صحيفة المثقف

أنا وحسين مردان .. مشاهدة عن قرب ..

ومقاهي الرشيد، و"جراديغ " دجلة الساهرة حتى الفجر.

في ركن آخر غير مجهول من هذه المدينة وبالقرب من جسر اسموه بجسر الشهداء كانت باصات " الليلاند " الانكليزية الشهيرة ذي الطابق الواحد والطابقان يتجمعن في ساحة هي الأخرى شهيدة كما يطلقون عليها لنقل عباد الله ممن خاطوا لسراويلهم جيوبا صغيرة مخصصة " للخردة " أو ما تسمى العملة المعدنية الصغيرة ذوات الخمسة فلوس والعشرة منها وصولا الى الدرهم الذي يباهي أقرانه بأنه الأكبر بينهم، هذا ما يمتلكه العباد في هذه الدنيا من أموال يتقوون بها على متطلباتها ويعودون آخر النهار يستقلون تلك الباصات الحمراء غير مبالين بالزحمة الشديدة، والسعيد منهم من يفوز بكرسي شاغر يرمي عليه جسده المتعب بعد ان أعيته وظيفة الحكومة أو دوران السوق .

وعلى الرغم من وجود ثلاث طبقات اجتماعية في المدينة فقد كان لطبقة المثقفين دورها المتميز والفعال في قيادة الحياة على الرغم من التفاوت المادي بينها، إلا انهم يعرفون كيف يتساعدون بينهم لأن طريقهم واحد وآمالهم واحدة، فهم الوحيدون الذين يبددون هذا الجو الخانق بتلاوين جميلة ويجعلوننا بكتاباتهم واغانيهم ومسرحياتهم ورسوماتهم، غير مبالين بكل هذا التعب والفقر الذي يلفنا في مدينتنا التي أحببناها رغم كل ما نقاسيه منها .

كنت اتواجد يوميا في تلك الساحة بحكم عملي القريب منها فتطالعني تلك الوجوه المتعبة وهي تقف بانتظار الباصات التي ستتهادى بهم الى محلاتهم، فقد كان نظام مصلحة نقل الركاب من أروع ماتكون عليه النظم المتقدمة رغم ما يعتريه احيانا من تأخير، إلا انه في النهاية وسيلة اشتراكية رائعة حافظت عليها الرأسمالية العالمية حتى في لندن العاصمة .

في ذلك الجو المشحون بانواع البشر لمحته مرتديا طقما اسودا يتألف من سترة وسروال وتدلى من قميصه الناصع البياض إلا من بعض آثار عرق الصيف الحار، رباط عنق جميل وقد تأبط مجموعة من الصحف الصادرة آنذاك، ولكن الذي لفت نظري ليس توشحه بهذه القيود القسرية التي تزيد من حرارة جسمه وسط درجات للحرارة تصل الى 45 في الظل، لكنها تلك القبعة التي توجت رأسه فضاعت ملامح " حسين مردان " التي يعرفها المقربون منه، إلا انني تعرفت عليه وهو يخاطب الناس الذين تدافعوا للصعود الى الباص قائلا :

- اخواني ..بهدوء رجاءا .. هذا لايليق بكم .. دعوا السيدات والآنسات يصعدن أولا ...

هنا قهقه البعض ساخرين من طريقة كلامه وعلق البعض الآخر :

- بطران ..

لكني ولشدة اعجابي به وبقصائده، حاولت ان لا تفوتني فرصة مخاطبته والسلام عليه وان كان يحاول ان يجد له محلا وسط هذه الجموع الغفيرة التي كانت تتدافع فيما بينها للفوز ولو بسنتيمترات قليلة، وجدتني اقف بجانبه رغم كل ذلك التدافع واحيه قائلا :

- استاذ حسين مردان .. صحيح ؟

قال بدهشة :

- نعم .. هل تعرفني ؟

قلت وأنا اتمايل وسط هذا الموج المتلاطم :

- عرفتك مذ شاهدتك أول مرة في مقهى " البرازيلية "، ومن خلال صورك في الصحافة ..

وقبل ان نسترسل بالحديث معا تعرض الى دفعة قوية مما حدى بي أن أصرخ بوجه المتدافعين حوله :

- اخوان .. " على كيفكم " .. الا تعرفونه انه الاستاذ حسين مردان ..

ضحك من كان يقف بيننا وقال أحدهم ساخرا :

- هنا " ماكو " مكان للاستاذية .. الرجل من يحاول ان يجد مكانا له .هنا.. الاستاذية هناك .. وانت تعرف مكانها !

شعرت ان كلامه شفرة حادة تحاول ان تطالني فاقتربت منه وصحت به محاولا الامساك به :

- هذا الاستاذ لاتعرفه ايها الجاهل من يكون إنه ...

وقبل ان اكمل كلامي حاول ذلك الجاهل ان يرفع يده عليّ، هنا إحتدم الكلام بيننا وتتدخل بعض من كان يقف بجوارنا لفض النزاع الذي كاد ان يتوسع الى معركة حقيقية، فجأة صاح حسين مردان بعصبية :

- أيها السائق .. رجاءا توقف لأنزل لأن هناك معركة ستقوم بسببي !

وقبل ان يتوقف الباص وجدته يدفع الناس بقوة حتى اذا ما وصل الى بابه رمى بجسمه الى الخارج ولمحته من خلف زجاج النافذة يصلح هندامه ويلتقط الصحف من الأرض متأملا بحزن تلك الوجوه التي كانت ترمقه بنظرات تنم عن سخرية لم استطع أن أواجهها كي أحفظ لهذا الرجل شيئا من مهابته وضاعت مني صفحة من تأريخي حاولت ان تكون شاهدة لشاعر خالد اسمه حسين مردان .

مرت على تلك الحادثة سنتان بينما لم يتحرك الزمن ليلقينا في مكان آخر غير الذي نقف فيه وبينا انا اتأمل تلك الذكرى مرق من امامي رجلان قال أحدهما :

هل علمت أن الشاعر حسين مردان قد فارق الدنيا البارحة، ولن تجد " عفيفة " - في اشارة للمطربة الشهيرة عفيفة اسكندر - مؤنسا لمجلسها، هذا الخبر كان وقعه عليّ كالصاعقة ولن أجد ظله معنا يدفع بالناس عله يحصل على كرسي فارغ، أو التقيه ساعة في رحلة رتيبة من رحلات ذلك الباص الذي ودعنا هو الآخر ولم احظ باجمل منه رفيقا لترحالنا .

 

أحمد فاضل

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1436 الاربعاء 23/06/2010)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم