صحيفة المثقف

قراءة سريعة في قصيدة: ناقوس غافل للشّاعرة وفاء عبد الرزّاق

لعلَّ يدَكِ هناكَ ترسُمُ قلعةً للشّاعرة:

فتهاوتْ شاردةً في جيدي وفاء عبد الرزّاق

وأعطتني غفلةَ طهارةٍ

وستارة

وخلعتْ شهواتِ غـُصوني

فرأيتُ راهبَ صمتٍ

يوثقُ برجَ القلعةِ

قلتُ :يا راهب الدير تسطو حدودي غانيةٌ

وتؤجِّجُ نزع الجلدِ أقراطاً

تُضاهي الشكَّ بثوبي

وتصدئ جدرانَ الظـلِ

فتمادتْ زنزانة ٌ توقدُ تنـّوراً يتنهَّدْ

وتركتني بزيتِ الغفلةِ أتوقَّدْ

قال: يا بنتَ الطينِ

الرعشة ُ دمٌ

وخيط ٌفي بُرجِ الروحِ

فامتدّي ما شئتِ

ولكنْ

حدودُكِ كفنُ القلعةِ

وحريرٌ يهذي

ونحنُ فضَّة ُ مباهجكِ

ففرَّ خطوي لقنديلٍ

يتضرّعُ لقميصِ النومِ

كي يستر مخيَّلتي العذرية

ويقولُ للماءِ انسجها

خوخةَ تكوينٍ وتجسَّدْ.

 

وشكا لقميصٍ آخر

عن شركِ الظن

لكن أخلاقَ الأفعى

عرفٌ في الناقوسِ

يجمعُني بماءِ سواحِلهِ

والراهبُ بأجراسِ الإثم

يكفـِّرُ عن ذنـْبِ القلعة

 

التّعليق

عندما قرأت نصّ: ناقوس غافل، للأخت الفاضلة الشّاعرة وفاء عبد الرزّاق - أعني القراءة الأولى - ، أقرّ بأنّني لم أفهم ما تريده الشّاعرة من هذا النصّ.و رغبت أن أكتب تعليقا لاعتقادي أنّه ،و إن كان يكتنفه نوع من الغموض و الإبهام ،فإنّه يتضمّن مجهودا إبداعيّا لا بدّ من التّنويه به.و لكنّي عندما اطّلعت على التّعاليق الّتي كتبت حوله،وجدتها تتراوح بين الإشادة و الاستغراب من النصّ في حدّ ذاته و من التّعاليق الّتي كتبت حوله .حينئذ قرّرت أن أعيد قراءة النصّ ،و أن أحاول الوقوف على ما تضمّنه من جوانب إبداعيّة و أفكّك ما أحاط به من غموض.لا لأقول لمن أشادوا ،إنّهم محقّون ،و للـّذين استغربوا ،إنّهم مخطئون،فأنا لا أملك هذا الحقّ.و لكن ما أملكه هو أن أقدّم قراءتي للنصّ كما فهمته بعد قراءته عديد المرّات.

قبل أن أبدأ في سبر أغوارهذا النصّ، حاولت أن أقف على مفاتيحه لعلّها تبوح بأسراره ،فإذا بي أمام هذه الكلمات:

 الغابات - ناقوس - قلعة - راهب -دير - زنزانة - حدود - أفعى - .

لو وقفنا في قراءتنا عند حدود المدلول اللّغوي لهذه الكلمات لما فهمنا النصّ،و لكنّنا لو حاولنا البحث عن الفضاء الدلاليّ لكلّ كلمة داخل السيّاق العام للنصّ ،فقد نوفّق إلى قراءة صحيحة للنصّ،أو على الأقلّ مقبولة .

فلو أخذنا كلمة ناقوس ،لوجدنا فيها إحالة على الدين المسيحيّ،ثمّ نجد بعض الكلمات الأخرى تدور في فلكها:راهب - دير

أمّا كلمة قلعة :فهي تحيلنا على كلّ ما هو قيود و حدود محصّنة و مشدّدة .

و الكلمات الّتي تدور في فلكها هي: زنزانة - حدود.

أمّا كلمة : أفعى ،فهي تحيلنا على رمز الشرّ و الغواية كما تشير إليه التّوراة و الإنجيل ، و المقصود به المرأة في جمالها و فتنتها و قدرتها على الإغراء و الإغواء.في إشارة إلا قصّة آدم و حوّاء و نزولهما من الجنّة إلى الأرض.

 

(فيما قالت التوراة بأن الحية هي التي أغرت آدم.. وقالت المسيحية بأنه إبليس متنكراً ولما طلب منه الخضوع لآدم أبى فتحول إلى العالم السفلي- عالم الظلام. ويقول السيد المسيح موجهاً قوله إلى هؤلاء الملعونين (في انجيل متى 25): "اذهبوا عنا يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته")

http://www.awu-dam.org/book/03/study03/322-n-s/book03-sd009.htm

 

 و جميع هذه الكلمات المفاتيح الّتي أشرت إليها ،هي ذات رموز دلاليّة تحيلنا على الدّين المسيحي ،و هو هنا ليس مقصودا لذاته ،و إنّما جاء للدّلالة على قيود الدّين و الأخلاق بصفة عامّة .و ليس المقصود هنا حدود الدّين و الأخلاق باعتبارها تنظّم علاقات النّاس و حياتهم بما يكفل لهم التّواصل و بقاء النّوع،و إنّما المقصود ،تلك الحدود الّتي يصنعها المتحدّثون باسم الدّين و الّذين يملكون وحدهم السّلطة لفرض الحدود الّتي يرونها حسب قراءاتهم الشّخصية ،أو ما تفرضه عليهم أطراف أخرى ضاغطة.

أمّا لفظة الغابات ،فهي هنا رمز لمجاهل الحياة و ما يحيط بها من أسرار،فهي رمز للحياة الفطريّة بما فيها من ثنائيّة الخير و الشرّ.

بعد أن و قفنا على الدّلالة الرّمزيّة لهذه الكلمات المفاتيح ،نأتي إلى النصّ.

كأنّي بالشّاعرة هنا،تكشف لنا عن صراع داخليّ بين أنوثتها و إنسانيّتها من جهة و نظرة الدين و الأخلاق إلى المرأة من جهة ثانية،فلا السّلطة الدّينية’ ترحمها و لا المجتع الخاضع لهذه السّلطة يرحمها هو الآخر ،فإذا بها محاطة يزنزانة داخل قلعة داخل غابة،تتحكّم فيها مجموعة محدودة باسم الدّين .و لئن كانت الضحيّة هنا ،الّرّجل و المرأة على حدّ سواء ،إلاّ أنّ حظّ المرأة من هذا السّجن و من هذه الحدود و القيود أوفر بكثير من الرّجل،فهي في الواقع- أي المرأة - ضحيّة هؤلاء جميعا.

و ها هي المرأة الأنثى في صراع مع المرأة الإنسان،ممزّقة بين ذاتها و ما تتنازعه من الأحاسيس و الشّهوات و الرّغبات ، و بين قيود الدّين و أعني منها ما افتعله الإنسان باسم الدين. ٍ و ها هي تقف حائرة بين حقّها الإنسانيّ الطّبيعيّ، و ما يرسمه لها خلفاء اللّه في الأرض من حدود و قيود.و هي في نفس الوقت لا تجرؤ على التّمرّد ،لكنّها تحاول باستحياء ،أن تحاور هؤلاء حول ما يعتمل في نفسها من أفكار و أحاسيس.

 

قلتُ :يا راهب الدير تسطو حدودي غانيةٌ

وتؤجِّجُ نزع الجلدِ أقراطاً

تُضاهي الشكَّ بثوبي

وتصدئ جدرانَ الظـلِ

فتمادتْ زنزانة ٌ توقدُ تنـّوراً يتنهَّدْ

وتركتني بزيتِ الغفلةِ أتوقَّدْ

 

وسرعان ما يأتيها الجواب صارما ،ليذكّرها بأنّ هذا الجسد الجميل الّذي تحتفي به ، وتغرقه في الزينة و اللّباس الفاخر إنّما هو من طين، و أحسن زينة له هو حدود الدّين.من يقول هذا...هو الرّاهب أي أولائك الّذين يتحدّثون باسم الدّين

و يبالغون في رسم الحدود، و تكبيل المرأة بأقسى القيود.

 

قال: يا بنتَ الطينِ

الرعشة ُ دمٌ

وخيط ٌفي بُرجِ الروحِ

فامتدّي ما شئتِ

ولكنْ

حدودُكِ كفنُ القلعةِ

وحريرٌ يهذي

ونحنُ فضَّة ُ مباهجكِ

 

و ها هي المرأة تذعن تحت حصار من نصّبوا أنفسهم نوّابا عن اللّه في الأرض ،فتهرب لتتوارى خلف أستار الحدود الّتى رسمت لها ،تربطها مع الآخر (- الدين - المجتمع - الرّجل - ) علاقة شك و ارتياب ،و خوف و اتّهام ،فلا يبقى لها إلاّ أن تكون رمزا للشرّ و الغواية كتلك الصّورة الّتي رسمت لها في التّوراة و الإنجيل، و تلك الصّورة الّتى رسمت لها في الأساطير الشّعبيّة المنسوبة إلى الدّين الإسلاميّ ، والّتي تـُسرّب بإيعاز من أناس نصّبوا أنفسهم ناطقين باسم الدّين ، و في كثير من الأحيان بما لا علاقة له بالدّين.

 

لكن أخلاقَ الأفعى

عرفٌ في الناقوسِ

يجمعُني بماءِ سواحِلهِ

والراهبُ بأجراسِ الإثم

يكفـِّرُ عن ذنـْبِ القلعة .

 

هكذا ينتهي موقف الشّاعرة في نهاية القصيدة بقبول الأمر الواقع عن عدم اقتناع ، و تكتفي بنظرة الشككّ و الاتّهام لمن اغتصب حريّتها ،و طعنها في أنوثتها و كرامتها و إنسانيّتها ، وغفل عن حقّها في أن تكون امرأة إنسانا.لذلك كان عنوان النصّ دالاّ على محتواه (ناقوس غافل)،  فكان اتّهاما صريحا للقائمين على شؤون الدين بغفلتهم عن الحقوق الطّبيعيّة للمرأة.

هذه قراءتي لنصّ الشّاعرة القديرة وفاء عبد الرزّاق: ناقوس غافل...فإن تطابق مع ما قصدته كانت لي متعتان، متعة القراءة و متعة الرّياضة الذّهنيّة، و إن لم يكن مطابقا،فحسبي متعة التّحليق.

 

تحيّــاتي

 

.....................

للاطلاع على قصيدة الشاعرة وفاء عبد الرزاق في المثقف

http://www.almothaqaf.com/new/index.php?option=com_content&view=article&id=14662:2010-05-26-12-30-00&catid=35:2009-05-21-01-46-04&Itemid=0

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم