صحيفة المثقف

مرايا علاوي وقيادة القطرين

طالباً منه العودة الى العراق والمشاركة في القيادة من جديد، فردّ علاوي على الرسالة بأن من الأفضل لصدام الاستقالة والخروج من العراق والإ فنحن قادمون لإخراجه من الحكم عنوة .

كان علاوي في تلك المرحلة قد قطع شوطاً في دفع الأمريكان لوضع خطط الاطاحة بصدام التي توجت لاحقاً في عملية الغزو عام 2003.

التخطيط  في المستوى الاستراتيجي للوصول الى السلطة ليس جديداً في التاريخ العربي، فقد ظهر مروان بن الحكم كمخطط من هذا النوع، حيث  بدأ العمل منذ عهد الخليفة الأول ثم تواصل في عهد الخليفة الثاني الذي اغتيل بعملية اشكالية بيد ابي لؤلوة المجوسي من دون معرفة الدافع والمحرض الحقيقي، بعدها الدور المشهود الذي لعبه مروان بن الحكم في عهد الخليفة الثالث وما اثير من فتنة انتهت بمقتل الخليفة، ثم الاضطرابات التي اندلعت ايام الخليفة الرابع والنهايات المعروفة وصولاً الى نهاية يزيد بن معاوية، لتصل الخلافة الى مروان الذي أورثها من بعده الى ذريته  بعد ازاحة الخصوم الاقوياء عن طريقه واحداً إثر آخر .

اختلفت الأزمنة، واختلف طريق الوصول الى السلطة - في العراق خاصة - لكن الجوهر مازال واحداً، لقد سقط نظام صدام الذي كان المسبب الرئيسي لانقسام البعث بين سوريا والعراق، يذكر السوريون ان أحمد حسن البكر طلب من حافظ الاسد التعاون معه لازاحة صدام، لكن الأخير ردّ بإزاحة البكر وافشال مشروع ميثاق العمل المشترك عام 1979 و كان من ضمن بنوده ان تكون فيه رئاسة القطرين للعراق فيما يحتفظ السوريون بقيادة الجيشين الموحدين كما كان مفترضاً .

سقوط نظام البعث في العراق، حسم القيادة نظرياً لصالح السوريين، لكن زمنهم قد تغير هم ايضاً، فلم تعد على رأس الحزب قيادة تاريخية بحجم الاسد الأب، وانما شاب غرّ لم يكن ضمن تراتبية القيادة في الحزب، بل جاء الى السلطة بترتيب طارىء من والده الرئيس – حافظ الاسد – قبيل وفاته بأشهر قليلة، وبعد مصرع الشقيق الأكبر باسل الأسد الذي كان معّداً لخلافة والده .

تبعثر البعثيون العراقيون وانفلشت قياداتهم بين جناحي يونس الأحمد وعزت الدوري، وقد فشل الاثنان في اسقاط الديمقراطية في العراق رغم كل الدعم الذي قدم لهما وتعاونهما مع منظمات القاعدة  وحلفائها .

لقد بات واضحاً ان العنف ليس حلاّ، فكلما ازداد البعثيون اغراقاً في انتهاج العنف، كلما فقدوا فرصتهم بالعودة الى السلطة بثوب جديد .

لكنهم مازالوا قوة منظمة بإمكانها احداث ارباك للعملية الديمقراطية في العراق  وان عجزوا عن اسقاطها، كما انهم يشكلون ورقة مهمة بيد  نظام بات وجوده عبئاً على الترتيبات المستقبلية للمنطقة، فالنظام البعثي في سوريا مازال يحكم على الطريقة القديمة التي كان يتبعها صدام حسين، لذا فإن (شعاراته) مازالت تعتبر نوعاً من رافعة لقوى الممانعة لعملية الصلح مع اسرائيل وبالتالي ترتيب المنطقة على ماطرح من مشاريع . صحيح ان ذلك النظام ليس قوياً  من الناحية العسكرية،  وبالتالي فالحاق الهزيمة به وارد كما حدث لـ(شقيقه) في العراق، لكن قد تكون لذلك مضاعفات تعرقل الحلول السياسية بدل ان تدفعها للامام، خاصة ان البديل في سوريا ليس متوفراً كما كان عليه الامر في العراق حيث قوى المعارضة موجودة وفاعلة بما يكفي لاستلام السلطة حين سقوط النظام، وهوماجرى طبقاً للمراحل الامريكية  المرسومة سلفاً .

النتائج الأولية للانتخابات العراقية أظهرت ان علاوي قد عزز وضعه السياسي بانتخابات ديمقراطية حقيقية لا كتلك التي تجرى في سوريا، وعليه فقد ارسى علائم تأثيراته ودعائم شعبيته، وهو قد حقق قفزة لايستهان بها فرفع رصيده الى ثلاثة اضعاف عما كان عليه في الانتخابات السابقة – 2005- .

اياد علاوي يقدم نفسه للاطراف الدولية والاقليمية  في اربع مرايا، فهو عربي الأصل وعروبي السياسة  وشيعي المذهب وليبرالي التوجه، وعلى هذه المرايا جعل من نفسه نقطة التقاء: للعرب الذي نظروا في مرآة اصله غير المختلف عليه، وللبعثيين الذين رأوا أنفسهم  في مرآة بعثيته السابقة واحيائها الحالي، كما انه ليس مستفزاً او مثيراً للخوف لدى الشيعة مع مرآته  الشيعية التي وان انتابها الغباش لدى الشيعة اليوم، فإن امكان صقلها يبقى وارداً  من دون التورط بطرح مذهبي،  اما ليبراليته فهي موضع المراهنة  أمريكياً واوربياً، باعتباره  الاقدر على التلاءم مع موضوع الديمقراطية من الاسلاميين الآخذين بالتراجع النسبي  في مجتمع لايحمل تعصباً دينياً قياساً بغيره من شعوب المنطقة، لكن رغم ذلك ينبغي مراعاة المكون الاكبر في العراق فلاديمقراطية من غير رضا الاكثرية ومشاركتها الفاعلة .

تلك هي الصورة العامة لكل من المشهدين العراقي والسوري،الأول  بلد ثري يعزز ديمقراطيته باندفاع وحيوية، مبتعداً في الوقت عينه عن قرع طبول  الحرب وراسماً من ثم  لوحة قد تصلح نموذجاً مستقبلياً لشعوب المنطقة، فهو رغم تعدد المذاهب والاديان والاثنيات، ورغم استثنائية التغيير ودمويته، استطاع تجاوز كل ذلك نحو ارساء تعددية سياسية حضارية السلوك في تبادل سلمي للسلطة، كذلك اثبتت التجربة العراقية ان الشعوب العربية تواقة للديمقراطية بدليل نجاح كل الانتخابات التي جرت في العراق رغم صعوبة الظروف التي احاطتها، وبالتالي فالديمقراطية ليست مخلوقاً هجيناً مصدره الغرب كما تحاول القوى المتطرفة تصويره.

ان الحلّ الأكثر قابلية للتصور لمعضلة الحكم في سوريا، قد يكمن في  نجاح تجربة بعث جديد بقيادة جديدة ترسخ اقدامها في العراق وتمدّ اذرعها من ثم الى مفاصل البعث داخل سوريا نفسها للدفع نحو التشابه في تجربة مدفوعة الثمن، ذلك لأن التغيير في سوريا لن يأتي داميا أو بانقلاب عسكري، انما من داخل التشكيلات البعثية نفسها التي قد ترى ضرورة اجراء تغيير  في مؤتمر عام يعقده البعث هناك، للدفع من ثم بقيادات لاتنتهج السياسات ذاتها، في وقت تكون فيه لإياد علاوي تأثيرات من مستوى ما على مايجري في ارهاصات البعث  السوري الذي يبقى الحلم يرواد بعض قياداته في توحيد البعث بشقيه  العراقي / السوري   .

من هذا المنطلق يمكن تفسير اصرارا علاوي على فتح قنوات قوية التدفق مع السوريين، مع طمأنةً المحورالسعودي / المصري، اي مراكز القوى العربية التي قد تعرقل توجهاته الاستراتيجية، بخلاصة أن ما يسعى للوصول اليه داخل العراق كوثبة اولى ومن ثم التأثير في الوضع السوري كتوجه استراتيجي، من شأنه خفض منسوب التوترلدى الكثير من الانظمة العربية من مشاغبات النظام السوري ومزايداته في شأن الصلح مع اسرائيل، وهو المشروع الذي يقع ضمن خيارات كل من السعودية و مصرالاستراتيجية مع  بقية الأنظمة العربية في واقع الأمر  .

من جانب آخر، سيكون لتنفيذ ( سيناريو ) كهذا، نقطة تحول استراتيجية على صعيد الملف الإيراني، اذ ان علاوي لايراهن على ايران ولايحرص على اقامة علاقة متينة معها، وبالتالي فهو الاكثر قدرة على انتزاع العراق وسوريا من التاثيرات الايرانية وما تعنيه من قلق في المنطقة امتداداً بنقاط التوتر التي يشكلها حزب الله في لبنان وحركة حماس في غزة التي تدفع نحو تحولات قد تفجر منطقة الشرق الاوسط بأكملها، ما قد يضع مصير اسرائيل على المحك للمرة الاولى منذ تأسيسها، وبالتالي وصول المنطقة الى حافة الكارثة النووية وانعكاساتها المدمرة على العالم بأكمله،وذلك لطبيعة الموقع الحساس لمنطقة الشرق الاوسط التي تربط بين عالمين – الشرق والغرب – وتحوي مصادر الطاقة الأهم، ان علاوي وبعثه المتجدد، هو الحلّ الأنسب للوقوف بوجه التطرف الاسلامي والحدّ من زخم التنظيمات الاسلامية واشكالات خطابها  كمايرى الامريكيون والاوربيون .

لاقائد للبعث في العراق غير علاوي، فالوحيد الذي يمكن ان يزاحم علاوي- وان بنسبة ادنى - كان صالح المطلك، وقد أبعد بشخصه دون قاعدته، فجرى الالتفاف على ابعاده بتقديم شقيقه ابراهيم المطلك ليكون على قائمة ( العراقية )، وهكذا لم تنقسم ( جماهير ) علاوي ولم تتبعثر كتلتة الناخبة، كما ان المطلك بعد ادراكه بأن الخطة تتجاوز وجوده دون ان تلغي دوره، قبل – وان على مضض - بما وضع فيه .

البعثيون العراقيون جميعهم تقريباً قد بايعوا  علاوي لقيادتهم، فهو قائد بعثي بإمتياز، لم يتردد فيما سبق، من الاعتراف العلني  بأنه تعامل مع اكثر من 30 جهاز مخابرات من اجل اسقاط صدام، وقد كرر مافعل وبشكل علني ايضا حينما حرص على الاجتماع مع مديري جهازي المخابرات في كل من مصر والسعودية – كل على حدة – في اشارة ضمنية انه قادر على الوصول الى هدفه عن اي طريق  .

ليس بالضرورة ان يكون هذا السيناريو قد وضع ضمن خطة مكتوبة أو متفاهم عليها بحيث تحمل امكانية  وصولها الى النظام السوري وبالتالي يعمل على عرقلتها واجهاضها، لكن المهارة فيها انها تسير بدافع ضمني، اي ان السوريين يعتقدون ان وصول علاوي الى حكم العراق أو تثبيت وضع قوي فيه سيكون لصالحهم على المديين القريب والبعيد، فهم حزب يحكم من دون شريك، فيما يواجه علاوي وضعاً يبقى قلقاً بوجود قوى سياسية أخرى لايستهان بقوتها وتأثيراتها، وبالتالي سيبقى بحاجة دائمة الى دعم ( الرفاق ) في سوريا .

لكن المفارقة التي يراهن عليها علاوي، انه يتقدم بثبات، فيما خصومه جميعاً يبدون في وضع المراوحة، فالمالكي الذي حقق فوزاً لافتاً، كسرت من اندفاعته الأصوات التي اتهمته بالتزوير، وذلك قد يجد آذاناً صاغية كونه على رأس السلطة، كما ان المالكي حتى لو تخلص من تلك التهمة، فإن ناخبيه انما صوتوا له بشكل قد يكون ظرفيا مؤقتاً،  وبالتالي  فهومهدد بفقد زخمه اذا لم يستطع تحويل فوزه الى برنامج عمل يؤطره فكر سياسي يتجاوز حزب الدعوة ويقدم بالتالي نواة اساسية لفكر وطني عراقي يمكنه ان يستقطب جموع الناخبين ويحول التعاطف الطارىء الى حالة ثابتة .

أما الائتلاف الوطني، فهو عموما قد تشكل من قوى تعتمد الخطاب العقائدي  التقليدي ركيزة اساسية في تحركها، واذا كان للخطاب المذكورزخمه في هذه المرحلة، فإنه قد يصل الى مرحلة لايعود كافياً وحده في مجتمع يمور بالتجدد، اذ لابد من رفده بطروحات تدفع به نحو التبلوروالمعاصرة،  وعليه ينبغي عدم  الاكتفاء بما يمنحه الخطاب العقائدي بل ضرورة طرح مشروع استراتيجي لفكر سياسي متطور يبلو ر هوية وطنية برؤية متجددة، وبإستثناء تيار الاصلاح الوطني بقيادة ابراهيم الجعفري الذي مازال امامه مساحات بإمكانه التحرك فيها لتطوير طروحاته الفكرية والسياسية، لايتوقع لبقية اطراف الائتلاف ان تبني برنامجاً يمكنه وقف اندفاعة علاوي مع كل مايحصل عليه من دعم اطراف دولية واقليمية فاعلة، الا اذا رفد ت تحركها بمناهج اخرى لاتبدو متوفرة في هذه المرحلة.

تلك  خلاصة لقراءة أولية عشية ظهور النتائج الاولية للانتخابات العراقية التي قرعت طبول التشكيك بها للحد من تأثيرات النتائج التي ربما لم تكن متوافقة مع ماوضعته الاطراف الاقليمية والدولية من تصور، وبالتالي ابقاء الفائزين في موضع اهتزاز الثقة تمهيداً لخطوات لاحقة ستقدم عليها الاطراف الدولية التي تنتظر ان يكون العراق نقطة الانطلاق  في المنطقة لادريئة الإطلاق  .

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1344 الاحد 14/03/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم