صحيفة المثقف

مسامير علاوي ومغناطيس المالكي

أياد علاوي الشخصية الاشكالية، ونوري المالكي الشخصية العدائية، تنافسا في الانتخابات (على المنخار)، وبقيا على هذه الحالة حتى اللحظات الاخيرة .

لقد مثل الرجلان حقيقة التموجات السياسية التي مازلت تفعل في العراق، فبين إرث مازال حاضراً في رؤيته بقاء العراق تحت مفاعيل مقولة (العراق جزء من امته العربية)، وبين محاولة بلورة هوية وطنية ترى ان جزئية العراق ينبغي تجاوزها بعد دخول العراق  طوراً آخر مختلفاً عما سبق، يسيرالعراق بين رؤيتين محاولاً تجاوز مطبات وعراقيل كثيرة.

دولتان فقط من بين جميع دول المنطقة، مازالت الهوية الوطنية فيهما تعاني من اشكالات متعددة الاوجه – العراق ولبنان – وللمفارقة فانهما البلدان الوحيدان اللذان تمارس فيهما الديمقراطية  في المنطقة العربية برمتها، وفيما تكرست ديمقراطية التقاسم في لبنان على قاعدة : 6و6مكرر اي توزيع المناصب السيادية ومقاعد البرلمان بين المسلمين والمسيحيين بالتساوي – وضمن تنوعات كل منهما -  ولصغرمساحة  لبنان ومحدودية الدور الذي يمكن ان يلعبه في المنطقة ، فإن اللبنانيين ايقنوا بأنهم جزء من محيط اوسع لايستقر بلدهم من دون تفاهمات اقليمية ودولية تنتج بدورها معادلة داخلية، ذلك لأن قابليتهم للتأثر تفوق قدرتهم على التأثير .

لكن الوضع مختلف في العراق، فمفصلية موقع العراق وقدرته على التأثيرفي الدول المحيطة، قد تعادل وربما تزيد في بعضها عن قدرتها على التأثير فيه، وان اختلّت المعادلة بعد 2003، لكن  ذلك الاختلال حالة متغيرة لا تمتلك  الكثير من عوامل الادامة .

جردة سريعة لتأثيرات دول الجوار في العراق، ستبين ان لدى الاخرين نقاط ضعف بامكان العراق استغلالها في المدى الاستراتيجي، ابتداء من نقاط القوة لدى ايران التي تتمظهر في المجموعات والقوى التي تتلقى دعما  ماليا من ايران، وباستثناء بعض المجموعات الخاصة التي قد تعمل على ارباك الوضع الامني، فان احداً من القوى السياسية، لايغامر باشهارارتباطه بايران وبالتالي يضع نفسه في موقع الارتباك، لكنه سيعمل ضمن مفاصل حركته، على تمرير صفقات اقتصادية مجزية لصالح الشركات الايرانية من باب تبادل المنفعة، وضمان عدم اتخاذ توجهات عراقية مناهضة  لايران، لكن وعلى الرغم من ذلك، فإن لايران خواصرها الرخوة كذلك، فاشكاليتها السياسية الداخلية لاتقل حساسية عن اشكاليات العراق، كذلك توزعها الاثني بما يحمله من تناقضات، وهي كلها عوامل اهتزاز،ونوافذ يمكن الدخول منها للتأثير في الوضع الايراني

اما في الحديث عن سوريا والسعودية، فالامر اكثر تعقيدا، اذ ان هناك مكونات مجتمعية وسياسية عراقية، ترى نفسها اقلية في الداخل، لكنها اكثرية ضمن المحيط العربي، لذا ولكي يبقى ذلك المعادل الموضوعي قائما، وفي ظل تشوش الانتماء الوطني الذي يحسم ملامح الهوية الوطنية ويحدد اطرها ومعاييرها، يبقى ذلك المكون عرضة لتدخل تلك الدول، رغم احساسة باشكالية وضعه وحيرته بين مايراه من تبلور هوية وطنية عند غيره من الكيانات العربية المحيطة به، وبين التباسات انتمائه لوطنيته، كحال معظم الاقليات في البلدان المتعددة الاثنيات التي تعيش مرحلة التحول، فالمعروف ان الاكثرية بمفهوم الاجتماع ماقبل السياسي – الديني او الاثني أو الطائفي – هي التي تقود في العادة المشروع الوطني وحمايته حيث تعتبره مصدر قوتها وهيمنتها في الوقت عينه، فيما تنشّد الاقليات الى ولاءات فرعية (خارجية) متماهية معها، وان ادركت انها قد تكون مجرد جسر يعبره آخرون، لذا غالبا ماتكون الاقليات في غياب المشروع الوطني، هي الاكثر قلقا وعدم استقرار .

العلويون في سوريا، يشعرون بالتقارب مع شيعة العراق وعلويي تركيا، لكن شيعة العراق مازالوا يصارعون لتثبيت سلطتهم،وهم يواجهون تحديات لاتجعلهم مركز جذب لعلويي سوريا حيث السلطة  فيها لحاكم علوي بثوب سني، ذلك ما يجعلهم يشعرون بنوع من الاطمئنان الى ان وضعهم ليس مهدداً، كما ان بينهم وبين شعية العراق فاصل جغرافي تشغله (السنية العراقية) التي تشكل حاجزا طبيعياً وسياسياً يصعب اختراقه، أما علويو تركيا، فهم يعانون اضطهاداً يلغي معه مجرد تفكيرهم بهوية خاصة .

السنة العراقيون لايعيشون الوضع ذاته من حيث الولاء الفرعي، فهم يجاورون الاردن وسوريا والسعودية من دون فواصل سوى الحدود السياسية التي لاتمنع التعاون ان اقتضى الأمر كما حدث بعد سقوط النظام السابق 2003، لكن وبعد مسار الاحداث العراقية، وجدوا أنفسهم مجرد جسر يعبره الاخرون لدخول العراق، وهو ما أوقعهم في اشكالية أكثر صعوبة، فهم من جهة لايستطيعون ان يكونوا ضمن مكونات تلك البلدان بالمعنى السياسي والدستوري، وبالتالي فالواقع القطري يفرقهم عن غيرهم رغم اجتماعهم في المشترك المذهبي، لكن ذلك وحده لايكفي كعامل اطمئنان يتجاوز الحدود السياسية، ولايلغي كذلك ضرورة المساهمة في بناء وطنهم وبلورة هويته  سلوكيا واجتماعيا وسياسيا .

وفي وقت مازال فيه الشعور المجتمعي عند السنة  طور النمو، في يقينية ان الكيانات العربية قد تشكل نوعا من القلق لانتمائهم الوطني وليس اطمئناناً بالضرورة،  يشعر شيعة العراق بأن ايران ورغم المشترك المذهبي معها، تشكل فعلاً عامل ارباك قد يعطلّ اشتغالهم على الدفع بهويتهم الوطنية نحو الصعود ومن ثم  التقدم على ماعداها، وبالتالي فهم اقل اشكالية في قلق الانتماء فيما خص المشروع الوطني،ومن ثم الانخراط فيه بقوة كلما قطعت الاوضاع العراقية شوطا نحو الاستقرار.

ولأن العراق هو الوحيد من بين الدول - المجاورة تحديداً - الذي مازل مشروعه الوطني طور النضج بخطوط بيانية ، لذا بقيت حدوده السياسية مفتوحة للآخرين كما حدوده الجغرافية .

أما السعودية، فقد كشفت تجربة  المواجهة مع الحوثيين مقدارالهشاشة النسبية للوضع السعودي الذي ظهر انه ليس منيعاً بوجه التأثرات القادمة من خلف الحدود، كذلك تموجات المجتمع السعودي الذي تعصفه رياح الديمقراطية والتحولات الجارية من حوله، وهي عوامل لابد انها تشكل قلقاً جدياً لأركان الحكم المطلق في نظام  بات يتقلص وجود امثاله في العالم أجمع،وعلى ذلك اختصار، يمكن القول ان قابلية العراق للتأثير في الجوار ليست قليلة بدورها،من هنا جاء مشروعا كل من علاوي والمالكي ليمثلا قاعدتين محوريتين، ففيما شكل الاول مسماراً، كان الثاني مغناطيساً.

ظهور علاوي على المسرح الانتخابي العراقي بهذه القوة، كان بمثابة وقع الإلتباس ،إذ حمل نجاحه على هذه الشاكلة،تحديات كبيرة عليه مواجهتها، لقد رأت فيه الاطراف الداعمة، مسماراً يمكن غرسه في الجسد العراقي للنفاذ من خلاله : الى الحكم بالنسبة للبعثيين، وكسر المشروع الشيعي بالنسبة للعرب، وتحجيم دور ايران (العراقي)  بالنسبة لامريكا .

المسمار لايستطيع التحكم بحركة الآخرين، بل يجبر على ان   يتحكم الاخرون بحركته ومقدار اختراقه لما يريدونه من جدران، وبالتالي تنتهي مهمته الى الجمود وعدم الفعالية سوى تعليق

( معاطف ) الاخرين، وهو ما ظهر عليه اياد علاوي في مرحلة اعلان النتائج،حيث  بدا مديناً لتلك الجهات بصعوده الدراماتيكي، بيد ان الانتقال من حالة (المسمار) الاستخدامية كما يرغب الداعمون،الى مرحلة القطب الدينامية كما يرغب علاوي، يحتاج الى جهد استثنائي لتبييض صفحته في الداخل، وشطب ماسجل على صفحته الاقليمية من اشتراطات ومتطلبات جراء العون الذي قدم له .

لقد لعبت الانظمة العربية في ورقة علاوي ببراعة، فهي لم تخف رغبتها بل واصرارها على تغيير المعادلة السياسية المستجدة  في العراق بعد 2003، وقد فاز علاوي بأصوات المكون السني بشكل رئيس من دون حضور مماثل في المكونات الأخرى، لذا وضع  الحراك السياسي في العراق امام احتمالين : أما العودة الى الاصطفافات الطائفية لشعور الشيعة بالاستهداف عن طريق مختلفة هذه المرة، اذ قد يكون لصعود علاوي وبالشكل والحيثيات  التي رافقتها، مايشبه نسف مرقد الامامين العسكريين في سامراء حيث دفع الى التعاون مابين الخصوم – التيار الصدري والمجلس الاعلى - اما القبول بالنتائج والتعامل معها، فقد يعني قلب المعادلة على قواعد جديدة، وفي كلتا الحالتين تكون الانظمة العربية قد حققت غاياتها .

المعطيات بمجملها، تؤشر الى ان علاوي قد أخرج نفسه من المعادلة بدل ان يدخلها بالقوة التي حاول امرارها في النتائج الانتخابية، فقد ارتكب مجموعة من الاخطاء كان لها تأثير سلبي في جوهرها رغم انتفاعه منها ظاهرياً، انه مطالب بإيفاء التزاماته أمام القوى الدولية والاقليمية المعنية بصعوده، وهو عبء ثقيل سينوء بحمله، اذ لابد ان يحاول كل طرف جذبه الى مايريد : الأمريكان يطالبونه بمهمتين :محاولة التأثير في الوضع السوري، والحد من التغلغل الايراني، والسعودية ستطالبه بتقديم بعض الرموزالسنية لتكون لها الكلمة الفصل في الدولة العراقية، أما السوريون فيطالبون بعلاقات مميزة ودالة سياسية باعتبارهم قيادة البعث المركزية، فاذا حاول علاوي المواءمة  بين مصالح هذه الاطراف مجتمعة، فإنه سيحشربين تضارب المصالح لكل دولة وطرف على حدة، وبين متطلبات العراق  الوطنية من جهة اخرى، تلك مهمة تبدو مستحيلة بذاتها، ومع ما يضاف اليها من رفض سياسي من مكونات أخرى فائزة، تكون مهمة علاوي قد دخلت مرحلة الاستحالة، لذلك فإن الحل الامثل الذي قد يخرج

 (العراقية) من الإرباك، هو ترشيح الهاشمي لرئاسة الجمهورية، مقابل ترشيح محمود عثمان لرئاسة مجلس النواب، فيما يبقى المالكي رئيساً للوزراء، تلك تشكيلة ممكنة تجمع بين  متطلبات الهوية الوطنية  واحترام ارادة الناخبين، وبالتالي ترد على  مقولات تكاد ان تتكرس في الواقع العراقي بكل ما تحمله من خطورة، ومفادها: (لايمكن ان يحكم العراق الا بتوافق اقليمي على الشخص المناسب) وبالتالي دفع العراقيين الى القبول بهذه المعادلة المريرة كأمر واقع كما فعل اللبنانيون من قبلهم .

الخلاصة، ان علاوي قد شرع الابواب مجددا لتدخل دولي واقليمي واسع النطاق، وبدل ان يكون ذلك التدخل مستتراً، أصبح واقعاً معترفاً به ومرحباً به كذلك، وهو ما يعيد العراق مجدداً الى نقطة الحراجة في بعثرة هويته الوطنية التي كان يعاني من عدم نضجها منذ تأسيس دولته الحديثة عام  1921 .

في المقابل ظهر المالكي بموقع (المغناطيس)  وهو مركز جذب يتحكم في حركة الاشياء الملتصقة به او المنجذبة نحوه  .

لايدين المالكي بفوزه لأحد سوى لأصوات الناخبين، وبالتالي فهو ليس ملزماً بالوفاء بتعهدات قطعها لقوى اقليمية أو دولية كما عند خصمه، ذلك ما يمنحه حرية في الحركة وزخم في الفعل يحتاجهما العراق لانتزاع هويته من ثقل التدخل الخارجي .

الخلاصة ان انتخابات  2010قد ادخلت العراق في رهانات ليست سهلة، فقد ربط احدهما بعجلة القديم في  الجوهر والمتجدد  في الشكل، وبالتالي فهو قد يرضي الخارج لكنه لن يرضي الداخل بالمقابل، فيما عمل الثاني على تحصين الداخل بوجه الخارج، وفيما تشير الدلائل الى ان الخيار الاول الذي يمثله علاوي سيعاني اشكالات كبيرة مع بقائه عرضة للاهتزاز والتشتت، يحاول المالكي تثبيت ركائزه الداخلية التي هي اكثر قابلية للثبات،انهما اشبه بمعادلتين  كيمائيتين تعتمد فيها  تجربة المالكي على عنصر واحد رئيس، فيما يحاول علاوي جمع عناصرمتعددة في عملية (تأين) تظهر صعوبتها في واقع التفاعل والمواد المساعدة .

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1353 الثلاثاء 23/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم