صحيفة المثقف

الدين والدولة – مأزق العلماني وإشكاليات الديني .. مقاربة أولية

الإجتماعي طبقا للنظريات التي تبنتها (العلمانية) الصاعدة .

لكن العلمانية وعلى رغم نجاحها في إقامة دولة مدنية لا يلعب الدين دوراً مباشراً في وظيفتها السياسية، الا انها لم تستطع زحزحة الدين بمحمولاته الإجتماعية، وان حجّمته بقوانين منعت ان يكون حاسماً في مسار الدولة، التي أوجدت بدورها دينها الجديد المتمثل بالدستور .

لقد تشابه الدستور بجوهره مع الدين بنصّه، فاذا كان النصّ المقدس – وهو أهم مرتكزات الدين – يلزم الإنسان بالطاعة لله والعمل بمقتضى ذلك النصّ في السلوك الإجتماعي، ما يجعل الخروج منه بمثابة معصية تستوجب إيقاع الحرم في المسيحية أو الكفر الذي يتطلب العقوبة في الإسلام، فإن نصوص الدستور هي ايضاً مقدسة للحاكم وملزمة للمواطن الفرد، إذ ينبغي على من ينتخب حاكماً، أن يقسم على احترام الدستور والعمل بموجبه، واي خروج عن ذلك يعد معصية تستوجب العزل أو المحاكمة، كذلك يلزم المواطن التقيد بالقوانين المرعية الإجراء والمنبثقة بدورها عن نصوص ذلك الدستور.

أما في الأنظمة الثيوقراطية، فقد بقي الدين هو الدستور الفعلي الذي ينظم شؤون الحكم ويمنح الحاكم شرعيته، لكن الإشكالات في النظم العلمانية كما في الأنظمة الدينية، بقيت واحدة في الجوهر .

 لقد تواصل بنسبة واضحة، تأثيرالمعتقدات الدينية على المجتمع وتحديد خيارات أفراده السياسية في الأنظمة الديمقراطية، كما انبثقت أحزاب اتخذت أسماء دينية (الحزب الديمقراطية المسيحي في ايطاليا – حزب المحافظين في بريطانيا – الخ) كذلك ظهر تيار سياسي كبير في الولايات المتحدة سمي باليمين المسيحي أوصل رئيساً لقيادة أمريكا (رونالد ريغان) .

وعلى هذا، واجهت العلمانية وأنظمتها، مأزقا في نظرية فصل الدين عن الدولة، ففي حين فعلت ذلك في مواد الدستور، بقي للدين تأثيره في السلوك السياسي لجموع الناخبين الذي يحددون شكل النظام وهيكلية الحكم طبقاً لذلك .

اما في الأنظمة التي تنادي بالدين أو تعتمد عليه، فقد واجهت إشكالاتها منذ البداية، حيث صعوبة الجمع بين متطلبات النصّ المقدس الثابتة، وضرورات السياسة المتغيرة، ما أسهم في إرتباك التطبيق في السياسة واستغلال الدين في إقامة الدكتاتورية، وهكذا لم يربح الدين ممارسة سياسية متطورة، ولم تطور السياسة نظرية فكرية تبعاً للمتغيرات .

لقد دخلت نظريات الفصل بين الدين والدولة كما في العلمانية، أو اعتماد الدين في الدولة كما في الأنظمة الثيوقراطية، في حقل الفراغ، ولم تستطع ايجاد مايمكن تفسيره في تأثيرات الدين المجتمعية / السياسية في الأنظمة الديمقراطية، كذلك عجز منظرو الدين في الدولة، عن ايجاد حلول منطقية للأزمة التي تعيشها الأنظمة الدينية.

قد يكمن ذلك في ان النظرة الى ثنائية الدين والدولة باعتبارهما كينونتين مستقلتين، يجري جمعهما او فصلهما طبقاً لنظام الحكم المتبع، لكن ماذا لو كانا في الأصل حقلاً واحداً بكينونة واحدة في وجهه الإجتماعي وانعكاساته السياسية ؟ وبالتالي يمكن النظر الى كلّ منهما بمقاربة مختلفة عما هو سائد .

في تفكيك أولي لمفردة الدين، سنجد انها نابعة من الدَين بمعنى القرض، فالله يقرض الإنسان الحياة لأجل محدود هي العمر المكتوب له قبل الموت، وفي مقابل هذا القرض الإلهي، يطلب من الإنسان الطاعة والصلوات وحسن التعامل مع الآخرين واداء العمل الصالح وماشابه، ثم يسترد الله قرضه ليتحول الى هبة دائمة في الجنة إذا أحسن الإنسان التصرف في القرض الدنيوي، ويتحول الى عقاب – مؤقت أو دائم – في النار إذا أساء .

ذلك الجوهر في موضوع الدين، أما الدولة، فهي كذلك تقرض الكائن الاجتماعي – المواطن – حماية ومواطنة وحقوقاً ووسائل عيش وسواها، مقابل مايؤديه من واجبات خدمة وعملاً والتزاماً بالقانون – الخ، وهو ان أحسن التصرف بهذا القرض، يتمتع بكل موجباته، فيما يعاقب بعكسها .

أما السياسة، فهي الوسائل والأساليب التي يمكن من خلالها تنظيم اداء الدولة في قروضها، واداء المواطن في السداد بحيث لايطغى أحدهما على الآخر، ما يسمح باستقامة المعادلة بين الجانبين – صاحب القرض والمستقرض - .

المقاربات للدين يمكن ان تتم من خلال اعتباره منجزاً إجتماعياً قابلاً للتغيير في جانبه الاجتماعي /السياسي حسب الحاجة، والمقدس منه هو مايدخل نصاً او استلهاماً في الدستور الوضعي، اما النص الديني بعموميته، فيبقى شأناً خاصاً بالفرد .

لاتعامل مع النص الديني إذا احتفظ بقدسيته المجتمعية، إذ انه والحالة هذه سيبقى عرضة للإستخدام من قبل المؤسسة الدينية بكل أشكالها واشكالياتها – أكليروس كنسي أو كنيس يهودي او مرجعيات إسلامية – وهذه بدورها تضع اجتهاداتها في المقام الأول على حساب النصّ ذاته، ما يجعل منها سلطة فعلية تتحكم بمسارات المجتمع خارج ما أقره الدستور الذي ارتضاه المجتمع وصوت عليه.

الدستور الوضعي يمكن تعديله ويحاسب فيه الحاكم وفق بنود واضحة، اما النصّ الديني فيمكن شرحه لا تغييره، ولما كانت الشروحات تختلف بين رجل دين وآخر حتى في المؤسسة الواحدة، لذا تحدث تلك الفوضى التي تقود الى اضطراب سلوكي مجتمعي حيث تنقسم الناس الى طوائف ومذاهب يرى كل منها ان الحقّ الإلهي الى جانبه طبقاً لتفسيرات علمائه التي تصبح بدورها بمثابة دين قائم بذاته، وهكذا ففي الوقت الذي يكون فيه دستور واحد يحتكم اليه جميع مواطني بلد ما وان تعددت أديانه وطوائفه، يوجد في المقابل دساتير دينية متعددة بلاضوابط بينها سوى ما قد تجود به تفسيرات المجتهدين في هذه الملة أو تلك، وبالتالي لايمكن الاحتكام اليه سوى من قبل ابناء الطائفة المعنية ذاتها، ليكون بذلك عامل تفرقة وتناحر لا توحيد ومساواة كما هو في الدستور الوضعي .

فلسفة الدين والحالة هذه، ستكون حقلاً مستقلاً يبقى اشتغاله مادون تقديم اجابات قاطعة للإنسان بخصوص مصيره الآخروي، ومن ثم يتحول الإيمان الى قضية شخصية قد لاتكون بحاجة الى وجود مؤسسة لتنظيمها وضبطها بالضرورة كما هو الحال في موضوع السياسة والدولة المنتظمة ضمن دستور منبثق من اشتغالات فلسفية تختلف معياراً ومنهجاً واستنتاجاً عما تشتغل عليه فلسفة الدين باعتباره قضية شخصية لا مجتمعية كما أسلفنا .

لكن ماذا لو تحول الفصل والحالة، ليس بين الدين والدولة، بل بين الفرد والمجتمع ؟ وهي نظريات لم تثبت نجاعتها كذلك، باعتبار ان الفرد كائناً اجتماعياً، فقد أشكلت الماركسية حين حاولت اذابة الكينونة الفردية لمصلحة الجماعة، في مقابل أزمة العلمانية التي جعلت الفردية في الاعتبار الأول .

تلك حالة يمكن تلمس حلولها في مظاهر الذوق والهوايات التي تتمايز بين إنسان وآخر، فلاخلاف ان الذوق والهواية حالة شخصية، إذ بامكان الفرد ان يحب لوناً دون غيره أو يستمع الى موسيقى معينة، كذلك قد يمارس هواية من نوع ما، وكلها نشاطات فردية وان دخلت في إطار اجتماعي، لكنها لاتؤثر في علاقة الفرد بالمجتمع مادامت تمارس ضمن ضوابط القانون والحرية الفردية .

ولما كانت الهواية والذوق قابلان للتتطور وفقاً لتطور الفرد في ثقافته وتجربته الحياتية، كما انهما يشكلان جزءاً رئيساً من شخصيته عبر مراحلها العمرية والمعرفية، لكنهما في كل حال، لايعتبران بالنسبة له شيئين مقدسين لاينبغي تجاوزهما أو اعتناق هوايات أخرى بديلة، كذلك يمكن النظر الى المعتقدات الدينية من منظورها الفردي، إذ تصبح والحالة هذه بمثابة (ذوق) فردي قابل للتطور أو التبدل حسبما يراه الفرد عبر مراحل حياته من دون ان يلزم في منظومة دينية موروثة تحتم عليه البقاء ضمن جماعة محددة،ذلك لأن المعتقدات الدينية حين تتغير وظيفتها الإجتماعية من الإلزام الى الاختيار،تتغير تبعا لذلك وظيفتها الفردية، لذا يصبح اعتناقها في جماعة كما اجتماع اصحاب الهوايات المشتركة، انجذاب حرّ أوافتراق دون اكراه .

ذلك ما نرى تجسيداته في حقّ الطلاق في الإسلام، انه أبغض الحلال، لكنه يعتمد على قاعدة جوهرية في السلوك المجتمعي والفردي على حدّ سواء (إمساك بمعروف او تسريح بإحسان) فاذا كان التصرف بالخلية الاجتماعية الأهم في حياة الأفراد، يتم على هذه الشاكلة، فلماذا لاينتقل ذلك الى اختيارات الفرد في حريته المعتقدية ؟ .

يولد الإنسان في خلية اجتماعية تعتنق ديناً معيناً تورثه لوليدها ليبقى يدور في فلكه طوال حياته – روحياً وسلوكيا وتشكلاً نفسياً، وان تخلى عن ذلك طقوساً وشعائر-، في الوقت عينه، ينشأ لديه ذوق معين في النظر الى الأشياء يؤثر كذلك في سلوكه وتشكله الروحي والنفسي، ذلك لأن الذوق جزءا رئيساً من مقومات الشخصية كما هو المعتقد الديني الا ان الفارق بين الاثنين يكمن في قدسية الديني وثباته النصي والمجتمعي، وحركية الذوق وتطوره الشخصي، فالذوق ملك فردي مرتبط بالذات، فيما الدين كينونة مستقلة مرتبطة بالجماعة، وفيما يتعامل الإنسان بحرية مع الذوق، فإنه يتعامل بالطاعة مع المعتقد حيث لايملك من خيارالا ان يرفضه مع تحمله تبعات ذلك، او يقبله بموجب تعاليمه .

 وعليه لايجد الفرد حراجة في تبدل ذوقه ورؤيته الجمالية ولايشعر بقلق نفسي تبعاً لذلك التطور او التبدل في الذوق، كما لايواجه اشكالية في علاقاته الإجتماعية ولا اصطداماً بالمؤسسة الدينية، كما يحدث في حال قيامه بتبديل معتقده الديني مثلاً.

لكن، اليس الدين في النتيجة خلاص فردي؟ بمعنى ان عبادة الله وطاعته، لها هدف دنيوي يتمثل جوهرياً بحسن المعاملة مع الآخرين وحياة مصحوبة بالتوفيق، وهي حالة فردية أولاً، وآخروي تتمثل بثواب او عقاب بصفة فردية (لاتزر وازرة وزر أخرى)، وهو مايوفره حسن الذوق في الدنيوي – المعاملة الطيبة والحياة الرضية – ويعجز عنه في الآخروى، ولما كانت طرق الوصول الى الاطمئنان الروحي عديدة، ومثلها طرق الوصول الى مرضاة الله، لذا يمكن البحث عن الموانع التي تعيق تحول المعتقد الديني بصفته خياراً فردياً يمكنه ان يشكل ذوقاً وينظر اليه كذلك في حركيته وتطوره، وهو مايحتاج الى مقاربات أخرى قد تكون من خارج حقول الإشتغال في كّلا من العلمانية المنادية بفصل الدين عن الدولة، والمؤسسة الدينية المنادية بعكس ذلك.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1391 السبت 01/05/2010)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم