صحيفة المثقف

ولقد أريناه آياتنا كلها

 يعيشه الإنسان هو الذي يحدد مساره في الأرض مرهوناً بين الطول والقصر، ولذلك فإن الحجة التي تقام على الإنسان لاتأخذ بالحسبان عدد السنين التي مرت عليه سواء بعد التمييز بساعات أو بمئات السنين، حيث أن هذه الحجة قد تلزم المكلف بالقدر الذي يحدد بين الطاعة أو العصيان، وليس بعدد الأيام التي يعيشها الإنسان، فالعصاة الذين يجادلون عن أنفسهم يوم القيامة بذريعة قصر الوقت كما في قوله: (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لايظلمون) النحل 111. هؤلاء لايعتد بجدالهم عن أنفسهم وذلك لعدم امتلاكهم الدليل القاطع الذي يؤدي إلى رجوعهم إلى الله تعالى في حالة حصولهم على عمر أطول من أعمارهم التي مرت بلا رجعة، فلو أن الله تعالى كتب لهم العيش المضاعف في هذه الأرض لكانت النتيجة هي.. هي، لا فرق بين الطول أو القصر لعلم الله تعالى بعدم رجوعهم إليه جل شأنه.

 

ولذلك فقد يُرفض طلب هؤلاء العصاة عند مجيء الموت ولا يُسمح لهم بالرجوع إلى الحياة الدنيا كما قال تعالى على لسان كل واحد منهم: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب إرجعون***لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) المؤمنون 99-100.

 

فمما مر يتبين أن الغرض من الدعوة لايقتصر على الزمن وإنما يراعى فيه الاستجابة لقانون الله تعالى ولهذا يعتبر الخروج على أحد بنود القانون خروجاً على القانون بأكمله، ومن هنا فقد اعتبر تعالى تكذيب أي من الرسل تكذيباً للرسل جميعهم كما في قوله: (ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين) الحجر 80. وهم لم يكذبوا إلا نبيهم إلا أن الله تعالى أجراه مجرى من يكذب جميع الرسل.

 

وكذلك قوله: (كذبت قوم نوح المرسلين) الشعراء 105. وقريب منه في عاد ولوط وأصحاب الأيكة. فالغرض المطلوب من التصديق بالرسول يتفرع على جميع الرسل وهذا كالإيمان بآيات الله تعالى أو تكذيبها حيث أن تكذيب واحدة من الآيات يعتبر تكذيباً لجميع الآيات، ولهذا أشار تعالى إلى كذب فرعون وعدم تصديقه بالآيات التي جاء بها موسى بقوله: (ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى) طه 56.

 

علماً أن الآيات التي جاء بها موسى هي تسع آيات فقط وقد ذكرها القرآن الكريم في متفرقات آياته متمثلة في اليد والعصا وفلق البحر والحجر والجراد والقمل والضفادع والدم ونتق الجبل، إلا أن الحق تبارك وتعالى اعتبر تكذيب فرعون لهذه الآيات تكذيباً لآيات الله كلها كما في عنوان المقال الذي يتضمن مجموعة من المباحث أعرض لها على النحو التالي:

 

المبحث الأول: الآيات التي أراها الله تعالى لفرعون ولم يقبلها هي كل الأدلة التي يتفرع منها التوحيد والنبوة، ذكر ذلك الفخر الرازي ناسبه إلى غيره من المفسرين ثم ارتضاه في تفسيره.

 

المبحث الثاني: أضاف تعالى الآيات إلى نفسه مع أن المظهر لها هو موسى لأنه أجراها على يديه كما أضاف نفخ الروح الذي حصل لمريم إلى نفسه فقال: (فنفخنا فيها من روحنا) الأنبياء 91. مع أن النفخ كان من جبريل، ذكره في التفسير الكبير أيضاً.

 

المبحث الثالث: قال الفخر الرازي: فإن قيل: قوله كلها يفيد العموم والله تعالى ما أراه جميع الآيات لأن من جملة الآيات ما أظهرها على الأنبياء (عليهم السلام) الذين كانوا قبل موسى (عليه السلام) والذين كانوا بعده؟ قلنا: والكلام للفخر الرازي: لفظ الكل وإن كان للعموم لكن قد يستعمل في الخصوص عند القرينة كما يقال دخلت السوق فاشتريت كل شيء، أو يقال إن موسى (عليه السلام) أراه آياته وعدد عليه آيات غيره من الأنبياء (عليهم السلام) فكذب فرعون بالكل، أو يقال: تكذيب بعض المعجزات يقتضي تكذيب الكل فحكى الله تعالى ذلك على الوجه الذي يلزم ثم إنه سبحانه وتعالى حكى عنه إنه كذب وأبى. انتهى.

 

أقول: الوجه الأخير الذي ذهب إليه الفخر الرازي هو الذي بنينا عليه مادة البحث كما مر عليك.

 

المبحث الرابع: ذكر الطبرسي في مجمع البيان: إن قوله تعالى: [آياتنا كلها] يعني الآيات التسع أي معجزاتنا الدالة على نبوة موسى [فكذب] بجميع ذلك [وأبى] أن يؤمن به وقيل معناه فجحد الدليل وأبى القبول، ولم يرد سبحانه بذلك جميع آياته التي يقدر عليها ولا كل آية خلقها وإنما أراد كل الآيات التي أعطاها موسى. انتهى.

 

أقول: وهذا الرأي مرده إلى إطلاق الكل وإرادة الجزء كما في قوله: (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين) البقرة 19. ومنه قوله: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون.....الآية) الأعراف 156. وقوله تعالى: (إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم) النمل 23.

 

وكذلك قوله: (كل شيءٍ هالك إلا وجهه) القصص 88. وهذا لا يعني أن الأشياء التي عند الله تعالى يعتريها الهلاك بدليل قوله: (ماعندكم ينفد وما عند الله باق) النحل 96. وبهذا استدل بعض الفقهاء على أن قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما.....الآية) المائدة 38. لا يعني أن اليد تقطع بأكملها استناداً لقاعدة إطلاق الكل وإرادة الجزء.

 

     عبدالله بدر إسكندر المالكي

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1380 الثلاثاء 20/04/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم