صحيفة المثقف

تساؤلات محرجة..في الدين (5) سيكولوجيا الدين: (2) اريك فروم

تعويض له يتمثل بالقدرات الفريدة التي يتميز بها الكائن البشري. غير أن هذه القدرات أدت به الى أن يبتعد عن الطبيعة ويشعر بالعزلة.

 

 ولأن الانسان ابتعد عن الطبيعة فأنه افتقد القدرة على مجابهتها ، فنجم عن ذلك محاولته لتكوين علاقات نفسية جديدة تحل محل العلاقات القديمة، فالتجأ الى تكوين هذه العلاقات الجديدة مع الناس، أرادها أن تكون قائمة على المحبة وتبادل الرعاية والمسؤولية والاحترام.

 

 ويرى فروم أن الانسان حين بدأ يبتعد عن الطبيعة حاول ايجاد طرائق تربطه بها، فعمد الناس القدامى الى الانتماء الى مجموعات تربطها أساطير وطقوس وعبادات أشياء أو ظواهر طبيعية مثل الشمس والقمر والنار والبرق.

 

 وبتطور الانسان وانتهاء علاقته بالطبيعة، تشكلت لديه حاجات جديدة تماما ذات طبيعة اجتماعية – نفسية هي: الانتماء (توجهت الى الأفراد والمؤسسات الاجتماعية كبديل نفسي للعلاقة بالطبيعة )، والتجاوز (أن يتخطى حدوده الحيوانية الى حالة الخلق والابداع )، والتجذّر (حاجته الى أسرة وبيت في هذا العالم)، والهوية (حاجته الى تأسيس هوية خاصة به، وأن يكون قادرا على أن يقول للآخرين : "أنا..أناّ " ولست " أنا كما ترغب أنت في أن أكون")،والاطار المرجعي (ويعني تكامل الحاجات السابقة لتشكل اطارا مرجعيا للتوجه نحو الكون الذي نعيش فيه، بما فيه العلاقات مع أفراد الجنس، الأصدقاء منهم والأعداء ).ويقول في كتابه (الأنسان لنفسه Man for himself) ان الحاجة الى اطار مشترك للتوجيه تضرب بجذورها عميقا في أحوال الوجود الانساني، وأن الانسان حين امتلك (الوعي بالذات والعقل والتخيل) صار هو الحيوان الوحيد الذي ينتابه السأم والسخط والشعور بأنه مطرود من الفردوس، وصار هو الحيوان الوحيد الذي يعدّ وجوده مشكلة له..عليه أن يحلها، وأنه عندما أضاع الفردوس وفقد الاتحاد بالطبيعة صار مجبرا على السير قدما الى الأمام باذلا الجهد ليجعل المجهول معروفا، وأن يفهم معنى وجوده.وصار لديه دافع قاهر لاستعادة الوحدة والتوازن بينه وبين بقية الطبيعة وذلك بأنشاء أو خلق صور ذهنية جامعة للعالم تكون بمثابة اطار للأشارة يستطيع من خلاله أن يستمد الاجابة على السؤال الخاص بموقفه وما ينبغي عليه عمله. ويقر فروم بأنه لا وجود للانسان بغير حاجة دينية، حاجة الى أن يكون له اطار للتوجيه وموضوع للعبادة. ويستدرك قائلا : بيد ان هذا القول لا يخبرنا بشيء عن سياق خاص تتجلى فيه هذه الحاجة الدينية، فقد يعبد الأنسان الحيوانات، او الأشجار، أو الأصنام من الذهب او الحجارة، او آلها غير منظور، أو انسانا مقدّسا، او زعماء شياطين، وربما أسلافه، أو أمته، أو طبقته او حزبه، أو المال..والمسألة ليست "دينا أو لا دين" بل "أي نوع من الدين" هل هو من النوع الذي يساعد على تطور الانسان والكشف عن قواه الانسانية الخاصة به كأنسان، أم هو من النوع الذي يصيب هذه القوى بالشلل؟.

 

 ويعرّف فروم الدين بأنه (أي مذهب للفكر والعمل تشترك به جماعة ما، ويعطي للفرد اطارا للتوجيه وموضوعا للعبادة ). ويرى أن الدين على أنواع، فهنالك أديان توحيدية وأخرى متعددة الالهة، غير أنه يركز في نوعين يطلق عليهما: الأديان الانسانية humanistic  والأديان التسلطيةauthoritarian  . ويقصد بالنوع الأول  ألاديان التي يأتي بها أشخاص مثل بوذا، الذي يعدّه معلما عظيما ويصفه " بالمستنير " الذي أدرك حقيقة الوجود الانساني وتحدث باسم العقل وليس باسم قوة فائقة على الطبيعة. أما الأديان التسلطية (يقصد السماوية) فان العنصر الجوهري فيها هو الاستسلام لقوة تعلو على الأنسان، والطاعة فيه هي الفضيلة الأساسية والعصيان هو الخطيئة الكبرى. وكما تصور هذه الأديان (التسلطية) أن الاله قوي شامل القدرة ومحيط علما بكل شيء، فانها تصور الانسان بالمقابل على أنه عاجز، تافه الشأن، ولا يشعر بالقوة الا بمقدار ما يكتسب من فضل الاله ومعونته عن طريق الاستسلام التام.  فالاله في الدين التسلطي رمز للقوة والجبروت، وهو الأعلى لأن له القوة الأعلى، والانسان الى جواره لا حول له ولا قوة، على حد تعبير فروم.

 وينّبه فروم الى أن الدين التسلطي العلماني (أو الدنيوي) يتبع هذا المبدأ نفسه. فهنا يصبح الفوهرر أو "ابو الشعب " المحبوب، أو الدولة، أو الوطن الاشتراكي..موضوعا للعبادة، وتصبح حياة الفرد تافهة، وتتألف قيمة الانسان من انكاره لقيمته وقوته.غير أن فروم يفضل ما يسميه الدين الانساني على الدين التسلطي، لأن هدف الانسان في الدين الانساني هو أن يحقق أكبر قدرة من القوة، لا أكبر قدر من العجز، والفضيلة هي تحقيق الذات لا الطاعة، والايمان هو يقين الاقتناع المؤسس على تجربة المرء في مجال الفكر والشعور لا على تصديق قضايا وفقا لذمة المتقدم بها. والمزاج السائد فيها هو الفرح، فيما المزاج السائد في الدين التسلطي هو الحزن والشعور بالذنب، يضيف فروم.

 ويستعين فروم بآلية الاسقاط الفرويدي فيقول : ففي حين ان الاله في الدين الانساني صورة لذات الانسان العليا، ورمز على ما يمكن ان يكون عليه الانسان او ما ينبغي أن يئول اليه، نرى أن الاله قد أصبح في الدين التسلطي المالك الوحيد لما كان يملكه الانسان أصلا.: أعني العقل والحب. وكلما كان الاله أكمل، كان الانسان أنقص. انه " يسقط " أفضل ما عنده على الاله، ومن ثم يفقد نفسه. وهكذا يملك الاله الآن كل الحب، وكل الحكمة، وكل العدل – والانسان محروم من هذه الصفات. انه فقير  خاوي الوفاض فصاريشعر بالضآلة وعاجز تماما بعد ان اسقط قواه كلها على الاله، وانتهى بالنتيجة الى أن يكون مغتربا عن نفسه، وأنه في عبادته للاله يحاول ان يتصل بذلك الشطر من نفسه الذي فقده عن طريق الاسقاط.

 نكرر القول بأن دورنا هنا هو الناقل للنظرية وليس الناقد لها، مرجئين ذلك لما بعد ابداء وجهات نظركم بالموضوع.

 

· اريك فروم (1900-1980) أشهر من كتب في الفلسفة والاجتماع وعلم النفس وعلم الأخلاق في النصف الثاني من القرن العشرين. ولّد في المانيا وهاجر الى الولايات المتحدة عام 1934 واستقر فيها. من بين أهم مؤلفاته : الهرب من الحرية، الانسان لنفسه، المجتمع العاقل، ثورة الأمل، الانسان بين المظهر والجوهر، التحليل النفسي والدين، فن الحب، واللغة المنسية.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1079  الاثنين  15/06/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم