صحيفة المثقف

العراق: الحروب المقدسة والثورات غير المكتملة (*)

إذ انها – الحرب - تزداد ضراوة تبعا لتطور الحضارة  التي رفدتها بوسائل التدميرأكثر من مقومات السلام .

كذلك فإن ظهور الأديان السماوية – رغم تعاليمها المتسامحة – لم تجعل الحروب أكثر رأفة، بل تحولت بدورها الى سلاح آخر أكثر خطورة، ما أكسب الحرب مقولا ت  إضافية لاحدود لتأثيراتها في النفس البشرية .

ولما كانت الأرض العراقية، قد شهدت من  الحروب أكثرها ديمومة ودموية عبر التاريخ البشري برمته، فإنها قد إتخذ ت دائما هالة " قدسية "، أضفت عليها صفة المأثرة أو الملحمة.

 ليس هناك من حرب حدثت في العراق من دون أن تدخل الأسطورة في بناء مفرداتها منذ الأحرف الأولى للتاريخ ، ابتداءاً من حرب (إنليل) إله المطر على إنسان وادي الرافدين بطوفانه الشهير، ثم حرب مردوخ ضد الآلهة القديمة وقوى العماء، مروراً بكل صراعات الآلهة في الأساطير الرافدينية،  وليس انتهاءاً بكل ماشهدته الأرض العراقية من حروب تبادلت فيها ادعاءات النصر ومبررات الهزيمة لتستخرج منها  مقولات يقينية عن حقيقتها المقدسة  .

كان ذلك في القديم من  التاريخ، اما الحديث منه، فقد أُدخلت الى القاموس الحربي العراقي كلمات من نوع " المنازلة الكبرى " - على وزن الدورة الدموية الكبرى – وأمّ المعارك، وسيدة المجد، وثأر الله، ثم جاءت  صولة الفرسان وزئير الأسود / ووثبة الأسد، واحدة فقط  شذت عن تلك التسميات فأطلق عليها " بشائر السلام "، أما العمليات الإرهابية  المروعة، فلم تجد تسمياتها بعد وإن دخلت هي الأخرى في إطار (الحرب من أجل الله أو الحق أو ماشابه).

لاشك إن للتاريخ العراقي دوراً في تلك المصطلحات، فقد بدأ تدوينه بمعركة " الثورالمقدس " التي خاضها جلجامش وأنكيدو للقضاء على رمز الشر كما تذهب الملحمة الأسطورية، ثم توالت التدوينات الحربية بتسمياتها وأبطالها، كما بمجرميها وملوكها، شيء واحد لم يكتب له القدسية، إلا وهو أعداد الضحايا، فقد ظل اولئك مجرد أرقام لا يذكرهم أحد إلا لإستكمال الصورة .

واشتقاقا من ذلك، حذف إسم الشهادة من ضحايا العمليات الإرهابية، ولم يطلق أحد صفة ما على ضحايا القوات الأمريكية، لذا لم نسمع سوى الأرقام ليبقي السؤال دائراً : متى نشهد آخر الحروب  " المقدسة " في تاريخ العراق ؟.

في جانب آخر، إمتلأ  التاريخ العراقي ذاته، بنوع آخر من الحروب، انها الثورات غير المكتملة غالباً، ثار اوتو حيكال ضد الغزاة الكوتيين (ثعابين الجبال) وانتصر عليهم في قرون ماقبل الميلاد، لكن ثورة مضادة أطاحت به قبل ان يكمل مابدأه، ثم ثارت أوروك ضد طغيان جلجامش الذي كان يغتصب العذارى قبل زفافهن، لكنه اجهض تلك الثورة، بعدها بقرون جاءت ثورة الإمام علي ضد أعراف الجاهلية فحاول بناء مدينة حديثة بمجتمعية وادارة حديثتين، لكن الثورة لم تكتمل بدورها، فاغتيل الإمام وتراجع دورالمدينة

(الكوفة) ليتم اغتيالها معنوياً بعد ذلك، ثم تتابعت بعدها الثورات غير المكتملة، ثورة الحسين، ثم مصعب ابن الزبير تبعها المختار الثقفي والتوابين

(رأيت رأس الحسين بيد ابن زياد ورأس ابن زياد بيد المختار وراس المختار بيد مصعب ورأس مصعب بيد الحجاج) بعد ذلك أعلنت عن نفسها ثورات من نوع : القرامطة وزيد ابن علي ومحمد النفس الزكية وثورة الزنج وغيرها – من دون إعتمادها بتسلسل تاريخي – (1) .

القرن العشرون بدأ بثورة سميت بعام منه (ثورة العشرين) وكان يفترض انها ثورة تحررية ضد الإحتلال البريطاني للعراق، لكنها لم تستكمل أهدافها، فسحبت وراءها سلسلة من الكوارث كما حدث للثورات التي سبقتها، ثم حلتّ الثورات الفلاحية في سوق الشيوخ و آل إزيرج في العمارة وغيرها، بعدها انتهى العهد الملكي بثورة 14 تموز المجيدة - تيمناً بثورة اوتو حيكال التي وقعت في اليوم ذاته (14 تموز) – لكن قائدها عبد الكريم قاسم  ووجه بمجموعة من الثورات غير المكتملة – ثورة الموصل – ثورة عبد الوهاب الشواف – الخ – ثم سقطت ثورة 14 تموز بعد ثلاث سنوات لتتبعها كوارث ودماء جديدة قامت بها ثورة جديدة اطلق عليها (14 رمضان المجيدة)،كان عليها ان تواجه بدورها عدداً من الثورات من أبرزها  – ثورة خالد احمد زكي في الأهوار وثورة حسن سريع في معسكر الرشيد  مع ذكر الثورة الكردية في كل عصور العراق الحديث – ومن ثم لتأتي ثورة 17 تموز وماجّرته على العراق من ويلات .

وعلى رغم الفوارق بالأهمية واختلاف الأزمنة  بين شخوص تلك الثورات وحجم الأهداف التي كانت تنوي تحقيقها، الا انها تشترك في منطلق واحد : التغيير، والجدير بالذكر ان تلك المفردة توحي للوهلة الاولى بالسعي نحو الانتقال الى حالة أفضل من سابقاتها، لكن ذلك ليس دائماً بالضرورة، اذ قد تحدث حالة ارتدادية سلبية كما حدث في ثورة الخوارج – اطلقت كلمة ثورة هنا بصفة عامة من دون الدخول بالتقييم لكل منها بما يتطلبه ذلك من تمييز بين ثورة او انقلاب أو انتفاضة او ثورة مضادة حيث لكل تعريف شروطه وحيثياته –(2)  .

عام 2003، شهد العراق وللمرة الأولى إمكانية ان تكتمل ثورته، فهي الثورة الوحيدة التي شارك فيها الناس باختيار القيادة، لكن الثورات غير المكتملة توالت بدورها، وقفت ثورة الجعفري الإصلاحية عند تخوم الرغبة والحلم، ثم جاءت ثورة المالكي التي وضعت امامها مجموعة كبيرة من المعوقات، ثم ثورة علاوي المرشحة لتكون آخر الثورات غير المكتملة .

الفارق بين الثورات السابقة في التاريخ العراقي، والثورات بعد 2003، هي ان الأخيرة انطلقت من غير ان تعتمد على مصدر القوة في احداث التغيير، وبالتالي فأعمال العنف التي رافقتها، لم تكن مسؤولة عنها بشكل مباشر، بل يمكن تصنيف تلك الأعمال بانها ضمن الثورة المضادة .

ماتفرزه الوقائع العراقية، يشير االى مفارقة فريدة من نوعها، ففي وقت تتوافر الظروف الموضوعية لتكون ثورة المالكي هي الوحيدة التي يمكنها ان تواصل الإكتمال للمرة الأولى في العراق، فإن ذلك مرتبط بشكل وثيق بثورة علاوي غير المكتملة .

ذلك مايخلق تاريخاً جديداً بحيوية مغايرة- اسلوباً ومنهجاً وحيثيات واهدافاً – فالثورات الماضية كانت تحمل خاصية إلغاء أحداهما للأخرى، ولم يسبق ان اجتمعتا ضمناً أو واقعاً في مسارواحد .

لقد حملت ثورة علاوي بذور ضعفها وعدم اكتمالها  منذ البداية رغم ماضخ فيها من أمصال خارجية، ذلك لأنها تشابهت في مفاصلها العامة، مع سابقاتها من الثورات في تاريخ العراق الحديث بشكل خاص، حيث عجزت عن استكمال قوتها الكامنة لمواصلة الطريق  ومن ثم لم تستطع اقناع الآخرين بمشروعها للتغيير فبدت اشبه بثورة مضادة، فيما كانت ثورة المالكي قد جردت من مسانيدها الخارجية، الا انها حملت مصادر قوة كامنة تعززت بقدرتها على الحركة وبجعل نفسها اشبه باللازمة المحورية، لكنها كذلك لا تستطيع اكمال طريقها من دون اقناع الآخرين، ومن ثم لتجتمع لحظة قدرية، السليم فيها لايملك وسيلة السير بمفرده رغم توفر ذلك نظرياً، والسقيم يعجز عن مواصلة السير  من دون مساعدة السليم، وهكذا  بدا مشهد التقاء المالكي بعلاوي اشبه بالضرورة الحتمية منها الى مجرد حسابات سياسية لحاجات عابرة، ليشهد العراق من ثم تاريخاً يكتب جديداً مختلفاً بوسائل ومنهجيات تخلق جديدها، فهل سنشهد آخر الثورات غير المكتملة وأول ثورة تجد طريقها نحو الإكتمال ؟؟ 

 

...........................

(*) ملخص لكتاب يصدر قريبا ً بالعنوان ذاته .

(1) و(2) : وردت تفاصيل ذلك وبالتسلسل التاريخي والمنهجي ضمن فصول الكتاب .

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1399 الاثنين 10/05/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم