صحيفة المثقف

العراق – بناء الداخل وإرضاء الخارج .. أيهما احقّ وأيهما أسبق؟

ذلك ما تعلمنا إياه مفاصل الحياة، فالثمرة فجة مرة الطعم حين تقطف قبل موسمها، لكنها ذابلة تالفة بعد أوانها، وفي كلتا الحالتين يكون ضررها يجاوز نفعها .

في بعض الحقائق التي يسطرها التاريخ العراقي منذ بداياته الأولى، ان جدلية الهدم والبناء هي التي وشمت ذلك التاريخ منذ الألف الرابع قبل الميلاد، حينما كانت المدن السومرية هي الأعظم والأكثر تطوراً بين نظيراتها في الأرض،لكن الهجرات الكثيفة، سواء السامّية التي قدمت اليها من شبه الجزيرة العربية، او تلك المنحدرة اليها من اعالي الجبال، درست تلك المدن ثم أعيد بناؤها من جديد، وهكذا كانت استنثائية التاريخ العراقي الذي تصارعت فيه قيم البداوة والحضارة كما يقول د. علي الوردي .

كان العراق هو الواحة التي تستطيع توفير وسائل العيش ومستلزمات بناء الحضارة، لكنه يقف على تخوم الصحراء وسفوح الجبال، لذا كان قدره الذي حتمه موقعه الجغرافي، ان يتلقى الضربات من هذه الجهة او تلك، وهو ملزم بصدها أو استيعابها كي يستمرفيه تطور الانسان، لكنه امام تلك المعضلة التي افرزتها الجغرافيا وأطرها التاريخ، كان عليه ان يبدأ دائما من نقطة حرجة، يستوعب الهجرات بدمويتها وصخبها ثم يؤطرها بدوره ليمزجها في دورته الحضارية، لكنه ملزم قبل ذلك بالدفاع عن منجزاته . على تلك المتواليات، نشأت اشكالية السلوك في الانسان العراقي، مرونة التحضر وقسوة الحرب، رقة الاستقبال وصلابة التصدي، عذوبة الشعر والغزل، مع صيحات الحرب ومراثي النواح .

في كل ذلك ومن خلاله، شكل العراق أولى الحكومات في التاريخ، لكن أكثرها صرامة في الوقت عينه، سنت قوانين عالجت فيها نواحي الحياة اليومية المباشرة بما يتطلبه وجود مجتمعي مستقر نسبياً، بمعنى ماتوفره خصوبة الارض وغزارة المياه من حياة لا تتطلب الترحال بحثاً عن الكلأ والماء كما في حياة الصحاري، ولا العيش في كهوف منعزلة كما في الجبال، بل حياة تنشأ في كنف تجمعات كبيرة على شكل مدن او قرى تنتظم ضمن سياق عام، وبالتالي تنتقل من اطار العرف الذي تتبعه حياة الترحال، الى اطار القانون حيث المهام المتعددة والمتشابكة لحياة المدن التي تتطلب تنظيما ارقى تبعا لتعدد مايجب انجازه .

لاشك ان دراسة المجتمع العراقي وطبيعة نظرته الى السياسة بشكل عام، تمنح الباحثين مادة خصبة لا تكفيها الدراسات التي تنظر من بعيد، بل ينبغي الانغماس في قلبها لاكتشاف بعض حيثياتها، انه اشبه بالبوذية كما يصفها مريدوها : لايمكن فهمها الا من داخلها، لذا ذهب عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، الى القرى  والبلدات ودخل في قلب المجتمع العراقي لينظر ويلاحظ ويدقق ويسجل ومن ثم يحلل بناء على تجربة حية، كما طبيب ماهر يفحص مريضه بدقة ويشخص طبيعة المرض قبل وصف العلاج .

 

ما المراد من مقدمة كهذه ؟

كانت الدولة في العراق، منفصلة عن المجتمع على الدوام، اذ انها لم تستمد شرعيتها منه بشكل مباشر  ففي العصور القديمة، حكم الملك باعتباره ممثلاً للالهة ووكيلها على الارض، لذا جاء عقاب من يرفض هذا التوكيل بمثابه عصيان لارادة الآلهة، ثم جاء الخلفاء الامويين والعباسيين وبني عثمان، فساروا على النهج ذاته مع اختلاف طبيعة المعتقد الديني، اي انهم في الجوهر استمروا في القول انهم يحكمون بموجب توكيل الهي  باعتبارهم ولاة أمر توجب طاعتهم والا عدّ الخروج عليهم كفراً .

وفي العراق الحديث، جيء بملك حجازي ليتولى حكم العراق، فحكم بموجبين: دعم بريطاني، ومشروعية سياسية وفرتها مجموعة من ضباط عثمانيين سابقين ورجال دين وقوى سياسية مختلفة .

ثم جاءت الشرعية من مصدر القوة في انقلاب عسكري، توالت بعدها الانقلابات، الى ان استقرت السلطة لأكثر من ثلاثة عقود بيد حزب واحد وقائد أوحد.

في كل ذلك كانت مشروعية الحكم تقررخارج الشعب رغم ان جميع الدساتير- الدائمة منها والمؤقتة – وكل القرارات، كانت تتخذ بعد جملة مقدمة على سواها : باسم الشعب .

تلك الاشكالية خلقت مفارقاتها، ففي وقت شهدت السياسية اضطرابات شديدة من اجل الاستيلاء على السلطة، ولأنها لم تكن بحاجة الى المجتمع الا في مجال الطاعة التي فرضت قسراً،لذا عاش المجتمع العراقي بمنأى نسبي عن اضطرابات السياسة، لكنه شهد في المقابل ثباتاً مجتمعياً لم تتخله حروب اهلية وانقسامات حادة، بل حتى الانتفاضات والحركات المناوئة للسلطة- بما فيها الحركة الكردية -   بقيت محصورة بإطارها السياسي في الواقع، ولم تحدث انشقاقاً  مجتمعيا سواء على اسس طائفية أو اثنية أو دينية .

 

بعد التغييرالعاصف في التاسع من نيسان 2003، توفرت لأول مرة امكانية  الانعطاف في المسار السياسي  للعراق، فالسلطة  هنا، اصبحت ملزمة بالتوجه الى المجتمع كي تكتسب مشروعيتها عبر صناديق الاقتراع، لكن، ولأن التغيير لم يأت عبر مسارات طبيعية تهيأت فيها الظروف للسياسية ان تعيد صياعة نفسها  في مفردات جديدة تتجاوز الإضطراب السابق، لذا نقلت اضطرابها الى المجتمع حيث اضطرب بدروه تبعا للسياسية التي دخلت الجديد بمفردات قديمة .

لم يجد السياسيون (الجدد) امامهم سوى استنهاض المكونات الأولية  في المجتمع – طائفية او قومية او مذهبية او قبلية – للاحتماء بها وبالتالي زج انفسهم في موقع القرار باعتبارهم يمثلون مكوناتهم بصفتها ماقبل الوطنية كما اسلفنا .

العنف السياسي الذي بقي مقتصراً على السلطة  في السابق، انتقل بدوره الى المجتمع، ومع الدوافع والمحرضات التي اتخذت اشكالاً متعددة، مورس بقوة الى درجة الإشباع، ثم بدأ بالانحسار بعد ان فقد الكثير من أعمدته  وحواضنه، حيث لم تجد الذاكرة المجتمعية ما تستند عليه في ادامة العنف .

في كل ماسبق، كان المجتمع العراقي يعيش واقع الانفصال عن السلطة باعتبارهه ليست منبثقة عنه وبالتالي فهي لا تمثله الا بمقدار اعتماده عليها في توفير وسائل عيشه، ذلك لأنها ظهرت في صفتين :  أما ربّ عمل ينبغي ارضاءه بأي ثمن، أو حارس مسلح يجب تجنبه طلباً للسلامة، وفي كلتا الحالتين تكون العلاقة معها غير سوية  .

لكن الصورة اختلفت  بعد التغيير، فقد انبثقت امكانية حقيقية لتنقلب قتامة  الانماط السابقة الى حيوية الحاضر، فالسلطة هنا تحكم باسم الشعب الذي  انتخبها لوظيفة محددة في مدة محددة سلفاً، وبالتالي فنجاحها يعتمد في ادارة نشاطاته كمجتع والاشراف عليها وتنظيمها ضمن قانون ساهم بالتصويت عليه وبالتالي ارتضاه لنفسه ولم يفرض عليه بالقوة كما كان الامر في حكوماته السابقة .

شعور العراقي لأول مرة عبر تاريخه القديم والحديث، ان هناك سلطة تمثله بإرادته، كان من شانه ان يغير تدريجياً من نظرته تجاهها، ليس في سلوكياته فحسب، بل في فكره وثقافته وتشكله النفسي والنظر الى مفهوم الهوية الوطنية بشكل مغايرعما كان عليه، اذ عندما يستند في حماية نشاطه الى قانون ساهم بوضعه والى حكومة تمثله، لن يضطر الى  الاحتماء بمكوناته الطائفية او القبلية وماشابه، عندها يكون طريق بناء الهوية الوطنية قد بدأ بشكل صحيح، فيما يتراجع الشعور بالاستهداف عند هذا المكون أو ذاك، من قبل شريكه الوطني، فيجعله يتمسك بامتداده الاقليمي كي يحفظ توازنه داخل وطنه، سواء جاء على شكل حماية طائفية أو قومية أو تحت أي مدعى آخر، اذ تغيب الصورة الحقيقة للداخل الوطني وسط غبار المتناقضات التي يعيشها، لتبرز على حسابها امتدادات الخارج كمعادل موضوعي لاختلال الداخل .

بعد التغيير، تعرض العراق الى (غزو) ارهابي حقيقي جاء من ذات الأمكنة التي رفدته عبر التاريخ، وكان المنطق يقتضي التعامل معها ضمن هذه المستويات، فالجوارمازال يعيش في دولة القديم حيث المشروعية أما حقّ تاريخي ديني، كما هي في السعودية، أو مشروعية (ثورية) تتكىء على حزب (ثوري)  كما في سوريا، أو خليط من الاثنين معاً كما في ايران .

ومع انبثاق تجربة مغايرة لتلك النماذج  في الحكم، وفي بلد كانت العلاقة معه ملتبسة على الدوام، كان لابد من محاولات محمومة لتدمير أو اعاقة التجربة الجديدة في العراق، لا لخطورتها على الوضع العراقي فحسب، او لانها استبدلت مكون حاكم بمكون آخر، بل لأن نجاح التجربة العراقية سوى يفقدها شرعية حكمها ذاته، مع كل ماتحمله من اخطار مستقبلية على مجتمعات تلك الدول، التي أخذت بالتملل من بداية نجاح في التجربة العراقية، لذا فمن المحتم جعل تلك التجربة تدفع اثماناً غالية تجعل الشعوب المجاورة تتجنب الوقوع في مثلها .

انطلاقاً من ذلك، كمنت الخطورة في الزيارات (الرعناء) التي قام بها عدد من سياسيي العراق، أما وصفها بالرعناء فيمكن ايجاز الأسباب وفق مايلي :

1: انها جاءت قبيل تشكيل الحكومة العراقية وفي ذورة الحديث عنها، ما يوحي للشعب العراقي ان الانتخابات ليست هي العامل الأهم في تشكيل الحكومة بل دول الجوار، وبالتالي يعود الى نقطة الشعورالحرجة  بأن هذه الحكومة لاتمثله واقعاً ولاتستمد شرعيتها منه، ما يفقد فرصة محورية امام تبلور وعي وطني عراقي بإمكانه ان يساهم في نهوض العراق .

2: اقرار ضمني بفشل التجربة العراقية، وبالتالي الاعتراف بأن نماذج تلك الانظمة هي الاكثر ملائمة لشعوب المنطقة، مايوحي بانهيار كامل لمسار الديمقراطية في العراق، وبالتالي  البحث عن وسائل مناسبة للعودة الى الحكم الشمولي بطريقة التراضي أو التقاسم، من هنا يصبح الحديث عن الفيدرالية المركزية هي الاصلح كما في نموذج الاقليم الكردي،وهو ماظهرت بوادره في البصرة التي رفضت في السابق تلك المحاولة بجعلها اقليماً، فيما تبدو اليوم الفرصة اكثر ملاءمة بعد ما بينته الانتخابات .

3: دفع العراقيين الى فكرة الاقاليم (المستقلة) ستعني في الجوهر تفتيتاً لفكرة الدولة العراقية الموحدة، عندها سيكون الرجوع الى ماطرح في بدايات التغيير عن خطة تقسيم العراق الى : دولة شيعية في الجنوب  - لاشك ستكون مقربة من ايران او دائرة في فلكها بحكم المشترك المذهبي والبحث عن امتداد استراتيجي – دولة سنية في الغرب مقربة من السعودية وسوريا او تحت حمايتها للسبب عينه- المشترك المذهبي أوالقومي -  – دولة كردية في الشمال تستمد مركزيتها من خصوصية تجربتها مع بقائها محطّ انظار بقية الكرد.

ذلك مايعنيه الاقرار بدور محوري لدول الجوارفي التدخل على هذه الصورة في تشكيل الحكومة العراقية ، واية تبريرات يمكن ان تقدم في هذا الصعيد، يمكن ردها ضمن المعطيات الحالية أو المستقبلية على حدّ سواء .

كان يمكن ان تكون تلك الزيارت ضرروية بل واجبة الحصول، لوجرى الانتظار الى مابعد تشكيل الحكومة العراقية ونيلها الثقة من مجلس النواب، اذ يصبح من واجبها تثبيت اسس العلاقة مع دول الجوار في نطاق المصالح المتبادلة، وتلك هي الخطوات الصحيحة لبناء العراق، فالبلد حين يكون في بداية التأسيس، ينبغي ان تكون الاساسات قوية ومتينة كي لايبقى البناء عرضة للانهيار كيما يشهد بذلك تاريخ العراق الحديث،وبالتالي فالزيارت أخلت بشكل جوهري بهذه المعادلة التي تعتبر بداهة في عالم السياسية، ذلك لأن العلاقات بين الدولة انما تحكمها انماط ثلاثة : اما منافع متبادلة وهو الشكل الارقى الذي يتطلب وجود حكومات تمتلك استقلالية قرارها، أو ردع متبادل بمعنى ان كل طرف يمتلك اوراقاً للقوة قد تكون اقتصادية او سياسية او عسكرية او حتى ثقافية او اعلامية، بامكانه استخدامها ضد الطرف الاخران اقتضت الحاجة، ليعيد من ثم العلاقات الى طبيعتها السوية .

 أما أكثر العلاقات اشكالية، فهي علاقة التبعية من طرف والوصاية يتخذها طرف آخر، وتزداد العلاقة سوءا باستمرار، حين يقرّ الطرف التابع بأحقية الوصاية لذلك الطرف وبالتالي التصرف تبعاً لذلك.

الخلاصة ان تلك الزيارات المكثفة والمحمومة التي قامت بها قوى سياسية عراقية، كانت خطأ فادحاً قد يصل الى عتبة الخطيئة، فهي قد ارست دعائم عرف خطير في مستقبل العراق قد تدفع ثمنه اية حكومة مقبلة، اذ سترى دول الجوار ان زيارتها والتشاور معها في مايخص الداخل العراقي ـ اصبح واجباً ملزما على اية حكومة عراقية، ويكفي من يخلّ بذلك ان تقاطعه هذه الدولة أو تلك، ليسارع سياسيون آخرون لمحاولة استرضائها نكاية بمن حاول الخروج من ذلك التقليد المرعب، وبالتالي محاولة استلام السلطة بطلب رضا الجوار ماداموا هم اصحاب القرار . 

 أليس هذا ماحدث ويستمر بالحدوث أمام اعيننا ؟

ان ماحدث يشبه الى حدّ ما، الخطأ الذي ارتكبه زعماء العراق بعد ثورة العشرين، حين ذهبوا الى ملك الحجاز الشريف حسين ،كي يرسل ولده لحكم العراق، فرسموا بذلك نذر المآسي والكوارث  اللاحقة  بعد ان ضحوا بالدماء التي قدمها العراقيون طلباً للاستقلال، ومن ثم كُتب على التاريخ العراقي الحديث ان يبدأ بداية معّوجة انتهت مساراتها الى ماشهدنا  .

 واليوم يذهب (زعماء) العراق للطلب من حاكم الحجاز كي يزكي احد

 (اولاده) مما هو موجود من سياسيي العراق، لينصب حاكماً، في تكرار مقيت لأخطاء سابقة  .

ذلك هو تاريخنا الدائري الذي لم يفرز بعد قائداً يكسر تلك القاعدة الجهنمية ليكتب مع شعبه تاريخاً جديداً  كما فعل غيرهم 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1373 الاثلاثاء 13/04/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم