صحيفة المثقف

استقلالية السياسة تبعية القرار

ومواقفهم من تبيان تدخلهم من دون مواربة، في مقابل ردة فعل ضعيفة برزت على شكل تصريحات منفردة من قبل بعض السياسيين العراقيين من دون ان تتخذ حكومة المالكي موقفاً واضحا في رفض تلك التدخلات .

وما ان انجلى غبار نتائج انتخابات 2010، حتى كان الاقرار بالتأثيرات الخارجية على القرار العراقي، يجري على السنة الساسة العراقيين في  مختلف كتلهم وائتلافاتهم، وقد بلغ حدّا لم يجد فيه الفائزون في ائتلاف دولة القانون والائتلاف الوطني العراقي غضاضة من ارسال وفد الى ايران للتداول في شكل التحالف بينهما والاتفاق على تشكيل الحكومة المقبلة، ما أكد الشكوك الامريكية في مقدار التأثير الايراني على القوى السياسية الشيعية، كذلك الوفود التي ذهبت الى سوريا وتركيا من كتل مختلفة، وتلك التي تستعد للذهاب الى دول اقليمية اخرى ، كلها مؤشرات على مقدار الثقل الاقليمي – والمجاور منه بشكل خاص – على القرار العراقي بمختلف اتجاهاته.

كانت مقولة" دولة الخدمات " قد ظهرت على لسان بعض الكتل السياسية

(تصريحات عمار الحكيم لوسائل الاعلام) كمفردة سحرية يقف خلفها السياسيون الساعون الى نفوذ ودور وكمكافأة ترضية للعراقيين .

لاشك انها قضية جوهرية، فمن اهم واجبات الدولة في ايما بلد،هي القيام بالاشراف على نشاطات  المجتمع ضمن قانون دستوري، مع حرصها على تطبيق ذلك القانون على الجميع، كي لايحدث ما يعيق نشاط وحيوية المجتمع، ولأن الحفاظ على امن المجتمع، يعتبرمن الضرورات اللازمة لقيام الدولة بواجباتها ،لذا اصبح لزاماً على الدولة احتكار استخدام العنف ضمن ضوابط القانون .

تلك هي التفاعلية التي تتبعها الدول المتحضرة في العلاقة بينها وبين مجتمعاتها .

ولما كانت الدولة لاتستطيع ممارسة مهامها وفقاً لمصالح شعبها الا اذا تمتعت باستقلالية قرارها وممارسة كامل سيادتها على ارضها،  لذا جاءت حرية القرار كركن اساس في بناء الدول، اذ لا دولة وطنية دون استقلال وطني .

كان العراق ارضاً محتلة من قبل جيش اجنبي، وقد انتهى هذا الاحتلال رسميا طبقا لقرار الامم المتحدة رقم 1546 الذي تحولت بموجبه قوات الاحتلال الى (قوات متعددة الجنسيات) ثم انحصر التواجد بالقوات الامريكية التي تستعد للانسحاب نهاية العام 2011 كما نصت عليه  الاتفاقية الموقعة معها .

تلك حالة مفهومة ومنظمة بقوانين، لكن ماليس مفهوما هو ذلك الاقرار بهيمنة وتأثير دول الجوار على القرار العراقي وصولاً الى القول بأن رئيس الوزراء القادم لايسمى الا باتفاق تلك الدول على اسم المرشح.

لاشك ان السياسة في العراق، كانت تمارس بنوع من الرثاثة، فما الذي يجبر اولئك الذين يطمحون بقيادة بلد محوري في المنطقة، الى الاعتراف بواقع كهذا ؟

مقارنة في أمر مماثل سيظهر الفارق بين نوعين من  السياسيين المؤهلين لقيادة شعوبهم نحو قرار الاستقلال .

في العام 1964 وفي احد مؤتمرات  القمم العربية، انبثق كيان سياسي  بقرار عربي اطلقوا عليه اسم (منظمة التحرير الفلسطينية) واوكلوا قيادته الى المرحوم احمد الشقيري .

لم يظهر حينها مايشير الى ان (منظمة  التحرير) ستلعب دوراً محورياً في قضيتها، فقد اعلن عن تشكيل عدة  كتائب فلسطينية في مصر وسوريا والعراق، وزعت عليها اسلحة خفيفة والحقت بقيادة اركان تلك الدول حسب توزعها الجغرافي، فسميت (قوات عين جالوت)  في مصر  (وقوات اليرموك) في سوريا  و(قوات القادسية) في العراق، ولم يكن لها اي دور يذكر حيث ظهرت بكونها مجرد (ديكور) لبيان اهتمام الانظمة العربية  بالقضية الفلسطينية .

في العام 1965جاء مهندس فلسطيني كان يعمل في الكويت يدعى عبد الرؤوف القدوة اشتهر فيما بعد تحت إسم ياسر عرفات، وقد جمع حوله مجموعة من الكوادر وابتدأ العمل المسلح  ضد اسرائيل في الأول من كانون الثاني من العام المذكور .

بعد أعوام قليلة، كانت قيادة منظمة التحرير قد انتقلت الى ياسر عرفات الذي اصبح قوة عسكرية تمركزت في الاردن بشكل اساس مع ارسال مجموعاته الى لبنان وتثبيت قواعد في سوريا التي ربطت حركته بحركتها السياسية والعسكرية ما أدى الى تجميدها في النهاية حيث بقيت الساحة السورية للامداد والتموين والتدريب .

في العام 1970، حاول نظام الملك حسين السيطرة على حركة عرفات ومجموعاته، فخيضت مواجهات شرسة انتهت بالخروج العلني للقيادة الفلسطينية ومجموعاتها المسلحة  من الاراضي الاردنية وانتقال مركز الثقل من ثم  الى لبنان، ومنه انطلقت حركتها وتواجدت قيادتها، لكن رغم الخروج من الاردن، تمسك ياسر عرفات بسياسته الشهيرة التي استندت الى شعار القرار الوطني الفلسطيني المستقل في ثلاثية(لا للهيمنة لا للتبعية لا للاحتواء) ولم تمض سنتان على احداث ايلول 1970، حتى اضطر الملك حسين الى فك ارتباطه مع الضفة الغربية لاحقا لتصبح منظمة التحرير هي الممثل الشرعي للفلسطينين اينما وجدوا، يومها اصر ياسر عرفات في مؤتمر القمة العربية في الرباط، الى رفض كل الصيغ التي تنتقص من وحدانية تمثيله لشعبه بما فيها صيغة (منظمة التحرير هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني)  واصر على اضافة كلمة (الوحيد) لتصبح الصيغة النهائية (ان منظمة التحرير الفسلطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني) .

كانت  الساحة الفلسطينية يسودها الانقسام، فهناك منظمات ترتبط مع الانظمة العربية بشكل مباشر (الصاعقة) تتبع القيادة السورية و(جبهة التحرير العربية) الى العراق، وتنظيمات تتلقى دعما ماليا من ليبيا والسعودية والامارت وغيرها .

وكان شعبه يعيش في مخميات بائسة موزعة على عدد كبير من الدول، ورغم اهمية سوريا بالنسبة للفلسطينيين، وتواجد جيشهم في لبنان وتوابعهم بين المنظمات الفلسطينية، الا ان (ابو عمار) خاض دفاعاً مستميتاً عن قراره المستقل، شق النظام السوري منظمة التحرير ثم ساهم بانشقاقات خطيرة داخل فتح ذاتها، فخرجت منها(فتح الانتفاضة) بقيادة ابو موسى وابو خالد العملة، ثم فتح المجلس الثوري بقيادة صبري البنا (ابو نضال) الذي تحول لاحقا الى قاتل محترف استخدمه السوريون والليبيون والعراقيون  ضد خصومهم، ثم انتهى نهاية غامضة في بغداد ابّان الغزو الامريكي  – راجع – ابو نضال – بندقية للايجار  .

يومها لوحق ياسر عرفات من مكان الى آخر فطرد من الاراضي السورية واخرج من طرابلس لبنان على يد رفاق الامس من قياديي حركة فتح بدعم سوري، كما قصف انصاره في مخيمات بيروت واخرجوا مقيدي الايدي، لكن ياسر عرفات بقي محافظاً على استقلالية القرارالفلسطيني  بعد انتزاعه عنوة من بين براثن الانظمة العربية مجتمعة رغم قسوة واستحالة الظروف التي عاشها، أما خصومه الذين راهنوا على دعم الانظمة، فقد آلوا الى اوضاع مزرية، ابو موسى وابوخالد العملة تحولا  الى شخصين هامشيين في دمشق لاينتبه اليهما احد، وسميح ابو كويك بكى ندماً بين يدي عرفات حين اضطر السوريون الى استقبال عرفات والتعامل معه مجدداً بعد ان فرض نفسه قائدا حراً .

أما سياسيو العراق فوضعهم كان مختلفاً بشكل يفترض انه يميل لصالحهم، فهم يقودون بلدا كبيرا ومجتمعا عريقا في ارض زاهية التاريخ واسعة الثروات، واذا كانت تدخلات الجوار قد ساهمت في خلق اضطراب بين مكونات شعبه، فانه  استوعب حالة  الانقسام وانجذب نحو مسارات وطنية جامعة متجاوزاً المراحل الحرجة التي عاشها.

كل المعطيات الموضوعية كانت تشير الى ان بإمكان سياسيي المرحلة في العراق الجديد ان ينتزعوا حرية قرارهم واستقلالهم من تأثيرات دول الجوار حينما يكونون بمستوى من القدرة التي تؤهلهم الى ذلك.

لكن العراق واجه  مشكلة تلخصت في ان معظم سياسييه كانوا دون مستوى بناء الدولة الحرة ، فبعضهم تباهى بارتباطاته بدول الجوار والاخر كان خشى سطوتها وتأثيراتها عليه، فيما يخدع ثالثهم نفسه في ان ذلك الارتباط مع هذه الدولة أو تلك انما هو لصالح العراق .

في التاريخ العراقي الحديث، جرت محاولة واحدة من زعيم واحد (عبد الكريم قاسم) لانتزاع العراق من تأثيرات الدول الاقليمية، لكنه سقط قتيلاً بانقلاب اشرف عليه صلاح نصر مدير المخابرات المصرية حينذاك .

وفي العراق الجديد،قاد المالكي محاولة أولية  من اجل قرار عراقي مستقل، لكنه حوصر من كل مكان حيث دقت اجراس الخطر من عودة  الروح العراقية وما قد تجره من تأثيرات على المنطقة .

كان على المالكي ان لايوارب في توجهاته وبالتالي يقود حملته السياسية والانتخابية تحت شعار القرار الوطني المستقل  وبصياغة مشابهة (لا للاحتواء لا للتبعية لا للوصاية)، وكان حتما سيساهم في بلورة وحشد تياره السياسي الكبير  محدثاً  تحولاً تاريخياً في الفكر السياسي العراق وطبيعة نظرته الى علاقاته وقراره، ومتجاوزاً في الوقت عينه اولئك السياسيين الهلاميين فاقدي الملامح مرتبكي الخطى، الا انه فضل اسلوباً آخر ادى الى سرقة علنية لحرية قراره حين ارسل موفديه الى طهران في اقرار ضمني على انتكاس محاولاته في الاستقلال السياسي "* ".

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1361 الخميس 01/04/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم