صحيفة المثقف

البركة السعودية والهوان العراقي

رضخ (زعماء) العراق في ان يكون العراق ولاية تابعة لمملكة آل سعود، تساوى في ذلك كل طوائفهم وقومياتهم واحزابهم وكتلهم الفائزة .

لقد ربحت القائمة التي راهنوا على فوزها (العراقية) منذ ان استقبلوا رئيسها اياد علاوي باعتباره رئيس وزراء العراق المقبل، ثم وجه الشكر اليهم بعد دقائق من اعلان النتائج، في وقت امتنعوا فيه عن استقبال المالكي حين كان الرئيس الفعلي  لوزراء العراق، كذلك لم يتوانوا عن اعلان موقفهم برفض اي حديث عن عودة المالكي كرئيس للوزراء مرة اخرى في تدخل سافر .

وما أن وضعت (الحرب) الانتخابية أوزارها، حتى تسارعت الوفود لتقديم فروض الطاعة لقيادة المملكة وكلّ ذلك يحدث بحجة التشاور وتحت سمع وبصر المشوهة اجسادهم والفاقدين اعزاءهم بفعل المفخخات التي كان للملكة فضل كبير في حصولها .

أول الذاهبين كان وفد من أولئك (الثوريين) الذي وقفوا ضد الاحتلال الامريكي وقاوموه بشتى السبل لكن مقاومة (احتلال) السعودية ليس جائزاً، فكان ان ذهب الصدريون وهم يمنون النفس باعتراف سعودي لدورهم في العراق .

ثم استعدت القوافل تباعاً، جلال الطالباني حط رحاله هناك وكانه يكفرّ عن زيارته لإيران قبلهم -  ثم مسعود البارزاني الذي يستعد بدوره لتقديم اوراق اعتماده لجناب المملكة كي ترضى بتطويبه (والياً) على اقليم كردستان، وهاهو عمار الحكيم يجهز نفسه للذهاب هناك لنيل البركة من الايادي المباركة للملك المبارك .

 لاشك انها سياسية تستحق ان نرفع لها القبعة والعمامة والتحية باليدين على السواء، لقد (صبرت السعودية ونالت) وهاهم العراقيون بكل لغاتهم ولهجاتهم وطموحاتهم، يذهبون اليها زحفاً.

لكن (اللعنة) على هذا العقل الذي مازال جامداً عند بعض العراقيين، خاصة من  لم يدركوا بعد اهمية البركة السعودية، ولم يتسرب (الايمان) الى نفوسهم بأن العراق لم يكن في الواقع الا ولاية تابعة لال سعود وهاهي تعود الى اصحابها، فلم العجب ؟

على ان هذه (اللكن) لم تمنع السؤال مرافقاً للعنة، ماحاجتنا الى السعودية فعلا؟

بداية، كان التعبير عن الغضب العراقي ينطلق من عدم  حاجة العراق الملحة الى الدعم السعودي، وبالتالي فمراعاتها لم تكن مما تحتمه المصالح، لذا جاء وقت طق  فيه عرق الغضب على جبين نوري المالكي بعد ان بلغت السلوكيات السعودية  ضد العراق حداً عسيراً على الهضم، وقد ترجم ذلك بماقاله في خطاب متلفز قبل بضعة اشهر من الانتخابات .

كانت كل الحسابات السياسية والاقتصادية، تشير الى أن العراق ليس بحاجة الى السعودية، وباستثناء دعمها للارهاب وفتاوى التكفير التي يطلقها مشايخها ومحاولاتها المحمومة لتدمير العراق، فإن تاريخ العراق الحديث بأكمله، شهد توترات شبه دائمة مع تلك المملكة التي قامت أصلاً على العدوان بعد ان (اخترعوا) منطق التشدد الذي أسس لاحقاً لانتشار التنظيمات الارهابية التي اعتمدت على جذور الوهابية دينياً والمال سعودي تمويلاً.

تلك حقائق باتت تدركها الكثير من دول العالم، لذا  فليس مستغرباً أن يكون العراق أول من ينبغي عليه الحذر منها، رغم ان العهد العراقي الجديد تصرف وفق ماتنص عليه توجهاته الجديدة التي  تريد جعل العراق مركز أمن واستقرار في المنطقة لا عامل قلق وتوتر كما كان عليه الأمر في عهوده السابقة.

لكن التجربة ـ على قصرها ـ أثبتت صحة المقولة التي كانت معروفة منذ بابل وآشور، أما ان يكون للعراق ناب حاد، أو تنهشه الأنياب الحادة، ذلك لأن قدر العراق ان يكون قوياً يفرض هيبته واحترامه على دول الجوار، والا فلن يستطيع العيش، وهو ماتجسد واقعاً، فأي  من دول الجوار لا تعامل العراق بعداء سافر او مضمر، بل وباستهانة وازدراء جعلها (زعماؤه) المنتخبون واقعا مريراً؟.

مامر به العراق، سبق ان مرت به دول عظمى، المانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وبريطانيا في عهود خلت، بل حتى روسيا العملاقة كانت تتعرض لاعتداءات أيام القياصرة، من قبل فنلندا التي تصغرها بمرات، لكن ساستها لم ينحنوا، ولم يتوسلوا لأحد .

كل دول الجوار تتعارض مصلحتها مع نهوض العراق، تلك حقيقة جلية على العراقيين اقرارها والتعامل معها، لكن من بين كل الدول المحيطة، تبدو السعودية هي أقلها تاثيراً في احتياجات العراق، فمن الناحية الجغرافية، تفصله عنها صحراء قاحلة لايأتيه منها الا السموم الحارة والغبار المدمر، وان استطاعت السعودية بناء سدود لحجز تلك السموم والغبار، فسيكون العراق هو المستفيد، كذلك فان حركة النقل للبضائع والاشخاص، هي الأقل من نوعها على كافة الحدود العراقية الأخرى، كما ان لا تمثيل ديبلوماسي للسعودية في العراق  كي يخشى عليه، اما ماترسله من إرهابيين أو أموال لدعم العنف في العراق، فقد استطعاع العراقيون التعامل معه ولم يعد مجهولاً لديهم، وفوق ذلك، فكلما ازدادت الهستيريا السعودية، كلما ساهم ذلك بكشف حقيقتها امام البشرية جمعاء، ثم ان العراق كان يستطيع ان يسبب لها من المشكلات بدرجة لاتقل عن تسببها بمشاكله، واذا أراد سلوك هذا الطريق، فحتماً لن تكون منامات حكامها مطمئنة، فأقله كان العراق  يكتسب تعاطف العالم، فيما العالم ذاته يزداد نفوره مما يقفون وراء حصوله وانتشاره ـ أي الارهاب ـ.

كانت تلك هي المقولات التي بنى عليها المالكي حساباته ومواقفه من السعودية، لكن في كل ذلك، كان على المالكي ان لا يخطىء الحساب، وبالتالي لا يستجيب للضغوطات المغرقة في شعاراتها الايدلوجية التي لا تمتلك رؤية استراتيجية واضحة، فتضيع على العراق فرصة تاريخية لتقوية وضعه وتركيز دوره في المنطقة.

كانت مصلحة العراق تكمن في استجابته للتماهي مع توجهات الحضارة البشرية التي باتت ترى انه الوحيد من بين دول المنطقة ـ العربية خاصة ـ  الذي بإمكانه ان يقدم نموذجاً حقيقياً للحداثة والديمقراطية، وبالتالي  ينبغي عليه التصرف انطلاقاً من هذه الرؤية. 

فهل سبقه الوقت ؟ وهل سيغلبه المتراكضون الى هناك على أمره ؟

لاحلّ أمام المالكي وكتلته سوى المزيد من الثبات، مع زيادة الوتائر في خطابه الوطني، وضوح أكثر لالبس فيه، ورسم طريق الوصول الى الهدف، تبيان المخاطر التي يتعرض لها العراق، قلب الطاولة على الخصوم، التوجه نحو الشعب مباشرة، عدم الخشية من تلك التحركات والزيارات التي تكثفت باتجاه الخارج، تنظيم حملة اعلامية لشكف مخاطرها وابعادها الانية والمستقبلية  على العراق، حملة يقوم بها مثقفون وصحفيون ممن يؤمنون  بالمشروع الوطني .

لاشك ان الاسطوانة التي يرددها هؤلاء (الزاحفون) الى رحاب المملكة، باتت معروفة وممجوجة : ان على العراق ان يكون على علاقة جيدة مع جواره .

ذلك كلام حقّ ظاهراً، لكن مضمونه يشي بسوء تقدير لطبيعة تلك العلاقة، اذ لاشيء بحساب السياسة يجبر العراقيين على استمزاج رأي الجوار وأخذ تعليماتهم في تشكيل حكومة يفترض انها تمثل شعب العراق لا وكيلاً لتلك الدول، لكنه العراق حيث كل شيء فيه يسير بعكسه، والا فهل رأينا أحداً فعلها قبلنا، سوى سياسيي لبنان وكان الى امد قريب الاستثناء الوحيد في المنطقة كلها  .

     

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم