صحيفة المثقف

العراق – من الجبهة الوطنية 1975 الى (الجبهة) العراقية 2010 احذروا – انهم عائدون

كافة مصادر القوة العسكرية من جيش وشرطة  وسواها تحت قبضته، والاستيلاء على ثروات  البلاد بأكملها، وبعد الاطمئنان الى ان أحد لم يعد بإمكانه تهديد سلطته، جاء ببعض القوى السياسية كجناح اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي وبعض من بقايا الحركة القومية الناصرية وقوى  سياسية أخرى استثنى منها التنظيمات الاسلامية، واعلن عن قيام (الجبهة الوطنية العراقية) بعد فرض شروط قاسية على القوى المؤتلفة معه – خاصة الشيوعيين – منها ان لايكون لهم تنظيم داخل الجيش والشرطة والامن العام والاستخبارت وسواها، حيث اقتصر حقهم في اصدار جريدة يومية والاحتفاظ بتنظيماتهم في نقابات العمال والجمعيات الفلاحية واتحاد الطلبة العام وسواها من المنظمات التي لا تشكل خطرا مباشراً.

بعد ذلك صدر القرار الشهير باعدام كل منتسب الى القوات المسلحة وبمفعول رجعي، اذا ثبت انتماؤه الى اي تنظيم سوى حزب البعث ولم يصرح عن ذلك، ثم استخدمت التصريح ذاته دافعا لتصفية الكثير من الضباط والمنتسبين بذريعة انتماءاتهم السابقة .

في الشعوب المتطورة، يسير التاريخ بشكل تصاعدي عموماً حيث تراكم منجزات جيل سبق الى اجيال لاحقة، أما في العراق خصوصاً، فالتاريخ فيه يسير وفق تراتبية الهدم والبناء التي لاتنقطع وبالتالي فهو تاريخ دائري تتكرر فيه مضامين الاحداث وان تغيرت الازمنة والأساليب . 

جاء البعث بقطار أمريكي كما في قول امينه العام (علي صالح السعدي) وقد اشارت اعترافات سياسيين امريكيين كبار، انهم دعموا البعث في الستينات من القرن المنصرم، من أجل مكافحة المد الشيوعي كجزء من مستلزمات الحرب  الباردة، وقد قام البعث بمهماته خير قيام، واليوم يبرز المد الاسلامي بكل اشكالاته وخطورته على مايحدثه من ارباكات في المسار الدولي، ان كان بشكله الارهابي الذي تمثله البنلادنية والوهابية وما يتفرع منها، او بشكله الشيعي الثوري على مقاس النجادية والحزب اللهوية - نسبة الى حزب الله – ونسخته العراقية المتمثلة بالتيار الصدري  .

الاستراتجية الامريكية لم تتغير في المنطقة جوهريا، حيث لم تتراجع أهمية المنطقة في المديين المنظور والاستراتيجي، لكن تغيرت طبيعة الخطر الذي على امريكا مواجهته، انه الآن اكثر زخماً واكثر تنوعاً وابتكاراً لأساليب المواجهة، فاذا كانت الشيوعية في ذروة صعودها، قد اقتصرت على مهاجمة (الامبريالية) الامريكية عدوة الشعوب والمساندة  للطبقات الرأسمالية  في هيمنتها على البروليتاريا والطبقات الكادحة، لكنها - الشيوعية - لم تخلق طبقات من الانتحاريين المستعدين لتفجير انفسم في اي هدف كان من دون ضوابط سلوكية أو اخلاقية كما يفعل الارهاب حيث كل شىء مباح ومحلل طبقاً لفتاوى (الجهاد).

الخطورة في مواجهة الارهابيين تكمن انهم يخرقون كل ماهو متوقع  ضمن حسابات منطقية، فهم يعتمدون على دعاوى دينية لاتقر بأحكام العقل ونتاج المعقول، بل تمتد لتجعل القتل واجباً جهادياً جائزته حياة أخروية خالدة ومشبعة بكل السعادات التي لايمكن تحصيلها على الارض الفانية، والمشكلة الاكبر ان ذلك ينبع من موروث متأصل في قلب المنطقة ومن جوهر التشكل النفسي لشعوبها، اي انه ليس ايديلوجيا مستوردة من الغرب كما هي الشيوعية .

واذا كانت الشيوعية تحتاج الى تنظيمات حزبية ووسائل اقناع وطرقاً للتوسع قد لايحالفها النجاح في الغالب حيث لاوعد بخلود ولا تسارع للجنة في الحياة الأخرى ولا تخفيفا لمرارة الموت، فكل ما تقدمه الشيوعية لمريديها ومعتنقيها وعداً بعدالة أرضية ينالها الكادحون حين يصل ممثلوهم الى الحكم .

اما الفتاوى (الاسلامية) فهي تعد بكل شىء –اقامة  دولة الله على الأرض – نشر الاسلام على طريقة الرواد الأوائل – اعادة دولة الخلافة - قهر قوى الكفر وتطهير الارض من شرورها- فمن بقي على قيد الحياة شارك بكل هذه (الامجاد) بما يناله من ثواب في آلاخرة لايعادله ثواب، ومن سقط ( شهيداً ) في هذا السبيل، فهو ملاق وجه ربه بشوشاً سعيداً سعادة أبدية، وعليه تكاثرت الخلايا المستعدة للموت، من دون حاجة الى كسب مباشر وقيادة ميدانية، بل تشكل اغلبها بمبادرات فردية في مدن وأحياء لاتحصى في العالم – الاسلامي خاصة – أو حيث تواجد مسلمون .

أمام هذه المعضلات، وقف العالم باكمله عاجزاً عن مواجهة خطر لايعرف  حجمه ومقداره ولامديات وصوله، لذا لابد من ايجاد حلول تنبثق من (تلاليف) المنطقة ذاتها ومن موروثها ذاته، لكنها اكثر وضوحاً وقدرة على مواجهة التطرف الاسلامي، اذ ان تلك القوى (علمانية) عموماً ومنظمة بتراتبية منضبطة، ورغم ميلها الى العنف، الا انها تتبع ايدلوجيا براغماتية حيث لاترتبط بفتاوى ونصوص مقدسة لاتجوز مخالفتها، انها تنقاد لمتغيرات السياسة التي يمكنها التعايش مع مفردات الديمقراطية بشكل ما، وفوق ذلك فهي مجربة في تعاملها مع أمريكا وأقل تعصبا وانغلاقاً، كما اثبتت نجاحها في اداء مهامها مثلما فعلت مع الشيوعية، انها باختصار (حزب البعث) الذي يمكن بقليل من الجهد والمساعدة، دفعه لاستلام السلطة في العراق على منطلقات جديدة في عودة للانقلابات البيضاء لكنها عبر صناديق الاقتراع هذه المّرة، ولاباس من تلاعب طفيف في النتائج لتأتي طبقاً لما يراد له ان يكون .

البعث يحكم سوريا بنسخة قديمة نجحت بدورها في توجيه ضربات قاصمة للقوى الاسلامية المتطرفة في ثمانيات القرن المنصرم، وحافظت على ذلك النجاح الى اليوم، والعراق الجديد يجري تفصيل نسخة جديدة من البعث بقيادة علاوي ورموز اخرى لا تقطع مع القديم الذي سيوصلها للسطة بانقلاب ابيض كذلك .

وعلى هذه الحيثيات ، يتصرف قادة (العراقية) باعتبار حتمية وصولهم الى السلطة، تظهر ذلك تصريحات العديد من اقطابهم قبل الانتخابات وابّانها وبعدها، اذ بتحليل منطقي لمجمل تحركاتهم وماصدر عنهم، تشي بيقينة مفرطة انهم قادمون حتماً، لقد رابط  علاوي في سوريا قبل يوم واحد من الانتخابات في اشارة ضمنية لتهديد مبطن باستمرار العنف ورداً على طلب حكومة المالكي بلجنة تحقيق من الأمم المتحدة، كذلك تصريحاته بإرتفاع وتيرة العنف اذا اتفق الائتلافان – القانون والوطني – واذا جرت محاولات لاجهاض الديمقراطية الخ،  وقد اتت سلسلة الانفجارات اللاحقة والمتزامنة مع هذه التصرحيات كمصداق لها، مع مارافقها من  تصرحيات تحّذر من المزيد .

تلك امثلة على نموذج من تصريحات في السياق ذاته اطلقها قادة (العراقية) الذي تحدثوا عن (المهزومين) هكذا بالحرف، الذين لايحق لهم الحديث عن تعطيل الحكومة حيث حصر هذا الحق في (العراقية) فقط لانها فازت بفارق مقعدين عن اقرب المنافسين وهو فوز لايمكن الاعتماد عليه وحده لتشكيل الحكومة كما ينص الدستور، لذا فالانقلاب الابيض قد يتحول الى انقلاب عنيف اذا لم تتسلم (العراقية) السلطة ومعها بطبيعة الحال حزب البعث وهو سدى (العراقية)  ولحمتها .

السيناريو المتوقع في حال نجاح الصفقات الاقليمية مع أمريكا وبالتالي (نجاح) علاوي بتشكيل الحكومة سيكون كالتالي :

1: سيدعو علاوي الاخرين الى المشاركة في السلطة وقيام (جبهة وطنية عراقية).

2: في الوقت عينه ستتشكل فرق اعدام ميدانية واغتيالات واعتقالات سرية تمارس عملها على نطاق واسع بحيث تجري تصفيات جسدية لضباط الجيش والشرطة من غير البعثيين وفصل بعض العناصر الناشطة في القوات المسلحة والوظائف الحكومية أو تصفيتهم معنوياً بشتى الاتهامات .

3: دفع مناصري المشروع الوطني من كتاب ومثقفين واعلاميين وسياسيين الى الالتحاق بالنظام الجديد بوسائل عديدة تندرج جميعها تحت بندي (الجزرة والعصا)، اي بكل الاساليب المجربةّ التي سبق استخدامها في عهد صدام حسين .

4: ستكون هذه الانتخابات، هي الأخيرة التي تجري على هذه الصورة، اذ ان الانتخابات القادمة ستعود الى نغمة فوز الحزب الحالكم الذي سيكتسح المقاعد بنسبة تخوله تشكيل الحكومة منفرداً، تحت يافطة (الانجازات التي حققتها الحكومة) حيث  سيكون من ضمنها تراجع العلميات الارهابية في شكلها الحالي واقتصارها على العمليات السرية المحددة الاهداف والاستهداف .

5: يرافق كل تلك الاجراءات، عودة هائلة للشعارات القومية القديمة في تمجيد الهوية العربية للعراق والحفاظ عليها  مع ضرورة محاربة اية محاولات تستهدف (عروبة) العراق --- الخ  .

وهكذا (ينجح) التاريخ العراقي في اعادة متكرراته الدامية كي يكون اميناً على ماسجل في صفحاته وفصوله السوداء، وسيكتب المؤرخون بعد سنين عن فشل تجربة واعدة،  لقيام تيار وطني عراقي حاول المالكي ان يعمل عليه ليعود العراق عراقياً، لكن تآمر العرب بالتعاون مع امريكا قد اجهض تلك التجربة  ليبقى العراق يجّتر ازمنته ومآسيه، ألم تحدث تلك التفاصيل مع عبد الكريم قاسم الذي اتهم كذلك بالدكتاتورية كما اتهم المالكي؟ ألم تسقط تجربته بتعاون العرب وامريكا؟ ذلك هو تاريخنا القريب فاقرأوه جيداً، أو فانتظروا المزيد اذا لم تتعظوا وتكسروا متواليات الماضي الكابوسي .

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1369 الجمعة 09/04/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم