهل العذب كثير الزحام .

راجع محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني

وقد أنشد الجاحظ:

يزدحم الناس على بابه والمشرب العذب كثير الزحام  .

راجع التشبيهات لإبن أبي عون

وقد ضمن هذا الشاعر عبد الجبار بن حمديس من العصر الأندلسي، فقال:

لئن تزاحمنا بساحاته فالمورد العذب كثير الزحام

وقد تأثر به إيليا أبي ماضي، فقال:

فإن تجدنا حولها عكفا فالمنهل العذب كثير الزحام .

وهناك ديوان شعر بحوالى ستة آلاف بيت بعنوان (المورد العذب) لعمر الانسي .

في قصيدة جمال الدين الأفغاني:

ولما كنت كالفجر ابلاجا (وكالعنقاء تكبر أن تصادا)

وأتبعه:

مشيت بقلب ذي لبد هصور (تعاند من تريد له العنادا) .

كلاهما من قول ابي العلاء المعري:

أرى العقاء تكبر أن تصادا فعاند من تطيق له عنادا

فلو خبرتهم الجوزاء خبري لما طلعت مخافة أن تصادا .

ملاحظة: هنا يقصد النسر وليست العنقاء بما تعنيه العرب، فالعنقاء (الداهية، يقال: حلقت به عنقاء مغرب، وطارت به العنقاء، وأصل العنقاء طائر عظيم معروف الإسم مجهول الجسم) القول للصاغاني في العباب الزاخر – راجع خزانة الأدب لعبد القادر البغدادي - .

في قصيدة  يا أحبائي:

قلت لا ترجع لعهد سلفا (ان عمرا شب عن أطواقه) .

أصل الشعر لأبي الحسن البطليوسي في عمرو بن مذحج الأشبيلي، وهو:

رأى صاحبي عمرا فكلف وصفه وحملني من ذاك ما ليس في الطوق

فقلت له عمرو كعمرو فقال لي صدقت ولكن ذاك شب عن الطوق

- راجع المغرب في حلى المغرب – لإبن سعيد المغربي .

في قصيدة الذكرى المؤلمة:

حبيت الى سمعي مقالة احمد (أأحبابنا بين الفرات وجلق) .

وهذا لأبي العلاء المعري:

أأحبابنا بين الفرات وجلق يد الله لا خبرتكم بمجال

أنبئكم اني على العهد سالم  و وجهي لما يبتذل بسؤال .

في قصيدة بين قطرين:

وإني وإياه كما قال شعره (مغاني اللوى من شخصك اليوم أطلال)

سيرد فيما بعد .

في قصيدة المتردون:

وماذا يريد الناس وأنما (لنفسي صلاحي أو علي فسادي) .

وللوليد بن يزيد:

إن في ذاك صلاحي وفلاحي ورشادي .

يلاحظ التشابه في الروي لكن لا وجود للفساد، إنما كان الوليد فاسدا .

وللسيد النقيب الكامل بن الشريف:

ودعني والثناء على مبر عرفت به صلاحي من فسادي .

- راجع كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء لإبن أبي أصيبعه - .

وللحسن بن المبارك:

ودعا عذلكما لي في فسادي أو صلاحي .

- راجع الوافي في الوفيات - .

وربما من:

إذا ما الصلاح فيكم فساد  ففسادي الذي لديكم صلاحي .

راجع غرائب الإغتراب للآلوسي .

وقال أبو عبد الله بن الحجاج:

أفسدتني بعد صلاحي وهل  يرجى لإفسادك إصلاح

راجع التذكرة الحمدونية .

وقال الواسطي:

حان حصادي ولم يصلح فسادي

راجع محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني .

ولأبي نصر عبد العزيز بن نباتة:

دعهم وقلبي لا أريد رجوعه أبدا فقلبي كان أصل فسادي

لو يعلمون صلاح حالي بعدهم ما فرقوا بيني وبين فؤادي .

ولأعرابي:

ابتغي اصلاح سعدى بجهدي وهي تسعى جهدها في فسادي .

في قصيدة بغداد:

(ولولا كثرة الواشين حولي) أثرت بشعري الداء الدخيل

وهذا مشهور للخنساء .

في قصيدة ليت الذي في وقع النوائب بي:

أخو الندى وأبو العلياء اذا انتسبا (كناية بهما عن اشرف النسب)

وهذا من قول المتنبي في رثاء أخت سيف الدولة:

يا أخت خير أخ يا بنت خير أب  كناية بهما عن أشرف النسب .

 تابع القسم الثاني من الدراسة

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1331 الاحد 28/02/2010)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم