صحيفة المثقف

أمير الغال وأمير البنغال (4) المالكي ..(طيران فوق عش الكوكو) / علي السعدي

إذ تمارس الأشياء وفق لامنطقية الغرائز التي لا يمكن توقع ماينتج عنها من أفعال أو أفعال مضادة  .

حتى ما قبل إنتخابات السابع من آذار2010، كانت سلوكيات القوى السياسية تسير ضمن منطق معقول عموماً، وبالتالي يمكن للحسابات الموضوعية ان تنتج معادلات تنسجم بنسبة معينة على ما يشهده البلد من تحولات،

لكن ما ان ظهرت النتائج حتى ابتدأت الرقصات المنفلتة على ايقاع منفلت ، إبتدأها رئيس القائمة العراقية بتوجيه جزيل شكره الى الأنظمة العربية، وكانت تلك أولى خطوات الجنون , إذ بات من البديهي القول ان الأنظمة العربية – خاصة النظامين السعودي والسوري – كانا من أشد المناهضين للتجربة الديمقراطية في العراق، وقد شجعا العنف في العراق ودعماه بكل الإمكانيات المادية  والمعنوية – تدريباً وتهيئة وإرسال الارهابيين من قبل السوريين ودعما بالفتاوى والاموال والانتحاريين من قبل السعودين – وعليه كان منطق العقل يقتضي ان لايتوجه علاوي بهذه الشكل الإستفزازي الى هذين النظامين موحياً بأن انتصاره انما يعني في مضمونه، انتصاراً لمخططاتهما في العراق وهوماجعل علاوي يحترق بجنون مواقفه .

 

الجنون الآخر تمثل في  مواقف الائتلاف الوطني الذي سارعت وفوده لزيارة السعودية وسوريا بشكل متكرر موحياً بتبدل في المواقف لم يكن منسجماً مع المصلحة العراقية التي كان من الواضح انها تقتضي ابعاد دول الجوار عن التدخل في مسألة هي الأكثر حساسية في أيما بلد في العالم، اذ انها تتعلق بسيادة البلد وحرية قراره، فلايعقل ان يطلب من دول أخرى التدخل في تشكيل حكومة لبلد يفترض انه يتمتع بالإستقلال أو يحاول انتزاع إستقلاله  .

 

الجنون الثالث هو مواقف النظامين السوري / السعودي،  التي بلغت من الصلافة ان يضعا فيتو على سياسي عراقي يشغل أعلى منصب في البلد – رئيس الوزراء – وحصلت كتلته على نسبة عالية من أصوات شعبه كما حصل هو شخصيا على المرتبة الاولى بين من اختارهم الناخب العراقي، وكان العقل يفترض بكل القوى السياسية العراقية ان ترفض هذا الموقف الفج الذي يتعارض مع الأعراف الدولية وحسن العلاقات بين الدول، وبالتالي تجعل خلافاتها مع المالكي ضمن إطارها الوطني ولا تستقوي من ثم بمواقف تلك الأنظمة  من أجل الإدعاء بأن على رئيس الوزراء ان يكون مقبولاً من دول الجوار، وكان ذلك شرطاً جنونياً بدوره، اذ ليس هناك من حاكم في كل دول المنطقة – بل وكل دول العالم – من وضع عليه شرط من هذا النوع، والا لكان الكثير من حكام تلك الدول لايحتلون مواقعهم على رأس الأنظمة التي يقودونها .

 

نقطة أخرى للجنون، كانت مطالبة علاوي وقادة ( العراقية ) بتوسط الجامعة العربية لدى الأمم المتحدة من أجل فرض حكومة على العراق بموجب الفصل السابع الذي مازال يكبل العراق، إنها المرة الأولى التي يسمع فيها عن قوى سياسية تسعى لوضع بلدها تحت الوصاية رغم انها أحدى القوى الرئيسة التي فازت بانتخابات إعترفت بشرعيتها الأمم المتحدة .

ثم توالت حركات الجنون: قائمة صغيرة تطالب  قائمة تفوقها بستة أضعاف، أن تتخلى عن مرشحها لرئاسة الوزراء من أجل إتاحة المجال أمام مرشح  القائمة الصغيرة لشعل ذلك المنصب وبالتالي جعل الديمقراطية تسير بالمقلوب .

  ثم هب الجنون من الشمال، فإذا القوائم الكردستانية التي لايزيد عدد مقاعدها عن 57 مقعداً من أصل 325، تضع خمسة شروط تعجيزية من اجل الدخول في الحكومة منها:  منحها كركوك بالكامل ثم بقية المناطق

( المتنازع عليها ) اضافة الى منصب رئيس الجمهورية ووزارتين سياديتين  من أصل خمس هي مجموعة الوزارات السيادية في البلد : المالية – الخارجية – الداخلية – النفط  - الدفاع - .

ذلك غيض من فيض، أما مجموع التصريحات المتقابلة والمتناقضة والمتصادمة والوهمية والمناوراتية والملفقة والمختلقة، فهي أكثر من ان تحصى، وكلها تشير الى شيء واحد: مستشفى للمجانين، وكان على من يحاول الإحتفاظ بعقله ان يذهب لمشاهدة الفيلم الأمريكي " طيران فوق عش الكوكو " فلربما يتعلم شيئا من كيفية التعامل مع جو كهذا .

ذلك الجنون أفرز ظاهرة كانت جنونية حتى أمد قريب، لكنها قد تكون الطريق الأولى للشفاء، انها التبرؤ من الإرتباط بالخارج والإعتراف من ثم بأن الداخل هو الأهم والأقوى، الى درجة يعود علاوي وقائمته الى التقليل من أهمية الدور السعودي السوري في التأثير على تشكيل الحكومة العراقية، ثم المفاجأة التي أطلقها أحد قادة الائتلاف الوطني برفضه التدخل الإيراني واعتبار ذلك إهانة للعراقيين .، وهكذا توالت المعزوفات (الوطنية) التي تبشر بأننا أمام ظاهرة بدأ العقل فيها يصحو وينمو على ايقاع آخر .

لكن ماالذي جعل ذلك ممكناً؟ وماهي الصخرة العراقية التي اصطدمت بها مشاريع الخارج لتنكسر عليها وترتد على أصحابها؟

 " صخرة الروشة " التي انتقلت الى العراق على صورة مفارقات مركبة .

تلك الصخرة هي من أهم معالم بيروت ورموزها الثابتة، زرعتها الطبيعة على بعد أمتار من جرف صخري شديد الإرتفاع، لايمكن لزائر يمر في بيروت من دون ان تلفت إنتباهه تلك الصخرة  بشكلها الغريب، كإنما نحتتها يد فنان سوريالي بديع الخيال، فهي شاهقة الارتفاع ( 50 متراً) وعرة المسلك قاسية الصخر، كأنها مارد يقف متحديا غضب الأمواج الهادرة بإستمرار، وماشهدته بيروت على امتداد أزمنتها العاصفة من غزاة ومليشيات وأحزاب وطامعين .

في أسفلها يلتقي العشاق الحالمين بزمن جميل، ويعبر من خلالها المتنزهون الباحثين عن لحظات هدوء في زورق يمخر عباب المياه، كما تغفو تحتها مراكب الصيادين العائدين من مصارعة البحر لانتزاع لقمة العيش والحالمون بغد أفضل أقل قسوة وأكثر تفاؤلاً.

في المقابل، هي ملتقى المهربين واللصوص ورجال العصابات والسكارى والمحتالين والكسالى والمنتفعين، كذلك المغامرين الذين  يتسلقونها بحثاً عن  الشهرة والمجد، كما انها تجتذب اليائسين من الحياة فينتحرون بالقفز على صخورها الحادة .، انها صخرة الروشة المليئة بكل إيحاء .

في بغداد، نحتت الأوضاع القائمة (صخرة) آدمية تتشابه في ايحاءاتها مع صخرة بيروت، انها تقف على مدخل الجرف (العراق في بعض تعريفاته تعني الجرف) محاولة التصدي للأمواج العاتية التي تضرب العراق من كل جانب، وهي مثلها صعبة المرتقى ثابتة البنيان، فشلت حتى اللحظة، كافة المحاولات المحمومة  لتجاوزها أو إزالتها  عن الطريق، رغم انها تجتذب  المتناقضات تماماً كصخرة الورشة، من الحالمين والمتعبين واليائسين، الى اللصوص والفاسدين والمنتفعين والكسالى .

الفارق بين روشة بيروت وروشة بغداد، يكمن ليس في شكل وموقع ورمزية كل منهما وحسب، بل في حجم ونوع الخصومات والعداوات التي تحيط بكل منهما .

لم يأت غاز الى بيروت من دون ان يرشق الروشة بطلقات مدفع أو بزخات رصاص أو بنظرات غضب، لكن مايشفع لها ان احداً لم يطالب بإزاحتها، كذلك فانها لاتسعى وراء كرسي حكم  ولا منصب أعلى، إنها فقط تتلقى أفعال الجنون من دون ان تفقد رباطة جأشها .

أما (روشة بغداد)، فانها تلقت من ألذّ الاعداء زخات من الإنتحاريين ومن أهون الخصوم نظرات غاضبة، ثم كل مايحتمل التصور بين هذين المشهدين  (مطالبات هستيرية بالإزاحة وبأي ثمن – وسائل إجهاض لاتقف عند حدّ – تضخيم أخطاء و إختراع أخرى – ابتكار جرائم وتجاوزات بمشاهد تلفزيونية مركبة أومفبركة – أقلام تكتب ليل نهار – محللون سياسيون وخبراء استراتيجيون وتصريحات وردح - - الخ)

لكن وبمفارقة عجيبة، نجح المالكي بإجبار خصومه على تبني مواقفه، فأصبح مايؤخذ عليه من رفض دول الجوار له، مصدر قوة، إذ لم تبق قوى سياسية  الا وأعلنت ماكان يعلنه منذ البدء : لاقرار الا في العراق ومن العراق .

حاص الآخرون ولاصوا وتقافزوا هنا وهناك، لكنهم لم يستطيعوا تجاوزه، وسواء كرهنا الرجل أو أيدناه، فكلمة انصاف لابد من ذكرها، لقد شكل المحور الرئيس للقرار الوطني العراقي المستقل، بل لقد استقوى به حتى خصومه وان بشكل غير مباشر  .

لكن ليس المالكي دون خطايا، وأهم خطاياه، إعتماده على سلاسل طويلة من المنتفعين واللصوص والفاسدين والمتعاونين مع دول الجوار بشكل مباشر، وهؤلاء جميعاً يشكلون (عقب أخيل)  بالنسبة للمالكي لايعرف متى يأتيه منها السهم القاتل .

جاك نيلكنسون بطل فيلم (طيران ------ ) لجأ الى المجانين هرباً من السلطة، أما المالكي فيلجأ الى المجانين طلباً للسلطة وتلك هي المفارقة .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1474 الاحد 01/08/2010)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم