صحيفة المثقف

الانتخابات القادمة .. حبر الضمير وصوت العقل

 جميع الفرقاء يدعون الى وحدة الصف، ورغيد العيش، والأمن والأمان، وربما يذهب الغلو ببعضهم الى جعل شعاراتهم اكثر براقة من المعجزات ..

كل هذا يحصل في كل أو أغلب انتخابات العالم النامي أو " المتخلف ".. وجريا على عادة التقليد أخذ المشاركون في العملية الانتخابية العراقية بممارسة هذا الحق، فأقام الجميع عرسا لامنياتهم ونواياهم بطرائق مختلفة تتفق علنا مع المتطلبات القانونية لعميلة الانتخابات وتفترق عنها في دهاليز وانفاق الصفقات السياسية .

..............................

 

في العالم المتحضر .. هناك خطوط واضحة واستراتجيات بيّنة لمسار العمليات الانتخابية مع وضوح معقول لبرامج الفرقاء، بسبب استقرار هذه المجتمعات السياسي والاقتصادي والامني وتوافرها على دساتير دائمة تنظم وبدقة تامة حقوق وواجبات للرعية والرعاة في كل حين وشأن . ناهيك عن الاستفادة القصوى من كل التطورات التي تحيط بهذه المجتمعات داخليا وخارجيا، اي انهم وبسبب استقرارهم وحصانتهم الدستورية سيصبحون قادرين على التعامل مع المتغيرات المحلية والاقليمية والعالمية بروح الند وليس التابع، وهناك دلائل كبيرة في حياة الشعوب التي نضجت في هذا الطريق الحضاري الذي يؤدي الى تداول السلمي لادارة الحكومات، وليس للبحث عن عصمة او ولاية أزلية لقيادة الناس.

........................

 

في العراق الامر مختلف تماما لأسباب كثيرة، ليس آخرها هو أن العراق لم يزل يحبو في الطريق نحو إقامة دولة المؤسسات والدستور الدائم، دولة الحقوق والواجبات، دولة القانون والانظمة، إذ لا تجمعات عشائرية وانماط عرفية ومحرمات دينية ونوازع طائفية وعرقية .

الانتخابات اليوم تمثل خطوة نحو نضوج العقل العراقي في المسيرة الديمقراطية، فالعراق بعد سقوط صدام مر بمراحل وادوار استحالة متغيرة من " حكم الجنرال غارنر الى بول بريمر ومجلس الحكم الى حكومة مؤقتة بقيادة علاوي، الى حكومة الجعفري الى المالكي " مع وجود برلمان، ومؤسسات مجتمع مدني وصحافة وفضائيات، وهما فضاء الاتصال المفترض نضجه قبل السياسي .

لا ادعوا الى يوتوبيات ستتحقّ في العراق، ولا أتوقع ذلك لان الغالبية لم تزل تؤمن بالمهيمن المتاح من الخطاب الديني والقومي والعرقي .. والعلمانية لم تترسخ تماما في ذهن العراقي ليس بسب قصور التجربة العلمانية للدولة العراقية منذ تأسيسها 1921، او خلل في هذا الكائن الوارث للقوانين والمسلات وحانة جلجامش ونزوعه للخلود، ولكن غسيل الدماغ الذي قُدم للعراقي طوال عقود من الزمن، وهو الخارج الآن من نفق الظلمة، سيظل يؤثر فيه الى سنوات قادمة لا شك، ولكن المهم جدا ان العراقي يواصل الانخراط في العملية السياسية ويبتعد عن العنف " أو ما يسمى بالمقاومة الشريفة !!" .المقاومة فعل انساني قبل كل شيء وهي فعل العقل ولغة الحوار قبل رد الفعل والقتل والتكفير والتهجير والتخوين .. الخ.

...................................

 

في انتخابات الرئاسة الامريكية السابقة في عهد بوش الإبن، كان الصراع على أشده بينه وبين السيناتور كيري، ولم يقدم الطرفان وعودا عسلية او احلاما وردية، لانهما في النتيجة سيكونا محاسبين أمام سلطة الدستور وليس نرجسية الوعود، وفي ختام جولات محمومة من المنافسة حتى صار الفارق بين الغريمين لايتعدى آلاف الاصوات المشكوك فيها من قبل فريق السناتوركيري، الا ان كيري قد اعترف بفوز الرئيس بوش ولم يذهب الى المحكمة للتدقيق والتمحيص واعادة الفرز للاصوات، ليس قصورا منه ولا عجزا، بل لانه رأى ان الامة الامريكية بحاجة الى رئيس واحد متوافق عليه لادارة الازمة التي كانت وما زالت تواجهها الادارة الامريكية في العراق، ناهيك عن استراتيجية امريكيا في خوض حرب شاملة ضد الارهاب في العالم .. لقد تنحى السناتور كيري وهو يحمل غصّة شخصية، ولكنه كان وطنيا امريكيا بإمتياز وسياسيا ناجحا . هذا المثال أسوقه ونحن نشم رائحة الاستعداد للتزوير والمماطلة والتسويف لتمرّ الانتخابات كما يحلو للمتنفذين، وهو أمر يجب ان يكون عامل حماس وطني لاحباط هذا الانتهاك غير القانوني والاخلاقي، او التقليل من آثاره على نتائج العملية الالنتخابية برمتها.

...................................

 

يقع البعض في شرك ووهم كبيرين عند مقارنة الحرية بالديمقراطية، وهذا ينسحب على برامج المرشحين للانتخابات وأحلام المقترعين .

 الحرية نزوع انساني فطري، وهي تؤخذ ولا تعطى، بينما الديمقراطية هي شكل من اشكال النظام السياسي، وهو عادة ما يحصل المواطن على نعمته او نقمته عبر الاشتراك في نظامه وألياته التي تقود الى فوز هذا وخسارة ذاك مع ضمان المشاركة في الحكم بالتوافق أو البقاء خارج الحكم وتمثيل المعارضة انتظارا لدورة انتخابية ثانية لازاحة الخصوم بالاقتراع فقط .

..............................

 

في العراق نحن في السلّم الصحيح للوصول الى النظام الديمقراطي رغم كثرة العثرات، وشيوع نموذج السياسي الفاسد والمثقف المنخذل، والمواطن العاجز، لكن هذا ليس هو المستقبل .

من يرى بدقة وبعين فاحصة موضوعية الفرق بين العراق في نظام صدام وبين سقوطه في السنوات الاولى والان، سنجد الفرق معقول ويدل على نضج متواصل .

امريكا في زمن الرئيس اومبا غير مكترثة تماما في التدخل في الشأن العراقي ولو ظاهريا، لاني الرئيس اوباما لم يتصل بالمالكي منذ مدة ليست بالقصيرة على عكس الرئيس بوش الذي كان دائم الاتصال بالمالكي عن طريق الدائرة التلفزيونية، ومهما يُفسر الأمر من رغبة امريكا في ترك العراق لأهله لتقرير مصيرهم، او إحباط امريكي، فان الامر يدل على ان التقليل من التدخل في الشأن العراقي من قبل جميع الاطراف الاقليمية والدولية سيصب بصالح نضج تجربة العراق وامتحان للبرامج والعقول السياسية والثقافية والفكرية وحتى لعامة الناس للخروج من ازمة النفق بأقل الخسائر وبمستقبل معقول ومنظور عمليا وواقعيا .

.......................................

 

البقاء على التل ليس هو الأسلم في الظرف الحرج الذي يمرّ به العراق، فالصوت العراقي اليوم هو الأثمن والأغلى، وهو الذي يمثل طريقة العراقي الحضاري والمدني في التعامل مع المتغيرات السياسية والثوابت الدينية . الصوت العراقي في السوق الآن، فمن اراد لحنجرته واصبعه ان لا يتلوثا بغير حبر الضمير وصوت العقل، فعليه الذهاب الى صناديق الاقتراع وليعطي صوته لمن يستحق، ليس وفق سعر الصرف والاهواء والانتماءات الضبابية ...

.. اما الذين يريدون مقاطعة الانتخابات وهو حق لهم، بل هي ربما طريقة سلمية جدا للهروب من كل السلبيات التي رافقت الانتخابات السابقة وكذب ممثليها وفشلهم في انجاز الحد الادنى من وعودهم الانتخابية .. انهم يشعرون بالانخذال من الساسة العراقيين وهذا امر واقع، ولكن موقفهم هذا يقود الساسة الذين خذلونهم الى الامعان في خذلان اخرين، ويقود العراق الى متوالية من الاصوات الرافضة للدخول الى التصويت، وهو موقف يضعف حجة العراقي السياسي الشؤيف .

ثم ان العزوف عن الانتخابات سيولد عصا غليظة يمثلها اعضاء البرلمان والحكومات الاتشريعية والتنفيذية، لادرارة دفة الحياة واستصدار القوانين والمصادقة عليها .

......................

 

الاحصائيات الحالية لاستطلاع الري العام العراقي تشير بوضوح الى غلبة للاحزاب الاسلامية والقومية، فان يكن اصرارنا على مقاطعة الانتخابات او رفع السلاح ضد العملية السياسية سيؤدي بلا شك الى شيوع هذا النمط من الديكتوريات التي تنجبها الديمقراطيات في ظل غياب دستور دائم .

 الصوت العراقي اليوم مطالب ان يكون بعيدا عن صدأ الحناجر وضلال الشعارات، بعيدا عن التطرف، قريبا من الانتفاح على البرامج الوطنية والاشخاص الذين نتوسم فيهم الحد المعقول من الوفاء الى الهوية العراقية، بعيدا عن التحزب والتخندق والقتال من اجل الهويات الجزئية، كالدين والطائفة والعرق ..الخ

أمام الناخب العراقي فرصة لصياغة مستقبله والمشاركة الفاعلة به .

...................

 

حدثني صاحب لي من المغرب العربي فال: ليس لكم الفضل في الديمقراطية، امريكا هي التي ازاحت صدام ؟

قلت: صدقت .. ولم ازد، لانني اعرف ما يفكر فيه الحكام قبل المواطنين في دول الجوار العربي، وما بعدها في مشرقنا السعيد ومغربنا العتيد .. انهم يتوجسون من العراقي، لان يكون امتدادا نوعيا لحضارته، لمدنيته .

الصوت العراقي القادم هو مداد الحياة العراقية، التي نساهم بصنعها معا . حياة مدنية ودستور دائم وشعب يستطيع ان يقرر نوع الحياة التي يريد و يستحقها بجدارة

..................

 

خاتمة

الدولة الدينية أثبتت وبجدارة فشلها الذريع في الفكراللاهوتي أولا، إذ أعلن السيد المسيح عن إستحالة وجودها، وهي بالتالي دولة يفترض ان تكون روحية خالصة، وكما جاء بقوله " مملكتي ليست من هذا العالم " وأعلن علمانيته التامه عندما قال " أعطوا مالقيصر لقيصر .. وما لله لله "، ولقد حاولت الكنيسة المسيحية ان تكوّن دولة دينية فأنتهى بها المطاف الى محاكم تفتيش ومجازر بأسم الصليب يندى لها جبين الانسانية، ولكن العقل الغربي حسم خياره بفصل الدين عن الدولة . وهذه اليهودية المتمثلة في دولة اسرائيل لازلت تمثل وضعا شاذا ضمن تركيبها الاثني و محيطها الاقليمي، وتحاول جاهدة كل حقبة ان تتراجع عن احلامها التوارتية،رغم إمتلاكها لإمكانيات مادية وسلطة إعلامية وإدارية فذة.

أما النموذج الحالي للدولة الاسلامية والذي رفضه الشيخ الازهري علي عبد الرازق قبل عقود، وطرد من الأزهر على أثر نشره كتابه " الإسلام وأصول الحكم " ودعوته التنويرية. نراها اليوم تتمثل في ايران الجناح الشيعي .، وفي المملكة العربية السعودية، الجناح السني، وكلتا الدولتين لم تقدما النموذج السليم والحضاري للدولة الحديثة، وفشلتا في الطيران بأجنحة الدين لبناء دولة عصرية، رغم القوة العسكرية الكبيرة لإيران والاقتصاد القوي للسعودية .

وعلى الناخب العراقي أن يتحمل نتائج أختياره .

 

 

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: تذكر قبل ان تنتخب .. دور الشعب في تقرير مستقبل العراق 03 - 05/03/2010)

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم