صحيفة المثقف

في ذكرى رحيله .. ساراماغو وجدلية المزاوجة بين الكتابة والنضال السياسي / احمد فاضل

 لقد توقفت عن التنفس، لكن ما تركته لايزال يتنفس : كتابتك للحياة وإعادة كتابتها، الآن أراك في المحطة التالية للألم، كاملا ومتعاونا وكريما، موجوعا من ألم الآخرين، لماذا رحلت ياجوزيه؟ كيف بوسعنا أن نملأ هذه الحفرة التي لانهاية لها؟) . الشاعر الارجنتيني الكبير "خوان خيلمان"

بين ولادته على الضفة اليمنى من نهر الموندا الذي يبعد حوالي مائة كيلومتر شمال شرق لشبونة عام 1922، ووفاته في جزيرة لانزاروتي الاسبانية هذا العام، رحلة طويلة قاربت ال87 عاما إتسمت بصفحات نضالية افرزتها ستة عقود من المزاوجة بين الكتابة والنضال السياسي في صفوف الحزب الشيوعي البرتغالي الذي ضل وفيا له حتى أيامه الأخيرة، ومساهما في كل فعالياته التي توجها في الانتفاضة التي اطاحت بالدكتاتورية عام 1974 .

كان لرحيله عن تلك البلدة الريفية التي ولد فيها وسط البرتغال الى لشبونة مع عائلته عام 1924 الأثر الكبير في حياته حيث تعرف أول ما تعرف عليه بعد سنوات قليلة تلك المدرسة الصغيرة التي نهل منها علومه الأولى حتى اذا بلغ الثانية عشر من العمر اضطرته ظروف المعيشة للعمل والدراسة معا، فعمل ميكانيكيا ومترجما وصحفيا فيما بعد حتى تفرغه للكتابة فأصدر في الخامسة والعشرين روايته " أرض الخطيئة "عام 1947، لكنه سرعان ما هجر الكتابة تسعة عشر عاما عاد بعدها بديوان شعرأسماه " قصائد محتملة " غير انه لم يكرس نجاحه على المستويين المحلي والعالمي إلا في عام 1982 بروايته " بالتزار وبليموندا " وهي قصة حب تدور في برتغال القرن السابع عشر .

جوزيه ساراماغو اختار لأعماله مواضيع خيالية، ففي " الطوف الحجري " التي نشرها عام 1968 تنفصل الجزيرة الايبيرية عن أوربا وتصبح عائمة في المحيط الاطلسي، أما في رواية "العمى" التي نشرها عام 1995 فيصور بلدا بأكمله يصاب بالعمى الابيض، وبهذا الاسلوب عالج أكثر المواضيع جدية مركزا في الوقت نفسه على الوضع الانساني والعزلة التي تفرضها في خطابه الحياة الحضرية الحديثة، منتقدا بشدة ودون مواربة التاريخ البرتغالي والمؤسسة الدينية ورجال السلطة، ومبشرا بظهور صراع بين هذه الكتل وبينه ادى في النهاية الى لجوئه الطوعي الى اسبانيا بعد ان استثنت حكومته من قائمة ترشيحات لجائزة ادبية عمله المثير للجدل " الانجيل بحسب يسوع المسيح " وهي الرواية التي اثارت غضب الكنيسة الكاثوليكية البرتغالية والفاتيكان، من هنا نستطيع ان نحدد مسارات ساراماغو الدينية والسياسية وقد نكون له مخالفين في بعض آراءه التي اوردها في رواياته خاصة في " قابيل " حيث برأه من قتل اخيه هابيل، لكننا في الوقت نفسه نكبر فيه تلك الجرأة والروح الوطنية التي لولاها لما كان له موقفا واضحا من حرب اسرائيل على الفلسطينيين، حين شبه الاراضي الفلسطينية المحتلة بمعسكرات أو شفيتز، ولأنه يملك ضميرا يقضا فقد جعله قريبا من كل قضايا المهمشين وواحدا من اصلب الكُتاب في مواجهة العربدة الاسرائيلية، حيث لم يكف عن مهاجمة إرهابها للشعب الفلسطيني وكان بين وفد برلمان الكتاب العالمي الذي زار محمود درويش أثناء الانتفاضة الثانية .

كانت ثمانينيات القرن المنصرم من أخصب الاوقات لديه إذ شهدت ولادة مجموعة رائعة من الاعمال الروائية بعد مسيرة متعثرة استقر لها حاله في قرية بعيدة عن صخب العاصمة، فبعد خمسة سنوات من إقالته عن منصب نائب مدير تحرير صحيفة الصباح دياريو دي نوتيسياس في اعقاب التغييرات الناجمة عن الانقلاب السياسي والعسكري هاهو يتحفنا بمجموعة من اعماله كان ابرزها " الحياة الثانية لفرنسيس الأسيزي " و " بالتازار " و " الطوافة ستون " و " تاريخ حصار لشبونة "، في هذه الحقبة التقى بالصحفية الاسبانية بيلا رديل ريو فتزوجها ونقلا اقامتهما الى جزيرة لانزاروتي بعد ازدياد الرقابة الحكومية عليه .

في كل ماكتبه ساراماغو لم يحد عن خطه الجدلي الذي اشبعه برموز وتأويلات وذهب بعيدا في تناوله وصف الوصاية على المثقف التي رفضها بصورة قاطعة، فكان يقارن بالكاتب الكولومبي غبريال غارسيا ماركيز وكثيرا ما وصفت كتاباته بانها واقعية متأثرة بصوفية أميركية - لاتينية وخصوصا لأسلوبه في المواجهة التي يقيمها بين شخصيات تاريخية واخرى خيالية .

في الخامسة والخمسين من عمره وهي مرحلة نضوج غير اعتيادية له اصدر رواية يمكن ان نعتبرها نافذة تطل على عوالمه الدفينة ونكتشف من خلالها جانبا من شخصيته المتوارية خلف استار عالية هي " دليل الرسم والخط " الصادرة عام 1977، من خلالها نستطيع الربط بين تنقله ككاتب وانسان وبين ذلك المنهج الذي اختاره ليكون مساره الذي ارسى فيه آراؤه وتأثر فيه، هذه الرواية تسرد قصة رسام وجوه يتخلى عن الرسم رغبة في العيش والاستسلام للحياة لكنه يقرر ان يصبح كاتبا ولا يحقق هذه الامنية إلا عبر كتابة سيرته الذاتية، وسيرة هذا الشخص هي سيرة ساراماغو نفسه فهو نشأ وسط عائلة من المزارعين الذين يعملون بالأجرة وهجر المدرسة باكرا منصرفا الى المهن الصغيرة مثل صنع الاقفال والحدادة والزراعة لكنه سرعان ما دخل عالم الكتب كمصحح في إحدى دور النشر ثم انتقل الى الصحافة والترجمة .

ليس هذا فحسب ففي المقطع القصير من الكتاب المنشور على موقع مؤسسة ساراماغو نقرأ عن رجل وحيد تائه عن القافلة في ليل حالك، لايرى فيه حتى يديه، رجل خائف في لحظة ضياع لايعرف ماذا يفعل بمصيره، سطور قليلة قد تحاكي خوف كل انسان في ليل هذا العصر، ويبدو ان ساراماغو يصر في هذه الحكاية على ان يكون هو نفسه، فيستلهم صورة جده الفلاح البرتغالي التي لاتفارق مكتبه في جزيرة لانزاروتي في جزر الكناري، حيث نفى نفسه اختياريا بعد العاصفة التي اثارها كتابه الانجيل بحسب يسوع المسيح عام 1991 في البرتغال، ربما كان يكتب حكايته استعادة لتأثير حكايات جده على طفولته التي قضاها حافيا ككل أولاد الفلاحين في قرية ازينهاغا الصغيرة حيث ولد، وقد يكون خياره ضمن استعادته الدائمة لقول اكبر شعراء البرتغال على الاطلاق فرناندو بيسوا: (نحن قصص تروي قصصا، بمعنى ما) .

في عام 1998 قوبل منحه جائوة نوبل باحتفاء واسع في موطنه، وكانت هذه المرة الاولى تعطى الجائزة لكاتب ناطق بالبرتغالية التي يتحدث بها 170 مليون شخص في انحاء العالم، وصرح في مقابلة مع " الاسوشيتدبريس " عام منحه الجائزة: (لقد اعتاد الناس ان يقولوا عني انه جيد لكنه شيوعي، والآن يقولون انه شيوعي لكنه جيد)، من جانبها عللّت اللجنة المانحة لنوبل إختيارها ساراماغو لتكريمه بقولها: (ان اعمال ساراماغو تجعل الواقع ملموسا بفضل الامثال بعيدة المنال الممزوجة بالخيال)، لكنه علق على ذلك المنح بما عُرف عنه من سخرية قائلا: (على غرار ملكة جمال البرتغال، في العام المقبل سوف ندخل دائرة النسيان)، وبخلاف كلامه ومع رحيله الابدي سوف يحيا ابدا في قلوب محبيه ولن ننسى انه في يوم من الايام قال كلماته بشجاعة وهي نفس الكلمات التي قادته الى الخلود .

 

أحمد فاضل

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1443 الاربعاء 30/06/2010)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم