صحيفة المثقف

عبد الستار ناصر .. صراخ لا يمنعه الضجيج!

العراق الذي ودعه - بالدموع منذ سنوات، قال: (في بلدي نحتاج الى أن نصرخ على عشرات السنين التي ذهبت سدى، أن نصرخ وربما أن نبكي على خسائرنا التي لا حدود لها) . *

 

أيقنت بعد كلام ناصر أن عمرنا بدأ يذوي كما النخلة التي اصابها مرض، بسبب هذا الاهمال الذي يتعرض له أصحاب القلم من أصحاب القرار! يا أهل القرار عبد الستار ناصر يموت على مهل في غربته،الاتعرفون من هو هذا العملاق أو كأنكم تقولون لنا: (كفاكم كلاما، فقد مللنا من قصصكم، ورواياتكم، ودواوين شعركم، هوذا قولكم لناصركما المسه، ناصر حبيس الدار والمرض، وهو ما ستقولوه لنا حينما تجدون أننا بدأنا نخط بأيدينا نعينا الآتي يوما بعد يوم .

 

لم تعد أصابع كاتبنا تعينه على الكتابة بسبب تلك الأزمة القلبية والدماغية التي داهمته قبل شهور ونجا منها باعجوبة، تلك الاصابع التي خطت لنا مأثرته " الطاطران "، و" حياتي في قصص "، و" سوق السراي "، و" باب القشلة "، و" حمار على الجبل "، و" على فراش الموز "، و" الحكواتي "، و" سوق الوراقين "، و" كتابات في القصة القصيرة والشعر "، و" الهجرة نحو الامس "، وعشرات اخرى من القصص والكتابات الادبية والنقدية، ومع انه لايستطيع الفكاك من هوس ووسوسة القراءة والكتابة فقد تركها منذ ستة شهور وحتى اليوم بسبب ما أصابه إلا ان رفيقة دربه الاديبة والروائية السيدة هدية حسين أخذت على عاتقها كتابة وطبع ما يمليه عليها ليكون على تواصل مع قرائه الذين لم ينسوه في حبوره ومرحه، صحته ومرضه، غير ان الذي يستفزه هذا الصمت الذي يعيشه أو هكذا يقول: (لاشيئ يستفزني غير الصمت الذي أنا فيه .. ماكنت أصدق يوما أنني سأكف تقريبا عن القراءة والكتابة؟) . فاذا أردت ان تحكم على الكاتب بالموت فامنع عنه هذه الوسائل، فقد قالها الاديب الروسي سولجينتسين مرة وهو يغادر روسيا منفيا بسبب آراؤه وكتاباته: (ليس بامكانكم قتلي بسهولة، لكنكم إذا اردتم ان تنفذوا موتي سريعا فامنعوني عن القراءة والكتابة) .

 

عبد الستار ناصر وبعد ان كان مالئ المكتبات بكتبه، والصحف والمجلات بمقالاته، وشغل النقاد بهم، مسافر لم تتعب قدماه من السفر، هاهو يمضي يومه بين النوم والنوم، لا انشغالات ولا قراءات ولا زيارات، انها شكوى يبوحها ناصر بعد ان كان لا ينام إلا سويعات قليلة، ويومه مليئ بوجوه يلتقيها وأخرى يودعها، كان لايعرف شيئا أسمه الفراغ ففي قلب الزحمة يولد العمل كما يتوهج الابداع .

 

هذه الشكوى قالها ويقولها عشرات المبدعين الذين سكنوا الغربة فلم يسأل عنهم أحد، واختيارات المنافي لم تكن ترفا سعوا اليه بقدر ما هو محض تجني طالما كانت هناك قسوة، ففي ضل "جمهورية الخوف" * راح العشرات من مبدعي العراق يتوسدون المنافي بحثا عن الأمان والحرية، حطوا فيها ولم يك في جيوبهم إلا دراهم معدودة، فسكنوا حيطانا مهدمة واعشاشا متهرئة، لكنهم سرعان ما قاموا كما العنقاء فأعادوا البريق لاسمائهم وشغلوا تلك المنافي بكتاباتهم وفنونهم، انها صنعة لايقدر عليها إلا من عركته الحياة وعجنته الآلام، وناصر أحد هؤلاء .، فهو ما إن وطأت قدماه أرض الغربة حتى شمر عن ساعديه وامسك القلم بعد ان هجره سنوات، ففي كتابه " الهجرة نحو الأمس" يعطينا ناصر صورة مجسمة لواقعه الذي بدأ يتفتح من جديد فيقول: (هي فكرة خطفت مثل نيزك ذات ليل، أن أجمع بعض النصوص وأربطها بما جرى في حياتي، زائدا ما أملكه من معلومات عن أدباء العراق وما حل بهم من هجرة وموت وشتات وأسرار، الكتاب حزمة حقائق عن زمن أسود ما كان من أحد يصدق يوما بأنه سينطمر ويمضي الى الجحيم بعد أن تحررنا منه ... منذ الثالث والعشرين من تشرين الاول / أكتوبر 1999 حتى الثالث والعشرين من شباط / فبراير 2007 نشرت عشرين كتابا في الرواية والقصة القصيرة والنقد والمسرح، بينما كتابي هذا - نشر عام 2008 - وحده الذي لاأعرف ماذا سيقال عنه، فهو دون هوية معقولة وبلا نسب أو أب أو عائلة أو عشيرة .

كونوا أنتم عشيرته إن شئتم، والمهم أنه جاء الى الدنيا بعد ولادة عسيرة وليس من الرحمة أن يعود إلى الرحم) . *

 

كان لايفتأ يتذكر الاحباب والاصدقاء وقد كتب عنهم مع أول وصوله دار اغترابه كتابا اسماه " باب القشلة " نشره في العام 2003 يقول فيه: (هذا الكتاب يتمم كتابي السابق " سوق السراي " اجمع فيه شلة رائعة من الشعراء والروائيين وكتاب المذكرات احكي فيه عن اصدقائي واساتذتي واقراني من المبدعين افتح باب بيتي وقلبي امام فاضل العزاوي، وعدنان الصائغ، وعبد الرحمن الربيعي، ودنيا ميخائيل، وعبد الرزاق الربيعي، وسعد جاسم، وحسن النواب، كما احكي فيه قصة قراءات مهمة في اعمال ادوارد سعيد، وهرمان هسه، وجوردن توماس، وخالد محمد غازي، وسلام عبود، ونقاش مفتوح مع لنا عبد الرحمن، وفاطمة المحسن، واحلام مستغانمي وباقة ورد في ذكرى جان بول سارتر الكبير، الى جانب مجموعة من المقالات استذكر فيها همومنا وشجون حياتنا - داخل العراق وخارجه - عن مغلق للتحسينات لايتحسن فيه اي شيئ، عن الف جلجامش يبكي صاحبه انكيدو، وما من احد يلتفت اليه، سأقول في كتابي هذا: الشجاعة لاتشترى ولا تباع فلا تأسف على ما فات، احكي عبر مئات الصفحات عن لغة الخراب التي نحياها تحت سلطة الاعلانات، كما ارثي عبر سطورها احبة واصدقاء فارقونا لم يكن اولهم " حسين مردان "ولن يكون اخرهم الروائي" مؤنس الرزاز، هكذا يرحل الاحبة والنوارس والعشاق في كل زمان ومكان، مبكرين دائما وعلى حين غفلة) .*

 

هذا الكلام لم اجد اجمل واروع منه حتى اضعه في برواز كلماتي هذه، انه صراخه وصراخي وصراخ العشرات ممن يبحثون عن وطنهم في احلامهم ويقظتهم،لكنه الضجيج الذي يبدد أصواتنا ويجعلنا مبحوحيه، ولكننا لن نيأس فعندنا الف صوت وصوت هو انتم يامن ستتذكرون كل الذين مر عليهم ناصر وستصرخون معنا عاليا أن انصفونا وبددو ذلك الضجيج ؟

 

أحمد فاضل

 

................

حاشية

* من لقاء معه اجرته صحيفة الدستور الاردنية مؤخرا .

* جمهورية الخوف، كتاب شهير للمغترب العراقي كنعان مكية يتحدث فيه عن سنوات القمع الدكتاتوري في العراق .

* الهجرة نحو الامس، احد كتب عبد الستار ناصر الذي صدر عام 2008 .

* باب القشلة، احد كتبه الصادرة عام 2003 .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1355 الخميس 25/03/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم