صحيفة المثقف

في انتظار السّندباد...

وها هي ذي ترسم للبحر مركبا كبيرا بأشرعة كثيرة،  وترسم للسّماء نوارس تمارس استعراضا رائعا للطّيران.

فرشاتها هي الأخرى تشكّل مهرجانا من الألوان ينطق بأكثر من لسان.

كل شيء على اللـّوحة جميل ومتناسق...كلّ شيء يوحي بالهدوء ... الألوان... الخطوط  الخارجيّة... الأشكال... المساحات والفضاءات وكذلك الظّلال والأضواء....

تراجعت قليلا إلى الوراء...ألقت نظرة على اللّـّوحة ...أطالت النّظر...رفعت رأسها تتطلّع إلى الأفق البعيد.فجأة ... اهتزّت في يدها الفرشاة ... رقصت في حركة رشيقة،  

ثمّ مالت إلى   أسفل اللـّوحة من جهة الغرب لترسم جبلا صخريّا حادّ الارتفاع.

في أعلى الجبل... بدأت تظهرمن خلال رقصات الفرشاة،  معالم منارة قديمة.

وفي الجهة الشّرقية من أسفل اللّوحة ... وفي حركة رشيقة، مدّت للبحر بساطا من الرّمل النّاعم تداعبه أمواج البحر المتثاقلة ...المتردّدة.

تراجعت مرّة أخرى إلى الوراء ... وضعت يدها قرب جبينها في حركة تشبه التّحيّة العسكريّة،  أو كأنّها تريد أن تحمي عينيها من أشعة الشّمس، أو من نورها السّاطع على الأقلّ.

ربّما كانت تبحث عن جزئيّة داخل اللّوحة.

في هذه المرّة أطالت النّظر،  وإن كانت تتحول ببصرها من حين إلى آخر نحو الأفق البعيد.و في حركة لا تخلو من العصبيّة تحرّكت الفرشاة في يدها،  تمرّغت في جفنة الألوان، ثمّ راحت تلوّن بقعا من السّماء بلون رماديّ يميل إلى السّواد،  غطى ّ جزءا كبيرا من برتقالة الشّمس الّتي أخذت تتدحرج نحو الغرب.

بدأ شيء من القتامة يشيع في أفق اللّوحة، بينما كانت الفرشاة المشبعة باللّون الأبيض تهتز في يدها في حركة ارتداديّة سريعة حوّلت البحر الهادئ إلى أمواج عاتية تكاد تتمرّد على اللّوحة.

أحسّت بقشعريرة خفيفة تسري في جسدها ...توقّفت للحظات، لتتمكّن من وضع شال على كتفيها،  ثمّ ما لبثت أن عادت إلى فرشاتها تجهّز اللّون الذي تحتاجه.

لم تكن هذه المرّة تحتاج إلى الكثير من المادّة الملوّنة،  اللّوحة شارفت على التّمام.

بضعة لطخات خفيفة، فإذا أنت أمام جمع من النّساء والرّجال والأطفال بثيابهم الّتي تلعب الرّياح بأطرافها،  يتطلّعون إلى البحر.. إلى المركب الكبير القادم من بعيد،  يشقّ الأمواج العاتية ليبلغ الشّاطئ....

كتل لا ملامح لها،  تظهر من الخلف،  تكاد تكون متلاصقة. اللّوحةالآن ...اكتملت.

  

***

أمسكت بطرفي شالها ولفّت به صدرها كمن أحسّ بموجة من البرد.و في لحظة شرود مرّت على عينيها غمامة، فلم تعد ترى في ما حولها، سوى اللّوحة الّتي أنهتها للتّوّ.

تهيّأ لها في لحظة أنّ اللّوحة تتّسع ثمّ تتّسع، حتّى خرجت عن مدى بصرها لتجد نفسها داخلها، تقف على شاطئ رمليّ،  والرّياح العاتية تلعب بأطراف شالها وثيابها.

و من حولها... يقف الّجال والنّساء والأطفال والشّيوخ.

الكلّ يتطلع بقلب واجف، إلى المركب البعيد تتقاذفه الأمواج العاتية...الكلّ في قلق، يمزّقه الخوف والانتظار...الكلّ على الشّاطئ يصارع الرّياح، فما بالك بِأولئك الرّكّاب الّذين يواجهون الموت في كلّ لحظة، ويرحلون بنظرهم من عرض البحر حيث الأمواج المتلاطمة، إلى الشّاطئ حيث ينتظرهم الأحبّة وتشرئبّ لهم أعناقهم، وتهفو لهم قلوبهم.

و هي أيضا تقف على الشّاطئ تنتظر شخصا تعرفه، ولا تعرفه...تعرفه في قلبها، وفي أحلامها ورؤاها، ولكنّها لم تسمعه أو تره من قبل.لم تدري كيف سكن في وجدانها،  واستحوذ على تفكيرها .كلّ ما تعرفه،  أنّها تنتظر كما ينتظر كلّ الواقفين على الشّاطئ.و تعرف أيضا أنّها قلقة ككلّ الواقفين على الشّاطئ وسط العاصفة.

لكن هل يسوي الّذين يصارعون العاصفة في عرض البحر والّذين يقفون على الشّاطئ؟

على كلّ هي لم تكن تشعر أنّها خارج الزّمان والمكان،  ولم تكن تشعر بالفرق بين العاصفة داخل البحر أو خارجه، لأنّها كانت تحمل كلّ هذا العالم بداخلها.

حتّى أصوات القلقين من حولها، وخوفهم، وأملهم،  كلّ ذلك يعيش بداحلها ...حتّى أجسادهم المنتفضة من البرد تسكن في تفاصيل ذاكرتها المنهكة.

أحسّت بيد ناعمة تحطّ برفق على كتفها، وصوت يقول لها :

جميلة هذه اللّوحة...ما هو عنوانها؟

عندها فقط غادرت شرودها، وأحسّت بأنّها في العالم المحسوس، ولم تكن داخل عالم اللّوحة.و أجابت دون تردّد:

أنا في انتظار السّندباد...عفوا، عنوانها في انتظار السّندباد...

أدركت لحظتها، أنّه من كان يسكن وجدانها منذ أن وعت بوجودها في هذه الدّنيا،  

و أنّه من كانت تنتظره منذ زمن بعيد، وهو من أسّس بداخلها ثنائيّة القلق والأمل،  

و هو من أعطى للانتظار معنى في حياتها.فوجدت نفسها تقول مرّة أخرى، وكأنّها تجيب على السّؤال الّذي سمعته، لأوّل مرّة:

 نعم ...عنوانها في انتظار السّندباد.

  

22/02/2010

  

محمد الصالح الغريسي    

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1389 الخميس 29/04/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم