صحيفة المثقف

صراع (الأمة) والدولة في العراق الجديد .. المالكي / علاوي مثالاً

طبيعي لجماعات بشرية  تضّمها بقعة جغرافية محددة و ترتبط بعلاقات إقتصادية واجتماعية ترتقي بها الى مرحلة تكوين المجتمع، وهذا بدوره ينشىء دولة تنظم وتدير نشاطاته المختلفة ضمن قوانين تحدد واجبات وحقوق المنتسبين الى هذه الدولة، و في اطار وحدة سياسية على بقعة جغرافية معينة تمارس عليها  سيادتها بواسطة سلطة معترف بها، أي ان الدولة شرط ضروري لتشكلّ الأمة واكتمال قيامها، وعلى هذا فان الآية الكريمة عندما خاطبت المسلمين " كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " كانت تفترض المسلمين في إطار دولة الإسلام، فالأمر والنهي كي يجدا مكانهما في الواقع الإجتماعي، ويتحولا من ثم الى فعل مجّسد يحدث التأثيرالذي وضعا من أجله، لابد لهما من سلطة تمتلك قدرة التنفيذ بالإلزام، والا لأخذ المصطلح صيغة الدعوة والطلب لا الأمر والنهي، فالمعروف والمنكر هنا، يفترض انهما فعلان تفاضليان لهما بعد إجتماعي، أي في مقدار حركتيهما بين الناس وانعكاس تلك الحركة على واقع السلوكيات الإجتماعية سلباً أو إيجاباً، ومن دون ذلك، انما يفقد هذان المفهومان المعنى الحسي والجدوى حينما يتحولان الى معنيين مجردين – منطقيا، ينبغي ان يتضمن الأمر بالمعروف في أحد أهم جوانبه، معنى الإلتزام بالقوانين والأنظمة العامة،بمعنى  ان يصبح واجباً، ولا يقتصر فقط على الفعل الطوعي لما ينفع الآخرين، عندها يتكامل فعل المعروف بمعياريه الأخلاقي والقانوني، في خدمة الصالح العام .

 اما أصحاب النظريات التي تتحدث عن الإمة بصفتها آيديولوجيا فكرية أو مشترك عقائدي أو إثني، فأنهم يخلطون بين الأمة كمفهوم سياسي إجتماعي دستوري، وبين القومية كإنتماء إيديولوجي أو شعوري، فعلى سبيل المثال، بإمكان العربي أو الفارسي  ان يكون من الأمة الألمانية، اذا حمل جنسية تلك الدولة، إذ انه والحالة هذه، سيحقق ذاته كفرد ينتمي الى أمة بعينها، تمنحه وضعا دستوريا يمارس من خلاله حقوقه وواجباته كعضو كامل في ذلك الكيان السياسي، ومع ذلك يبقى عربياً أو فارسياً، مسلماً أو مسيحيا، من حيث الولاء الشعوري مع الآخر المشترك معه في الدين أو القومية، من دون ان يترتب على ذلك أية حقوق سياسية، إذا لم يكن يحمل جنسية أخرى للبلد المعني - حتى في هذه الحالة، هناك أولوية ان تطّبق عليه قوانين الدولة المعنية، اذا كان يشغل فيها وظيفة عامة أومقيما على أرضها بصفة دائمة- وعليه لا تمنح عروبة السوري أو اليمني مثلاً، حقوقا دستورية لأي منهما في مصر، ولا اسلاميتهما حقوقاً في اندونيسيا، وقس على ذلك .

 واذا كان التعريف الستاليني قد وضع خمسة شروط لتشكل الأمة، منها وحدة اللغة والجغرافيا والإقتصاد والهدف والدولة، فان ثلاثة منها تبدو عوامل مهمة وجوهرية، لكنها ليست شروطاً بالضرورة، عدا وحدتي الجغرافيا والدولة كشرطين متلازمين في ممارسة الأمة لسيادتها .

الأمة والحالة هذه مفهوم يعتمد على مقدار ما تؤمن له عوامل الإستمرارية في الزمان والثبات في المكان، وهو يعتمد في بلورته ونضجه على نجاح الدولة في تأدية مهامها التي يأتي في مقدمها قدرتها على صهر المكونات المجتمعية الأولية  للأمة ماقبل التشكلّ- العشائريات والإثنيات والديانات – الخ – في هوية وطنية يتنظمها دستور وتؤطرها دولة تستطيع ممارسة سيادتها على أرضها  .

على ذلك يمكن اعتبار ان الأمة مفهوم دستوري، فيما القومية مفهوم آيديلوجي /عرقي، وفيما تحتاج الأمة الى الدولة كشرط لازم لاستمرارها وتبلورها،لا تحتاج القومية الى الدولة بالضرورة كما اسلفنا .

نستنتج مما تقدم ان العراق اليوم يمرّ بحالة مكتملة فيها عناصر تشكلّ الأمة بكل معالمها، على ان تتخلص من المعوقات التي مازالت تقف في طريقها، ومن أهمها التباس المفهوم  بين أمة مفترضة تدخل الآيديلوجيا في صناعتها ذهنياً وعقائدياً وتغيب عنها شروط الزمان والمكان والدولة والتحقق والدستوروالمواطنة، وبين أمة متحققة تتفاعل فيها ومن ضمنها كل العناصر المذكورة آنفاً .

كان ذلك أحد الأسباب الرئيسة التي جعلت العراق يقف دائماً على تخوم الخطر من دون أن يظهر في الافق مايشير الى تجاوز تلك الاشكالية المروعة مابين الأمة والدولة، ذلك لأن الأمة بمفهومها الإفتراضي

 (الايديلوجي) هي التي مازالت تلقي بثقلها في عرقلة مشروع الدولة، حيث نشهد ذلك النزوع نحو طلب دعم الخارج (العربي) باعتبار العراق جزءا من أمة عربية يحمله مفهومياً بعض القوى السياسية في العراق التي اظهرت استعداداً دموياً لتطبيق مفهوم (أمتها) الايديلوجية على حساب الأمة العراقية الحقيقة  .  

في تاريخه المعاصر، مرّ العراق بحالات كان يمكنه ان يحقق فيها أمته الناجزة، لقد جاء في الكثير من فقرات مواد القانون الأساسي العراقي للعام 1925 مصطلح الأمة كتعريف حصري للشعب العراقي، ففي المادة الثامنة والعشرين من الباب الثالث جاء ما يلي : السلطة التشريعية منوطة بمجلس الأمة مع الملك، ومجلس الأمة يتالف من مجلسي الأعيان والنواب، كذلك في المواد التاسعة عشرة من الباب الثاني والتاسعة والعشرين من الباب الثالث وغيرها، ومن الواضح ان هذا التعريف، كان يوافق تماماً واقع العراق آنذاك الذي كان أمة في طور التشّكل بعد ان توافرت لديه المقومات اللازمة لذلك، وكان من شأن أمر كهذا لو تم الإشتغال عليه في المراحل اللاحقة، ان يوحّد الهوية الوطنية  للأمة العراقية في إطار وحدتها السياسية كما هي في الجغرافيا الوطنية، ما يؤهلها لاحقا لتوسيع بيكار طموحاتها في ان تكون رافعة أساسية لقيام وحدة (الأمة) العربية، بدل ان تؤول النتائج الى ما آلت اليه، والمفارقة ان ذلك القانون، كان هو الدستور الوحيد الدائم في تاريخ العراق المعاصر- قبل 2005-  الذي مورست تحت ظله، نوع من الحياة البرلمانية والتبادل السلمي للسلطة، قبل ان تلتهم طاحونة " الدساتير" المؤقتة وقرارات مجالس قيادة " الثورة " مفهوم الامة والوطن على حدّ سواء ، طوال ما يقرب من نصف قرن.

ليس هناك من أمم لا تتعظ من تجاربها، وبالتالي تعيد جدولة أولوياتها وصياغة  أفكارها وخطابها على ضوء المعطيات المتحصلة من تلك التجارب، وعادة ماتأخذ النخب السياسية والثقافية في هذه الأمة او تلك، زمام المبادرة في قراءة المتغيرات وصوغ ماهو ملائم لكل مرحلة يستشفّ منها آفاق المستقبل، لكن مما ابتليت به شعوبنا، ان الشعار بات هو المتحكم في عقول نخبنا، ولم نعد نسمع من تلك النخب سوى ترداد المقولات ذاتها منذ أكثر من نصف قرن، وبالرغم  من كل ما مّرت به من تجارب، فقد بقيت تكررنفسها من دون أية تغييرات جزئية او كلية، وهذا يعني مقدار الجمود الذي دخلت فيه النخب السياس/ ايديلوجيا ، لتتحول بالتالي من مساهم مفترض في إيجاد الحلول، الى مشكلة  بذاتها تحتاج الى حلّ، وهو مانراه اليوم في العراق، فالأمة المفترضة ايدلويجاً، هي التي يحاول علاوي وأركان قائمته تطبيقها بشتى السبل مدعوماً من أنظمة تعتبر نفسها المعبرّ عن تلك (الأمة) - أقله فيما يخصّ العراق -  اما الأمة العراقية  المتحققة دستورياً  والمتفاعلة وطنياً، فهو مايحاول المالكي ونهجه السياسي، اتباعه والدفاع عنه، لذا تبدو المعركة شرسة بين نهج يتمسك بقديمه لأنه مصدر قوته الوحيد، ونهج آخر يحاول سلوك طريق يقطع مع القديم ويبني جديداً، وفيما يزجّ النهج الأول بكلّ الاساليب المعهودة في الوصول الى السلطة بما فيها العنف، يحاول النهج الآخر سلوك طريق جديد بما يضمنه الدستورويقرهّ القانون الذي يجعل من الأمة العراقية طور التحقق. 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1401 الاربعاء 12/05/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم