صحيفة المثقف

أمير الغال وأمير البنغال (3) الصدريون – البديل أم الاستبدال؟ / علي السعدي

الميتادور تعني (القاتل) بالإسبانية، وتطلق على مصارع الثيران الذي يقف في حلبة مخصصة يرتدي أزهى الثياب وأجملها  تحيط به هتافات التشجيع من (جماهير) تهوى هذا النوع من الأبطال في تلك اللعبة الدموية، ثم يخرج ثور قوي بقرنين حادين، مسالم بطبيعته لايهدد أحداً، وهوحيوان نبيل لاذنب له سوى قوته الهائلة وعدم السماح لأحد بركوب ظهره، وعلى ذلك يقف مندهشاً من صرخات العداء الهستيرية تنطلق من حوله مطالبة برأسه .

الميتادور ضعيف بالنسبة للثور، لكنه يستخدم براعته في استفزاز الثور بالتلويح له بقطعة حمراء – رمز الدموية - وبحركات استعراضية  الهدف منها اظهار القدرة والذكاء .

المفارقة في هذه اللعبة ان الأدوار فيها يمكن ان تنقلب، فيتحول الثور الى ميتادور، فيما يصبح اللاعب (الميتادوري) مجرد ضحية بائسة تتقاذفها قرون الثور وسط صيحات الهزء من جموع المشاهدين ضد ذلك اللاعب الذي لم يُجد أصول اللعبة فوقع ضحية تقديره المفرط لمهارته .

يتخذ المجلس الأعلى في مواقفه السياسية الأخيرة، وضعاً (ميتادورياً) لكن بظروف مختلفة، فلا الساحة معبأة بجمهور يصفق له ممتدحاً مهارته، ولا (الثور) مصاباً بعمى الالوان، بل هو يدرك قواعد اللعبة جيداً وبالتالي لم تستفزه الحركات الملوحّة بـ (قطعة) حمراء لامعنى للونها سوى الايحاء، لذا ينظر متنبهاً الى مايفعله (الميتادور) المجلسي منتظراً الفرصة المناسبة لإخراجه من الحلبه .

في مقابل هذا المشهد، يقف التيار الصدري بوضع مختلف وبأفضلية راجحة، لكن بموقف ملتبس كذلك، فهو يملك مبررات نسبية لرفضه المالكي على خلفية الضربات السابقة التي وجهت للتيار في بغداد والبصرة والاعتقالات التي طالت بعض انصاره .

الصدريون ناهضوا الوجود الأمريكي منذ البداية، وخاضوا حركة مقاومة  بقيادة معروفة وشعارات واضحة واساليب قتالية علنية، وعندما رأى التيار  ضرورة المشاركة في العملية السياسية، دخلها بقوة .

واجه اشكاليات في مليشياته المسلحة (جيش المهدي) التي اعتبرت من أبرز مفردات العنف والحرب الأهلية، ثم تحولت الى عبء على حركة التيار ذاتها، حيث أقام بعض قادة (جيش المهدي) إمارات خاصة في أحياء المدن مرتكبين تجاوزات أدت الى تذمر ونقمة في صفوف عامة الناس، ما أفقد التيار الصدري الكثير من شعبيته .

لكن وعلى قاعدة ربّ ضارة نافعة، فإن الحركة العسكرية التي قام بها المالكي ضد (جيش المهدي) وفي محصلة إجمالية، أفادت التيار الصدري ولم تضّره كلياً، إذ جعلت حركته السياسية أكثر رشاقة بعد ان تخلّص من عبء (العناصر غير المنضبطة) فاستعادت القيادات السياسية فيه عنصر المبادرة في ترميم علاقتها بالناس وقدّمت من ثم حركة اجتماعية ناشطة ومن نوع مختلف عما كانت عليه، استثمرت لاحقاً في نتائج الانتخابات التي منحته عدداً من المقاعد لايستهان به .

لكن التيار لم يظهر براعة في حسن التصرف بهذه (الوديعة)، فذكّرّت حركته بقصة قاذف الأبر، على ماقيل ان رجلاً مثل أمام أحد الخلفاء حيث قام بقذف ابرة على بعد بضعة أمتار ثم أتبعها  بثانية فجاءت في خرم الأولى وهكذا صار يقفذ كل ابرة فلايخطىء خرم التي سبقتها حتى رسم قوسا من الأبر، فسأله الحاكم متعجبا: كم أمضيت وأنت تتعلم هذه الطريقة ؟ فإجاب الرجل: عشر سنوات، فأمر الحاكم ان يجيزوه ويجلدوه، قائلا: أجزناك لمهارتك وجلدناك لعبثك، أما كان الأجدى ان تتعلم مهنة نافعة لك وللناس؟

بدأ الصدريون بعد ظهور النتائج، بإجراء استفتاء خاص من أجل تسمية مرشحهم لرئاسة الوزراء، وكانت تلك حركة زائدة لكنها مشروعة في إطارها الخاص إذا اعتبرت محصورة بالتيار الصدري لتحديد خياراته كما فعل في إجراء استفتاء عام لاختيار مرشحيه للانتخابات النيابية، وبالتالي إشراك عامة الناس في خطوة تمهيدية يعرف من خلالها الأكثر شعبية من بين أعضائه، وفعلاً استثمر ذلك في وضع خارطة إنتخابية  دقيقة بانت نتائجها لاحقاً.

الإشكالية التي وقع بها التيار انه لم يتمسك بتقديم مرشحه طبقا لإستفتاء ما بعد الانتخابات الذي حلّ به الجعفري بالمرتبة الأولى، وكانت الظروف مؤاتية ان يقدمه كمرشح للائتلاف بوجه المالكي .

لكن التيار لم يفعل ذلك رسميا، كذلك لم يدعم مرشحا آخرليصبح من خلاله المساهم الأكبر في حلّ الازمة السياسية، فبقي يرواح مكانه ممارساً قذف الأبر هنا وهناك من دون فائدة تذكر، لا للعلمية السياسية عموما ولا للتيار بوجه خاص، فهو لم ينجح بتقديم البديل، كما أخفق في مطالبته بالاستبدال، وعليه فقدت مواقفه الكثير من مبرراتها ودخلت مرحلة الغموض وفقدان الجاذبية، لكن مع كلّ ذلك، يسجل للتيار انه مازال يملك قدراً من المرونة،  فلم يقع أسيرمواقفه كما فعل (زميله) المجلس الأعلى، إذ لم يتخذ منبراً اسبوعيا لمهاجمة (الخصم / الحليف) المالكي، ولم يعلن رفضاً قاطعا له، لكنه لم يغادر المنطقة الرمادية وهذا مايؤخذ عليه  .

الرجل الذي اوصى إبنه ان: (لاتكن لينا فتعصر، ولا صلبا فتكسر) قد وضع قاعدة جوهرية  ليس للحياة الاجتماعية وحسب، بل في السياسية كذلك، فمن أكثر المواقف الخاطئة ان تضع قوى سياسية نفسها في زوايا حرجة يصبح فيها التقدم مستحيلاً والتراجع هزيمة .

فريقان من بين جميع القوى السياسية العراقية، اللذان  مازالا  (احراراً) في موقفيها الى حدّ ما،  هما : التيار الصدري والقوى الكردية، لكن في الوقت الذي تقف فيه القوى الكردية مطمئة بان النتائج لن تتخطاها والأزمة  السياسية لن تضرّها كذلك، بل يمكن الاستفادة منها بتعزيز وضع الاقليم الذي يعيش حالة استقلال فعلي عن بقية العراق، يقف التيار الصدري في قلب الأعصار، وبالتالي لم يعد امامه من مجال للاستمرار في المناورة، إذ بات ملزما أكثر من أي وقت مضى باتخاذ موقف محدد، وليس أمامه سوى خيار من اثنين: اما طرح مرشحه لمنافسة المالكي، أو تأييد المالكي بضمانات معينة، أما التلويح بالاتفاق مع علاوي وقائمته، فمحاذيرها واضحة بما يكفي كي لايفكر الصدريون بالإقدام عليها والا اعتبرت تحولاً استراتيجيا هائل الخطورة والنتائج التي ستنعكس على مسار العملية السياسية برمتها، لذا لم تعد مناورة من هذا النوع مجدية بعد ان انتهى الوقت المخصص للمناورات حيث استهلكها الصدريون بكل ما تحتمله اللعبة الديمقراطية، خاصة بعد ان تجنبوا منذ البداية الدخول في لعبة (الميتادور) كما وردت اعلاه، وتركوا لأنفسهم مساحة مشروعة تحركوا من خلالها، وهكذا ففي وقت اختارشريكهم (المجلس الأعلى)  طريق المغامرة في حركته السياسية حيث لايملك في الواقع وسيلة أخرى ولم ينجح كذلك في إبتكارها، لجأ الصدريون الى نوع من عقلية لاعب الشطرنج حيث حساب مصادر القوة والضعف عند كلا الخصمين من دون مراهنات غير محسوبة – أقله حتى الان - 

يتبع ----.

لكن ماذا عن الجانب الآخر من المعادلة ؟؟؟

الحلقة القادمة - المالكي ودولة القانون (طيران فوق عشّ الكوكو)

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1471 الاربعاء 28/07/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم