صحيفة المثقف

لي في خاطري أن لا أدعك ترحل أبدا ..

أوشاج أزلية زرعها الله في طينتنا لما تزل مقيمة فينا ما حيينا .

 

كانت سبعينيات بغداد في قرننا الماضي مبعث بهجة حقيقية عشناها نتنقل فيها، خاصة من شغفته القراءة فراح يتلمس كل كتاب يقع في راحة يده حتى تحولت تلك القراءات الى محاولات للكتابة، وهكذا مضينا كل في طريق بعضنا عشق القصة والرواية، وبعضنا الآخر كان من حصته الشعر،يحيى السماوي كان اختياره الأخير .

 

ولأنه درس في بغداد فقد كانت اول ما جذبته تلك الأماكن العابقة بتاريخها وتراثها الأزلي، المدرسة المستنصرية في كرخ بغداد، وقبالتها شارع المتنبي الشهير العامر بمكتباته ومطابعه ورواده اللذين توزعت اسمائهم ودلالاتهم بين قارئ وكاتب وطالب، وماهي إلا خطوات منه حتى يتراءى مقهى الشابندر لتستريح فيه الاجساد المتعبة بعد ان اضناها مسير المتنبي .

 

وفي جانب آخر من المدينة حيث يتجمع الفنانون في كرنفال يومي تنتشر فيها مقاهيهم، كان ليحيى حضوره وسط هذه الحشود التي لاتمل من الكلام ويسهرون ليل بغداد ويُسهّرون، فالصالحية لايمكن أن ينساها بسهولة فهي الرئة التي تتنفس من خلالها مدينته الجميلة قبل ان تتحول تلك البقعة الى ما يشبه الثكنة العسكرية وتنقلب الوانها اليلكية الى لون رمادي يعج ترابها بسرفات عجلات العسكر، ويسكت غناؤها الحالم بالحب والمسرات لتحل محله حناجر تتصارع بأهازيج النصر الكاذب، ولأنه عشق كل هذه الاماكن لم ينساها في غربته، فقد غادر الوطن وفي صدره آهات دفينة، عبر بادية السماوة بعد ان كادت حبال السلطة تلتف حول رقبته وهناك في الغربة تذكر وطنه وحاول ان يزيح تلك الدموع التي تجمعت بين عينيه واخذت تنسال على خديه، لكنه لم يستطع فقال :

على أرضه انتصبت

أول مسلة للقانون في الدنيا

ومع ذلك ..فالسوط فيه

أطول من يد العدالة

والخوذة أعلى من سارية العلم الوطني

في واديه تجري اعذب انهار الدنيا

ومع ذلك .. فهو وطن العطش

اخصب أراضي الدنيا فيه

ومع ذلك .. فأطفاله

ينقبون في براميل القمامة

ونفايات المطاعم

اثرى اثرياء الدنيا فيه

لكنه وطن الشحاذين

والاطفال الذين استبدلوا بالحقائب المدرسية

صناديق صبغ الاحذية (1)

 

تائها يصف حاله في تلك المنافي، عقله، جسده، كل ما يملك لأنه غادر الوطن الذي احبه مجبرا، طريدا، لا لشيئ سوى انه احب هذي الأرض وحاول ان يسقيها بدموعه بعد ان سقاها الغرباء دما وجراحات، عاف الأهل، الذكريات، اصبح منسيا إلا مع قصائده :

لاشيئ عديم النفع

إن وتدا مغروسا في صحراء

قد يكون

الدليل

للقافلة التائهة

*****

 

أيها الحزن لاتحزن

أدرك أنك ستشعر باليتم بعدي

لن أتخلى عنك

أنت وحدك من أخلص لي

فكنت ملاصقي كثيابي

حين تخلى عني الفرح

في وطن

يأخذ شكل التابوت .... ! (2)

 

مكث في الجزيرة العربية ردحا من الزمن حمل الكتاب والقلم، علّلم الصبية ما لايعلمون، بعدها طار الى جزيرة كبيرة، قارة وحدها تدعى " استراليا " يبحث فيها عن أمن مفقود:

إن زنزانة أغفو فيها آمنا

لأوسع عندي

من وطن

لا أمان فيه !

كيف لي أن اميّز

بين سيف " عروة بن الورد " و سيف " هولاكو ...

بين " عمامة الحسن البصري " وقلنسوة " تيمور لنك " ..

بين " الحلاج " و" الحجاج "

بين لحية مخضبة بالديناميت

وأخرى مُحناة بدموع النسك ..

بين البرتقالة والقنبلة ..

بين " العربي " و " العبري "

بين سيجار " جيفارا و " مسواك السياف " ..

بين الخيط الابيض والاسود ..

إذا كان الدخان

يمتد من نافذة الصباح

حتى ستارة الليل ..

 

إنها ضبابية يتوه فيها الرائي فلا يتلمس سوى الوهم، لكنه يعرف ان وراء ذلك يكمن خوف وهلع، دمار فوق دمار :

كيف أميّز

بين اللص والناطور

إذا كنت مفقوء العينين

في وطن

اضحى مرعى

للملثمين ؟ (3)

 

يقول أرنولد توينبي: ان عظمة الشاعر تكمن في تطبيقه القوي والجميل للأفكار عن الحياة، حلوها ومرها، هذا المبدأ نراه يتجلى بوضوح لدى شاعر نكبته الحياة بوطنه، وأهله، حينما غادرت أمه الحنون الى الدار الآخرة وهو في اغترابه، حنى لم يك بإمكانه نثر حبات من تراب الوطن على قبرها :

 

(1)

لي الآن سبب آخر

يمنعني من خيانة وطني:

لحاف سميك من ترابه

تدثرت به أمي ..

ووسادة من حجارته

في سرير قبرها !

 

(2)

وحده فأس الموت

يقتلع الاشجار من جذورها

بضربة واحدة ..

 

(3)

قبل فراقها:

كنت حيا

محكوما بالموت ..

بعد فراقها:

صرت ميتا

محكوما بالحياة ! (4)

 

ومع ان هذه الكلمات زاخرة بعاطفة مشبوبة بوضع أزلي هو الفراق، فإن اجمل ما قاله فيها ناقدنا المبدع الدكتور حسين سرمك حسن، في تناوله لموضوعة " الرثاء في الشعر المعاصر " قصيدة " شاهدة قبر من رخام الكلمات " أنموذجا قال:

("شاهدة قبر من رخام الكلمات " هي من قصائد النثر ... ومن الافتراضات الاساسية التي أنا مقتنع بها بشكل عام كقاعدة هي أن قصيدة النثر لاتصلح للرثاء بسبب فقدانها للإيقاعية المطلوبة لنواح النفس البشرية الحزين، وبسبب لعبها الذهني على الصور حيث نحتاج مسافة عقلية تسبق الانفعال المحتبس فتجهضه، لكن لاشيئ مستحيلا ولنقل عسيرا على الشاعر الكبير المقتدر، كسر يحيى هذه القاعدة)، الى ان يقول: (لكن قصيدة السماوي ليست نشيج روح ممزقة يركبها الشعور بالإثم المبرر لأن الأم العظيمة رحلت كسيرة في السماوة، فقد طوى الجزيرة ... أي جزيرة ؟؟ ..طوى خبر موتها القارات ليصل ابنها في منفاه في استراليا، وفي العراق، وكلما أراد الإبن التحرر من الرابطة الأوديبية المكيفة المغلفة بالحنان البريئ الخانق للأم .. تصيح الأم ! .. إذا سافرت .. وتغربت ..من الذي سيدفنني ؟؟:

آخر

امانيها:

أن أكون ..

من يغمض أجفان قبرها ..

آخر أمنياتي ...

أن تغمض بيديها أجفاني ...

كلا فشل ...

في تحقيق ..

أمنية ..

متواضعة

 

هذه القاعدة في العراق شذ عنها السماوي مكرها: هو الذي أفلت من منجل الطغاة المجتث الأعمى باعجوبة، لكن لاتبرير ولا عقلنة يمكن أن تطفئ الاحساس بالذنب تجاه مخلوقة هي سبب الوجود:

لي الآن سبب آخر

يمنعني من خيانة وطني

لحاف سميك من ترابه ..

تدثرت به أمي ..

ووسادة من حجارته ..

في سرير قبرها)

طوى شاعرنا السماوي سنوات ألمه حين شعر ان تلك الغيمة السوداء التي كانت تجثم لسنين طوال فوق وطنه قد تهالكت وسقطت في لجج النسيان، وها هو التغيير يفتح ابوابا للنور لكنه سرعان ما يغلقها مرة اخرى فقوى الشر لاتريد لهذه الأرض ان يعمها الخير والسلام، انه قدره وقدر العراقيين ومع اصرار من يحمل شعلة الحياة طوى كل تلك المسافات قاصدا عراقه الذي احبه، ووقف على اعتاب دارته في السماوة وزار احبابه وأقسم لصاحبه الساكن بغداد الذي فارقه 40 سنة ان يهديه حُزمة من أبجديته عسى أن تكون جديرة بتنّوره، وقال له اعذرني إن كانت أحطابي مبللة بالدموع، ورجاه أن يهديه يوما من الزهور ما يليق بشرفاته، تلك كانت كلماته على ديوان شعره الذي أهداه له، وتحقق ذلك الحلم ان رآه لسويعة من مساء بغدادي جميل، ذرف الاثنان فيها دموعا ندية بكت فيها حتى نجوم السماء، هكذا هو لقاء الأحبة غير ان خاطري ود لو لم يدعه يرحل ثانية صارخا به :

أيها الحزن:

أما من مكان آخر

تنصب فيه خيمتك

غير قلبي؟ (5)

 

أحمد فاضل

 

............................

الهوامش /

(1) نصوص من مجموعته الشعرية " مسبحة من خرز الكلمات " .

(2) نفس المصدر السابق

(3) مقطع من قصيدته " إحباط " .

(4) نصوص من ديوانه " شاهدة قبر من رخام الكلمات " .

(5) مقطع من قصيدته " هذيان قد لايخلو من حكمة " .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1389 الخميس 29/04/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم