صحيفة المثقف

شواطئ وصور / حمودي الكناني

كيف كان يلقي بجسمه على رمال شواطئ دجلة في أيام الصيف الشديدة الحرارة، كيف كان يقفز من على جسر الشهداء كأنه نورس ينقض على صيد طاف في سطح الماء، كل تلك الصور مرت على خياله وهو يرى نفسه يلعب ويمرح ويتمشى في كل مكان في منطقة الشواكة إحدى مناطق بغداد القديمة والقريبة من النهر حيث كان بيتهم القديم في الزقاق الذي يسكن فيه كلُّ أترابه لكن قدره شاء أن يبعده عن كل ذلك . ولما أحس بعدم قدرته على مواصلة العمل ورغبته في الاستغراق في التفكير في الماضي واستحضاره والتأمل فيه ليمتع نفسه ولو بمرارة بصوره الجميلة أوقف سيارته في مكان مسموح به ، جلس على مسطبة كانت هناك، أخرج سيجارة، أشعلها وراح يغازلها تارةً وتارة أخرى يمصها بشغف ويعاتبُها مرة ومرة ينظر إليها بألم لأنها تستهلك نفسها بين يديه وهي غير قادرة على الشكوى ومنعِ ما تؤول إليه نهايتها المحتومة .

لا فرق بيننا وبين هذه السيجارة هي تحترق بين أيدينا لتمنحنا الانتعاشة ولو مؤقتا ونحن نحترق لنمنح العالم فرصة الاستمتاع بعذاباتنا ...!!

 كلما أمعنت النظر في هذا الشاب ينتابني شيءٌ من الحيرة فرغم حالة الحزن التي يحسها لكنه يحاول إخفاءها بكثير من المرح .كأنه لم يفارق أحبة وأعزة . إنّ ترك الأوطان والبحث عن أوطان بديلة لهو العناء وخلق المصاعب ولكن الذي يدفع الآخرين إلى ركوب هذا المركب الصعب هو حجم المعاناة والتعسف وسلب الحريات مما يولد ضغطا نفسيا كبيرا لا تستطيع النفس المرهفة الحس مقاومته. أنا والكثيرون غيري أُبعِدنا عن وطننا قسراً لكننا ما زلنا نحن إليه كحنين طير مأسور إلى فضائه الواسع وغاباته الغناء .. نتذكره ليل نهار، نتنفسه في كل لحظة. آه ... لو سألوني عن لون الحرية وطعمها لما استطعت جوابا لأنها شيءٌ موجود فقط في أذهان المقهورين أمثالنا ... الحرية لربما بتعبير آخر هي الجلوس على حافة الليل ومناجاة النجوم أن تمنح قليلا من البصيص إلى أرواحنا المعذبة ... اللعنة حتى هذه السيجارة تبحث عن حريتها .....لم يبق منها إلا القليل، بدأت تلسع أصابعي انتقاما .

لا يهم صديقتي الغالية، كلانا نتحول إلى ما يشبه الضجيج . لا بأس أننا نحترق معا . لا عليك بعد قليل سأرميك عقبا لا فائدة ترتجى منه.

بعد أن لوث المكان بدخان سجائره المجنون استعان حسن بالله ونهض ليواصل عمله بالرغم من إحساسه بالتعب الذهني . جاب كل الشوارع لكنه لم ينتبه إلى الذين يصيحون عليه بالتوقف لنقلهم إلى ما يبغون الوصول إليه.. أحس بعدم قدرته على مواصلة العمل لذلك عاد إلى البيت مهموما ومتعب الذهن .

دخل البيت متثاقل الخطى ليس كما كان يدخله كل يوم حاملا أكياس الفواكه والخضار والحلوى، يتبدى البشر من قسمات وجهه، نظرت إليه أُمه العجوز فرأت عليه علامات الحزن الشديد التي لم تظهر عليه إلاّ عندما يواجه حادثة أو أمرا ما يعكر مزاجه. اقتربت منه وسألته :

 ها يا ولدي أراك مهموما وحزينا هذا اليوم تمشي وكأن ألما ما أصاب ساقيك، هل حدث عطلٌ كبير في سيارتك ؟ هل دهستَ أحدا مثلا لا سمح الله ؟ هل عملت مخالفة مرورية وسُحبت إجازةُ السوق من عندك؟

نظر إليها وكأنه ينظر إليها لأول مرة وأسئلة محبوسة بين شفتيه لا يستطيع إطلاقها خشية أن يعكر صفو خاطرها ويذكرها بالسنين الماضية، بحيِّها القديم وجاراتها في ذلك الزقاق في منطقة الشواكة، اُم حميد، اُم حسان، اُم علي، اُم عمر، اُم لونا أو أزهار الشابة الجميلة التي ذهبت تخطبها إلى ابن جارتها الوحيد عباس. ما أجمل ساعات اللقاء في سوق الخضار أو في سوق القصابين أو في محلات بيع السمك أو عند بائع الباسطرمة الشهيرة !

لا يا اُمي لكني التقيت بشابٍ من بغداد ذكرني بكل شيء، الناس، الأزقة، الشواطئ، جيراننا، الوجوه المألوفة التي لا تفارقها البشاشة والانبساط . لا ادري يا أُمي ماذا دهاني عندما تكلم معي هذا الشاب وعرفني بنفسه ... حتى عندما ودعته وواصلت البحث عن زبائن لم انتبه أيهم كان يشير علي بالتوقف .آه .....كم شعرت أني افتقد كل شيء.

عندما استمعتْ إليه أمُّه وهو يُسهب بالحديث عن سامي وعن الوطن والغربة ومفارقة الأحبة أسندت رأسها إلى ركن الأريكة وسرحت بعيدا إلى يومٍ كانت عائدة من السوق وعلى رأسها سلةٌ محملة بأنواع الفواكه والخضار ولما دخلت الزقاق دار حولها أطفال الجيران وهم يتراقصون بفرح ويصيحون عليها :

خاله أُم حسن انزلي الزنبيل من على راسك لنأخذ فاكهة مما اشتريتِ.

حينها أنزلت الزنبيل ووزعت عليهم كل ما احتواه من فاكهة..

يالها من أيام لا تنسى .. لا يدري أحدُنا ماذا يُخبئ له القدر ...من كان يظن أننا نفارق ديارنا مقهورين ومكسورين، ولكن الأمور لا يمكن إن تبقى على هذه الحال إلى الأبد، لابد وان تلوح بارقة أمل وتعود الأمور إلى نصابها ويسود الوئام والسلام بين الناس... السياسيون لا يفكرون إلاّ بأنفسهم وبناء أمجادهم على عذابات الآخرين أمثالنا .....يتبارون بينهم ويتباهون بوطنيتهم ولكنهم في الحقيقة لا هم لهم غير إشباع رغباتهم وطموحاتهم وتلميع صورهم بادعاءات كاذبة

لما رأى حسن الدموع قد نزلت على وجنات أُمه انحنى عليها وقبل عينيها عندها انتبهت وصاحت به :

وأين هذا الشاب البغدادي ؟ لمَ لمْ تصطحبه معك لنرى فيه بغداد..؟ هل أخذت عنوانه لكي تتصل به وتدعوه للمجيء إلينا؟

نعم يا أُمي، هو يعمل في فندق الحاج منصور الكعبي، وأنا كثير المرور في ذلك الشارع، سأمر عليه وأقول له أن الحاجة أُم حسن تدعوك لتشم فيك رائحة بغداد.

لاحظ حسن اصفرار وجه أُمِّه كلما ورد ذكر بغداد في حديثهما فسألها مازحا:

وماذا يربطك ببغداد يا أُمي ، ناقة ، جمل ؟ أهلوك أصبحوا جميعاً شتات .

نظرت إليه باستغراب وقد اغرورقت عيناها بالدموع وقالت بحسرة :

هي بغداد يا ولدي مدينة السلام، مدينة الأولياء والصالحين، أرض الخير والرزق الوفير، ماؤها زلال وهواؤها دواء وأهلها أحبة أعزة ..لا يشعر الفقير بينهم بالفقر ولا الغريب بالغربة ولا الجائع بالجوع، ما من صاحب حاجة إلا قضيت حاجته. ولا معلول إلاّ وشفي من علته. يا ولدي هناك ولدنا ونشأنا وترعرعنا... بغدادُ لا يعدلها مكان بالكون أبدا.

لا ألومك يا أمي أبدا وقد قالوا قديما دوام الحال من المحال .. لابد يوماً ترين حبيبتك بغداد من جديد.

في اليوم التالي عرج حسن على فندق الحاج منصور. كان سامي واقفا في باب الفندق يردد أبياتاً مع نفسه ويتطلع إلى وجوه المارة :

(* ) أسرارُنا تتوالى

 والدربُ قيلَ وقالا !

 فالحب أينعَ كرمةً

 في الخافقين فمالا

 وزها كسُنبل دجلةٍ

 وكبرتقال ديالى !

 ما ضرني أو ضرَّها

وقضى الإلهُ وصالا ؟

 وإذا قضى أمراً وفى

 سبحانه وتعالى !!

لما رأى حسن يترجل من سيارته ذهب إليه مسرعا . أراك مبكرا هذا الصباح ..! ماذا تحمل في جعبتك؟ يقينا أن الحاجة امك قالت لك هاتني به لأشم فيه رائحة أهلي الطيبين؟

رد حسن مازحا: سمعتك تغني فقلت لنفسي لأستمتع بالغناء !

على كل حال ، جئتُ حاملا دعوة الحاجة أُم حسن للمجيء إلينا .و عليك تلبية هذه الدعوة لتشم فيك الوالدة رائحة بغداد وإلاّ ستشتكيك إلى الحبيبة .......!!

على الرحب والسعة ..تعال إليَّ مساء الخميس القادم واصطحبني إلى بيتكم .لكن لا تنس أن تخبرها أن تعد لي وجبة عشاء بغدادية دسمة وإلا فلن تشم فيَّ شيئا ...!!!

 

...................

* من رواية بعنوان النوم على سرير العدو

* ابيات للشاعر سامي العامري

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1469 الاثنين 26/07/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم