صحيفة المثقف

قراءة في قصيدة بعنوان: ثائر وشاعر وعاشق للشّاعر منير مزيد

دعيني

أغادر بصمتٍ وسكون

وأن أرتاح على أثداء الليل

أتفيأ تحت سنابل القمر..

 

أنا لا أريد أن يُسمع أنيني

حتى لا يحجب آهات المضطهدين

و لا أريد لسماء حزني أن تمطر

لمدن اللصوص والعصابات

الذين ظلموني

عذبوني

بنوا القلاع والقصور

من دم وعرق الفقراء....

 

انهض أيها الإله المصلوب

في أحزاننا

أحلامنا

دموعنا

و دمائنا...

 

واحسرتاه... !

في غمرة اليأس والحزن

يتجه العالم بجنون نحو الانتحار

بمقصلة الأغنياء... 

 

دعيني

أرحلُ بسلام

ثائرا

يتوق بتعميد العالم

بفلسفة الحب

أغرقه في أفيون الاحلام

وانتدب المضطهدين

الكادحين والمظلومين

ملوكاً وامراء.... 

 

دعيني

أرحل بسلام

شاعرا

يثمل من نبيذ اللغة

يغني للمطر الإلهي..

للجداول

للسماء حين تحتضن روح الأرض..

للعصافير المهاجرة....

للعصافير التي تهاجر

بلا جواز سفر

أو هوية

أو تأشيرة سفر

للزنابق التي ترتل تسابيح الله

و تقدِّسُ اسمه

للفراشات التي تتذوق

حلاوة القبلات الرطبة

التي ترشفها من شفاه الزهور

للعشبِ الرضيع

الذي ينتظر بلهفة العاشق

حليب السماء...

 

دعيني

أرحل بسلام

عاشقا

يعبد الله

يعشق الأنوثة

و تراب الأرض...

 

 

 

إلى صديقي الشّاعر المتميّز منير مزيد

أهديك أجمل التّحيّات وأروعها  محمّلة بأحلى الأمنيات بسبق الإضمار والإصرار، وبعد قراءة متأنّية لنصّك الّذي اخترت له عنوان:ثائر وشاعر وعاشق، أخذت قلمي لأخطّ ما ارتسم في ذهني من أفكار ح ول هذا النّص الجميل، الرّاقي شكلا ومضمونا.

بدافع ممّا أضمره لك ولشعرك من محبّة واحترام، أحاول أن أوفّيك حقّك في هذه القراءة مع مراعاة الموضوعيّة في ما أقدّمه من أفكارو استنتاجات.

يحسّ القارئ لأوّل وهلة أنّك حريص أن تضمّن العنوان جوهر ما تريد قوله داخل القصيدة وكأنّك تخشى أن يؤوّل نصّك أو أن يساء فهمه، عن قصد أو عن غير قصد. لاسيما أنّك تعيش في المهجر في مجتمع تختلف ثقافته عن ثقافتك الأمّ. وربّما كنت تكتب بعض نصوصك بلغة أجنبيّة ثمّ تترجمها إلى العربيّة أو العكس. فأنت تبدو من الوهلة الأولى حريصا على وضوح مضامين نصوصك، حذرا من" الآخر" أن يسيء فهمها، أو يتعمّد تأويلها في اتّجاه سلبيّ.

لذلك كان حرف العطف (الواو) حاضرا في عنوانك. فكان المضمون واضحا خاليا من أيّ إيحاء،  أو إحالة.

هذه القصيدة بعنوان: ثائر وشاعر وعاشق، ضمّت سبعة مقاطع متفاوتة من حيث الطّول، والمضمون. واستهللتها بجملة طلبيّة :تكرّرت في النّص أربعة مرّات بمضمون واحد في جوهره، مختلف في جزئيّاته. 

 

1)  دعيني

أغادر بصمتٍ وسكون

2)     دعيني

أرحلُ بسلام

             ثائرا.

*********

     3 )   دعيني

            أرحل بسلام

            شاعرا

*********

4)    دعيني

أرحل بسلام

عاشقا

تضمّنت هذه الجمل الطّلبيّة الأربعة فعل أمر واحد (دعيني)، يتّجه فيه ضمير الخطاب إلى المخاطب المؤنّث، دون رسم ملامحه، حتّى يلتبس الأمر على القارئ بين أن يكون هذ المخاطب شخصا ماديّا، أي امرأة اتّخذتها سندا في الخطاب، كأن تكون الحبيبة أو المعشوقة،  وبين أن يكون شخصيّة معنويّة، ترتقي إلى مستوى الرّمز، كأن تكون الحضارة الغربية في المجتمع الغربيّ، أو الحياة عموما بما فيها من تناقضات، وإغراءات. المهمّ أنّ مستوى لهجة الخطاب الّتي يحدّدها فعل الأمر (دعيني) وإن كان يبدو في ظاهره التماسا، ولكنّه في الحقيقة زجر،  فيه رفض لمعايشة المخاطب والبقاء بين أحضانه. وهذا في حدّ ذاته يرقى بالنّصّ وبمستوى الشّعريّة فيه.

انطلقت في  المقطع الأوّل من موقف قطعيّ مضمر سابق لزمن الخطاب، يتمثّل في الانسلاخ عن المخاطب والتّخلّص منه بهدوء ودون مجابهة، لتختال عالما بديلا عنه هو اللّيل والقمر، وهنا ترتقى بالصّورة الشّعريّة في بنائها،  ودلالتها، لتحيلنا من خلال مكوّناتها على جوّ إنجيلي مهيب يتمثّل في مفهوم السّلام بمعنى الطّمأنينة النّفسيّة أو ما يعبّر عنه في المفردات الإنجيليّة بخلاص الرّوح.

انظر هذه الصّورة (وأن أرتاح على أثداء اللّيل). ألا توحي بصورة مريم العذراء عليها السّلام وهي تلقم ثديها للمسيح عليه السّلام في معنى المحبّة،  ومنح الحياة ؟.

و انظر هذه الصّورة أيضا (أتفيّأ تحت سنابل القمر). يتّحد في هذه الصّورة مكوّنان اثنان هما القمر والسّنابل والقمر في الصّورة الحقيقيّة هو مرادف للأرض،  والسنابل مرادفة للحياة. وكأنّك هنا تعمّدت باستعارتك القمر عوضا عن الأرض، هروبا ممّا ترمز إليه من شرور، في محاولة للبحث عن عالم أرقى وأصفى. أمّا في اختيارك للّيل عوضا عن النّهار ونوره، فكأنّك ترمز به إلى ما في ضوء الشّمس من إبهار للأنظار، حتّى لكأنّ الناظر تحت نورها لا ترى عيناه الحقيقة، وذلك لانبهارهما بذلك النّور. هذا الإطار هو الملجأ الأمثل، الّذي تجد فيه نفسك الخلاص والطّمأنينة. ففي اللّيل أحسن فترة للتّأمّل. وذلك كناية على أنّ الحياة الماديّة على الأرض، ما هي إلاّ أوهام وضلال. وهنا في هذا المقطع تتجلّى صورة الإنسان الّذي صفث روحه وتنقّت من الشّوائب،  لتصبح شفّافةكماء النّبع.

أمّا في المقطع الثّاني، فيطفح على السّطح، الإنسان بمأساته ومعاناته... الإنسان / الكائن الاجتماعي الّذي بتألّم من القهر والاضطهاد، فيتعلّم من جلاّديه الخوف والنّفاق استبقاء لحياته تحت دافع حبّ البقاء، والّذي قد يثور وينقلب ليصبح جلاّد هو الآخر،  عملا بقول الشّاعر:

و إذا بليت بظالم كن ظالما ***** وإذا لقيت ذوي الجهالة فاجهل.

و هنا يتغيّر مستوى الخطاب، ليطغى الأنا على الآخر،  في نوع من الرّفض له (لا أريد)، والتّعالي عليه.

أنا لا أريد أن يُسمع أنيني

حتى لا يحجب آهات المضطهدين

و لا أريد لسماء حزني أن تمطر

لمدن اللصوص والعصابات

كنت أتمنّى لو أنّ هذا المقطع ينتهى هنا. لأنّ ما زاد عنه، هو تفسير لما هو واضح أصلا. وهنا يصبح التّلميح أرقى بيانا من التّصريح. وكثيرا ما كان المسكوت عنه أبلغ من المصرّح به. وأنا أفهم صيحة الثّائر تلجّ به التّفاصيل، وكانه يبحث عن مبرّر لثورته حتّى لا يتّهم بالإرهاب. فأنا مدرك تمام الإدراك لحذرك من الآخر، مثلما أشرت في البداية حول اختيار العنوان.

في المقطع الثّالث يعود الجوّ الإنجيليّ المهيب، ليسيطر من جديد على جوّ القصيدة.

انهض أيها الإله المصلوب

في أحزاننا

أحلامنا

دموعنا

و دمائنا...

في هذا المقطع استحضر صورة المسيح المصلوب عليه السّلام، الّذي تعرّض للصّلب ليخلّص النّاس من أحزانهم ودموعهم. ويضرب لهم المثل في الإيمان والتّضحية من أجل القيم السّامية والمبادئ العليا. وفي ذلك دعوة غير صريحة إلى إحياء القيم الإنسانيّة الّتي بشّر بها المسيح عليه السّلام.

1) ثمّ تمضي في المقطع الرّابع مجلّلا بالحسرة والألم، رافضا في داخلك قيم هذا المجتمع البشريّ الظّالم في ثورة ضمنيّة ضدّ الظّالم والمظلوم معا. ضدّ الظّالم لظلمه للنّاس،  وضدّ المظلوم لأنّه انقاد إلى الظّلم ورضي به ولم يثر عليه. فأنت في هذا المقطع،  تنعي الحضارة الماديّة المعاصرة، القائمة على عبادة المادة وانجرار الفقراء وراء شراك الأغنياء.

و هنا تطغى عليك حاسّة الحذر إن صحّ التّعبير، وتستفيق فيك الرّقابة الذّاتية،  الّتي اكتسبتها من خلال معايشتك للمجتمع الغربيّ،  الّذي يتعامل مع مفهوم الثّورة بعين الرّيبة، لذلك كانت الرّغبة الكامنة في الثّورة في داخلك خالية من التّحريض ومن مفردات الإدانة الصّريحة. وليس هذا عيبا أو فيه ما ينقص من قيمة القصيدة، لا من حيث الشّكل ولا من حيث المضمون. فأنت ذكيّ حذر في انتقاء مفرداتك الشّعريّة، وما تطرحه من مفاهيم.

في المقطع الخامس، يتمخّض عندك الإحباط واليأس من صلاح المجتمع البشري الماديّ، عن ثورة ضدّ هذه القيم،  ولكنّها ثورة من نوع خاص. هي ثورة على الظّلم والقهر والاستعباد، أداتها الحبّ، اقتداء بسيرة المسيح عليه السّلام. وكانّي بك هنا تحاول أن تجمّل الصّورة المسبقة عند الغرب عن العرب والمسلمين، وما التصق بهم من تهمتي العنف والإرهاب. وهذا توظيف ذكيّ وجميل. فأنت في المجتمع الغربيّ الّذي يستضيفك، سفير لقضيّة وطنك، وسفير لقضايا أمّتك وثقافتك الأمّ، بل ترتقي في هذا النّصّ لتكون سفيرا لقضايا الإنسانيّة، بمفردات من ثقافتهم،  وإن لم تكن كذلك فهي قريبة إلى نفوسهم إلى حدّ ما.

في المقطع السّادس، أراك تحلّ من عالمك العلويّ القدسيّ،  في عالم لا يقلّ عنه قدسيّة وهيبة، هو عالم تتماهى فيه الروح مع المادّة، تلتقي فيه الأرض بالسّماء لتحقّق بذلك المعادلة الصّعبة المنشودة في عالم يقوم على قانون النّسبيّة. أداتك في ذلك رباعيّة: الّله.  الحبّ،  الشعر والمرأة. وما الثّورة بين هذه العناصر الأربعة إلا  أداة انتقال من مرتبة إلى أخرى في دائرة مضيئة هي الإنسان في جوهره النّقيّ.

دعيني

أرحل بسلام

شاعرا

يثمل من نبيذ اللغة

يغني للمطر الإلهي..

للجداول

للسماء حين تحتضن روح الأرض.

 

ثمّ ما تلبث في نهايّة هذا المقطع أن تستفيق فيك العوامل الموضوعيّة، لتحيلك دون أن تشعر، على واقع معيش وسؤال ملحّ هو سؤال الهويّة ووالأرض والحدود والعودة. هذه المفردات الّتي ظهرت في خلفيّة الصّورة، رغم محاولتك إخفاءها وراء توقك إلى المجتمع الإنسانيّ الرّاقي، طفت على الصّورة الجميلة الّتي خلصت إليها  في رحلتك بين الثورة والشّعر والعشق، بل أصبحت مطلبا واضحا، ييمثّل جزءا من المشهد.

 للعصافير المهاجرة....

للعصافير التي تهاجر

بلا جواز سفر

أو هوية

أو تأشيرة سفر

و لكنّك ما تلبث أن تقفز على هذا الواقع الظّالم، والرّديء بقلب الشّاعر الثّائر المؤمن، الّذي يقاوم القبح بإشاعة الجمال في داخله، قبل أن يشيعه في ما حوله، ليصنع عالمه الجميل، بمثل هذه الصّور الشّعريّة الرّاقية، الصّافية كروح صاحبها.

هنا أراك تستحضر من جديد مفردات الرّضيع ومشتقّاتها، لتكتمل الصّورة الّتي بدأت بها القصيدة، صورة الأمّ الّتي ترضع وليدها، بعناصر أخرى مختلفة دون أن تسقط في التّكرار.

للزنابق التي ترتل تسابيح الله

و تقدِّسُ اسمه

للفراشات التي تتذوق

حلاوة القبلات الرطبة

التي ترشفها من شفاه الزهور

للعشبِ الرضيع

الذي ينتظر بلهفة العاشق

حليب السماء...

أمّا في المقطع السّابع والأخير، فها أنت ما زلت تقاوم قوى الجذب الّتي تشدّك إلى تعاليم الأرض وقيمها الهابطة، فكأنّك لا ترضى بدرجات الثّورة والحبّ والشّعر، لتستقرّ في النّهاية على ظهر كوكب جديد هو كوكب العشق الإلهي، من خلال عشقك لمخلوقاته كالأنوثة،  وتراب الأرض.

و لكنّك في نهاية القصيدة، ورغم تجربتك الوجدانيّة الرّاقيّة، تبدو لي في نهاية رحلتك هذه، ومن خلال هذا المقطع، ما تزال معلّقا بين السّماء والأرض في رحلة البحث عن السّلام.

في النّهاية، لست أدري كلّما جنّحت معك في عالمك تشدّني إلى نصّك شدّا، كأنّما بوثاق من حديد.  ولكنّي أصدقك القول، أجد في ذلك متعة، لأنّك تجاوزت حيّز اللّغة،  لتحلّق في عوالم المعنى الرّحيبة. ولكنّني بعد كلّ هذا أرجو أن لا أكون قد تجاوزت حدود ما تسمح به الموضوعيّة، في ما قدّمت في قراءتي هذه من أفكار واستنتاجات.

على المحبّة والتّقدير سنلتقي ذات قصيد

 

محمد الصالح الغريسي

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1356 الجمعة 26/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم