صحيفة المثقف

الجرح القديم

وكنت قد خلقت من الوقت وقتا جديدا ثم أنني عصفت بالأزمنة والأمكنة التي ذهبت عساكرنا إليها ووجهت الريح كما شاءت حين اقتلعت جذور الأشجار وعصفت بالجبال. تذكرت الحكمة القديمة التي تقول أن الريح أقوي من كل شيء ولا يوقفها إلا الجبال بجبروتها.وأن النار تأكل كل ما حولها ويطفئها الماء في البحار.

كش ملك وهات الحصان، الذي خرج مهرولا من الصراع المحتدم، مصدرا صهيلا محموما وكنت تجلس قبالتي. في مواجهتي ثابت العينين علي الرقعة. تركز كل تفكيرك علي الوزير.. بطيئا.من مكانك ترقب الساعة، كان عقرب الدقائق يمر.مملا تدق الساعة في رأسينا المليئتين بالوجع دقا منتظما ينمي التعب في اتجاه جديد. تناوش الضجيج معك.تشاغلني ثم تسأل أين رحت ؟ فلا تجدني معك. تشد ساقيك للإمام وتتمطى..علي مهل، تجيء العذابات واحدة ، واحدة

حين استرخيت تتأمل السقف تبص بجانب عينيك منتظرا حمرة الشمس الواردة علي نهر صمتك اللعين المستوحد.

وعفاف تبتسم لك وتقف مستندة بيديها قبالة الشباك المفتوح الذي تأمرني بإلقاء سجائري منه، يدخل الهواء البارد يداعب خصلات شعرك الذهبي المشاغب.يا أيها الولد الذي لاذ بصمت الخريف عن الشتاء

كش ملك..ولا وقت للشعر

أنت لم تكن جالسا كنت قاعدا علي الشلتة في منتصف حجرة خاوية تهز قدما واحدة عيناك صامدتان حلقك الجاف جّف.لما طلبت إليّ أن أساعدك في الانتقال أمسكت بيدك ووضعنا الرقعة بيننا.

عسكري قفز للإمام خطوتين ثم مال علي جانب مبتسما..ساخرا منك

ضحكت وانحرفت تجاعيد وجهك عن شكلها المعتاد تمددت في أرضية الحجرة هازئا مني ومن اللعب  !! همجيا وقفت كنت عصبيا ومتوترا. بقايا غرفتك الفوضوية بعثرتها ورميت الكلمات علي المعاني صوبت نحو رأسي حروف العلة.جميعا وفقعت عيني بأدوات الاستفهام

في الركن المنزوي زججت بحرف الجر الوحيد .. ياه

تقول: تعبنا.. أقول: زمانا تقول: وقفنا.أقول: تعبنا.

تقول: زمانا نلم دماء الحمائم. نرسم في السر أجنحة وقفنا

لم يكن للعساكر أجنحة.كنت تساوي الجنود في صف منتظم بيد خبيرة تضع الطابية والفيل والحصان تقص شارب الملك وتحلق رأس الوزير ثم تقبله تسقط عفاف علي الأرض منهارة باكية تفركش العساكر لتهرب من زحام القتال تخبط فوق الأرضية بكفك وتلعنها وتلعن نفسك وأيامها والأيام جميعا. تضع إصبعها في فمها وتبتعد مذعورة وتقف علي جانب \ استندت بكوعك تساوي الركعة أعلنت الحرب في نهم وقلت انك تكره الأسَود أعدت الحروف حيث مدخل الكلمات لتسقط أشعار عبد الصبور من الذاكرة..

تشيح بوجهك بعيدا عن ناحية التراب ونفخت هف. ف . ف. وعلا التراب ولف ودار

سألتني ثانية.. قلت لا أعرف.

قلت انك تعرف وأنا لا أعرف وهذا بديهي

كنت أتأمل الرقعة. وأحاول فهما ما تفعل

لكنا سكتنا حين بكي الملك بكاء شديدا ونام في أحضان الفيل.والوزير في أحضان الحصان والطابيتان راقصتان في سعادة بالغة 

كش ملك.. خطوة واحدة،أمسكت الفيل من زلومته وأمرته بمهاجمتي دعوته للابتعاد عن الملك. جرس الساعة يرن في قمة رأسك الوحشية. أطفأت أخر سيجارة في علبتنا وفي الزمن المالح. أطبق عليها أصابعي في غيظ مكتوم وألقيها خارج الحوار.

كانت قطع الشطرنج مرصوصة أمامنا تتحرك أليا. حين تحدثت عن ظلمة التفاصيل الفارغة من الظلال وعن هامشية الوقت. خطوة علي الكلمات خطوة. خطوة  مشتعلين بالضجيج  مزدحمين بالقلق والتوتر .موقفا واحدا من العالم كي تنفرط الدقائق في سلة الصمت المهول انفرطت الدقائق من مسبحة طويلة لصمتنا المستبد.لكيما يمر المساء يمر.ونحن كنا في منتصف الضجيج والرصاص ينهال علينا

كانت قدميك هذه المرة تؤلمك عن ذي قبل وأنت تضحك ضحكا منزوعا من حساب الوقت وتذكر الصحراء ومناورات الجيش قبل الاستعداد والرمال دهاليز صمتك. وجهك المنفرج الأسارير بصقته علي سقف الغرفة الأبيض الداكن.وناديت إدريس ونوح والملائكة إلا من آذن له الرحمن

مددت يدك إلي يدي والي قطع الشطرنج وأخرجتها

قلت أنني لم أدخل الجيش لأن لي وساطة كبيرة.

قلت: كش ملك.. ومات !! ولا داعي لان تعايرني وأعايرك

عايرتني بالشيب وهو وقار ليتها عايرت بما هو عار

في ذات المساء كنت أنا وأنت والوقت والريح خلف زجاج النافذة هادرا والملك فاردا قامته يرقب طلقات الجنود يدافع ببسالة

الفيل مندهشا من الملك ويهز خرطومه في الهواء رافضا كل شيء، حرن الحصان ورفض اللعب لما أصبح الصباح كنت والوقت وقدمي في خطين متوازيين كل شيء ينساب. ينساب،قطع الشطرنج أمامنا نحسب الخطوات بالميزان. يلعن مكان الحصان الأبيض يكز علي أسنانه من الغيظ وقدمه تؤلمه تنحرف تجاعيده السمراء أليا ،حركت العساكر كلها للإمام والوزير يمينا والفيل يسارا والحصان خطوتين والثالثة علي جانب والطابية في خط مستقيم.هل هكذا كان كل شيء يسير ثم أعدتهم إلي مواقعهم مُنسحبا في أمان هل هذا هو ما حدث ؟

 بالضبط يا سيدي

صرخت بشدة لما انثنت قدمي تحت ثقل جسمه الثقيل، ألقيت بالمنبه خارج اللعبة وتقيأت الوقت جرعة واحدة طويلة. أمسكت نبض السكون الذي أتعبك وقلت: أين ذهبت عفاف ؟.

يا عفاف ؟

أنا هنا.وأنت هناك. والوقت والملك، قطع الشطرنج محنية الرؤوس في استسلام بارع أمامنا. بيد أن الكلمات غرقت منا في لجة البحر الذي أحب. حين أحببت عفاف صارت موجا يشكل نخرا في شاطئ عمري ولكنها مضت تطفو علي الزبد ميتا/ ميتا. وحين تزوجت. أنجبت عفاف. هل تعرف أريد قدما أكثر طولا لكي لا تظهر عرجتي. أنا لا اخجل منك.. هل تفهمني. لا اخجل منك.

تقول: زمانا

أقول: تعبنا

تقول: بدأنا.في اللعب ثانية، لا تحرك العسكري لأن الحصان مضروب، كز علي أسنانه وهو يعصر الشوق في راحتيه لتذوب الشمس علي مهجتها النبيلة كانت تهيئ لي الوقت والكلمات. ولا تستطيع فراقي لحظة واحدة. وهذه مثلها وأشار علي عفاف.غير أننا حين مررنا علي الأغنيات تركناها ومضينا.لا تشغل البال بماضي الزمان كم الساعة؟ لا أعرف. كم الساعة ؟

رفع المذيع من فوق كرسي الإذاعة وألقاه خارج الحوار كسر الميكروفون والسماعات وصوت النشيد الحزين ممسكا الراديو بين يديه الاثنين يهم بإلقائه في وجهي وإذا به ملقيا إياه من فتحة الشباك الذي القي سجائري منه.. وتفر الدمعات واحدة / واحدة

أين أنت يا عفاف؟

-كش ملك..

-لم يمت بعد..

اشتد هدير الريح خلف زجاج النافذة مبعثرا بقايا الأصوات الآتية من الخارج والساعة كانت العاشرة ولم يسألني عن الوقت بعد..أنخرس الضوء وكل شيء، لعن الظلام وإدارة الكهرباء والعاملين ووجهي وبصوت جهوري. أعلن أنه هنا وأني هناك والوقت مارا بيننا وأنه أوقف نزيف السنين. شق العام الألف لعمره وراح يجعل من الفراغ هندسة للطبيعة..وللمواقف تباريح وشجن بلا معني

نادي: عفاف.. يا عفاف يا بنت يا عفاف..

جاء التيار الكهربائي نظر في المرآة بعينين بارزتين من نحاس رديء ثم أمسك الوزير ملقيا إياه خارج الرقعة.عسكري ترك مكانه دون خوف ومضي وحيدا.أين ذهبت عفاف ؟

ألعب / ألقي بالفيل الأسود من النافذة  وقال أن مهمته انتهت الأن وضحك وبكي وشهق ومسح دموعه.. ألعب. رميت الطابية بقرف خارج الرقعة

قلت أنها احتلت موقعا غير موقعها .

كان كوب الحليب البارد والبرتقالات اليتيمة في مكان لا يسمح بمد يدي علي أحدهم وعيونا تنظر إلينا من لوحات الحائط. تراقب بأسى، أوراق النتيجة في السنة المليون تلعن وجودنا وتصفنا بالجهل والغباء لأن الكمبيوتر أصبح كل حياتنا. بابا.لته البريء ما زال يغطي مساحة صغيرة أمام المنضدة وهي تنادي.. بابا . بابا. الأكل جاهز. مزق بقايا رغيف الخبز علي قطة تتمطى في مكعب صغير من الغرفة الخالية.

قال: الوقت كالسيف أن لم..

راح يلعن ويضحك مبهورا ويبكي. يمسح صورة أبيه ذو الشارب الكثيف الملون ويلعن أيامهم معا ووجه أمه الريفي الأصيل ويتأمله بود لا مثيل له.

-كش ملك ومات .

كان لا زال واقفا علي حافة المنضدة، عاهرة. عفاف التي أحبته زمان... عاهرة

حمل برواز صورتها القديم وقبلها وانشغل في حصار مع الحزن والكلمات .. مشي فوق ما تبقي من فتات هزيمته، ووقف ليس متوترا تماما ولكن مستعدا لأن يكون كذلك في اللحظة القادمة، كش ملك يا أستاذ، القي بالمرآة وصور عفاف خارج الحوار وبالوقت خارج الحجرة.. وهم بإلقاء الرقعة وأنا هنا. وأنت هناك. والوقت مار بيننا

أقول : زمانا تقول تعبنا

أقول: زمان تقول وقفنا نلم حصاد الهزيمة

أين ذهبت عفاف ؟

الصباح كان هزيلا والملك ميتا وطفلتك الرقيقة تنادي

بابا.. بابا.

تعالي يا عفاف.تلك التي سقطت من غير داع عادت سقطت،

وكنت قد تركته يلملم فلول عساكره المهزومة.

اشرف الخريبى

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1336 السبت 06/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم