صحيفة المثقف

قراءة في قصيدة نشيد الأرض والخلود للشّاعر منير مزيد...

أفتح نافذة الأحلام

وأطل على شرفات الكون

أتأمل

 أرى ما لا يبصره أحد غيري

كل شيء على الأرض

نفسه من لهب

يستريح على وقدة نار….

مشهد دائم الاحتراق

يطوقنا بالجحيم

يظللنا إلى الأبد….

يا دوامة العالم المضطرب. . . !

يا شجرة الحياة المثمرة بالأوجاع. . . !

كل فصول الحزن تتناسل في شراييني

والفكرة شرارة لا تجد حطباً في الموقد . .

الأرض تدور… تركض

وراء الشمس…

وأنا أرض … ألهث

وراء الرغبة …

كلانا أعيانا السعي

وراء دخان…

كلانا متعب ومجهد

من عفن السنين . . . !

يا للعناء المرّ . .

تمر في خيالي خيول الرغبة

تعدو مسرعة إلى الماء

ولا ماء. .

نسيج ألق، توهج

رماد

يطفئ جذوة الاحتراق…

الخيوط روح خراب

تغذي خراباً…

لا تسلني شيئاً

في كل ثانية شيء يحتضر

عائداً إلى مصيره السابق….

أيتها الحكمة الأبدية. . . !

يا وردة الحرية الصافية . . . !

أشباح في مرايا التأمل. .

تحدق في الصمت

تراقب الفكرة

خوفاً من انفجار الصمت

من اشتعال الفكرة. .

أيلول أحمر قانٍ

رمادي

أيار باع قميصه وانتحر

والصمت يعوي في الافئدة دماً

يلطخ وجه الكبرياء

يستنشق رماد الموت . .

في الغابة الخرساء

روح الظبي الوديع

طريدة…

وللنمر مخالب الجوع المفترسة

تنهش وداعة الحياة.

يسقط الظل متهالكاً

بين همسات ريح مرعدة

لزوبعة الموت

تارة يعلو، وتارة يهبط

يلتقطه طائر الشعر

لِيَكُونَ لَهُ عاشقاً ومنقذاً . . .

ويستمر نشيد الحياة . . .

لن أبتهل لغير ظلك

ولن تتوقف زقزقة العصافير

لطلوع فجر

يبدد الوهم المأساوي . . .

ها أنذا أسلم نفسي للذة التأمل

ترفرف الرؤية بجناحين مشرعين

في فضاءات الروح

يتأهب الشعر للانطلاق إلى اللانهاية. . .

أراني اقرأ سفر الغيب

وأناجي الله

ليخلصني من عزائي المرّ . . .

أبحث عن حلم يضيء كياني

يفجر ظلام الصمت العميق

يحمل تباشير الثورة

والانتصار

يحملنا إلى حب عظيم

يحطم كل الحواجز والحدود . . .

في أرضنا يستوطن الجوع والقتل

نساء يحلبن قمراً ميتاً

يطهون حجارة الصبر

والزمن يقتات على قمح الهذيان

مأساة لا تنتهي. . . لا تنتهي

أبداً لن أنسى دموع أمي

لن أنسى من قدموا أرواحهم لأجلنا

ومن أجلنا جميعاً

يملأون حياتنا مجداً وأغانياً. . .

تبتهل عصافير الشعر لذكراهم

وتحلق النوارس وطيور الحرية

في أجواء شعاع الأحلام والظلال. . .

وحدك أيها الظل المجنح

تلملم غيمات الحلم الشارد

تنثر وريقات العشق الملونة

فوق المدافن الرمادية

وتطلق نوارس الشعر الصافي

من جرار السحر

لجنيات البحر. . .

آه. . . ما الذي أثقل صدرك

أشواك الجوع

أم أوساخ الخيبة والانكسار

أم عفن الصمت الميت فينا. . ؟

مع من يصارع حزنك. . . ؟

غابات بلا أشجار

أشجار بلا عصافير

عصافير بلا أرض

بلا بحر أو سماء. .

آه . . ما الذي يُعذّبُك

وكل خيول الشعر

تصهل في روحك

وعلى أرضك

يهبط نشيد السماء

غنياً بالرؤى. . . بالأسرار. . . .

حاملاً صدى أحلام الأنبياء

وأرق الآلهة. . . .

هناك بين أعشاب الرغبة الظمِئة

وجوه مبعثرة تلمع في الظلام

أضاءتها آلهة الحب والخصب

المعشعشة في ظل الليل. . . .

تَطِيرُ الوجوه عالياً

تقرع أبواب السماء

ترعد. . . تحرق ذاتها عشقاً

لتوقظ كهنة الماء. . .

يهطل مطرك الليلي

يغسل آثام النهار

تتهيأ الأرض للعناق الرطب

تكشف عن نهد يتصحر

ينتظر رذاذ القُبل

عن فم يرضع حليب النشوة

والاشتهاء

يزهر كرز الحب بين الشفاه. . .

بروحي العارية أراك

أراك وحيداً تقطف عنب الشوق

من دالية الحب

تعصره خمراً للعشاق

للحوريات

للشعراء

للفرسان. . .

تهدهد الصخب والجنون

ليناما ملء الجفون

بين براعم الاسترخاء

تشعل فوانيس الأفكار

تحرق الملل والإيقاع الرتيب

وتملأ ينبوع الحياة

بنبيذ أغاني الفرسان. . . .

يا ظلاً مليئاً بالأحلام

يرتل تسابيح الأنبياء

يشتهي الأشعار

ما أجملك

وأنت تمسك الشمس من ذيلها

تقبض على جمر القصيدة. . .

أبداً لا تغمض عينيك

ارفع رأسك عالياً

اُسْجُدْ للحرف والكلمة

ورتل آيات الماء. .

تتباهى بنخيل لا ينكسر

لأشباح يذرن ريحهم السوداء

تتباهى بزيتون يَكَادُ زَيْتُهَ يُضِيءُ

وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ . . .

أصواتهم مهترئة

لا حلم لهم. . .

لا ظل لهم. . .

غير بقع سراب في صحراء الوهم

يحترقون فيه. . . . .

وشهوة الموت تصرع خرافاتهم

لم يبق غير رمادهم المحترق

على صدر الأرض

وسرعان ما يتلاشى في العدم الكوني. . . .

آه. . أيها الظل

من خلال عيون الإله أراك

من فكر الإله أقرؤك. . . .

أعود واسألك: ما الذي يعذبك. . . . ؟

عادت أسراب السنونو مبكرة

تعشّش في مرايا الذات

تهمس وتضحك على أوراق الشجر

يا ظلاً يسابق الريح والعدم

يغزل المعجزات

ويحيل الكون إلى أحواض من الياسمين. . . .

الآن، وبعدما نضجت صيصان الأفكار

وتفتحت براعم عاطفة الحس

وبدت الأنجم عقداً من الفيروز

متناثراً على السفوح. . . .

يفرد الليل جناحيه

يطير في فضاء السكون

وتبدأ الأرض بالنشيد. . .

كل شيء يذوي في الحكمة الأبدية

يتحول العالم سريعاً

إلى وردة من الضياء لا يدركها الخيال

وقلب صاف من قطع البلور

تنبض فيه قصائد الحب. . . .

عنما قرأت قصيدة: نشيد الأرض والخلود للشّاعر منير مزيد، وجدتني أستحضر في مخيّلتي كلّ ما تيسّر لي معرفته عن تكوين الأرض، وعن ظهور الحياة على سطحها، وقصّة وجود الإنسان على هذا الكوكب: ما جاء منها في الكتب السّماويّة، وما جاء في الأساطير.

و حضرني بعض ما ارتسم في ذهني من تاريخ الحضارات الإنسانيّة، قديمها وحديثها.

مرّ بذهني هذا الشّريط المزدحم بالصّوروالأحداث، والأفكاروالأحاسيس، فكأنّني أمام مأساة الإنسان الّذي يبكي على جنّته الضّائعةويعيش حيرته الكبرى بين عقدة الذّنب، والحلم بالعودة إلى الجنّة المفقودة . وبين عقدة الذّنب والتّوق إلى العودة، رحلة مضنيّة، مليئة بالآلام والأحزان والأوجاع، يتخلّلها من حين إلى آخر بصيص من النّور، أو هبة نسيم عليل، أو نفحة من الأمل. تلك هي مأساة الإنسان على هذه الأرض، صراع دائم من أجل البقاء، وصراع من أجل السّيادة، وصراع من أجل المتعة، وصراع من أجل العظمة ؛ووقود كلّ هذه الصّراعات هو الإنسان.

و الإنسان على ظهر هذه الأرض، بحكم تركيبته الفيزيائيّة، خاضع لقانون جاذبيتها، مشدود إلى قوانينها ونواميسها. فإذا كانت النّار والفوران في جوف الأرض، جزء من توازنها وتماسكها، فإنّ هذه النّاروهذا الفوران، يحكمان قانون التّوازن والتّماسك على سطحها أيضا. وما الصّراعات بجميع أنواعها والحروب بجميع أشكالها واختلاف أدواتها ومفرداتها، إلاّ صورة لهذا التّفاعل الّذي هو صورة الحياة كما نراها ونعيشها . هذه الصّورة نقلها لنا الشّاعر في قصيدته: نشيد الأرض والخلود بحسّ آخر غير حسّنا، وعين أخرى غير عيوننا.

أفتح نافذة الأحلام

وأطل على شرفات الكون

أتأمل. .

أرى ما لا يبصره أحد غيري

هذا الحسّ وهذه البصيرة لا يملكها إلاّ حكيم أو فيلسوف أو نبيّ، في عصر تشاغل النّاس فيه عن الحكمة بالجري وراء الملذّات والمتع، لذّة السّلطة / لذّة الجاه/ لذّة المال/ لذّة الإحساس بالقوّة أمام ضعف الآخرين، في سباق لا يرحم، نفسه من لهب. فيتحوّل السّباق إلى مشهد دائم الاحتراق، مسرحه الأرض، ووقوده الإنسان. إلاّ أنّ الشّاعر بحكمة الحكيم والفيلسوف والنّبيّ، يرى أنّ كلّ ما في الكون من آلام ما هي إلاّ آلام ولادة.

كل ما في الكون من آلام

آلام ولادة

و كل شيء على الأرض

نفسه من لهب

يستريح على وقدة نار

و من هنا تطفو على السّطح شخصيّة الشّاعر، لتتغلّب على صورة الحكيم والفيلسوف والنبيّ فيصيح من الألم ،وكأنّه يحمل بداخله آلام الأرض ومن عليها، وكأنّ المخاض الّذي يعيشه الكون يستحيل إلى ثورة مكبوتة في أعماقه تنتظر ما تأكله ولكنّها تجد ما يصدّها، لعلّها صورة الحكيم الّتي بداخله أو صورة الفيلسوف أو النبيّ، أو لعلّها ثقافة الشّاعر الّتي وإن آمنت بعنف الثّورة فهي لا تؤمن بثورة العنف ،وهو الّذي ينتمي إلى دين يدعو إلى التّآخي والتّسامح التّكافل/ دين يرى النّاس من حوله يوجّهون إليه أصابع الاتّهام، و كأنّه -وهو في أقصى حالات الثّورة - يأبى أن يشوّه صورته. وذلك ما يجعل فصول الحزن تتناسل في شرايينه، لتبقى مكبوتة بداخله، يمنعها من الانطلاق كبرياء الحكيم والفيلسوف والنبيّ الّذي بداخله ،والّذي يمنعه من استعمال مفردات الإدانة والتحريض، والتّعريص، والذمّ، الّتي لا تستسيغها نفسه الرّقيقة والأبيّة، ولا حس الشّاعر المرهف الّذي يسكنه.

يا دوامة العالم المضطرب. . . !

يا شجرة الحياة المثمرة بالأوجاع. . . !

كل فصول الحزن تتناسل في شراييني

والفكرة شرارة لا تجد حطباً في الموقد . .

و يلتقي الشّاعر مع الأرض في أكثر من صفة، بل لعلّه يصبح ندّا لها . فهو في ما يحمله في داخله من ثورة كالأرض ،لو أخرجت ما في جوفها لدمرت كلّ شيء ،لذلك هي متوازنة ومتماسكة تبوح بخيراتها وتكتم ثورتها. أليست هي الأمّ الرّؤوم الّتي تحنو على أبنائها، وتثور عليهم أحيانا لتؤدّبهم. ثمّ ها هي الأرض تدور، تركض وراء الشّمس، وهو مثلها تماما ،ا يدور ويركض خلف الرّغبة. لا غرابة في ذلك ما دام يعيش على ظهرها ويأكل من خيراتها، و يضرب في مناكبها. ولا غرابة أيضا أن يقف ندّا لها، لأنّ كلاّ منهما يحمل هموم الأخر،و كلاهما يحمل هموم العالم بشروره ومآسيه، وآماله وأفراحه. وكلاهما أيضا يجرى وراء المجهول.

الأرض تدور… تركض

وراء الشمس…

وأنا أرض … ألهث

وراء الرغبة …

كلانا أعيانا السعي

وراء دخان…

كلانا متعب ومجهد

من عفن السنين . . . !

هذه الصّورة، صورة الأرض الّتي تدور بدون هدف، ولا تستريح، وعلى ظهرها الإنسان الّذي ما فتئ يركض ويلهث وراء الرغبة بحثا عن الخلود. هذه الصّورة، تذكّرنا بمأساة سيزيف الّذي ضلّ يحمل الصّخرة إلى أعلى الجبل فتتدحرج إلى الأسفل،فيعيد حملها لتتدحرج من جديد..

إذا هي مأساة وجوديّة يعيشها الشّاعر مع الأرض، فكلاهما لا يعرف غايته ولا يدركها .

و كلاهما مجهد من عفن السّنين، وكلاهما أيضا يشكو من ظلم الإنسان وسعيه الدّؤوب لنشر الدّمار و الخراب . فبهذا المعنى أضحى كلّ منهما ضحيّة الشّر الّذي بطله الإنسان، وضحيّته الإنسانوالأرض معا. لكنّ الرّغبة في الحياة و مقارعة الشرّ، لا يمنعان الشّاعر من البحث عن الحياة في جوهرها الصّافي ليرتقي و إيّاها من عالم النّسبيّة إلى عالم الحقيقة المطلقة . لذلك، كان للماء دلالتان :الأولى كونه عنوان الحياة، والثّانية صفاء الجوهر ،وهو ما يحقّق درجتين من الارتواء ،أولها بيولوجيّ يتعلّق بالبقاء والثّاني روحيّ يتعلّق ببلوغ حالة التّجلّي للحقيقة في جوهرها، وهي حقيقة الوجود. و لكنّه للأسف، لا يحقّق هذاولا ذاك، فكأنّه يعدو وراء سراب.

يا للعناء المرّ . .

تمر في خيالي خيول الرغبة

تعدو مسرعة إلى الماء

ولا ماء. .

إنّها المأساة ذاتها تتكرّر: سعي وركض ولهاث، رغبة جامحة إلى الارتواء/ نفس ثائرة، توّاقة إلى تغيير العالم نحو الأفضل. لكن ليس هناك ما يدعو إلى الحياة . كلّ شيء يؤشر إلى الموت . فالنّار ما هي إلاّ ألق كاذب، و وهجها ما هو إلاّ رماد يطفئ جذوة الاحتراق. كلّ شيء في طريقه إلى الخراب /إلى الموت /إلى المصير المحتوم.

تلك هي حتميّة الموت الّتي تطرح سؤال الوجود بإلحاح، فأيّ معنى لركض الأرض وراء الشّمس ،وأيّ معنى لركض الشّاعر وراء الرّغبة. فلا هو بلغ بالرّغبة حدّ الإشباع ،ولا هو بلغ بالرّوح حدّ الارتواء.

نسيج ألق، توهج

رماد

يطفئ جذوة الاحتراق…

الخيوط روح خراب

تغذي خراباً…

لا تسلني شيئاً

في كل ثانية شيء يحتضر

عائداً إلى مصيره السابق….

يعود الشّاعر إلى البحث عن توازنه، وتماسكه، أمام ضغوط الواقع المؤلم الّذي يعمّ الكون، ويسم حياته بالمرارة والألم، ليستلهم الحكمة من الوجود، فلا بدّ أن يكون وراء تماسك هذا الكون، قوّة حكيمة، وإلاّ لتهاوى ،لما فيه من أسباب الانفجار . فتوق الشّاعر للحريّة الصّافية، لا يمرّ عبر العنف بمفرداته، فالنّار إذا سرت، فستأكل كلّ من يعترض طريقها. و أمّا الصّمت عنده، فلا يعني قبول الواقع والرّضوخ لقوانينه. فالثّورة فكرة، والفكرة خلق بناء و إبداع، سلاحها التأمّل، والحذر .

أيتها الحكمة الأبدية. . . !

يا وردة الحرية الصافية . . . !

أشباح في مرايا التأمل. .

تحدق في الصمت

تراقب الفكرة

خوفاً من انفجار الصمت

من اشتعال الفكرة. .

و لكن أين تلك الحكمة، الّتي كان ينبغي للإنسان العربيّ أن يتحلّى بها في الأوقات العصيبة، فها هي الثّورة تأكل أبناءها، تتحوّل إلى عنف دمويّ /إلى نار تأكل الأخضر و اليابس. ذاك هو أيلول الأسود الّذي أعاد مأساة قابيل وهابيل على أرض مرّت بها أقدم الحضارات الإنسانيّة، و التقت فيها أرقى الأديان، بتعاليمها الرّاقية . جاءت لتغيّر واقع الإنسان . فهل استفاد منها.؟ وهل استوعب دروسها؟.

لقد هجر الرّبيع هذه الرّبوع وحكم عليها أن تعيش للدّم والنّار / للخراب و الدّمار، مجلّلة بالصّمت و الخزي/تنبعث من حولها رائحة الموت .

أيلول أحمر قانٍ

رمادي

أيار باع قميصه وانتحر

والصمت يعوي في الافئدة دماً

يلطخ وجه الكبرياء

يستنشق رماد الموت . .

تظل صورة الأرض هي ذاتها عبر العصور، وفي أيّ مكان من الأرض. نفس المأساة تتكرّر، وقودها الإنسان . اللإنسان هو الإنسان، في أيّ عصر كان، وفي أيّ مكان. مأساة الإنسان هي نفسها، صراع وراء صراع وراء صراع. صراعات لا تهدأ إلاّ لتستعر من جديد. ذلك هو واقع الأرض ما دام يسودها قانون الغاب.

 

في الغابة الخرساء

روح الظبي الوديع

طريدة…

وللنمر مخالب الجوع المفترسة

تنهش وداعة الحياة.

تلك هي حال الأرض، وتلك هي حال أبنائها . تحوّم حولهم أسراب الموت، تعلو بهم و تسفل . لا يعرفون الرّاحة و لا الاستقرار. وها هو طائر الشّعر يلتقط ظلّ الأرض المتهالك ليكون له عاشقا ومنقذا على وقع نشيد الحياة المستمرّ. هو طائر الشّعر دائما يرتفع بالشّاعر في كثير من قصائده، يحلّق به في عالم المطلق، ذلك العالم الصافي الّذي ينهل منه إلى حدّ الارتواء ،ويجد فيه الطمأنينة الّتي يبحث عنها .ولكنّه مأسور بقانون الجاذبيّة إلى الأرض ،سرعان ما يعود إليها، وفي جرابه رؤية صافية، وعشق معتّق للذّا ت العليا الّتي تدبّر شؤون هذا الكون، فيتحد عنده   وجدان الشّاعر بوجدان الصّوفيّ، ليرقى بالصّورة الشّعريّة ومفرداتها، و يعطيهما مساحة دلاليّة أوسع.

يسقط الظل متهالكاً

بين همسات ريح مرعدة

لزوبعة الموت

تارة يعلو، وتارة يهبط

يلتقطه طائر الشعر

لِيَكُونَ لَهُ عاشقاً ومنقذاً . . .

ويستمر نشيد الحياة . . .

و يمضي الشّاعر منشدا للأرض نشيد السّماء، مضمّخا بعبارات الوجد والعشق الكونيّ، الّذي يستمدّ منه إيمانه بالحياة، و عشقه للأرض، فتهتزّ نفسه لزقزقة العصافير و يفرح لطلوع الفجر حيث تتجلّى روعة الخالق وآياته، فيبدّد الإيمان ظلمة الحيرة، وتحلّ الطمأنينة محلّ الخوف. و تصفو نفس الشّاعر ليعيش اللّذة القصوى/ لذّة التّأملّ الّتي تطهّر الرّوح وتزكّي النّفس. و هكذا ينطبع شعر منير مزيد في مصطلحاته وصوره بطابع صوفي شفّاف يرنو نحو المطلق، فتراه سهلا في مفرداته، واسعا في دلالاته، ممتنعا في صوره، موغلا في الحداثة.

لن أبتهل لغير ظلك

ولن تتوقف زقزقة العصافير

لطلوع فجر

يبدد الوهم المأساوي . . .

ها أنذا أسلم نفسي للذة التأمل

ترفرف الرؤية بجناحين مشرعين

في فضاءات الروح

يتأهب الشعر للانطلاق إلى اللانهاية. . .

و تستبدّ بالشّاعر رغبة البحث عن الحقيقة، الّتي تبدّد حيرته وظلام نفسه، فيجدها في مناجاة اللّه عزّوجلّ . ذلك النّور الّذي يغمر قلب المؤمن، فيبعث فيه الأمل بعد اليأس، و الطّمانينة بعد الخوف،و اليقين بعد الحيرة؛ فإذا تباشير الثّورة والانتصار، تبدو واضحة المعالم، قريبة المنال/ثورة لا تعترف بالحواجز و لا بالحدود /تبني و لا تهدّم، سلاحها الحبّ العظيم.

أراني اقرأ سفر الغيب

وأناجي الله

ليخلصني من عزائي المرّ . . .

أبحث عن حلم يضيء كياني

يفجر ظلام الصمت العميق

يحمل تباشير الثورة

والانتصار

يحملنا إلى حب عظيم

يحطم كل الحواجز والحدود . . .

و في غمرة هذا التّجلّي، و الصّفاء الرّوحيّ، يأبى الواقع المرّ إلاّ أن ينغّص عليه هذه النّشوة، ليقفز إلى ذاكرته، و يستفزّ أحاسيسه، وهو الفلسطينيّ المهاجر في الشّتات. ومن غيره يعرف نكهة الأرض، و ظلال الزّيتون، و رائحة الزّعتر . هناك تصبح الأرض مرادفا للكرامة، و دافعا للحياة والموت في آن واحد. و هنا تأخذ الأرض في ذهن الشّاعر و وجدانه حجمها الطّبيعي . فبعد أن كان ينشد للأرض الكوكب، ها هو الآن ينشد للأرض الوطن بجزئيّاته الّتي تعيده إلى الأرض كلّما حلّق في سماء البحث عن اللّذة الإلهيّة . مأساة الأرض المحتلّة، مأساة الشّعب الّذي يلاحقه الجوع والقهر و الموت. الزّمن هنا مأساة عبثيّة، بل ضرب من الهذيان. تمرّ السنوات، وليس هناك إلاّ الموت و الهذيان، مفاوضات تليها مفاوضات، ومسلسل احتلال الأرض لا يتوقّف و قطار الموت لا يعرف الأناة.

 

في أرضنا يستوطن الجوع والقتل

نساء يحلبن قمراً ميتاً

يطهون حجارة الصبر

والزمن يقتات على قمح الهذيان

مأساة لا تنتهي. . . لا تنتهي

و تعجّ الذّكرى بالشّاعر، ليتذكّر دموع والدته، وأولائك الّرّجال الّذين دفعوا أرواحهم ثمنا للحريّة، و وهبوا لقاموس الشّعر مفردات وصورا جديدتين، ولمعاني الصّبر و البطولة ما يحقّ لكلّ الفلسطينيين أن يتغنّوا به.

هنا تستحيل الأرض إلى أغنية للمجد/نشيدا للخلود، وفاء للشّهداء الّذين عبّدوا بدمائهم طريق الحرّية للأبناء و للأحفاد، و للأجيال القادمة من بعدهم .

أبداً لن أنسى دموع أمي

لن أنسى من قدموا أرواحهم لأجلنا

ومن أجلنا جميعاً

يملأون حياتنا مجداً وأغانياً. . .

تبتهل عصافير الشعر لذكراهم

وتحلق النوارس وطيور الحرية

في أجواء شعاع الأحلام والظلال. . .

و يعصف الألم بالشّاعر، وتجتاحه موجة عارمة من خيبة الأمل، نتيجة للواقع العربيّ المتردّي، الّذي زاد من مأساة الشّعب الفلسطينيّ، وللصّمت العربيّ الّذي زاد من أطماع المحتلّ ومن غطرسته. و يحزّ في نفسه ما أصبح عليه العرب من صمت وانكسار . و هكذا تتسع دائرة الأرض من مفهوم الأرض الوطن، إلى الأرض الأمّة، و يرتقي الوجدان، من حسّ وطنيّ إلى حسّ قوميّ، يؤمن بوحدة المصير و رابط الدّم و الأخلاق .

آه. . . ما الذي أثقل صدرك

أشواك الجوع

أم أوساخ الخيبة والانكسار

أم عفن الصمت الميت فينا. . ؟

و لا يتوقّف الشّاعر عند الحسّ القوميّ بل يتعدّاه إلى الحسّ الدّيني، فيجعل من رابط الدين، دافعا أخلاقيّا و دينيّا يحتّم على العرب والمسلمين معا الوقوف في صفّ القضيّة الفلسطينيّة العادلة، لا أن يقابلوها بالصّمت والتّخاذل، و ربّما بالتّآمر في بعض الأحيان. أليست القدس أولى القبلتين و ثاني الحرمي؟. أليست فلسطين معبر الأنباء وأرض معراج النبيّ الكريم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم؟ أليست ملتقى الأديان السّماويّة ومهد الحضارات الإنسانيّة ؟ ألا تستحقّ من العرب والمسلمين أن ينصروا إخوتهم في اللّه و في الدّين. ؟ .

آه . . ما الذي يُعذّبُك

وكل خيول الشعر

تصهل في روحك

وعلى أرضك

يهبط نشيد السماء

غنياً بالرؤى. . . بالأسرار. . . .

حاملاً صدى أحلام الأنبياء

وأرق الآلهة. . . .

 

و يمضي الشّاعر في رحلته الوجدانيّة بين أبعاد الأرض و دوائرها . و يبلغ به الألم أعلى الدّرجات، ليمسي روحا طاهرة عارية شفّافة. ، و يشدّه الشّوق إلى عالم الحبّ الأسمى /عالم العشق المعتّق، حيث تتخلّص النّفس من أدران الخطايا.

و تتحرّر الأفكار و الأحاسيس من قيود الشرّ و الرّذيلة، و تحلّق في عالم من الصّفاء لا يعرف الرّتابة /عالم يسبّح للأنبياء، يمكن للشّعر أن ينهل من ينبوعه الصّافي إلى حدّ الارتواء.

بروحي العارية أراك

أراك وحيداً تقطف عنب الشوق

من دالية الحب

تعصره خمراً للعشاق

للحوريات

للشعراء

للفرسان. . .

ثمّ تخرج من بين ضلوعه دعوة صادقة إلى التّأمّل، و نفاذ البصيرة /دعوة إلى الشّموخ، فلا رضوخ إلاّ للحرف، و لا انحناء إلاّ أمام الحرف و الكلمة، (( كلمة طيّبة أصلها ثابت و فرعها في السّماء، تؤتي أكلها كلّ حين )). إنّه نداء إلى أولئك الّذين يريدون أن يتعلّموا الصّبر والشموخ/ شموخ النّخيل، و صبر شجر الزّيتون. هاتان الشّجرتان اللّتين باركهما اللّه، و رفع ذكرهما في القرآن الكرين. (( شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ))

أبداً لا تغمض عينيك

ارفع رأسك عالياً

اُسْجُدْ للحرف والكلمة

ورتل آيات الماء. .

تتباهى بنخيل لا ينكسر

لأشباح يذرن ريحهم السوداء

تتباهى بزيتون يَكَادُ زَيْتُهَ يُضِيءُ

وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ . . .

و يمضي الشّاعر في رحلة التّأمّل، و الاستغراق في ملكوت اللّه، معرّجا بقلبه على العوالم العليا، ليرى حقيقته على الأرض . فما هو إلاّ ظلّ ضارب في الأرض، و روح صافية مطهّرة، تحلّق في عالم المطلق /عالم الأرواح النقيّة، والحقيقة الأزليّة. فهذا الإنسان الظلّ، يسعى في ترقّيه، إلى الانصهار في الذّات العليا، عشقا و تبتّلا، وابتهالا. يسابق الرّيح والعدم، /يغزل المعجزات/ و يحيل الكون إلى أحواض من الياسمين .

و يصل الشّاعر في آخر القصيدة، إلى قمّة النّشوة الروحيّة، ويرتقي إلى أعلى درجات التّجلّي . فيذوب في الحكمة الأبديّة، ليتحول إلى قلب صاف من قطع البلّور /تنبض فيه قصائد الحبّ/ذلك الحبّ الإلهيّ المعتّق. هذا المعين الّذي يستقي منه أشعاره، فتنزل سلسبيلا، و ينهل من منابعه، فلا يكاد يرتوي نحتّى يستزيد.

آه. . أيها الظل

من خلال عيون الإله أراك

من فكر الإله أقرؤك. . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يا ظلاً يسابق الريح والعدم

يغزل المعجزات

ويحيل الكون إلى أحواض من الياسمين. . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وتبدأ الأرض بالنشيد. . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كل شيء يذوي في الحكمة الأبدية

يتحول العالم سريعاً

إلى وردة من الضياء لا يدركها الخيال

وقلب صاف من قطع البلور

تنبض فيه قصائد الحب

هذا هو منير مزيد، من خلال هذا النّوع من الشّعر الّذي أراد له أن يكون الشعّر المطلق، أو الشّعر المعتّق كما يحلو له أن يسمّيه. فلا تخفى عليك - وأنت تقرأه  - نزعته الصّوفيّة الّتي تجعله يستحضر كلّ أو جلّ مصطلحاتها، ليؤلّف منها "بانوراما "جميلة، تأخذك بسحرها الحلال.

شعر منير مزيد، هو من السّهل الممتنع، الّذي يشدّك منذ السّطور الأولى لتكمل معه مشوار رحلته داخل النصّ. ذلك النّصّ المتماسك ن الخالي من الإبهام، و اللّعب على حبال الرّموز الموغلة في الغموض. هو شعر سلس ينساب كالماء الصّافي، و كفجر وضّاء يغسل ظلمة اللّيل.

يوظّف الشّاعر الأرض في قصيدته هذه، كقيمة متعدّدة الدّلالاات، فهي الأرض وهي العالم وهي الكون، وكأنّها مرادفات لمفردة واحدة هي الأرض. يفعل ذلك عن قصد، وعن اقتدار . ينتقل بك من المحسوس إلى المجرّد، و من المجرّد إلى المحسوس، في رحلة مكوكيّة، تستقرّ بعدها على الأرض بما تعنيه من قوانين و نواميس، تستمدّ مرجعيّتها من عالم علويّ صاف في جوهره. بل كثيرا ما تنهي به الرّحلة ليبقى معلّقا بين السّماء و الأرض، يحدوه أمل لا يخلو من التّذبذب أحيانا  في إعادة ترتيب قيمها، ليجعل منها جنّة صغيرة يحلو فيها العيش. و لكنّ روحه تبقى في النّهاية مشدودة إلى الأعلى، في توق لا ينضب /توق لا يعترف النّسبيّة، و لا تعتريه الرّتابة. لذلك ترى الصّور الشّعريّة في نصوص منير مزيد، يتناسل بعضها من بعض، دون أن يسقط في عمليّة استنساخ نمطي تجعله يكرّر ذاته داخل النصّ.

تجمع نصوص منير مزيد في أغلبها، بين وحدة الموضوع، و تعدّد العوالم والأنساق الّتي تتشكّل منها هذه النّصوص، يحدوه في ذلك هاجس واحد، هو معادلة الإنسان الذّات، والإنسان الجوهر. لذلك يكاد يغيب مفهوم المكان، وكذلك مفهوم الزّمان، في كثير من نصوصه. و كأنّه يأبى أن يسجنها في هذا الحيّز الضيّق أو ذاك، خوفا عليها من الجمود و الموت. لهذا السّبب،و لأسباب كثيرة أخرى، كان شعر منير مزيد عابرا للقارات، بل وعابرا للثّقافات. ولا غرابة فالشّاعر يتقن عديد اللّغات، ويحرص على ترجمة نصوصه بنفسه. و حرصه على ترجمة نصوص أخرى من الشّعر العالميّ إلى العربيّة، لا يقلّ عن حرصه على ترجمتها إلى لغات أجنبيّة أخرى. .

محمد الصالح الغريسي

04/04/2010

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1365 الاثنين 05/04/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم